القول الحق المبين
على
من يخاصم في إجماع علماء المسلمين
دراسة علمية في الرد على مرجئة العصر لإخراجهم عمل الجوارح من مسمى الإيمان
بقلم
أبي يحيى بن محمد بن أحمد آل بدر
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
[ صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض: القدرية و المرجئة ](1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القوي العزيز، ناصر المؤمنين، وقاصم ظهر الجبابرة والمشركين والملحدين، ومظهر دينه على الدين كله ولو كره الكافرون والحمد لله الذي بعث { النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } ... { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القاضي على من اتبع غير هداه أن يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله،وصحابته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن من [أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.
__________
(1) أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (ص 156) والطبري في " التهذيب"(2/180/1472) و ابن أبي عاصم في "السنة" (949) واللالكائي في "شرح السنن" (4/142/1157) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2748).(1/1)
كما قال تعالى في سورة الأنعام { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ - وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ - أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنعام:112- 115]
وقال تعالى في سورة الفرقان { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً - وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً - وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } [الفرقان:27- 31]
وذلك أن الحق إذا جُحِد وعُورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة.(1/2)
فالقرآن لما كذب به المشركون، واجتهدوا على إبطاله بكل طريق مع أنه تحداهم بالإتيان بمثله ثم بالإتيان بعشر سور، ثم بالإتيان بسورة واحدة -كان ذلك مما دل ذوي الألباب على عجزهم عن المعارضة مع شدة الاجتهاد وقوة الأسباب ولو اتبعوه- من غير معارضة وإصرار على التبطيل لم يظهر عجزهم عن معارضته التي بها يتم الدليل.
وكذلك السحرة لما عارضوا موسى عليه السلام وأبطل الله ما جاؤا به، كان ذلك مما بين الله -تبارك وتعالى- به صدق ما جاء به موسى عليه السلام وهذا من الفروق بين آيات الأنبياء وبراهينهم التي تسمى بالمعجزات، وبين ما قد يشتبه بها من خوارق السحرة وما للشيطان من التصرفات، فإن بين هذين فروقا متعددة، منها ما ذكره الله –تعالى- في قوله: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء:221- 222].
ومنها ما بينه في آيات التحدي من آيات الأنبياء -عليهم السلام- لا يمكن أن تعارض بالمثل فضلا عن الأقوى، ولا يمكن أحدا إبطالها، بخلاف خوارق السحرة والشياطين فإنه يمكن معارضتها بمثلها، وأقوى منها ويمكن إبطالها.
وكذلك سائر أعداء الأنبياء من المجرمين شياطين الإنس والجن: الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا -إذا أظهروا من حججهم ما يحتجون به على دينهم المخالف لدين الرسول، ويموهون في ذلك بما يلفقونه من منقول ومعقول- كان ذلك من أسباب ظهور الإيمان الذي وعد بظهوره على الدين كله بالبيان والحجة والبرهان، ثم بالسيف واليد والسنان، قال الله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحديد: 25](1/3)
وذلك بما يقيمه الله -تبارك وتعالى- من الآيات والدلائل التي يظهر بها الحق من الباطل، والخالي من العاطل والهدى من الضلال والصدق من المحال والغي من الرشاد والصلاح من الفساد والخطأ من السداد وهذا كالمحنة للرجال التي تميز بين الخبيث والطيب، قال تعالى { مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [آل عمران: 179].
وقال تعالى سورة العنكبوت { الم - أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ - وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ - أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [العنكبوت:1- 4].
والفتنة هي الامتحان والاختبار كما قال موسى -عليه السلام- { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء } [الأعراف: 155].
أي امتحانك واختبارك، تضل بها من خالف الرسل وتهدي بها من اتبعهم.
والفتنة للإنسان كفتنة الذهب إذا أدخل كير الامتحان فإنها تميز جيده من رديئه فالحق كالذهب الخالص كلما امتحن ازداد جودة، والباطل كالمغشوش المضيء، إذا امتحن ظهر فساده.
فالدين الحق كلما نظر فيه الناظر وناظر عنه المناظر ظهرت له البراهين، وقوي به اليقين، وازداد به إيمان المؤمنين، وأشرق نوره في صدور العالمين.(1/4)
والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل ورام أن يقيم عوده المائل، أقام الله -تبارك وتعالى- من يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وتبين أن صاحبه الأحمق كاذب مائق، وظهر فيه من القبح والفساد والحلول والاتحاد والتناقض والإلحاد والكفر والضلال والجهل والمحال ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أضل الضلال حتى يظهر فيه من الفساد ما لم يكن يعرفه أكثر العباد ويتنبه بذلك من سنة الرقاد من كان لا يميز الغي من الرشاد ويحيى بالعلم والإيمان من كان ميت القلب لا يعرف معروف الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا ينكر منكر المغضوب عليهم والضالين فإن ما ذم الله به اليهود والنصارى في كتابه مثل تكذيب الحق المخالف للهوى والاستكبار عن قبوله وحسد أهله والبغي عليهم وإتباع سبيل الغي والبخل والجبن وقسوة القلوب ووصف الله سبحانه وتعالى بمثل عيوب المخلوقين ونقائصهم وجحد ما وصف به نفسه من صفات الكمال المختصة به التي لا يماثله فيها مخلوق ويمثل الغلو في الأنبياء والصالحين والإشراك في العبادة لرب العالمين والقول بالحلول والاتحاد الذي يجعل العبد المخلوق هو رب العباد والخروج في أعمال الدين عن شرائع الأنبياء والمرسلين والعمل بمجرد هوى القلب وذوقه ووجده في الدين من غير إتباع العلم الذي أنزله الله في كتابه المبين واتخاذ أكابر العلماء والعباد أربابا يتبعون فيما يبتدعونه من الدين المخالف للأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى سورة التوبة { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [التوبة: 32]، ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول بما يظن أنه من التنزلات الإلهية والفتوحات القدسية مع كونه من وساوس اللعين حتى يكون صاحبها ممن قال الله فيه سورة الملك { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا(1/5)
فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك: 10]، وقال تعالى سورة الأعراف { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف: 179] إلى غير ذلك من أنواع البدع والضلالات التي ذم الله بها أهل الكتابين فإنها مما حذر الله منه هذه الأمة الأخيار وجعل ما حل بها عبرة لأولي الأبصار.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بد من وقوعها في بعض هذه الأمة وإن كان قد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يزال في أمته أمة قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وأن أمته لا تجتمع على ضلالة ولا يغلبها من سواها من الأمم بل لا تزال منصورة متبعة لنبيها المهدي المنصور.
لكن لا بد أن يكون فيها من يتبع سنن اليهود والنصارى والروم والمجوس كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن)](1).
__________
(1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح [1 / 85-93 ](1/6)
و[إن الله بمنه وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى: أنهم إنما هلكوا بما اقترفوا في دينهم وأعلمنا مولانا الكريم: أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة والميل إلى الباطل الذي نهوا عنه: إنما هو البغي والحسد بعد أن علموا ما لم يعلمه غيرهم فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فرقا فهلكوا فحذرنا مولانا الكريم في كتابه عن ذلك قال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213] وقال عز وجل: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة: 253] وقال عز وجل: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران: 19] وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ(1/7)
فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [الأنعام: 159] وقال عز وجل: { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [يونس: 93] وقال عز وجل: { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [الشورى: 14] وقال عز وجل: { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ - وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة:4- 5].
... فأعلمنا مولانا الكريم أنهم أوتوا علما فبغى بعضهم على بعض وحسد بعضهم بعضا حتى أخرجهم ذلك إلى أن تفرقوا فهلكوا.
فإن قال قائل: فأين المواضع من القرآن التي نهانا الله عز وجل فيها أن نكون مثلهم حتى نحذر ما حذرنا مولانا من الفرقة بل نلزم الجماعة؟.(1/8)
قيل له: قال الله عز وجل: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران:103- 105] وقال عز وجل: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153] وقال عز وجل: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم:30- 32] وقال عز وجل: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [الشورى: 13].(1/9)
... فهل يكون من البيان أشفى من هذا عند من عقل عن الله عز وجل؟. وقد مر ما حذرناه مولانا الكريم من الفرقة.
ثم اعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم - أن الله عز وجل قد أعلمنا في كتابه: أنه لا بد من أن يكون الاختلاف بين خلقه ليضل من يشاء ويهدي من يشاء جعل الله عز وجل ذلك موعظة يتذكر بها المؤمنون فيحذرون الفرقة ويلزمون الجماعة ويدعون المراء والخصومات في الدين ويتبعون ولا يبتدعون.
فإن قال قائل: أين هذا من كتاب الله عز وجل ؟(1/10)
قيل له: قال الله عز وجل: { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود:118- 120] ثم إن الله عز وجل أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ما أنزل إليه ولا يتبع أهواء من تقدم من الأمم فيما اختلفوا فيه ففعل - صلى الله عليه وسلم - وحذر أمته الاختلاف والإعجاب بالرأي وإتباع الهوى قال الله عز وجل: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ - وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ - ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ - إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية:16- 19] ثم قال الله عز وجل: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ } [الجاثية: 20](1/11)
... عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } الآية وقوله عز وجل: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } الآية وقوله عز وجل: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } وقوله عز وجل: { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا } وقوله عز وجل: { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم } وقوله عز وجل: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله عز وجل المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله عز وجل](1).
وبعد هذه المقدمة النفيسة في الحذر من الفرقة ولزوم الجماعة فإن مما ابتلي المسلمون به في هذا العصر أن يختلفوا في أهم مسائل العقيدة وأخطرها ألا وهي مسألة الأسماء والأحكام والتي يسميها بعضهم مسائل الأيمان.
فإن النزاع في مسمى الإيمان من الأمور الذي لا يحمد عقباه والذي يؤدي إلى أن يرمي كل فريقٍ الآخر بألقاب السوء وصولاً إلى أن يُخرّج كل منهما الآخر من دائرة الإسلام، فقد خرجت طائفة في هذا العصر بقول محدث متناقض(2)
__________
(1) الشريعة للآجري (ص9-12)
(2) لقد ذكر الدكتور عصام بن عبدالله السناني في كتابه [أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان] والذي قام بمراجعته فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان، فقال:
قول محدث في مسألة الإيمان:
وفي عصرنا هذا مع الأسف وجد قول غريب محدث من قبل بعض أهل السنة السلفيين، خالفوا فيه أهل السنة في باب العمل ومنزلته من الإيمان، فجمع قائلوه بين مذهب الجماعة ومذهب مرجئة الفقهاء؛ حين نصوا على إدخال العمل في حقيقة الإيمان كما هو قول الجماعة، ثم تناقضوا بإخراجه؛ حين أثبتوا إمكان وجود إيمان في القلب ولو لم يظهر أي عمل على الجوارح؛ [لأنهم يقولون: العمل شرط صحة للإيمان، وبعضهم يقول شرط كمال] (4)، وهذا هو قول المرجئة على الحقيقة الذين أرجأوا العمل عن الإيمان وبسببه قامت رحى المعركة بينهم وبين أهل السنة، وهؤلاء شابههوهم؛ لأن أولئك قالوا: الإيمان قول بلا عمل، وهؤلاء قالوا: الإيمان قول وعمل لكن يمكن أن يكون بلا عمل، ولو أمكن تخلف العمل كله عن الإيمان عند أهل السنة والجماعة لما قامت كل هذه الملاحم من عسكر أهل السنة مع المرجئة، ولما كان لهذا الخلاف معنى إذن.(1/12)
في الإيمان فقالت نحن نوافق على أن تعريف الإيمان قول وعمل لكن هو أيضاً بدون عمل فوقعوا في تناقض وجاءوا ببدعة من القول وزورٍ لم يسبق إليها أهل البدع باختلاف آرائها وكل هذا بسبب الجهل الذي عشعش في عقول بعض الذين ينتسبون إلى أهل السنة والذين لا يميزون بين مقالة المرجئة وبين مقالة أهل السنة والجماعة في الإيمان ولقد صدق شيخ الإسلام –رحمه الله- حينما وصف المتأخرين بأن كثيراً منهم لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية لاختلاط هذا بهذا (1).
وكل هذا بسبب الجهل بألفاظ الكتاب والسنة وعدم التفريق بين العام والخاص والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- : (ومن أنفع الأمور في معرفة دلالة الألفاظ مطلقا وخصوصا ألفاظ الكتاب والسنة وبه تزول شبهات كثيرة كثر فيها نزاع الناس من جملتها مسألة الإيمان والإسلام فان النزاع في مسماهما أول اختلاف وقع افترقت الأمة لأجله وصاروا مختلفين في الكتاب والسنة وكفر بعضهم بعضا وقاتل بعضهم بعضا كما قد بسطنا هذا في مواضع أخر إذ المقصود هنا بيان شرح كلام الله ورسوله على وجه يبين أن الهدى كله مأخوذ من كلام الله ورسوله بإقامة الدلائل الدالة لا بذكر الأقوال التي تقبل بلا دليل وترد بلا دليل أو يكون المقصود بها نصر غير الله والرسول فان الواجب أن يقصد معرفة ما جاء به الرسول وإتباعه بالأدلة الدالة على ما بينه الله ورسوله)(2). أ.هـ.
وسبب هذا الاختلاف الذي وقع، إتباع زلة العالم والدفاع عنها بتسويد الصفحات والبحث في الزوايا عسى أن يظفروا بخبايا، وبتر أقوال العلماء، والاستشهاد بالمتشابه من نصوص الشرع وأقوال العلماء الأمر الذي أدى إلى انقسام الناس في هذه الفتنة إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/364)
(2) مجموع الفتاوى(7/169)(1/13)
[القسم الأول: قوم أصابوا الحق في جعلهم العملَ من حقيقة الإيمان، لكن لتأثرهم بفكر دخيل على منهج السلف أخذوا يؤلفون الكتب نصرة لأفكار الحركيين ممن تأثر بفكر الإخوان المسلمين، فهذا أحدهم يكتب رسالة علمية تتعلق بظاهرة الإرجاء، يقرر المذهب الحق بأن الإيمان قول وعمل، ويركز على لزوم عمل الجوارح للإيمان، إلا أنه يشطح بعيداً حتى تكاد تتلمس من كتابته نَفَسَ أهل الاعتزال والخوارج على طريقة سيد قطب في تكفير المجتمعات حين تبنى كثيراً من آرائه المنحرفة في كتابه، فها هو يقول – وهو يتناول مسألة عظيمة وهي مسألة الإيمان عند أهل السنة والجماعة: ((وقد وجدت أن أفضل من أجاب على هذه الأسئلة من فقهاء الدعوة المعاصرين هو الأستاذ سيد قطب رحمه الله [وهأنذا] أنقل من كلامه ما يفيد ذلك مع بعض زيادات توضيحية))(1) فليس من علماء السنة ولا من أئمة الدعوة من يعجب هذا الرجل ليجيب له عن أسئلة الدعوة، ولا عجب من ذلك ما دام أن دكتور العقيدة يضع سيد قطب في مصاف أئمة الإسلام وهداة الأنام في بيان حقائق الإيمان حين يقول: ((إن هؤلاء القليل عندما يدعون إلى تصحيح الإيمان وتجلية معانيه، ويبينون للأمة الكفر بتكفير المسلمين، كما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والشهيد (؟) سيد قطب رحمهم الله وأمثالهم)). لذا قرر هذا الأخ –هداه الله – كثيراً من آراء سيد قطب المنحرفة في كتابه، كمثل وصف المجتمعات الإسلامية على سبيل العموم وتسمية لبس النساء الفاسقات الأزياء المتبرجة عبودية لصانعي الموديلات الذين يصفهم بأنهم آلهة قاهرة، ثم يقول: ((ولو دان الناس في هذه الجاهلية الحضارية لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هذه هي العبودية؟! وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية
__________
(1) ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي إشراف محمد قطب ص57 مطبوع على الآلة الكاتبة.(1/14)
وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!))(1) وأخيراً يقرر في مقدمة كتابه الذي يزعم أنه يبين فيه منهج السلف في الإيمان قاعدة سيد قطب في تكفير المجتمعات مقتبساً عباراته، وكأنه يعيش في بلد غير بلد التوحيد، وفي قوم لا تقام فيهم حدود الشريعة وشعائر الدين: ((والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى عاد كهيئته يوم أن بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - حيث تردى العالم الإنساني المعاصر في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنسك، وفي الطاعة والتشريع أصبح لزاماً على أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض تجلية هذه الحقائق عن الدين، قبل الدخول في أية تفصيلات أو مناقشات مع الفرق المخالفة أو مع المتلوثين بهذا الشرك الجديد))(2).
__________
(1) المرجع السابق ص9، 59.
(2) المرجع السابق ص5.(1/15)
ويقول: ((الحديث عن الإرجاء العام - أي الإرجاء المتعلق بالإيمان - والذي تحول من بدعة نظرية يدين بها أفراد معدودون إلى ظاهرة عامة تسيطر على الفكر الإسلامي - بل والحياة الإسلامية –...))(1)!!! هكذا يعمم هذا الرجل عودة العلم لشرك التقرب والنسك والطاعة والتشريع كهيئة يوم أن بعث الله نبيه- صلى الله عليه وسلم - دون استثناء، ويعمم سيطرة الإرجاء على الفكر الإسلامي ولا يستثني، وهو يعيش في بلاد يقطنها علماء سلفيون ظاهرون، وينتشر فيها التوحيد، وتظهر فيها السنة، وتحكم فيها الشريعة، إلا إذا كان هذا الرجل على رأي هذا المعظَم – سيد قطب – عنده في تكفير جميع الدول والمجتمعات بما فيها الدولة التي يقطنها هذا المعظِم له، فها سيد قطب يقول: ((إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي))(2) ثم يبني على ذلك لأتباعه قاعدة حرورية يبين فيها أن معنى الجهاد هو إشعال الفتن والانقلابات، حتى صار ذلك دستوراً ينتهجه المتأثرون بفكره هذه الأيام في بلادنا وغيرها، فهو يقول: ((غاية الجهاد في الإسلام هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه، وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها، واستبدالها بها، وهذه المهمة مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام غير منحصر في قطر دون قطر، بل مما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة، هذه غايته العليا ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره، إلا أنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود، والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها(3)))(4)
__________
(1) المرجع السابق 257.
(2) ظلال القرآن 4/2122.
(3) المرجع السابق 3/1451.
(4) ومثله صاحب كتاب ((حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان))، فإنه وإن أصاب في رده على مخالفه في كتابه في هذه المسألة، إلا أنه جعل المردود عليه في صف، وعلمائنا كسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وسماحة الشيخ ابن عثيمين وأمثالهما مع محمد قطب في صف واحد في باب الإيمان والتكفير، فكان كمن يحاول أن يجمع بين الضب والنون. ولذا تراه يدافع عن محمد قطب ويوجه كلامه وكأنه موافق لأهل السنة في هذا الباب تحت عنوان يعقده بعنوان (موقف هؤلاء من فتاوى كبار العلماء ومفكري ودعاة هذه الأمة في مسألة الحكم)، ثم يشيد بمن تأثروا بمنهج الذي يدافع عنه ويجعل قولهم فاصلاً في الحكم في المسألة فيقول ص33: ((بل هناك قولان لعالمين فاضلين من أهل السنة ويمثلان السلفية الشرعية لا السلفية الرسمية أحدهما...)) فيذكر فيهما صاحب الكتاب الآنف الذكر في ظاهرة الإرجاء. سلسلة غريبة مريبة يشيد لا حقها بسابقها، فالأول يجعل معظمه سيد قطب إماما يقرنه بشيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب، والثاني يجعل المُشيد بسيد قطب عالماً فاضلاً من أهل السنة ويمثل السلفية الشرعية لا السلفية الرسمية. وأترك بيان مراده بالسلفية الرسمية لفهم القارئ الأريب. ولقد عرضت هذا الكلام وشبهه على شيخنا صالح الفوزان " حفظه الله " فقال ((نحن لا نرضى طريق هؤلاء ولا طريق هؤلاء)))، أي لا نرضى بطريق المردود عليهم في مسألة الإيمان، ولا بطريق من يرد عليهم على طريقة سيد قطب وأخيه وغيرهما من منظري جماعة الإخوان المسلمين ممن يصيدون في الماء العكر)، هذا التعليق منقول من كتاب أقوال ذوي العرفان... لفضيلة الشيخ الدكتور عصام بن عبدالله السناني -حفظه الله- صفحة (ط).(1/16)
.
القسم الثاني: قوم أهل سنة وإتباع بالجملة لكنهم خالفوا الحق في إخراجهم العمل من حقيقة الإيمان فهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (وكثير من المتأخرين لا يميزون بين مذاهب السلف وأقوال المرجئة والجهمية لاختلاط هذا بهذا في كلام كثير منهم ممن هو في باطنه يرى رأى الجهمية والمرجئة في الإيمان وهو معظم للسلف وأهل الحديث فيظن أنه يجمع بينهما أو يجمع بين كلام أمثاله وكلام السلف)(1). وقع هؤلاء في ذلك تقليداً لزلة وقعت من لدن بعض العلماء ولو كانوا ممن رسخ في معتقد أهل السنة لعلموا أنها زلة وكبوة، يعتذر لصاحبها ولا يقلد فيها، كما صرحت بذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة شيخ الإسلام في هذا العصر ابن باز – رحمه الله – حين ردت على صاحب كتاب ((ضبط الضوابط في الإيمان)) الذي ذكر أن محور كتابه يدور على أن تارك العمل الظاهر لا يكفر كفراً أكبر، وإنما تكفره الخوارج والمعتزلة، فبعد أن بينت اللجنة في فتواها أن الكتاب يدعو إلى مذهب الإرجاء المذموم، لأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة داخلة في حقيقة الإيمان، وحذرت المسلمين مما احتواه هذا الكتاب من المذهب الباطل حماية لعقيدتهم، واستبراء لدينهم، قالت: (كما نحذر من إتباع زلات العلماء فضلاً عن غيرهم من صغار طلبة العلم من الذين لم يأخذوا العلم من أصوله المعتمدة)أ.هـ. وهذا هو عين ما قرره أئمة الدين قديما وحديثا كما قال ابن القيم رحمه الله مبينا خطورة زلة العالم: (والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل قوله منزلة قول المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه وليس لهم تمييز بين ذلك فيأخذون
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/364).(1/17)
الدين بالخطأ ولا بد)(1).
ونتيجة لهذا التعصب والهوى ظهر صنف قليل(2) ينسب لهذا القسم على طريقة أهل الأهواء ممن يرددون مضحكات كانوا يستسمجونها معنا أيام الرد رد العلماء على أهل التهييج منها التشكيك في أمانة علمائهم أو اتهامهم بعدم قراءة ما يكتبون، حتى إنهم وزعوا فرحا وانشراحا شريطاً لأحد الذين ردت عليهم لجنة الإفتاء ممن كان يدعو الشباب للزوم غرزهم قبل أن يردوا عليه، واضعاً نفسه – تلبيساً على الدهماء – في مصاف هؤلاء الأكابر الذين شابت لحاهم في تدريس العقيدة السلفية قبل أن يولد هو وأمثاله، وفيه يقول لما سئل عن رد اللجنة عليه – ولا أظنه يعي ما يقول -: ((الأمر لا يخرج عن إحدى صورتين: إما أن يقرأ المشايخ بأنفسهم الكتب التي يراد بحثها أو مناقشتها أو الرد عليها أو التحذير منها. وإما أن يوكلوا ذلك إلى لجان الباحثين المساعدين الذين يسهلون عليهم النظر في الكتب، والتخريج للأحاديث، واستخراج النصوص من بطون المؤلفات وما شابه ذلك، لا يخرج الأمر عن إحدى هاتين الحالتين.
__________
(1) إعلام موقعين (2/192).
(2) المقصود بهذا الكلام علي حسن الحلبي!(1/18)
أقول: لو افترضنا أن اللجنة كتبت ما كتبت بناء على ما قرأته بنفسها في تحذيرها من كتابي فهذه والله المصيبة العظمى، لماذا؟ لأنه كما قرأتم في ((الأجوبة المتلائمة)) وفي ((نقد الفتوى)) وكما ستقرؤون إن شاء الله في الكتاب الثالث ((الحجة القائمة))، أقول لأنه لا يوجد شيء مما ذكر موجود في كتابي، وكل ما ذكر غير موجود وإنما هو مبني على أفهام منقوصة للقارئ للكلام، وبعض ذلك تقول صريح محض لا يتردد فيه، والحقيقة أننا نربأ باللجنة أو أي من أفرادها أن يكونوا كذلك، بل أن يكونـ[ـوا] قريبين من ذلك. فلم يبق إلا أن يقال: إن ذلك من تصرف بعض الباحثين المساعدين، وهذه وإن كانت مصيبة لكنها أهون. فالعمدة إذا على هذا الترجيح على أولئك المساعدين الذين قد يكونون ذوي علم قاصر، أو ذوي توجهات فكرية، أو ذوي فهم منقوص أو أي سبب آخر قد نضعه فيهم، أما أن نضعه في المشايخ فهذا ما ننزهم عنه ونبعدهم منه))أ. هـ(1)
__________
(1) من شريط مسجل عندي بصوته بعنوان ((رحلتي إلى بلاد الحرمين)).(1/19)
أقول: يا ليتك أيها الرجل تأدبت بأدب الشيخ الذي تنتسب إليه أخلاقاً وصدقاً وصراحة بل وشجاعة وابتعدت عن أساليب الحزبيين، والله إنه لمن أعجب العجب أن يتهم هذا الرجل وأتباعه علماءنا بقلة الفهم، أو قلة الأمانة، أو السذاجة أو غير ذلك مما يسرح له الخيال من خلال هذه الطعون السمجة انتصاراً للنفس، وتكبراً على الحق، في الوقت الذي يقرر في كل كتاب يؤلفه رداً على اللجنة ما انتقدته عليه من دعوته الأمة إلى اعتقاد أن [عمل الجوارح كمال في الإيمان، فلو ترك أحد ذلك كله فهو باق على الإيمان والإسلام]. فلماذا كل هذا الضجيج وكل هذه الكتب إذا؟ ألا يكفي أن تقول مرة واحدة – وتريح شبابنا – ما تقرره منذ سنوات في كل كتاب لك أو شريط أو مناظرة تتعلق في هذه المسألة مما كان سببا لتفريق الشباب السلفي في هذه البلاد وتخبيبهم على علمائهم – ألا يكفي أن تقول [أنا أخالفكم في مكانة العمل من الإيمان، لأن الإنسان لا يخرج من الإسلام إلا بجحود وتكذيب لا بترك وتهاون حيث إن جميع النواقض تعود إليها] حتى يفهم الأتباع الذين ينتصرون لك فينشرون كتبك وأشرطتك في هذه المسألة حقيقة الخلاف، وأن طعونك وكلامك في أمانة العلماء أو فهمهم لا وجه له أبداً.(1/20)
إنه لمن المحزن جداً منازعة الأكابر في فهم عقيدة السلف حتى تكلم في هذه المسألة من لا يحسن كتابة الحروف فضلاً عن كتابة المعتقد، وحتى صار منهج أهل السنة في الإيمان الذي ألفوا الكتب الكثيرة لبيانه وإيضاحه غريباً يحتاج لشباب جهال ليبينوه للأمة، لقد قام بعض الإخوة بتنزيل كتابي هذا الذي راجعه العلامة صالح الفوزان في أحد المنتديات في الشبكة، فحصل أخذ وهرج ومرج بين مجموعة تؤيد، وأخرى تعارض، ومنهم كاتب نقل شبها يرددها كما يرددها كثير من الشباب كالببغاء، أخذوها بحروفها من كتب واشرطة المردود عليه من قبل علمائنا، أسمعها كلما نزلت في قرية أو مدينة من بلادنا، قرر هذا الكاتب فيها أن كفر تارك أعمال الجوارح فيه خلاف بين أهل السنة لا محال وإنما الأعمال اللازمة للإيمان هي أعمال القلب. فدرنا و- والله- كثور في سانية، ثم قال الكاتب ((وعندي على هذا الموضوع بحث سينشر قريباً في مجلة كلية الشريعة في جامعة الكويت حرسها الله، وهو أمامي الآن، فمن أراد تنزيله فليس عندي مانع، لان كتابتي ضعيفة جداً)) أ. هـ.
فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنها المسألة الحالقة الخطيرة ((التعصب لزلات العلماء)) التي حذر منها علماء الإسلام قديما وحديثاً.(1/21)
القسم الثالث: أهل الحق والإتباع في هذه المسألة الذين خالفوا الفريقين السابقين، لأنهم وسط في باب الإيمان بين مذهب الخوارج والمرجئة، عصمهم الله بلزومهم الكتاب والسنة، ونبذهم التعصب لآراء الرجال، حتى لو صدر مثل هذا القول من أحد أكابرهم كالشيخ ابن باز – رحمه الله – أو من هو أكبر منه لما قبلوه منه، ما دام أنه مخالف لمذهب السلف الذي هو وسط بين مهلكتين. كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ((ولابد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر وهو النصيحة لله ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل والثاني معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه))أ. هـ.(1) ولذا فأهل هذا المنهج الحق مع تخطئتهم لمن خالف الحق كائنا من كان، لا يلزم عندهم من ذلك التأثيم والتبديع إذا كان مخالفهم من أهل السنة والجماعة وله قدم صدق وسابق فضل في الإسلام لم يشتهر عنه تعمد المخالفة، لأنهم أهل رحمة وعدل خالفوا كذلك في هذا الباب طائفتين كما بين شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – منهجهم بقوله: ((ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة: أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي إتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل وإتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد.
__________
(1) إعلام الموقعين 3/294.(1/22)
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا. ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم مَن يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقَّه فيعظّم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيُحمد ويُذم ويُثاب ويعاقب ويُحب من وجه ويبغض من وجه هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم)) أ. هـ.(1)
ونتيجة لعدم فهم هذه القاعدة السنية كتب أحد الإخوة – هداه الله – تعليقاً على كتابي هذا في منتدى الآنف الذكر آمراً بأن نترك الطعن في عقائد علماء السنة، فكتبت له كلاماً ناقلاً فيه كلام شيخ الإسلام وابن القيم الآنفين الذكر ثم قلت(2): ((نحن أخي لا نعصم ولا نؤثم، لكننا بينكم حائرون، فهي والله فتنة تدع الحليم حيراناً، حين يصيب صاحب هوى من صاحب سنة زلة، فنحن إن سكتنا خالفنا أصل دعوتنا، ودخلنا في التحزب لغير صاحب الشريعة، وإن تكلمنا لم يسلم من نحب فإلى الله المشتكى. وخذ فائدة لعلك تتفهم من خلالها موقفي وعتبي عليكم وتقارن بين الموقفين(3): لما حصل الكلام من شيخي محمد العثيمين في مسألة المعية في حياته رحمه الله عام 1404 هـ حتى كفره بعض الجهال وأثاروا حوله ما أثاروا مع وضوح رأيه في تكفير القائلين بالحلول، لم أقبل رأيه حينئذ مع محبة له في القلب أشك بأني أحببت والديّ مثلها، وكنت اردد المقولة المشهورة:((لا تقل مسألة ليس لك فيها إمام))، هي مقولة تعلمتها من شيخي رحمه الله فعصمني الله بها. ومرة استفتيته – رحمه الله – أول زمن الطلب عنده في حدود عام 1401هـ عن قراءة الفاتحة في الورد فأجاب أن نعم، وبعد سنتين بحثت عن دليل فلم أجد فسألته فقال: أظن أن فيها دليلاً انتظر حتى أسأل الإخوان، فلما أبطأ عليّ كتبت له
__________
(1) منهاج السنة 4/543-544.
(2) القائل هو الدكتور عصام بن عبدالله السناني -حفظه الله-.
(3) هذان الموقفان حصلا مع الدكتور عصام بن عبدالله السناني -حفظه الله-.(1/23)
قصاصة فيها: شيخنا علمتنا أن نستدل قبل أن نعتقد، فمنذ سنتين نحن اعتقدنا قبل أن نستدل. فدعاني بعدها – وأنا الطالب الصغير –فقال- وهو العالم النحرير: لقد تركتها لم أجد دليلاً، لعلي سمعتها وأنا صغير من أحد الوعاظ في المسجد فحفظتها. والله يعلم أنه لم يغضب يوما مني لمثل هذا، بل كنت أرى منه – رحمه الله- مزيد تشجيع وكبير محبة، فرحم الله ذاكم الجبل المربي على السنة والإتباع، وجمعنا وإياه وعلماء السنة في جنته على سرر متقابلين](1).
وقبل أن أبدء بجمع وترتيب هذه الرسالة كان شعاري أبيات للإمام الشافعي -رحمه الله-:
قالوا سَكَتَّ وَقَد خُوصمِتَ قُلتُ لهم. وَالصمَتُ عَن جاهِلٍ أو أحمَقٍ شََرَفٌ أما تَرى الأسدَ تُخشى وَهِيَ صامِتَةٌ ... إنَّ الجَوابَ لِبابِ الشَرِّ مِفتاحُ وَفيهِ أيضاً لِصَون العِرض إصلاحُ واَلكَلبُ يُخزى لَعَمري وَهو نَبّاحُ
فلم تكن لي نية أن أجمع هذه الرسالة بهذه الصورة ولكن لما رأيت أن الأمر لا يُسكت عليه
ورأيت المفسدة غالبة توكلت على العليم الوهاب لإظهار ما قد يخفى على كثير من طلبة العلم، فضلاً عن العوام.
ولما رأينا الأمر يفضي بذلت النفس دون الصحب حباً ... إلى أشياء معضلة قباح لصونهم وسعياً في الصلاح
أسأل الله العلي القدير أن يهدي بهذه الرسالة وأن يفتح بها آذانا صماً، ويبصر أعيناً عمياً [فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان](2).
__________
(1) من مقدمة كتاب أقوال ذوي العرفان، كتبه: د./ عصام بن عبدالله السناني، راجعه /فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-، الصفحات من (جـ- ق).
(2) من كلام ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهو أثر صحيح رواه أبو داود في سننه (2116).(1/24)
[وأنا من بعدها موقن بالقصور بين أهل العصور، معترف بالعجز عن المضاء، في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء، والمعارف المتسعة الفضاء، في النظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء، والتغمد لما يعثرون عليه بالإصلاح والإغضاء، فالبضاعة بين أهل العلم مزجاة، والاعتراف من اللوم منجاة، والحسنى من الإخوان مرتجاة، والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل](1)، وأدعو الله أن يعصمنا من التقليد الأعمى للرجال، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعة وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مذهب السلف في حقيقة الإيمان
قال الإمام الآجري –رحمه الله- في كتابه الشريعة : باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح لا يكون مؤمنا إلا أن تجتمع فيه هذه الخصال الثلاث.
[اعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم -: أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح
ثم اعلموا: أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا ولا تجزيء معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث: كان مؤمنا، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين.
فأما ما لزم القلب من فرض الإيمان: فقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [المائدة:41].
__________
(1) مقدمة ابن خلدون/ ص17/ تحقيق الدكتور حامد أحمد الطاهر/ دار الفجر للتراث.(1/25)
وقال تبارك وتعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106].
وقال سبحانه وتعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14].
فهذا مما يدلك على أن علم القلب بالايمان وهو التصديق والمعرفة ولا ينفع القول به إذا لم يكن القلب مصدقا بما ينطق به اللسان مع العمل فاعلموا ذلك.
وأما فرض الإيمان باللسان: فقول الله عز وجل: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ - فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } [البقرة:136- 137].
وقال جل وعلا: { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [آل عمران: 84].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله ] وذكر الحديث
فهذا الإيمان باللسان نطقا فرض واجب
وأما الإيمان بما فرض على الجوارح تصديقا بما آمن به القلب ونطق به اللسان:
فقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج: 77](1/26)
وقال جل وعلا: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } في غير موضع من القرآن ومثله فرض الصيام على جميع البدن ومثله فرض الجهاد بالبدن وبجميع الجوارح.
فالأعمال - رحمكم الله تعالى – بالجوارح: (1) تصديق للإيمان بالقلب واللسان فمن لم يصدق الإيمان بعمل جوارحه(1): مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه [لهذه](2) ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا ولم تنفعه المعرفة والقول وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه وبالله تعالى التوفيق.
وقد قال الله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44].
فقد بين - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرائع الإيمان: أنها على هذا النعت في أحاديث كثيرة وقد قال عز وجل في كتابه وبين في غير موضع: إن الإيمان لا يكون إلا بعمل وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قالت المرجئة الذين لعب بهم الشيطان
__________
(1) بعض الجهلة المتعالمين يقولون أن قول السلف (الإيمان قول وعمل واعتقاد) يعنون بالعمل (عمل القلب) وأن أصل الإيمان يتحقق بوجود (عمل القلب) دون (عمل الجوارح)!،وهذا كذب على السلف، كما قرأت كلام الإمام الآجري -رحمه الله- وتركيزه على عمل الجوارح، وسيأتي فصل خاص لتوضيح هذه الشبهة، إن شاء الله.
(2) هكذا في الأصل ولعل الصواب (ذلك).(1/27)
قال الله عز وجل: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177]. ...سأل أبو ذر رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فتلا هذه الآية.
أخبرنا أبو بكر بن أبي داود قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد قال: إن أبا ذر رضي الله عنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: قال تعالى: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } (1) حتى ختم الآية
... وبهذا الحديث وغيره احتج أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان: إنه قول وعمل وجاء به من طرق.
... عن أبي ذر رضي الله عنه قال: جاء رجل فسأله عن الإيمان ؟ فقرأ عليه: { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } قال: - يعني الرجل - ليس عن البر سألتك قال: قال له أبو ذر رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله كما سألتني فقرأ كما قرأت عليك فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال: ادن مني فدنا منه فقال - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن الذي يعمل حسنة فتسره ويرجو بها وإن عمل سيئة فتسوؤه ويخاف عاقبتها.
__________
(1) صححه الشيخ الألباني في كتاب الإيمان، صفحة (144)، المكتب الإسلامي.(1/28)
... اعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم يا أهل القرآن ويا أهل العلم ويا أهل السنن والآثار ويا معشر من فقههم الله عز وجل في الدين بعلم الحلال والحرام - إنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل وأنه عز وجل لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم وأنهم قد رضوا عنه وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان والعمل الصالح وقرن مع الإيمان العمل الصالح لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح الذي قد وفقهم له، فصار الإيمان لا يتم(1)
__________
(1) قال الحلبي في: ["صيحة نذير" ص27 ناقلاً عن شيخ الإسلام قوله: (والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر) ثم علق الحلبي في الحاشية على قول شيخ الإسلام: (ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام) بقوله (أي الحلبي): ومن تأمل هذا القيد حلت له إشكالات كثيرة: ويعني بالقيد قوله: (تام) ويكون المعنى عند الحلبي أنه يمكن أن يكون في القلب إيمان بدون العمل الظاهر ولكنه إيمان ناقص، أما من أراد الإيمان التام فلابد من العمل الظاهر. وهذا غير مراد لشيخ الإسلام – رحمه الله – فهو يعني بقوله:(إيمان تام) أي إيمان صحيح، وهو الذي يتوافق مع قوله –رحمه الله – الذي سبق نقله آنفاً:(وأن إيمان القلب بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع)، ويتوافق أيضاً مع قوله – رحمه الله -: (وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيماناً جازماً امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام). أ.هـ. فما رأي الحلبي في هذا ؟ من امتنع أن يتكلم بالشهادتين مع القدرة، أيقال: انتفى عنه كمال الإيمان وبقي معه أصله ؟ فإن قال: نعم، فقد قال قولاً عظيماً. وإن قال: لا، فقد أقر على نفسه بالغلط في فهم كلام شيخ الإسلام.
وشيء آخر، وهو أن يقال: ما رأي الحلبي في قول شيخ الإسلام: (فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر) فهل هذا يعني أنه يمكن أن يكون الإيمان في القلب بلا قول ظاهر (أي بدون الشهادتين) والذي يمتنع إنما هو تمام الإيمان؟ أم ماذا ؟] نقلاً عن كتاب رفع اللائمة عن فتوى اللجنة الدائمة/ص82/محمد بن سالم الدوسري ط2 /1423 دار عالم الفوائد، مة المكرمة.
قلت: ما مقصود الإمام الآجري بـ(الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقا بقلبه وناطقا بلسانه وعاملا بجوارحه)؟!، هل المقصود أن من لم يأتي بالتصديق القلبي أو النطق اللساني -الشهادتان- يكون قد انتفى عنه كمال الإيمان ؟!،أم الإمام الآجري –رحمه الله – أخطأ في التعبير؟! أم إنه جاهل باللغة ؟!
وما رأي الحلبي في كلام ابن رجب رحمه الله في رسالته تحقيق كلمة الإخلاص ص61: (ومن هنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله).أ.هـ. فهل شهادة أن محمداً رسول الله من الكمال؟! أم ابن رجب –رحمه الله- هو الآخر أخطأ في التعبير؟! أو هو جاهل باللغة؟!
ثم ما رأي الحلبي في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ ] أخرجه مسلم وأصحاب السنن. هل الذي لا يقرأ بأم الكتاب يكون صلاته صحيحة غير كاملة؟!
إن قال الحلبي أن هذا الحديث وهذه الأقوال قد بينتها أحاديث وأقوال أخرى، نقول له كلامك هو نفس كلامنا على قول شيخ الإسلام، ولذلك يجب جمع أقوال العلماء بعضها مع بعض، لكي لا نقع في التناقضات، وفي هذا كفاية { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37].(1/29)
لأحد حتى يكون مصدقا بقلبه وناطقا بلسانه وعاملا بجوارحه لا يخفى من تدبر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت.
واعلموا - رحمنا الله تعالى وإياكم - أني قد تصفحت القرآن فوجدت فيه ما ذكرته في ستة وخمسين موضعا من كتاب الله عز وجل: أن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم وبما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح وهذا رد على من قال: الإيمان: المعرفة ورد على من قال: المعرفة والقول وإن لم يعمل نعوذ بالله من قائل هذا.
فإن قال قائل: فاذكر هذا الذي بينته من كتاب الله عز وجل ليستغني غيرك عن التصفح للقرآن.
قيل له: نعم والله تعالى الموفق لذلك والمعين عليه.
قال الله تبارك وتعالى: { وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 25].
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 277].
وقال تبارك وتعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ - وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [آل عمران:56- 57].(1/30)
وقال عز وجل: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [النساء: 57].
وقال سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } [النساء: 122].
وقال جل وعلا: { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } [النساء:172- 173].
وقال تبارك وتعالى: { فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:85- 86]
وقال عز وجل: { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [الأنعام: 48].(1/31)
وقال عز وجل: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 43].
وقال عز وجل: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التوبة:20- 22]
وقال عز وجل: { لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التوبة: 88].
... اعتبروا رحمكم الله بما تسمعون لم يعطهم مولاهم الكريم هذا الخير كله بالإيمان وحده حتى ذكر عز وجل هجرتهم وجهادهم بأموالهم وأنفسهم
وقد علمهم أن الله عز وجل لما ذكر قوما آمنوا بمكة ولم يهاجروا مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا قال فيهم وهو قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ } [الأنفال: 72].(1/32)
ثم ذكر قوما آمنوا بمكة وأمكنتهم الهجرة إليه فلم يهاجروا فقال فيهم قولا هو أعظم من هذا وهو قوله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } [النساء: 97].
ثم عذر - جل ذكره - من لم يستطع الهجرة ولا النهوض بعد إيمانه فقال عز وجل: { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً - فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } [النساء:98- 99].
... كل هذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح(1)
__________
(1) ذكرنا سابقاً أن مقصود السلف بـ(العمل) هو عمل الجوارح! وإن عمل القلب متفق عليه كما سيأتي توضيح ذلك في فصل خاص!
فقد ذكر صاحب كتاب (حقيقة الإيمان بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة) ص68((مما سبق يتبين أن العمل إذا اطلق يدخل فيه عمل القلب وعمل الجوارح.
وأن اعتقاد صحة ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد ما هو إلا قول القلب وأنه يلزمه على ما سبق الانقياد والالتزام القلبي.
وأنه إذا حصل انقياد قلبي والتزام قلبي فقد قام بأهم أنواع العمل، إذا به يحصل أصل الإيمان)).أ.هـ.
وقال أيضا: في نفس الصفحة تعليقاً على جواب الشيخ الغنيمان عندما وجه إليه سؤال ما نصه: ((تارك العمل بالكلية ـ (أي عمل القلب والجوارح كما سبق بيانه عند السلف) ـ هل هو المتولي عن الانقياد ؟ وهل يصح الإيمان بالتصديق والاقرار مع ترك العمل تركاً كلياً بلا مانع؟.
أجاب الشيخ: هذا لا يمكن أن يستقيم أعني ترك العمل بالكلية ـ (أي عمل القلب والجوارح كما سبق بيانه عند السلف) ـ لأن الإسلام عمل وليس مجرد القول. ولو أن إنساناً قال:لا إله إلا الله، واعتقد صحة ذلك، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق، ولكنه لم يعمل شيئاً قط مع تمكنه، فهو محكوم بكفره، وليس من أهل الإسلام لأنه لا بد من الانقياد والالتزام بالعمل)).أ.هـ.
فقول لا إله إلا الله هو قول اللسان، واعتقاد صحة ذلك وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق هو تصديق القلب أي قول القلب فليس عنده إلا قول القلب واللسان.
وترك العمل بالكلية سبق بيانه أن العمل عند السلف يدخل فيه عمل القلب. فليس عنده عمل القلب فهذا كافر ولا بد إذ لا يوجد عنده الأصل القلبي.
فالشيخ الغنيمان لم يكفر تارك عمل الجوارح وإنما تارك كل أنواع العمل (عمل القلب وعمل الجوارح)..أ.هـ.
أقول لنا بعض الوقفات على هذه التخبطات !!.
لقد تبين من كلام الإمام الآجري أن المقصود بالعمل عمل الجوارح!.
[ـ (أي عمل القلب والجوارح كما سبق بيانه عند السلف) ـ]...هذه العبارة من صاحب الكتاب توضيح لقصد الشيخ الغنيمان –زعم- ضمن السؤال الموجه لفضيلة الشيخ الغنيمان وضمن الجواب، من فهمه السقيم.
صاحب الكتاب جهل أن ضمن جواب الشيخ الغنيمان الإشارة أن المقصود بـ(ترك العمل) (عمل الجوارح فقط) حيث قال: ((ولو أن إنساناً قال:لا إله إلا الله، واعتقد صحة ذلك، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق، ولكنه لم يعمل شيئاً قط مع تمكنه، فهو محكوم بكفره)).أ.هـ.
صاحب الكتاب جاهل في أمور العقيدة لأنه لا يعلم أن أكثر فرق المرجئة يدخلون أعمال القلوب في الإيمان قال شيخ الإسلام - رحمه الله – في مجموع الفتاوى (7/195) (والمرجئة ثلاثة أصناف الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة).أ.هـ. فلا أدري ما وجه الخلاف بين السلف والمرجئة إن كان الإيمان يوجد بوجود عمل القلب دون عمل الجوارح ؟!. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – أيضاً مجموع الفتاوى (7/194): (و المرجئة الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم وان أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها).أ.هـ. فهي إذن أحد الأمرين، إما عدم إدخال أعمال القلوب فهذا قول جهم وأصحابه وهو من أفسد الأقوال، وإما إدخالها فهذا يلزم دخول أعمال الجوارح أيضاً. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله.
صاحب الكتاب عقيدته في تارك العمل بالكلية إنه يوم القيامة قد يدخل الجنة ابتداءً بدون عذاب وذلك باستدلاله بحديث البطاقة في صفحة77، وهذا ما لا يقوله الحلبي فهو يناقضه في هذه المسألة وهذا شأن أهل البدع بتناقضهم فيما بينهم راجع تفصيل الكلام في ص104
هناك عنوان في نفس الكتاب ص80 (جمهور العلماء وليس المرجئة يقولون بنجاة تارك جنس العمل) علق عليه فضيلة الشيخ العلامة صالح بن الفوزان الفوزان –حفظه الله- في هامش كتاب "أقوال ذوي العرفان..." [قصده جمهور المرجئة وليس جمهور أهل السنة].أ.هـ.
صاحب هذا الكتاب من الذين ردت اللجنة الدائمة للإفتاء، على كتابه وحذرت منه وإنه يدعو إلى الإرجاء،(راجع الملحق في هذا الكتاب)!.(1/33)
ولا يجوز إلا هذا ردا على المرجئة الذين لعب بهم الشيطان ميزوا هذا وتفقهوا إن شاء الله تعالى.
وقال عز وجل: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } [يونس: 4].
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [يونس: 9].
وقال عز وجل: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [يونس:63- 64].
وقال عز وجل: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } [الرعد:28- 29].
وقال عز وجل: { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [إبراهيم: 23].
وقال عز وجل: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [الإسراء: 9].
وقال عز وجل: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا - قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً - مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } [الكهف:1- 3].(1/34)
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً - أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [الكهف:30- 31].
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً - خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [الكهف: 108].
وقال عز وجل: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً - إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [مريم:59- 60]
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [مريم: 96].
وقال: { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى } [طه:75- 76].
وقال عز وجل: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [طه: 82].
وقال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [الحج: 14].(1/35)
وقال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23].
وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ - فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الحج:49- 50].
وقال عز وجل: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [الحج: 56].
وقال عز وجل: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 7].
وقال عز وجل: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ - الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [العنكبوت: 59].
وقال عز وجل: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ - فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم:14- 15].
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ - خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [لقمان:8- 9].
وقال عز وجل: { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ - أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة:18- 19](1/36)
وقال عز وجل: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [سبأ: 4].
وقال عز وجل: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ: 37].
وقال عز وجل: { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [فاطر: 7]
وقال عز وجل في سورة الزمر: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً } [الزمر: 73] إلى قوله: { الْعَامِلِينَ } [الزمر: 74].
وقال عز وجل: { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ } [الشورى: 22].
وقال عز وجل: { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [الشورى: 23].
وقال: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ - يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ - ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ - يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف:67- 72].(1/37)
وقال عز وجل: { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } إلى قوله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الجاثية: 30].
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأحقاف:13- 14].
وقال عز وجل: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ - وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد:1- 2].
وقال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [محمد: 12].
وقال عز وجل: { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التغابن: 9].
وقال عز وجل: { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } [الطلاق: 11].
وقال عز وجل: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق: 7] إلى قوله { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [الانشقاق: 25].(1/38)
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } [البروج: 11].
وقال عز وجل: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6].
وقال عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } [البينة: 7]وقال عز وجل: { وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } سورة العصر
... ميزوا رحمكم الله قول مولاكم الكريم: هل ذكر الإيمان في موضع واحد من القرآن، إلا وقد قرن إليه العمل الصالح ؟
وقال عز وجل: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10].
فأخبر جل ثناؤه بأن الكلم الطيب حقيقته: أن يرفع إلى الله عز وجل بالعمل الصالح فإن لم يكن عمل بطل الكلام من قائله ورد عليه ولا كلام أطيب وأجل من التوحيد ولا عمل من عمل الصالحات أجل من أداء الفرائض
حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدثنا عبدالوهاب بن عطاء قال: حدثنا أبو عبيدة الناجي: أنه سمع الحسن يقول: قال قوم على عهد رسول الله: إنا لنحب ربنا عز وجل فأنزل الله عز وجل بذلك قرآنا فقال جل ثناؤه: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [آل عمران: 31].(1/39)
فجعل إتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - علما لحبه وكذب من خالفه ثم جعل على كل قول دليلا: من عمل يصدقه ومن عمل يكذبه فإذا قال قولا حسنا وعمل عملا حسنا رفع الله قوله بعمله وإذا قال قولا حسنا وعمل عملا سيئا رد الله القول على العمل وذلك في كتاب الله عز وجل: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10].
... عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى عز وجل: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة: 177] يقول: تكلموا بكلام الإيمان وحققوه بالعمل.
قال الربيع بن أنس: وكان الحسن يقول: الإيمان كلام وحقيقته: العمل إن لم يحقق القول العمل لم ينفعه القول.
... وكذلك ذكر الله عز وجل المتقين في كتابه في غير موضع منه ودخولهم الجنة فقال: { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل: 32].
وهذا في القرآن كثير يطول به الكتاب لو جمعته مثل قوله: { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } إلى قوله { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف:67- 72].
ومثل قوله في سورة ق وفي الذاريات والطور مثل قوله: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ - فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور:17-19].
وقال عز وجل: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ } [المرسلات: 41 إلى قوله: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المرسلات: 43].
... كل هذا يدل العاقل على أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال كذا قال الحسن وغيره.(1/40)
وأما بعد هذا أذكر ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن جماعة من أصحابه وعن كثير من التابعين: أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح(1) ومن لم يقل عندهم بهذا فقد كفر.
... عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان ويقين بالقلب(2)
... عن علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالا: لا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول ولا قول وعمل إلا بنية ولا نية إلا بموافقة السنة.
وأخبرنا خلف بن عمرو العكبري قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: حدثنا أبو حيان قال: سمعت الحسن يقول الإيمان قول ولا قول إلا بالعمل ولا قول ولا عمل إلا بنيه ولا قول وعمل ونية إلا بسنة
وأخبرنا أيضا خلف بن عمرو قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا يحيى بن سليم قال: سألت سفيان الثوري عن الإيمان ؟ فقال: قول وعمل وسألت ابن جريج فقال: قول وعمل وسألت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فقال: قول وعمل وسألت نافع بن عمر الجمحي فقال: قول وعمل وسألت مالك بن أنس فقال: قول وعمل وسألت فضيل بن عياض فقال: قول وعمل وسألت سفيان بن عيينة فقال: قول وعمل
قال الحميدي: وسمعت وكيعا يقول: أهل السنة يقولون: الإيمان: قول وعمل والمرجئة يقولون: الإيمان قول والجهمية يقولون: الإيمان: المعرفة
__________
(1) سبق التنبيه على مقصود السلف من الصحابة والتابعين أن العمل هو (عمل الجوارح) وأن من ترك العمل بالكلية ليس عنده أدنى حد من الإيمان،لأن العمل الظاهر تصديق لما في الباطن، أما من أتى بعمل الجوارح ولم يكن عنده عمل القلوب فهذا صنف المنافقين، والله أمرنا أن نحكم بالظاهر، ولم يكلفنا أن نبحث في الضمائر!!!، ولا يحكم بإيمان تارك العمل بالكلية -جنس العمل- إلا المرجئة!.
(2) وقال الألباني في ضعيف ابن ماجة (11) موضوع.(1/41)
...عن هشام عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل قال يحيى بن سليم: فقلت لهشام: فما تقول أنت ؟ فقال: الإيمان: قول وعمل وكان محمد الطائفي يقول: الإيمان قول وعمل قال يحيى بن سليم: وكان مالك بن أنس يقول: الإيمان قول وعمل قال يحيى: وكان سفيان بن عيينة يقول: كذلك قال: وكان فضيل بن عياض يقول: الإيمان قول وعمل.
وحدثنا ابن أبي داود قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا عبد الرزاق قال: سمعت معمرا و سفيان الثوري و مالك بن أنس و ابن جريج و سفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
حدثنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال أحمد: وبلغني أن مالك بن أنس و ابن جريج و فضيل بن عياض قالوا: الإيمان قول وعمل
وحدثنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد قال: حدثنا إبراهيم بن شماس قال: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
قال إبراهيم بن شماس: وسألت بقية بن الوليد و أبا بكر بن عياش فقالا: الإيمان قول وعمل قال إبراهيم: وسألت أبا إسحاق الفزاري فقلت: الإيمان قول وعمل ؟ فقال: نعم قال: وسمعت ابن المبارك يقول: الإيمان قول وعمل.
حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي بزة قال: سمعت المؤمل بن إسماعيل يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
... فيما ذكرته مقنع لمن أراد الله عز وجل به الخير فعلم أنه لا يتم له الإيمان إلا بالعمل هذا هو الدين الذي قال الله عز وجل فيه: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة: 5)](1)
__________
(1) الشريعة للآجري (ص125).(1/42)
مما سبق يتبن لنا أن الإيمان حقيقة مركبة من أمور ثلاثة (بالقول والعمل والاعتقاد كأركان ثلاثة وليست لوازم، فإن من انتفى في حقه الاعتقاد فهو كافر؛ لأنه ذهب ركن الإيمان ... ومن انتفى في حقه القول فهو كافر، ومن انتفى في حقه جنس العمل فهو كافر، وهذا معنى أهل السنة والجماعة الإيمان قول وعمل واعتقاد)(1)، وكان الإجماع على هذا عند أهل السنة والجماعة.
فأما الإجماع على كفر من لم يأت بالشهادتين فقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- : (وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر)(2)، وقد سئل –رحمه الله- عمن اعتقد الإيمان بقلبه ولم يقر بلسانه هل يصير مؤمناً؟
فقال –رحمه الله- : (أما مع القدرة على الإقرار باللسان فإنه لا يكون مؤمناً لا باطناً ولا ظاهراً عند السلف والأئمة وعامة طوائف القبلة إلا جهماً ومن قال بقوله كالصالحي وطائفة من المتأخرين كأبي الحسن وأتباعه، وبعض متأخري أصحاب أبي حنيفة زعموا أن الإيمان مجرد تصديق القلب، وأن قول اللسان إنما يعتبر في أحكام الدنيا والآخرة)(3).
وأما من قال بلسانه وعمل بجوارحه دون أن يعتقد بباطنه فهذا كما لا يخفى هو كفر المنافقين الذين يظهرون ما لا يبطنون.
وأما الإجماع على كفر من انتفى في حقه جنس العمل فقد نقل غير واحد الإجماع على أنه لا إيمان إلا بعمل.
قال الإمام الآجري -رحمه الله-: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو التصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح،)(4).
__________
(1) محاضرة خاصة عن الإيمان لفضيلة الشيخ العلامة صالح آل الشيخ-حفظه الله- راجع مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ.
(2) مجموع الفتاوى (7/302).
(3) المسائل والأجوبة (جواب سؤال أهل الرحبة) ص130.
(4) الأربعون حديثا للآجري - (ج 1 / ص 13).(1/43)
قال الشافعي -رحمه الله-: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر)(1).
وقال الإمام البغوي -رحمه الله-: (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان)(2).
قال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله-: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل)(3).
ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا المرجئة الذين (أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن)(4).
وقد ظهر في هذا الزمان قوم تبنوا قول السلف في حقيقة الإيمان ثم تناقضوا بإثباتهم وجود إيمان ولو لم يظهر أثر ذلك الإيمان على الجوارح(5).
ولذلك سنركز في الفصول القادمة على هذه النقطة-ترك جنس العمل- التي يتناقض فيها مرجئة العصر، وننقل أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين في المسألة، ولا نتشعب في بقية المسائل من زيادة الإيمان ونقصه والاستثناء في الإيمان وحكم العصاة في الآخرة، لأن مسألة زيادة الإيمان ونقصانه لا دخل له في كون الرجل مرجئاً أو لا، لكن يقال أن الذي يقول أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص هو ليس من أهل السنة (مثلا الأشاعرة الذي هم مرجئة والماتريدية منهم من يقول بزيادته ونقصانه ومنهم من لا يقول بذلك لعدم ترتبها على حقيقة الإيمان، هذا أمر زائد أدخلوه في البحث.
__________
(1) شرح أصول الاعتقاد للالكائي (5/886)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (7/208)، وهذا كلام الإمام الشافعي –رحمه الله-.
(2) شرح السنة (1/38).
(3) التمهيد (9/238).
(4) مجموع الفتاوى (7/554).
(5) راجع أقوال ذوي العرفان ...، للدكتور/ عصام بن عبدالله السناني ، ص41(1/44)
فإذن لا أثر في الخلاف مسألة زيادته أو نقصانه على كونه مرجئا، إذا قال أحد الإيمان ما يزيد ولا ينقص لا يدل على كونه مثلا مرجئا(1)؛ لكنه يدل على أنه ليس من أهل السنة، إذا قال: الإيمان نقول بزيادته ونقصانه لا يدل على أنه من أهل السنة والجماعة، فقد يكون مرجئا، لا ارتباط بين مسألة الزيادة والنقصان ومسائل التعريف السالفة للإيمان)(2).
ولكن أكثر فرق المرجئة قالت بعدم زيادة الإيمان ونقصه لذلك صارت علماً عليهم في حين قال بعضهم بتفاضل الإيمان كالنجارية وأصحاب محمد بن شبيب(3).
وإن كان أصل شبهة المرجئة والخوارج إن الإيمان لا يتبعض فإن القول بزيادة الإيمان ونقصانه، لا يخرج المرء من كونه مرجئاً كما سبق من فرقتي النجارية وأصحاب محمد بن شبيب، كما إن القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، لا يدخله في الإرجاء، فقد يكون المرء من فرقة الاباضة –إحدى فرق الخوارج-.
مذهب المرجئة ومقالاتهم في حقيقة الإيمان
قبل البدء بسرد أقوال العلماء في أن تارك عمل الجوارح بالكلية -جنس العمل- لا يصح عنده الإيمان، وأن الذي يقول بعدم كفره وقع في الإرجاء أو دخلت عليه شبهته، لابد أن نعلم حقيقة مذهب المرجئة ومقالاتهم في الإيمان، فالحكم على الشيء فرع من تصوره.
__________
(1) فرقة الإباضية -وهم من الخوارج- منقسمون في زيادة الإيمان ونقصه إلى فريقين: فريق يوافقون أهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه، وفريق يقولون أن الإيمان الشرعي لا يزيد ولا ينقص، وهو بذلك يوافقون المرجئة وأكثر أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية والجهمية، راجع (الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام) ص79-80 للأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل.
(2) شرح العقيدة الطحاوية الدرس السادس والثلاثون/ لفضيلة الشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ-حفظه الله-.
(3) يراجع الإيمان بين السلف والمتكلمين / تأليف الدكتور أحمد بن عطية الغامدي، ص89.(1/45)
فـ[ـالمرجئة واحدة من الفرق الإسلامية التي اشتهرت في الإيمان ومخالفتها لما عليه السلف في هذا الموضوع....
جاء في القاموس: أرجأ الأمر: أخره، وترك الهمز لغة. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ } (التوبة:106).أي مؤخرون حتى يُنزِل الله فيهم ما يريد ومنه سميت المرجئة(1).
وقال الشهرستاني: الإرجاء على معنيين: أحدهما التأخير، كما في قوله تعالى: { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } (الأعراف:111) أي أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء.
أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد.
وأما بالمعنى الثاني فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ((ما)) في الدنيا، من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار، فعلى هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان(2).
فالشهرستاني يرى أن المرجئة إنما لزمهم هذا اللقب لأمرين:
أحدهما: تأخيرهم العمل عن النية والقصد.
وثانيهما: إعطاؤهم المؤمن العاصي الرجاء في عفو الله، بإرجائهم العمل عن الاعتبار في مجال الإيمان لان المهم عندهم العقد القلبي. وذكر إرجاء آخر لا ضير فيه، وهو تأخير حكم العاصي إلى يوم القيامة ليكون تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له دون جزم بأحد الأمرين.
هذا وقد درج أهل السنة على تسمية كل من أخَّر العمل عن الركنية في الإيمان مرجئاً وكذلك فعل بعض مؤرخي الفرق. فقد حصر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- أصناف المرجئة في نظره بقوله:
__________
(1) الفيروز أبادي، مجدالدين،القاموس المحيط،ج1ص16،مصر مطبعة السعادة بدون تاريخ.
(2) الشهرستاني، محمد عبد الكريم، الملل والنحل بتحقيق محمد سيد كيلاني، ج1ص139، مصر مطبعة الحلبي 1387هـ-1967م.(1/46)
((والمرجئة ثلاثة أصناف الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب(1) وهم أكثر فرق المرجئة كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم لكن ذكرنا جمل أقوالهم ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه والقول الثاني من يقول هو مجرد قول اللسان وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية والثالث تصديق القلب وقول اللسان وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم))(2) يعني أبا حنيفة وأصحابه](3).
أما الشهرستاني فقد قسم مقالات المرجئة في الإيمان إلى ستة مقالات نذكر أسمائها فقط:
1.اليونسية 2. العبيدية 3. الغسّانية 4. الثوبانية 5. التومنية 6. الصالحية(4).
وأبو الحسن الأشعري يبلغ بمقالات المرجئة في كتابه مقالات الاسلاميين إلى أثنتي عشرة فرقة فيعد منهم:
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – مجموع الفتاوى(7/194): (و المرجئة الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم وان أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها).أ.هـ. فهي إذن أحد الأمرين، إما عدم إدخال أعمال القلوب فهذا قول جهم وأصحابه وهو من أفسد الأقوال، وإما إدخالها فهذا يلزم دخول أعمال الجوارح أيضاً. سيأتي توضيح ذلك بمشيئة الله.
(2) مجموع الفتاوى(7/195).
(3) الإيمان بين السلف والمتكلمين / تأليف الدكتور أحمد بن عطية الغامدي، ص85-86.
(4) الشهرستاني الملل والنحل، (141-145). (بتصرف)(1/47)
1. الجهمية 2.الصالحية 3.اليونسية 4.أصحاب أبي شمر ويونس 5.الثوبانية 6. النجارية 7. الغيلانية 8. أصحاب محمد بن شبيب 9. أبو حنيفة وأصحابه 10. التومنية 11. أصحاب بشر المريسي 12. الكرامية (1).
وقد نقل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/543-550) عن أبو الحسن الأشعري هذه الفرق، ولولا الإطالة لذكرناها.
أما من العلماء المعاصرين فقد سئل فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-: عن أقسام المرجئة؟ مع ذكر أقوالهم في مسائل الإيمان ؟
فأجاب فضيلته:
[المرجئة أربعة أقسام:
القسم الأول: الذين يقولون:الإيمان هو مجرد المعرفة ولو لم يحصل تصديق وهذا قول الجهمية، وهذا شر الأقوال وأقبحها، وهذا كفر بالله عز وجل لأن المشركين الأولين وفرعون وهامان وقارون وإبليس كلٌ منهم يعرف الله عز وجل، ويعرفون الإيمان بقلوبهم لكن لما لم ينطقوا بألسنتهم ولم يعملوا بجوارحهم لم تنفعهم هذه المعرفة.
القسم الثاني: الذين قالوا إن الإيمان هو تصديق القلب فقط، وهذا قول الأشاعرة، وهذا أيضاً قول باطل لأن الكفار يصدقون بقلوبهم، ويعرفون القرآن حق وأن الرسول حق، واليهود والنصارى يعرفون ذلك: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } (الأنعام:20) فهم يصدقون به بقلوبهم! قال تعالى: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } (الأنعام:33).فهؤلاء لم ينطقوا بألسنتهم ولم يعملوا بجوارحهم مع أنهم يصدقون بقلوبهم فلا يكونون مؤمنين.
__________
(1) مقالات الإسلاميين، للأشعري (33-39).(بتصرف)(1/48)
القسم الثالث: التي تقابل الأشاعرة وهم الكرامية، الذين يقولون: إن الإيمان نطق باللسان ولو لم يعتقد بقلبه، ولا شك أن هذا قول باطل لان المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله بألسنتهم ولكنهم لا يعتقدون ذلك ولا يصدقون به بقلوبهم، كما قال تعالى: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } (المنافقون:1-2)، قال سبحانه وتعالى: { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } (آل عمران:167).
القسم الرابع: وهي أخف الفرق في الإرجاء، الذين يقولون إن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان ولا يدخل فيه العمل وهذا قول مرجئة الفقهاء وهو قول غير صحيح أيضاً](1).
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن عبدالله الراجحي–حفظه الله-
[ما أقسام المرجئة ؟ مع ذكر أقوالهم في مسائل الإيمان ؟
الجواب:
المرجئة طائفتان:
الطائفة الأولى: المرجئة المحضة أو الغلاة وهم الجهمية وزعيمهم الجهم بن صفوان فإن الجهم بن صفوان اشتهر بأربع عقائد بدعية هي:
1- عقيدة نفي الصفات وأخذها عنه الجهمية.
2- عقيدة الإرجاء وأخذها عنه المرجئة.
3- عقيدة الجبر - أي أن العبد مجبور على أعماله - وأخذها عنه الجبرية.
4- عقيدة القول بفناء الجنة والنار.
فهذه أربع عقائد خبيثة اشتهر بها الجهم.
__________
(1) الإجابات المهمة في المشاكل الملمة/لمعالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان/قام بإعدادها وجمعها:محمد بن فهد الحصين. ص105-107.(1/49)
والمرجئة المحضة عقيدتهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة، أي مجرد معرفة الرب بالقلب، فمن عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ولا يكون الكفر إلا إذا جهل ربه بقلبه، وبهذا ألزمهم العلماء بأن إبليس مؤمن ؛ لأنه يعرف ربه قال الله تعالى عن إبليس { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ويكون فرعون أيضا مؤمن لأنه يعرف ربه بقلبه، قال تعالى عنه وعن قومه.
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }
وذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الكافية الشافية فصلا طويلا في بيان معتقد المرجئة المحضة وقال: إنه أخفى هذا مدة ثم أظهره وبيّن أن عقيدتهم مجرد معرفة الرب بالقلب وأنه لو فعل الأعمال الكفرية مع ذلك فلا تؤثر في إيمانه، فلو سبَّ الله أو سبَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو سبَّ دين الإسلام وقتل الأنبياء والمصلحين وهدم المساجد وفعل جميع المنكرات فلا يكفر ما دام يعرف ربه بقلبه وهذا هو أفسد قول قيل في تعريف الإيمان، وهو قول أبي الحسين الصالحي من القدرية.
ويليه في الفساد قول الكرّامية القائلين: بأن الإيمان هو النطق باللسان فقط، فمن شهد أن لا إله إلا الله بلسانه فإنه يكون مؤمنا ولو كان مكذبا بقلبه ويسمونه مؤمنا كامل الإيمان وإن كان مكذبا بقلبه فهو مخلد في النار فيلزمهم على هذا أن المؤمن الكامل الإيمان مخلدٌ في النار وهذا من أعظم الفساد وهو يلي قول الجهم في الفساد.
الطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء وهم أهل الكوفة كأبي حنيفة - رحمه الله - وأصحابه وأول من قال بأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان هو حماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة، وأبو حنيفة له روايتان في حد الإيمان:
الأولى: إنه تصديق القلب وقول اللسان، وهذه الرواية عليها أكثر أصحابه.(1/50)
والثانية: إن الإيمان هو تصديق القلب فقط وأما قول اللسان فهو ركن زائد خارج عن مسمى الإيمان.
وعلى هذه الرواية يوافق قول الماتريدية إن الإيمان هو تصديق القلب فقط.
ولكن الأعمال مطلوبة عندهم كالصلاة والزكاة والصوم والحج فالواجبات واجبات والمحرمات محرمات ومن فعل الواجب فإنه يستحق الثواب والمدح ومن فعل الكبائر فإنه يستحق العقوبة ويقام عليه الحد، ولكن لا يسمونه إيمانا. يقولون:الإنسان عليه واجبان:
واجب الإيمان وواجب العمل ولا يدخل أحدهما في مسمى الآخر.
وجمهور أهل السنة يقولون: العمل من الإيمان وهو جزء منه فالأعمال واجبة وهي من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: الأعمال واجبة وليست من الإيمان، ولهذا قال من قال بأن الخلاف بينهم وبين جمهور أهل السنة خلاف لفظي، وقال بهذا شارح الطحاوية والصواب أنه ليس لفظياً](1).
فهذه الفرق كلها تتفق مع اختلاف اجتهاد العلماء في تقسيمها على أن العمل ليس من الإيمان، ولا نقول وهي متفقة أيضاً على عدم التفاضل في الإيمان فهناك فرقتان تران أن الناس يتفاضلون في الإيمان وهما النجارية وأصحاب محمد بن شبيب، ولذلك هم لا يُعدّون من المرجئة الخالصة(2).
فإن قال قائل: ما هي السمات أو العلامات التي يمكن أن نميز بين عقيدة أهل السنة والجماعة وعقيدة المرجئة في هذا العصر؟.
فنقول وبالله التوفيق:
__________
(1) أسئلة وأجوبة في مسائل الكفر والايمان/ص13-16 /فضيلة الشيخ عبدالله بن عبد العزيز الراجحي-حفظه الله-ط1/1423 دار أطلس الخضراء.
(2) يراجع الإيمان بين السلف والمتكلمين / تأليف الدكتور أحمد بن عطية الغامدي، ص89.(1/51)
أفضل من بيَّنَ وبشكل مختصر العلامات التي تميز بين اعتقاد السلف واعتقاد المرجئة فضيلة الشيخ علوي عبد القادر السقاف عندما قام بالتعليق على كتاب (شرح العقيد الواسطية)/ص263/ للعلامة محمد خليل هراس، الطبعة الرابعة(1)
__________
(1) لقد بلغني أن أحد الذين كانوا يشرحون العقيدة الواسطية بتحقيق الشيخ/ علوي عبد القادر السقاف عندما وصل إلى الصفحة التي فيها هذه العلامات قام بالشطب عليها وإنكارها، لأنها لا توافق هواه!!!. ولم يبين لهم وجه الإنكار والباطل الذي فيه، ولا أدري لجهله أم لتعصبه للرجال،وأحلاهما مر!!! وقام أحد طلابه الجهلة في الطعن بالشيخ علوي عبد القادر السقاف وقال مستهزئاً (السقاف في مسألة الإيمان يسقف)!!!. بل تجاسر بعض الحثالة من الشباب على المشايخ الذين يردون على هذا المذهب الردي بالانحراف في المنهج ومن هؤلاء المشايخ الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-. (ولا حول ولا قوة إلا بالله).
ولا أدري هل الشارح على علم بأخلاق طلابه؟!.
إن كان يدري فهي أعجوبة……وخزية إن كان لا يدري
فنقول وبالله التوفيق: الواجب أن يبدأ هذا الشارح بتأديب طلابه، وأن يعلمهم التأدب مع العلماء قبل أن يدرسهم العلم؟؟؟!!!.
قال الحسين ابن المنصور اليمني في كتابه (آداب العلماء والمتعلمين) في الواجب على العالم!!! تجاه طلبته:
(أن يرقب أحوال الطلبة في آدابهم وهديهم وأخلاقهم باطناً وظاهراً، فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه، أو ما يؤدي إلى فساد حال، أو ترك اشتغال، أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره، أو كثرة كلام بغير توجيه ولا فائدة، ومعاشرة من لا تليق معاشرته، أو نحو ذلك ...، عرض الشيخ بالنهي عن ذلك بحضور من صدر منه ذلك، غير معرض به، ولا معين له، فإن لم ينته نهاه عن ذلك سراً، ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها، فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهراً، ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال، ليزجر هو وغيره، ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، وكذا يتعاهد ما يعامل به بعضهم بعضاً من إفشاء السلام، وحسن التخاطب في الكلام، والتحابب، والتعاون على البر والتقوى، وعلى ما هم بصدده). آداب العلماء والمتعلمين - (1 / ص 11).(1/52)
.
ومما قاله الشيخ تعليقاً على كلام شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية في مسألة الإيمان:
[اعلم أن من قال بإحدى هذه العبارات فقد وقع في الإرجاء أو دخلت عليه شبهته:
الإيمان تصديق بالقلب فقط. (جهمية).
الإيمان نطق باللسان فقط. (كرَّامية(.
الإيمان تصديق بالقلب ونطق باللسان(1) (مرجئة الفقهاء).
الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالقلب(2) دون الجوارح.
الإيمان لا يزيد ولا ينقص والناس في أصله سواء.
الكفر تكذيب فقط (جهمية(.
الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد أو الجحود والاستحلال، ويستشهدون بقول الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته: ((ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله)). (والصواب أن يقال: الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب -دون الشرك أو الكفر- ما لم يستحله).
ترك جميع أعمال الجوارح (جنس الأعمال كما يسميه ابن تيمية) ليس كفراً مخرجاً من الملة. (ووجه كونه إرجاءً لأنه يلزم منه أن أعمال الجوارح ليست ركناً في الإيمان بل ولا عمل القلب كذلك، وهذا باطل لارتباط الظاهر بالباطن فيمتنع وجود عمل القلب مع انتفاء عمل الجوارح)(3).
__________
(1) ذكر الحلبي في كتابه التنبيهات ص455 (تكفي الشهادتان مع اعتقاد القلب).أ.هـ. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.
(2) ذكرنا سابقاً أن الاقتصار على (عمل القلب) هو قول المرجئة!!!.
(3) قال الحافظ الحكمي –رحمه الله- في معارج القبول (2/594) (ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك لم يعنوا مجرد التصديق).أ.هـ.(1/53)
أعمال الجوارح شرط كمال في الإيمان وليست ركناً ولا شرط صحة. (والصواب في هذا أن يقال: جنس أعمال الجوارح ركنٌ في الإيمان، وآحادها – عدا الصلاة(1)– من مكملاته).
الأقوال والأعمال الكفرية ليست كفراً ولكنها تدل على الكفر.
المكفرات القولية والعملية المخرجة من الملة هي ما كان مضاداً للإيمان من كل وجه أو ما كانت دليلاً على الكفر، وجَعْلُ مناط التكفير كونها مضادةً للإيمان من كل وجه أو كونها تدل على ذلك. (والصواب أن يقال: المكفرات القولية والعملية المخرجة من الملة هي ما دل الدليل على كونها كذلك، وهي مضادة للإيمان من كل وجه وتدل على كفر الباطن، ولا بد) فتأمل الفرق.
جعلهم الشهوة وعدم القصد من موانع التكفير. (ووجه كونه إرجاءً أن مآله إلى حصر الكفر في الاعتقاد، أما إن عُني بالقصد: العمد المقابل للخطأ فنعم، فالخطأ من موانع التكفير، لكن ليُعلم أنه يكفي أن يقصد (يتعمد) عمل الكفر، ولا يلزم منه أن يقصد الوقوع في الكفر).
ترك الصلاة ليس كفراً لأنه من أعمال الجوارح، وعمل الجوارح شرط في كمال الإيمان. (ووجه كونه إرجاءً أن قائله لا يكفِّر بالعمل(2)
__________
(1) هذا لمن يكفر تارك الصلاة، وأما من لم يترجح عنده كفر تارك الصلاة، فالمسألة خلافية في دائرة أهل السنة، مع التركيز على أنه لا بد من الإتيان بعمل جارحة لكي يتحقق عند مقدار أدنى حد من الإيمان. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله.
(2) قال الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف في كتابه (التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد) صفحة(19-20) الذي قرأه وقرظه وأوصى بطبعه ونشره الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:
(لم أنقل كلام العلماءِ المتعلِّق بتكفيرِ تاركِ الصَّلاة، وهم جمهور أصحاب الحديث، علماً أنَّها أقوالٌ كثيرةٌ جداً مبثوثةٌ في كتب السَّلَف ؛ وذلك لأَنَّها مسألة اختلف فيها أصحاب الحديث. ولكن هاهنا مسألةٌ مهمَّةٌ، وهي أَنَّ أصحاب الحديث الذين لم يكفِّروا تاركَ الصَّلاة؛ لا يعنون أَنَّ الصَّلاةَ عملٌ والعمل لا يكفّر تاركه أو فاعله بغير اعتقادٍ أو استحلالٍ أو تكذيبٍ، فهذه لَوْثَةٌ إرجائيَّةٌ حاشاهم منها. بل كما نقَلَ عنهم المروزيُّ قالوا: ((الأخبار التي جاءت في الإِكْفار بترك الصَّلاة نظير الأخبار التي جاءت في الإِكْفار بسائر الذُّنوب)) فهم نظروا إلى الأدلة التي ظاهرها التَّعارض فجمعوا بينها ورجَّحوا عدم إِكْفار تارك الصَّلاة كتارك الصَّوم والزَّكاة،إلاَّ إذا تركها جُحوداً أو إِباءً أو استنكافاً. ولم يُنْقَل عن أحدٍ منهم أَنَّ الصَّلاة عمل وليست اعتقاداً ولا يكفُرُ تاركَ العمل ! كما أَنَّهم لم يعدّوا من يكفِّر تاركها بمثابة الخوارج الَّذين يكفِّرونَ بالذُّنوب، وهذا إقرارٌ منهم أَنَّ تاركّ العمل قد يخرج من الملَّة، لكن لم يترجَّحْ عندهم ذلك في شأْنِ تارك الصَّلاة).أ.هـ.(1/54)
وإنما الكفر عنده اعتقاد فقط فمسألة الصلاة من أظهر المسائل التي أجمع الصحابة على كفر تاركها، أما لو رجَّح عدم كفر من يصلي تارة ويترك تارة لأدلة شرعية لديه –كما قد وقع من بعض السلف- أو أن الإجماع لم يبلغه، فهذا لا صلة له بالإرجاء). ومن هنا يُعلم خطأ ما يردده البعض من مقولةٍ لبعض السلف: ((من قال إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وأنه يزيد وينقص، فقد بريء من الإرجاء كله، أوله وآخره)). وهي مقولة حق ولا شك ولكن على فهم قائليها، وهو أنَّ العمل والقول والاعتقاد أركان في الإيمان لا يجزئ أحدها عن الآخر، وإلا فمن قال ذلك وهو لا يرى أعمال الجوارح ركناً في الإيمان، أو قال ذلك وهو يحصر الكفر في التكذيب والاستحلال فإنه قد نطق بما قاله السلف في تعريف الإيمان لكن لا على الوجه الذي أرادوه، وهذه العبارة شبيهة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لاإله إلا الله دخل الجنة" فما يقول هؤلاء فيمن قالها ولم ينطق بشطر الشهادة الآخر –محمد رسول الله-، أو قالها وارتكب ناقضاً من نواقضها، فهذه كتلك. ولهذا حذَّر أهل العلم من بعض الكتب(1) وأنها تدعو إلى مذهب الإرجاء، مع تبنيها أن الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص. والله أعلم].أ.هـ.
وهنا أمر لا بد أن نشير إليه ألا وهو، أن أهل البدع والأهواء عندما تُدَك أصولهم من قبل العلماء الربانيين سلفاً وخلفاً فانهم يلجأون إلى سفسطة جديدة لنصرة بدعتهم لم يسبق لأسلافهم من المبتدعة أن احتجوا بها... لِمَ ؟!.
__________
(1) راجع الملحق في نهاية الكتاب.(1/55)
لأنهم إذا جاءوا بنفس الحجج -زعموا- فلا يلتبس شبههم على الناس العوام فضلا عن طلبة العلم وذلك أن علماء السلف قد ردوا على هذه البدع في زمانهم فالشبهة الواردة من هؤلاء المبتدعة في المسألة المعينة إذا كانت هي نفس الشبهة فنقول هذه قد ردها عليكم أسلافنا من علماء أهل السنة وفندوها فلا تكون لها أنصار مثلما تكون للأقوال الجديدة، وخصوصاً إذا كانت تلك الأقوال فيها من الحق للتلبيس على الجهال والمقلدة لأن (البدعة لو كانت باطلا محضا لظهرت وبانت وما قبلت ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه ولكن البدعة تشتمل على حق وباطل)(1).
لكن نقول إن الله يقيض للناس في كل زمان من العدول الذين يدفع بهم عن هذا الدين شبهات المبتدعين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)(2).
فمن الذي يصدق أن جهم بن صفوان وأبي الحسن الأشعري ورؤوس المرجئة الذين كانوا يناظرون لنصرة مقالتهم في أن أعمال الجوارح -جنس العمل- ليست من الإيمان لم يخطر على بال أحدٍ منهم أن يقول:
فما هو (الحد الأدنى) الذي به يتحقق (جنس العمل)؟!.
هل هو (الصلاة) –فقط-؟!
أم هو أي ركن من ذلك ليشمل فرضاً-ما- من (الفرائض) الأخرى-جميعاً- زيادة على الأركان الأربعة، أو مغاير لها!-ليتحقق بفعل(واحد) منها (الحد الأدنى) لـ(جنس العمل)؟!
أم أن (العمل) أوسع وأوسع؟! ليشمل (عملاً) واحداً من (المستحبات) الشرعية المتكاثرة- التي هي زائدة عن (الأركان) و(الفرائض)-أو مغايرة لها-، ليتحقق بـ(عمل) واحد منها (الحد الأدنى) لـ(جنس العمل)؟!
__________
(1) درء التعارض (1/120).
(2) رواه البيهقي وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (248).(1/56)
وهل (جنس العمل) المراد –على أيً من الوجوه المتقدمة!-: كله؟! أم جنسه-أيضاً-؟! بأن يقال –مثلاً- فيمن صلى ركعة أو ركعتين-فقط-،أو سجد سجدة أو سجدتين!-حسب-: أنه قد أتى بـ(جنس العمل) من الصلاة؟! وبالتالي: (جنس العمل) المنجي؟!
وهل يكتفى بـ(عمل) واحد؟! أم لا بد منها-جميعاً- فيما يحقق معنى (الجنس)في كل (عمل)-عمل- منها؟!
ثم ما هو (البرهان=الشرعي)-من الكتاب أو السنة –على كل ذلك- بالتفصيل، والدليل- جمعاً، أو تفريقاً-!؟ (1).
تصور لو أن أحدهم أورد هذه الأسئلة على علماء السلف الذين قالوا لا يصح الإيمان إلا بعمل، فماذا يكون الجواب؟!.
سيجيب العالم الرباني ابن القيم الجوزية -رحمه الله- بقوله: (ينبغي أن يعلم ارتباط ايمان القلوب بأعمال الجوارح وتعلقها بها وإلا لم يفهم مراد الرسول ويقع الخلط والتخبيط... ولا يلتفت إلى جدلي لاحظ له من أعمال القلوب بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول: وما المانع... وما وجه الإحالة... ولو فرض ذلك واقعا لم يلزم منه... محال لذاته... فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله)(2).
نقطة الخلاف!!!
فبعد أن علمنا حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة والمرجئة سنشير إلى النقطة التي يخالف فيها المخالف في تعريف الإيمان في هذا العصر ألا وهو حكم تارك أعمال الجوارح بالكلية أو بعبارة أخرى تارك الأعمال الظاهرة بالكلية أو تارك جنس العمل كما يعبر عنه العلماء.
__________
(1) الرد البرهاني(ص163-164)، سيأتي تفصيل الرد على هذه التساؤلات في فصل (كفر تارك جنس العمل يساوي كفر الاعراض).
(2) مدارج السالكين [ جزء 1 - صفحة 326 ](1/57)
فنحن عندما نتكلم عن الإيمان ونرد على المخالفين فيه لا نقصد الرد على الأشاعرة أو الماتريدية أو مرجئة الفقهاء أو أي فرقة من الفرق التي تخالف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، فالأمر بين وواضح قد كفانا علمائنا المؤنة قديماً في الرد على هذه العقائد الضالة عن الصراط القويم، ولكننا نقصد الرد على فئة تنسب زوراً وبهتاناً إلى مذهب السلف هذه العقائد المنحرفة وتدعي أنها سلفية وأنها على الكتاب والسنة وهي تناقض نفسها بتقريرها أن الايمان قول وعمل، وأيضاً تكون بدون عمل!!!، وعلى هذا القول أضيفت فرقة جديدة للمرجئة سماه بعض العلماء مذهب المرجئة الخامسة!!!(1).
__________
(1) هناك محاضرة بعنوان (القاصمة على مذهب المرجئة الخامسة) لفضيلة الشيخ المحدث فوزي الأثري-حفظه الله- فيه التفصيل على مقالات هذه الفرقة وتناقضاتهم.(1/58)
ولكن من سنة الله الكونية أن يقيض لكل بدعة تظهر، من يكشف عوارها ويدك أصولها وهذا من تمام مدلول قول الله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر: 9)(1)، { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165] و { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42]، فأول بدعة حدثت في الأمة هي بدعة الخوارج فكانت في زمن الصحابة حتى عظمت فتنتهم في خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فكفروا المسلمين واستباحوا دماءهم فتصدى لهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في معركة النهروان، ثم ظهرت بدعة القدرية في أواخر عصر الصحابة فممن أدركهم عبدالله بن عمر - رضي الله عنه -،ثم حدثت بدعة الإرجاء فأدركهم كثير من التابعين فردوا عليهم،ثم ظهر المعتزلة بفتنة خلق القرآن فتصدى لها إمام أهل السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله-، ثم ظهرت الأشاعرة على المسلمين حتى أقنعوا المسلمين بأنهم هم أهل السنة فتصدى لهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فدك قواعدهم وأظهر تناقضهم وجهلهم، ثم فشا الشرك في أرجاء المعمورة فبعث الله من يجدد أمر دينها على يد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- وظهر في هذا الزمان طائفة تدعوا إلى بدعة الإرجاء بحلتها الجديدة وتلبس على الناس دينهم وابتدعت في دين الله ما ليس منه، إلا أن الله قيض من العلماء من يرد على هذه الفتنة
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية ص23، لفضيلة الشيخ /محمد بن صالح العثيمين.(1/59)
قال تعالى { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } [المؤمنون: 71] فهؤلاء الذين ينسبون إلى مذهب السلف هذا الباطل قوم في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه ابتغاء الفتنة فيأتون إلى أقوال أئمة السلف فيبترونها أو يؤولونها أو يلوون أعناقها لتوافق أهوائهم وأنى لهم ذلك وقد قال الله تعالى { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [الأنبياء: 18]، ولذلك سننقل في الفصول القادمة أقوال العلماء في حكم تارك العمل بالكلية –جنس العمل- ثم نناقش أقوال بعض العلماء الذين أنكروا لفظة (جنس العمل) ثم نرد على شبهة مرجئة العصر في تأويلهم أن العمل المقصود في تعريف السلف للإيمان بأنه عمل القلب، ثم ننقل أقوال العلماء في إشكالية حديث الشفاعة ، ثم نقف مع كتاب معاصر يقرر مذهب المرجئة في إيمان تارك جنس العمل، وأخيراً نبين أن تارك العمل بالكلية-جنس العمل- هو بعينه كفر الإعراض، علمه من علمه وجهله من جهله.(1/60)
{ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } [طه :25- 28]، نسأل الله أن (يوفقنا للعمل بما علمنا وتعلم ما جهلنا وإليه نرغب في أن يعيذنا من أتباع الهوى وركوب مالا يرتضى وأن نشرع في دينه مالم يشرع أو أن نقول عليه مالم يصح أو يسمع وأن يعصمنا في الأقوال والأفعال من تزيين الشيطان لنا سوء الأعمال وأن يقينا زلة العالم وأن يبصرنا بعيوبنا فما خلق من العيب بسالم وأن يرشدنا لقبول نصح الناصح وسلوك الطريق والواضح فما أسعد من ذكر فتذكر وبصر بعيوبه فتبصر وصلى الله على من بعثه بالدين القويم والصراط المستقيم فأكمل به الدين وأوضح به الحق المستبين محمد بن عبد الله أبي القاسم المصطفى الأمين صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين) (1)
حكم تارك العمل بالكلية -جنس العمل-
بعد أن علمنا إن إحدى علامات المرجئة هي إخراجهم العمل الظاهر من الإيمان وإنهم يثبتون الإيمان لتارك عمل الجوارح ننقل أقوال العلماء في حكم تارك جنس العمل أو تارك أعمال الجوارح بالكلية أو تارك الواجبات الظاهرة بالكلية أو تارك الأعمال الظاهرة بالكلية وإن الذي يترك عمل الجوارح بالكلية ليس في قلبه إيمان لا قليل ولا كثير بل هو كافر زنديق.
فنقول وبالله التوفيق:
أقوال العلماء في هذه المسألة كثيرة ولذلك سننقل بعضها لتزول الشبهة التي ترى إمكانية أن يكون في القلب إيمان بدون عمل الجوارح.
__________
(1) الباعث على إنكار البدع ص9(1/61)
قال الأوزاعي: (لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة، فكان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم جامع كما جمع هذه الأديان اسمها، وتصديقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق ذلك بعمله، فذلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدق بعمله لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين)(1).
سئل سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقيل له: (يقولون الإيمان قول ونحن نقول الإيمان قول وعمل والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليس بسواء لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود أما آدم فنهاه الله عز وجل عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسمي عاصيا من غير كفر وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسماهم الله عز وجل كفارا فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء وأما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس لعنه الله وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر مثل كفر علماء اليهود والله أعلم)(2).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - (ج 4 / ص 147)
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (1/347-348).(1/62)
قال: (محمد بن سليمان بن حبيب لوين، سمعت ابن عيينة، غير مرة يقول: « الإيمان قول وعمل »، قال ابن عيينة أخذناه ممن قبلنا قول وعمل: وأنه لا يكون قول إلا بعمل)(1).
وقال الإمام الشافعي –رحمه الله-: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر)(2).
وقال الحميدي –رحمه الله- (وأخبرت أن ناسا يقولون من اقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت ويصلى مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة فقلت هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين قال الله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله)(3).
قال الإمام المزني (والإيمان قول وعمل مع اعتقاده بالجنان، قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان وهما سيان ونظامان وقرينان لا نفرق بينهما لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان)(4).
فتح الباري لابن رجب - (ج 1 / ص 10)
ونقل حرب عن إسحاق قال : غلت المرجئة حتى صار من قولهم : إن قوما يقولون : من ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره ، يرجى أمره إلى الله بعد ، إذ هو مقر ، فهؤلاء الذين لا شك فيهم - يعني في أنهم مرجئة . وظاهر هذا : أنه يكفر بترك هذه الفرائض .
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد - (ج 2 / ص 190).
(2) شرح اصول الاعتقاد للالكائي (5/886)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (7/208).
(3) شرح اصول الاعتقاد للالكائي (5/887)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (7/209).
(4) شرح السنة)(ص71).(1/63)
نقل الإمام الطبري -رحمه الله- في صريح السنة بسنده عن الوليد بن مسلم قال: (سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز رحمهم الله ينكرون قول من يقول:أن الإيمان إقرار بلا عمل ويقولون (لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان))(1).
قال الإمام الآجري -رحمه الله-: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو التصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ثم اعلموا رحمنا الله وإياكم أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب وهو التصديق إلا أن يكون معه إيمان باللسان، وحتى يكون معه نطق، ولا تجزئ معرفة بالقلب والنطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا حقا، دل على ذلك الكتاب، والسنة، وقول علماء المسلمين.......إلى أن قال.......فالأعمال بالجوارح تصديق على الإيمان بالقلب واللسان فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه مثل(2) الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وأشباه لهذه، ومن رضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل لم يكن مؤمنا، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العلم بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، فاعلم ذلك هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)(3).
__________
(1) صريح السنة للطبري /25)
(2) يرجى الانتباه إلى الأمثلة، وإنها من الأعمال الظاهرة فقط.
(3) الأربعون حديثا للآجري - (ج 1 / ص 13).(1/64)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل(1) الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وما أشبه ذلك)(2)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (كل هذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، ولا يجوز على هذا ردا على المرجئة، الذين لعب بهم الشيطان، ميزوا هذا تفقهوا إن شاء الله)(3).
وقال أيضاً-رحمه الله- بعدما ذكر الآيات في أن دخول الجنة بالعمل: (كل هذا يدل العاقل على أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، كذا قال الحسن وغيره، وأنا بعد هذا أذكر ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن جماعة من أصحابه، وعن كثير من التابعين أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ومن لم يقل عندهم بهذا فقد كفر)(4).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (وقد تقدم ذكرنا لهم: إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة، لا يجزئ بعضها عن بعض، والحمد لله على ذلك)(5).
قال الإمام ابن بطة العكبري–رحمه الله-: (باب بيان الإيمان وفرضه وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث:
__________
(1) الرجاء التركيز على هذه الأمثلة، وإن السلف ردوا على المرجئة لإخراجهم العمل الظاهر من الإيمان، فانتبه مِن تلبيس مَن يقول أن العمل المقصود هو عمل القلب!
(2) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 222).
(3) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 279).
(4) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 282).
(5) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 350).(1/65)
اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به، والتصديق له ولرسله ولكتبه، وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا، وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به، وفرضه من الأعمال لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها، ولا يكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بلسانه، عاملا مجتهدا بجوارحه، ثم لا يكون أيضا مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله، وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن، ومضت به السنة، وأجمع عليه علماء الأمة....وأما الإيمان بما فرضه الله عز وجل من العمل بالجوارح تصديقا لما أيقن به القلب ونطق به اللسان فذلك في كتاب الله تعالى يكثر على الإحصاء وأظهر من أن يخفى)(1).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (فكل من ترك شيئا من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه أو أكدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته على سبيل الجحود لها والتكذيب بها، فهو كافر بين الكفر لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن أقر بذلك وقاله بلسانه، ثم تركه تهاونا ومجونا أو معتقدا لرأي المرجئة ومتبعا لمذاهبهم، فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم، وإنهم في الدرك الأسفل من النار، نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة)(2)
__________
(1) الإبانة الكبرى لابن بطة (ج 2/ ص 361).
(2) الإبانة الكبرى لابن بطة (ج 2/ ص 363).(1/66)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين، ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم، والنجاة من العذاب الأليم، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح، والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل، والنية بالإخلاص، حتى صار اسم الإيمان مشتملا على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض، ولا ينفع بعضها دون بعض، حتى صار الإيمان قولا باللسان، وعملا بالجوارح، ومعرفة بالقلب خلافا لقول المرجئة الضالة الذين زاغت قلوبهم، وتلاعبت الشياطين بعقولهم، وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته)(1)
وقال أبو طالب المكي-رحمه الله-: (...فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين أحداهما من الأخرى في المعنى والحكم فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية فهما شيئان في الأعيان واحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد كذلك الإيمان والإسلام إحداهما مرتبط بالآخر فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان واشترط للإيمان الأعمال الصالحة فقال في تحقيق ذلك { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه } وقال في تحقيق الإيمان بالعمل { ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى } فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد ومن كان مؤمنا بالغيب مما أخبرت به الرسل عن الله عاملا بما أمر الله فهو مؤمن مسلم ولولا أنه كذلك لكان المؤمن يجوز أن لا يسمى مسلما ولجاز أن المسلم لا يسمى مؤمنا بالله.
__________
(1) الإبانة الكبرى لابن بطة (ج 2 / ص 97).(1/67)
وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن بالله وملائكته وكتبه قال ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر لا يكون ذو جسم حي لا قلب له ولا ذو قلب بغير جسم فهما شيئان منفردان وهما في الحكم والمعنى منفصلان ومثلهما أيضا مثل حبة لها ظاهر وباطن وهى واحدة لا يقال حبتان لتفاوت صفتهما فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو من أعمال الجوارح والإيمان باطن الإسلام وهو من أعمال القلوب وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال الإسلام علانية والإيمان في القلب وفى لفظ الإيمان سر فالإسلام أعمال الإيمان والإيمان عقود الإسلام فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقد ومثل ذلك مثل العمل الظاهر والباطن أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح ومثله قول رسول الله إنما الأعمال بالنيات أي لا عمل إلا بعقد وقصد لأن(إنما) تحقيق للشيء ونفى لما سواه فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان لا يصح الكلام إلا بهما لأن الشفتين تجمع الحروف واللسان يظهر الكلام وفى سقوط أحدهما بطلان الكلام وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان ولذلك حين عدد الله نعمه على الإنسان بالكلام ذكر الشفتين مع اللسان في قوله ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين بمعنى ألم نجعل له ناظرا متكلما فعبر عن الكلام باللسان والشفتين لأنهما مكان له وذكر الشفتين لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما.(1/68)
ومثل الإيمان و الإسلام أيضا كفسطاط قائم في الأرض له ظاهر وأطناب وله عمود في باطنه فالفسطاط مثل الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح وهو الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان لا قوام للفسطاط إلا به فقد احتاج الفسطاط إليها إذ لا قوام له ولا قوة إلا بهما كذلك الإسلام في أعمال الجوارح لا قوام له إلا بالإيمان والإيمان من أعمال القلوب لا نفع له إلا بالإسلام وهو صالح الأعمال.
و أيضا فإن الله قد جعل ضد الإسلام والإيمان واحدا فلولا أنهما كشيء واحد في الحكم والمعنى ما كان ضدهما واحدا فقال { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } (سورة آل عمران:86) وقال { أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } (سورة آل عمران: 80) فجعل ضدهما الكفر قال وعلى مثل هذا أخبر رسول الله عن الإيمان والإسلام من صنف واحد فقال في حديث ابن عمر بني الإسلام على خمس وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر وان الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بدون صاحبه)(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/333-335).(1/69)
وقال الإمام أبو ثور –رحمه الله-: (فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان فيقال لهم ماذا أراد الله من العباد إذ قال لهم أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل فإن قالت إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل فقد كفرت عند أهل العلم من قال إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة وإن قالت أراد منهم الإقرار قيل فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعا لم زعمتم أنه يكون مؤمنا بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعا أرأيتم لو أن رجلا قال اعمل جميع ما أمر به الله ولا أقر به أيكون مؤمنا فان قالوا لا قيل لهم فإن قال أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل به أيكون مؤمنا فإن قالوا نعم قيل ما الفرق فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعا فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنا إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقر مؤمنا لا فرق بين ذلك فإن احتج فقال لو أن رجلا أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - أيكون مؤمنا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل قيل له إنما يطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنا ولو قال أقر ولا اعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان)(1).
قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في مجموع الفتاوى: (قد علمنا بالاضطرار أن اليهود وغيرهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله وكان يحكم بكفرهم فقد علمنا من دينه ضرورة أنه يكفر الشخص مع ثبوت التصديق بنبوته في القلب إذا لم يعمل بهذا التصديق)(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/388-389).
(2) مجموع الفتاوى (7/131).(1/70)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت فإن الله لما بعث محمدا رسولا إلى الخلق كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس ولا صيام شهر رمضان ولا حج البيت ولا حرم عليهم الخمر والربا ونحو ذلك ولا كان أكثر القرآن قد نزل فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه ولو اقتصر عليه كان كافرا)(1).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب(2)من القلب)(3)
وقال أيضاً:(فيمتنع أن يكون الإنسان محبا لله ورسوله مريدا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب الذي فرضه الله عليه)(4)
وقال أيضاً: (والمرجئة الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم وان أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها)(5).
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/518).
(2) الإيمان الواجب: هو الإيمان الذي إذا زال من العبد بالكلية زال أصل الإيمان أما إذا زال بعضه زال كمال الإيمان.
(3) مجموع الفتاوى(7/148).
(4) مجموع الفتاوى(7/188).
(5) مجموع الفتاوى(7/194-195).(1/71)
وقال أيضاً: (وأما قولهم إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع فهذا صحيح وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها وقد يقرن به الأعمال وذكرنا نظائر لذلك كثيرة وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب والأعمال الظاهرة لازمة لذلك لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتفى بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة)(1).
وقال أيضاً: (فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئا مما أمر به من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات مثل الصلاة بلا وضوء، والى غير القبلة ونكاح الأمهات،(2) وهو مع ذلك مؤمن في الباطن بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه)(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/198).
(2) الانتباه إلى الأمور التي يسردها شيخ الإسلام –رحمه الله- وإنها طاعات ظاهرة وكذلك المعاصي.
(3) مجموع الفتاوى (7/218).(1/72)
وقال أيضا-رحمه الله-ً:(وفى المسند عن النبي "الإسلام علانية والإيمان في القلب" فلما ذكرها جميعا ذكر أن الإيمان في القلب والإسلام ما يظهر من الأعمال وإذا أُفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة لأنها لوازم ما في القلب لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما اخبر به الرسول وجب حصول مقتضى ذلك ضرورة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه ألبتة فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها اثر في الظاهر(1) ولهذا ينفى الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه فإن انتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم)(2).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (عن الحسن قال ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال من قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك بأن الله يقول إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ورواه ابن بطة من الوجهين وقوله ليس الإيمان بالتمني يعنى الكلام وقوله بالتحلي يعنى أن يصير حلية ظاهرة له فيظهره من غير حقيقة من قلبه ومعناه ليس هو ما يظهر من القول ولا من الحلية الظاهرة ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم)(3).
__________
(1) هذا رد على من يزعم أن الخلاف مع المرجئة لإخراجهم عمل القلب والجوارح ،وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله في فصل خاص.
(2) مجموع الفتاوى (18/272).
(3) مجموع الفتاوى(7/294).(1/73)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (الرابع ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح والصواب أن القلب له عمل مع التصديق والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر وكلاهما مستلزم للباطن والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر(1) عن الإيمان فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن فبقى النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن أو لازم لمسمى الإيمان)(2).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر كما في المسند عن النبي أنه قال "الإسلام علانية والإيمان في القلب" والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له و إلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.
__________
(1) الانتباه إلى إن الخلاف الحقيقي مع المرجئة لإخراجهم العمل الظاهر من الإيمان-عمل الجوارح- .
(2) مجموع الفتاوى(7/553).(1/74)
وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة فإن هذا ممتنع إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك)(1).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ بل لا يتساوى الناس في التصديق ولا في الحب ولا في الخشية ولا في العلم بل يتفاضلون من وجوه كثيرة و أيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا وهذا باطل قطعا فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعا بالضرورة وان أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن)(2).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (إذا تبين هذا وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه زالت الشبه العلمية في هذه المسألة ولم يبق إلا نزاع لفظي في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه فيكون لفظ الإيمان دالا عليه بالتضمن والعموم أو هو لازم للإيمان ومعلول له وثمرة له فتكون دلالة الإيمان عليه بطريق اللزوم)(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/553).
(2) مجموع الفتاوى(7/555-556).
(3) مجموع الفتاوى(7/575).(1/75)
وقال أيضا-رحمه الله-ً: (وقيل لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك فهذا يناقض قولك أن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك)(1).
وقال أيضاً: (ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح)(2).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه)(3)
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/579-585).
(2) مجموع الفتاوى(7/611).
(3) مجموع الفتاوى(7/617).(1/76)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه ولم يؤد واجبا ظاهرا ولا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله لم يخرج بذلك من الكفر فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد
ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له أو جزءا منه فهذا نزاع لفظي كان مخطئا خطئا بينا وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها)(1).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (والله سبحانه في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة كقوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا وقال إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون وقال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما.
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/621).(1/77)
فإذا قال القائل هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدل على أنها من الإيمان قيل هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافى الكفر بدون أمور ظاهرة لا قول ولا عمل وهو المطلوب وذلك تصديق وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور)(1).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (وأيضا فان الإيمان عند أهل السنة و الجماعة قول و عمل كما دل عليه الكتاب والسنة و اجمع عليه السلف و على ما هو مقرر في موضعه فالقول تصديق الرسول و العمل تصديق القول فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا... و أيضا فإن حقيقة الدين هو الطاعة و الانقياد و ذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا و من لا دين له فهو كافر)(2).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (وهنا أصول تنازع الناس فيها منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب و لا يظهر قط منه شيء على اللسان و الجوارح و إنما يظهر نقيضه من غير خوف فالذي عليه السلف و الأئمة و جمهور الناس أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح فمن قال أنه يصدق الرسول و يحبه و يعظمه بقلبه و لم يتكلم قط بالإسلام و لا فعل شيئا من واجباته بلا خوف فهذا لا يكون مؤمنا في الباطن و إنما هو كافر)(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/645).
(2) شرح العمدة (4/81).
(3) مجموع الفتاوى (14 / 120-121).(1/78)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة لأنها لوازم ما في القلب لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما اخبر به الرسول وجب حصول مقتضى ذلك ضرورة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه ألبتة فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها اثر في الظاهر ولهذا ينفى الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه فإن انتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم كقوله تعالى (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) وقوله (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) الآية ونحوها فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيما إلا مع استقامة الباطن وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر ولهذا قال النبي ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهى القلب)(1).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (فإن الإيمان بحسب كلام الله و رسالته و كلام الله و رسالته يتضمن إخباره و أوامره فيصدق القلب إخباره تصديقا يوجب حالا في القلب بحسب المصدق به و التصديق هو من نوع العلم و القول و ينقاد لأمره و يستسلم و هذا الإنقياد و الاستسلام هو من نوع الإرادة و العمل و لا يكون مؤمنا إلا بمجموع الأمرين فمتى ترك الانقياد كان مستكبرا فصار من الكافرين و إن كان مصدقا للكفر أعم من التكذيب يكون تكذيبا و جهلا و يكون استكبارا و ظلما و لهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر و الاستكبار دون التكذيب و لهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود و نحوهم من جنس كفر إبليس و كان كفر من يجهل مثل النصارى و نحوهم ضلالا و هو الجهل
__________
(1) مجموع الفتاوى (18/ 272).(1/79)
ألا ترى أن نفرا من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم و سألوه عن أشياء فأخبرهم فقالوا : نشهد أنك نبي و لم يتبعوه و كذلك هرقل و غيره فلم ينفعهم هذا العلم و هذا التصديق ؟
ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله و قد تضمنت خبرا و أمرا فإنه يحتاج إلى مقام ثان و هو تصديقه خبر الله و انقياده لأمر الله فإذا قال : [ أشهد أن لا إله إلا الله ] فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره و الانقياد لأمره [ و أشهد أن محمدا رسول الله ] تضمنت تصديق فيما جاء به من عند الله فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار
فلما كان التصديق لابد منه في كلتا الشهادتين ـ و هو الذي يتلقى الرسالة بالقبول ـ ظن من ظن أن أصل لجميع الإيمان وغفل عن أن أصل الآخر لابد منه و هو الانقياد و إلا فقد يصدق الرسول ظاهرا وباطنا ثم يمتنع من الانقياد للأمر إذ غايته تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه و تعالى كإبليس و هذا مما بين لك أن الاستهزاء بالله أو برسوله ينافي الانقياد له لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته فصار الانقياد له من تصديقه في خبره، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه و كلاهما كفر صريح)(1)
__________
(1) الصارم المسلول (1/519).(1/80)
وقال الإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله- (فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار(1) كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار)(2).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (قاعدة: الإيمان له ظاهر وباطن وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته فلا ينفع ظاهر لا باطن له وان حقن به الدماء وعصم به المال والذرية ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل علي فساد الباطن وخلوه من الإيمان ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته)(3).
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: (لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر مرتد معاند ككفر فرعون وإبليس وأمثالهما)(4).أ.هـ.
__________
(1) هذا ممتنع! إذ يستحيل أن يكون عند العبد عمل قلبي بدون عمل ظاهر، فهذا غير متصور، ولكن ابن القيم -رحمه الله- كأنه يعيش في أيامنا هذا فيرد على أولئك الذين يزعمون أن العمل القلبي يكفي في تحقيق أصل الإيمان-كما مر من كلام عدنان عبدالقادر-، فيسد عليهم الباب من كل جانب.
(2) الفوائد (ص 142).
(3) الفوائد (ص162).
(4) نهاية رسالة (كشف الشبهات).(1/81)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (لا خلاف بين الأمة, أن التوحيد: لابد أن يكون بالقلب, الذي هو العلم؛ واللسان, الذي هو القول والعمل, الذي هو تنفيذ: الأوامر والنواهي؛ فإن أخل بشيء من هذا, لم يكن الرجل مسلما, فإن أقر بالتوحيد, ولم يعمل به, فهو: كافر , معاند , كفرعون , وإبليس؛ وإن عمل بالتوحيد ظاهراً , وهو لا يعتقده باطناً , فهو: منافق خالصاً , أشر من الكافر)(1)
وقال أيضا-رحمه الله-ً: ([الدين يكون على القلب واللسان والجوارح ] اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر؛ فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتد)(2).
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله-: عن أحاديث الوعد، والوعيد، وقول وهب بن منبه " مفتاح الجنة لا إلَه إلا ّ الله " " الخ، وحديث أنس " من صلى صلاتنا " الخ؟
فأجاب-رحمه الله-: (.... فالمسألة الأولى واضحة، مراده الرد على من ظن دخول الجنة بالتوحيد وحده، بدون الأعمال)(3).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-: (فلابد في شهادة: ألا إله إلا الله، من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان؛ فإن اختل نوع من هذه الأنواع، لم يكن الرجل مسلماً)(4)(5)
__________
(1) الدرر السنية (2/124-125).
(2) الدرر السنية (2/87-88).
(3) الدرر السنية (2/185-186).
(4) الدرر السنية (2/350).
(5) أود الإشارة إلى أن الحلبي ذكر في كتابه (الأجوبة المتلائمة...) (ص9) وفي كتابة (الرد البرهاني..) (ص33) عندما أراد أن ينقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في أنه موافق له في عقيدته الإرجائية ترك هذه النصوص المنقولة من الدرر السنية وأحال إلى موضع آخر ليلبس على الجهال والعوام.
لذا سننقل كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- الذي أحال الحلبي إليه ونجيب عنه بإذن الله.
قال الشيخ المجدد -رحمه الله- في الدرر السنية (1/102)...(أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان ثم الأركان الأربعة،إذا أقر بها، وتركها تهاوناً،فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها –كسلاً من غير جحود – ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء – كلهم – وهو الشهادتان) أ.هـ.، فالجواب على هذا الشبهة الواهية: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- يقصد أنه لا يكفر أحداً من المسلمين إلا إذا أتى بناقض -قولي أو فعلي أو اعتقادي- ينقض هذه الشهادة وهذا معلوم عند أدنى طالب علم، وذلك أن أعداء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- قديما وحديثاً يرمونه بأنه يكفر المسلمين!، فكان هذا الجواب منه -رحمه الله- بأنه بريء من هذه التهمة الباطلة.
ونقول للحلبي لماذا تركت النصوص المحكمة الأخرى للشيخ وكلامه الواضح وتشبثت بهذا الكلام المجمل المتشابه؟!. { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ } [آل عمران: 7].(1/82)
وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في (شرح كشف الشبهات:126):"بل إجماع بين أهل العلم (أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل)، فلا بد من الثلاثة، لابد أن يكون هو المعتقد في قلبه، ولابد أن يكون هو الذي ينطق به لسانه، ولابد أن يكون هو الذي تعمل به جوارحه، (فإن اختل شيء من هذا) لو وحّد بلسانه دون قلبه ما نفعه توحيده، ولو وحد بقلبه وأركانه دون لسانه ما نفعه ذلك، ولو وحَّد بأركانه دون الباقي (لم يكن الرجل مسلماً)، هذا إجماع أن الإنسان لابد أن يكون موحداً باعتقاده ولسانه وعمله. (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) إذا اعتقد ولا نطق ولا عمل بالحق بأركانه فهذا كافر عند جميع الأمة".
وقال الشيخ حافظ الحكمي –رحمه الله-:"ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب). ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة ؛ أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهراً وباطناً، لم يعنوا مجرد التصديق"(1).
وقال الشيخ العلامة محمد أمان الجامي -رحمه الله- في (شرح الأصول الثلاثة عند التعليق على المرتبة الثانية: الإيمان: وهو بضع وسبعون شعبة – الشريط الثالث الوجه الثاني):"ومن ادعى أنه مصدق بقلبه بكل ما جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم لا يعمل، يقال له: هذه دعوى! والدعوى لا بد لها من بينة، فأين البينة ؟ البينة الأعمال، لذلك يقول بعضهم:
فإذا حلَّت الهدايةُ قلباً نَشَطَتْ في العبادة الأعضاء
__________
(1) معارج القبول:2/23).(1/83)
فإذا كانت الأعضاء لا تعمل ؛ لا يصلي ولا يصوم ولا يأمر ولا ينهى ولا يجاهد ولا يطلب العلم.. ماشي، هكذا مصدق ؟! لا، لا، لا يقبل مثل هذا التصديق، وعلى هذا انتشر بين المسلمين هذا الإيمان الإرجائي، لذلك لو أمرت إنسان أو نهيته عن ما فعل، يقول:الإيمان بالقلب. هنا الإيمان!!.
الإيمان الذي هنا لو صحَّ لظهر أثره في أعضائك وجوارحك. لست بصادق تترك الصلاة، فيقال لك: صل، فتقول: لا، الإيمان هنا في القلب!! ليس بصحيح هذا، إذن كيف تحاججون وتنازعون الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ؛ تقولون لهم: أنتم حكام غير مسلمين، فيقول لك: أنا مسلم لأني أقول: لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وأنا مصدق وأنت معي في هذا التصديق، يحاججك. لكن متى تستطيع أن تقنعه أنه ليس على الإسلام ؟ إذا عَرَّفت الإيمان بتعريفه الصحيح: تصديق بالقلب وعمل بالجوارح وقول باللسان، التصديق الذي بالقلب يشهد لصحته: النطق باللسان وقولك "أشهد أن لا إله إلا الله ومحمداً رسول الله"، ويصدّق كل ذلك الأعمال الجارية على السنة، وعلى وفق ما جاءت به السنة".(1/84)
قال الشيخ العثيمين –رحمه الله- في شرح كتاب التوحيد: (من قال: لا إله إلا الله"، أي: بشرط الإخلاص، بدليل قوله: "يبتغي بذلك وجه الله"، أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجهاً؛ فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في "صحيح مسلم"، حيث قال: "ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحُرّمت أمور؛ فلا يغتر مغترٌ بهذا"؛ فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله، حيث قال: "يبتغي بذلك وجه الله"، ولهذا قال بعض السلف عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الجنة: لا إله إلا الله"(1)، لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له)(2).
وقال أيضاً –رحمه الله- في شرحه لكتاب (كشف الشبهات):(ختم المؤلف هذه الشبهات بمسألة عظيمة هي: أنه لابد أن يكون الإنسان موحداً بقلبه وقوله وعمله فإن كان موحداً بقلبه ولكنه لم يوحد بقوله أو بعمله فإنه غير صادق في دعواه، لأن توحيد القلب يتبعه توحيد القول والعمل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: [إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب](3) فإذا من جنس فرعون الذين كان مستيقناً بالحق عالماً به لكنه أصر وعاند وبقي على ما كان عليه من دعوى الربوبية،قال الله تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } (النمل: 14))(4).
الشيخ صالح بن الفوزان -حفظه الله- في سؤال وجه لفضيلته:
__________
(1) صحيح البخاري:عن وهب بن منبه.انظر "الفتح": (3/109)، والحديث عزاه الهيثمي لإمام أحمد والبزار.
(2) القول المفيد على شرح كتاب التوحيد باب (باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) ط2/ص77-78.
(3) متفق عليه.
(4) شرح كشف الشبهات /ص120،المكتبة التوفيقية.(1/85)
السائل: شهادة أن لا إله إلا الله هي مفتاح دين الإسلام، وأصله الأصيل؛ فهل من نطق بها فقط؛ دخل في دائرة المسلمين؛ دون عمل يذكر ؟ وهل الأديان السماوية - غير دين الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - - جاءت بنفس هذا الأصل الأصيل ؟ .
الجواب: من نطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ حكم بإسلامه بادي ذي بدء، وحقن دمه :
فإن عمل بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا؛ فهذا مسلم حقًا، له البشرى في الحياة الدنيا والآخرة .
وإن عمل بمقتضاها ظاهرًا فقط؛ حكم بإسلامه في الظاهر، وعومل معاملة المسلمين، وفي الباطن هو منافق، يتولى الله حسابه .
وأما إذا لم يعمل بمقتضى لا إله إلا الله، واكتفى بمجرد النطق بها، أو عمل بخلافها؛ فإنه يحكم بردته، ويعامل معاملة المرتدين .
وإن عمل بمقتضاها في شيء دون شيء؛ فإنه يُنظَر : فإن كان هذا الذي تركه يقتضي تركه الردة؛ فإنه يحكم بردته، كمن ترك الصلاة متعمدًا، أو صرف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله . وإن كان هذا الذي تركه لا يقتضي الردة؛ فإنه يُعتبر مؤمنًا ناقص الإيمان بحسب ما تركه؛ كأصحاب الذنوب التي هي دون الشرك ، وهذا الحكم التفصيلي جاءت به جميع الشرائع السماوية)(1) .
وقال أيضاً –حفظه الله- في سؤال وجه لفضيلته:
السائل: يقول فضيلة الشيخ وفقكم الله هناك من يقول إن تارك جنس العمل بالكلية لا يكفر وان هذا القول قولٌ ثاني للسلف لا يستحق الإنكار ولا التبديع فما صحة هذه المقولة؟(2).
__________
(1) المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان.
(2) قال الحلبي في كتابه (التنبيهات) ص124 تحت عنوان إجماع كاذب [ ولقد حشى المسود على بعض قوله (!) في مسألة (جنس العمل)-إياها- مدعياً أنها من (قول السلف المجمع عليه)!!! وهذا جهل بكلام السلف، أو كذب عليهم....... الخ].(1/86)
الشيخ: هذا كذاب إلي يقول هذا الكلام كذاب، كذب على السلف، السلف ما قالوا إن الذي يترك جنس العمل ولا يعمل شيء انه يكون مؤمن. من ترك العمل نهائيا من غير عذر ما يصلي ولا يصوم ولا يعمل أي شيء ويقول أنا مؤمن هذا كذاب أما إلي يترك العمل لعذر شرعي ما تمكن من العمل نطق بالشهادتين بصدق ومات أو قتل في الحال فهذا ما في شك انه مؤمن لأنه ما تمكن من العمل ما تركه رغبتا عنه أما الذي يتمكن من العمل ويتركه لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يتجنب المحرمات ولا يتجنب الفواحش هذا ليس بمؤمن ولا احد يقول انه مؤمن إلا المرجئة)(1).
قال الشيخ صالح عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله-:(كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا (العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به)، نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل(2)، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي)(3).
__________
(1) نهاية شريط العقيده الحمويه المشروح بتاريخ 22-2-1426 هـ الموافق 1/4/2005م.
(2) وصف الحلبي في كتابه التنبيهات ص 456 إن التفريق بين جنس العمل وآحاده (بدعة كبرى).
(3) في [شرحه لكتاب (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد)، والتي ألقاها في مسجد حمزة بن عبد المطلب بالدمام ابتداء من فجر الثلاثاء 28من شهر الله المحرم 1413هـ حتى فجر الخميس غرة شهر صفر 1413هـ وقد كانت هذه الدروس بإشرافٍ من مركز الدعوة والإرشاد بالدمام ].(1/87)
وقال أيضاً -حفظه الله- في جلسة خاصة مع بعض طلبة العلم (أنه لو تُصُوِّر أنّ أحدا قال سأعتقد وسأتكلم ولن أعمل قط، لن أعمل قط، عندنا ليس بمسلم.
لو واحد جاء وقال أنا بَاتْشَهَّدْ؛ أشهد لا إله إلا الله، وأنا بَاعْتَقِدْهَا لكن لن أعمل وقال هذه الكلمة، أو مات ولم يعمل شيئا قط مع إمكان العمل، فعندنا ليس بمسلم، وعندهم مسلم-أي عند المرجئة-، ونحن لا نصلي عليه وهم يصلون عليه-أي المرجئة-،نحن لا نترحم عليه؛ يعني أنّ جنس العمل عندنا لا بد منه؛ ركن من أركان الإيمان، جنس العمل لابد أنْ يعمل عملا صالحا(1))(2).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (المقصود من هذا تحرير أصل المسألة؛ وهو أن الكفر عند أهل السنة والجماعة يكون:
بالاعتقاد: إما بخلو القلب مما اعتقده من الإيمان، أو باعتقاد بشيء يناقضه يناقض أصل الإيمان.
عمل بخلوه من العمل أصلا لم يعمل خيرا قط، فاته جنس العمل، لم يعمل وإنما اكتفى بالشهادة قولا واعتقادا ولم يعمل جنس العمل، فهذا يسلب عنه أو عمِل عملا مضاد لأصل الإيمان.
وكذلك القول: قال، أو ترك القول.
هذه مسألة لاشك أنها مهمة، والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أوضحوا ذلك وبينوه وفي كلام أئمة الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلامذته وأبناءه في ذلك ما يشفي، لأنهم عاشروا المسألة وعاصروها مدة طويلة من الزمان أكثر من سنة فحرروها تحريرا بالغا. والله أعلم)(3).
وقال أيضاً في سؤال وجه إليه -حفظه الله-
(س2/ هل تارك العمل بالكلية مسلم؛ تارك الأركان وتارك غيرها من الواجبات والمستحبات والأعمال الظاهرة بالجوارح؟.
__________
(1) في الأصل (صالح) والصواب ما أثبتناه.
(2) جلسة خاصة مع الشيخ -حفظه الله-، (وهو شريط مفرغ)، وللاستزادة يراجع مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ.
(3) محاضرة خاصة عن الإيمان]شريط مفرغ.(1/88)
الجواب: أن العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان؛ يعني أن الإيمان يقع على أشياء مجتمعة وهي الاعتقاد والقول والعمل، ولذلك من ترك جنس العمل فهو كافر؛ لأنه لا يصحّ إسلام ولا إيمان إلا بالإتيان بالعمل)(1).
قال الشيخ ربيع بين هادي المدخلي -حفظه الله- في مقال بعنوان: (هل يجوز التنازل عن الواجبات مراعاة للمصالح والمفاسد وعند الحاجات والضرورات):
(ويقول عني إنِّي خالفت السلف في جنس العمل وفي قضايا الإيمان وهو الكذوب(2), وإذا رجع المسلم المنصف إلى كلامي(3) يجده مطابقاً لمنهج السلف ولما قرَّرُوه(4) ويجد في كلامي التصريح بأنَّ تارك العمل بالكلية كافر زنديق(5)
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية التي انتهت بتاريخ 1 محرم 1420هـ].
(2) المقصود بهذا الكلام الشيخ فالح الحربي-حفظه الله-.
(3) يقصد الشيخ كلامه في رسالته التي بعنوان (كلمة حق حول جنس العمل).
(4) الشيخ يصرح هنا أن تكفير تارك العمل بالكلية -جنس العمل-،هو عين منهج السلف وما قرروه.
(5) إذا كان تارك العمل بالكلية كافر زنديق وأن هذا هو منهج السلف وما قرروه، فهل الذي يخالفهم يكون سلفياً أم خلفياً؟!،متبعاً أم مبتدعاً؟!، وهل أقوال الحلبي في هذه المسألة موافق للسلف أم المرجئة؟!، نترك الجواب للقارئ الأريب!!!، بعد أن يقارن الأقوال الآتية للحلبي مع ما نقلناه آنفاً:
قال الحلبي في كتابه (التنبيهات...) صفحة (110-111):
[...ثم انتقد المسود كتاب ((التعريف والتنبئة..)) مدعيا أن فيه ((من الغلط في مسائل الإيمان...إخراج العمل عن الإيمان، وأن الإيمان يبقى مع ترك جنس العمل))!...إلى أن قال...ولعل (المسود)- لجهله، أو تجاهله!-لم يفرق- أو لم يستوعب!-بين: كون (عمل الجوارح من الإيمان)، وبيان أنه لا يلزم من ذلك أن (ترك عمل الجوارح غير مبطل للإيمان)!!
وأما أن الإيمان يبقى مع ترك (جنس العمل)].
وقال أيضاً في كتابه (التنبيهات...) صفحة (425) و(التعريف والتنبئة..) صفحة (33)
فالأعمال الظاهرة –طاعات ومعاصي-وجودا وعدما- متعلقة بـ (الإيمان المطلق)، لا (مطلق الإيمان)، فتنبه.
قال الحلبي في كتابه (الرد البرهاني...) صفحة (193)
فإننا نقول: أركان الإيمان (ثلاثة) قول واعتقاد وعمل، ثم نحن لا نكفر بترك ركن العمل –أي: عمل الجوارح!!(1/89)
).
مصطلح (جنس العمل)
لقد ذكر العلماء قديماً وحديثاً هذه اللفظة وأرادوا بها أنه لا يصح إيمان العبد إلا بوجودها فلا إيمان بدون عمل ولا عمل بدون إيمان.
ولكن ما المقصود به؟ هو عمل الجوارح أم عمل القلب أم يقصد به عمل القلب والجوارح معاً؟.
فنقول وبالله التوفيق:
سئل معالي فضيلة الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ –حفظه الله- عن [معنى جنس العمل]...
فأجاب فضيلته:جنس العمل يعني عمل صالح، أي عمل صالح، أي عمل صالح ينوي به التقرب إلى الله جل وعلا ممتثلا فيه أمر الله جل وعلا، هذا متفق عليه:
من قال بأنّ تارك الصلاة يكفر كسلا: قال العمل الصالح هذا هو الصلاة.
ومن قال تارك الصلاة لا يكفر من السلف: قال لابد من جنس العمل.
السلف اختلفوا في تارك الصلاة، من قال تارك الصلاة يكفر قال الصلاة هي جنس العمل؛ لابد أن يأتي بالصلاة، ومن قال لا تارك الصلاة لا يكفر تعاونا أو كسلا قالوا لابد من جنس العمل؛ لابد أن يعمل عملا صالحا(1) من أي وجه، يعني جنس العمل لابد منه.
السائل:...[هل يقصد به عمل القلب؟]
كيف!! لا... عمل القلب متفق عليه، عمل القلب متفق عليه(2)
__________
(1) في الأصل (صالح) والصواب ما أثبتناه.
(2) قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: (والمرجئة ثلاثة أصناف الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة).
وقال أيضاً: (المقصود هنا أن عامة فرق الأمة تدخل ما هو من أعمال القلوب حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك وأما المعتزلة والخوارج وأهل السنة وأصحاب الحديث فقولهم في ذلك معروف وإنما نازع في ذلك من اتبع جهم بن صفوان من المرجئة وهذا القول شاذ كما أن قول الكرامية الذين يقولون هو مجرد قول اللسان شاذ أيضا).
إذن لا خلاف بين السلف والمرجئة في مسألة دخول أعمال القلوب في الإيمان.(1/90)
، المقصود عمل الجوارح؛ يعني لابد من عمل الجوارح، هو هذا أي عمل صالح يمتثل فيه أمر الله جل وعلا)(1).
وقال أيضاً –حفظه الله-: (كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا ”العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به.“ نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط للإيمان(2)، فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي)(3).
إذاً صار معلوماً ما المقصود بجنس العمل يقصد به عمل الجوارح من الطاعات المأمور بها العبد شرعاً.
ولكن هنا سؤال قد يرد وهو هل يمكن وجود أحد العملين -القلب أو الجوارح- دون الآخر؟!.
نقول وبالله التوفيق:
لكي يصح إيمان العبد ويكون من أهل الجنة، لا بد من عمل القلب وعمل الجوارح، أما وجود أحد الأعمال –القلب أو الجوارح- فيمكن وجود عمل الجوارح دون أعمال القلوب كما هو في شأن المنافقين، أما وجود عمل القلب دون عمل الجوارح فهذا ممتنع محال غير متصور ألبته.
__________
(1) جلسة خاصّة مع الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وهو[شريط مفرغ]، وللاستزادة الرجوع إلى مكتبة الشيخ في موقع روح الإسلام على شبكة الانترنيت.
(2) التكرار في الأصل.
(3) شرح لمعة الاعتقاد لابن قدامة.(1/91)
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح)(1).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتف بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة)(2).
فمن هنا نعلم أن وجود إيمان في القلب بدون عمل ظاهر محال ممتنع غير متصور، بل لا بد أن يظهر موجب الإيمان في القلب من الأعمال الظاهرة بحسبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه كقوله تعالى { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين... } )(3)
وقال أيضاً: (مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ)(4)
وقال أيضاً: (وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات ويترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله والإيمان يزيد وينقص ويجتمع في العبد إيمان ونفاق...)(5).
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/611).
(2) مجموع الفتاوى (7/198).
(3) مجموع الفتاوى (7/221).
(4) مجموع الفتاوى (2/345).
(5) مجموع الفتاوى (7/616).(1/92)
ومن هنا يمكن تأصيل قاعدة وهي قاعدة التلازم بين الظاهر والباطن، ولا خلاف بين السلف في صحة هذه القاعدة بل لا يخالف هذه القاعدة إلا المرجئة(1).
وقال أيضاً: (والمرجئة الذين قالوا الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ولم يكن قولهم مثل قول جهم فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم وان أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا فإنها لازمة لها)(2).
وقال أيضا-رحمه الله-ً:(وفى المسند عن النبي "الإسلام علانية والإيمان في القلب" فلما ذكرها جميعا ذكر أن الإيمان في القلب والإسلام ما يظهر من الأعمال وإذا أُفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة لأنها لوازم ما في القلب لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما اخبر به الرسول وجب حصول مقتضى ذلك ضرورة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه ألبتة فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها اثر في الظاهر ولهذا ينفى الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه فإن انتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم)(3).
__________
(1) مرجئة العصر وقعوا في تناقض حينما أقروا بهذه القاعدة، إذ كيف يكون هناك تلازم بين الظاهر والباطن وهم يثبتون إيمان لتارك العمل بالكلية وكفر المنافقين، بعبارة أخرى، إذا كان هناك عمل جوارح بدون إيمان –كما هو شأن المنافق-، وإيمان بدون عمل جوارح –كما هو قول مرجئة العصر- فأين التلازم؟!، أنبؤني بعلم إن كنتم صادقين!.
(2) مجموع الفتاوى(7/194-195).
(3) مجموع الفتاوى (18/272).(1/93)
وقال أيضاً-رحمه الله-: (فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم)(1).
وقال أيضاً-رحمه الله-: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن فبقى النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن أو لازم لمسمى الإيمان)(2).
وقال أيضا-رحمه الله-ً: (وقيل لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا)(3).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ –حفظه الله-في محاضرة بعنوان (التلازم بين الشريعة والعقيدة) [التلازم بين الشريعة والعقيدة يعني أن الاعتقاد والعمل بينهما تلازم لا ينفك أحدهما عن الآخر، فلا عقيدة صحيحة بدون عمل، كما أنه لا عمل يقبل إلا بعقيدة صحيحة].
وقال أيضاً:[ فإذن حين نقول: التلازم بين العقيدة والشريعة نعني به الارتباط بين ما يعتقده الإنسان، ما يعتقده المسلم وما بين عمله، ما بين عقيدة الإسلام وما بين شريعة الإسلام، ما بين أركان الإيمان الستة وما بين أركان الإسلام وتفصيلات شعب الإيمان.....إذن فمرادنا بهذه المحاضرة ما ذكرته لك من أنَّ اعتقاد المؤمن وعمله بالشريعة لا انفكاك بينهما].
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/294).
(2) مجموع الفتاوى(7/553).
(3) مجموع الفتاوى(7/579-585).(1/94)
وقال أيضاً: [وهذا الأصل العظيم، يجعل أنه في حال أي أحد لا يُتصور أن يكون ذا عقيدة صحيحة وليس له عمل، لا يُتصور أن يكون ذا إيمان صحيح صادق ولا يعمل خيرا البتة مع تمكنه من ذلك].
وقال أيضا: [...فمن فرق ما بين الإيمان وما بين الحكم بالشريعة فقد فرق بين متلازمين لا انفكاك لأحدهما على الآخر،والواجب علينا أنه في الإيمان لا عقيدة إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقيدة، وأن العقيدة والشريعة متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر].
وقال أيضاً:[ فإذن المسألة واضحة في أن العقيدة والشريعة، الاعتقاد والعمل، هذان أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا وُجدت العقيدة الصحيحة وُجد العمل، وإذا وُجد العمل الصحيح وُجدت العقيدة، فهذا وهذا أمران يدل أحدهما على الآخر.].
فإذا تبين ذلك فإن وجود إيمان حقيقي في القلب يوجب ظهور ذلك على الجوارح وأن انتفاء عمل الجوارح دليل على انتفاء الايمان.
وهذا هو عين ماقرره شيخ الإسلام أن الإيمان الذي في القلب مهما كان ضعيفاً لا بد أن يظهر أثره على الجوارح، كما سبق النقل عنه –رحمه الله-.
إذن علينا الرجوع إلى أقوال السلف في الإيمان وأن لا تأخذنا هذه الأقوال المحدثة إلى أن نناقض أنفسنا وأن نجمع بين الضدين (قول وعمل ويمكن أن يكون بدون عمل) وقد صدق شيخ الإسلام حينما قال (وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ للجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ ؛ بَلْ وَلِلْمُرْجِئَةِ أَيْضًا ؛ لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ)(1).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية - (7 / 314)(1/95)
وأخيرا أنقل كلام جامع في غاية الاختصار لشيخ الإسلام –رحمه الله-: (فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس)(1).ولا أدري هل نحتاج إلى كتب اللغة والتعاريف لنفكك طلاسم وألغاز هذه العبارة؟!..
وبعد هذا التمهيد ننقل أقوال العلماء الذي يستخدمون مصطلح [جنس العمل] لكي يزول اللبس والإشكال الذي يورده البعض من الذين ينكرون هذه اللفظة بحجة أنها لا معنى لها وأنها من الألفاظ المحدثة ولذلك نقول لهؤلاء:
إذا كُنتَ لا تَدري ولم تكُ كالَّذي… يُشاور مَن يَدري فكيف إذاً تَدري
جَهلتَ فلم تدرِ بأنَّك جاهِلٌ… وأنَّك لا تَدري بأنَّك لا تَدري
ومِن أعظمِ البلوى بأنك جاهِلٌ… فمن لي بأن تَدري بأنَّك لا تدري
رُبَّ امرىءٍ يجري ويدري بأنَّهُ… إذا كانَ لا يدري جَهولٌ بما يَجري
أقوال العلماء واستخدامهم لمصطلح (جنس العمل):
(1) شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب, وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع,سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان, أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه)(2).
(فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع فمن ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)(3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/9).
(2) مجموع الفتاوى(7/616)
(3) مجموع الفتاوى (7/378).(1/96)
وقال أيضاً: (فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ، وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ)(1).
(2) الحافظ ابن رجب رحمه الله:
(والتحقيق في الفرق بينهما: (الإيمان والإسلام): أن الإيمان هو تصديق القلب، وإقراره ومعرفته، والإسلام: هو استسلام العبد لله، وخضوعه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدين، كما سمى الله تعالى في كتابه الإسلام دينا، وفي حديث جبريل سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام والإيمان والإحسان دينا، وهذا أيضا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر. فيكون حينئذ المراد بالإيمان: جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل)(2).
(3) الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/338)
(2) قال الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم(1/108).(1/97)
(وقوله ثم استدل – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب - بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) - فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث كأنه لما سئل عن الإسلام ذكر أركان الإسلام الخمسة لأنها أصل الإسلام ولما سئل عن الإيمان أجاب بقوله أن تؤمن بالله إلى آخره، فيكون: المراد حينئذ بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الإيمان على الأعمال كما هما مملوءان بإطلاق الإسلام على الإيمان الباطن مع ظهور دلالتهما أيضاً...)(1).
(4) الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:
قال الشيخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي في جريدة الجزيرة:
ــ وقد سألت شيخنا الإمام ابن باز رحمه الله عام (1415هـ) ـ وكنا في أحد دروسه رحمه الله ـ عن الأعمال: أهي شرط صحة للإيمان، أم شرط كمال ؟
ــ فقال رحمه الله: من الأعمال شرط صحة للإيمان لا يصح الإيمان إلا بها كالصلاة، فمن تركها فقد كفر. ومنها ما هو شرط كمال يصح الإيمان بدونها، مع عصيان تاركها وإثمه.
ــ فقلت له رحمه الله: من لم يكفر تارك الصلاة من السلف، أيكون العمل عنده شرط كمال ؟ أم شرط صحة؟.
ــ فقال: لا، بل العمل عند الجميع شرط صحة، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه؛ فقالت جماعة: إنه الصلاة، وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، كما حكاه عبد الله بن شقيق، وقال آخرون بغيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد، لا يصح إلا بها مجتمعة)(2).أ.هـ.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد (باب ما جاء في منكري القدر) (ص 703).
(2) نقلاً عن جريدة الجزيرة - عدد 12506في 13/7/1423هـ)، يراجع كتاب الشيخ الدكتور عصام السناني ((أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان)) ص146-147.(1/98)
في عام (1420هـ) صدر كتاب "التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد , وكان الشيخ ابن باز قد كتب رحمه الله بعد قراءة الكتاب [ المقدمة:ج ]: (وقد قرأتها فألفيتها رسالة قيمة مفيدة يحسن طبعها ونشرها ليستفيد منها المسلمون بعد حذف بعض ما نقلتم عن صاحب الفروع ابتداء من قوله: وقال في الترغيب إلى آخره، وحذف ما نقلتم عن الدسوقي كله لما فيه من اللبس).
- وأورد المؤلف قول الحافظ ابن حجر (ص71) عن الأعمال: (والسلف جعلوها شرطاً في كماله) أي في الإيمان.
- فعلق عليه المؤلف في الحاشية بقوله: "وكلامه هذا عليه مآخذ أهمها: نسبته القول بأن الأعمال شرط كمال الإيمان للسلف، وهو على إطلاقه غير صحيح، بل في ذلك تفصيل: فالأعمال المكفّرة سواء كانت تركاً ـ كترك جنس العمل أو الشهادتين أو الصلاة ــ أو كانت فعلاً ـ كالسجود لصنم أو الذبح لغير الله ـ: فهي شرط في صحة الإيمان، وما كان ذنباً دون الكفر فشرط كمال)).
فالشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- أوصى بطباعة الكتاب ولم ينكر هذه اللفظة في الكتاب.
(5) الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي العام(1):
(السائل:هل القائل أن تارك جنس العمل ناقص الإيمان هل بقوله هذا يوافق المرجئة ؟
سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ: نعم، نعم ؛ العمل جزء من الإيمان، العمل الصالح جزء من الإيمان لا إيمان إلا بعمل)(2).
(6) الشيخ صالح بن فوزان الفوزان:
__________
(1) الشيخ عبد العزيز آل الشيخ لم يصرح مقاله (بجنس العمل) ولكن أقر السائل على هذه اللفظة وأن من قال تارك (جنس العمل) ناقص الإيمان فهو موافق للمرجئة.
(2) والاتصال قام به الأخ أبو حذيفة الجزائري - وفقه الله – (المصدر: شبكة الأثري).(1/99)
(سؤال وجه لفضيلته: يقول فضيلة الشيخ وفقكم الله هناك من يقول إن تارك جنس العمل بالكليه لا يكفر وان هذا القول قولٌ ثاني للسلف لا يستحق الانكار ولا التبديع فما صحة هذه المقولة؟(1).
الشيخ: هذا كذاب إلي يقول هذا الكلام كذاب، كذب على السلف، السلف ما قالوا إن الذي يترك جنس العمل ولا يعمل شيء انه يكون مؤمن. من ترك العمل نهائيا من غير عذر ما يصلي ولا يصوم ولا يعمل أي شيء ويقول أنا مؤمن هذا كذاب أما إلي يترك العمل لعذر شرعي ما تمكن من العمل نطق بالشهادتين بصدق ومات أو قتل في الحال فهذا ما في شك انه مؤمن لأنه ما تمكن من العمل ما تركه رغبتا عنه أما الذي يتمكن من العمل ويتركه لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يتجنب المحرمات ولا يتجنب الفواحش هذا ليس بمؤمن ولا احد يقول انه مؤمن إلا المرجئه)(2).
(7) أقوال الشيخ صالح آل شيخ حفظه الله:
قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-في [شرحه لكتاب (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد)، والتي ألقاها في مسجد حمزة بن عبد المطلب بالدمام ابتداء من فجر الثلاثاء 28من شهر الله المحرم 1413هـ حتى فجر الخميس غرة شهر صفر 1413هـ وقد كانت هذه الدروس بإشرافٍ من مركز الدعوة والإرشاد بالدمام ].
__________
(1) قال الحلبي في كتابه (التنبيهات) ص124 تحت عنوان إجماع كاذب [ ولقد حشى المسود على بعض قوله (!) في مسألة (جنس العمل)-إياها- مدعياً أنها من (قول السلف المجمع عليه)!!! وهذا جهل بكلام السلف، أو كذب عليهم........ الخ ].
(2) نهاية شريط العقيده الحمويه المشروح بتاريخ 22-2-1426 هـ الموافق 1/4/2005م(1/100)
(كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا (العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به)، نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل(1)، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي.كذلك الإيمان مرتبة من مراتب الدين، والإسلام مرتبة من مراتب الدين، والإسلام فُسِّر بالأعمال الظاهرة، كما جاء في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الإيمان في القلب والإسلام علانية» يعني أن الإيمان ترجع إليه العقائد -أعمال القلوب-، وأمّا الإسلام فهو ما ظهر من أعمال الجوارح، فليُعلم أنّه لا يصح إسلام عبد إلا ببعض إيمان يصحّح إسلامه، كما أنَّه لا يصح إيمانه إلا ببعض إسلام يصحح إيمانه، فلا يُتصور مسلم ليس بمؤمن البتة، ولا مؤمن ليس بمسلم البتة.
وقول أهل السنة (إنّ كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا) لا يعنون به أن المسلم لا يكون معه شيء من الإيمان أصلا، بل لابد أن يكون معه مطلق الإيمان الذي به يصح إسلامه، كما أن المؤمن لابد أن يكون معه مطلق الإسلام الذي به يصح إيمانه، ونعني بمطلق الإسلام جنس العمل، فبهذا يتفق ما ذكروه في تعريف الإيمان وما أصَّلوه من أن كل مؤمن مسلم دون العكس.
فإذن هاهنا كما يقول أهل العلم عند أهل السنة والجماعة خمس نونات:
النون الأولى: أن الإيمان قول اللسان، هذه النون الأولى يعني اللسان.
__________
(1) ذكر الحلبي في كتابه التنبيهات ص456 إن التفريق بين جنس العمل وآحاده بدعة كبرى.(1/101)
الثانية: أنه اعتقاد الجنان.
الثالثة: أنه عمل بالأركان.
النون الرابعة: أنه يزيد بطاعة الرحمن.
الخامسة: أنه ينقص بطاعة الشيطان وبمعصية الرحمن).
وقال أيضاً: جوابا عن سؤال وجه إليه في [لقاء مفتوح بتاريخ 19/11/1411 ]
س/ ما رأيكم فيمن يقول إن الأعمال شرط في كمال الإيمان الواجب؟
ج/ الإيمان فيما دلّ عليه الكتاب والسنة وقول الصحابة وإجماع أئمة أهل السنة أنه قول وعمل، قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، والقول ركن، والاعتقاد ركن، والعمل ركن، والعمل ليس شرط كمال، وإنما هو ركن، والمقصود جنس العمل.
يدلك على أن العمل ركن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث وفد عبد قيس «آمركم بالإيمان بالله وحده» قالوا: وما الإيمان بالله وحده؟ لاحظ هو أمر بالإيمان بالله وحده ثم سألوا من(1) الإيمان بالله وحده قال «أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وأن تؤدوا الخمس من المغنم» وجه الدلالة أنها هذه الأشياء الاعتقاد شهادة أن لا إله وأن محمدا رسول الله هذا قول واعتقاد، إقام الصلاة إيتاء الزكاة أداء الخمس من المغنم عمل في أعمالٍ بدنية وأعمال مالية وما يجمع بينهما هو أداء الخمس من المغنم.
فإذن جنس العمل دخل في هذا الحديث جوابا عن سؤالهم ما الإيمان بالله وحده؟ لماذا عددناه ركنا؟ لماذا عده أهل السنة والجماعة ركنا؟ لأن الجواب عن السؤال في مثل هذا السياق يقتضي أن تكون مفردات الجواب أركانا، بدليل الإجماع من الأمة، حتى المرجئة على أن قول جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن الإيمان؟ قال «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره» بالإجماع أن هذه الستة أركان كيف فهموا أنها أركان؟
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب (ما الايمان).(1/102)
بالإجماع قالوا بالاتفاق أنها جاءت جواب سؤال يقتضي أن يكون الجواب فيه بيان الماهية، وبيان الماهية في الحقيقة ركن.
فإذن العمل ركن، دلّ عليه حديث ابن عبد قيس، وتفهم كونه ركناً من حديث جبريل حيث عددنا هناك أركان الإيمان الستة وهي جواب سؤال، فكذلك هناك نعد العمل ركنا لأنه كان جواب سؤال والله أعلم.
وقال أيضاً: في [شرحه لأصول الإيمان جواباً عن سؤال وجه لفضيلته فيمن لا يكفر تارك الصلاة هل يكون الأعمال عنده شرط كمال؟. (بدأ الشرح بتاريخ 10/7/1417هـ وانتهى في يوم 29/12/1419 هـ)]
... يعني العمل الآن الذي يشترط للإيمان هو جنس العمل واضح؟ هو جنس العمل بالاتفاق أو الصلاة عند من قال بكفر تاركها، إذا عمل عملا تقرب به إلى الله جل وعلا خلاص عندهم صح إيمانه، عمل أي عمل، واحد عند من لا يقول بكفر تارك الصلاة يقولون هذا لا صلى ولا صام ولا زكى ولا حج ولكنه برّ والديه تقربا إلى الله يقولون هذا عمل صار إيمانه تبعه عمل الذي هو عمل بدني تقرب به إلى الله.
والذين يقولون بتكفير تارك الصلاة يقولون لا لازم الصلاة واضح؟ هذه أقل الأعمال يعني هو لو أتى بعمل غيرها ما يصح إيمانه، أيضا هناك من يقول لابد من الأركان الخمسة هذا قول لبعض أئمة الحديث أنه هي الأركان يعني أن من ما صلى ولا زكى ولا صام ولا حج، كيف يصير مسلما.
لكن الجميع متفقون على أن العمل ركن، فكيف يوجه هذا الحديث؟ يقول زائد على قدر الإيمان، الإيمان الذي هم كل على حسب ما وجه له.
وفقكم الله، سبحانك اللهم وبحمدك.
وقال أيضاً: جواباً عن سؤال وجه إليه في [محاضرة خاصة عن الإيمان]
س1/ ما هي الضوابط في مسألة التكفير؟
ج/ التكفير معناه الحكم بالكفر على معين أو طائفة، فهناك كفر وهناك تكفير، هذه ثنائية الكفر والتكفير، وكذلك البدعة والتبديع، وكذلك الفسق والتفسيق إلى آخره.(1/103)
فالكفر ينبني عليه التكفير، فلا تكفير إلا بكفر، ونعني بالكفر هنا الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ إذ الكفر الأصغر غير المخرج من الملة هذا لا يقال فيه تكفير أصحابه، وإنما يقال تكفير أو التّكفير فيمن كفر كفرا مخرجا من الملة، وأصل التكفير، هو سلب الإيمان عن من قام به.
والإيمان له تعريف في الشرع عند أهل السنة والجماعة، وهذا الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل واعتقاد. فمن دخل في الإيمان وصح عليه اسم الإيمان فإنّ معنى تكفيره أن يُسلب عنه أصل الإيمان يعني يكون كافرا بعد أن كان مؤمنا.
وإذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة بالقول والعمل والاعتقاد كأركان ثلاثة وليست لوازم، فإن من انتفى في حقه الاعتقاد فهو كافر؛ لأنه ذهب ركن الإيمان إلا على هذه جميعا، ومن انتفى في حقه القول فهو كافر، ومن انتفى في حقه جنس العمل فهو كافر، وهذا معنى أهل السنة والجماعة الإيمان قول وعمل واعتقاد.
فإذن التكفير عند أهل السنة والجماعة يكون بالاعتقاد، ويكون بالأعمال، ويكون بالأقوال؛ لأنه مقابل له، وكل هذه تنقسم إلى قسمين، منافاة الأصل أو ارتكاب شيء ينافي الأصل.
فمثلا القول من امتنع عن كلمة التوحيد قولا فإنه لا يصير مؤمنا، ومن امتنع عن العمل فإنه لا يصير مؤمنا؛ يعني قال أنا ممتنع غير ملتزم بعمل من الأعمال الواجبة أو بترك المحرمات فإنه ليس بمؤمن، كذلك من قال: لا أعتقد شيئا مما يجب اعتقاده في الإيمان فإنه يُسلب عنه أصل الإيمان. هذا من جهة تأصيلات الإيمان.
...إلى أن قال...المقصود من هذا تحرير أصل المسألة؛ وهو أن الكفر عند أهل السنة والجماعة يكون:
بالاعتقاد: إما بخلو القلب مما اعتقده من الإيمان، أو باعتقاد بشيء يناقضه يناقض أصل الإيمان.
عمل بخلوه من العمل أصلا لم يعمل خيرا قط، فاته جنس العمل، لم يعمل وإنما اكتفى بالشهادة قولا واعتقادا ولم يعمل جنس العمل، فهذا يسلب عنه أو عمِل عملا مضاد لأصل الإيمان.(1/104)
وكذلك القول: قال، أو ترك القول.
هذه مسألة لاشك أنها مهمة، والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أوضحوا ذلك وبينوه وفي كلام أئمة الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وتلامذته وأبناءه في ذلك ما يشفي، لأنهم عاشروا المسألة وعاصروها مدة طويلة من الزمان أكثر من سنة فحرروها تحريرا بالغا. والله أعلم.
وقال أيضاً: في [شرحه للعقيدة الطحاوية التي انتهت بتاريخ 1 محرم 1420هـ].
س2/ هل تارك العمل بالكلية مسلم؛ تارك الأركان وتارك غيرها من الواجبات والمستحبات والأعمال الظاهرة بالجوارح ؟
ج/ الجواب: أن العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان؛ يعني أن الإيمان يقع على أشياء مجتمعة وهي الاعتقاد والقول والعمل، ولذلك من ترك جنس العمل فهو كافر؛ لأنه لا يصحّ إسلام ولا إيمان إلا بالإتيان بالعمل.
س3/ هل يُتصور وجود مطلق الانقياد في القلب ولا يظهر له أثر على الجوارح؟
ج/ والجواب: أن هذا فرع المسألة التي قبلها، فإن الانقياد في أصله عقيدة واجب وهو من عمل القلب، ولا يصح الإيمان حتى يكون الانقياد ظاهرا على الجوارح؛ يعني حتى يعمل.
وقال أيضاً: في شرحه لـ [فضل الإسلام]
وفي حديث وفد عبد القيس في الصحيح أن النبي (أمرهم بالإيمان فقال «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتؤدوا الخمس من المغنم» والتأدية؛ تأدية الخمس هذا عمل؛ فدل على أن العمل يدخل أيضا في حقيقة الإيمان، ووقع السؤال عنه بـ(ما) التي تدل على الركنية، وهذه المسائل لها بسط في مواضعه.(1/105)
والمقصود هنا من ذكر الأركان الخمسة أو الأركان الستة وعدم ذكر العمل معها لا يدل على أن جنس العمل ليس ركنا في الإيمان؛ لأنه جاء مبينا في أحاديث أخر، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل, وأن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأيضا عمل بالقلب، فهو قول واعتقاد، وهو أيضا عمل بالقلب وعمل بالجوارح:
أما القول: فظاهر وهو الشهادتان والاستسلام.
وأما الاعتقاد: فهو اعتقاد وحدانية الله جل وعلا وتتميم الأركان الستة المعروفة.
وأما العمل: العمل قسمان:
عمل الجوارح.
وعمل القلب.
وكلاهما ركن في الإيمان، فلا بد في تحقيق مسمَّى الإيمان أن يأتي بجنس عمل القلب، وأن يأتي بجنس عمل الجوارح، هذا قول أهل السنة والجماعة, أهل الحديث أتباع السلف الصالح فيما قرروه في عقائدهم، وقع في بينهم خلاف في بعض المسائل التطبيقية مما هو معروف.
عمل القلب ما هو؟ عمل القلب هو من جنس إسلام القلب لله جل وعلا, من جنس المحبة محبة الرب جل وعلا ومحبة رسوله (ومحبة دين الإسلام، من جنس الخوف والرجاء والرغب والرهب والتوكل, حسن الظن بالله، ونحو ذلك من العبادات القلبية المعروفة.
أما عمل الجوارح فهو كل عمل صالح يتقرب به العبد إلى ربه بجوارحه مما أمر الله جل وعلا به.(1/106)
إذا تبين هذا فمراد الإمام رحمه الله بإيراد هذا الحديث أن تفسير الإسلام يشمل هذا الذي ذكر جميعا، فالإسلام يفسر بالإيمان وهو أفضل الإسلام، ويفسَّر بالأركان الخمسة بأداء حقوق الله جل وعلا عقيدة وفي العبادة، ويفسَّر أيضا بأداء حقوق العباد المؤمنين، ويفسر أيضا الإسلام بأن يُسلم قلبه لله جل وعلا انقيادا وطاعة، وهذه الأمور هي التي يدور عليها فلك الإسلام، أو يدور عليها أوائل الإسلام وما أمر الله جل وعلا به في تحقيق الإسلام, الإيمان وأركان الإسلام الخمسة, أداء حقوق العباد, استسلام القلب لله جل وعلا وحده دونما سواه وإسلام الوجه إلى الله جل وعلا وحده دونما سواه.
(8) الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك:
قال الشيخ البراك تعليقاً على كلام الحافظ في الفتح 1(/ 46)(1): (قوله: "والفارق بينهم وبين السلف.... الخ": هذا الفرق بين المعتزلة والسلف لا يستقيم سواء أريد بشرط الصحة أو شرط الكمال: جنس العمل، أو أنواع العمل الواجبة، أو الواجبة والمستحبة؛ فإن الأعمال المستحبة من كمال الإيمان المستحب، فلا تكون شرطاً لصحة الإيمان، ولا لكماله الواجب.
وأما الأعمال الواجبة: فليس منها شرط لصحة الإيمان عند جميع أهل السنة، بل بعضها شرط لصحة الإيمان عند بعض أهل السنة كالصلاة.
وأما عند المعتزلة: فالمشهور من مذهبهم ومذهب الخوارج أن ما كان تركه كبيرة فهو شرط لصحة الإيمان، وعلى هذا فلا يصح أن يقال: إن جنس العمل عندهم شرط لصحة الإيمان؛ لأن ذلك يقتضي أن الموجب للخروج عن الإيمان عندهم هو ترك جميع الأعمال، وليس كذلك، بل يثبت عندهم الخروج عن الإيمان بارتكاب ما هو كبيرة.
__________
(1) ذكر الحافظ –رحمه الله- أن الفارق بين السلف والمعتزلة في الايمان. أن المعتزلة جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله.(1/107)
وأما عند السلف: فعمل الجوارح تابع لعمل القلب، وجنس عمل القلب شرط لصحة الإيمان، وجنس عمل الجوارح تابع أو لازم لعمل القلب، فيلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ فإن الإعراض عن جميع الأعمال دليل على عدم انقياد القلب.
هذا، ولا أعلم أحدا من أئمة السلف أطلق القول بأن الأعمال شرط أو ليست شرطا لصحة الإيمان أو كماله، وإنما المأثور المشهور عنهم قولهم: "الإيمان قول وعمل" أو "قول وعمل ونية" ؛ يقصدون بذلك الرد على المرجئة الذين أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، وخصوا الإيمان بالتصديق، أو التصديق والإقرار باللسان.
وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ بإطلاق القول بأن الأعمال شرط لصحة الإيمان عند المعتزلة، وشرط لكماله عند السلف ليس بمستقيم لما تقدم)(1).
(9) الشيخ العلامة زيد المدخلي حفظه الله:
قال فضيلة الشيخ زيد المدخلي حفظه الله: (الصنف الخامس:عموم المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان ,وادعوا أن من حصل له مجرد التصديق فتصديقه هذا باق على حاله لا يتغير سواء أتى بشيء من الطاعات أم لا,وسواء اجتنب المعاصي أوارتكبها، فهم لم يفرقوا بين جنس العمل -والذي يعد شرطاً في صحة الإيمان عند أهل السنة- وبين آحاد العمل وأفراده(2) والذي يعد تاركه غير مستكمل الإيمان،وقد استعملوا القياس فقالوا:"لا يضر مع الإيمان معصية, كما لا تنفع مع الكفر طاعة" وأهل السنة يوافقونهم في أنه لا ينفع مع الكفر الأكبر طاعة، ويخالفونهم في اعتقاد أنه لا تضر مع الإيمان معصية كما هو معلوم,إذ المعاصي ينقص بها الإيمان مالم تكن كفراً فتحبطه.
__________
(1) تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري / (ص7).
(2) ذكر الحلبي في كتابه التنبيهات ص456 إن التفريق بين جنس العمل وآحاده بدعة كبرى.(1/108)
وبطلان قول هذا الصنف ظاهر لمعارضته نصوص الكتاب والسنة التي تدل على أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ,وهي كثير في الكتاب والسنة كما قد سبق ,وقد أجمع على ذلك سلف الأمة وأتباعهم)(1).
(10) الشيخ العلامة حسين بن غنام رحمه الله
(ولهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان عند ذكره مفرداً – كما في حديث وفد عبد القيس – بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث جبريل، وفسر في حديث آخر الإسلام بما فسر به الإيمان، كما في مسند الإمام أحمد عن عمرو بن عبسة قال: جاء رجل إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - – فقال يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال:"أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان قال:وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: الهجرة قال فما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء، قال فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد" فجعل النبي – - صلى الله عليه وسلم -- الإسلام الإيمان وأدخل فيه الأعمال.
__________
(1) من كتاب الأجوبة السديدة على الأسئلة الرشيدة الجزء السادس طبعة دار المنهاج المصرية ومجالس الهدى الجزائرية معاً، تاريخ الطبع هو: 1424هـ.(1/109)
وحاصل القول: أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق؛ وهو أن يقال: إن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته. والإسلام هو: استسلام العبد لله –تعالى- وخضوعه وانقياده، وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمَّى الله – تعالى – في كتابه الإسلام ديناً، وسمَّى النبي – - صلى الله عليه وسلم - – الإسلام والإيمان والإحسان ديناً، وهذا أيضاً مما يدل على أن الاسمين إذا أُفرد دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث يقرن أحد الاسمين بالآخر، فيكون حينئذ المراد بالإيمان: جنس تصديق القلب، وبالإسلام: جنس العمل)(1).
(11) الشيخ العلامة فالح بن نافع الحربي حفظه الله
__________
(1) العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين (ص 49 و50).(1/110)
((...، قضية جنس العمل سألني شخص سؤال هكذا قال يا شيخ ما رأيك فيمن يقول عن تارك جنس العمل أنه ناقص الإيمان أنا أجيب بما أعتقد ولا أنتظر حتى أعرف رأي الشيخ فلان أو فلان هذا أمر ما ندين الله به نجيب إخواننا به، يقول هل وافق المرجئة إذا قال عن تارك جنس العمل ناقص الإيمان وافق المرجئة يعني هو الذي قال جنس العمل ما قلت أن جنس العمل أنا أجبته على ما افهمه أعلم أنه يوافق ا لمرجئة والمعنى واضح عندي وهو أنه حكم بإيمانه لو حكم بكمال إيمانه وأنه كامل الإيمان لكان مرجئة لكن هو قال ناقص من الإيمان فإذا فلقد وافق المرجئة، وذلك أن أهل السنة والجماعة مجمعون ومطبقون على أن تارك جنس العمل جميعه جميع العمل وهذا ما يعبر عنه بجنس العمل ولا بدعة في ذلك وهذا معنى تعريف أهل السنة بالإيمان أنه اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالجوارح ويعني جميع عمل الجوارح يقال له جنس العمل و جنس الشئ هو جميع ما ينطبق ما يخرج عن الشئ مما يجعل له هذا اللقب ويطلق عليه هذا الوصف، نقول جنس الإبل هل يخرج شيئ من الإبل لا يخرج شيئ من الإبل ولذلك أهل السنة سواء قالوا جنس العمل أو قال الأعمال كل الأعمال فإن مقصودهم هو أن الإنسان لا يعمل عملا قط والإمام احمد رحمه الله عندما قيل له عن شخص يقول (إذا نطق بلسانه فقد عمل) قال هذا قول خبيث ما سمعت به ولا بلغني ثم جاء العلماء وصاروا ينطقون بجنس العمل ولا يرون في النطق به محضورا حتى نطق به نصا أيضا شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الفوزان سبحان الله كيف أن جنس العمل كأنما هو حجر أو كأنما هو جنس العمل ممنوعا أو باطلا محضورا بمجرد أن تنطق بجنس العمل هذا لا ينبغي أن يقال وخصوصا أنه نطق به علماء كبار أفاضل ولا رأوا فيه محضورا ولا محذورا ولكن مع الأسف يبدو أن الشيخ ربيع وفقه الله في وقت يرى أن لا يقال جنس العمل وهذا على كل حال اجتهاد وإذا قيل اجتهاد(1/111)
خاص به فلا يلزم به الآخرين ولكن حقيقة يحتاج الأمر إلى نظر طالما أن المفهوم واضح وعلماء الأمة قد تكلموا بهذا المصطلح أو اللفظ ومعناه واضح مفهوم فلماذا هذه الحساسية منه، ولكن قوله ينكر هذا الشيخ هنا قال لو نهيتهم من الخوض في جنس العمل ليش أنهاهم عن الخوض في جنس العمل وهو مفهوم عندي وواضح وإن كنت وكما قلت لست أنا الذي تكلمت به فهو مفهوم واضح، قال لا أعلم احد من السلف مثلا تكلم به، ما دام أنا لا أعلم أنا ولا أنت من تكلم فيه فهذا ليس حجة نمنع الناس من شيئ إن تكلموا فيه ومعناه واضح وما تكلموا فيه هو هذا لا يخالف جنس العمل أو كل الأعمال ويقال جنس العمل هذا الإنسان ما عمل كل الأعمال، فسبحان الله كيف أنا أنهاهم عن شيئ استعلمه أهل السنة استعمله علماء أفاضل من علماؤنا أنا أكون بهذا مخالفا لهم ولا أكون وافقتهم أيضا فقضية إني قلت وافق المرجئة فأنا مصيب فيها ولا عندي أدنى شك في ذلك بل آخر من قرأت له صاحب النكت القصاص رحمه الله وهو من أئمة أهل السنة في قضية من لا يكفر بالصلاة والزكاة عندما يرى كفر من يكفر بالصلاة والزكاة فيلزمه بأنه وافق المرجئة فتلك شكاة ظاهر عنك عارها فإذا كان الشيخ ربيع رأى أن من قال عن جنس العمل أنه وافق المرجئة فلا يلزم الآخرين أو يقول عن الآخرين أنهم فسدت عقائدهم أو إنهم خالفوا العقيدة أو أن أصولهم غير أصول أهل السنة والجماعة هذا لا ينبغي أن يقال على الإطلاق...))(1).
(12)فضيلة الشيخ: حمد بن عبدالعزيز بن عتيق - وفقه الله وسدده -
ويُعَدُّ كتابه تنبيه الغافلين فريدا في بابه..ومنها سننقل -بتوفيق الباري-
1/ عنوان الرسالة: ((تنبيه الغافلين إلى إجماع المسلمين على أن ترك جنس العمل كفر في الدين..))
__________
(1) الجواب المنيع على الإثارة والاستفزاز والتشنيع).(1/112)
2/ قال حفظه الله: ((فقد كثر الخوض في هذه الأيام، في مسائل الإيمان عموماً، ومسألة ترك جنس العمل خصوصاً.، وحصل بذلك فتنة لا يعلم مآلها إلا الله سبحانه وتعالى، أسأل الله أن يعصمنا من مضلات الفتن، إنه سميع مجيب.
ولما كانت مسألة ترك جنس العمل من المسائل الواضحات، من جهة الأدلة الشرعية والنقول السلفية عن الأئمة رحمهم الله، استعنت بالله في كتابة هذه الأوراق التي بين يديك)).
3/ وقال – أيضا: ((وقد تفرع عن هذا الأصل - العظيم – مسألة تكفير تارك جنس العمل))
4/ وقال -ايضا: ((ولقد أخطأ بعض الناس – في هذا الزمان – لظنه أن أهل السنة لا يقولون بكفر تارك جنس العمل. مستدلاً ببعض الأدلة المشتبهة مؤيداً ذلك بكلام لبعض السلف فهمه على حسب ظنه، مع أن المسألة قد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل السنة عليه)).
5/ وقال أيضا: ((الفصل الثالث: ترك جنس العمل كفر أكبر: المبحث الأول: صورة المسألة: صورة المسألة هي في رجل نطق بالشهادتين، ثم بقي دهراً لم يعمل خيراً مطلقاً، لا بلسانه ولا بجوارحه، ولم يعد إلى النطق بالشهادتين مطلقاً، مع زوال المانع)).
6/ وقال أيضا: ((المبحث الثاني: الأدلة على أن ترك جنس العمل كفر:
أ – ما أخرجه الشيخان من حديث النعمان بن بشير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
7/ وقال الشيخ أيضا: ((الإجماع على أن ترك جنس عمل الجوارح كفر مخرج عن الملة، وقد نقل هذا الإجماع غير واحد من أهل السنة والجماعة، ومنهم:
الشافعي: قال: كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن أدركنا يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر)).أ.هـ.
8/ وقال: ((المبحث الثالث: الأدلة التي استدل بها من قال إن ترك جنس العمل ليس بكفر والجواب عنها)).(1/113)
الأدلة التي فيها أن الله لا يغفر الشرك والكفر الأكبرين ويغفر ما دون ذلك، ومنه قول الله سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وما رواه مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)
والجواب: أن هذا من الاستدلال بمحل النزاع، إذ إننا نرى أن ترك جنس العمل من الكفر الأكبر المخرج عن الملة، فكما أنه لا يجوز أن يستدل بهذه الآيات والأحاديث على عدم الكفر بترك جنس عمل القلوب، فكذا لا يصح الاستدلال بها على عدم الكفر بترك جنس عمل الجوارح.
9/ وقال: ((أن التمسك بعموم هذه الأدلة يلزم منه عدم التكفير بترك جنس أعمال القلوب، لأنها لم تذكر في حسنات هذا الرجل، فإن قيل إنها لابد أن تكون معه بدلالة الأدلة الأخرى، فكذلك أعمال الجوارح لابد أن تكون معه بدلالة الأدلة الأخرى، فما كان جواباً لكم عن عدم ذكر أعمال القلوب، فهو جوابنا عن عدم ذكر أعمال الجوارح)).
10/وقال: ((هذا الرجل – قطعاً – لم يقع في ناقض من نوا قض الإيمان كالاستهزاء بالله، إذ لو كان كذلك لم تنفعه بطاقته، فكذلك يقال: إن هذا الرجل لم يقع في ترك جنس عمل الجوارح، لأنه ناقض بدلالة الأدلة المتقدمة.
11/ وقال -أيضا -المبحث الرابع: سبب الخطأ، ومنشأ الغلط عند من قال من أهل السنة – في هذه الزمان – بأن ترك جنس العمل ليس بكفر.
أولاً: ظنهم التلازم بين عدم التكفير بترك المباني الأربعة وعدم التكفير بترك جنس العمل. لقد دخلت هذه الشبهة على كثير ممن قال: إن ترك جنس العمل ليس بكفر، فهو يقول: إن من يكفر بترك أحد المباني الأربعة، كالصلاة مثلاً فلا شك أنه يلزمه أن يكفر بترك جنس العمل، وكذا من يكفر بترك الزكاة والصيام والحج، أما وإني لا أكفر بترك أحد هذه المباني الأربعة، فبأي شيء أُكفر تارك جنس العمل؟!.(1/114)
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال: إنه لا تلازم أبداً بين عدم التكفير بترك المباني الأربعة، وعدم التكفير بترك جنس العمل،كيف لا ؟ وهذا هو الشافعي وهو ممن يرى عدم التكفير بترك أحد المباني الأربعة، يرى في الوقت نفسه تكفير تارك جنس العمل بل وينقل الإجماع عليه. إذ إن القول بتكفير تارك جنس العمل ليس مبنياً أصلاً على القول بتكفير تارك المباني الأربعة، فالقول بكفر تارك أحد المباني الأربعة له أدلته المنفصلة عن القول بتكفير تارك جنس العمل.
وقد يقول قائل منهم: إن لم أكفر بترك المباني الأربعة مجتمعة، فتركي للتكفير بترك ما دونها من باب أولى.
والجواب: أن التكفير بترك جنس العمل، ليس تكفيراً بترك ما دون المباني الأربعة، بل هو تكفير بترك المباني الأربعة وغيرها من الأعمال، وفرق بين هذا وهذا، فتنبه.
ثانياً: فهمهم الخاطئ لبعض عبارات السلف رحمهم الله، وحملهم إياها على القول بعدم التكفير بترك جنس العمل.
ومن ذلك: ما يردده كثير من أهل السنة من أن أصل الإيمان في القلب، وعمل الجوارح فرع عنه، ففهموا من ذلك أن الأصل قد يوجد مع عدم وجود الفرع))
12/ وقال - ايضا - الثالث: ((لو كان ابن تيمية يرى أن ترك جنس العمل ليس بكفر، فكيف يقول ويقرر عقيدة التلازم بين الظاهر والباطن))؟!.
13/ وقال:أن من استحضر أن ابن تيمية لا يمكن أن يقول بعدم كفر تارك جنس العمل، علم أن مراده بقوله " وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه"، إما نفي الوجود فيقابله عدم إيمان القلب وعبر عنه بقوله " دل على عدمه " وإما نفي للكمال الواجب فيقابله ضعف إيمان القلب والذي عبر عنه بقوله " أو دل على ضعفه)).
14/ وقال: ((وقد رأيت بعضهم استدل بهذا النقل عنه ليثبت أن ابن تيمية لا يرى كفر تارك جنس العمل...))
15/وقال – أيضا: ((الفصل الرابع: علاقة مسألتي ترك الصلاة، والحكم بغير ما أنزل الله بمسألة جنس العمل المبحث الأول: مسألة ترك الصلاة وعلاقتها بمسألة جنس العمل)).(1/115)
16/ وقال: ((حث الثاني: مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وعلاقتها بمسألة جنس العمل.
وكذلك في هذه المسألة أخطأ بعضهم لما وصف قول الذين لا يكفرون بالحكم بغير ما أنزل الله إلا إذا استحل ؛ بأنه قول المرجئة الضالة حيث جعل القول بعدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله مبنياً على القول بعدم الكفر بترك جنس العمل.
وخطؤه راجع لأمرين:
الأول: أنه لا تلازم بين القول بعدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله وبين القول بعدم كفر من ترك جنس العمل، إذ إن الحكم بما أنزل الله من العمل وليس هو جنس العمل.
(13) الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد القرني
قال الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد القرني:(في كتابه(ضوابط التكفير:52) وهو يبين حقيقة الالتزام المشروط في أصل الدين "الالتزام بجنس العمل، وهو إجماع أهل السنة والجماعة، ومعنى قولهم:(الإيمان قول وعمل)(1)..أ.هـ.
(14) الشيخ الدكتور عبد الله بن إبراهيم الزاحم
قال الشيخ الدكتور عبد الله بن إبراهيم الزاحم: (مقدمة كتاب التبيان لعلاقة العمل بمسمى الإيمان:):"فإني أود التنبيه على عبارة الحافظ ابن حجر رحمه الله حين أراد التفريق بين قول أهل السنة وقول المعتزلة في تعريف الإيمان وبيان حده... إذ قد فهم منها بعض الفضلاء أن الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند السلف. وهذا خطأ يقع فيه كثير من طلاب العلم ممن لم يمحص قول السلف في هذا الباب، فإن هذه العبارة عند السلف يراد بها آحاد الأعمال لا جنسها، أي: أن كل عمل من الأعمال الصالحة عندهم شرط لكمال الإيمان، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن كل عمل شرط لصحة الإيمان، لأن الإيمان عند السلف يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس مرادهم: أن جنس الأعمال شرط لكمال الإيمان، ولأن هذا يقتضي صحة الإيمان بدون أي عمل، وهذا لازم قول المرجئة، وليس قول أهل السنة)).أ.هـ.
__________
(1) نقلا عن كتاب (أقوال ذوي العرفان...) للشيخ السناني -حفظه الله -(1/116)
فبعد هذه النقولات لأفاضل العلماء والأساتذة الكبار –حفظهم الله- هناك من يأتي ويتشبث باجتهاد عالم حينما وصف جنس العمل بأنها (طنطنة)(1)، محملين هذا الكلام ما لا يحتمل من اللوازم الباطلة ظناً منهم أن قائل العبارة يوافقهم على عقيدتهم الإرجائية، كما سيأتي توضيح ذلك في موضعه إن شاء الله.
ولكن نقول أن هؤلاء:
كرهوا الهدى والحقَّ لما جاءهم ولو انَّمَا اتَّبع الهدى أهواءهم . ... جَنَفاً إلى الإهمال والإسراف جاؤوا بسم للأنام زُعافِ .
ثم تلقف هذه العبارة شباب جهال يرددونها كالببغاء دون فقه لمعنى ما يقولونه، وهم كما قال الشاعر:
. الغافل الأمي ينطق عندكم . ... . كالببغاء مردداً ومكرراً .
كل هذا بسبب ماذا ؟!.
بسبب التقليد الأعمى(2)، والتعصب للرجال، والذي أدى إلى أن يتطاولوا على العلماء وأن ينسبوا لهم أشنع الصفات فمنهم من يقول أنهم مذهبيين وآخر يقول أن لهم أغراض شخصية، و..و...الخ.
__________
(1) هذا وصف من الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- وسيأتي قوله كاملاً وسبب إنكاره. وقد تشبث علي الحلبي بهذه المقولة وكررها على سبيل المثال في (الرد البرهاني) الصفحات (146 و159و166و184) وذكره أيضاً في كتابه (التنبيهات) الصفحات (113و194و421).
(2) هناك رسالة بديعة للإمام الشوكاني -رحمه الله-: في النهي عن التقليد عنوانها (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) والإمام الشوكاني -رحمه الله- معروف بمحاربته التقليد فلا تجد مؤلفاً لهذا الإمام الجليل إلا وقد يتطرق لهذا الموضوع الذي ابتلينا به في كل عصر ومصر، وذلك بأخذ أقوال بدون أن يسأل عن الدليل وإن أخذ الدليل فلا يجهد نفسه ليفقه الدليل أوافق الحكم أم لا والله المستعان. قال عبيد الله بن المعتمر: لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد. ذكره صاحب أضواء البيان في تفسير قوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) والأثر نقله ابن عبد البر في جامعه.(1/117)
فلا نقول إلا كما قال الشاعر:
. وكنتم كالكلب أضحى نابحاً قمراً . ... . وهل يضر نباح الكلب بالقمر .
وقال آخر:
. فما على البحر من كلب به ولغا . ... ولا على البدر من عاو عوى ولغا
.
فنصيحتي لكل الشباب الذين يسمعون مثل هذه الطعونات السمجة في حق علمائنا الربانيين من هؤلاء الجهلة أن يعرضوا عنهم وأن يُحذروا منهم ويبينوا حالهم للقاصي والداني حتى يحذرهم من لا يعرفهم وبذلك ينحصر شرهم، وندعوا من الله أن يقصم ظهورهم إن كان في علمه أنهم لا ينتهون عن غيهم وضلالهم.
الذين أنكروا مصطلح (جنس العمل)
هناك بعض من العلماء الأفاضل الذين أنكروا مصطلح (جنس العمل) فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- والشيخ ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-.
ولكن ينبغي أن نعلم ماذا أنكروا؟ المصطلح دون المعنى أم المصطلح والمعنى جميعاً؟!.
هذا ما سنحاول أن نلقي الضوء عليه ونبينه في الأسطر القادمة، ومن الله التوفيق.
سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين من قبل إدارة الدعوة بقطر سؤال حول جنس العمل وقد نشرت هذه الأسئلة على شبكة السحاب بتاريخ 13/5 / 2000، بشبكة سحاب، بعد نشر الحوار الهاتفي مع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
س:" تارك جنس العمل كافر. تارك آحاد العمل ليس بكافر "(1)
__________
(1) علما أن من أهم ما يفصل بين عقيدة الخوارج وعقيدة أهل السنة في الإيمان أن الخوارج يكفرون بترك آحاد العمل وأهل السنة بجنس العمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- النبوآت (1/144): (ثم قالت الخوارج والمعتزلة وهو أداء الواجبات واجتناب المحرمات فاسم المؤمن مثل اسم البر والتقى وهو المستحق للثواب فإذا ترك بعض ذلك زال عنه اسم الإيمان والإسلام).
وقال أيضا-رحمه الله- مجموع الفتاوى(18/270) : (فقالت الخوارج والمعتزلة فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلا بحال ثم قالت الخوارج هو كافر وقالت المعتزلة ليس بكافر ولا مؤمن بل هو فاسق ننزله منزلة بين المنزلتين فخالفوا الخوارج في الاسم ووافقوهم في الحكم وقالوا أنه مخلد في النار لا يخرج منها).
وقال أيضاً-رحمه الله- مجموع الفتاوى(19/151) : (ثم إذا ترك واجبا أو فعل محرما قالوا بنفوذ الوعيد فيه فيوجبون تخليد فساق اهل الملة في النار وهذا قول جمهور المعتزلة والخوارج ولكن الخوارج يكفرون بالذنب الكبير أو الصغير عند بعضهم وأما المعتزلة فيقولون هو في منزلة بين منزلتين لا مؤمن ولا كافر).
وقال أيضاً-رحمه الله- مجموع الفتاوى (7/510) : (قالت الخوارج والمعتزلة الطاعات كلها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان وقالت المرجئة والجهمية ليس الإيمان إلا شيئا واحدا لا يتبعض إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة).
هذه أقوال شيخ الإسلام في تقرير عقيدة الخوارج في تكفيرهم لتارك الواجب الواحد أو بعض الواجب أو مرتكب المعصية الواحدة أو مرتكب بعض المعاصي (آحاد العمل).
وقال فضيلة الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- : (كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا ”العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به.“ نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي). يراجع أقوال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- في جنس العمل.
وقال فضيلة الشيخ زيد المدخلي -حفظه الله- : (الصنف الخامس:عموم المرجئة الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان ,وادعوا أن من حصل له مجرد التصديق فتصديقه هذا باق على حاله لا يتغير سواء أتى بشيء من الطاعات أم لا,وسواء اجتنب المعاصي أو ارتكبها، فهم لم يفرقوا بين جنس العمل -والذي يعد شرطاً في صحة الإيمان عند أهل السنة- وبين آحاد العمل وأفراده والذي يعد تاركه غير مستكمل الإيمان،وقد استعملوا القياس فقالوا:"لا يضر مع الإيمان معصية, كما لا تنفع مع الكفر طاعة"). يراجع قول الشيخ زيد المدخلي في فصل أقوال العلماء واستخدامهم لمصطلح جنس العمل.
وقال الشيخ الدكتور عبد الله بن إبراهيم الزاحم-حفظه الله- : (مقدمة كتاب التبيان لعلاقة العمل بمسمى الإيمان:):"فإني أود التنبيه على عبارة الحافظ ابن حجر رحمه الله حين أراد التفريق بين قول أهل السنة وقول المعتزلة في تعريف الإيمان وبيان حده... إذ قد فهم منها بعض الفضلاء أن الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند السلف. وهذا خطأ يقع فيه كثير من طلاب العلم ممن لم يمحص قول السلف في هذا الباب، فإن هذه العبارة عند السلف يراد بها آحاد الأعمال لا جنسها، أي: أن كل عمل من الأعمال الصالحة عندهم شرط لكمال الإيمان، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن كل عمل شرط لصحة الإيمان، لأن الإيمان عند السلف يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس مرادهم: أن جنس الأعمال شرط لكمال الإيمان، ولأن هذا يقتضي صحة الإيمان بدون أي عمل، وهذا لازم قول المرجئة، وليس قول أهل السنة))..راجع كتاب أقوال ذوي العرفان (ص94-95) للدكتور السناني-حفظه الله-.(1/118)
ما رأيكم في ذلك ؟ "
قال الشيخ:
ج: من قال هذه القاعدة ؟! من قائلها ؟! هل قالها محمد رسول الله ؟! كلام لا معنى له.
نقول من كفره الله ورسوله فهو كافر ومن لم يكفره الله ورسوله فليس بكافر هذا الصواب. أما جنس العمل أو نوع العمل أو آحاد العمل فهذا كله طنطنة لا فائدة منها". أ.هـ.
أما فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-:
فقال في رسالته المسماة [كلمة حق حول جنس العمل]: (لكني لا أحب للسلفيين التعلق بلفظ "جنس العمل" لأمور:
أولها: أنه لفظ مجمل يحتمل هذه الصورة ويحتمل غيرها وهو ما يريده التكفيريون.
ثانيها: كما قال أخونا حمد العتيق: " إنها مسألة غير عملية بمعنى أنه لا يمكن أن يقال: إن هناك زيداً - من الناس – قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يعمل بعدها خيراً قط، فإن هذا النفي المطلق لا يمكن لأحد إلا الله أن يحيط به "، والأمر كما ذكر الأخ حمد.
ثالثها: دندنة التكفيريين حوله لمقاصد سيئة منها رمي أئمة السنة بالإرجاء , فمن لا يكفر تارك الصلاة عندهم مرجيء أو أتي من شبهة الإرجاء، ومن لا يكفر الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله تكفيراً مخرجاً من الملة فهو مرجيء وإن فصل على طريقة السلف وإن قال بكفر تارك الصلاة.
رابعها: من أجل ما في هذا اللفظ من الإجمال المشار إليه سلفاً يقع من إطلاقه من اللبس على كثير من الناس، و لما يوقع من الخلاف بين أهل السنة والشحناء والفتن بينهم، ترجح لي أنه يجب الابتعاد عنه، لأن الجنس قد يراد به الواحد وقد يراد به الكل وقد يراد به الغالب، ومن هنا إذا دندن حوله السلفيون حصل بينهم الخلاف الذي يريده التكفيريون وتكثروا بمن يقول به منهم، فيقولون هذا فلان السلفي يقول بتكفير تارك جنس العمل فيجرون الناشىء إلى مذهبهم في تكفير الحكام على منهجهم وإلى رمي علماء السنة بالإرجاء... الخ).أ.هـ.
نقول وبالله التوفيق:
مناقشة قول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-:(1/119)
هناك أربع وقفات مع الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-
أولاً: ذكر الدكتور عصام بن عبدالله السناني -حفظه الله-المغزى من إنكار الشيخ للفظة جنس العمل في كتابه أقوال ذوي العرفان فقال:
(الشيخ رحمه الله أنكر إطلاق لفظ "جنس العمل" سياسة لإبعاد الشباب عن الجدل الواقع بينهم وحصر الكفر بترك الصلاة - كما سيأتي في كلامه - ولكن نتج من اجتهاد الشيخ هذا لازم فاسد حين توصل هؤلاء لإلزام تارك مقولة السلف بكفر تارك العمل بلازم كلامه حيث قالوا: "إذا حصرتم الكفر بترك الصلاة دون جنس العمل، وعلم أن من السلف من لا يكفر تارك الصلاة فيكون تارك عمل الجوارح عنده كذلك غير كافر، فصح أن مسألة كفر تارك عمل الجوارح مسألة خلافية عند السلف"، وهذا لا يقوله الشيخ(1)، فحينما أوردوا نحو هذا الإلزام على الشيخ - كما سيأتي - أنكره وغضب حتى قال:"الكفر ليس راجعاً إلى قواعد يقعدها الناس على ما يريدون، هو مبني على الكتاب والسنة"(2)
__________
(1) ويشهد لهذا الكلام استعمال الشيخ نفسه بعض المصطلحات التي فيها كلمة (جنس) مثل، (جنس المفطرات)، (جنس الصفات)، (جنس الشبهة) وهذه المصطلحات ليست من الطنطنة قطعاً، (راجع برنامج/ موسوعة فتاوى اللجنة والإمامين/إعداد موقع روح الإسلام).
(2) سأل الأخ محمد خليل النيجيري شيخنا محمداً - رحمه الله - في مرضه الأخير فقال بلكنته الأفريقية:
- شيخ يقول بعض العلماء: لا يكفر من اعتقد وقال ولم يعمل ولم يكن جاحداً بالأعمال، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام:"لم يعمل خيراً قط" وما قولكم سماحتكم في هذا؟
- قال الشيخ: ما فهمت السؤال.
- قال السائل: بعض العلماء يقولون: لا يكفر من اعتقد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" مؤمن من قلبه، وقالها بلسانه ولكن لم يعمل، وترك العمل تكاسلاً لا جحوداً، فهل يكون خطأً؟
- قال الشيخ: نعم، قولهم هذا غير صحيح، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تارك الصلاة [كافر]، مع أنه يقول:"أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، والكفر ليس راجعاً إلى قواعد يقعدها الناس على ما يريدون، هو مبني على الكتاب والسنة، فمن كفره الله ورسوله فهو كافر، سواء كان على قواعد هؤلاء أو على خلافها، ومن لم يكفره الله ورسوله فليس بكافر "أ. هـ.
أقوال ذوي العرفان، كتبه: د./ عصام بن عبدالله السناني، راجعه /فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-، ص174-175.(1/120)
، وكان سماحة الشيخ ابن باز(1) أصرح في دفع هذه الشبهة حينما سئل في الفتوى الثالثة الآنفة وقيل له: من لم يكفر تارك الصلاة من السلف، أيكون العمل عنده شرط كمال؟ أم شرط صحة؟ فقال:"لا، بل العمل عند الجميع شرط صحة، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه". قلت: ولذا كان الشافعي يرى عدم تكفير تارك الصلاة مع حكايته على أنه لا يجزئ إيمان بلا عمل، فهو إذن مع عدم تكفيره لتارك الصلاة يكفر تارك العمل كله. ومع ذلك فقد أقر ذكر "جنس العمل" من العلماء غير شيخنا محمد؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية ناشر مذهب السلف يصرح بذلك فيقول (الفتاوى:7/616):"وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءاً من الإيمان كما تقدم بيانه)، ويقول (الفتاوى:7/198):" لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح). وكذلك سماحة الشيخ ابن باز يقرر في الفتوى الثالثة الآنفة وهو يذكر اختلاف السلف فيما يصح به الإيمان من العمل فيقول:"إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً". ويُقر كفرَ تارك جنس العمل في الفتوى السادسة. وكذلك شيخنا صالح الفوزان(2) حفظه الله في تعليقه آنفاً على الفتوى الثالثة لسماحة الشيخ ابن باز رحمه الله)(3)أ.هـ.
ثانيا: لقد ذكر العلماء قديما وحديثا قاعدة مهمة وهي (لا مشاحة في الاصطلاح) وقد اختلفت تعبيراتهم لتأصيل هذه القاعدة وفيما يلي بعض هذه الأقوال:
__________
(1) لقد مر كلام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في فصل جنس العمل
(2) لقد مر كلام الشيخ صالح الفوزان الفوزان حفظه الله في فصل جنس العمل
(3) أقوال ذوي العرفان، كتبه: د./ عصام بن عبدالله السناني، راجعه /فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-، ص (163-164).(1/121)
فقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- بعد أن ذكر اختلاف العلماء في التعبير عن أنواع التوحيد: (فهذه أنواع التوحيد، لك أن تعبر عنها بنوعين، ولك أن تعبر عنها بثلاثة أنواع، ولك أن تعبر عنها بنوع واحد كما تقدم فيما ذكرنا آنفا. ولا مشاحة في الاصطلاح والتعبير، وإنما المقصود:أن نعرف ما هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، ووقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم، وهو توحيد العبادة)(1).
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- أنه في هذا الزمن يجرى تسمية بعض العلوم التجريبية بالعلم حتى إن المدارس الثانوية سمت بعلمي وأدبي، فهل هذا صحيح؟ إضافة لذلك إن هذا التقسيم في المدارس يعلق بأذان الطلاب مما يؤثر عليهم مستقبلا؟
فأجاب فضيلته: بقوله: (هذا التقسيم إلى علمي وأدبي هو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأنهم يرون أن المواد العلمية هي ما يتعلق بعلم الكون والأحياء والنباتات وما أشبه ذلك....إلخ)(2).
(وَإِذَا عُلِمَ الْمُرَادُ فَلَا مشاحة في الِاصْطِلَاحِ)(3)
(وَلَا مشاحة في الِاسْمِ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعْنَى)(4).
(فَلَا مشاحة في التَّسْمِيَةِ)(5)
(فَلَا مشاحة في اللَّفْظِ)(6)
(إذْ لَا مشاحة في الِاصْطِلَاحِ)(7).
__________
(1) بيان التوحيد الذي بعث الله به الرسل جميعا وبعث به خاتمهم محمدا عليه السلام - (ج 1 / ص 85)،وقال أيضاً -رحمه الله-:(لا مشاحة في الاصطلاح إذا عرف المعنى والحكم)، (تحفة الإخوان بأجوبة مهمة تتعلق بأركان الإسلام - (ج 1 / ص 253)
(2) كتاب العلم للعثيمين - (ج 1 / ص 162)
(3) مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل - (ج 1 / ص 143)
(4) البحر المحيط - (ج 7 / ص 74)
(5) البحر المحيط - (ج 8 / ص 192)
(6) البحر المحيط - (ج 8 / ص 193)
(7) التقرير والتحبير - (ج 4 / ص 364)(1/122)
(فَلَا مشاحة في ذَلِكَ فَإِنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ عَلَى مَا شَاءَ بَعْدَ رِعَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ)(1)،
(وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ عَلَى مَا شَاءَ إذْ لَا مشاحة في الِاصْطِلَاحِ)(2)
(وإذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ)(3).
(ولا مشاحة في الاصطلاح بعد فهم المعنى)(4)
(فلا مشاحة في الأسامي بعد الاعتراف بالمعاني)(5)
(ولا مشاحة في الإطلاقات بعد انكشاف غور المعنى ومجرد العبارات فلا مشاحة فيها بعد فهم معانيها فإن ذلك مما لا يقدح في الغرض بإبطاله أو تصحيحه)(6)
(ولا مشاحة في الاصطلاحات)(7)
(وهذا مجرد اصطلاح في التأليف فلا مشاحة فيه)(8)
(ولا مشاحة في مثل ذلك فهو مجرد إصطلاح)(9)
(فلا مشاحة في التسمية)(10)
(فلا مشاحة في اللفظ)(11)
(لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني)(12)
(فلا مشاحة في الأسامي)(13)
(فلا مشاحة في الألفاظ)(14)
(فلا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى)(15)
(و إذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ)(16)
__________
(1) التقرير والتحبير - (ج 6 / ص 272)
(2) حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 1 / ص 195)
(3) مقدمة ابن خلدون - (ج 1 / ص 286)
(4) صبح الأعشى - (ج 2 / ص 426)
(5) المزهر - (ج 1 / ص 113)
(6) غاية المرام في علم الكلام / علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الآمدي/تحقيق: حسن محمود عبد اللطيف.
(7) إرشاد الفحول [ جزء 1 - صفحة 304 ]
(8) إرشاد الفحول [ جزء 1 - صفحة 312 ]
(9) إرشاد الفحول [ جزء 1 - صفحة 332 ]
(10) إرشاد الفحول [ جزء 1 - صفحة 350 ]
(11) الإحكام للآمدي [ جزء 4 - صفحة 227 ]
(12) المستصفى في علم الأصول/ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي /تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي.
(13) الصواعق المرسلة [ جزء 3 - صفحة 970 ]
(14) الروح [ جزء 1 - صفحة 204 ]
(15) مدارج السالكين [ جزء 2 - صفحة 169 ]
(16) تاريخ ابن خلدون [ جزء 1 - صفحة 611 ](1/123)
هذه النقولات لأهل العلم تبين لنا بوضوح أنه لا ضير في استعمال مصطلح ما إذ لا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى، هذا إن كان هذا المصطلح حادثاً ولم يقل به أحد من العلماء!!! فكيف وقد تقدم لك أقوال أهل العلم قديما وحديثاً واستعمالهم لهذه اللفظة.
وقريب من هذا عندما ما حدث مع المتكلمين عندما أرادوا أن ينشروا بدعتهم في باب الأسماء والصفات جاءوا بألفاظ لم تكن على عهد السلف فمن هذه الألفاظ (الجسم والعرض والجوهر والجهة...إلخ) فكان مقصودهم من ابتداع هذه الألفاظ التوصل إلى نفي الصفات الإلهية، فلم ينفِ السلف هذه الألفاظ بالإطلاق بل ما كان منهم إلا الاستفصال لا مطلق النفي.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (واللفظ المجمل الذي لم يرد في الكتاب والسنة لا يطلق في النفي والإثبات حتى يتبين المراد به كما إذا قال القائل الرب متحيز أو غير متحيز أو هو في جهة أو ليس في جهة قيل هذه الألفاظ مجملة لم يرد بها الكتاب والسنة لا نفيا ولا إثباتا ولم ينطق أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بإثباتها ولا نفيها
فإن كان مرادك بقولك أنه محيط به شيء من المخلوقات أو يفتقر إليها، فالله تعالى غني عن كل شيء لا يفتقر إلى العرش ولا إلى غيره من المخلوقات بل هو بقدرته يحمل العرش وحملته وكذلك هو العلي الأعلى الكبير العظيم الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو سبحانه أكبر من كل شيء، وليس هو متحيزا بهذا الاعتبار وان كان مرادك أنه بائن عن مخلوقاته علي عليها فوق سماواته على عرشه فهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه كما ذكر ذلك أئمة السنة مثل عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أعلام الإسلام وكما دل على ذلك صحيح المنقول وصريح المعقول كما هو مبسوط في مواضع آخر.(1/124)
وكذلك لفظ الجهة إن أراد بالجهة أمرا موجودا يحيط بالخالق أو يفتقر إليه فكل موجود سوى الله فهو مخلوق لله، الله خالق كل شيء وكل ما سواه مفتقر إليه وهو غني عما سواه وان كان مراده أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فهذا صحيح سواء عبر عنه بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة.
وكذلك لفظ الجبر إذا قال هل العبد مجبور أو غير مجبور قيل إن أراد بالجبر أنه ليس له مشيئة أو ليس له قدرة أو ليس له فعل فهذا باطل فان العبد فاعل لأفعاله الاختيارية وهو يفعلها بقدرته ومشيئته وان أراد بالجبر أن الله خالق مشيئته وقدرته وفعله فان الله تعالى خالق ذلك كله.
وإذا قال الإيمان مخلوق أو غير مخلوق قيل له ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئا من صفات الله وكلامه كقوله: (لا إله إلا الله) وإيمانه الذي دل عليه اسمه المؤمن فهو غير مخلوق أو تريد به شيئا من أفعال العباد وصفاتهم؟ فالعباد كلهم مخلوقون وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقه ولا يكون للعبد المُحْدَث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة ولا يقول هذا من يتصور ما يقول فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدي وبان السبيل وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وأمثالها مما كثر فيه تنازع الناس بالنفي والإثبات إذا حصل فيها الخطاب ظهر الخطأ من الصواب، والواجب على الخلق أن ما أثبته الكتاب والسنة أثبتوه وما نفاه الكتاب والسنة نفوه وما لم ينطق به الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات استفصلوا فيه قول القائل فمن أثبت ما أثبته الله ورسوله فقد أصاب ومن نفى ما نفاه الله ورسوله فقد أصاب ومن أثبت ما نفاه الله أو نفى ما أثبته الله فقد لبس دين الحق بالباطل فيجب أن يفصل ما في كلامه من حق وباطل فيتبع الحق ويترك الباطل)(1).
وقال في موضع آخر: (فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة ؟
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/663).(1/125)
فإن أراد بها حقا وباطلا قبل الحق ورد الباطل)(1).
وقال في موضع آخر: (وكل ما يقال في هذا المقام من الألفاظ المتجملة مثل لفظ (المتحيز) و (المركب) ونحو ذلك يستفصل عن معناه كما يستفصل عن معنى لفظ (الجسم) فإذا تخلص محل النزاع في معنى معقول مثل كون المراد بذلك ما تقوم به الصفات أو ما يتميز منه شيء عن شيء ونحو ذلك من المعاني - لم يسلم انتفاء ذلك بل نقول: هذا لا بد من ثبوته بالعقل الصريح كما دل عليه النقل الصحيح)(2)
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرحه للعقيدة السفارينية:
[أن هذه الألفاظ ألفاظ حادثة لم تكن معروفة عند السلف، فما في أقوال السلف قول من يقول: إن الله جسم ولا أنه ليس بجسم ولا أن الله عرض ولا أنه ليس بعرض ولا أن الله جوهر ولا أنه ليس بجوهر لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف.
لكن المتكلمين لما حدثت بدعتهم صاروا يذكرون هذه الكلمات للتوصل بنفيها إلى نفي الصفات عن الله.
فمثلاً يقول: النزول لا يكون إلا بجسم، والله تعالى ليس بجسم، وإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم، إذن فننفي استواء الله على العرش، فهم –أعني المتكلمين- أتوا بمثل هذه العبارات ليتوصلوا بها إلى نفي صفات الله عز وجل، وإلا فليس لهم غرض في نفي هذا أو إثباته إلا هذه المسألة.
ولما كانت هذه الكلمات لم تكن موجودة لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة لا نفيا ولا إثباتا، فالواجب علينا أن نتوقف لا ننفي أن الله جسم ولا نثبت ولا أن الله عرض ولا نثبت ولا أن الله جوهر ولا نثبت، ولكننا نستفصل في المعنى فنقول: لمن نفى أن يكون الله جسما نقول له: ما تعني بالجسم؟.
__________
(1) درء التعارض (1/133).
(2) درء التعارض (3/360).(1/126)
إن أدرت بالجسم ما كان حادثاً مركباً من أجزاء وأعضاء فنحن معك في نفيه فالله ليس بحادث ولا مركب من أعضاء وأجزاء بحيث يجوز أن يفقد شيئ منها، هذا نوافقك عليه في نفيه، لكن لا ننفي الجسم].أ.هـ(1)
فإذا كان هذا الحال مع المتكلمين في مصطلح متعلق بباب الأسماء والصفات الذي هو أعظم وأخطر من باب الأسماء والأحكام لأن الأمر متعلق بالذات الإلهية، فما بالك بمصطلح تكلم به علماء السلف؟!.
ثالثاً: تعليق الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- على قول شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتاب "كشف الشبهات" والذي يبين موافقته للعلماء في أنه (لا إيمان إلا بعمل).
- قال شيخ الإسلام رحمه الله: (لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإذا اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر(2)"أ. هـ
- قال الشيخ محمد -رحمه الله- : ختم المؤلف هذه الشبهة بمسألة عظيمة، هي: أنها لا بد من أن يكون الإنسان موحداً بقلبه وقوله وعمله، فإن كان موحداً بقلبه ولكنه لم يوحد بقوله أو بعمله، فإنه غير صادق في دعواه، لأن توحيد القلب يتبعه توحيد القول والعمل لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، فإذا وحد الله كما زعم بقلبه ولكنه لم يوحده بقوله أو فعله؛ فإنه من جنس فرعون الذي كان مستيقناً بالحق عالماً، لكنه أصر وعاند وبقي على ما كان عليه من دعوى الربوبية" أ. هـ.
(شرح كشف الشبهات صفحة(120) للشيخ/محمد بن صالح العثيمين،المكتبة التوفيقية)(3).
__________
(1) شرح العقيدة السفارينية /لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-(ص223-224) دار البصيرة. ويراجع أيضاً (ص115) و (ص663) من نفس الكتاب.
(2) هذا إذا لم يعمل بالتوحيد فكيف بمن لم يعمل خيراً قط؟؟؟!!!.
(3) وهذه الفقرة نقله أيضاً صاحب كتاب أقوال ذوي العرفان، ص177-178.(1/127)
وقال أيضاً–رحمه الله- في شرحه لكتاب التوحيد (باب التوحيد وما يكفر من الذنوب):
(قوله: "من قال: لا إله إلا الله"، أي: بشرط الإخلاص، بدليل قوله: "يبتغي بذلك وجه الله"، أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجهاً؛ فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في "صحيح مسلم"(1)، حيث قال: "ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحُرّمت أمور؛ فلا يغتر مغترٌ بهذا"؛ فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله، حيث قال: "يبتغي بذلك وجه الله"، ولهذا قال بعض السلف عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الجنة: لا إله إلا الله"(2)، لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له)(3).
فهل بعد هذا الكلام من يأتي ويقول أن الشيخ -رحمه الله- لا يكفر بترك جنس العمل!!! ليس عندنا إلا قول الشاعر:
وأحْمقَ زَنَّ ذا عقلٍ بحُمْقٍ…فقلتُ لهُ رُوَيْدَكَ يا حِمارُ
يرى الخفاش أن الصبح ليل …وأنَّ اللَّيْلُ دُهْمَتُهُ نَهارُ
رابعا: اعتبار الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- أن من يقول الإيمان اعتقاد القلب، وتلفظ باللسان، وأصل أعمال القلوب من أقوال المرجئة(4).
يقول الأخ علي بن عبد العزيز موسى:
- وقد وفقني الله تعالى للذهاب للشيخ - أي ابن عثيمين رحمه الله - في بيته وسؤاله عن مسألة
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/ باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.
(2) الإمام أحمد في "المسند" 5/242، والهيثمي في "المجمع" 1/16، والخطيب في "المشكاة" 1/91، قال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار وفيه انقطاع"، وضعفه الألباني في "الضعيفة" 3/477.
(3) القول المفيد على كتاب التوحيد/باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب (ص77).
(4) يراجع أقوال الحلبي في التنبيهات ص425وص455, والرد البرهاني ص 193والتعريف والتنبئة ص33.(1/128)
الإيمان فقلت: يوجد قبلنا من يقول: الإيمان اعتقاد القلب، وتلفظ باللسان، وأصل أعمال القلوب.
- فقال رحمه الله وهو غاضب: أعوذ بالله، هذا قول المرجئة، وهو مذهب قديم معروف، وأخذ يذكر بعض الأدلة على بطلان ذلك، وقد يسر الله تعالى تسجيل بعض كلام الشيخ من خلال بعض الأسئلة التي وجهت إليه"أ. هـ.
(نقلاً عن كتاب تنبيه الإخوان إلى حقيقة الإيمان والرد على المخالفين ص69)(1).
وبهذا تبين أن الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-، أنكر لفظة (جنس العمل) لإبعاد الشباب من الوقوع في الخلاف، ولكن هذا الاجتهاد أدى إلى اتساع هوة الخلاف وكيف لا والمخالف تشبث بهذا الاجتهاد وجعله شعاراً في إنكار هذه اللفظة، وكان الأولى من الشيخ رحمه الله أن يكون أصرح في الإجابة { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42].
__________
(1) نقلا عن كتاب أقوال ذوي العرفان،: د./ عصام بن عبدالله السناني، راجعه /فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-، ص178-179.(1/129)
وهناك نقطة أخرى: فهب(1) أن الشيخ يخالف العلماء في هذه المسألة!!! من قال أن اجتهاد عالم حجة على عالم آخر(2)، وهل أقوال العلماء الآخرين الذين سبق النقل عنهم في استعمالهم لمصطلح جنس العمل وأن تاركه لا إيمان له، ممن يتكلمون بكلام طنطنة لا فائدة منها؟!.
إذا رأيت الهوى في أمة حكما……فاحكم هنالك أن العقل قد ذهبا
مناقشة قول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-:
مناقشة النقطة الأولى: قال الشيخ (أنه لفظ مجمل يحتمل هذه الصورة ويحتمل غيرها).
__________
(1) هذا على فرض، لأنه كما تبين أن الشيخ موافق لأقوال العلماء في حكم تارك جنس العمل.
(2) فقد سأل الدكتور عصام بن عبدالله السناني الشيخ محمد بن صالح العثيمين في بيته بعد عودته من رحلته العلاجيه في بلاد الغرب، هل توافق صاحب الكتاب(المقصود علي الحلبي) على أن تارك عمل الجوارح فهو باق على إسلامه، فأشار بيده قائلاً: خطأ، خطأ، خطأ، ثلاث مرات. فقال الدكتور عصام (فتبقى الخلاف في المسألة سياسة، ولم يقل أحد من العلماء أن اجتهاد عالم حجةٌ على عالم آخر)، وقال أيضاً: (ويعلم الله! أنه لولا نظري في المصلحة التي قدرها شيخنا رحمه الله، وعلمي بعدم رغبته فيما سأنقل، لأوردت عنه ما هو أقطع لحجة هذا الأخ وأوضح في المسألة لكني أرجو أن يكفي هذا في تركه الإيهام بوجود خلاف بين علمائنا في هذه المسألة). أقوال ذوي العرفان، كتبه: د./ عصام بن عبدالله السناني، راجعه /فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-، ص175.(1/130)
نقول: أما إنه لفظ مجمل فقد ذكرنا إنه يمكن أن يزال الاجمال وذلك بالاستفصال كما ذكر ذلك الشيخ ربيع -حفظه الله- نفسه في نهاية الرسالة عن الذي يسأل عن تارك جنس العمل فيقول له (هذه كلمة مجملة فماذا تريد بها فبين لي ما تقصده، فإن ذكر له صورا باطلة ردها عليه بالحجة والبرهان، وإن ذكر الصورة السابقة قال له هذا حق وأنا معك ولكني أحذرك من التلبيس على الناس بذكر غير هذه الصورة).أ.هـ.
فإذن أصبح هذا اللفظ المجمل واضحاً بالاستفصال وكما ذكرنا أيضاً من تقرير العلماء في أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذا عرف المعنى والحكم.
مناقشة النقطة الثانيةً: (إنها مسألة غير عملية)
فنقول وبالله التوفيق: الحكم على المسألة بأنها غير عملية فيها تفصيل، سنوضحها فيما بعد(1) ولكن هل المخالف يتفق أن هذه الصورة غير العملية كفر، كما قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله- بعد أن ذكر صورة تارك جنس العمل: (إن كان المراد بجنس العمل هذه الصورة فإني لا أتردد ولا يتردد مسلم في تكفير من هذا حاله وأنه منافق زنديق إذ لا يفعل هذا من عنده أدنى حد للإيمان).أ.هـ.؟!.
فنقول الجواب: -لا-
المخالف يثبت إيمان حتى مع هذه الصورة غير العملية وهم يعدونها صورة عملية واردة، ويوجد في الخلق الكثير من هذه الصورة!!!، فهم يقولون إن الذين يخرجهم الله من النار وهم لم يعملوا خيرا قط ليس عندهم إلا الشهادتان مع اعتقاد القلب!!! ولا ندري هل هؤلاء الذين يخرجون من النار ولم يعملوا خيرا قط معدودون على أصابع اليد أو هم خلق كثيرون؟!.
فإذا قال قائل كيف ذلك؟.
فنقول: قال الحلبي في كتابه التنبيهات ص455:
__________
(1) راجع الفصل الأخير (ترك جنس العمل يساوي كفر الإعراض).(1/131)
[ثم تكلم (المسود) (ص30-31) حول كلمة الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- التي نقلتها في ((الأجوبة المتلائمة)) –وغيرها- أنه لا يكفر -رحمه الله-(إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان) –دون (ترك) الأركان الأربعة-!!
ثم بنى (!) على ذلك قوله –عني-:
((..الحلبي لا يرى (جنس العمل) من لوازم إيمان القلب، بل يكفي عنده الشهادتان مع اعتقاد القلب))!!
فأقول:
أما كلمة (جنس العمل):فتقدم الكلام عنها –حولها- مرارا وتكرارا... وأما أنه تكفي (الشهادتان)- مع (اعتقاد القلب)-:
فأقول: نعم تكفي (الشهادتان)، ولكن في ماذا؟!.
-هل تكفي في أنها (تجزئ) عن العمل، وتغني عنه؟!.
فهذا كذب، وباطل..
-أم أنها تنجي صاحبها -المقتصر عليها- من أي عذاب وعقاب؟!.
فهذا كذب آخر..
أم أنها القدر المتفق عليه-عند أهل العلم- من أهل السنة- مما يمنع صاحبها من الخلود في النار مع دخوله، وعذابه- كما في أحاديث الشفاعة، وغيرها-؟!.
وهذا هو الصواب].أ.هـ.
ولنا في هذه الفقرة وقفات:
الوقفة الأولى: تصريح الحلبي (أنه تكفي (الشهادتان) مع (اعتقاد القلب)) وهي نفس الصورة التي قال الشيخ ربيع عنها أنه لا يتردد مسلم في تكفير من هذا حاله وأنه منافق زنديق إذ لا يفعل هذا من عنده أدنى حد للإيمان.
فإذن الحلبي يثبت إيمان مع انتفاء عمل الجوارح استدلالاً بأحاديث الشفاعة.
فأرجوا تأمل الصورتان جيداً ثم إصدار الأحكام ثانياً.
الوقفة الثانية: مخالفة الحلبي مسألة عقدية خطيرة وهي جزمه بالنار لتارك عمل الجوارح(1)!!!.
__________
(1) بما أن تارك عمل الجوارح بالكلية مؤمن ناقص الإيمان عند الحلبي وأمثاله، كان الواجب أن يقول الحلبي أنه تحت المشيئة، وليس أن يجزم له بالنار.(1/132)
فهو نفى أن (الشهادتان)- مع (اعتقاد القلب)-: ((تجزئ) عن العمل، وتغني عنه)، ونفى أيضاً (أنها تنجي صاحبها -المقتصر عليها- من أي عذاب وعقاب)، واثبت (أنها القدر المتفق عليه-عند أهل العلم- من أهل السنة- مما يمنع صاحبها من الخلود في النار مع دخوله، وعذابه- كما في أحاديث الشفاعة، وغيرها-.
وهذا خطأ عقدي يبين أن الحلبي لم ترسخ قدمه في مسائل العقيدة!!!، فكان من المفترض أن يقول أن هؤلاء الذين تركوا أعمال الجوارح [إن لم يتوبوا](1) هم تحت المشيئة، فهذه هي عقيدة أهل العلم- من أهل السنة- أن صاحب المعصية أو الكبيرة مهما بلغت ذنوبه فهو تحت المشيئة [إن لم يتب منها](1).
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله-: ((وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته...))
__________
(1) هذا قيد مهم جداً،لان العبد إذا تاب من الذنب غفر الله له برحمته وإن بلغت ذنوبه عنان السماء. (فتنبه).(1/133)
قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: [ وقوله: وهم في مشيئة الله وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله إلى آخر كلامه - فَصَلَ الله تعالى بين الشرك وغيره لأن الشرك أكبر الكبائر كما قال - صلى الله عليه وسلم - وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور وعلق غفران ما دونه بالمشيئة والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به غير معلق بالمشيئة كما قال تعالى: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }
فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله (قبل التوبة)].أ.هـ.
وقال الشيخ العلامة المحدث عبد المحسن بن حمد العباد البدر -حفظه الله-في شرحه لمقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني:
[إذا مات المسلم مرتكباً كبيرة ولم يتب منها، فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، قال عز وجل: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [النساء: 48]، وقال: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء: 116]، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت الذي تقدم قريباً: (... ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه)].أ.هـ(1).
__________
(1) قطف الجني الداني،شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني/لفضيلة الشيخ العلامة المحدث عبد المحسن بن حمد العباد البدر-حفظه الله- ص122-123.(1/134)
وبهذا يتبين أن تارك عمل الجوارح قد يدخل الجنة ابتداءً [إن لم يتب] لأنه تحت المشيئة، ويتبين أيضاً، أن (الشهادتان)- مع (اعتقاد القلب)-: ((تجزئ) عن العمل، وتغني عنه)، وأنها أيضاً قد (تنجي صاحبها -المقتصر عليها- من أي عذاب وعقاب) (1)، وليس كما يزعم الحلبي أن هذه أكاذيب وأباطيل !!!، ولا أظن أن من أتاه الله العلم والفهم، يتوقف في الحكم على هذا القول أنه من أقوال المرجئة، والله المستعان.
__________
(1) هذا عند من يقول أن تارك أعمال الجوارح -جنس العمل- مؤمن ناقص الإيمان،وهو قول المرجئة كما لا يخفى.
ولقد سئل فضيلة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية: هل القائل أن تارك جنس العمل ناقص الإيمان هل بقوله هذا يوافق المرجئة؟.
الجواب: نعم، نعم ؛ العمل جزء من الإيمان، العمل الصالح جزء من الإيمان لا إيمان إلا بعمل.
والاتصال قام به الأخ أبو حذيفة الجزائري - وفقه الله – (المصدر:شبكة الأثري السلفية).(1/135)
ونسأل الحلبي ما قولك في حديث البطاقة المشهور أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول: لا يا رب، فيقول أفلك عذر ؟ فيقول: لا يا رب. فيقول:بلى إن لك عندنا حسنة(1) فإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله. فيقول: احضر وزنك، فيقول: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟! فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة، فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)(2).
هل هذا الرجل عنده أعمال جوارح أم لا؟!.
إذا كان عنده أعمال جوارح كان هذا رداً على أمثاله(3) في عقيدتهم الإرجائية من الذين استدلوا على إيمان تارك العمل بالكلية –جنس العمل- بالحديث الآنف الذكر.
أما إذا أقر بأن هذا الحديث من الأدلة على إيمان تارك العمل بالكلية –جنس العمل- فنقول إن هذا الرجل دخل الجنة ابتداءً -إن لم يتب- لأنه تحت المشيئة، ويتبين أيضاً، إن (الشهادتين)- مع (اعتقاد القلب)-: ((تجزئ) عن العمل، وتغني عنه)، وأنها أيضاً قد (تنجي صاحبها -المقتصر عليها- من أي عذاب وعقاب) (4)
__________
(1) في سنن ابن ماجه بلفظ (إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَاتٍ)!!!
(2) أخرجه الترمذي (2 / 106 - 107) و حسنه وابن ماجه (4300) و الحاكم(1 / 6 و 529) و أحمد (2 / 213) من طريق الليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي،انظر السلسلة الصحيحة – رقم الحديث (135)
(3) الزهراني وعدنان عبد القادر المردود عليهما من قبل اللجنة الدائمة -حفظها الله- وأن كتبهم تدعو إلى الإرجاء.
(4) هذا عند من يقول أن تارك أعمال الجوارح -جنس العمل- مؤمن ناقص الإيمان،وهو قول المرجئة كما لا يخفى.
ولقد سئل فضيلة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية: هل القائل أن تارك جنس العمل ناقص الإيمان هل بقوله هذا يوافق المرجئة؟.
الجواب: نعم، نعم ؛ العمل جزء من الإيمان، العمل الصالح جزء من الإيمان لا إيمان إلا بعمل.
والاتصال قام به الأخ أبو حذيفة الجزائري - وفقه الله – (المصدر:شبكة الأثري السلفية).(1/136)
.
فهذا رد على تأصيل الحلبي حينما قال في التنبيهات ص455 أن الشهادتين تكفيان في إيمان المرء وإن الذي ينسب إلى الحلبي (بأن الشهادتين (تجزئ) عن العمل، وتغني عنه فهو كذاب، والذي ينسب إليه نجاة صاحبه المقتصر عليها –أي الشهادتان- من أي عذاب وعقاب فهو كذاب أيضاً.
حيث قال: [ نعم تكفي (الشهادتان)، ولكن في ماذا؟!.
-هل تكفي في أنها (تجزئ) عن العمل، وتغني عنه؟!.
فهذا كذب، وباطل..
-أم أنها تنجي صاحبها -المقتصر عليها- من أي عذاب وعقاب؟!.
فهذا كذب آخر..
أم أنها القدر المتفق عليه-عند أهل العلم- من أهل السنة- مما يمنع صاحبها من الخلود في النار مع دخوله، وعذابه- كما في أحاديث الشفاعة، وغيرها-؟!.
وهذا هو الصواب].أ.هـ.
فالحلبي بين نارين إذا أثبت عمل جارحة لصاحب البطاقة حكم بالجهل على رفاقه الذين هم في خندق واحد معه –خندق الإرجاء-.
وإذا نفى عمل الجارحة من صاحب البطاقة حكم بالجهل على نفسه!!!.(1/137)
وهذا موقف لا يحسد عليه الحلبي، والذين هم على عقيدة الحلبي وهذا شأن من يكثر من الكلام في مسائل وهو لم ترسخ قدمه في العلم، وكما قيل من كثر كلامه كثر سقطه(1)، ولذلك أحب أن أنبه القارئ أن الحلبي لا يجرؤ ولن يجرؤ أن يذكر في كتبه حديث البطاقة، وهو يجتهد في كتمان هذا الحديث(2) وهذا شأن أهل البدع قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (والبدع التي يعارض بها الكتاب والسنة...لا بد أن تشمل على لبس حق بباطل وكتمان حق وهذا أمر موجود يعرفه من تأمله فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها ويبغض من يفعل ذلك كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه ثم إن قوله الذي يعارض به النصوص لا بد له أن يلبس فيه حقا بباطل بسبب ما يقوله من الألفاظ المجملة المتشابهة)(3).أ.هـ.
وهناك أقوال أخرى للحلبي يقرر فيها أن تارك عمل الجوارح باق على إيمانه-إيمانه منقوص- وإليكم بعض أقواله:
قال الحلبي في كتابه (التنبيهات...) صفحة (110-111):
[...ثم انتقد المسود كتاب ((التعريف والتنبئة..)) مدعيا أن فيه ((من الغلط في مسائل الإيمان...إخراج العمل عن الإيمان، وأن الإيمان يبقى مع ترك جنس العمل))!
فأقول: حقا حقا إنك لا تدري ولا تعلم!!!
أما إخراج العمل عن الإيمان، فهي فرية بلا مرية... ولست أُسامح-البتة- من ينسبها إلي، أو يكذب بها علي...وخصمه رب الأرباب...فليجهز الجواب...
__________
(1) فيض القدير (6/213). أنظر السلسلة الضعيفة (12587).
(2) إذا كان حديث البطاقة يدل على نجاة تارك العمل بالكلية –جنس العمل- كمل استدل بها من هم على شاكلة الحلبي، فلم أعرض الحلبي عن ذكر هذا الحديث في كل كتبه ؟!، نترك الجواب للحلبي...
(3) درء التعارض (1/120).(1/138)
ولعل (المسود)- لجهله، أو تجاهله!-لم يفرق- أو لم يستوعب!-بين: كون (عمل الجوارح من الإيمان)، وبيان أنه لا يلزم من ذلك أن (ترك عمل الجوارح غير مبطل للإيمان)!!
وأما أن الإيمان يبقى مع ترك (جنس العمل):].
قال الحلبي في كتابه (التنبيهات...) صفحة (425) و(التعريف والتنبئة..) صفحة (33)
فالأعمال الظاهرة –طاعات ومعاصي-وجودا وعدما- متعلقة بـ (الإيمان المطلق)(1)، لا (مطلق الإيمان)(2)، فتنبه.
قال الحلبي في كتابه (الرد البرهاني...) صفحة (193)
فإننا نقول:أركان الإيمان (ثلاثة) قول واعتقاد وعمل، ثم نحن لا نكفر بترك ركن العمل –أي: عمل الجوارح-!!
الوقفة الثالثة: إذا كان الحلبي لا يدري أن صاحب الكبيرة [إن لم يتب] هو تحت مشيئة العزيز الوهاب، وهذه لا تخفى على صغار طلبة العلم، فكيف للحلبي أن يؤلف في أخطر مسألة من مسائل العقيدة ألا وهي مسألة الأسماء والأحكام؟!.
وصدق الشاعر حين قال:
وعاش بدعوى العلم ناس وما لهم……من العلم حظ لا بعقل ولا نقل
مناقشة النقطة الثالثة: (دندنة التكفيريين حوله لمقاصد سيئة منها رمي أئمة أهل السنة بالارجاء).
نقول وبالله التوفيق: موافقة أهل الباطل لأهل الحق، لا يعني أن يترك أهل الحق ما هم عليه بحجة أن أهل الباطل يقولون به، أو لهم مداخل من هذه الأقوال إلى باطلهم، بل العكس يجب تبيين ذلك الحق وإزالة الشبهات عنها على الوجه الصحيح ليكون أنفى للباطل الذي يدعوا إليه أهل الباطل.
__________
(1) أي كمال الإيمان.
(2) أي أصل الإيمان.(1/139)
فعندما ظهرت فرقة الخوارج وهي أول بدعة في الدين وكفروا المسلمين وكانوا يستدلون بآيات من القرآن وأحاديث من السنة النبوية، لم يقل أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - أو التابعين أو أهل العلم نترك الحديث عن تلكم الآيات أو الأحاديث التي تنفي الإيمان عن أصحاب المعاصي لكي لا تكون فتنة، بل فعلوا العكس حيث بينوا أن تلك الآيات أو الأحاديث لا تدل على ما ذهبوا إليه ولا يخفى علينا مناظرات السلف للخوارج(1)
__________
(1) ذكر ابن عبد البر –في جامع بيان العلم وفضله (ج 3 / ص 197)
أن ابن عباس رضي الله عنه، قال: « لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي رضي الله عنه قال: جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين، أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم قال: فدخلت عليهم وهم قائلون فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر، قد أثر السجود في جباههم كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قمص مُرَحَّضَة فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس ؟ وما هذه الحلة عليك؟ قال: قلت: ما تعيبون مني فلقد رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما يكون من ثياب اليمنية، قال: ثم قرأت هذه الآية { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } (سورة: الأعراف آية رقم: 32) فقالوا: ما جاء بك ؟ قلت: جئتكم من عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشا فإن الله تعالى يقول: { بل هم قوم خصمون } (سورة: الزخرف آية رقم: 58) فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة قال: قلت: ماذا نقمتم عليه ؟ قالوا: ثلاثا فقلت: ما هن ؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله وقال الله عز وجل: { إن الحكم إلا لله } (سورة: يوسف آية رقم: 40) قال: قلت: هذه واحدة وماذا أيضا ؟ قال: فإنه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسباهم، قال: قلت: وماذا أيضا ؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، قال: قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ينقض قولكم هذا، أترجعون ؟ قالوا: وما لنا لا نرجع ؟ قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله فإن الله عز وجل قال في كتابه { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } (سورة: المائدة آية رقم: 95) وقال في المرأة وزوجها { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } (سورة: النساء آية رقم: 35) فصير الله تعالى ذلك إلى حكم الرجال فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب ثمن ربع درهم، وفي بضع امرأة ؟ قالوا: بلى هذا أفضل، قال: أخرجت من هذه ؟ قالوا: نعم قال: وأما قولكم: قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة ؟ رضي الله عنها، فإن قلتم: نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم فأنتم ترددون بين ضلالتين، أخرجت من هذه ؟ قالوا: بلى، قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: » اكتب يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.... « فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: » اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو « قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين ».(1/140)
وأهل البدع قاطبة من معتزلة وأشاعرة وقدرية ومرجئة وغيرهم وتفنيدهم للشبهات التي كانت تسمى عندهم أدلة-زعموا- وتبيينهم الصحيح للناس وتحذيرهم من السقيم لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَك عن بَيِّنة وَيَحْيى مَن حَيَّ عن بَيِّنة.
ولنضرب مثالاً على ذلك: المتكلمون عندما أرادوا أن ينشروا بدعتهم في باب الأسماء والصفات جاءوا بألفاظ لم تكن على عهد السلف فمن هذه الألفاظ (الجسم والعرض والجوهر والجهة...إلخ) فكان مقصودهم من ابتداع هذه الألفاظ التوصل إلى نفي الصفات الإلهية، فلم ينفي السلف هذه الألفاظ بالإطلاق بل ما كان منهم إلا الاستفصال لا مطلق النفي.
وقد سبق أقوال أهل العلم في المسألة، ولكي لا يكون هناك سلاح جديد بيد الحزبيين والثوريين والتكفيريين ولا يوجد بالمقابل بيد الشباب السلفي سلاح مضاد لدحض شبهاتهم.
وأما قول الشيخ -حفظه الله-: (فمن لا يكفر تارك الصلاة عندهم مرجيء أو أتي من شبهة الإرجاء...)
نقول: عند تأصيل المسألة باصولها الصحيحة عند الشباب بشكل عام وعند طلبة العلم بشكل خاص لن يبقى أي إشكال أو خوف عليهم من الذين يصطادون في الماء العكر فيُأصل: أن من قال ترك الصلاة ليس كفراً لأنه من أعمال الجوارح، وعمل الجوارح شرط في كمال الإيمان فهذا من أقوال المرجئة (ووجه كونه إرجاءً أن قائله لا يكفِّر بالعمل(1)
__________
(1) قال الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف في كتابه (التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد) صفحة(19-20) الذي قرأه وقرظه وأوصى بطبعه ونشره الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:
(لم أنقل كلام العلماءِ المتعلِّق بتكفيرِ تاركِ الصَّلاة، وهم جمهور أصحاب الحديث، علماً أنَّها أقوالٌ كثيرةٌ جداً مبثوثةٌ في كتب السَّلَف ؛ وذلك لأَنَّها مسألة اختلف فيها أصحاب الحديث. ولكن هاهنا مسألةٌ مهمَّةٌ، وهي أَنَّ أصحاب الحديث الذين لم يكفِّروا تاركَ الصَّلاة؛ لا يعنون أَنَّ الصَّلاةَ عملٌ والعمل لا يكفّر تاركه أو فاعله بغير اعتقادٍ أو استحلالٍ أو تكذيبٍ، فهذه لَوْثَةٌ إرجائيَّةٌ حاشاهم منها. بل كما نقَلَ عنهم المروزيُّ قالوا: ((الأخبار التي جاءت في الإِكْفار بترك الصَّلاة نظير الأخبار التي جاءت في الإِكْفار بسائر الذُّنوب)) فهم نظروا إلى الأدلة التي ظاهرها التَّعارض فجمعوا بينها ورجَّحوا عدم إِكْفار تارك الصَّلاة كتارك الصَّوم والزَّكاة،إلاَّ إذا تركها جُحوداً أو إِباءً أو استنكافاً. ولم يُنْقَل عن أحدٍ منهم أَنَّ الصَّلاة عمل وليست اعتقاداً ولا يكفُرُ تاركَ العمل ! كما أَنَّهم لم يعدّوا من يكفِّر تاركها بمثابة الخوارج الَّذين يكفِّرونَ بالذُّنوب، وهذا إقرارٌ منهم أَنَّ تاركّ العمل قد يخرج من الملَّة، لكن لم يترجَّحْ عندهم ذلك في شأْنِ تارك الصَّلاة)أ.هـ.(1/141)
وإنما الكفر عنده اعتقاد فقط فمسألة الصلاة من أظهر المسائل التي أجمع الصحابة على كفر تاركها، أما لو رجَّح عدم كفر من يصلي تارة ويترك تارة لأدلة شرعية لديه –كما قد وقع من بعض السلف- أو أن الإجماع لم يبلغه، فهذا لا صلة له بالإرجاء)(1).
وأما قول الشيخ -حفظه الله-: (ومن لا يكفر الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله تكفيراً مخرجاً من الملة فهو مرجيء وإن فصل على طريقة السلف وإن قال بكفر تارك الصلاة).
فنقول كما ذكرنا سابقاً التأصيل الصحيح يبعدنا الوقوع في المحذور، فربط الشباب بعلمائها الربانيين هي المخرج من الفتنة والله ولي التوفيق.
الوقفة الرابعة: قول الشيخ: (من أجل ما في هذا اللفظ من الإجمال المشار إليه سلفاً يقع من إطلاقه من اللبس على كثير من الناس،...إلى قوله... وإلى رمي علماء السنة بالإرجاء... الخ).
أقول قد تقدم الكلام على هذه النقطة في الوقفة الأولى فلا نعيده، وكما ذكرنا أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذا عرف المعنى والحكم، مع أن الشيخ ربيع -حفظه الله- هو نفسه يستعمل بعض المصطلحات التي لم يسبق إليها أحد من العلماء سلفاً وخلفاً، وفيما يلي ننقل بعض هذه الألفاظ:-
وذكر(جنس الجهاد/جنس هذا الكلام/جنس كلام الباطنية)في كتاب (منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف).
وذكر (جنس سيد قطب) في كتاب (الحد الفاصل بين الحق والباطل).
وذكر (جنس جنكيز خان) في (نصيحة ودية إلى أبناء الأمة الإسلامية وحملة الدعوة السلفية).
وذكر (جنس تعظيم/جنس البدع) في كتاب(بيان فساد المعيار).
وذكر (جنس الرفض) في (النصيحة هي المسؤولية المشتركة في العمل الدعوي).
وذكر (جنس الجوهر) في (منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح).
__________
(1) يراجع النقطة الثالثة عشرة من العبارات التي ذكرها الشيخ علوي عبد القادر السقاف -حفظه الله- في أن القائل بها وقع في الإرجاء أو دخلت عليه شبهته.(1/142)
وذكر (جنس كلامه) في (براءة أهل السنة مما نسبه إليهم ذو الفتنة).
وذكر (جنس أعداء الرسل/جنس بهت اليهود/جنس التبرك)في كتاب(دحر افتراءات أهل الزيغ والارتياب عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب).
وذكر (جنس أفعال الكفار)في (التنكيل بما في لجاج أبي الحسن من أباطيل).
إلى غير ذلك....وهذه المصطلحات ليست من الطنطنة قطعاً!!!.
وقد استعمل شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بعض المصطلحات التي ذكر فيها كلمة جنس وقد يكون هو أول من قال بها مثل [جنس النعيم، جنس الألم، جنس النصارى، جنس الكهان، جنس الصلاة، جنس الشرك، جنس الدعاء، جنس القراءة والذكر، جنس العبادات أو الاباحات أو الايجابات أو التحريمات، جنس الاستشفاع، جنس الحج، جنس عباد الأوثان، جنس السحر والشرك، جنس المنطق، جنس القرامطة الباطنية، جنس الكفار والمنافقين، جنس النصيرية، جنس الإلهام، جنس قول فرعون، جنس الحقيقة، جنس ولادة الحيوان، جنس أتباع الدجال، جنس الأعراض والصفات، جنس العناصر والمولدات، جنس ظاهر النصوص، جنس المخلوقان، جنس التشبيه، جنس حبس النصارى، جنس الحوادث، جنس الشبهات، جنس الشهوات، جنس الاعتقاد الفاسد، جنس النظر والاستدلال، جنس تأويلات القرامطة، جنس الاستسقام بالأزلام، جنس الحنابلة، جنس الإثبات... وإلى غير ذلك من المصطلحات التي لم نذكرها خشية الإطالة والتي قد تصل إلى المئات!!!،...وهي ليست من الطنطنة قطعاً!!!، فلا مشاحة في الاصطلاح بعد معرفة المعاني.
ذكر الشيخ ربيع -حفظه الله-بعد ذلك: (وأنصح السلفيين أن يلتزموا بقول السلف الشائع المتواتر من أول عهد السلف إلى يومنا هذا ألا وهو قولهم: إن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب واللسان وعمل بالقلب والجوارح).
نقول: وإن كان عدد من علماء السلف قالوا بجنس العمل، فهل بالتزامنا أن الإيمان قول بالقلب واللسان وعمل بالقلب والجوارح يلتزم به المخالف؟!(1/143)
وإذا قال الرجل (تكفي الشهادتان مع اعتقاد القلب)(1) ماذا نجيبه أنسكت؟!...
أم ماذا نقول؟!...
وإذا قال: (أركان الإيمان (ثلاثة) قول واعتقاد وعمل، ثم نحن لا نكفر بترك ركن العمل –أي: عمل الجوارح!!)(2)
أو قال: (فالأعمال الظاهرة –طاعات ومعاصي-وجودا وعدما- متعلقة بـ (الإيمان المطلق)، لا (مطلق الإيمان))(3).
أو قال: ((عمل الجوارح من الإيمان)، وبيان أنه لا يلزم من ذلك أن (ترك عمل الجوارح غير مبطل للإيمان)!!)(4).
هل نقول كلامك صحيح موافق لما عليه السلف؟!
وهل نقول الخلاف بيننا وبينكم لفظي؟!
أم نرد عليه ونقول أخطأت وجانبت الصواب، وقلت بقول المرجئة؟!(5).
بل لا بد من التحذير من هذا القول الخبيث الذي هو معول لهدم قواعد هذا الدين بل هو سلم لكل فاسق وظالم وطاغوت للتمادي في فسقهم وظلمهم وتشجيعهم عليها.
هذا ما تيسر لمناقشة أقوال الذين أنكروا لفظة (جنس العمل) ونسأل الله أن نكون قد أزلنا اللبس من الموضوع وأن سبب إنكارهم كان سبباً في اتساع هوة الخلاف ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فصل
بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح!
__________
(1) راجع التنبيهات المتوائمة ص454-455.
(2) الرد البرهاني...) صفحة (193).
(3) التنبيهات...) صفحة (425) و(التعريف والتنبئة..) صفحة (33).
(4) التنبيهات...) صفحة (111).
(5) قال بعض قليلي الفقه (إن كل من يفتح هذه المواضيع-أي جنس العمل- الآن هو على شفا هلكة)
فأجابه أحد إخواننا-وفقه الله وزاده تثبيتاً- بالحرف (إذا كان تصحيح العقيدة على منهج السلف وعلمائها مجتمعة هلكة فمرحباً بها يا لها من هلكة تجمعنا بابن تيمية وسلف الأمة في الفردوس الأعلى إن شاء الله).
فيا حزنا هذي شريعة أحمد تلعب جهال بها وعبيد
فيا ترى ماذا يكون جواب السلف حينما يسمعون هذا التمييع وأن الذي يصحح عقيدته هو على شفا هلكة؟؟؟!!!.(1/144)
يُعَدُّ هذا الفصل من الفصول المهمة لرد شبهة طالما تشدقوا بها، ولفهم حقيقة الخلاف بين السلف في الإيمان ومذهب المرجئة الردي!!!.
فقد قام بعض مرجئة أهل السنة(1) نصرة لبدعتهم أن يفرقوا بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فقالوا إن قول السلف الإيمان (قول وعمل) يقصدون بالعمل عمل القلب!!! وهذا باطل قطعاً...لماذا؟!.
لان الخلاف بين السلف والمرجئة كان لإخراج المرجئة عمل الجوارح -العمل الظاهر- من الإيمان وإثباتهم عمل القلوب وأن أكثر فرق المرجئة تدخل أعمال القلوب في الإيمان، ولو كان الأمر كما قالوا لم يكن ثمة خلاف بين السلف والمرجئة، ولما قامت المعارك الكلامية في الوقوف بوجه هذا المذهب الخبيث الذي يدعوا إلى انسلاخ المرء من دينه.
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: (والمرجئة ثلاثة أصناف الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة)(2).
وقال أيضاً: (المقصود هنا أن عامة فرق الأمة تدخل ما هو من أعمال القلوب حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك وأما المعتزلة والخوارج وأهل السنة وأصحاب الحديث فقولهم فى ذلك معروف وانما نازع فى ذلك من اتبع جهم بن صفوان من المرجئة وهذا القول شاذ كما أن قول الكرامية الذين يقولون هو مجرد قول اللسان شاذ أيضا)(3).
__________
(1) هذا الوصف من الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله- عندما سئل عن قول بعض الناس "إن عقيدة أهل السنة والجماعة أن العمل شرط في كمال الإيمان وليس شرطا في صحته" فأجاب –حفظه الله-: (هو قول مرجئة أهل السنة وهو خطأ، والصواب أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان فهو اعتقاد وقول وعمل يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية...).أ.هـ. (المنتقى من فتاوى الفوزان).
(2) مجموع الفتاوى (7/195).
(3) مجموع الفتاوى(7/550).(1/145)
وقال أيضا: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان(1) فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن)(2).
فإذا كانت عامة فرق المرجئة يدخلون أعمال القلوب في الإيمان والخلاف في أعمال الجوارح! فما الفرق بينهم وبين الذين يقولون إن المرء لو ترك أعمال الجوارح بالكلية -جنس العمل- فهو باق على إيمانه وأنها مسألة خلافية بين أهل السنة { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16] ؟؟!!.
(وقد كانت المحاولة لتنزيل العمل - في قول أهل السنة "الإيمان قول وعمل"- على غير عمل الجوارح لإخراجه عن حقيقة الإيمان قديمة تمت في عهد الإمام أحمد فتصدى لها -رحمه الله-، حيث بوب الخلال رحمه الله في كتابه (السنة:3/570) فقال: "ومن قول المرجئة أن الإيمان قول باللسان وعمل بالجارحة، فإذا قال فقد عملت جوارحه وهذا أخبث قول لهم". ثم ذكر بسنده الصحيح عن الأثرم -رحمه الله- قال:"وسمعت أبا عبد الله وقيل له: شبابة أي شيء يقول فيه ؟ فقال: شبابة كان يدعو إلى الإرجاء. قال: وقد حكي عن شبابة قول أخبث من هذه الأقاويل، ما سمعت [ عن أحد] مثله. قال: قال شبابة: إذا قال فقد عمل. قال: الإيمان قول وعمل كما يقولون، فإذا قال فقد عمل بجارحته، أي بلسانه، فقد عمل بلسانه حين تكلم. ثم قال أبو عبد الله: هذا قول خبيث ماسمعت أحداً يقول به ولا بلغني". ونقله شيخ الإسلام في(الفتاوى:7/255).
__________
(1) تنبه إلى قول شيخ الإسلام أن المرجئة أخرجوا العمل الظاهر من الإيمان!!!.
(2) مجموع الفتاوى(7/554).(1/146)
ـ قال ابن رجب رحمه الله (فتح الباري:1/113-114): (وقد كان طائفة من المرجئة يقولون: الإيمان قول وعمل، موافقة لأهل السنة، ثم يفسرون العمل بالقول، ويقولون: هو عمل اللسان. وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول عن شبابة بن سوار وأنكره عليه، وقال: هو أخبث قول، ما سمعت أن أحداً قال به ولا بلغني. يعني: أنه بدعةٌ، لم يقله أحد ممن سلف. لعل مراده إنكار تفسير قول أهل السنة "الإيمان قول وعمل" بهذا التفسير فإنه: بدعة، وفيه عِيٌّ وتكريرٌ ؛ إذ العمل على هذا هو القول بعينه، ولا يكون مراده إنكار أن القول يسمى عملاً))(1).
وفيما يلي أقوال بعض أئمة السلف في مقصودهم في نوع العمل في حقيقة الإيمان هل هو عمل القلب أو عمل الجوارح!!.
فقد أرسل رجل من أهل خراسان إلى أبي ثور إبراهيم بن خالد بكتاب يسأل فيه عن الإيمان ما هو؟ ويزيد وينقص؟ وقول أو قول وعمل ؟ أو قول وتصديق وعمل؟.
(فأجابه: إنه التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وعمل الجوارح)(2)
__________
(1) أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان/ص97-98 /لفضيلة الشيخ الدكتور عصام بن عبدالله السناني ,راجعه فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/193) ط9 دار طيبة للنشر /تحقيق الدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي، الاستاذ بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.(1/147)
وقال أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي الرازي -رحمه الله-:(مذهبنا واختيارنا إتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان، وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي عبيد القاسم بن سلام، والشافعي. ولزوم الكتاب والسنة، والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف، واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل: مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وسفيان الثوري، وحماد بن زياد بالعراق من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين. وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين،.... واختيارنا أن الإيمان قول وعمل، إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان، مثل الصلاة والزكاة لمن كان له مال، والحج لمن استطاع إليه سبيلا، وصوم شهر رمضان(1)، وجميع فرائض الله التي فرض على عباده، العمل به من الإيمان. والإيمان يزيد وينقص....)(2)
__________
(1) يرجى الانتباه إلى الأمثلة وأن جميعها أعمال جوارح ظاهرة.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/202) ط9 دار طيبة للنشر /تحقيق الدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي، الاستاذ بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.(1/148)
وعن عبد المؤمن المفلوج البصري، قال: حدثنا أبي قال: سمعت الحسن قال: قال معاذ: (إنما أخشى عليك ثلاثة من بعدي: زلة عالم، وجدال منافق في القرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوه، ومن لم يكن غنيا من الدنيا فلا دين له « قال عبد المؤمن فسألت أبي: » ما يعني بهذا ؟ « فقال: » سألناه، فقال: « من لم يكن له من الدنيا عمل صالح فلا دين له»)(1).
وعن زيد بن أسلم، قال: « لا بد لهذا الدين من أربع دخول في دعوة الإسلام، ولا بد من الإيمان، وتصديق بالله وبالمرسلين أولهم وآخرهم والجنة والنار والبعث بعد الموت، ولا بد من أن تعمل عملا صالحا تصدق به إيمانك»(2).
قول الإمام مالك الصغير أبي محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني: (فيما اجتمعت عليه الأمة من أمور الديانة من السنن التي خلافها بدعة وضلالة....إلى أن قال....وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد ذلك بالطاعة وينقص بالمعصية نقصاً عن حقائق الكمال لا محبط للإيمان، ولا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة، وأنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وإن كان كبيراً...)(3).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (2/137) ط9 دار طيبة للنشر /تحقيق الدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي، الاستاذ بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (4/929) ط9 دار طيبة للنشر /تحقيق الدكتور أحمد بن سعد حمدان الغامدي، الاستاذ بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. رواه ابن أبي شيبة في الإيمان رقم (136) وصححه الشيخ الألباني في حاشيته.
(3) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - ص108(1/149)
قول الإمام حجة الإسلام أبي أحمد بن الحسين الشافعي المعروف بابن الحداد رحمه الله تعالى: (فإنك وفِّقك الله تعالى لقول السداد، وهداك إلى سبيل الرشاد سألتني عن الاعتقاد الحق والمنهج الصدق الذي يجب على العبد المكلف اعتقاده ويعتمده، فأقول والله الموفق للصواب: الذي يجب على العبد اعتقاده ويلزمه في ظاهره وباطنه اعتماده ما دلَّ عليه كتاب اللّه تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإجماِع الصدر الأول من علماء السلف، وأئمتهم الذين هم أعلام الدين، وقدوة منْ بعدهم من المسلمين.......وإن الإيمان قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالجوارح وإنه يزيد وينقص)(1)
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - (ص 130).(1/150)
الامام الآجري –رحمه الله-: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو التصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ثم اعلموا رحمنا الله وإياكم أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب وهو التصديق إلا أن يكون معه إيمان باللسان، وحتى يكون معه نطق، ولا تجزئ معرفة بالقلب والنطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا وحقا، دل على ذلك الكتاب، والسنة، وقول علماء المسلمين.......إلى أن قال.......فالأعمال بالجوارح تصديق على الإيمان بالقلب واللسان فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه مثل(1) الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وأشباه لهذه، ومن رضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل لم يكن مؤمنا، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العلم بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، فاعلم ذلك هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)(2).
وقال أيضاً: (هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل(3) الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وما أشبه ذلك)(4)
__________
(1) يرجى الانتباه إلى الأمثلة، وأنها من الأعمال الظاهرة فقط.
(2) الأربعون حديثا للآجري - (ج 1 / ص 13)
(3) الرجاء التركيز على هذه الأمثلة، وأن السلف ردوا على المرجئة لإخراجهم العمل الظاهر من الايمان، فكن على حذر من تلبيس الملبسين.
(4) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 222)(1/151)
وقال أيضاً: (كل هذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، ولا يجوز على هذا ردا على المرجئة، الذين لعب بهم الشيطان، ميزوا هذا تفقهوا إن شاء الله)(1)
وقال أيضاً بعدما ذكر الآيات في أن دخول الجنة بالعمل: (كل هذا يدل العاقل على أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، كذا قال الحسن وغيره، وأنا بعد هذا أذكر ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن جماعة من أصحابه، وعن كثير من التابعين أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ومن لم يقل عندهم بهذا فقد كفر)(2).
وقال أيضاً: (وقد تقدم ذكرنا لهم: إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة، لا يجزئ بعضها عن بعض، والحمد لله على ذلك)(3).
الإمام ابن بطة العكبري–رحمه الله-: (باب بيان الإيمان وفرضه وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث.
__________
(1) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 279).
(2) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 282).
(3) الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 350).(1/152)
قال الشيخ: اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به، والتصديق له ولرسله ولكتبه، وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا، وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به، وفرضه من الأعمال لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها، ولا يكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بلسانه، عاملا مجتهدا بجوارحه، ثم لا يكون أيضا مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله، وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن، ومضت به السنة، وأجمع عليه علماء الأمة....وأما الإيمان بما فرضه الله عز وجل من العمل بالجوارح تصديقا لما أيقن به القلب ونطق به اللسان فذلك في كتاب الله تعالى يكثر على الإحصاء وأظهر من أن يخفى)(1).
وقال أيضاً: (فكل من ترك شيئا من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه أو أكدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته على سبيل الجحود لها والتكذيب بها، فهو كافر بين الكفر لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن أقر بذلك وقاله بلسانه، ثم تركه تهاونا ومجونا أو معتقدا لرأي المرجئة ومتبعا لمذاهبهم، فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم، وإنهم في الدرك الأسفل من النار، نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة)(2)
__________
(1) الإبانة الكبرى لابن بطة (ج 2/ ص 361)
(2) الإبانة الكبرى لابن بطة (ج 2/ ص 363)(1/153)
وقال أيضاً: (واعلموا رحمكم الله أن الله عز جل لم يثن على المؤمنين، ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم، والنجاة من العذاب الأليم، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح، والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل، والنية بالإخلاص، حتى صار اسم الإيمان مشتملا على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض، ولا ينفع بعضها دون بعض، حتى صار الإيمان قولا باللسان، وعملا بالجوارح، ومعرفة بالقلب خلافا لقول المرجئة الضالة الذين زاغت قلوبهم، وتلاعبت الشياطين بعقولهم، وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته)(1)
قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: (الْمُعْتَمَد عَلَيْهِ عِنْد أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْإِيمَان اِعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ)(2)
__________
(1) الإبانة الكبرى لابن بطة (ج 2 / ص 97)
(2) فتح الباري لابن حجر - (ج 19 / ص 180). مع ملاحظة أن لابن حجر–رحمه الله- كلام في بيان أن العمل عند أهل السنة والجماعة شرط كمال، وقد علق العلماء حفظهم الله على قوله بأنه غير صحيح وهو مخالف لما أجمع عليه السلف، فقد قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك: تعليقاً على كلام الحافظ في الفتح 1(/ 46): (قوله: "والفارق بينهم وبين السلف.... الخ":
(هذا الفرق بين المعتزلة والسلف لا يستقيم سواء أريد بشرط الصحة أو شرط الكمال: جنس العمل، أو أنواع العمل الواجبة، أو الواجبة والمستحبة ؛ فإن الأعمال المستحبة من كمال الإيمان المستحب، فلا تكون شرطاً لصحة الإيمان، ولا لكماله الواجب.
وأما الأعمال الواجبة: فليس منها شرط لصحة الإيمان عند جميع أهل السنة، بل بعضها شرط لصحة الإيمان عند بعض أهل السنة كالصلاة.
وأما عند المعتزلة: فالمشهور من مذهبهم ومذهب الخوارج أن ما كان تركه كبيرة فهو شرط لصحة الإيمان، وعلى هذا فلا يصح أن يقال: إن جنس العمل عندهم شرط لصحة الإيمان؛ لأن ذلك يقتضي أن الموجب للخروج عن الإيمان عندهم هو ترك جميع الأعمال، وليس كذلك، بل يثبت عندهم الخروج عن الإيمان بارتكاب ما هو كبيرة.
وأما عند السلف: فعمل الجوارح تابع لعمل القلب، وجنس عمل القلب شرط لصحة الإيمان، وجنس عمل الجوارح تابع أو لازم لعمل القلب، فيلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ فإن الإعراض عن جميع الأعمال دليل على عدم انقياد القلب.
هذا، ولا أعلم أحدا من أئمة السلف أطلق القول بأن الأعمال شرط أو ليست شرطا لصحة الإيمان أو كماله، وإنما المأثور المشهور عنهم قولهم: "الإيمان قول وعمل" أو "قول وعمل ونية" ؛ يقصدون بذلك الرد على المرجئة الذين أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، وخصوا الإيمان بالتصديق، أو التصديق والإقرار باللسان.
وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ بإطلاق القول بأن الأعمال شرط لصحة الإيمان عند المعتزلة، وشرط لكماله عند السلف ليس بمستقيم لما تقدم).(1/154)
قال الإمام أبو ثور –رحمه الله-: (اعلم يرحمنا الله وإياك: أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد وأن ما جاءت به الرسل حق وأقر بجميع الشرائع ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ؛ ولا أصدق به ؛ أنه ليس بمسلم... وذلك أنه إذا جاء بهذه الثلاثة الأشياء. فكلهم يشهد أنه مؤمن ؛ فقلنا بما أجمعوا عليه من التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان فيقال لهم: ماذا أراد الله من العباد إذ قال لهم: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل ؛ فقد كفرت. عند أهل العلم. (ك من قال: إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة ؟ وإن قالت: أراد منهم الإقرار قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعا لم زعمتم أنه يكون مؤمنا بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعا ؟ أرأيتم لو أن رجلا قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقر به أيكون مؤمنا ؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل به ؛ أيكون مؤمنا ؟ فإن قالوا: نعم. قيل ما الفرق ؟ فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعا فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنا إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقر مؤمنا لا فرق بين ذلك. فإن احتج فقال: لو أن رجلا أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - أيكون مؤمنا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل ؟ قيل له: إنما يطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله: أن يعمله في وقته إذا جاء وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنا ؛ ولو قال: أقر ولا أعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان. قلت: يعني الإمام أبو ثور - رحمه الله - إنه لا يكون مؤمنا إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار وإلا فلو أقر ولم(1/155)
يلتزم العمل لم يكن مؤمنا. وهذا الاحتجاج الذي ذكره أبو ثور هو دليل على وجوب الأمرين: الإقرار والعمل وهو يدل على أن كلا منهما من الدين وأنه لا يكون مطيعا لله ولا مستحقا للثواب ولا ممدوحا عند الله ورسوله إلا بالأمرين جميعا وهو حجة على من يجعل الأعمال خارجة عن الدين والإيمان جميعا)(1).
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد عبد الوهاب –رحمه الله-: قوله (من شهد أن لا إله إلا الله) أي من تكلم بها عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها كما قال الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد: 19] وقوله { إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [الزخرف: 86] أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع)(2).
أقوال الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله تعالى-:
سئل معالي فضيلة الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ –حفظه الله-:..[ما معنى جنس العمل]...
فأجاب فضيلته:جنس العمل يعني عمل صالح، أي عمل صالح، أي عمل صالح ينوي به التقرب إلى الله جل وعلا ممتثلا فيه أمر الله جل وعلا، هذا متفق عليه:
من قال بأنّ تارك الصلاة يكفر كسلا: قال العمل الصالح هذا هو الصلاة.
ومن قال تارك الصلاة لا يكفر من السلف: قال لابد من جنس العمل.
السلف اختلفوا في تارك الصلاة، من قال تارك الصلاة يكفر قال الصلاة هي جنس العمل؛ لابد أن يأتي بالصلاة، ومن قال لا تارك الصلاة لا يكفر تعاونا أو كسلا قالوا لابد من جنس العمل؛ لابد أن يعمل عملا صالحا(3) من أي وجه، يعني جنس العمل لابد منه.
السائل:...[هل يقصد به عمل القلب؟]
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 133)
(2) فتح المجيد [ جزء 1 - صفحة 35 ]
(3) في الأصل (صالح) والصواب ما أثبتناه.(1/156)
كيف!! لا... عمل القلب متفق عليه، عمل القلب متفق عليه، المقصود عمل الجوارح؛ يعني لابد من عمل الجوارح، هو هذا أي عمل صالح يمتثل فيه أمر الله جل وعلا)(1).
وقال أيضاً –حفظه الله-: (كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا ”العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به.“ نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط للإيمان(2)، فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي)(3).
وقال أيضاً: (الخامس: هو قول أهل الحديث والأثر وقول صحابة رسول الله (وهو أن الإيمان: اعتقاد -ومن الاعتقاد التصديق-، وقول باللسان وهو إعلان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعمل بالأركانـ وأنه يزيد وينقص.
__________
(1) جلسة خاصّة مع الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وهو[شريط مفرغ]، وللاستزادة الرجوع إلى مكتبة الشيخ في موقع روح الإسلام على شبكة الانترنيت.
(2) التكرار في الأصل.
(3) شرح لمعة الاعتقاد لابن قدامة.(1/157)
ويعنون بالعمل جنس العمل؛ يعني أن يكون عنده جنس طاعة وعمل لله جل وعلا، فالعمل عندهم الذي هو ركن الإيمان ليس شيئا واحدا إذا ذهب بعضه ذهب جميعه أو إذا وُجد بعضه وُجد جميعه؛ بل هذا العمل مركّب من أشياء كثيرة لابد من وجود جنس العمل، وهل هذا العمل الصلاة؟ أو هو أي عمل من الأعمال الصالحة من امتثال واجب طاعةً وترك المحرم طاعةً؟ هذا ثَم خلاف بين علماء الملة في هذه المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا أو كسلا.
الفرق ما بين مذهب أهل السنة والجماعة وما بين مذهب الخوارج والمعتزلة أنّ أولئك جعلوا ترك أي عمل واجب أو فعل أي عمل محرّم فإنه ينتفي عنه اسم الإيمان، وأهل السنة قالوا: العمل ركن وجزء من الماهية؛ لكن هذا العمل أبعاض ويتفاوت وأجزاء، إذا فات بعضه أو ذهب جزء منه فإنه لا يذهب كله. فيكون المراد من الاشتراط جنس العمل؛ يعني أن يوجد منه عمل صالح ظاهرا بأركانه وجوارحه، يدل على أن تصديقه الباطن وعمل القلب الباطن على أنه استسلم به ظاهرا، وهذا متصل بمسألة الإيمان والإسلام، فإنه لا يتصور بوجود إسلام ظاهر بلا إيمان، كما أنه لا يتصور وجود إيمان باطن بلا نوع استسلام لله جل وعلا للانقياد له بنوع طاعة ظاهرا)(1).
وقال أيضاً: (فيكون معنى: أشهد أن لا إله إلا الله: أعتقد وأتكلم، وأعلم، وأخبر: بأن لا إله إلا الله. فافترقتْ بذلك عن حال الاعتقاد، وافترقتْ كذلك عن حال القول، كما افترقت - أيضا - عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد لتحققها من حصول الثلاثة مجتمعة ؛ ولهذا نقول في الإيمان إنه: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان)(2).
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية.
(2) التمهيد لشرح كتاب التوحيد - (ج 1 / ص 86)(1/158)
وقال أيضاً: (القاعدة الرابعة في هذا الأمر المهم أنّ أهل السنة والجماعة تميزوا بأنهم في الإيمان يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان؛ يعني بآلات الإنسان، ببدن الإنسان، واعتقاد بالجنان، وليس الإيمان اعتقاد بدون عمل، أو قول واعتقاد بدون عمل، فلا بد من الثلاث، هذه حقيقة الإيمان وهي أركان الإيمان)(1).
وقال أيضاً: (س2/ هل تارك العمل بالكلية مسلم؛ تارك الأركان وتارك غيرها من الواجبات والمستحبات والأعمال الظاهرة بالجوارح ؟
ج/ الجواب: أن العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان؛ يعني أن الإيمان يقع على أشياء مجتمعة وهي الاعتقاد والقول والعمل، ولذلك من ترك جنس العمل فهو كافر؛ لأنه لا يصحّ إسلام ولا إيمان إلا بالإتيان بالعمل)(2).
وهناك نصوص أخرى لفضيلته ولكن نكتفي بهذه النصوص خشية الإطالة.
أجوبة أصحاب الفضيلة عن إشكالية
حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -
---
أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة -رحمه الله- 223هـ-311هـ
قال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة -رحمه الله- : ( هذه اللفظة "لم يعملوا خيرا قط" من الجنس الذي يقول العرب ينفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال لا على ما أوجب عليه وأمر به وقد بينت هذا المعنى في مواضع من كتبي)(3).
فضيلة الشيخ صالح بن الفوزان الفوزان –حفظه الله-
__________
(1) من محاضرة (بعض خصائص الفرقة الناجية؛ الطائفة المنصورة).
(2) نواقض الإيمان عند أهل السنة والجماعة وضوابط ذلك.
(3) كتاب التوحيد لأبن خزيمة –رحمه الله- (ص250-251) دار الحديث، خرج أحاديثه وعلق عليه عبدالله بن عامر.(1/159)
[سؤال: هناك بعض الأحاديث التي يستدل بها البعض على أن من ترك جميع الأعمال بالكلية فهو مؤمن ناقص الإيمان.. كحديث (لم يعملوا خيراً قط) وحديث البطاقة وغيرها من الأحاديث ؛ فكيف الجواب على ذلك ؟
الجواب:
هذا من الاستدلال بالمتشابه، هذه طريقة أهل الزيغ(1)
__________
(1) قال الحلبي في كتابه الرد البرهاني...ص169 : (ومن أعجب ما (سمعته)-أو قرأته!-(جواباً) على هذه الأحاديث، قول من قال: (هي من المتشابه)!! فأقول : من سبق بهذا القول من أهل العلم؟!).
قلت: فلا ادري هل الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان من أهل العلم عند الحلبي أو من طلاب العلم؟!، وكذلك سيأتي النقل عن فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ والشيخ عبد العزيز بن عبدالله الراجحي –حفظهما الله- وهما يصفان حديث الشفاعة بأنها من المتشابه ولا أدري هل هما من أهل العلم أو من طلبة العلم؟!(1/160)
الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } ، فيأخذون الأدلة المتشابهة ويتركون الأدلة المحكمة التي تفسرها وتبينها.. فلا بد من رد المتشابهة إلى المحكم، فيقال من ترك العمل لعذر شرعي ولم يتمكن منه حتى مات فهذا معذور(1)، وعليه تحمل هذه الأحاديث.. لأن هذا رجل نطق بالشهادتين معتقداً لهما مخلصاً لله عز وجل، ثم مات في الحال أو لم يتمكن من العمل، لكنه نطق بالشهادتين مع الإخلاص لله والتوحيد كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فقد حرم دمه وماله).. وقال: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، هذا لم يتمكن من العمل مع انه نطق بالشهادتين واعتقد معناهما وأخلص لله عز وجل، لكنه لم يبق أمامه فرصة للعمل حتى مات فهذا هو الذي يدخل الجنة بالشهادتين، وعليه يحمل حديث البطاقة وغيره مما جاء بمعناه، والذين يُخرجون من النار وهم لم يعملوا خيراً قط لأنهم لم يتمكنوا من العمل مع أنهم نطقوا بالشهادتين ودخلوا في الإسلام، هذا هو الجمع بين الأحاديث](2).أ.هـ.
فضيلة الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-
__________
(1) اعترض بعض الجهلة على هذا الكلام بأن صاحب العذر مرفوع عنه الإثم فضلاً عن مواقعة النار والعذاب، وهذا اعتراض من لم يفهم مراد العلماء، فإن هذا الكلام في خروج أولئك الأقوام من النار ودخولهم الجنة بغير عمل عملوه، وهذا هو المشكل، لمخالفته النصوص المحكمة وما أجمع عليه السلف، وليس كلامهم في دخول هؤلاء القوم النار، والذي كان بذنوب لا يجهلون حكمها) راجع براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة/ للشيخ محمد بن سعيد بن عبدالله الكثيري،ص314-315.
(2) الاجابات المهمة في المشاكل الملمة، ص112-113، لمعالي الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله-.(1/161)
قال فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله- جواباً عن سؤال في حديث الشفاعة: (... العلماء لهم فيها عدة أقوال ولعل الأقرب أنهم قوم يتمكنوا من العمل أو قوم أن سيئاتهم أذهبت حسناتهم في الميزان فصاروا لم يعملوا خيرا قط، يعني لم يعملوا خيرا قط يثابون عليه، لأن السيئات قابلت الحسنات. أو عليهم حقوق فأعطيت حسناتهم ما فيه عندهم خير، ما قدموا خيرا قط يخرجون به من النار.
والمشهور هو الأول أنه أناس لم يعملوا خيرا قط يعني لم يأتيهم الوسع، مثل الصحابي الذي دخل الجنة ما سجد لله سجدة أسلم وقتل.طبعا هم يذكرون حادثة الصحابي ونحوه لكن فيها نظر لأن أصل جهاده عمل، هل يقصد بالعمل هنا الأركان، الحديث هذا مع أحاديث البطاقة من الأحاديث المشكلة أو التي تحتاج إلى توجيه عند أهل السنة الذين يقولون أن العمل ركن واضح، والأقرب هو الذي ذكرت لك من الأوجه الثلاثة أنه يقال لم يعملوا خيرا قط ما تمكنوا، أسلم وما عمل وهذا يحصل كثيرا واحد يسلم ويموت.
لم يعملوا خيرا قط ينجون به من النار لأجل ذهاب الحسنات والسيئات لم يعملوا خيرا قط ينجون به من النار لأجل ذهاب حسناتهم إلى غيرهم لاعتدائهم وغيره وأشباهها.(1/162)
وهذه تنتبه لها دائما إذا صار عندك مشكل، عندك نصوص متشابهة، فالمتشابه تحمله على المحكم ترتاح، المحكم إيش؟ أن العمل ركن هذا أدلة عليه كثيرة جدا ما الذي نتركه من أجل الحديث يمكن أن يحمل على عدة أوجه ليس نصا في المسألة أن العمل ليس ركنا، هذا أتى كخبر آخر في بيان ما يحصل يوم القيامة، يخرجوا ولم يعملوا خيرا قط ليس معنى ذلك أن العمل ليس ركنا، إذا صار كذلك فيصير متشابه، يعني يحتاج إلى فهم فتوجهه إلى ما يوافق المحكمات، هذا صنيع شراح الحديث، العلماء إذا جاءوا يشرحون الحديث كيف هذا معناه كذا ويحمل على كذا ؟ لأن عنده أصل وعنده هذا، فإما أن يفسر هذا بظاهره إذا كان غير معارض هذه المحكمات، إذا كان فيه معارضة تجده يحمله على ما يوافق المحكم إذا كان متشابه. يعني كل عمل العلماء على هذا](1)أ.هـ.
وقال أيضاً في [شرح الواسطية]
[قال شيخ الإسلام بعد ذلك رحمه الله (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ) الله جل وعلا ثبت في الحديث أنه يقول " شفع الأنبياء وشفعت الملائكة وشفع وشفع وبقي أرحم الراحمين فيأخذ الله جل وعلا بقبضته من النار فيُخرج قوما لم يعملوا خيرا قط فيدخلهم الجنة " وهؤلاء الذين لم يعملوا خيرا قط من أهل العلم من استشكل معنى قوله " لم يعملوا خيرا قط " والظاهر أن معنى قوله " لم يعملوا خيرا قط " أنهم ليس لهم عمل إلا التوحيد، يعني عندهم أعمال كثيرة جدا لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في نجاتهم، لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في شفاعة الشفعاء لهم فيظلون لا عمل لهم يشفع في خروجهم من النار السريع ولا شفيع لهم شفع فالله جل وعلا أرحم بعباده المؤمنين فيأخذ هؤلاء ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته] أ.هـ.
__________
(1) في شرحه لأصول الإيمان (بدأ الشرح بتاريخ10/7/1417هـ وانتهى في يوم 29/12/1419هـ).(1/163)
قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي -حفظه الله- الأستاذ المشارك بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض بعد أن وجه إليه هذا السؤال..
سؤال/ هناك بعض الأحاديث التي يستدل بها البعض على أن من ترك جميع الأعمال بالكلية فهو مؤمن ناقص الإيمان كحديث (لم يعملوا خيراً قط) وحديث البطاقة وغيرها من الأحاديث ؛ فكيف الجواب على ذلك ؟
الجواب:[ليس في هذه الأحاديث حجة لهذا القائل فمن ترك جميع الأعمال بالكلية وزعم أنه يكتفي بما في قلبه من التصديق كما سبق فإنه لا يتحقق إيمانه إلا بالعمل، وأما أحاديث الشفاعة وأن المؤمنين الموحدين العصاة يشفع لهم الأنبياء والأفراط والشهداء والملائكة والمؤمنون وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته ؛ يخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط، قال العلماء: المعنى (لم يعملوا خيراً قط) أي زيادة على التوحيد والإيمان ولابد من هذا ؛ لأن النصوص يُضم بعضها إلى بعض وقد دلت النصوص على أن الجنة حرامٌ على المشركين وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر منادياً ينادي في بعض الغزوات: (أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) ولما أمّر أبا بكر في الحج في السنة التاسعة من الهجرة أرسل معه مؤذنين يؤذنون منهم أبو هريرة وغيره يؤذنون في الناس بأربع كلمات منها: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد فهو إلى عهده ومن لم يكن له عهد فهو إلى أربعة أشهر)) وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يدخل الجنة كافر قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) فهذه نصوص محكمة وهذا الحديث يُرد إليها والقاعدة عند أهل العلم: أن المتشابه يُرد إلى المحكم.(1/164)
ولا يتعلق بالنصوص المتشابهة إلا أهل الزيغ كما قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) وأما أهل الحق فإنهم يردون المتشابه إلى المحكم ويفسرونه به وهذا الحديث فيه اشتباه لكنه يرد إلى المحكم من النصوص الواضحة المحكمة في أن المشرك لا يدخل الجنة وأن الجنة حرام عليه.
فلا يمكن أن يكون معنى الحديث:((لم يعملوا خيراً قط)) أنهم مشركون وليس عندهم توحيد وإيمان وأنهم أخرجهم الله إلى الجنة فهذا لا يمكن أن يكون مراداً وإنما المراد ((لم يعملوا خيراً قط)) أي زيادة على التوحيد والإيمان وكذلك حديث البطاقة ليس فيه أنه مشرك وإنما فيه أنه موحِّد ففيه أنه: ((يؤتى برجل ويخرج له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر سيئات ويؤتى له ببطاقة فيها الشهادتان فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) ومعلوم أن كل مسلم له مثل هذه البطاقة وكثير منهم يدخلون النار، لكن هذا الرجل لما قال هاتين الشهادتين قالها عن إخلاص وصدق وتوبة فأحرقت هذه السيئات فثقلت البطاقة وطاشت السجلات](1).
قال الشيخ عبد العزيز ريس الريس-حفظه الله-
(أن الأحاديث التي فيها إخراج أناس من النار ولم يعملوا خيراً قط، كحديث أبي سعيد عند مسلم ونحوه لا يصح التمسك بها على عدم كفر تارك جنس عمل الجوارح لأمور أربعة:
أن عموم هذا الحديث تدخل فيه أعمال القلوب، فهل من قائل به أخذاً بهذا العموم ؟ فإن قيل بالإجماع خصص أعمال القلوب فكذلك يقال في جنس أعمال الجوارح.
__________
(1) أسئلة وأجوبة في الكفر والإيمان والكفر، ص26-29، لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله الراجحي -حفظه الله-.(1/165)
أن الاستدلال بهذا الحديث من باب الاستدلال بالأمور المحتملات، والاحتمال إذا توارد على دليل بطل الاستدلال به، وذلك أن الذين أخرجوا من النار بغير عمل قد يكونون من الأمم الماضية غير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ النار جامعة لعصاة أمة محمد وغيرهم، لا سيما وفي بعض الأحاديث كحديث أبي سعيد:" شفعت الملائكة والنبيون " وعليه فالاستدلال بهذا الحديث استدلال بأمر محتمل، ولا يصح لقائل أن يقول: الأمم والشرائع متفقة في المكفرات.
أن هناك أحاديث فيها نفي العمل مع ذكر بعض الأعمال في الحديث نفسه، كحديث أبي سعيد الخدري في الذي قتل مائة نفس، قالت ملائكة العذاب: لم يعمل خيراً قط " متفق عليه. مع وجود أعمال صالحة عملها كالهجرة، فصار النفي في هذه الأحاديث ليس نفياً للكل كما أفاده ابن خزيمة في كتاب التوحيد (2 / 732).
الاستدلال بهذا الحديث من الاستدلال بمورد النزاع، وذلك أن المكفر بترك جنس العمل وغير المكفر متفقان أن هذا الرجل لم يقع في أمر كفري ؛ إذ لو كان واقعاً في أمر كفري لما خرج من النار، فمن ثم المكفر بجنس العمل يقول: إنه لم يترك جنس العمل ؛ إذ لو كان تاركاً له لما خرج من النار، والمخالف يقول: بلى هو تارك ومع ذلك خرج من النار لأن ترك جنس العمل ليس كفراً.
فلاحظ -أيها القارئ الكريم- أن الاستدلال بهذا الدليل استدلال بمورد النزاع إذ كل منهما محتاج لأدلة خارجية في تقرير قوله وبيان هل هو كفر أم لا؟)(1)..أ.هـ.
وأخيراً حقق فضيلة الشيخ المحدث فوزي بن عبدالله الأثري-حفظه الله-، حديث الشفعاعة وحكم عليه بالشذوذ !!!، في رسالته (القناعة في تبيين شذوذ زيادة (لم يعملوا خيراً قط) في حديث الشفاعة).
ومما سبق نستخلص النقاط التالية:
__________
(1) الإمام الألباني وموقفه من الإرجاء، ص7.(1/166)
أن لفظة (لم يعملوا خيراً قط) في حديث الشفاعة شاذة(1).
إن صحت هذه الزيادة لا تدل على أن الذين يخرجون من النار لم يعملوا خيراً قط من أعمال الجوارح –أي انتفى في حقهم جنس العمل- للأمور التالية:
إن هذه اللفظة قد يكون المراد منها انتفاء الكمال لا انتفاء الجنس كما ذكر ذلك أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل). وهذه اللفظة قد وردت في حديث الرجل الذي قتل مئة نفس والرجل عنده أعظم عمل جارحة ألا وهو (الهجرة من بلد المعاصي إلى بلد الطاعات) كما ذكر ذلك الشيخ عبد العزيز الريس في رسالته (الإمام الألباني وموقفه من الإرجاء).
إن هذه اللفظة قد تكون للذين أفلسوا في عرصات يوم القيامة لأن عليهم حقوقاً ففنيت حسناتهم فدخلوا النار وليس عندهم خيرٌ قط، (هذا إذا أخذنا الحديث على ظاهره، فتنبه)!!! كما ذكر ذلك الشيخ صالح آل الشيخ –حفظه الله- في شرحه لأصول الإيمان.
إن هذه اللفظة قد تحمل على أنهم لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في نجاتهم، لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في شفاعة الشفعاء لهم فيظلون لا عمل لهم منجي لهم من الدخول في النار، كما ذكر ذلك الشيخ صالح آل الشيخ –حفظه الله- في شرحه للعقيدة الواسطية.
إن مرجئة العصر إذا سألتهم هل هؤلاء الذين لم يعملوا خيرا قط عندهم أعمال القلوب يقولون (نعم) فنقول كيف حكمتم بوجود أعمال القلوب والحديث لم يتطرق لذكر أعمال القلوب؟! فما كان جوابهم فهو جوابنا على عمل الجوارح.
__________
(1) راجع كتاب (القناعة في تبيين شذوذ زيادة (لم يعملوا خيراً قط) في حديث الشفاعة لفضيلة الشيخ المحدث /فوزي الأثري -حفظه الله-.(1/167)
فبعد الاحتمالات السابقة التي وردت نقول إن هناك قاعدة عند أهل السنة وهي (إذا ورد على الدليل احتمال بطل الاستدلال به) هذه إذا كان احتمالاً واحداً فما بالك إذا كان عدد من الاحتمالات بل فما بالك إذا كان هذا الدليل يعارض الإجماع الذي عليه السلف ويعارض أصل هذا الدين(1).
ومما سبق يتبين أن هذا الحديث من الأحاديث المتشابهة لأنها تعارض الآيات والأحاديث المحكمة التي فيها أن دخول الجنة لا يكون إلا بالعمل، لذا لا بد من رد المتشابهة إلى المحكم، كما ذكر ذلك فضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان والشيخ عبد العزيز الراجحي والشيخ صالح آل الشيخ -حفظهم الله-(2).
ومن شبه المرجئة أيضاً الأحاديث التي فيها أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة أو من قال لا إله إلا الله عصم دمه وماله وحسابه على الله، أو حديث البطاقة!!!.
__________
(1) وللاستزادة الرجوع إلى كتاب (رفع اللائمة عن فتوى اللجنة الدائمة)ص29، لكاتبه محمد بن سالم الدوسري وفيه تفصيل مهم لفضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن آل سعد، وكتاب (الخلاف في حكم تارك الصلاة)/للدكتور عبدالله بن إبراهيم الزاحم، ص210-245،دار الفضيلة. وكتاب التبيان لعلاقة العمل بمسمى الإيمان /لأبي معاوية علي بن أحمد بن سوف، ص199-194، دار العلوم والحكم، وكتاب براءة أهل الحديث والسنة من بدعة المرجئة / للشيخ محمد بن سعيد بن عبدالله الكثيري، دار المحدث، ص307، وكتاب قواعد في بيان حقيقة الايمان عند اهل السنة والجماعة /لكاتبه عادل بن محمد الشيخاني، ص190-259،أضواء السلف.
(2) ذكرنا سابقاً أن الحلبي قال في كتابه الرد البرهاني...ص169 : (ومن أعجب ما (سمعته)-أو قرأته!-(جواباً) على هذه الأحاديث، قول من قال: (هي من المتشابه)!! فأقول : من سبق بهذا القول من أهل العلم؟!).
قلت:فهل الحلبي يعتبر هؤلاء الذين حكموا على حديث الشفاعة بأنها من المتشابهات من أهل العلم؟!.(1/168)
يجيب عن ذلك الامام الشوكاني –رحمه الله- فيقول (وأقول قد أطبق أئمة المسلمين من السلف والخلف والأشعرية والمعتزلة وغيرهم أن الأحاديث الواردة بأن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة مقيدة بعدم الإخلال بما أوجب الله من سائر الفرائض وعدم فعل كبيرة من الكبائر التي لم يتب فاعلها عنها وأن مجرد الشهادة لا يكون موجبا لدخول الجنة فلا يكون حجة على المطلوب)(1).
وأمر آخر وهو أن لشهادة لا إله إلا الله سبعة شروط وقد يجعلها بعض العلماء ثمانية وهي: العلم، اليقين، الاخلاص، الصدق، المحبة، الانقياد، القبول، الكفر بالطاغوت، وجمعت في أبيات شعرية:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع
وزيد ثامنها الكفران منك بما ... محبة وانقياد والقبول بها
دون الإله من الأوثان قد ألها
__________
(1) نيل الأوطار (1/376).(1/169)
فالشرط السادس هو (الانقياد بحقوقها –وهي الأعمال الواجبة- إخلاصاً لله وطلباً لمرضاته)(1)، وبعبارة أخرى (الانقياد :وهو الاستسلام لله ورسوله ظاهراً، وذلك بالعمل بالمأمور، وترك المحظور، قال الله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت : 30] وضده الترك. أي هجر العمل بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور : 63]... فالفرق بين الانقياد، والقبول: أن الانقياد فعل الجوارح، والقبول فعل القلب)(2).
ولذلك فإن انتفاء شرط من شروط لا إله إلا الله انتفاء للمشروط.
وأخيراً نقول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 37]
وقفة مع كتاب التبيان في تأصيل مسائل الكفر والإيمان
قبل البدء في مناقشة هذا الكتاب وما حواه من مسائل مخالفة للأصول ومعتقد أهل السنة والجماعة، أود أن أبين بشكل مجمل موضوع الكتاب، فكتاب التبيان في تأصيل مسائل الكفر والإيمان بقلم الكاتب أبي عبدالله فتحي بن عبدالله الموصلي، قدم لهذا الكتاب الشيخ عبدالله بن صالح العبيلان، وهو عبارة عن دراسة لمسائل الإيمان والكفر من كتب العلامة عبد الرحمن السعدي –رحمه الله-.
__________
(1) الواجبات المتحتمات المعرفة على كل مسلم ومسلمة/ للشيخ الإسلام الإمام المجدد قامع الشرك والبدعة محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته-.
(2) المدخل لدراسة العقيدة الاسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة/ للدكتور إبراهيم بن محمد البريكان ص127-128.(1/170)
ولكن هل أصاب الكاتب في طرح القضية العلمية ومذهب وعقيدة الشيخ السعدي –رحمه الله- في هذه المسائل؟!.
نقول:... لا...
أخطأ صاحب كتاب (التبيان..)، ووقع كما وقع غيره في الإرجاء شعر أم لم يشعر بإثبات إيمان تارك أعمال الجوارح بالكلية، ووقع في تناقضات، سنبينها- إن شاء الله- لكي نعلم من أين أُتيَّ صاحب الكتاب، وأين نقطة الخلل الذي أخطأ فيها صاحب الكتاب ومن الله التوفيق.
سنركز في بحثنا هذا على المبحث الخامس من الفصل الثاني للكتاب لأنه المبحث الخاص في إثبات إيمان تارك العمل بالكلية –جنس العمل-،وقد تناقض المؤلف في مواضع كثيرة عندما تكلم عن علاقة العمل -الظاهر- بالإيمان -الباطن- وأدت تناقضاته إلى تحميل كلام شيخ الإسلام ما لا يحتمل، وأكاد أظن ظناً جازماً أن الكاتب لم يؤلف الكتاب إلا من أجل هذا المبحث بل أنها أس الكتاب وأصله.
قال الكاتب -سدده الله- في المطلب الأول ص119: (والناظر-بعين البصيرة- في أدلة الكتاب والسنة، وأقوال علماء الطائفة المنصورة الظاهرة يعلم ارتباط الظاهر بالإيمان، وأهميته، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: العمل الظاهر جزء من الإيمان وداخل فيه:...)
أقول وبالله التوفيق: أما قوله: العمل الظاهر جزء من الإيمان وداخل فيه، فهذا كلام حق وهو قول علماء الطائفة المنصورة وقد نقل إجماعهم غير واحد على أن العمل جزء من الإيمان.(1/171)
قال الإمام الآجري -رحمه الله-: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو التصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ثم اعلموا رحمنا الله وإياكم أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب وهو التصديق إلا أن يكون معه إيمان باللسان، وحتى يكون معه نطق، ولا تجزئ معرفة بالقلب والنطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا وحقا، دل على ذلك الكتاب، والسنة، وقول علماء المسلمين.......إلى أن قال.......فالأعمال بالجوارح تصديق على الإيمان بالقلب واللسان فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه مثل(1) الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وأشباه لهذه، ومن رضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل لم يكن مؤمنا، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العلم بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، فاعلم ذلك هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)(2).
قال الشافعي -رحمه الله-: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر)(3).
وقال الإمام البغوي -رحمه الله-: (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان)(4).
__________
(1) يرجى الانتباه إلى الأمثلة، وأنها من الأعمال الظاهرة فقط.
(2) الأربعون حديثا للآجري - (ج 1 / ص 13).
(3) شرح أصول الاعتقاد للالكائي (5/886)، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (7/208)، وهذا كلام الإمام الشافعي –رحمه الله-.
(4) شرح السنة (1/38).(1/172)
قال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله-: (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل)(1).
للاستزادة مراجعة فصل أقوال العلماء في حكم تارك العمل بالكلية.
وقال في نفس الصفحة (الوجه الثاني: أعمال الجوارح من ثمرات الإيمان ولوازمه:...).
أقول: أعمال الجوارح ليست من ثمرات الإيمان، فهذا هو عين ما تقول به المرجئة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (فان المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضى ذلك والطاعة من ثمراته ونتائجه لكنها تنازع هل يستلزم الطاعة)(2).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (وقول القائل الطاعات ثمرات التصديق الباطن يراد به شيئان يراد به أنها لوازم له فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت وهذا مذهب السلف وأهل السنة ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببا وقد يكون الإيمان الباطن تاما كاملا وهى لم توجد وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم)(3).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (والتفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة
أحدها: الأعمال الظاهرة فإن الناس يتفاضلون فيها وتزيد وتنقص وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه فأدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه أي زيادة ثمراته ونقصانها فيقال قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر)(4).
__________
(1) التمهيد (9/238).
(2) مجموع الفتاوى (7/50).
(3) مجموع الفتاوى (7/363).
(4) مجموع الفتاوى (7/562).(1/173)
وقال أيضاً -رحمه الله-: (ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة وما على الجوارح ليس داخلا في مسماه ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه حتى آل الأمر بغلاتهم كجهم وأتباعه إلى أن قالوا يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر مع قدرته على إظهارها فيكون الذي في القلب إيمانا نافعا له في الآخرة)(1).
أما مصطلح أن عمل الجوارح من لوازم الإيمان فهذا أيضاً نحتاج فيها إلى الاستفصال فمن العلماء من أنكر هذه اللفظة لأن اللفظ يوهم أن عمل الجوارح شيء والإيمان الباطن شيء آخر.
قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-: (وإذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة بالقول والعمل والاعتقاد كأركان ثلاثة وليست لوازم، فإن من انتفى في حقه الاعتقاد فهو كافر؛ لأنه ذهب ركن الإيمان إلا على هذه جميعا، ومن انتفى في حقه القول فهو كافر، ومن انتفى في حقه جنس العمل فهو كافر، وهذا معنى أهل السنة والجماعة الإيمان قول وعمل واعتقاد)(2).
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبدالله الراجحي -حفظه الله-: (فالعمل جزء من أجزاء الإيمان الأربعة، فلا يقال: العمل شرط كمال أو أنه لازم له فإن هذه أقوال المرجئة، ولا نعلم لأهل السنة قولا بأن العمل شرط كمال)(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/644).
(2) من محاضرة بعنوان (الإيمان) وهو شريط مفرغ.
(3) أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر - (ص 7) /لفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي -حفظه الله-(1/174)
فهذه الألفاظ توهم أن أعمال الجوارح شيء منفصل عن الإيمان وهذا باطل قطعاً فإن الأعمال جزء لا يتجزأ عن الإيمان ولذلك كان من أقوى شبه المرجئة أنك إذا قلت أن عمل الجوارح لازم للإيمان متى انتفت انتفى الإيمان قالوا هذا دليل على أنهما شيئان منفصلان -أي عمل الجوارح والإيمان الباطن- قال شيخ الإسلام -رحمه الله- (فإذا قال القائل هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور(1) لا يدل على أنها من الإيمان(2) قيل هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافى الكفر بدون أمور ظاهرة لا قول ولا عمل وهو المطلوب وذلك تصديق وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور)(3).
__________
(1) المقصود بالأمور الأعمال الظاهرة المذكور في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] [الأنفال:2- 4]، راجع مجموع الفتاوى (7/645).
(2) وذلك أن مراد المرجئة ان العمل الظاهر والإيمان الباطن شيئان منفصلان بدليل أنك تقول لهم انتفاء هذا الشيء –العمل- دليل على انتفاء هذا الشيء –الإيمان-.
(3) مجموع الفتاوى (7/645).(1/175)
فالمرجئة كأنهم يريدون نصرة مذهبهم الخبيث في أن عمل الجوارح شيء والإيمان شيء آخر، فكما ذكروا أن الله فرق في القرآن بين الإيمان والعمل فكذلك الأمر هنا، فكأنهم يشيرون إلى أن انتفاء عمل الجوارح يؤدي إلى انتفاء الإيمان الباطن، وهذه هي غايتهم،ولذلك أجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- عن هذه الحجة الشيطانية فقال: (قيل هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافى الكفر بدون أمور ظاهرة لا قول ولا عمل وهو المطلوب).
أي أنه متى انتفى الأعمال الظاهرة كان انتفاء الإيمان وليس في الأمر تراخي كما تقول المرجئة أو أنهما شيئان منفصلان.
وقال الكاتب في ص121: (ومن منشأ الغلط في هذه الأمور جهل البعض بأوجه التلازم بين الأمور الباطنة والظاهرة،لذا لزم التذكير باعتبارين مهمين:
الأول:أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه).
أقول: ذكر المؤلف أن منشأ الغلط في أمور الإيمان الجهل بأوجه التلازم بين الباطن والظاهر، وقد وقع هو في هذا الجهل حينما أثبت أنه ليس هناك تلازم بين الظاهر والباطن إلا في حدود ضيقة ذكرها في ثلاث صور سنذكرها ونرد عليها إن شاء الله بالتفصيل حينما يأتي دورها، ولكن أقول: الذي يتكلم في مسائل العقيدة وهو لم ترسخ قدمه فيها يؤدي به الأمر إلى تناقضات كما سنبينها إن شاء الله !!!
أما الاعتبار الأول الذي ذكره الكاتب أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، فهذا كلام حق وهذا ما يقوله أهل السنة أنه ما دام في القلب إيمان فلابد أن يظهر على الجوارح بحسبه.
وهذا هو عين ما قرره شيخ الإسلام أن الإيمان الذي في القلب مهما كان ضعيفاً لا بد أن يظهر أثره على الجوارح.(1/176)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه كقوله تعالى { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين... } )(1)
وقال أيضاً: (مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ)(2)
وقال أيضاً: (وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات ويترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله والإيمان يزيد وينقص ويجتمع في العبد إيمان ونفاق...)(3).
ولكن هذا يناقض قول الكاتب عندما يثبت وجود إيمان بدون عمل ظاهر كما سيأتي ولا أدري لماذا يأتي الكاتب بهذه القاعدة وينقضها بعد صفحات؟!..فلست أقول لأجل التلبيس على الجهال! بل لعدم معرفته بحقيقة مذهب السلف في الإيمان!.
فعلينا الرجوع إلى أقوال السلف في الإيمان وأن لا تأخذنا هذه الأقوال المحدثة إلى أن نناقض أنفسنا وأن نجمع بين الضدين (قول وعمل ويمكن أن يكون بدون عمل).
ثم يأتي الكاتب ص124 ويقول تحت عنوان المطلب الثاني: الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم: (والمقصود أنه لا بد من فهم سليم وضابط دقيق لهذا الاستدلال، حتى تتحقق دلالته، وتأتلف أنواعه، وإلا فإطلاق القول فيه من غير دراية بحقيقته، ذريعة للاشتباه والنزاع، لهذا صار الكلام في هذا الاستدلال من وجوه أهمها:)
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/221).
(2) مجموع الفتاوى (2/345).
(3) مجموع الفتاوى (7/616).(1/177)
أقول: الفهم الدقيق والسليم الذي يريده الكاتب هو إن انتفاء اللازم -العمل الظاهر- لا يدل على انتفاء الملزوم-الإيمان الباطن-، فالذي يريده الكاتب أن تناقض نفسك في فهم النصوص فتقول: (انتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم) ثم تقول (انتفاء اللازم ليس دليلاً على انتفاء الملزوم)، يريد الكاتب أن تقول الإيمان قول وعمل واعتقاد ثم تأتي وتقول وإذا ترك الانسان ركن العمل –أي عمل الجوارح- فهو باق على ايمانه(1)، يريد الكاتب أن تقول (عمل الجوارح من الإيمان)، وبيان أنه لا يلزم من ذلك أن (ترك عمل الجوارح غير مبطل للإيمان)!! (2)، والذي يريد أن يجمع بين هذه الأمور فهو كمن يجمع بين الضب والنون وبين الظلمات والنور، نسأل الله الثبات على الحق.
__________
(1) قال الحلبي في كتابه (الرد البرهاني...) صفحة (193)
((فإننا نقول:أركان الإيمان (ثلاثة) قول واعتقاد وعمل، ثم نحن لا نكفر بترك ركن العمل –أي: عمل الجوارح-!!))
(2) قال الحلبي في كتابه (التنبيهات...) صفحة (110-111):
[...ثم انتقد المسود كتاب ((التعريف والتنبئة..)) مدعيا أن فيه ((من الغلط في مسائل الإيمان...إخراج العمل عن الإيمان، وأن الإيمان يبقى مع ترك جنس العمل))!...إلى أن قال...ولعل (المسود)- لجهله، أو تجاهله!-لم يفرق- أو لم يستوعب!-بين: كون (عمل الجوارح من الإيمان)، وبيان أنه لا يلزم من ذلك أن (ترك عمل الجوارح غير مبطل للإيمان)!!(1/178)
وهذه من صفات المبتدعة في أنهم يتناقضون في ما هُم به قائلون، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- (وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ للجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ ؛ بَلْ وَلِلْمُرْجِئَةِ أَيْضًا ؛ لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ)(1).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (ومعلوم أن الاعتقادات المتناقضة لاتكون معتقداتها فى الخارج لكن فى نفس المعتقد ولهذا يأمرون بالتصديق بين النقيضين والضدين ويجعلون هذا من أصول طريقهم وتحقيقهم ومعلوم أن النقيضين لايجتمعان فى الخارج لكن يمكن اعتقاد اجتماعهما فيكون ذلك حقا فى نفس المعتقد...)(2).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة بل وهم أيضا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه ولهذا يتناقضون كثيرا في قولهم وإنما ينتحلون شيئا ويقولونه أو يتبعونه...)(3).
وقال أيضاً -رحمه الله-:(فيجب أن يعلم أن الحق لا ينقض بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضا، بخلاف الباطل فإنه مختلف متناقض)(4).
ثم قام الكاتب ص124-125 بتبيين العلاقات ما بين العمل الظاهر والإيمان الباطن فقال:
(العمل الظاهر لازم للباطن من وجه: أي انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم.
وملزوم للباطن من وجه آخر، أي ثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم.
وهو دليل على الباطن من جهة كونه ملزوماً، لا من جهة كونه لازماً.)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية - (7 / 314)
(2) مجموع الفتاوى (2/98).
(3) مجموع الفتاوى (2/138).
(4) الجواب الصحيح (4/395).(1/179)
أقول: هذا الكلام حق لا اختلاف فيه فقد ذكر هذه العلاقات شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى(1)، ولكن هل الكاتب أصاب في فهم هذه العلاقات؟!.
نقول: لا.. الكاتب أخطأ وتناقض بل النقطة الأساسية لتناقضه هو عدم تفريقه بين انتفاء الأعمال ووجودها، (وهذا شأن أهل الباطل وإنما يسوون بين ما فرق الشرع والعقل والفطرة بينه ويفرقون بين ما سوى الله ورسوله بينه)(2).
لذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (ومن أوتى العلم بالفصل بين هذا وهذا، لم يشتبه عليه الحق بالباطل، والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد، وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء ويفترقان في شيء فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه فلهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه والقياس الفاسد لا ينضبط كما قال الإمام أحمد أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس فالتأويل في الأدلة السمعية والقياس في الأدلة العقلية وهو كما قال والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة)(3).أ.هـ.
والسبب في هذا التناقض في فهم كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-، أو كلام أي عالم هو أن يعتقد ثم يستدل فهذا أصل الضلال، فإن الاعتقاد الباطل يجر صاحبه إلى تحريف الأدلة والأقوال ليقوي به باطله.
__________
(1) مجموع الفتاوى (18/273) (ولهذا كان الظاهر لازما للباطن من وجه وملزوما له من وجه وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما فإن الدليل ملزوم المدلول يلزم من وجود الدليل ووجود المدلول ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه والدليل يطرد ولا ينعكس بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس). وسيأتي تفصيل ذلك.
(2) شفاء العليل(1/27).
(3) مجموع الفتاوى (3/62-63).(1/180)
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-: (وسبب مثل هذه التأويلات الخاطئة ما يتصف به كثير من الناس، وهو أن يعتقد ثم يستدل، فإذا اعتقد الإنسان ثم استدل حمله اعتقاده على تحريف الكلم عن مواضعه، لكن لو بقي مع النصوص كالميت بين يدي الغاسل ليس له إرادة إطلاقاً، وقال: أنا أمشي خلف النصوص ولا أجعلها تمشي خلفي، فحينئذ يكون استدلالاته في الغالب معصوماً)(1).أ.هـ.
وقبل أن نبين تناقض الكاتب يجب أن نبين الفهم الصحيح لهذه العلاقات وإن أدنى خلل في فهم هذه العلاقات يؤدي إلى التخبط والتناقض، كما حدث لهذا الكاتب وأمثاله، وكل هذا لأنهم لم يأخذوا العلم الشرعي عن العلماء الربانيين والمشايخ المعتبرين، الأمر الذي أدى إلى عدم الأخذ بأقوالهم ولا يرفعون بها رأسا، بل بضاعة العلماء في أسواق هؤلاء مزجاة قال الشاعر:
وبضاعة العلماء من فرط العمى … …والجهل ملقاة بسوق كساد
بل أدى الأمر إلى أن يرمي بعضهم العلماء بأسمج الصفات من جهل،وخلل في المنهج، وغفلة عن الحق، وانتصار للنفس، ولا حول ولا قوة إلا بالله..... نقول:
فما على البحر من كلب به ولغا……ولا على البدر من عاو عوى ولغا
نعود للعلاقات التي ذكرها الكاتب-هداه الله- فقد قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18/273) (ولهذا كان الظاهر لازما للباطن من وجه وملزوما له من وجه وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما فإن الدليل ملزوم المدلول يلزم من وجود الدليل وجود المدلول ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه والدليل يطرد ولا ينعكس بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس).
فقد قسم شيخ الإسلام العلاقة بين الظاهر والباطن إلى ثلاثة أقسام، نبينها على شكل مخطط ليسهل فهم هذه العلاقات:
__________
(1) شرح كتاب السياسة الشرعية /لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-، ص226-227.(1/181)
فالعلاقة الأولى كما في المخطط الأول: إن العمل الظاهر لازم للباطن، وانتفاءه دليل على انتفاء الباطن، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- حيث قال (فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم)(1).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن)(2).
وقال العالم الرباني ابن القيم الجوزية -رحمه الله- (فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته)(3).
فالفهم الصحيح أن انتفاء الظاهر دليل على انتفاء الباطن بخلاف العكس فوجود الظاهر لا يدل إلا إذا كان ملزوماً.
لان (الأعمال الظاهرة تكون من موجب الإيمان تارة وموجب غيره أخرى كالتكلم بالشهادتين تارة يكون من موجب إيمان القلب وتارة يكون تقية كإيمان المنافقين)(4).
ولذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس)(5).
فشيخ الإسلام يحكم بانتفاء الباطن عند انتفاء الظاهر ويجعله دليلاً، بخلاف وجود الظاهر فلا يكون دليلاً إلا إذا كان ملزوماً.
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/294)
(2) مجموع الفتاوى(7/553)
(3) الفوائد (ص162).
(4) مجموع الفتاوى (7/581).
(5) مجموع الفتاوى (7/9).(1/182)
وهنا لا بد أن نشير إلى أمر مهم جداً وهو التفريق بين ترك العمل ووجوده، فالعلاقات الثلاث التي بيناها في المخطط الأول والثاني متعلقة بالأمر الثاني ألا وهو وجود العمل وأن العلاقة الأولى متعلقة بأحكام الدنيا من حيث الحكم على الشخص بالكفر عند الإعراض عن العمل بالكلية،أو الحكم عليه بالإسلام ظاهراً(1)، أما العلاقتان الثانية والثالثة –كما في المخطط رقم (2)- فإنهما متعلقتان بالأحكام الأخروية، ولا دخل للإنسان في الحكم على الشخص بأنه مؤمن!، وإنما ذكر ذلك شيخ الإسلام ليبين أنه ليس كل من ظهر منه عمل صالح يحكم له بالإيمان إلا إذا كان العمل الظاهر الصالح ملزوماً، وهذا أمر لا يعلمه إلا الله ولا سبيل لمعرفته، إلا عن طريق الوحي، ولذلك جاء في القرآن والأحاديث النبوية ببشارة بعض الناس من هذه الأمة وغيرها بأنهم يموتون على الإيمان، وجاء أيضاً بالحكم على بعض الأشخاص بالنفاق والكفر وأنهم يموتون عليها والعياذ بالله.
فعدم التفريق بين انتفاء الشيء ووجوده يؤدي إلى الخروج في النهاية بنتائج مغلوطة وبعيدة عن الحق وبالتالي إلى موافقة أهل البدع والأهواء في باطلهم كما حدث لهذا الكاتب من تخبطات حينما ذكر ص128(الأصل –في أحكام الدنيا- أن العمل الظاهر دليل ظني وليس قطعياً على الباطن:)، ويريد بهذا أن العمل الظاهر لا يدل على الباطن –وهذا حق- لكن الكاتب يخلط بين وجود العمل الظاهر وانتفاءه ويجعلهما شيئاً واحداً -وهذا باطل كما تقدم- مما أدى إلى التوصل إلى نتائج باطلة في أن تارك العمل بالكلية لا ينتفي عنده الإيمان(2)، وبهذه النتائج يكون الكاتب قد وافق المرجئة بل الجهمية الغلاة كما سيأتي.
__________
(1) لأنه كما ذكرنا أن وجود العمل الظاهر متوقف على شيء آخر عند المنافقين ألا وهو خوف السبي والقتل، فلا يكون دليلاً.
(2) إلا في ثلاث صور، صورتان متفق عليهما، وفي صورة ثالثة مختلف فيها، ذكره الكاتب وسنناقش هذه الصور لاحقاً.(1/183)
فالعلاقتان الثانية والثالثة-كما في المخطط رقم (2)- متعلقة بأحكام الآخرة فقط!!، ولا دخل لهذين العلاقتين بأحكام الدنيا، فجعل العمل الظاهر ملزوماً -العلاقة الثانية- يعني الحكم على القلب بثبوت الإيمان فيه ومعلومٌ أن وجود الملزوم بدون اللازم أمرٌ ممتنعٌ محالٌ غيرُ متصور لذلك كان الحكم قطعياً على ثبوت الإيمان واستقراره ورسوخه في القلب وهذا كما ذكرنا أمرٌ غيبي لا يطلع عليه إلا الله.
أما العلاقة الثالثة –عندما يكون الظاهر دليلاً- فهي فرع من العلاقة الثانية- عندما يكون الظاهر ملزوماً- فلا يكون العمل الظاهر دليلاً على الباطن إلا إذا كان ملزوماً، وأما إذا كان وجود المدلول مستلزماً لوجود الدليل، فعند ذلك يمكن الاستدلال بانعدام المدلول بانتفاء الدليل، ولا يلزم من وجود الدليل وجود المدلول إذ قد يكون وجود الدليل متوقف على شيء آخر، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وضرب مثال المؤمن والمنافق.
فالدليل يجب فيه الطرد لا العكس، بمعنى أنه يلزم من وجوده الوجود، ولا يلزم من عدمه العدم، أي عدم المدلول، ولكن! (يستثنى من هذه القاعدة -كما ذكرنا- ما إذا كان وجود المدلول عليه مستلزماً لوجود الدليل وقد علم عدم الدليل ، فيقع العلم بعدم المدلول عليه المستلزم لدليله، لأن عدم اللازم دليل على عدم الملزوم، مثاله:
قد ثبت توافر الدواعي على نقل كتاب الله (تعالى) ودينه، فإنه ل يجوز الأمة كتمان ما يحتاج الناس إلى نقله فلما لم يُنْقل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم نقلاً عاماً ، علماً يقيناً عدم ذلك، نحو سورة زائدة، أو صلاة سادسة ونحو ذلك.(1/184)
وكذلك كا تتوافر الهمم على نقله، يدل عدم نقله على عدم وقوعه كالأمور العظام، كموت مَلِك، وتبدل مُلك، وبناء مدينة ظاهرة، وحدوث حادث عظيم في المسجد أو البلد أو نحو ذلك مما يشترك الناس فيه وفي نقله إذا وقع، فإذا لم ينقل نقلاً عاماً بل نقله واحد عُلِم أنه كذب)(1)
ومن هنا نعلم أن التخبطات تأتي من عدم فهم العلاقات ومدلولاتها ولذلك سنأتي بمثالين يوضحان الكلام السابق ويقربان الصورة لكي لا يقع اللبس، ومن الله التوفيق.
هب أن رجلا أتى إليك وقال لك ما الدليل على أنه لا يوجد هناك مدينة عظيمة في وسط صحراء الجزيرة العربية؟.
تقول له الدليل أنه لا دليل، فإن انتفاء الدليل دليل على انتفاء المدلول، ولأنه لو كانت هناك مدينة في هذه المنطقة لتوفرت الهمم والدواعي لنقلها إذ يلزم من وجودها، تناقل الأخبار عنها عند الناس، فلو نقل هذا الكلام رجل واحد أو رجلان، لكان هذا دليلاً على كذبهم.
__________
(1) منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد (2/706-707) / د. عثمان علي حسن.(1/185)
المثال الثاني: لو أن رجلاً جاء إليك وقال لك ما الدليل على أن كفار قريش في عصر النبوة لم يأتوا بشيء يشبه القرآن عندما تحداهم الله سبحانه وتعالى في كتابه(1).
يكون الجواب إن الدليل أنه لا دليل،فإن انتفاء الدليل دليل على انتفاء المدلول، لأنه يلزم من وجود المعارض للقرآن أن ينقل [كما نقل قرآن مسليمة الكذاب وكما نقلوا الفصول والغايات لأبي العلاء المعري وكما نقلوا غير ذلك من أقوال المعارضين ولو بخرافات لا يظن عاقل أنها مثله فكان النقل لما تظهر فيه المشابهة والمماثلة أقوى في العادة والطباع في ذلك وأرغب سواء كانوا محبين أو مبغضين هذا أمر جبل عليه بنوا آدم](2).
فيمكن عمل مقارنة بالجدول الآتي بين العمل الظاهر والإيمان الباطن وبين المثالين السابقين لتتوضح المسألة أكثر:
العمل الظاهر ... الإيمان الباطن ... وجود خبر المدينة ... وجود المدينة ... وجود خبر معارض للقرآن ... وجود المعارض
__________
(1) قال تعالى: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88]، وقال تعالى { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 23]، وقال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [هود: 13]، فلما عجزوا أن يأتوا بمثل القرآن، تحداهم أن يأتوا بعشر بسورة، فلما عجزوا أيضاً تحداهم أن يأتوا بآية. وبعدما تبين عجزهم أيضاً، كان ذلك دليلاً على أنها من عند الله. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [يوسف: 21].
(2) سيأتي المصدر قريباً.(1/186)
انتفاء العمل الظاهر (لازم) ... انتفاء الباطن (ملزوم)(1) ... انتفاء الخبر (لازم) ... انتفاء المدينة (ملزوم)(1) ... انتفاء خبر المعارض (لازم) ... انتفاء المعارض (ملزوم)(1)
إذا كان الظاهر(2) -ملزوماً- ... ثبوت الإيمان ورسوخه في القلب (لازم) ... إذا كان الخبر ملزوماً(2) ... يعني أن الخبر المنقول صحيح وثابت. ... إذا كان خبر المعارض ملزوماً(2) ... يعني أن خبر المعارض صحيح وثابت.
العمل الظاهر دليل على الإيمان الباطن عندما يكون ملزوماً ... المدلول موجود وهو الإيمان الباطن لأننا جعلنا الدليل ملزوماً ووجود الملزوم بدون اللازم أمر ممتنع ... وجود خبر المدينة دليل على وجود المدينة عندما يكون ملزوماً ... المدلول موجود وهو المدينة لأننا جعلنا الدليل ملزوماً ووجود الملزوم بدون اللازم أمر ممتنع ... وجود خبر المعارض دليل على وجود المدينة عندما يكون ملزوماً ... المدلول موجود وهو المدينة لأننا جعلنا الدليل ملزوماً ووجود الملزوم بدون اللازم أمر ممتنع
__________
(1) وهو دليل أيضاً.
(2) كما أن الظاهر متوقف وجوده على شيء آخر، فكذلك نقل الخبر فقد يكون صحيحاً ثابتاً وقد يكون كذباً وضعيفاً.(1/187)
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: [وبهذا يتبين لك أن من زعم من أهل الكلام والنظر أنهم عرفوا الله حق معرفته بحيث لم يبق له صفة إلا عرفوها وأن ما لم يعرفوه ولم يقم لهم دليل على ثبوته كان معدوما منتف في نفس الأمر قوم غالطون مخطئون مبتدعون ضالون وحجتهم في ذلك داحضة فإن عدم الدليل القطعي والظني على الشيء دليل على انتفائه إلا أن يعلم أن ثبوته مستلزم لذلك الدليل مثل أن يكون الشيء لو وجد لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فيكون هذا لازما لثبوته فيستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، كما يعلم أنه لو كان بين الشام والحجاز مدينة عظيمة مثل بغداد ومصر لكان الناس ينقلون خبرها فإذا نقل ذلك واحد واثنان وثلاثة علم كذبهم وكما يعلم أنه لو ادعى النبوة أحد على عهد النبي مثل مسليمة والعنسي وطليحة وسجاح لنقل الناس خبره كما نقلوا أخبار هؤلاء ولو عارض القرآن معارض أتى بما يظن الناس أنه مثل القرآن لنقل كما نقل قرآن مسليمة الكذاب وكما نقلوا الفصول والغايات لأبي العلاء المعري وكما نقلوا غير ذلك من أقوال المعارضين ولو بخرافات لا يظن عاقل أنها مثله فكان النقل لما تظهر فيه المشابهة والمماثلة أقوى في العادة والطباع في ذلك وأرغب سواء كانوا محبين أو مبغضين هذا أمر جبل عليه بنوا آدم](1).
وهذا هو الفهم الصحيح لكلام شيخ الإسلام -رحمه الله-، لا كما قرر هذا الكاتب –هداه الله-
ثم قعد الكاتب ص125 بفهمه قاعدة باطلة يشرح فيها كلام شيخ -رحمه الله-(2)، فقال: [ولما كانت العلاقة بين الدليل والمدلول طردية،فإنه يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، لذا فالدليل –دائما- ملزم المدلول].
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/571).
(2) اتصل أحد طلبة العلم بالكاتب هاتفياً وتمت المناقشة على هذه القاعدة فما كان منه إلا أن قال (هذا ليس كلامي وإنما كلام شيخ الإسلام) يقصد بهذا، ما يُفهم من كلام شيخ الإسلام!!!.(1/188)
فمن كان عنده أدنى إطلاع على مذهب المرجئة الجهمية في مسائل الإيمان وكان ممن قرأ كتاب الإيمان لشيخ الإسلام لعلم أن هذه هي نفس قاعدة الجهمية وهم من أبعد فرق المرجئة عن أهل السنة بل ذكر الدكتور أحمد بن عطية الغامدي –حفظه الله- عند كلامه عن الجهمية في كتابه الإيمان بين السلف والمتكلمين (ولولا الوفاء بالمذاهب في الإيمان لما تطرقت إلى ذكره)(1).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في معرض رده على الجهمية وعلى قاعدتهم الخبيثة التي تبناها كاتبنا في هذا العصر: (وقيل لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك فهذا يناقض قولك أن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك)(2).
فهل يرى القارئ أي فرق بين القاعدة التي أصلها الكاتب وبين كلام شيخ الإسلام في رده على الجهمية؟!، { نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الأنعام: 143].
وبعد هذا لا ندري هل يلتقي مذهب السلف والجهمية؟! { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16].
__________
(1) الإيمان بين السلف والمتكلمين ص111.
(2) مجموع الفتاوى(7/579-585).(1/189)
ثم قال الكاتب ص127: (وعلى أي حال، سواء كان العمل الظاهر (لازماً) للباطن من وجه، أو (ملزوماً ودليلاً) من وجه آخر، فهو موجب عمل القلب ومقتضاه، وثبوته أو انتفاءه - في الغالب- مظنة الأحكام الباطنة الأخروية، وما يتعلق بها الثواب والعقاب وخطاب الوعد والوعيد).
نقول وبالله التوفيق: هذا كلام فيه لبس للحق بالباطل، لإنفاق الباطل، لأن النفوس مجبولة برفض الباطل المحض.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (ولا ينفق الباطل في الوجود إلا بشوب من الحق كما إن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل بسبب الحق اليسير الذي معهم يضلون خلقا كثيرا عن الحق الذي يجب الإيمان به ويدعونه إلى الباطل الكثير الذي هم عليه)(1).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (ولا يشتبه على الناس الباطل المحض بل لا بد أن يشاب بشيء من الحق)(2).
فالكاتب -هداه الله- جعل هنا وجود العمل الظاهر وانتفاءه شيئاً واحداً وهذا هو لبس الحق بالباطل، فإن هناك فرقاً كبيراً بين الأمرين.
__________
(1) مجموع الفتاوى (35/190).
(2) مجموع الفتاوى (8/37).(1/190)
فقد سئل سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقيل له: (يقولون الإيمان قول ونحن نقول الإيمان قول وعمل والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليس بسواء لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود أما آدم فنهاه الله عز وجل عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسمي عاصيا من غير كفر وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسماهم الله عز وجل كفارا فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء وأما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس لعنه الله وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر مثل كفر علماء اليهود والله أعلم)(1).
هذا من جهة ومن جهة أخرى إن مقصود الكاتب أن هناك نوعاً خاصاً من الإيمان يجعل صاحبه يجتنب المكفرات ولا يأتي بالطاعات!!!.
فالفرق كبير بين ترك الفرائض وارتكاب المعاصي، ولكن الكاتب جعلهما شيئاً واحداً -فتنبه- !!!.
ولو كان ترك الفرائض يعصم الدم لكان المنافقون هم أول الناس تركاً لشرائع الإسلام، ولما كانوا يحرصون على الالتزام بأحكام الدين، ولم يكونوا يتركون الأوامر إلا لعلمهم إن من لم يأت بالعمل الظاهر كان ذلك دليلاً على كفره وزندقته, وأنه يحكم بردته وعدم إيمانه.
__________
(1) السنة لعبد الله بن أحمد (1/347-348).(1/191)
وقد شعر الكاتب بهذا الخلط والتخبط والتذبذب بين الحق والباطل، وأنه متناقض ولذلك قال ص128(ولكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: وهو ما مدى فائدة العمل الظاهر-كلازم من لوازم الإيمان – في تقرير الأحكام الظاهرة وجوداً وعدماً؟ وهل يطلق القول بقاعدة: ((انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم)) على الإطلاق حتى في الأحكام الظاهرة؟.
أقول: شعر الكاتب إن هناك خللاً ما في كلامه وإنه يتناقض مع قاعدة شيخ الإسلام -رحمه الله-
((انتفاء اللازم يقتضي(1) انتفاء الملزوم)) فجاء بهذا التساؤل، وأجاب عنه إجابة تبين ضحالة علمه في هذه المسألة الخطيرة، وأنه أحدث أسلوبا آخر غير أساليب الذين سبقوه(2) في تقرير هذه العقيدة الخبيثة(3)، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكاتب ص128 إجابة على تساؤله(4): (والجواب على هذا السؤال يظهر بالتفصيل الأتي: (الوجه الثالث): الأصل -في أحكام الدنيا- أن العمل الظاهر دليل ظني وليس قطعياً على الباطن).
أقول وبالله التوفيق: هذا كلام مجمل يحتمل الحق والباطل معاً!!!، لأن (الكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه)(5)
__________
(1) لم ولن يتجرأ الكاتب على نقل أقوال شيخ الإسلام -رحمه الله- التي فيها ((انتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم)) كما نقلنا سابقاً لان ذلك يؤدي إلى تساؤلات عند القارئ الفطن!، لا يستطيع هو ولا غيره ممن يتبنون هذه العقيدة الخبيثة الإجابة عليها.
(2) أمثال مراد شكري، وصالح الزهراني، وعلي الحلبي، وعدنان عبد القادر، وخالد العنبري، وهؤلاء كلهم ردت عليهم اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية –حفظها الله من شر الاشرار-، وأن كتبهم تدعو إلى الإرجاء، ولله الحمد والمنة.
(3) إلا أنهم متفقون في الهدف.
(4) تناقضه.
(5) مدارج السالكين (3/521).(1/192)
فإن كان المراد العمل الظاهر دليل ظني -أي وجود العمل الظاهر-، فهذا حق، لأن المنافق يظهر منه ما يظهر من المؤمن، لأن وجود العمل متوقف على شيء آخر ألا وهو خوف السبي والقتل، أما إذا كان المراد بالظاهر وجود العمل وانتفاءه -معاً-، وهذا هو الذي يريده الكاتب كما صرح ص127 من الكتاب نفسه ،ورددنا عليه فهذا باطل وهو قول المرجئة في أن العمل الظاهر ثمرة للإيمان الباطن قد يتخلف العمل الظاهر عنه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (فان المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضى ذلك والطاعة من ثمراته ونتائجه لكنها تنازع هل يستلزم الطاعة)(1).
ولذلك قام الكاتب بنقل خمسة أقوال لشيخ الإسلام-رحمه الله- يبين أن العمل الظاهر دليل ظني،(2) لذلك سننقل تلك الأقوال ونرد عليها ومن الله التوفيق والسداد.
القول الأول مجموع الفتاوى (7/579-580(3)): (وهو أيضا خطأ عقلا كما هو خطأ شرعا وذلك أن هذا ليس بدليل قاطع إذ هذا يظهر من المنافق فإنما يبقي دليلا في بعض الأمور المتعلقة بدار الدنيا).
أقول وبالله التوفيق: لا أبالغ حينما أقول أن الكاتب بنى الكتاب كله على التسوية بين وجود العمل الظاهر وانتفاءه، ولذلك يقوم هذا الكاتب في كل مرة تقرير هذه القاعدة الباطلة:
(الظاهر=وجود العمل= ترك العمل) إما تصريحاً أو تلميحاً وإما منطوقاً أو مفهوماً،وهذا كما أوضحناه سابقاً، هو لبس الحق بالباطل، والله المستعان.
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/50).
(2) وهو يقصد –أي الكاتب- وجود العمل وانتفاءه معاً، فيرجى الانتباه، وهذا باطل، والصحيح وجود العمل الظاهر فقط لا غير.
(3) في الأصل (560).(1/193)
فهذا النص الذي نقله الكاتب نص مبتور فقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- قبل هذه الفقرة مباشرة: (وقيل لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز نزاعك لفظي فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا(1) وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة قيل لك فهذا يناقض قولك أن الظاهر لازم له وموجب له بل قيل حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك(2))(3).
__________
(1) لو كان انتفاء العمل الظاهر دليلاً ظنياً لم يكن شيخ الإسلام يسود الصفحات ويرد على المرجئة، ولكان قوله (فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا). تناقضاً منه -حاشاه- إذا كيف يقول لمن يرى رأي المرجئة والجهمية (فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا) ثم يأتي ليناقض نفسه –على فهم الكاتب- ويقول –بلسان الكاتب- (ترك العمل دليل ظني)، وهل يقول هذا إلا المجنون أو الجاهل!!!.
(2) النص المظلل هو عين القاعدة التي قعدها الكاتب وأوضحنا خطأه وتناقضه.
(3) مجموع الفتاوى (7/579).(1/194)
ثم قال شيخ الإسلام -رحمه الله- عقب الفقرة التي نقلها الكاتب مباشرة (كدلالة اللفظ على المعنى وهذا حقيقة قولك فيقال لك فلا يكون ما يظهر من الأعمال ثمرة للإيمان الباطن ولا موجبا له ومن مقتضاه وذلك أن المقتضي لهذا الظاهر إن كان هو نفس الإيمان الباطن لم يتوقف وجوده على غيره فإن ما كان معلولا للشيء وموجبا له لا يتوقف على غيره بل يلزم من وجوده وجوده فلو كان الظاهر موجب الإيمان الباطن لوجب أن لا يتوقف على غيره بل إذا وجد الموجب وجد الموجب(1)
وأما إذا وجد معه تارة وعدم أخرى أمكن أن يكون من موجب ذلك الغير وأمكن أن يكون موقوفا عليهما جميعا فإن ذلك الغير إما مستقل بالإيمان أو مشارك للإيمان وأحسن أحواله أن يكون الظاهر موقوفا عليهما معا على ذلك الغير وعلى الإيمان بل قد علم أنه يوجد بدون الإيمان كما في أعمال المنافق فحينئذ(2) لا يكون العمل الظاهر مستلزما للإيمان ولا لازما له بل يوجد معه تارة ومع نقيضه تارة ولا يكون الإيمان علة له ولا موجبا ولا مقتضيا فيبطل حينئذ أن يكون دليلا عليه لأن الدليل لابد أن يستلزم المدلول وهذا هو الحق فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزما للإيمان النافع عند الله).
__________
(1) هذا فرض عقلي محض غير متصور من شيخ الإسلام -رحمه الله-، وهذا من سعة علمه -رحمه الله- فإنه يفصل جميع الحالات في المسألة ليوضح الصورة للقارئ وقد أورد هذا الفرض ليبين أن العمل الظاهر إذا لم يتوقف وجوده على شيء آخر فعندئذ يكون الظاهر دليلاً على الباطن.
(2) أرجو من القارئ الموفق بالله، أن يتنبه إلى أقوال شيخ الإسلام -رحمه الله- فكلما ذكر أن الأعمال الظاهرة ليست دليلاً على الباطن إلا إذا كان ملزوماً، جاء بمثال المنافقين،وهو بهذا يريد أن يحصر مسألة أن العمل الظاهر -وجوده- لا يدل على الباطن، لأن هذا الظاهر يشترك فيه المؤمن والمنافق.(1/195)
القول الثاني من مجموع الفتاوى (10/759-760): (بل المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة(1) وإنما عقابهم وكونهم في الدرك الأسفل من النار على ما في قلوبهم من الأمراض وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانا بغض القول والفعل لكن ليست العقوبة مقصورة على ذلك البغض اليسير وإنما ذلك البغض دلالة كما قال تعالى { وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [محمد: 30]).
القول الثالث(2) مجموع الفتاوى (7/361): (وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين(3)
__________
(1) أكرر التنبيه على قول شيخ الإسلام -رحمه الله- فكلما ذكر إن العمل الظاهر ليست دليلاً فالمقصود: (وجود العمل لا انتفاءه) والذي يظهر من المؤمن و المنافق على حد سواء، فلا أعيد الكلام على استدلال يدل على جهل صاحبه في عدم التفريق بين الوجود والانتفاء.
(2) نسب الكاتب هذا القول لشيخ الإسلام، وهذا خطأ بل هو قول الشيخ أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله-، راجع بداية سياق الكلام.
(3) الغرض من نقل هذه الفقرة لشيخ الإسلام والذي هو رد عليه -كما سيأتي- أن الكاتب يريد أن الذي ينطق بالشهادتين يحكم له بالإسلام!!!، دون العمل بمقتضى هذه الشهادة، وهذا الاستدلال باطل لأمور:
1. قال الشيخ بعد صفحتين (وقول القائل الطاعات ثمرات التصديق الباطن يراد به شيئان يراد به أنها لوازم له فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت وهذا مذهب السلف وأهل السنة، ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سببا وقد يكون الإيمان الباطن تاما كاملا وهى لم توجد وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم) مجموع الفتاوى (7/363)، معنى هذا أن الذي يقول يمكن أن يتخلف الطاعات عن المرء عند وجود الإيمان فهذا قول المرجئة والجهمية. فلا أدري أي إيمان جعل هذا الإنسان ينطق بشهادة (لا إله إلا الله) ثم لم يأتي بأي عمل يقربه إلى الله عز وجل؟!.
2. إذا كان الكاتب يريد أن هذه الشهادة تكون نافعاً عند الله فهذا باطل فقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله- مجموع الفتاوى (7/580) (فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزما للإيمان النافع عند الله).
3. إن هذه الشبهة هي نفس شبهة المرجئة قديماً، وقد رد عليها الإمام أبو ثور -رحمه الله- فقال (فإن احتج فقال لو أن رجلا أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - أيكون مؤمنا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل قيل له إنما يطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنا ولو قال أقر ولا اعمل لم يطلق عليه اسم الإيمان) مجموع الفتاوى (7/389).
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله-
ما حكم من ترك جميع العمل الظاهر بالكلية لكنه نطق بالشهادتين ويقر بالفرائض لكنه لا يعمل شيئاً البتة، فهل هذا مسلم أم لا؟ علماً بأن ليس له عذر شرعي يمنعه من القيام بتلك الفرائض؟
الجواب: هذا لا يكون مؤمناً، من كان يعتقد بقلبه ويقر بلسانه ولكنه لا يعمل بجوارحه، عطّل الأعمال كلها من غير عذر هذا ليس بمؤمن، لأن الإيمان كما ذكرنا وكما عرفه أهل السنة والجماعة أنه: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، لا يحصل الإيمان إلا بمجموع هذه الأمور، فمن ترك واحداً منها فإنّه لا يكون مؤمناً. (أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر - (ج 1 / ص 21))
وسئل نفس السؤال الشيخ عبدالعزيز الراجحي -حفظه الله-
الجواب:هذا لا يكون مؤمنًا، فالذي يزعم أنه مصدِّق بقلبه ولا يقر بلسانه ولا يعمل ؛ لا يتحقق إيمانه ؛ لأن هذا إيمان كإيمان إبليس وكإيمان فرعون ؛ لأن إبليس أيضا مصدِّق بقلبه، قال الله تعالى { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وفرعون وآل فرعون قال الله تعالى عنهم: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } فهذا الإيمان والتصديق الذي في القلب لا بد له من عمل يتحقق به فلا بد أن يتحقق بالنطق باللسان ولا بد أن يتحقق بالعمل ؛ فلا بد من تصديق وانقياد، وإذا انقاد قلبه بالإيمان فلا بد أن تعمل الجوارح، أما أن يزعم أنه مصدِّق بقلبه ولا ينطق بلسانه ولا يعمل بجوارحه وهو قادر فأين الإيمان ؟!! فلو كان التصديق تصديقا تاما وعنده إخلاص لأتى بالعمل، فلا بد من عمل يتحقق به هذا التصديق وهذا الإيمان ؛ والنصوص جاءت بهذا. (أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر - (ج 1 / ص 21))
وقال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- في جلسة خاصة مع بعض طلبة العلم (أنه لو تُصُوِّر أنّ أحدا قال سأعتقد وسأتكلم ولن أعمل قط، لن أعمل قط، عندنا ليس بمسلم، لو واحد جاء وقال أنا بَاتْشَهَّدْ؛ أشهد لا إله إلا الله، وأنا بَاعْتَقِدْهَا لكن لن أعمل وقال هذه الكلمة، أو مات ولم يعمل شيئا قط مع إمكان العمل، فعندنا ليس بمسلم -أي عند أهل السنة والجماعة-، وعندهم مسلم -أي عند المرجئة-، ونحن لا نصلي عليه-أي عند أهل السنة والجماعة-، وهم يصلون عليه-أي عند المرجئة-،نحن لا نترحم عليه؛ يعني أنّ جنس العمل عندنا لا بد منه؛ ركن من أركان الإيمان، جنس العمل لابد أنْ يعمل عملا صالحا). للاستزادة يراجع مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ.
وقال أيضاً -حفظه الله- في شرحه لكتاب (لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد)، والتي ألقاها في مسجد حمزة بن عبد المطلب بالدمام: (إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي).
وقال الشيخ محمد بن عمر بازمول -حفظه الله- في معر ض إجابته عن سؤال وجه إليه: (ومن أتى بالشهادتين حكمنا بإسلامه في الظاهر، وينظر هل يأتي بالأعمال الصالحة أو لا؟، فإن لم يأت بشيء من الأعمال الصالحة أي ترك العمل بالكلية مع القدرة وعدم المانع، حكم بكذبه وعدم صدقه فيما زعمه من إسلام!).أ.هـ. المصدر شبكة صيد الفوائد.(1/196)
وإنما أضاف إليهما الأربع لكونها أظهر شعائر الإسلام ومعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه...........=
= وتركه لها يشعر بحل قيد انقياده أو انحلاله)(1)
القول الرابع مجموع الفتاوى (9/156-157): (ثم الضابط في الدليل أن يكون مستلزما للمدلول فكلما كان مستلزما لغيره امكنت أن يستدل به عليه فإن كان التلازم من الطرفين أمكن أن يستدل بكل منهما على الآخر اللزوم قطعيا كان الدليل قطعيا وان كان وقد يتخلف كان الدليل ظنيا)(2)
__________
(1) هذا الكلام رد على الكاتب فإذا كان ترك المباني الأربعة يشعر بحل قيد انقياده أو انحلاله، فما بالك بالرجل الذي يترك الأعمال بالكلية -جنس العمل- !!!.
(2) هذا الكاتب إما يدري ماذا ينقل ويبتر ليلبس على الجهال أو لا يدري فتلك مصيبة، في أن يتكلم الرجل في أخطر قضية من قضايا العقيدة.
فالكلام واضح من شيخ الإسلام -رحمه الله- حيث ذكر عقب هذا الكلام ما يلي: (فالأول كدلالة المخلوقات على خالقها سبحانه وتعالى وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته فان وجودها مستلزم لوجود ذلك ووجودها بدون ذلك ممتنع فلا توجد إلا دالة على ذلك ومثل دلالة خبر الرسول على ثبوت ما اخبر به عن الله فانه لا يقول عليه إلا الحق اذ كان معصوما في خبره عن الله لا يستقره في خبره عنه خطأ البتة فهذا دليل مستلزم لمدلوله لزوما واجبا لا ينفك عنه بحال وسواء كان الملزوم المستدل به وجودا أو عدما فقد يكون الدليل وجودا وعدما ويستدل بكل منهما على وجود وعدم فانه يستدل بثبوت الشيء على انتفاء نقيضه وضده ويستدل بانتفاء نقيضه على ثبوته ويستدل بثبوت الملزوم على ثبوت اللازم وبانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم بل كل دليل يستدل به فانه ملزوم لمدلوله).أ.هـ.
ولذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى(7/294): (فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم).
وقال أيضاً -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7/553) (ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن).
وقال العالم الرباني ابن القيم الجوزية -رحمه الله- في كتابه الفوائد (ص162). (فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان ونقصه دليل نقصه وقوته دليل قوته).
فإذن انتفاء الظاهر دليل!!! انتفاء الباطن لأن وجود المدلول مستلزم لوجود الدليل، فيستدل بانعدام المدلول بانتفاء الدليل.(1/197)
القول الخامس مجموع الفتاوى (7/263-264).: (فان الأعمال الظاهرة يراها الناس وأما مجموع
ما في القلب من تصديق ومعرفة وحب وخشية ورجاء فهذا باطن لكن له لوازم قد تدل عليه واللازم لا يدل إلا إذا كان ملزوما فلهذا كان من لوازمه ما يفعله المؤمن والمنافق(1) فلا يدل).
وأخيراً أقول: أن الظاهر دليل ظني في حالة وجود العمل الظاهر لأنه يوجد (بدون الإيمان كما في أعمال المنافق فحينئذ) وليس هناك نص واحد عند شيخ الإسلام ولا عند غيره من السلف أن ترك العمل الظاهر دليل ظني لأنه ظاهر!!! إلا عند الجهمية الغلاة، نسأل الله الثبات على الحق.
ثم ذكر الكاتب ص131 أن هناك دلالة قطعية مستثناة تكون في صورتين متفق عليهما وفي صورة ثالثة مختلف فيها.. فقال: (الصورة الأولى -المتفق عليها- الأعمال الكفرية الظاهرة المستلزمة لعدم إيمان الباطن)
وذكر ص133 الصورة الثانية فقال: (الصورة الثانية -المتفق عليها-: الإقرار بالشهادتين ركن في الإيمان وعدمه عدم الإيمان).
وذكر ص133 أيضاً الصورة الثالثة فقال: (الصورة الثالثة -المختلف فيها-: وهي على قول من يقول بكفر تارك الصلاة يكون فعل الترك دليلاً ملزوماً للباطن، والنزاع مشهور بين أئمة أهل السنة – في هذه المسألة- قديماً وحديثا).
يظهر أن الكاتب متأثر بالحلبي، حيث إن دندنة الأخير أن المسألة-جنس العمل- كلها مبنية على ترك الصلاة ولا تلازم بين المسألتين، فقد ذكر ذلك على سبيل المثال لا الحصر في كتابه التنبيهات...في الصفحات 16و19و42و44و46و130و240...وما خفي كان أعظم.
__________
(1) مر سابقاً التنبيه على المثال الذي يأتي به شيخ الإسلام فإن العمل الظاهر –وجوده كما في حال المنافق - لا يدل إلا إذا كان ملزوماً.(1/198)
فأما الصورتان الأولى والثانية -متفق عليها- فهذا كلام صحيح، أما الصورة الثالثة فلا وجه لإيراده هنا ولا دخل لمسألة ترك الصلاة في مسألة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- إلا لأجل لبس الحق بالباطل لترويج الباطل وهذه طريقة الذين في قلوبهم مرض، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد رد العلماء على هذه الشبهة الواهية، فقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-:
س/من لم يكفر تارك الصلاة من السلف،أيكون العمل عنده شرط كمال ؟ أم شرط صحة؟.
ج/ فقال لا، بل العمل عند الجميع شرط صحة، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه،فقالت جماعة إنه الصلاة، وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، كما حكاه عبدالله بن شقيق. وقال آخرون بغيرها: إلا أن جنس العمل لا بد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً.لهذا الإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد، لا يصح إلا بها مجتمعة.أ.هـ (نقلاً عن جريدة الرياض –عدد 12506 في 13/7/1423هـ)(1).
وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان -حفظه الله-تعليقاً على سؤال وجه إلى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله حول (الخلاف الواقع في حكم تارك الصلاة هل هو خلاف في دائرة أهل السنة أم لا؟:(الكلام ليس في حكم تارك الصلاة فقط، بل الكلام في إخراج العمل عموماً عن حقيقة الإيمان، والمتعالمون اليوم يدورون حول هذه المسألة فينبغي التفطن لهذا)(2).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- عندما سئل:..[ما معنى جنس العمل]...
__________
(1) يراجع كتاب(أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان)، د.عصام بن عبدالله السناني.راجعه فضيلة الشيخ العلامة/ صالح بن فوزان الفوزان).ص146-147.
(2) يراجع كتاب(أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان)، د.عصام بن عبدالله السناني.راجعه فضيلة الشيخ العلامة/ صالح بن فوزان الفوزان).ص160.(1/199)
فأجاب -حفظه الله- (جنس العمل يعني عمل صالح، أي عمل صالح، أي عمل صالح ينوي به التقرب إلى الله جل وعلا ممتثلا فيه أمر الله جل وعلا، هذا متفق عليه:
من قال بأنّ تارك الصلاة يكفر كسلا: قال العمل الصالح هذا هو الصلاة.
ومن قال تارك الصلاة لا يكفر من السلف: قال لابد من جنس العمل.
السلف اختلفوا في تارك الصلاة، من قال تارك الصلاة يكفر قال الصلاة هي جنس العمل؛ لابد أن يأتي بالصلاة، ومن قال لا تارك الصلاة لا يكفر تهاونا أو كسلا قالوا لابد من جنس العمل؛ لابد أن يعمل عملا صالحاً(1) من أي وجه، يعني جنس العمل لابد منه)(2).
وقال أيضاً -حفظه الله- في سؤال وجه إليه: (س3/ من أخرج العمل عن مسمى الإيمان...(3) لكن قالوا العمل ثمرة وليس من مسمى الإيمان، هل الخلاف بيننا حقيقي؟
ج/ الخلاف بيننا وبين مرجئة الفقهاء حقيقي وليس لفظيا ولا صوريا ولا شكليا.
ومن حيث التنظير لا من حيث الواقع الفرق بيننا وبينهم أنه عندهم يُتصور أن يعتقد أحد الاعتقاد الحق الصحيح ويقول كلمة التوحيد ينطق بها ويترك جنس العمل؛ يعني لا يعمل عملا أبدا امتثالا لأمر الشرع، ولا يترك منهيا امتثالا لأمر الشرع، هذا عندهم مسلم مؤمن ولم لم يعمل البتة، وعندنا ليس بمسلم ولا بمؤمن حتى يكون عنده جنس العمل، ومعنى جنس العمل أن يكون ممتثلا لأمر من أوامر الله طاعة لله جل وعلا، منتهيا عن بعض نواهي الله، طاعة لله جل وعلا ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم أهل السنة اختلفوا هل الصلاة مثل غيرها؟ أم أن الصلاة أمرها يختلف، وهي المسألة المعروفة بتكفير تارك الصلاة تهاونا وكسلا، هذه اختلف فيها أهل السنة كما هو معروف، واختلافهم فيها ليس اختلاف في اشتراط العمل.
فمن قال يكفر بترك الصلاة تهاونا وكسلا يقول: العمل الذي يجب هنا هو الصلاة؛ لأنه إن ترك الصلاة فإنه لا إيمان له.
__________
(1) في الأصل (صالح) والصواب ما أثبتناه.
(2) جلسة خاصّة(1) مع الشيخ.
(3) الكلام غير واضح.(1/200)
والآخر من أهل السنة الذين يقولون لا يكفر تارك الصلاة كسلا وتهاونا يقولون لابد من جنس عمل لابد من أن يأتي بالزكاة ممتثلا، بالصيام ممتثلا، بالحج ممتثلا يعني واحد منها، أن يأتي طاعة من الطاعات ممتثلا حتى يكون عنده بعض العمل أصل العمل؛ لأنه لا يسمى إيمان حتى يكون ثم عمل.
لأن حقيقة الإيمان راجعة إلى هذه الثلاثة النصوص القول والعمل والاعتقاد، فمن قال حقيقة الإيمان يخرج منها العمل فإنه ترك دلالة النصوص.
فإذن الفرق بيننا وبينهم حقيقي وليس شكليا أو صوريا)(1).
وقال أيضاً -حفظه الله-: (... يعني العمل الآن الذي يشترط للإيمان هو جنس العمل واضح؟ هو جنس العمل بالاتفاق أو الصلاة عند من قال بكفر تاركها، إذا عمل عملا تقرب به إلى الله جل وعلا خلاص عندهم صح إيمانه، عمل أي عمل، واحد عند من لا يقول بكفر تارك الصلاة يقولون هذا لا صلى ولا صام ولا زكى ولا حج ولكنه برّ والديه تقربا إلى الله يقولون هذا عمل صار إيمانه تبعه عمل الذي هو عمل بدني تقرب به إلى الله.
والذين يقولون بتكفير تارك الصلاة يقولون لا لازم الصلاة واضح؟ هذه أقل الأعمال يعني هو لو أتى بعمل غيرها ما يصح إيمانه، أيضا هناك من يقول لابد من الأركان الخمسة هذا قول لبعض أئمة الحديث أنه هي الأركان يعني أن من ما صلى ولا زكى ولا صام ولا حج، كيف يصير مسلما.
لكن الجميع(2) متفقون على أن العمل ركن)(3).
__________
(1) محاضرة بعنوان الإيمان.
(2) المقصود الذين يكفرون تارك الصلاة والذين لا يكفرون.
(3) أخر محاضرة من شرح كتاب أصول الإيمان(1/201)
ثم إن الذين هم مع الحلبي في خندق الإرجاء لا يوافقون الحلبي على أن مسألة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- متعلقة بالصلاة، فقد قال صاحب كتاب دلائل البرهان ص85:(وليست لهذه المسألة علاقة بتكفير تارك الصلاة أو عدم تكفيره كما توهمه البعض فإن من لم يكفر تارك الصلاة لا يستلزم ألا يكفر تارك أعمال الجوارح بالكلية)(1).
وهكذا شأن أهل البدع فهم أشد الناس اختلافاً فيما بينهم ولو كانت مسألة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- مسألة خلافية كما يزعمون فلما الاختلاف في تحرير المسألة، فالحلبي يقول أن المسألة متعلقة بالصلاة ثم يأتي صاحبه أن الأمر لا يتعلق بالصلاة، ثم الحلبي يقول أن المسألة خلافية بين أهل السنة وإنه خلاف معتبر ثم يأتي ويقول أن هذا قول الخوارج(2)
__________
(1) دلائل البرهان على مناقضة الشيخ الألباني للمرجئة في مسائل الإيمان/ لكاتبه أبو سليمان بن محمد بن علي آل شريف. وفي هذا الكتاب من التناقضات لعل الله ييسر لنا في الرد عليه وبيان عواره.
(2) نقل الحلبي بفهمه السقيم بهامش كتاب حكم تارك الصلاة للشيخ الألباني –رحمه الله- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أن من قال أن تارك أعمال الجوارح كافر كان موافقاً للخوارج. فقد نقل كلام شيخ الإسلام –رحمه الله- الآتي من مجموع الفتاوى (7/202-203) (إنكم إن قلتم بأن من انتفى عنه هذه الأمور فهو كافر خال من كل إيمان كان قولكم قول الخوارج وأنتم في طرف والخوارج في طرف فكيف توافقونهم؟! ومن هذه الأمور إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج والجهاد والإجابة إلى حكم الله ورسوله وغير ذلك مما لا تكفرون تاركه وان كفرتموه كان قولكم قول الخوارج).
نقول وبالله التوفيق: أن الفقرة السابقة هي عبارة عن واحدة من خمسة أوجه يرد بها شيخ الإسلام على الجهمية في معرض تساؤل للجهمية ذكره أبو الحسن في كتاب الموجز، فنقل الحلبي الوجه الثالث وأعرض عن الوجوه الأخرى، لماذا؟! لأن الوجه الأول صاعقة على أم رأسه، ودك لأصوله الإرجائية لذا سأنقل كلام شيخ الإسلام كله مع التسأول وأجيب عليه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7/202-203)
(وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب الموجز وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم... } ولم يقل أن هذه الأعمال من الإيمان قالوا فنحن نقول من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه
أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي.
الثاني: أن نصوصا صرحت بأنها جزء كقوله الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة.
الثالث: إنكم إن قلتم بأن من انتفى عنه هذه الأمور فهو كافر خال من كل إيمان كان قولكم قول الخوارج وأنتم في طرف والخوارج في طرف فكيف توافقونهم ومن هذه الأمور إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج والجهاد والإجابة إلى حكم الله ورسوله وغير ذلك مما لا تكفرون تاركه وان كفرتموه كان قولكم قول الخوارج.
الرابع: أن قول القائل أن انتفاء بعض هذه الأعمال يستلزم أن لا يكون في قلب الإنسان شيء من التصديق بأن الرب حق قول يعلم فساده بالاضطرار.
الخامس: أن هذا إذا ثبت في هذه ثبت في سائر الواجبات فيرتفع النزاع المعنوي).أ.هـ.
فكما هو ملاحظ أن شيخ الإسلام يتكلم عن آحاد الأعمال في الوجه الثالث، لأن الوجه الأول فيه كلام صريح بأن الأعمال الظاهرة لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب، فمن غير المعقول أن يقرر شيخ الإسلام مسألة ويناقضه بعد سطرين، هذا من جهة ومن جهة أخرى إن شيخ الإسلام نقل نفس الآية { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [الأنفال:2- 3] وقرر فيه نفس الحكم أن عدم الأعمال الظاهرة دليل على عدم الباطن وهو المطلوب!!!.
فقال في مجموع الفتاوى (7/645): (فإذا قال القائل هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدل على أنها من الإيمان قيل هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافى الكفر بدون أمور ظاهرة لا قول ولا عمل وهو المطلوب وذلك تصديق وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور).أ.هـ. راجع الكلام على هذه الفقرة في ص
وبهذا النقل نعلم أن ما نقله الحلبي بفهمه السقيم لا يستقيم مع تقرير شيخ الإسلام في أكثر من موضع بانتفاء إيمان تارك جنس العمل، وإلا كان هذا تناقضاً منه –حاشاه-.(1/202)
، وقد ذكر الشيخ المحدث فوزي الأثري -حفظه الله- أن الشيخ ربيع -حفظه الله- وقع في تناقض أيضاً حينما نشر مقال يقرر فيه أنه لا يجوز أن يرمى بالإرجاء من يقول أن الإيمان أصل والعمل فرع أو كمال(1).
فقد كان الشيخ ربيع –حفظه الله- يقرر مذهب السلف في كفر تارك العمل الكلية –جنس العمل-(2)
__________
(1) لفضيلة الشيخ المحدث فوزي الأثري-حفظه الله- رد مفصل على ما جاء في مقال الشيخ ربيع –حفظه الله- فقد كتب رسالة بعنوان _الفرقان في بيان الفرق بين مذهب السلف وبين مذهب ربيع المدخلي في مسائل الإيمان- وله محاضرة خاصة على مقال الشيخ ربيع –سدده الله- بعنوان القاصمة على مذهب المرجئة الخامسة، راجعه في موقعه على شبكة الانترنيت، فهو مفيد لإزالة اللبس.
(2) صرح الشيخ ربيع بين هادي المدخلي -حفظه الله- في مقال بعنوان (هل يجوز التنازل عن الواجبات مراعاة للمصالح والمفاسد وعند الحاجات والضرورات) أن منهج السلف وتقريرهم في تارك العمل بالكلية –جنس العمل- إنه كافر زنديق: فقال (ويقول عني –المقصود بهذا الكلام هو الشيخ فالح الحربي- إنِّي خالفت السلف في جنس العمل وفي قضايا الإيمان وهو الكذوب, وإذا رجع المسلم المنصف إلى كلامي-يقصد كلامه في مقال بعنوان كلمة حق حول جنس العمل- يجده مطابقاً لمنهج السلف ولما قرَّرُوه ويجد في كلامي التصريح بأنَّ تارك العمل بالكلية كافر زنديق).أ.هـ.
ونحن نسأل إذا كان تارك العمل بالكلية كافر زنديق وأن هذا الحكم هو منهج السلف وتقريرهم،فماذا يُسمى من يخالف هذا المنهج وهذا التقرير؟!
ثم نشر المقال الأخير بعنوان :(هل يجوز أن يرمى بالإرجاء من يقول الإيمان أصل والعمل فرع أو كمال؟!)، قرر فيه أنه لا يجوز أن يرمى بالإرجاء من قال أن الإيمان أصل والعمل فرع أو كمال!!!، وعلى اثر هذا المقال سئل العلماء عن هذا المقال فكان جوابهم كالأتي:
فضيلة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية –حفظه الله-
السائل: السؤال الثاني هناك مقال في الانترنيت أريد منك أن تعلق عليه هل هو صحيح أم خطأ، قال صاحب المقال "كثير من العلماء يقول الإيمان أصل والعمل كمال (العمل فرع) يقولون هذا الكلام هل نقول هم مرجئة أعوذ بالله من ذلك"
الشيخ: لا، لا، لا الأعمال أصل من الإيمان.
السائل: هذا المقال هل هو مقولة أهل السنة والجماعة؟
الشيخ: لا خطأ، لا خطأ، خطأ
السائل:عقيدة المرجئة؟
الشيخ: نعم، نعم.
الشيخ: حياك الله.
فضيلة الشيخ عبدالله الغديان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء –حفظه الله تعالى-:
السائل: يا شيخ هناك مقال أريد منك التعليق عليه هل هو صحيح أم خطأ، المقال في الانترنيت يقول صاحب هذا المقال"كثير من العلماء يقول الإيمان أصل والعمل كمال (العمل فرع)؟
الشيخ: هذا ليس بصحيح.
السائل: هل هو من عقيدة أهل السنة والجماعة؟
الشيخ: لا، هذا من عقيدة المرجئة.
السائل: بارك الله فيك يا شيخ.
الشيخ: حياك الله مع السلامة.
السائل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ: وعليكم السلام
فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء –حفظه الله تعالى-:
السؤال: انتشر عبر الانترنيت مقال يقول فيه صاحبه "أن كثير من العلماء يقول الإيمان أصل والعمل فرع".
الشيخ: هذا ما يدري إلي يقول هذا الكلام هذا ما يدري، هذا إمعة يسمع من يقول هذا القول ويردده، الايمان قول واعتقاد وعمل لا بد من الثلاثة قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح لا بد من الثلاثة هذا ما درج عليه السلف الصالح وأئمة الهدى قديماً وحديثاً، واللي يبي يشغب ويجيب مسائل شاذة أو مسائل خلافية ويشوش بها على الناس هذا ما يلتفت إليه.أ.هـ.
مصدر هذه الأقوال شبكة الأثري.
ومن هذا يتبين أن هذه المسألة غير محررة ومحققة تحقيقاً وافياً عند الشيخ ربيع –سدده الله- وهي مسألة جديدة على الشيخ كما ذكر هو بنفسه في معرض جوابه عن سؤال وجه إليه وهذا نصه:
السؤال: سائل يقول: هل في نفي العمل الذي يختص بالأركان الأربعة يعتبر نفي جنس العمل ويكون مرجئاً ؟ وهل جنس العمل محصور في الأركان الأربعة عدا الشهادتين ؟
الجواب: الذين يقولون جنس العمل إلى الآن لم يفسروا لنا مقصودهم ؛مقصودهم غير واضح ,فإنّ أهل السنة والجماعة اختلفت أقوالهم في التكفير بهذه الأركان.
فمن أهل السنة من يكفِّر بترك واحد من هذه الأركان ؛لو ترك الحج عند بعضهم كافر ,لو ترك الزكاة عندهم كافر ؛تركها عمدا - يعني غير جاحد - بارك الله فيكم ,لو ترك الصلاة من باب أولى يكون كافرا حتى لو لم يجحد ؛هذه تفاصيل مذهب أهل السنة.
ولا يُكَفِّرون فيما عدا هذه الأركان ؛لم يكفِّروا بعمل من الأعمال غير هذه الأركان ,لا بمعاصي ولا بأعمال واجبة غير هذه الأركان ,لم يكفِّروا إلا بهذه الأركان ,منهم من يكفِّر بالصلاة وحدها ,ولا يكفِّر بترك الزكاة والصوم والحج ؛يكفِّر بترك الصلاة فإذا ترك الحج ليس بكافر عنده ,إذا منع أداء الزكاة يكون غير كافر ,يكون مجرما وتؤخذ منه قهرا ويؤخذ شطر ماله عقوبة وما شاكل ذلك ,لكنه مع ذلك لا يرونه كافرا.
الشاهد: أن كلمة أهل السنة بما فيهم الصحابة اجتمعت كلمتهم أنهم لا يكفِّرون بترك شيء من الأعمال غير هذه الأركان ؛يعني الأعمال.
قال الشيخ تعليقا: هذا ما كان يظهر لي سابقا ولغيري، ثم كثرت الدراسة في موضوع ترك العمل بالكلية فوقفت على مقال لأحد الإخوة أكثر فيه من النقل عن السلف بأن تارك العمل بالكلية كافر فترجح لي ذلك لكنه يعبر عنه بتارك جنس العمل وأنا أرى الابتعاد عن لفظ (جنس) لما فيه من الإجمال والاشتباه ولأنه يتعلق به أهل الفتن ولأنه لا يوجد هذا اللفظ في كتاب ولا سنة ولا استعمله السلف في تعريف الإيمان.
المصدر مكتبة الشيخ ربيع المدخلي فتاوى في العقيدة والمنهج (الحلقة الثانية).
فبهذا التعليق من الشيخ يتبين أن هذه المسألة كانت غير معروفة عنده نسأل الله له التوفيق والسداد.(1/203)
، ثم نقضه كما ذكرنا سابقاً بمقال بين فيه إنه لا يجوز أن يرمى بالإرجاء من يقول أن الإيمان أصل والعمل فرع أو كمال!
ثم قال الكاتب ص134 (إذا استثنينا الصور الثلاث –مع وجود النزاع في الأخيرة – يمكن القول: إن انتفاء العمل الظاهر-في الأحكام الظاهرة- تتنزل عليه قاعدة (انتفاء الدليل لا يلزم منه انتفاء المدلول)).
نقول وبالله التوفيق: كما ذكرنا أن هذه القاعدة هي عين القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام -رحمه الله- في معرض رده على الجهمية،هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالكاتب يريد أن يقول أن هناك نوعاً خاصاً من الإيمان وهذا الإيمان يمنع صاحبه من سب الله ورسوله وأن يلقي المصحف في الحش والسجود للقبر والاستغاثة والاستعانة والتوكل بغير الله ومع هذا لا يظهر شيء من الواجبات الظاهرة على هذا الإنسان.
لا نقول إلا كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني- رحمه الله-: (إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب)(1).
فهذا الكاتب –هداه الله- يريد أن يبين أن هناك إيماناً خاصاً يمنع صاحبه من الوقوع في المكفرات القولية، والفعلية، والاعتقادية، التي توجب الردة عن الدين، وأن هذا الإيمان لا يدعوا صاحبه إلى فعل الطاعة!!!.
وساد الجاهلون فلست أدري ……أعز العلم أم أبكي الدريا
فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان مهما قل في قلب الإنسان فلا بد أن يظهر على جوارحه وأركانه من إطاعة الأوامر واجتناب النواهي قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:(والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه كقوله تعالى { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين... } )(2)
__________
(1) نقلاً عن كتاب التعالم للشيخ العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد ص6.
(2) مجموع الفتاوى (7/221).(1/204)
وقال أيضاً: (مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ)(1)
وقال أيضاً: (وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات ويترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله والإيمان يزيد وينقص ويجتمع في العبد إيمان ونفاق...)(2).
وبعد هذه الوقفة مع هذا الكاتب في تناقضاته وعدم فهمه لكلام شيخ الإسلام نرجو أن يعيد النظر فيما كتبه وأن يرجع إلى الحق، هو وغيره من الذين يتبنون عقيدة أنه يمكن أن يكون هناك إيمان بلا عمل، وأن يتبعوا أقوال السلف وأن يتركوا هذه الأقوال المحدثة المبتدعة، التي فرقت الأمة الإسلامية وأن يتوب إلى الله من هذه العقيدة الخبيثة التي حذر منا علمائنا قديماً وحديثاً، وحفظ الله بهم هذا الدين،وأن لا يكون ممن يشملهم الآية { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89] وأن لا يأخذه العزة بالإثم كما قام غيره بتسويد الصفحات للدفاع عن هذه العقيدة الضالة التي هي دعوة إلى الانحلال والانسلاخ من الدين وأخيراً لا أقول إلا كما قال الشاعر:
عليَّ نحتُ القوافي حين انظمها وإنها لا تُضاهي نَظمها الدررُ
ولستُ أخلقُ فهما للغبي بها وما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ
ترك جنس العمل = كفر الإعراض !!!
ذكر بعضهم أن مسألة ترك أعمال الجوارح بالكلية –جنس العمل- من الصور البعيدة وهي (نظرية غير واقعية ولا عملية إذ لا يتصور وقوعها من مسلم، والشرائع لم تبن على الصور النادرة)(3)...
ولكن هل صحيح أن مسألة ترك جنس العمل من الصور البعيدة والنادرة؟!
نقول وبالله التوفيق:
__________
(1) مجموع الفتاوى (2/345).
(2) مجموع الفتاوى (7/616).
(3) كلمة حق حول جنس العمل، لفضيلة الشيخ ربيع المدخلي –سدده الله-(1/205)
إن منشأ هذا القول ظهر عندما قام الحلبي بإيراد بعض الفرضيات العقلية والجدليات البدعية على أنه لا يمكن لأحد أن يوضح المقصود من (ترك جنس العمل) كما ذكر ذلك في التنبيهات ص14-17و110-127و194و239و304و417-423...وغيرها، وفي الرد البرهاني ص146-147و163و184(1).
فنحن بدورنا سننقل أطول كلام له حول هذه المسألة ونرد عليه ونبين أن هذه الأقوال إنما تنبع من جهل المرء بمسائل العقيدة، وبالأخص بمسائل الأسماء والأحكام الناتجة عن عدم الأخذ عن العلماء الربانيين والمشايخ المعتبرين.
فقد قال الحلبي في كتابه التنبيهات ص14-15في معرض تساؤله عن العمل الذي لا يصح الإيمان إلا به:
فما حد (العمل) الذي لا يصح الإيمان إلا به؟!
وهل هو (عمل القلب والجوارح) –معاً-؟!
أم هو واحد منهما؟!
فإن كان: فأيهما؟! وكيف هو؟!
فإن كان عمل الجوارح-منهما- فماذا منه؟!
كله؟!
أم الصلاة، والزكاة،والحج، والصيام-جميعاً؟!
أم واحد من هذه –تعييناً- ؟! أم بعض دون بعض؟!
أم ليس واحداً منها –مطلقاً-؟!
أم أي واجب –من غيرها- ؟!
أم أي عمل –واجباً- كان أم غير واجب-ولو كان مستحبا-؟!
أم هو (جنس العمل!!) –كما يقال اليوم؟!
ثم –إن كان –فما تعريف هذا؟!
هل هو (أي فرد من أفراده)؟! أم (حده الأدنى) -منه-؟!
وما المبقي لصاحبه في دائرة الإسلام ؟!
وكذلك: ما المخرج له منها؟!
نعم ذكر الأخ السعد –أسعده الله بالصواب- (ص23) أن تارك (جنس العمل) هو: (من لم يأت بالعمل مطلقاً)!!
فهل –هو- يعني ما يقول في كلمة (مطلقاً) –تماماً-؟!
وكذا آثارها؟!
... ولكل جواب -كما لا يخفى !-، وحكم...
فليجب –إذا- على أسئلتي السابقة –القريبة- لتصور كم هو صعب (عليه) سؤاله –نفسه-!!!ّ
انتهت شبهاته!!!.
__________
(1) هذه الصفحات أشار إليها الحلبي نفسه في كتابه التنبيهات ص454.(1/206)
سنجيب الحلبي عن هذه التساؤلات التي أدت إلى فتنة بين الشباب عامة وطلبة العلم خاصة، وما هذه إلا بسبب الجهل بمسائل العقيدة وعدم الثقة بالعلماء وبعلمهم(1) والله إنها الحالقة أن يأتي أمثال الحلبي ويضع (نفسه – تلبيساً على الدهماء – في مصاف هؤلاء الأكابر الذين شابت لحاهم في تدريس العقيدة السلفية قبل أن يولد هو وأمثاله(2))(3).
الأجوبة على شبهات!!! الحلبي:
السؤال الأول: فما حد (العمل) الذي لا يصح الإيمان إلا به؟!
__________
(1) وإن كانوا يستخدمون التقية كالرافضة في أنهم يحترمون العلماء ويبجلونهم { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [آل عمران: 167] وما هؤلاء إلا شرذمة تربوا على أخلاق الحلبي. والله المستعان
(2) أمثال الحلبي كثيرون في كل زمان ومكان -لا كثرهم الله- وهم الذين يرون أنفسهم أكبر من العلماء علما –زعموا- وما الكتابات التي تنشر في صفحات الانترنيت في مسائل الإيمان والتي تدافع عن هذه العقيدة الخبيثة من أناس مجهولين –رويبضات هذا العصر- إلا دليل على سوء ظنهم بالعلماء وبعلمهم-والله المستعان- { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83] قال أهل العلم { وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } هم العلماء!.
(3) أقوال ذوي العرفان (صفحة ل) للدكتور عصام بن عبدالله السناني –حفظه الله-(1/207)
الجواب: قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-: (العمل الآن الذي يشترط للإيمان هو جنس العمل واضح؟ هو جنس العمل بالاتفاق أو الصلاة عند من قال بكفر تاركها، إذا عمل عملا تقرب به إلى الله جل وعلا خلاص عندهم صح إيمانه، عمل أي عمل، واحد عند من لا يقول بكفر تارك الصلاة يقولون هذا لا صلى ولا صام ولا زكى ولا حج ولكنه برّ والديه تقربا إلى الله يقولون هذا عمل، صار إيمانه تبعه عمل الذي هو عمل بدني تقرب به إلى الله)(1).
وقال أيضاً -حفظه الله-: (كذلك ينبغي أن يُعلم أن قولنا ”العمل داخل في مسمَّى الإيمان وركن فيه لا يقوم الإيمان إلا به.“ نعني به جنس العمل، وليس أفراد العمل، لأن المؤمن قد يترك أعمالا كثيرة صالحة مفروضة عليه ويبقى مؤمنا، لكنه لا يُسمّى مؤمنا ولا يصحّ منه إيمان إذا ترك كل العمل، يعني إذا أتى بالشهادتين وقال أقول ذلك واعتقده بقلبي، وأترك كل الأعمال بعد ذلك أكون مؤمنا، فالجواب أن هذا ليس بمؤمن؛ لأنّه تركٌ مسقطٌ لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط لأصل الإيمان؛ يعني ترك جنس العمل مسقط للإيمان، فلا يوجد مؤمن عند أهل السنة والجماعة يصحّ إيمانه إلا ولا بد أن يكون معه مع الشهادتين جنس العمل الصالح، يعني جنس الامتثال للأوامر والاجتناب للنواهي)(2).
وقال أيضاً-حفظه الله- في شرحه [لفضل الإسلام]: (أما عمل الجوارح فهو كل عمل صالح يتقرب به العبد إلى ربه بجوارحه مما أمر الله جل وعلا به).
ومن أراد مزيد من الأجوبة مراجعة فصل (أقوال العلماء وجنس العمل).
السؤال الثاني: وهل هو (عمل القلب والجوارح) –معاً-؟!
الجواب: بما أن شبهة الحلبي جاءت عن (حد العمل الذي يصح الإيمان به) فإذن الجواب يكون كالأتي:
__________
(1) شرح كتاب أصول الإيمان، نهاية الشريط الثامن.
(2) شرح لمعة الاعتقاد لابن قدامة.(1/208)
لا بد من عمل القلب وعمل الجوارح لكي يصح إيمان العبد، ويكون من أهل الجنة، أما وجود أحد الأعمال –القلب أو الجوارح- فكما ذكرنا سابقاً أنه يمكن وجود عمل الجوارح دون أعمال القلوب كما هو شأن المنافقين، أما وجود عمل القلب دون عمل الجوارح فهذا ممتنع محال غير متصور ألبته.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته فهذا ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح)(1).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب وحيث عطفت عليه الأعمال فإنه أريد أنه لا يكتف بإيمان القلب بل لابد معه من الأعمال الصالحة)(2).
فمن هنا نعلم أن وجود إيمان في القلب بدون عمل ظاهر محال ممتنع غير متصور، بل لا بد أن يظهر موجب الإيمان في القلب من الأعمال الظاهرة بحسبه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه كقوله تعالى { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين... } )(3)
وقال أيضاً: (مَنْ كَانَ مَعَهُ إيمَانٌ حَقِيقِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِقَدْرِ إيمَانِهِ)(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/611).
(2) مجموع الفتاوى (7/198).
(3) مجموع الفتاوى (7/221).
(4) مجموع الفتاوى (2/345).(1/209)
وقال أيضاً: (وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات ويترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله والإيمان يزيد وينقص ويجتمع في العبد إيمان ونفاق...)(1).
وأخيرا أنقل كلام جامع في غاية الاختصار لشيخ الإسلام –رحمه الله-: (فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس)(2).ولا أدري هل نحتاج إلى كتب اللغة والتعاريف لنفكك طلاسم وألغاز هذه العبارة؟!.
السؤال الثالث: أم هو واحد منهما؟!
الجواب: هذا السؤال يدل على جهل الحلبي أو تجاهله بمذهب السلف –وأحلاهما مر- فهل من قائل يقول أن حد الإيمان يصح بأحد الأعمال –القلب والجوارح- دون الآخر؟!.
فعامة فرق الأمة متفقة على دخول أعمال القلوب في الإيمان إلا من شذ، قال شيخ الإسلام –رحمه الله-:(والمقصود هنا أن عامة فرق الأمة تدخل ما هو من أعمال القلوب حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك وأما المعتزلة والخوارج وأهل السنة وأصحاب الحديث فقولهم في ذلك معروف وإنما نازع في ذلك من اتبع جهم بن صفوان من المرجئة وهذا القول شاذ)(3).
لذلك لا بد من الاثنين –عمل القلب والجوارح- ليصح إيمان المرء، ويكون من أهل الجنة، لا بد من عمل القلب وعمل الجوارح، أما وجود أحد الأعمال –القلب أو الجوارح- فيمكن وجود عمل الجوارح دون أعمال القلوب كما هو في شأن المنافقين، أما وجود عمل القلب دون عمل الجوارح فهذا ممتنع محال غير متصور ألبته(4).
السؤال الرابع: فإن كان: فأيهما؟! وكيف هو؟!
الجواب: يراجع الجواب السابق.
السؤال الخامس: فإن كان عمل الجوارح-منهما- فماذا منه؟!
__________
(1) مجموع الفتاوى (7/616).
(2) مجموع الفتاوى (7/9).
(3) مجموع الفتاوى(7/550).
(4) راجع تفصيل ذلك في فصل مصطلح (جنس العمل).(1/210)
الجواب: الحلبي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ولو كان يدري أنه لا يدري لفكر ولتأمل قبل أن يسأل هذا التساؤل، ولكن هَمُّ الحلبي أن يورد أكبر عدد من الشبهات دون النظر إلى معانيها، فقوله (فإن كان عمل الجوارح-منهما-) هذا القول منه إشارة إلى إخراج أعمال القلوب من الإيمان ولم يقل بهذا الكلام إلا الجهمية ومن تبعهم قال شيخ الإسلام –رحمه الله-:(والمقصود هنا أن عامة فرق الأمة تدخل ما هو من أعمال القلوب حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك وأما المعتزلة والخوارج وأهل السنة وأصحاب الحديث فقولهم في ذلك معروف وإنما نازع في ذلك من اتبع جهم بن صفوان من المرجئة وهذا القول شاذ)(1).
والأسئلة اللاحقة مبنية على هذا التساؤل النابع من الجهل بمسائل العقيدة بل بمعاني الكلمات!!!.
السؤال السادس:كله؟!
الجواب: لا...فلا يقول أحد!! إن (حد العمل الذي يصح الإيمان به) هو كل الأعمال إلا الخوارج والمعتزلة(2) فإنهم يكفرون بترك بعض الواجبات، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (قالت الخوارج والمعتزلة الطاعات كلها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان فذهب سائره فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان)(3).
وقال أيضاً -رحمه الله-: (فقالت الخوارج والمعتزلة فعل الواجبات وترك المحرمات من الإيمان فإذا ذهب بعض ذلك ذهب الإيمان كله فلا يكون مع الفاسق إيمان أصلا بحال.
ثم قالت الخوارج هو كافر وقالت المعتزلة ليس بكافر ولا مؤمن بل هو فاسق ننزله منزلة بين المنزلتين فخالفوا الخوارج في الاسم ووافقوهم في الحكم وقالوا أنه مخلد في النار لا يخرج منها)(4).
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/550).
(2) وإن كانت المعتزلة تختلف مع الخوارج في اسم مرتكب الكبيرة، لكنها تتفق معها في الحكم.
(3) مجموع الفتاوى (7/510).
(4) مجموع الفتاوى (18/270).(1/211)
وقال أيضاً -رحمه الله-: (قالت الخوارج والمعتزلة وهو-أي الإيمان- أداء الواجبات واجتناب المحرمات فاسم المؤمن مثل اسم البر والتقى وهو المستحق للثواب فإذا ترك بعض ذلك زال عنه اسم الإيمان والإسلام)(1).
السؤال السابع: أم الصلاة، والزكاة،والحج، والصيام-جميعاً؟!
الجواب: العلماء اختلفوا في كفر تارك المباني الأربعة، والأمر لا يخرج عن كونه اجتهاداً بين راجح ومرجوح، وليس للأمر علاقة بتارك العمل بالكلية –جنس العمل-.
فالذي يربط مسألة ترك المباني الأربعة مع ترك العمل بالكلية فقد أخطأ إذ لا تلازم بين الأمرين.
قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-: (فمن قال يكفر بترك الصلاة تهاونا وكسلا يقول: العمل الذي يجب هنا هو الصلاة؛ لأنه إن ترك الصلاة فإنه لا إيمان له.
والآخر من أهل السنة الذين يقولون لا يكفر تارك الصلاة كسلا وتهاونا يقولون لابد من جنس عمل لابد من أن يأتي بالزكاة ممتثلا، بالصيام ممتثلا، بالحج ممتثلا يعني واحد منها، أن يأتي طاعة من الطاعات ممتثلا حتى يكون عنده بعض العمل أصل العمل؛ لأنه لا يسمى إيمان حتى يكون ثم عمل)(2).
وقال أيضا -حفظه الله-: (العمل الآن الذي يشترط للإيمان هو جنس العمل واضح؟ هو جنس العمل بالاتفاق أو الصلاة عند من قال بكفر تاركها، إذا عمل عملا تقرب به إلى الله جل وعلا خلاص عندهم صح إيمانه، عمل أي عمل، واحد عند من لا يقول بكفر تارك الصلاة يقولون هذا لا صلى ولا صام ولا زكى ولا حج(3) ولكنه برّ والديه تقربا إلى الله يقولون هذا عمل، صار إيمانه تبعه عمل الذي هو عمل بدني تقرب به إلى الله)(4).
السؤال الثامن:أم واحد من هذه –تعييناً- ؟! أم بعض دون بعض؟!
الجواب: يراجع الجواب السابق.
__________
(1) النبوات (1/144).
(2) محاضرة مفرغة بعنوان (الإيمان).
(3) ملاحظة أنه لا يلزم من ترك المباني الأربعة ترك جنس العمل، فكل منهما أمر مغاير للآخر. فتنبه
(4) شرح كتاب أصول الإيمان، نهاية الشريط الثامن.(1/212)
السؤال التاسع:أم ليس واحداً منها –مطلقاً-؟!
الجواب: يراجع الجواب السابق.
السؤال العاشر: أم أي واجب -من غيرها- ؟!
الجواب: المهم أن يأتي الرجل بعمل من الأعمال يبتغي بها وجه الله عز وجل، راجع الجواب عن السؤال الأول والسابع.
السؤال الحادي عشر: أم أي عمل –واجباً- كان أم غير واجب-ولو كان مستحبا-؟!
الجواب: هذا السؤال أيضاً نابع عن جهل صاحبه، ولكن كما قلنا أن هم الحلبي أن يورد أكبر عدد من الشبهات، لكي يُضل به الجهلة –والله المستعان-.
ألا يدري الحلبي أن فعل المستحبات أعظم مشقة من فعل الواجبات؟!، وهل يتصور أن يأتي الرجل ويقيم الليل، وهو تارك للصلوات المفروضة؟!، أو أن يصوم الاثنين والخميس ويفطر في نهار رمضان؟!، أو أن يتصدق ليلاً ونهاراً على الفقراء والمساكين، ولا يخرج زكاة ماله؟!
وهل يبلغ العبد مرتبة المحبة عند الله إلا بفعل النوافل لا بفعل الواجبات؟! كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه).
وهذا يذكرني بسؤال وجه لفضيلة الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- نصه:
س/إذا كان هناك جهاد في سبيل الله تحت راية لا إله إلا الله وخرج المسلمون ملبين داعي الجهاد وكان منهم من لا يصلي وكان يحرص على نيل الشهادة وأراد بقتاله أو بجهاده إعلاء كلمة الله وكتب له أن يقتل في هذه المعركة وهو متوجه لإعلاء كلمة الله لكنه لا يصلي فماذا يقال فيه؟.
فأجاب فضيلة الشيخ الألباني –رحمه الله-:(1/213)
يقال فيه أن تارك الصلاة كما هو معلوم لدى جميع علماء المسلمين ما بين مكفر له مخرج له عن الملة وما بين مفسق له يخشى أن يموت على غير الملة...فمثل هذا لا أتصوره يكون جهاداً لأنني لا أتصور إنساناً...مثال مادي واضح جداً إنساناً إذا قيل له افعل ارفع هذا الوزن الخفيف يقول أنا أريد أن أرفع ما هو أثقل منه وفوق طاقة الإنسان العادي هذا لا يصدق هذا يقال له ارفع هذا الوزن الخفيف لنؤمن مقدماً بأنك قد تستطيع أن ترفع الوزن الثقيل فلا يمكننا أن نتصور مسلماً عاش ما شاء الله دهراً طويلاً أو قصيراً أقل شيء أدركته الصلوات الخمس وهو في أرض المعركة ثم هو لا يصلي كيف يكون هذا مجاهداً في سبيل الله وهو لا يجاهد هواه في طاعة الله في ما هو أهون على النفس الأمارة بالسوء من أن يضع –كما يقال في بعض البلاد- دمه في كفه على كفه ولذلك فأنا لا أتصور من كان ظاهراً في تركه للصلاة أن يكون مجاهداً حقاً في سبيل الله ضدان لا يجتمعان أبداً وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (يغفر للمجاهد كل ذنب إلا الدين) والدين له أحكام في بعض الأحوال يؤديها ربنا عنه فكيف يكون حال هذا الذي يترك الصلاة والله عز وجل قد ألهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - في موضوع آخر (ودين الله أحق أن يقضى) لذلك لا أتصور وجود مجاهد حقاً في سبيل الله وفي مقابل هذا انه تارك للصلاة لله هذا أمر لا يتصور)(1).أ.هـ.
يرجى من القارئ الكريم أن يلاحظ عدد المرات التي استخدم فيها الشيخ كلمة (لا أتصور) فهذا محض خيال يشبه خيالات الحلبي وأمثاله، وسفه يليق به وبأمثاله.
فلا يتصور رجل مؤمن يقول أنا أفعل المستحبات وأترك الواجبات، فهذه الصورة موجودة في موضع واحد !!! في نفس المعتقد فقط وليس في الواقع، (ومن المعلوم أن مقدرات الأذهان ومتصورات العقول يحصل فيها مالا وجود له في الخارج)(2)
__________
(1) سلسلة الهدى والنور (466/1) الدقيقة (61).
(2) درء التعارض (2/391).(1/214)
وهذه فروض ذهنية (كما تفرض سائر الممتنعات في الذهن مثل أن يفرض موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قائما بنفسه ولا بغيره ولا مبائنا لغيره ولا مجانبا له وهذا كله مفروض في الذهن وليس كل ما فرضه الذهن أمكن وجوده في الخارج وليس كل ما حكم به الإنسان على ما يقدره ويفرضه في ذهنه يكون حكما صحيحا على ما يوجد في الخارج ولا كل ما أمكن تصور الذهن له يكون وجوده في الخارج، بل الذهن يتصور أشياء ويقدرها مع علمه بامتناعها ومع علمه بإمكانها في الخارج ومع عدم علمه بالامتناع الخارجي والإمكان الخارجي وهذا الذي يسمى الإمكان الذهني فان الإمكان يستعمل على وجهين إمكان ذهني وإمكان خارجي فالإمكان الذهني أن يعرض الشيء على الذهن فلا يعلم امتناعه بل يقول يمكن هذا لا لعلمه بإمكانه بل لعدم علمه بامتناعه مع إن ذاك الشيء قد يكون ممتنعا في الخارج)(1).
وأخيراً أنقل كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-: (ومن قال بحصول الإيمان الواجب(2) بدون فعل شيء من الواجبات سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له أو جزءا منه فهذا نزاع لفظي كان مخطئا خطئا بينا وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف)(3).
فمن هذا يتبين أن العمل المطلوب لكي يصح به إيمان العبد هو أي عمل واجب وأن وجود عمل مستحب دون الواجب محض خيال!!!.
السؤال الثاني عشر: أم هو (جنس العمل!!) -كما يقال اليوم؟!
__________
(1) الرد على المنطقيين (1/318).
(2) كما ذكرنا في تعريف الإيمان الواجب هو الإيمان الذي إذا انتفى بالكلية، انتفى أصل الإيمان أما إذا انتفى بعضه فقد انتفى كماله. وكلام شيخ الإسلام واضح أن أصل الإيمان لا يحصل للعبد إذا كان تاركاً للواجبات، ومن قال بحصوله -أي الإيمان- بدون فعل الواجبات فهذه هي بدعة الإرجاء... فهل من مدكر؟!.
(3) مجموع الفتاوى (7/621).(1/215)
الجواب: نعم هو جنس العمل، كما يقال اليوم وكما قيل سابقاً من قبل العلماء(1)
السؤال الثالث عشر: ثم –إن كان –فما تعريف هذا؟!
الجواب: لقد سئل الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- عن معنى مصطلح (جنس العمل):
فأجاب الشيخ -حفظه الله-: (جنس العمل يعني عمل صالح، أي عمل صالح، أي عمل صالح ينوي به التقرب إلى الله جل وعلا ممتثلا فيه أمر الله جل وعلا، هذا متفق عليه:
(من قال بأنّ تارك الصلاة يكفر كسلا: قال العمل الصالح هذا هو الصلاة.
(ومن قال تارك الصلاة لا يكفر من السلف: قال لابد من جنس العمل.
السلف اختلفوا في تارك الصلاة، من قال تارك الصلاة يكفر قال الصلاة هي جنس العمل؛ لابد أن يأتي بالصلاة، ومن قال لا... تارك الصلاة لا يكفر تهاونا أو كسلا قالوا لابد من جنس العمل؛ لابد أن يعمل عملا صالحا(2) من أي وجه، يعني جنس العمل لابد منه)(3).
السؤال الرابع عشر: هل هو (أي فرد من أفراده)؟! أم (حده الأدنى) -منه-؟!
الجواب: إن كان (أي فرد من أفراده)، أو(حده الأدنى) -منه- !!!، المهم أن يكون عنده (جنس العمل يعني عمل صالح، أي عمل صالح، أي عمل صالح ينوي به التقرب إلى الله جل وعلا ممتثلا فيه أمر الله جل وعلا).
السؤال الخامس عشر: وما المبقي لصاحبه في دائرة الإسلام ؟!
الجواب: قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- في شرحه [لفضل الإسلام]: وأما العمل: العمل قسمان:
عمل الجوارح.
وعمل القلب.
وكلاهما ركن في الإيمان، فلا بد في تحقيق مسمَّى الإيمان أن يأتي بجنس عمل القلب، وأن يأتي بجنس عمل الجوارح، هذا قول أهل السنة والجماعة, أهل الحديث أتباع السلف الصالح فيما قرروه في عقائدهم).أ.هـ.
__________
(1) يراجع فصل مصطلح (جنس العمل).
(2) في الأصل (صالح) والصواب ما أثبتناه.
(3) جلسة خاصّة(1) مع الشيخ وهو شريط مفرغ.وللاستزادة مراجعة مكتبة الشيخ صالح آل الشيخ.(1/216)
وقال أيضاً -حفظه الله-: (وإذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة بالقول والعمل والاعتقاد كأركان ثلاثة وليست لوازم، فإن من انتفى في حقه الاعتقاد فهو كافر؛ لأنه ذهب ركن الإيمان إلا على هذه جميعا، ومن انتفى في حقه القول فهو كافر، ومن انتفى في حقه جنس العمل فهو كافر، وهذا معنى أهل السنة والجماعة الإيمان قول وعمل واعتقاد)(1)..أ.هـ.
وقال أيضاً: في [شرحه للعقيدة الطحاوية التي انتهت بتاريخ 1 محرم 1420هـ].
س/ هل تارك العمل بالكلية مسلم؛ تارك الأركان وتارك غيرها من الواجبات والمستحبات والأعمال الظاهرة بالجوارح ؟
ج/ الجواب: أن العمل عند أهل السنة والجماعة داخل في مسمى الإيمان؛ يعني أن الإيمان يقع على أشياء مجتمعة وهي الاعتقاد والقول والعمل، ولذلك من ترك جنس العمل فهو كافر؛ لأنه لا يصحّ إسلام ولا إيمان إلا بالإتيان بالعمل).أ.هـ.
السؤال السادس عشر: وكذلك: ما المخرج له منها؟!
الجواب: يراجع الجواب السابق. لأن هذا السؤال لا يختلف عن السؤال السابق، فالذي يدخل في الإيمان فقد خرج من الكفر والعكس بالعكس.
السؤال السابع عشر: نعم ذكر الأخ السعد(2) –أسعده الله بالصواب- (ص23) أن تارك (جنس العمل) هو: (من لم يأت بالعمل مطلقاً)!!
فهل –هو- يعني ما يقول في كلمة (مطلقاً) –تماماً-؟!
وكذا آثارها؟!
... ولكل جواب -كما لا يخفى !-، وحكم...
الجواب: يراجع الأسئلة السابقة.
وأخيراً قال الحلبي: فليُجبْ –إذاً- على أسئلتي السابقة –القريبة- لتصور كم هو صعب (عليه) سؤاله –نفسه-!!!.
__________
(1) محاضرة خاصة عن الإيمان]
(2) هو الشيخ الفاضل /عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد-حفظه الله-،الموجه له هذه الأسئلة.(1/217)
نقول وبالله التوفيق: ليس في الأسئلة صعوبة إلا من أشرب قلبه الشبهات التي تفرزها العقول الخالية عن نور العلم، فكما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع: هم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه.
فالحلبي وأمثاله لا يخدعون إلا العوام فهم (يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذا الكلام المتشابه الذي يخدعون به جهال الناس هو الذي يتضمن الألفاظ المتشابهة المجملة التي يعارضون بها نصوص الكتاب والسنة وتلك الألفاظ تكون موجودة مستعملة في الكتاب والسنة وكلام الناس لكن بمعان أخر غير المعاني التي قصدوها هم بها فيقصدون هم بها معاني أخر فيحصل الاشتباه والإجمال)(1).
__________
(1) درء التعارض (1/128).(1/218)
وكلما نظرت إلى كلام الحلبي وتساؤلاته تذكرت كلام الإمام الرباني ابن القيم –رحمه الله- حينما يتكلم عن حيل ومكايد الشيطان في كتابه البديع (إغاثة اللهفان) فقال : (ومن حيله ومكايده : الكلام الباطل والآراء المتهافتة والخيالات المتناقضة التي هي زبالة الأذهان ونحاتة الأفكار والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة التي تعدل الحق بالباطل والخطأ بالصواب قد تقاذفت بها أمواج الشبهات وزانت عليها غيوم الخيالات فمركبها القيل والقال والشك والتشكيك وكثرة الجدال ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا وقالوا من عند أنفسهم فقالوا منكرا من القول وزورا فهم في شكهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال فهم إليه يحاكمون وبه يتخاصمون فارقوا الدليل واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل)(1).
فهل يرى القارئ أي فرق بين شبهات الحلبي وكلام ابن القيم على من تمكن الشيطان من إضلاله؟!
شبهات(2) تهافت كالزُجاج تخالُها……حقاً وكلٌ كاسرٌ مكسور
فبعد هذا التمهيد، ندخل إلى بيت القصيد، فأقول وبالله التوفيق:
ذكر بعض الأفاضل أن مسألة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- من الصور البعيدة مع تقريرهم لمنهج السلف في كفر وزندقة تارك جنس العمل، فمن هؤلاء الأفاضل:
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/188).
(2) في الأصل (حجج).(1/219)
الشيخ ربيع بين هادي المدخلي -حفظه الله- فقد قال في رسالته (كلمة حق حول جنس العمل): (وهنا ملاحظة مهمة ينبغي لفت النظر إليها وهي أن الصورة التي ذكرها الأخ حمد -وفقه الله- لا يجوز لمسلم أن يتردد في تكفير صاحبها إن وجد، ولكنها في الوقت نفسه هي نظرية غير واقعية ولا عملية إذ لا يتصور وقوعها من مسلم، والشرائع لم تبن على الصور النادرة كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-.
فكيف نزج بدعوتنا وشبابنا في الصور المستبعدة أو المستحيلة وتشحن النفوس وتضيع الأوقات في القيل والقال).أ.هـ.
ومثله ما قاله الشيخ عبد العزيز ريس الريس -سدده الله-: (أنه لا يستطيع أحد أن يحكم على أحد أنه لم يعمل شيئاً من جنس أعمال الجوارح، ولكن أهل العلم يذكرون هذه المسألة رداً على المرجئة، من باب إثبات قوة التلازم بين الظاهر والباطن. والله أعلم)(1).أ.هـ.
__________
(1) الإمام الألباني وموقفه من الإرجاء) ص7.(1/220)
نقول: إن الحكم على مسألة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- بأنها من الصور البعيدة غير صحيحة إلا إذا نظرنا إلى المسألة من جانب واحد، ألا وهو (رجل نطق بالشهادتين ثم بقي دهراً لم يعمل خيراً مطلقاً لا بلسانه ولا بجوارحه) ولذلك كان يجب النظر إلى المسألة بشمولية، فلا يتصور أن هناك رجلاً وإن كان من أكفر الخلق(1) أن ينتفي عنده جنس عمل صالح فضلا أن يكون قد أتى بالشهادتين!!!.
ولذلك يجب النظر إلى جميع فروع المسألة من حيث حقيقة الإيمان، وشروطه، وأسباب الكفر، وأقسامه وأنواعه، وتعريف ودلالة كل قسم منها، لكي يتم تصور المسألة للحكم عليه، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
فمسألة كفر تارك العمل بالكلية –جنس العمل- مرتبط ارتباط وثيق بشروط (لا إله إلا الله) فشرط الانقياد هو عبارة عن (الانقياد بحقوقها-وهي الأعمال الواجبة- إخلاصاً لله وطلباً لمرضاته)(2)، فمن لم ينقد لهذه الكلمة فقد انتفى شرط من شروطه، وانتفاء الشرط انتفاء للمشروط.
__________
(1) فرعون الذي جحد ربوبية الله تعالى وادعاه لنفسه، فكان كفره من أشد أنواع الكفر، كان عنده عمل صالح !!! فقد قام بتربية موسى عليه السلام، ولكن لا يقبل الله هذا العمل منه لأن الأعمال لا تقبل من الكافر!!!. قال تعالى { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً } [الفرقان: 23]، فقال الله تعالى على لسان فرعون { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18]، قال ابن كثير –رحمه الله- في تفسيره(ج 6 / ص 137) لهذه الآية [ أي: أما أنت الذي ربيناه فينا، وفي بيتنا وعلى فراشنا وغذيناه، وأنعمنا عليه مدة من السنين].أ.هـ.
(2) الواجبات المتحتمات المعرفة على كل مسلم ومسلمة، لشيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-. قارن هذه العبارة مع الجواب رقم (11) ضمن أسئلة الحلبي الذي مر قريباً.(1/221)
وأما من حيث ارتباطه بحقيقة الإيمان، فإن (الإيمان عند أهل السنة والجماعة بالقول والعمل والاعتقاد كأركان ثلاثة وليست لوازم، فإن من انتفى في حقه الاعتقاد فهو كافر؛ لأنه ذهب ركن الإيمان إلا على هذه جميعا، ومن انتفى في حقه القول فهو كافر، ومن انتفى في حقه جنس العمل فهو كافر، وهذا معنى أهل السنة والجماعة الإيمان قول وعمل واعتقاد)(1).أ.هـ.
ولا نقول كما يقول الحلبي:
(فإننا نقول: أركان الإيمان (ثلاثة) قول واعتقاد وعمل، ثم نحن لا نكفر بترك ركن العمل –أي: عمل الجوارح!!)(2)
وقال في موضع آخر: (فالأعمال الظاهرة –طاعات ومعاصي-وجودا وعدما- متعلقة بـ (الإيمان المطلق)، لا (مطلق الإيمان))(3).
وقال أيضاً: ((عمل الجوارح من الإيمان)، وبيان أنه لا يلزم من ذلك أن (ترك عمل الجوارح غير مبطل للإيمان)!!)(4).
فهذه كلها أقوال باطلة، وجمع بين المتناقضات، وتقرير وإحياء مذهب المرجئة بصبغة جديدة.
أما من حيث ارتباط المسألة بأسباب الكفر، فكما هو معلوم أن أسباب الكفر عند أهل السنة والجماعة بالقول أو الفعل أو الاعتقاد ويزيد بعضهم أو بالشك(5)، فالفعل الذي يخرج صاحبه من الملة هو بالإعراض الكلي عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به.
أما أنواع أو أقسام الكفر فقد ذكر العلماء أن الكفر الأكبر خمسة أنواع: كفر تكذيب وكفر استكبار وإباء مع التصديق وكفر إعراض وكفر شك وكفر نفاق.
__________
(1) محاضرة خاصة عن الإيمان]
(2) الرد البرهاني...) صفحة (193).
(3) التنبيهات...) صفحة (425) و(التعريف والتنبئة..) صفحة (33).
(4) التنبيهات...) صفحة (111).
(5) هناك من العلماء من يدخل كفر الشك في الأسباب، ومنهم من يدخله في الأنواع، وليس في المسألة عظيم خلاف!!!.(1/222)
قال العالم الرباني الإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله-: (فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل وهذا القسم قليل في الكفار فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة.
وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا وهو الغالب على كفر أعداء الرسل.
وأما كفر الإعراض: فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة كما قال أحد بني عبد يا ليل للنبي: والله أقول لك كلمة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك.
وأما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا بكذبه بل يشك في أمره وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول جملة فلا يسمعها ولا يلتفت إليها وأما مع التفاته إليها ونظره فيها: فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.
وأما كفر النفاق: فهو أن يظهر بلسانه الإيمان وينطوي بقلبه على التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر)(1).أ.هـ.
مما سبق يجب أن لا نتسرع في إطلاق الأحكام(2) إلا بعد تحرير المسألة وتحقيقها تحقيقاً علمياً رصيناً، لكي لا نحيد عن الصراط المستقيم.
__________
(1) مدارج السالكين (1/337-338)، باختصار.
(2) الحكم المقصود هنا هو الحكم العام، أما الأحكام الخاصة فهذا من شأن العلماء الربانيين، والمحاكم الشرعية، فاحذر وتنبه!!!.(1/223)
ولذلك فبعد النظر إلى المسألة بشمولية يتبين أن مسألة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- هي بعينها كفر الإعراض، وأن الله ذكر هذا النوع من الكفر في كتابه في أكثر من ستين موضعاً، ومن غير المعقول أن يأتي رجل فيقول أن الله حذر من شيء وهذا الشيء ممتنع الوقوع!!!، وفيما يأتي أقوال العلماء الذين قرروا أن مسألة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- هي بعينها كفر الإعراض:
(1) قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله- في معرض كلامه عن أنواع العلم: العلم علمان:
(علم لا يسع أحدا جهله: مطلوب من كل أحد أن يتعلمه، وهو ما يصح به إسلامك، تتعلم التوحيد: معنى الشهادتين، ما معنى كلمة التوحيد؟ ما معنى إفرادك لله جل وعلا العبادة؟ تفهم ذلك بأدلته، ما معنى شهادة أن محمدا رسول الله ؟ الأركان: أركان الإسلام، تتعلم ذلك، المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة: حرمة الخمر، حرمة الزنا، حرمة الربا، حرمة القطيعة قطيعة الأرحام ونحو ذلك، الأمور المجمع عليها. الأمر بصلة الأرحام الأمر ببر الوالدين، هذه الأمور لا يسع أحد جهلها، لا بد أن تعلم أن الصلاة فرض، وأن الزكاة فرض، وأن الصيام فرض وأن الحج فرض، إذن هذا علم لا يسع أحدا جهله، هذا جميع المسلمين عُلماءٌ بهذا، وإذا كانوا جهالا بهذا لم يكونوا مسلمين، ولذلك من نواقض الإسلام، العاشر من نواقض الإسلام: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، الذي لا يتعلم دين الله يعني ما يصح إسلامه به، ولا يعمل به هذا ليس من المسلمين وإن عاش بينهم)(1)
وسئل-حفظه الله- عن ضابط كفر الإعراض (س/ من أنواع الكفر الأكبر كفر الإعراض، فما ضابط هذا الكفر؟ وهل يعتبر من يزهد في تعلم العلم الشرعي معرضا ؟
فأجاب -حفظه الله-:
ج/ الإعراض هو الناقض العاشر من نواقض الإسلام التي ذكرها إمام الدعوة في النواقض العشرة.
فقال: العاشر الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به.
__________
(1) أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1/224)
مثل عمل الملاحدة وعمل الذي لا يأبه بهذا الدين ليس له همة في هذا الدين، لا في تعلم التوحيد ولا في تعلم أحكام العبادة والصلاة وإلى آخره، وليس له همة في العلم به، فهو لا يعلم الحق، لا لأجل أن الحق لا يستطيع الوصول إليه؛ ولكن لأجل إعراضه كما قال جل وعلا { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء:24]، وقال جل وعلا في سورة الكهف { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [الكهف:57]، ونحو ذلك من الآيات)(1).
وقال أيضاً -حفظه الله- في شرحه لكتاب كشف الشبهات: (إذا تقرر هذا بلا خلاف تنبهت لدقة المصنف رحمه الله إذ قال (فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا) ولم يقل مؤمنا، لم يقل مؤمنا لسببين):
الأول أنه لو نفى الإيمان قد يتوهم أنه يثبت الدرجة التي هي اقل منه وهي الإسلام، وهذا غير مراد فنفى الأقل حتى لا يتوهم المعنى الباطل.
السبب الثاني هي الإسلام لأنه أتى بعبادات ولكن لم يأتِ بالإيمان المصحح لها، فنفي عنه الإسلام لأنه وإن كان أتى بظاهر الإسلام لكن لم يأتِ بالتوحيد الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ففيه الركن الأول من الإسلام، وكذلك لم يحقق الإيمان الذي هو بالقلب واللسان والعمل.
__________
(1) ضرورة التفقه في الدين(1/225)
إذا تبين لك ذلك ففصل بعد ذلك الإمام عليه رحمة الله تعالى بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما) وتقرير هذا أن الكفر عندنا -يعني عند أهل السنة والجماعة- الكفر يكون إخراجا مما ضده الذي هو الإيمان فالإيمان إذا كان فيه اعتقاد وقول وعمل، فضده الكفر يكون باعتقاد يضاد الاعتقاد، وبقول يضاد القول، وبعمل يضاد العمل، ولهذا مورد الكفر يكون بالاعتقاد، ويكون بالقول، ويكون بالعمل؛ لأن الكفر ضد الإيمان، ويتصور أن يكون المرء يعتقد اعتقادا حقا؛ لكن لا يعمل، فليس إذن داخلا في الإيمان، فهؤلاء هم المستكبرون والاستكبار أحد نوعي الكفر؛ لأن الذين كفروا على قسمين منهم من كفر بعد علم هؤلاء هم المستكبرون [قال جل وعلا](1) { إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } وقال جل وعلا في فرعون { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [النمل:14]، وقال جل وعلا أيضا عن فرعون في آخر سورة الإسراء في قِيلِ موسى عليه السلام { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا } [الإسراء:102]، { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ } فعلمه حاصل بذلك فإذن حين كفر لم يكفر عن جهل وإنما عن إباء واستكبار وكذلك أبو جهل وكذلك صناديد قريش سمعوا القرآن وعلموا حجته لكن صدهم عن ذلك الإباء والاستكبار { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف:31].
__________
(1) غير موجودة في الأصل، وأضفناها ليستقيم المعنى.(1/226)
والقسم الثاني مما يكون به الكفر... الإعراض، والإعراض قد يكون إعراضا بعد علم، وقد يكون إعراضا عن العلم، قال جل وعلا { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء:24]، هذا في الإعراض الذي هو إعراض عن العلم، كذلك إعراض بعد علم كما في آيات أُخر.
فإذن العلم بالاتفاق لا يكفي في صحة الدين، حتى يعمل بما دل عليه العلم، علم التوحيد فلم يعمل به هذا مستكبر، علم الحق الذي هو الإيمان بالأركان فلم يعمل بما دل على ذلك فهو مستكبر.
لم يعلم أصلا مع تمكنه من العلم؛ ولكن أعرض فهذا معرض، فإذا أعرض عن التوحيد مع التمكن فهذا معرض وهو غير عامل بالتوحيد وغير معتقد له، فلا يكون مؤمنا، لابد من اجتماع الإيمان بحدوده؛ يعني الإيمان الذي هو في القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وعمل الأركان.
قال (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) وتعبيره هنا رحمه الله بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به) فيه إشارة إلى أن معرفة التوحيد لمن لم يعمل به أنسب من أن يقال (علم التوحيد)؛ لأن المعرفة في القرآن أكثر ما جاءت على سبيل الذم، كما في قوله جل وعلا { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } [النحل:83]، { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146] ونحو ذلك من الآيات فمن رد الحق نقول عرفه ورده، وإن قلنا علمه ورده فلا بأس كما قال جل وعلا { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } [الإسراء:102])(1).
__________
(1) شرح كشف الشبهات (3) وهي عبارة عن [16 شريطا مفرغا](1/227)
(2) وقال الدكتور عصام بن عبدالله السناني -حفظه الله- ((الوجه الثاني): أن ترك أعمال الجوارح التي أمر الله بها في شريعته هو من الإعراض والتولي عن طاعة الله وهو قرين للتكذيب في القرآن قال تعالى في كتابه الحكيم: { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } [ آل عمران:32]، وقال تعالى: { فلا صدق ولا صلى ولكن كذَّب وتولى } [ القيامة:31-32]، ويقول تعالى: { لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى } [ الليل:15-16]، وإليك ما يدل على ذلك من نصوصهم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (الفتاوى:7/142) وذكر هذه الآيات:"فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي، فلهذا قال: { فلا صدق ولا صلى ولكن كذَّب وتولى } [ القيامة:31-32]، وقد قال تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } [ النور:47]، فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل، وإن كان قد أتى بالقول... ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كثيرة، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق".
ويقول رحمه الله(الفتاوى:7/221):"والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين*وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون *وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } إلى قوله: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } [ النور:47-51]، فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا ؛ فبين أن هذا من لوازم الإيمان".(1/228)
ويقول رحمه الله (الفتاوى:7/611،613) أيضاً:"ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه ؛ بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقته لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار... وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص عَلَّقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة، كقوله { من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... أدخله الله الجنة } ، ونحو ذلك من النصوص".
وقال رحمه الله (الفتاوى:7/287):"لو قدر أن قوماً قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألسنتنا بالشهادتين , إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه...كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به , ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك".
2- ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله(مجموعة التوحيد:271) في رسالته نواقض الإسلام الإعراض ضمن هذه النواقض وقال:"العاشرة: الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } [ السجدة:22].
_ وكذلك تقدم قول الشيخ رحمه الله في كتابه(كشف الشبهات:126) حين قال:" لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيءٌ من هذا لم يكن الرجل مسلماً". فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما".(1/229)
3- وعلق سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله(شرح كشف الشبهات:126) على كلام جده حاكياً الإجماع:"بل إجماع بين أهل العلم (أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل)، فلا بد من الثلاثة، لابد أن يكون هو المعتقد في قلبه، ولابد أن يكون هو الذي ينطق به لسانه، ولابد أن يكون هو الذي تعمل به جوارحه، (فإن اختل شيء من هذا) لو وحد بلسانه دون قلبه ما نفعه توحيده، ولو وحد بقلبه وأركانه دون لسانه ما نفعه ذلك".
4- وعلق شيخنا محمد الصالح العثيمين رحمه الله (فتاوى العقيدة:7/100)على كلام الشيخ كذلك قائلاً:"لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فإذا وحد الله كما زعم بقلبه ولكنه لم يوحده بقوله أو فعله ؛ فإنه من جنس فرعون الذي كان مستيقناً بالحق عالماً، لكنه أصر وعاند وبقي على ما كان عليه من دعوى الربوبية"أ.هـ.
5- وقال الشوكاني (الرسائل السلفية - إرشاد السائل إلى دليل المسائل:43) وسئل عمن في البادية من الأعراب لا يفعلون شيئاً من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة:"وأقول من كان تاركاً لأركان الإٍسلام وجميع فرائضه، ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين، فلا شك ولا ريب أن هذا كافرٌ شديد الكفر حلال الدم".
6- قال الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله في كتاب (المنتقى من الفتاوى:1/9):"إذا لم يعمل بمقتضى لا إله إلا الله، واكتفى بمجرد النطق بها، أو عمل بخلافها، فإنه يحكم بردته ويعامل معاملة المرتدين".(1/230)
7- قال الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله في (شرح الطحاوية/موقع الشيخ الرسمي __ السؤال السابع عشر) وذكر نصوصاً:"فهذه النصوص التي فيها أن من نطق بالشهادتين فهو مؤمن مقيدة بهذه القيود التي لا يمكن معها ترك العمل فلا بد أن يكفر بما يعبد من دون الله، ومن لم يعمل فإنه معرض عن دين الله، وهذا نوع من أنواع الردة، فمن لم يعمل مطلقاً وأعرض عن الدين لا يتعلمه ولا يعبد الله فهذا من نواقض الإسلام، قال تعالى: { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } [الأحقاف:3])(1).
(3) وقال الدكتور محمد عبد الله بن علي الوهيبي -حفظه الله- بعد أن ذكر أقوال السلف في كفر تارك العمل بالكلية –جنس العمل-: [ لكن قد يرد تساؤل هنا، وهو، هل يتصور واقعاً أن يترك المرء جنس الأعمال الصالحة بالكلية؟ يجيب عن ذلك شيخ الإسلام مبينا أن الرجل الذي (يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث أو يعدل في قسمه وحكمه من غير إيمان بالله ورسوله لم يخرج بذلك من الكفر فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور فلا يكون الرجل مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد - صلى الله عليه وسلم -)(2).
إذاً ليس المقصود أن المرء لا يعمل شيئاً من أعمال البر والخير الظاهرة إنما المقصود أن يكون هذا(3) العمل عن إيمان وتصديق ونية، وأن يكون من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا التزم هذين الشرطين فقد حصل له من جنس العمل الذي يصح إسلامه وهذا تنبيه مهم في هذه المسألة، والله أعلم](4).أ.هـ.
__________
(1) أقوال ذوي العرفان...، للدكتور عصام بن عبدالله السناني -حفظه الله- ص 114-119.
(2) مجموع الفتاوى (7/621).
(3) في الأصل (هذه) والصواب ما أثبتناه.
(4) نواقض الإيمان الاعتقادية، للدكتور محمد بن عبدالله بن علي الوهيبي (2/137-138).(1/231)
(4) وقد خصص الدكتور عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف-حفظه الله-: مبحثاً خاصاً في رسالته (نواقض الإيمان القولية والعملية) عن تارك العمل بالكلية –جنس العمل- عنوانها (الإعراض التام عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به)، أورد فيها أقوال أئمة السلف في هذه المسألة فقال في سياقها: (والمقصود بالإعراض – ها هنا – والذي يعد ناقضاً من نواقض الإيمان العملية، والإعراض التام عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، وهو التولي عن طاعة الرسول والامتناع عن الإتباع، والصدود عن قبول حكم الشريعة، فإذا كان جنس العمل الظاهر من أصل الإيمان، فإن تركه وعدم الالتزام به إعراض كلي عن هذا العمل، ومن ثم فهو كفر مخرج عن الملة)(1).أ.هـ.
(5) قال د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين الأستاذ بكلية المعلمين بالرياض (بحثه في الكفر الأكبر)(2):"
(النوع السادس: كفر الإعراض: ورد ذكر الإعراض في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة، وأصل الإعراض هو: التولي عن الشيء، والصدود عنه، وعدم المبالاة به. والإعراض عن دين الله تعالى قسمان: القسم الأول: إعراض مكفر: وهو أن يترك المرء دين الله ويتولى عنه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو يتركه بجوارحه مع تصديقه بقلبه ونطقه بالشهادتين.
وهذا القسم له ثلاث صور، هي:
__________
(1) نواقض الإيمان القولية والعملية) ص345-346.
(2) هذا النص للدكتور عبد الله بن عبد العزيز الجبرين موجود في نهاية كتاب(أقوال ذوي العرفان) والتي سحبت من شبكة السحاب أما النسخة المطبوعة والتي تباع في المكتبات السعودية فهذا النص غير موجود، لذا اقتضى التنويه.(1/232)
1- الإعراض عن الاستماع لأوامر الله عز وجل، كحال الكفار الذين هم باقون على أديانهم المحرفة أو الذين لا دين لهم، ولم يبحثوا عن الدين الحق مع قيام الحجة عليهم، فهم أعرضوا عن تعلم ومعرفة أصل الدين الذي يكون به المرء مسلماً، فهم يمكنهم معرفة الدين الحق والسير عليه، ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك، ولم يرفعوا به رأساً.
2- الإعراض عن الانقياد لدين الله الحق وعن أوامر الله تعالى بعد استماعها ومعرفتها، وذلك بعدم قبولها فيترك ما هو شرط في صحة الإيمان، وهذا كحال الكفار الذين دعاهم الأنبياء وغيرهم من الدعاة إلى الدين الحق، أو عرفوا الحق بأنفسهم، فلم يسلموا، وبقوا على كفرهم، قال الله تعالى:]والذين كفروا عما أنذروا معرضون[الأحقاف:3].
3- الإعراض عن العمل بجميع أحكام الإسلام وفرائضه بعد إقراره بقلبه بأركان الإيمان ونطقه بالشهادتين.
فمن ترك جنس العمل بأحكام الإسلام، فلم يفعل شيئاً من الواجبات، لا صلاة ولا صياماً ولا زكاةً ولا حجاً ولا غيرها، فهو كافر كفراً أكبر بإجماع السلف، لقوله تعالى: { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } [آل عمران:32]، ولقوله تعالى: { ومن أظلم ممن ذُكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون } [السجدة:22]، ولآيات أخرى كثيرة تدل على كفر عموم المعرضين، ولأن تركه لجميع الأعمال الظاهرة دليل على خلو باطنه من الإيمان والتصديق الجازم.
القسم الثاني: الإعراض غير المكفر: وهو أن يترك المسلم بعض الواجبات الشرعية غير الصلاة(1)، ويؤدي بعضها...).أ.هـ.
(6) وقال الدكتور عيسى بن عبدالله السعدي في كتابه (الوعد الأخروي) بعدما ذكر حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة وذكر أن جنس الالتزام بالعمل من أركان الإيمان عند السلف ولا يصح الإيمان إلا به :
( والشرع يدل على التلازم من وجهين:
__________
(1) هذا لمن يكفر تارك الصلاة.(1/233)
الأول: دلالة النصوص على أن تحقيق الإيمان وتصديقه إنما يكون بالأعمال الظاهرة والباطنة، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [الأنفال :2- 4]، وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [النور : 62]، وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحجرات : 15].
الثاني: دلالة النصوص على أن التولي المطلق عن الطاعة كفر أكبر مخرج عن الملة قال تعالى : { قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران : 32]وذلك لأن التولي مناقض لحكمة إرسال الرسل، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } [النساء : 64]، أي يصدق فيما أخبر ، ويطاع فيما أمر، وضد التصديق كفر التكذيب، وضد الطاعة كفر التولي، وقد قرن الله بينهما في قوله -تعالى- : { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [طه : 48]، وقوله: { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة : 32]، وقوله: { لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [الليل : 16]).أ.هـ.(1/234)
ومما سبق يتبين لنا جلياً أن ترك العمل بالكلية –جنس العمل- هو كفر الإعراض، فإن (الإرادة التامة مع القدرة تستلزم الفعل فيمتنع أن يكون الإنسان محبا لله ورسوله مريدا لما يحبه الله ورسوله إرادة جازمة مع قدرته على ذلك وهو لا يفعله فإذا لم يتكلم الإنسان بالإيمان مع قدرته دل على أنه ليس في قلبه الإيمان الواجب(1) الذي فرضه الله عليه)(2).
فإذا وجد (الإرادة الجازمة فلابد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور ولو بنظرة أو حركة رأس أو لفظة أو خطوة أو تحريك بدن)(3).
و(إذا تبين هذا وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه زالت الشبه العلمية في هذه المسألة)(4)وأن (جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه)(5).
__________
(1) كما ذكرنا سابقاً أن الإيمان الواجب إذا انتفى من القلب انتفى أصل الإيمان.
(2) مجموع الفتاوى (7/188).
(3) مجموع الفتاوى (7/527).
(4) مجموع الفتاوى (7/575).
(5) مجموع الفتاوى (7/616).(1/235)
ثم أن هناك مسألة أخرى وهي هل يمكن أن يخلو الإنسان عن الإرادة مطلقاً؟(1)
يجيب شيخ الإسلام عن ذلك فيقول: (وأما خلو الإنسان عن الإرادة مطلقا فممتنع فإنه مفطور على إرادة ما لا بد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه والزاهد الناسك إن كان مسلما فلا بد أن يريد أشياء يحبها الله : مثل أداء الفرائض وترك المحارم بل وكذلك عموم المؤمنين لا بد أن يريد أحدهم أشياء يحبها الله وإلا فمن لم يحب الله ولا أحب شيئا لله فلم يحب شيئا من الطاعات لا الشهادتين و لا غيرهما ولا يريد ذلك فإنه لا يكون مؤمنا فلا بد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه الله وأما أرادة العبد لما يهواه ولا يحبه الله فهذا لازم لكل من عصى الله فإنه أراد المعصية والله لا يحبها ولا يرضاها وأما الخلو عن الإرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين:
__________
(1) المرجئة من الذين يقولون أن الإرادة الجازمة قد تخلو من الفعل وهذا القول مبني على تعريفهم للإيمان الذي هو التصديق قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في الزهد والورع والعبادة (1/176): (ولكن طائفة من الناس قالوا أن الإرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول ثم تنازعوا في العقاب عليها فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج ابن الجوزي يرون العقوبة على ذلك وليس معهم دليل على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل والقاضي بناها على أصله في الإيمان الذي اتبع فيه جهما والصالحي وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب).أ.هـ.(1/236)
أحدهما: مع إعراض العبد عن عبادة الله تعالى وطاعته وإن علم بها فإنه قد يعلم كثيرا من الأمور أنه مأمور بها وهو لا يريدها ولا يكره من غيره فعلها وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدا لانتصار هؤلاء الذي يحبه الله ولا لانتصار هؤلاء الذي يبغضه الله(1).
والوجه الثاني: يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما يعلمون أن الله أمر به المجتنبين لما يعلمون أن الله نهى عنه وأمور أخرى لا يعلمون أنها مأمور بها ولا منهي عنها فلا يريدونها ولا يكرهونها لعدم العلم(2))(3)..أ.هـ.
فبعد تلكم النقولات لأهل العلم تبين حقيقة ترك العمل بالكلية –جنس العمل- وأن الذي يحكم على المسألة –ترك العمل بالكلية – بأنه من الصور البعيدة قد أبعد النعجة ولم ينظر إلى المسألة بشمولية.
__________
(1) وهذا هو كفر الإعراض كما سبق، فمن لم يظهر منه عمل ظاهر دل إما على انعدام الإرادة الجازمة وإلا لكان ظهر منه عمل، أو انعدام القدرة، وهذا كما هو معلوم معذور.
(2) جهل الإنسان ببعض الأوامر والنواهي يكون سبباً لانعدام المحبة والبغض لتلك الأوامر والنواهي!!!.
(3) مجموع الفتاوى (10/481-482).(1/237)
فنصيحتي لكل مسلم الالتزام بأقوال العلماء وإحسان الظن بهم وبعلمهم فهم ورثة الأنبياء (يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح اثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن الضالين)(1).
التمسك بغرز العلماء الربانيين هو المخرج من الفتنة
وأحب أن أشير إلى نقطة لطالما تأملتها كثيراً، ألا وهي نصيحة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله- للحلبي وفراسته فيما قد يحدث لو أن الحلبي أصر على أفكاره الإرجائية.
فقد قال الشيخ العلامة صالح الفوزان -حفظه الله- في تقديمه لكتاب رفع اللائمة عن فتوى اللجنة الدائمة : (على الشيخ علي حسن وإخوانه لما كانوا ينتسبون إلى السلف في مسألة الإيمان أن يكتفوا بما كتبه السلف في هذه المسألة ففيه الكفاية فلا حاجة إلى كتابات جديدة تبلبل الأفكار وتكون موضعاً للأخذ والرد في مثل هذه المسألة العظيمة فالفتنة نائمة لا يجوز إيقاظها لئلا يكون ذلك مدخل لأهل الشر والفساد بين أهل السنة).أ.هـ.
تأملوا هذه النصيحة وقارنوها مع الواقع الذي نعيشه، وكل هذا بسبب عدم الأخذ بنصيحة العلماء الربانيين أولاً، والعجب بالرأي ثانياً، وإن كان الأخير ملزوم الأول!!!.
__________
(1) من مقدمة كتاب (الرد على الجهمية والزنادقة...)، للإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله-(1/238)
وما أجمل ما قاله الإمام أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه (إحياء علوم الدين) بعدما تكلم عن العجب بالرأي: (وبذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقا فكل معجب برأيه وكل حزب بما لديهم فرحون وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم والعجب بالبدعة هو استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقا وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه ولا يعالج الداء الذي لا يعرف والجهل داء لا يعرف فتعسر مداواته جدا.
لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله عنه إلا إذا كان معجبا برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه فقد سلط الله عليه بلية تهلكه وهو يظنها نعمة فكيف يمكن علاجه؟! وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في اعتقاده؟! وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهما لرأيه أبدا لا يغتر به إلا أن يشهد له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ولن يعرف الإنسان أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة وعقل ثاقب وجد وتشمر في الطلب وممارسة للكتاب والسنة ومجالسة لأهل العلم طول العمر ومدارسة للعلوم(1) ومع ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور)(2)
فالمخالفون أنفسهم متناقضون في تقرير المسألة حيث إنك لا تجد كتابا أو مقالة أو منشوراً كتبت في هذه المسألة ولم يكن نقولاتهم من العلماء الربانيين إلا وقد خرج برأي مخالف للآخر والله المستعان.
__________
(1) انظر رحمك الله إلى صفات الإنسان الذي يستطيع استنباط الأحكام من الأدلة، ثم قارنها مع صفات الذين يدافعون عن عقيدة المرجئة في هذا العصر، تعرف الفرق!.
(2) إحياء علوم الدين (3/377-378)، أود أن أنبه إن هذا الكتاب فيه الكثير من المخالفات العقدية الخطيرة، ولا ينبغي أن يطلع عليه إلا طلبة العلم الذين لهم إلمام بعقيدة السلف!.(1/239)
وهذا مصداق قول الله تعالى { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء : 82]
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد جعل الحلبي مسألة ترك العمل بالكلية -جنس العمل-متعلقة بترك الصلاة.
فقد قال في كتابه التنبيهات ص16 (نعم إنها مسألة الصلاة).
وقال ص19 (فرجع الأمر-كما قلت وكررت- إلى مسألة (ترك الصلاة)).
وقال ص42 ( فرجع القول إلى (الصلاة) –خصوصاً- لا إلى العمل-عموماً-).
وقال ص44(فرجع الأمر –أخرى!- إلى (الصلاة) –بدءاً وانتهاءً-!).
وقال ص46(إذاً يرجع الأمر –كما ذكرت ، وأكرر!- إلى الصلاة).
وقال ص130 (فرجعنا إلى أصل مسألة الصلاة والقول فيها معلوم معلوم ).
وقال ص240 (فرجع القول إلى مسألة (ترك الصلاة)- بصورة أو بأخرى!- كما هو الظن والأمل!-).(1/240)
ثم يأتي صاحب كتاب دلائل البرهان فيقول ص85:(وليست لهذه المسألة علاقة بتكفير تارك الصلاة أو عدم تكفيره كما توهمه البعض فإن من لم يكفر تارك الصلاة لا يستلزم ألا يكفر تارك أعمال الجوارح بالكلية)(1)، في حين أن عقيدة صاحب الكتاب أن مسألة تكفير تارك أعمال الجوارح بالكلية مسألة خلافية -زعم- مع كونه يتبنى تكفير تارك أعمال الجوارح -جنس العمل- كما ذكر ذلك (صفحة 83) من الكتاب نفسه، والغريب في الكتاب أن الكاتب في مقدمته تقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله- لإبدائه الملاحظات النفيسة والتوجيهات المفيدة والتعليقات النافعة السديدة(2) والشيخ ربيع -حفظه الله- قد قال في مقال له بعنوان (كلمة حق حول جنس العمل) (بعد أن ذكر صورة تارك جنس العمل: (إن كان المراد بجنس العمل هذه الصورة فإني لا أتردد ولا يتردد مسلم في تكفير من هذا حاله وأنه منافق زنديق إذ لا يفعل هذا من عنده أدنى حد للإيمان).أ.هـ.؟!.
وقال أيضاً -حفظه الله- : (في مقال بعنوان: (هل يجوز التنازل عن الواجبات مراعاة للمصالح والمفاسد وعند الحاجات والضرورات):
(ويقول عني إنِّي خالفت السلف في جنس العمل وفي قضايا الإيمان وهو الكذوب(3), وإذا رجع المسلم المنصف إلى كلامي(4) يجده مطابقاً لمنهج السلف ولما قرَّرُوه(5) ويجد في كلامي التصريح بأنَّ تارك العمل بالكلية كافر زنديق).
__________
(1) دلائل البرهان على مناقضة الشيخ الألباني للمرجئة في مسائل الإيمان/ لكاتبه أبو سليمان بن محمد بن علي آل شريف.
(2) انظر تعليقاته ص44و101و104و106و108و118.
(3) المقصود بهذا الكلام الشيخ فالح الحربي-حفظه الله-.
(4) يقصد الشيخ كلامه في رسالته التي بعنوان (كلمة حق حول جنس العمل).
(5) الشيخ يصرح هنا أن تكفير تارك العمل بالكلية -جنس العمل-،هو عين منهج السلف وما قرروه.(1/241)
وقد ذكرنا سابقاً إن كان تارك العمل بالكلية كافر زنديق وأن هذا هو منهج السلف وما قرروه، فهل الذي يخالفهم يكون سلفياً أم خلفياً؟! متبعاً أم مبتدعاً؟!
فمن مفهوم كلام الشيخ -حفظه الله- يكون الجواب أنه ليس سلفياً وهو مبتدع إذ كيف يخالف منهج وتقرير السلف ويكون سلفياً؟!.
ثم نشر مقال آخر لفضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله- على موقعه بعنوان :(هل يجوز أن يرمى بالإرجاء من يقول الإيمان أصل والعمل فرع أو كمال؟!)، قرر فيه أنه لا يجوز أن يرمى بالإرجاء من قال أن الإيمان أصل والعمل فرع أو كمال!!!، وعلى اثر هذا المقال سئل العلماء عن هذا المقال وقد سبق نقل أقوالهم!!
أما فضيلة الشيخ عبد العزيز الريس -حفظه الله- وإن كان قد قرر منهج السلف في المسألة إلا أنه حكم على المسالة بأنه من الصور البعيدة –وقد سبق توضيح ذلك-.
وقد وقعت على كتاب بعنوان (هل نحن مؤمنون؟ حوار حول حقيقة الإيمان والكفر والنفاق) لكاتبه محمد عبدالهادي المصري قال في هامش ص63-64(أما قضية سقوط الإيمان بالكلية بترك جنس عمل الجوارح فهي قضية افتراضية غير قابلة للتحقق -من وجهة نظري- وهي على المستوى النظري لا تتعدى أن تكون من باب بعض الظواهر على انتفاء أصل الإيمان –كدلالة الصلاة على ذلك- ولا دخل لها بالقدر المتفق عليه بين أئمة السنة لتحقيق أصل الإيمان والخروج من الكفر وهو الاعتقاد القلبي بشقيه قول القلب وعمل القلب ثم الإعلان عن ذلك باللسان مع ترك الشرك والتبري منه).أ.هـ.(1/242)
ثم قال في هامش ص98-69 (ولذلك نقرر أن تحقق الإيمان دون تحقق أي قدر من العمل بالجوارح بعد ذلك –وليس المقصود هنا ذكر عمل معين- أمر غير متصور عندي عقلاً وشرعاً، ومن العبث مناقشة أصحاب هذا القول وإضاعة الوقت والجهد معهم، والأولى عرض وتفنيد أفكار مشائخهم من أئمة المرجئة والجهمية، فالقضية معهم أخطر من مجرد ترك العمل بالكلية أو ترك جنس العمل بل هي قضية نقض الإيمان أصله قولا أو فعلاً أو اعتقاداً).أ.هـ.
أقول:
فُكلٌّ بِلَيْلَى يَدَّعي الوَصْلَ وَحْدَهُ وقَدْ بَرِئَتْ مِنْ ذي الغَرامِ المُكَذَّبِ
ولا ندري بعد نقلنا لهذه الخلافات في هذه المسألة العظيمة هل يستيقظ القوم! مما هم فيه من غفلة وينتبهوا إلى ما أحدثت كتاباتهم من تفريق للأمة وإبعادها عن الصراط المستقيم؟!
وأخيراً أحب أن أنبه على علامة من علامات النبوة فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - [ صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض: القدرية و المرجئة ](1).
ولعل جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذين الفرقتين في حديث واحد إشارة منه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن كل منهما يتركون العمل بالشرع، فالقدرية(2) يتركون الواجبات ويفعلون المحرمات ويقولون لو شاء الله لهدانا !!!.
__________
(1) أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (ص 156) والطبري في " التهذيب"(2/180/1472) و ابن أبي عاصم في "السنة" (949) واللالكائي في "شرح السنن" (4/142/1157) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2748).
(2) القدرية فرقتان قدرية مجبرة وقدرية نافية، والذي قصدناه في هذا الكلام هم القدرية المجبرة، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر كل من يخوض في القدر بالباطل، راجع مجموع الفتاوى (8/30).(1/243)
أما المرجئة فإنهم يتركون العمل بالشرع لإخراجهم العمل من مسمى الإيمان ويقولون إن (الأعمال الظاهرة –طاعات ومعاصي-وجودا وعدما- متعلقة بـ (الإيمان المطلق)، لا (مطلق الإيمان))(1).
ولا بد أن نبين مسألة مهمة قد تخفى على الكثيرين من إن الغاية من هذه الرسالة هو تبيين الحكم العام على تارك العمل بالكلية –جنس العمل- لا الحكم الخاص، الحكم على الفعل لا الفاعل، فإن هناك فرقاً كبيراً بين تأصيل الأحكام وتنزيلها على الواقع، فليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، إذ لابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع لكي يحكم على الرجل بالكفر، ثم إن مسألة التكفير ليس من شأن طلبة العلم ولا من شأن أنصاف المتعلمين بل هو شأن العلماء الربانيين الراسخين في العلم ومن شأن المحاكم الشرعية.
فقد سئل فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله- عن تساهل بعض طلبة العلم في إطلاق لفظ ( الرِّدَّة ) على المسلم، بل قد يطالبون المسلمون بانتداب من يرون لإقامة حدِّ الرِّدَّة في المحكوم بردَّته عندهم إذا لم يقم بها السُّلطان .
فأجاب فضيلته : إقامة الحدود من صلاحيَّات سلطان المسلمين، وليس لكل أحد أن يقيم الحدَّ؛ لأنَّ هذا يلزم منه الفوضى والفساد، ويلزم منه تفكُّكُ المجتمع، وحدوث الثارات، وحدوث الفتن؛ فالحدود من صلاحيَّات السُّلطان المسلم .
__________
(1) التنبيهات...) صفحة (425) و(التعريف والتنبئة..) صفحة (33).(1/244)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تعافَوا الحدود فيما بينكم، فإذا بلغت الحدود السلطان؛ فلعنَ الله الشّافعَ والمشفِع ) (1)
ومن وظائف السلطان في الإسلام ومن صلاحياته إقامة الحدود بعدما تثبت شرعًا لدى المحاكم الشرعيَّة على من وقع في جريمة رتَّب الشارعُ عليها حدًّا؛ كحدِّ الرِّدَّة، وحدّ السرقة . . . إلخ .
فالحاصل أن إقامة الحدود من صلاحيات السلطان، وإذا لم يكن هناك في المسلمين سلطان؛ فإنه يُكتفى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوى إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يجوز للأفراد أن تقيم الحدود؛ لأن هذا - كما ذكرنا - يلزم منه الفوضى ويلزم منه حدوث الثَّارات والفتن، وفيه مفسدة أعظم مما فيه من المصلحة، ومن القواعد الشرعيّة المسلَّم بها أنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح (2).
وسئل فضيلته أيضاً من هو المرتدُّ فضيلة الشيخ ؟ نرجو تحديده بشكل واضح؛ فقد يُحكم بردَّة شخص لديه شبهة .
__________
(1) انظر الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 6/259 ) من حديث الزبير، وانظر : " المستدرك " للحاكم ( 4/383 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وانظر : " سنن أبي داود " ( 4/131 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وانظر : " سنن النسائي " ( 8/70 ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .
(2) المنتقى من فتاوى الفوزان، رقم الفتوى (60).(1/245)
فأجاب فضيلته –حفظه الله-: (الحكم بالرِّدَّة والخروج من الدِّين من صلاحيَّات أهل العلم الرَّاسخين في العلم، وهم القضاة في المحاكم الشرعيَّة؛ كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد، أو من حقِّ أنصاف المتعلِّمين، أو المنتسبين إلى العلم، والذين ينقصُهم الفقه في الدِّين، ليس من صلاحيَّاتهم أن يحكُموا بالرِّدَّة؛ لأن هذا يلزم منه الفساد، وقد يحكمون على المسلم بالرِّدَّة، وهو ليس كذلك، وتكفيرُ المسلم الذي لم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومن قال لأخيه : يا كافر ! أو : يا فاسق ! وهو ليس كذلك؛ فإنَّ هذا الكلام يعود على قائله؛ فالذين يحكمون بالرِّدَّة هم القضاة الشرعيُّون، والذين ينفِّذون هذا الحكم هم ولاة أمور المسلمين، وما عدا هذا؛ فهو فوضى وشرٌّ)(1) .
نسأل الله أن يبعد عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يثبت قلوبنا على الإيمان قولاً وعملاً وفي الختام (أسأل الله البر الرحيم أن ينفعني والناظرين فيه بما أودعته وأن يجزينا جزاء من اقتدينا به فيما نقلته...والحمد لله الذي شرح صدرنا للرشاد ووفقنا لصحة هذا الاعتقاد وإليه الرغبة عزت قدرته في أن يجري على أيدينا موجب هذا الاعتقاد ومقتضاه ويعيننا على ما فيه إذنه ورضاه وإليه التضرع في أن يتغمدنا برحمته وينجينا من عقوبته إنه الغفور الودود والفعال لما يريد وهو حسبنا ونعم الوكيل)(2). { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [180] وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [181] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الصافات:180- 182]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، وعلى آله الطيبين إلى يوم الدين.
- - - - -
__________
(1) المنتقى من فتاوى الفوزان، رقم الفتوى (61).
(2) أحكام القرآن للشافعي (1/19).(1/246)