... ... ...
الحمد لله حمد الشاكرين ، والشكر لله شكر المعترفين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، ثم أما بعد :
فإن من نعم الله العظيمة وآلائه الجسيمة أن جعلنا من أمة هي خير الأمم ، ورسولها أفضل الأنبياء والرسل ، وشريعتها أحب الشرائع إلى الله تعالى ، وأخف الشرائع ، فلا أغلال فيها ولا آصار ، ولا تكليف فيها يخرج عن حدود الطاقة البشرية ، فله الحمد والمنة ، ونسأله تعالى أن يختم لنا بها .
بينما نرى الناس في البلاد المجاورة تتخطفهم البدع ، وتحوم حولهم الشبه والشكوك ، مظاهر الشرك قد انتشرت ، ومعالم التوحيد قد ضمرت وحوربت ، فأصبح الدين عندهم في غربة لا يعلم بها إلا الله تعالى ؛ كل هذا لأنهم استبدلوا دين الله تعالى بقوانين الشرق والغرب ، وابتغوا الهدى والخير والفوز والفلاح في غير الكتاب والسنة ، وقد شهدت الأدلة أن من رام الهدى من غيرهما أضله الله تعالى .
فالواجب على علماء المسلمين أن يبينوا للناس هدي الكتاب والسنة ، مشافهةً وتأليفًا ؛ وحرصًا على إظهار معتقد أهل السنة والجماعة أحببت أن أشارك علمائي بهذه الوريقات اليسيرة التي أرجو أن ينفع الله تعالى بها ، وهي عبارةٌ عن شرح قواعد كنت قد كتبتها حال قراءة بعض الكتب وهي قواعد في معتقد أهل السنة والجماعة ، جمعت فروع المذهب في أيسر عبارةٍ ، فشرحتها بكلماتٍ يسيرةٍ ، وسميته ( شرح القواعد المذاعة في مذهب أهل السنة والجماعة ) ، فالله أسأل أن يعينني على إتمامه ، وأن يجعله حجةً لنا يوم الدين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .(1/1)
إلا أنني أقول إن هذه القواعد لم تجمع كل ما قاله أهل السنة والجماعة ، بل وإنما غالب ما قالوه من الأصول والقواعد ذكرتها هنا ، فالله أسأل بمنه وفضله أن يمن علي بإتمام ما بدأته ، وأن ينفع به المسلمين ، وأن يعيذنا وإخواننا من نزغات الشيطان الرجيم ، وأن يلهمنا رشدنا ، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، آمين . وإلى المقصود :
القاعدة الأولى
أهل السنة والجماعة لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة، والعقل وسيلة لفهم النقل(1/2)
هذه القاعدة من أهم القواعد في مذهب أهل السنة والجماعة ، بل هي الحد الفاصل بين أهل البدع وبين أهل الحق ، فأهل السنة والجماعة ليس لهم أصول غير الكتاب والسنة يسوقون منها معتقدهم ، بل هم مقتصرون عليهما ، وفيهما هدايةٌ وكفاية لمن أراد الحق والهدى ؛ ولذلك عصم الله تعالى أهل السنة والجماعة من الزيغ والضلال ، فتراهم على اعتقادهم ثابتين لا يتزعزعون عنه على مر العصور . فاعتقادهم الآن هو نفسه اعتقاد الصحابة - رضي الله عنهم - ؛ لأنهم اعتمدوا على ثوابت لا تتغير { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } ، وذلك أنه من تمسك بالكتاب والسنة فإنه لا يضل أبدًا كيف وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي )) ، وقال جابرٌ - رضي الله عنه - : قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن أحسن الحديث كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وإني تاركٌ فيكم ثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن تركه وأخطأه كان على الضلالة )) ، وقال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - : ( إنا نقتدي ولا نبتدي ، ونتبع ولا نبتدع ، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر ) ، وقال - رضي الله عنه - : ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ) ، وقال محمد ابن سيرين : ( كانوا - أي السلف - يرون أنهم على الطريق ما كانوا على الأثر ) .
ولغيرهم في ذلك المقام كلام كثير ، مما يدل على أن أهل السنة والجماعة ليس لهم من الأصول ما يعتمدون عليه إلا الكتاب والسنة والإجماع ، فهما المعين الصافي الذي لا شوب فيه ولا كدر .(1/3)
وأهل السنة والجماعة يجعلون النقل هو أصل العقل والعقل وسيلة مهمة لفهمه ، بل هي من أهم الوسائل لفهمه ، ولذلك من ذهب عقله سقطت عنه التكاليف ، وهذا بخلاف أهل البدع والضلال عموماً فإن لهم أصولاً غير الكتاب والسنة يأخذون منها معتقداتهم ، بل بعضهم لا يألوا على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليهما ، بل هي عنده ظواهر لا تفيد إلا الظنون التي لا يصح أن يؤخذ منها المعتقد ، فاعتمدوا في أخذ أصولهم على علم الكلام المذموم الذي أدخل على أهل الإسلام الضلال والشبه والشكوك ، فاعتمدوا على قواعده التي تخالف المنقول وتناقض المعقول ، فجاءوا بخليطٍ كفري وزندقةٍ فاحشةٍ وبلاءٍ مستطير على الأمة الإسلامية لا زلنا نعايش آثاره إلى هذا اليوم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وبعضهم جعل العقل هو الحاكم على النقل ، فالعقل هو الأصل والنقل هو الفرع ، فما وافق العقل من المنقول أخذوه وما خالفه ردوه واتهموه ، فيشرعون ما شرعه العقل وإن لم يدل عليه دليل ، ويبطلون ما أبطله العقل وإن كان عليه دليل من النقل ، بحجة أننا ما عرفنا صحة النقل إلا بالعقل فلولا العقل لما عرفنا النقل ، فلو تعارض أمر عقلي ونص نقلي ، فيجب تقديم العقلي على النقلي ؛ لأننا لو قدمنا النقل على العقل لصار هذا قدح في العقل الذي عرفنا به صحة السمع فيكون قدحًا في السمع ، ولأن العقل متقدم على النقل ومن شأن المتقدم أن يكون أفضل ممن بعده ، كذا قالوا ، وبئس ما قالوا .
بل الحق هو العكس فإن تقديم النقل على العقل هو مقتضى العقل ، هذا إذا سلمنا أصلاً تعارض العقل والنقل ، وإلا فالصواب الذي لا شك فيه أنه لا يمكن أن يتعارض نصٌ صحيح وعقل صريح ، فالنصوص لا تأتي بما يعارض العقول بل تأتي بما تحار فيه العقول .(1/4)
وأما دعواهم أن كل ما كان متقدمًا فهو الأفضل فهي دعوىً باطلةٌ ، ويكفي في بطلانها ، أن أمة محمدٍ خير الأمم وهي آخرهم ، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء والرسل وهو آخرهم ، بل صحابته خير ممن كان قبلهم إلا الأنبياء والرسل ، وهذا إبليس تقدم في خلقه على آدم ولا شك ، ومع ذلك فآدم أفضل منه بل لا وجه للمقارنة أصلاً . ويكفي في إبطال قاعدتهم فرع واحد .
والمقصود أن أهل السنة والجماعة يعتمدون في أمور العقيدة والعمل على الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ، وأما غيرهم من الطوائف فهم يعتمدون في إثبات عقائدهم على العقول الفاسدة والقواعد الكفرية الباطلة ، التي عارضوا بها الكتاب والسنة وأبطلوا ما جاء فيهما من الاعتقاد الصحيح بشبهاتٍ جاء بها أبالسة البشر .
فالواجب هو الوقوف عند كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - على فهم سلفنا الصالح ، ولا بد من هذا القيد المهم ؛ لأن كلاً يدعي أنه على منهج السلف وهو والله لا يمت إلى منهج السلف بصلة فكل يدعى وصلاً بليلى ، قال الناظم :
واعضض على القرآن والسنن التي ثبتت عن المعصوم من عدناني
لا لن تضل ولن تزيغ بنصه فهي الهدى والنور للإنسان
والله تعالى أعلى وأعلم . .
القاعدة الثانية
لا يتعارض نصٌ صحيح وعقلٌ صريح(1/5)
نعم إنه لا يمكن أن يتعارضا أبدًا ؛ لأن الذي أنزل النص من كتابٍ وسنةٍ هو الذي خلق العقل ، وهو أعلم بما يقول من غيره ، وأحسن حديثًا ، وأصدق قيلاً من خلقه ، فإذا وُجِد ما يوهم التعارض بين النصوص والعقول فلا تخلو من أحد أمرين : إما أن يكون النص غير صحيحٍ ، فيجب حينئذٍ البحث عن صحة النص ، وإذا قلنا ( البحث عن صحة النص ) فنعني به إذا كان النص من السنة ، أما إذا كان النص من القرآن فلا يأتي البحث عن الصحة ؛ لأن القرآن كله متواتر ، فإذا بحثنا عن ثبوت النص فوجدناه ثابتًا بالسند الصحيح فننتقل إلى الحالة الثانية وهي : صراحة العقل ، وهو أن من شروط البحث في معنى النص الصحيح أن يكون الباحث فيه ذا عقلٍ سليم في التفكير ، معتقدًا لمنهج أهل السنة والجماعة ، لاسيما إذا كان النص المبحوث فيه من نصوص الصفات .
فإذا توفرت صحة النص وسلامة العقل فوالله الذي لا إله غيره أنه لا يمكن أبدًا أن يكون هناك تعارض ولا تناقض ، والدليل على ذلك أن كل الذين ادعوا التعارض بين العقل والنقل كلهم من أهل البدع والضلال ، ولا نعرف حرفًا واحدًا من خلاف التضاد بين السلف في مسائل الاعتقاد التي تستحق أن تكون من مسائل الاعتقاد ؛ كل هذا لتوفر هذين الشرطين ، صحة النص وسلامة العقل من الآفات الدخيلة عليه .
وهذه قاعدة مهمة في مذهب أهل السنة والجماعة ؛ حتى أفردها شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية بمؤلف خاص وهو كتابه الكبير المفيد المستصعب ( درء تعارض العقل والنقل ) .
وكما قلنا سابقًا أن النقل لا يمكن أن يأتي بما يتعارض مع العقل وإنما يأتي أحيانًا بما يحار فيه العقل ، فما ضَلَّ من ضَلَّ من أهل الضلال إلا لأنهم جوزوا وقوع هذا التعارض ، فيا لله العجب كم جرّوا على الإسلام من بلية ، وفتحوا لأعداء الإسلام بهذا الكلام من باب ، والقوم لا يدرون أن النتن من عقولهم لا من النصوص - حاشا وكلا - إنما عقولهم الفاسدة(1/6)
هي التي تقرمط في السمعيات وتسفسط في العقليات ، فلقد أمر الله تعالى بتدبر كتابه الكريم في أكثر من آية ، فلو قلنا بهذه المعارضة لما كان للأمر بالتدبر فائدة مع قيام هذه المعارضة ، فأهل السنة عندهم أصلان مهمان لا بد من فهمهما : الأول : أن النقل أصل والعقل وسيلة لفهمه . الثانية : أنه لا يمكن أن يتعارض نص ثبتت صحته وعقل ثبتت صراحته .
وحتى تتضح هذه القاعدة أكثر فسأذكر لك - إن شاء الله تعالى - بعض ما أوردوه في بعض النصوص التي ادعوا أنها تعارض العقول ، ونبين أن هذه النصوص إن ثبتت صحتها فإنها لا يمكن أن تعارض العقل .
فمنها : قال الله تعالى : { ءأمنتم من في السماء } . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية : (( أين الله ؟ )) . قالت : ( في السماء ) .
فقال أهل الضلال : لو أخذنا بظاهر هذا الحديث والآية للزم من ذلك أن يكون الله تعالى في داخل السماء ، أي أن السماء تضله ؛ لأن حرف ( في ) في اللغة العربية للظرفية ، كذا قالوا وبئس ما قالوا ، وما قالوا ذلك إلا لجهلهم باللغة العربية .
والجواب على ذلك من وجهين : بالمنع والتسليم ، فأما المنع فيقال : نحن نمنع أن تكون ( في ) هنا للظرفية ، بل هي بمعنى على ؛ فإن ( في ) تأتي في اللغة العربية بمعنى على ، ومصداق ذلك قول الله تعالى : { لأصلبنكم في جذوع النخل } أي على جذوع النخل ، ولا يفهم أحد من هذه الآية أن فرعون – عليه لعنة الله تعالى – سوف يحفر لهم داخل الجذع ويصلبهم فيها ، وكذلك قوله تعالى : { فسيحوا في الأرض } أي عليها ، ولا يفهم أحد أنهم أُمِرُوا بأن يحفروا في داخل الأرض ويسيحوا فيها ، ومن فهم ذلك من الآيتين فهو من الأغبياء ، فكذلك الآية التي معنا معناها : على السماء .(1/7)
وأما الجواب بالتسليم فنقول : سلمنا أن المراد بـ( في ) هو الظرفية لكن لا نسلم أن المراد بـ( السماء ) هي ذات الأطباق الزرقاء بل المراد بها العلو ، فإن كل ما علاك فهو سماءٌ ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى { وأنزلنا من السماء ماءً } والماء لا ينزل من السماء الزرقاء بل من السحاب المسخر بين السماء والأرض ، فعلى هذا لا يكون في الآية ما يتعارض مع العقل ، بل هي موافقة له كل الموافقة ؛ لأن العقل السليم يفرض صفة العلو المطلق لله تعالى.
ومنها : ما يُروى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( الحجر الأسود يمين الله تعالى في الأرض فمن قبله وصافحه فكأنما قبل يد الله تعالى وصافح يمينه )) . فقالوا : هذا الحديث يتعارض مع العقل ؛ لأنه يثبت عقيدة الحلولية وأن الله تعالى حال معنا ، فهو يثبت أن أحدًا يصافح الله تعالى .
والجواب أن يقال : لا تحكموا قبل النظر في صحة الدليل والنظر في صراحة العقل ، فهذا الكلام إذا نظرنا له من ناحية سنده مرفوعًا فهو إسناد مظلم لا يجوز معه نسبة هذا الكلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يُعرف موقوفًا على ابن عباس - رضي الله عنه - ، إذًا فقدْ فقدَ هذا الكلام شرطًا من الشروط وهو صحة السند ، لكن نقول : هذا الكلام من ابن عباس ليس للرأي فيه مجال ، وابن عباس لا يأخذ من أهل الكتاب ، فله حكم الرفع . والقاعدة عند أهل السنة تقول : إذا قال الصحابي قولاً ليس للرأي فيه مجال ، ولم يكن يأخذ عن أهل الكتاب فله حكم الرفع ، وفيه قال الناظم :
وغيرهم واحكم له بالرفع بشرطه الآتي فخذه وارع
إن لم يكن للرأي فيه معتنق ولم يكن يأخذ عمن قد سبق
بل هذا الأثر لا يتعارض مع العقل حتى وإن كان من كلام ابن عباس - رضي الله عنه - وذلك من وجوه :(1/8)
أولها : أن ابن عباس قال : ( يمين الله تعالى في الأرض ) ، ولم يطلق هذه اليمين فهي يمين مقيدة بأنها في الأرض ، ويمين الله تعالى ليست في الأرض وإنما هي في السماء ، فعلم أنه لم يرد حقيقة يمين الله تعالى .
والثاني : أنه قال : ( فمن صافحه وقبله فكأنما صافح ) وهذا في اللغة أسلوب تشبيه ، ومن المعلوم بالعقل أن المشبه ليس هو المشبه به ، فدل هذا على أنه أراد التقريب فقط لا إرادة التمثيل ، أي إن الذي يقبل الحجر كأنه بمنزلة من قبَّل يد الله تعالى ، ومن صافح الحجر فهو بمنزلة من صافح يمين الله تعالى ؛ وذلك لأن عادة الملوك إذا دخل عليهم رعاياهم قبلوا أيديهم ولله المثل الأعلى ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه .
ومنها : قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( إني أجدُ نَفَسَ الرحمن من قِبَل اليمن )) فقالوا لنا : قد وقعتم وقعةً لا تخرجون منها ، فإننا لو أخذنا بظاهر هذا الحديث فنحن حلولية ولا شك ، إذ فيه إثبات أن الرحمن حال ببعض مخلوقاته ، قلنا : لستم أيها الأغبياء من يوقع أهل السنة في شبهاتكم ، فإنها كما قال الخطابي :
حججٌ تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
فلننظر أولاً في صحة الدليل ودرجة ثبوته فنظرناه ، فوجدناه في غاية الصحة ، فلما تأكدنا من ثبوته نرجع إلى حقيقة معناه فوجدناه من أعظم الأدلة على صحة قاعدتنا من أنه لا يمكن أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح ، وبيان ذلك : أن الذي أوجب لكم الإشكال في هذا الحديث هو كلمة ( نفس ) وتحسبونها من النفس المعروف ، وهذا جهل منكم ، بل هي من نَفَّس يُنفِّس تنفيسًا ، أي من التفريج ، أي إن تفريج الله لعباده يكون من قبل اليمن ، وهذا هو الذي حصل ، فإن الله تعالى نفس على عباده في حروب الردة بأهل اليمن ، فهم أهل إيمانٍ وحكمة ، فعلى هذا المعنى الصحيح الذي هو ظاهر اللفظ لا يكون في الحديث أي إشكال ولله الحمد والمنة .(1/9)
ومنها : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( قال الله تعالى : عبدي مرضت فلم تعدني ... جعت فلم تطعمني ... استسقيت فلم تسقني )) .
فقالوا : لئن فررتم من الحديث الأول فلن تفروا من هذا ، فإن هذا الحديث معارض للعقل من كل وجه فإن العقل يوجب لله تعالى صفات الكمال وهذا الحديث فيه وصف الله تعالى بالجوع والضمأ والمرض فالواجب هو اطراحه ، كذا قالوا ولبئس ما قالوا ، هذا هو دأب القوم يجعلون عقولهم الناقصة وأهوائهم النتنة حاكمة على نصوص الكتاب والسنة فأي نص يعارضها رموا به عُرض الحائط غير آبهين به .
والجواب عما ذكروه أن يقال : الدليل لنا لا لكم ؛ فالسند مثل الشمس فقد رواه مسلم ، وأما معناه الصحيح ، فيفسره آخر الحديث ، فإن في آخره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده أما إنك لو عدته لوجدتني عنده ، أما علمت أن عبدي فلان استطعمك فلم تطعمه أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ، أما علمت أن عبدي فلان استسقاك فلم تسقه أما إنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي )) فهذا الكلام فيه تصريح لأهل العقول السليمة أن الله تعالى لم يمرض ولم يجع ولم يضمأ وإنما الذي جاع هو المخلوق والذي عطش واستطعم هو المخلوق ، فهذا موافق للعقل السليم أتم الموافقة ، والفروع على هذه القاعدة كثيرة وإنما المقصود الإشارة ، والله تعالى أعلم .
القاعدة الثالثة
مذهب السلف أعْلَمُ وأحْكَم وأسْلَم
هذا هو الحق الذي لا يجوز القول بغيره ، وهذا الكلام ليس من باب التحكم والهوى وإنما دل عليه الدليل العقلي والنقلي والحسي ، فمن أراد السلامة فعليه بمنهج السلف ، وأرى والله أعلم أن سرد الأدلة على صحة منهج السلف من باب الاستدلال على وجود الشمس ، ولقد أحسن الشاعر إذ قال :
وليس يصح في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل
وفي ذلك يقول الناظم في نونية السعداني ، حاثاً على ملازمة منهج السلف :(1/10)
فالزم سبيل الراشدين ولا تزغ لا يخدعنك زخرف الشيطان
فهو السبيل إلى السعادة والهدى وهو الطريق لجنة الرحمن
لكن بعض الأغبياء الذين لم يعرفوا للسلف قدرهم ، ولم ينزلوهم منازلهم ، يعكسون الأمر ويجعلون مذهب السلف هو الأسلم ؛ لأنه مذهب يقوم على الإيمان بألفاظٍ مجردةٍ لا تدل على شيء ، ومذهب الخلف هو الأعلم والأحكم ؛ لأنه يقوم على غرائب الألفاظ ودقائق التأويلات ومقتضى العقل ، وهذا كذبٌ ولا شك ، أفيكون مذهب من لا يدري ما يعتقد ولا يدري ما يقول ، أعلم وأحكم من مذهب السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أخذوا علمهم غضاً طرياً من فيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ممن رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، ممن سطر الله تعالى لهم في كتابه الكريم أجمل الذكر وأكبر الثناء ، قوم رأوا منازلهم في الجنة قبل أن يموتوا ، وبشروا بها قبل أن تخرج أرواحهم من أجسادهم ، فكيف يفضل هؤلاء المتهوكون الضالون الذين ضلوا وتاهوا ، بل إنه لا يجوز أصلاً أن تعقد المقارنة بين مذهب السلف وبين مذهب الخلف ؛ لأن مقارنة الكامل من كل وجه بالناقص من كل وجه ، تنقص الكامل وترفع الناقص ، ولله در القائل : ( ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصى ) .
سبحان الله العظيم ، كيف يكون أفراخ اليونان وزبالات أذهان الفلاسفة وخرافات اليهود والنصارى أعلم وأحكم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن صحابته الكرام ؟ كيف يفضل الظلام على النور ؟ والضلال على الهدى ؟ والجنة على النار ؟
والله إن الذي قال هذا الكلام أحد رجلين ، إما أن يكون جاهلاً بحقيقة مذهب السلف ، وإنما يصدر هذا القول من أتباع كل ناعق ، وإما أن يكون رجل سوءٍ قصده أن يصد الناس عن المنبع الصافي والدين الصحيح ، فأما الأول فعلاجه أن يبين له منهج السلف بأدلته ، وأما الثاني فلا علاج له إلا درة عمر يضرب على رأسه صباحًا ومساءً حتى تخرج الشياطين من رأسه .(1/11)
بل إن تفضيل منهج الخلف على مذهب السلف هو الكفر بعينه ، والضلال برمته ، فإننا قد درسنا في كتب المعتقد أن من نواقض الدين أن يعتقد الإنسان أن هدي غير محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، أكمل من هديه ، وهؤلاء لا يعتقدون أنه أكمل فحسب بل يقولون بأن من اعتقد ما جاء به محمدٌ فهو كافر ، فإن حقيقة قولهم هو إنكار ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن النبي أتى بإثبات الأسماء والصفات ، وهؤلاء يجعلون من أثبتها من أكبر الضالين ، وأنه حشويٌ ، ويوصف بالأوصاف القبيحة المستهجنة ، وهؤلاء لا يصفون منهج السلف إلا بأنه أسلم فنقول لهم إن الحق ما شهدت به الأعداء ، فإنكم إذا شهدتم بذلك فيلزم على ذلك أن يكون كذلك أعلم وأحكم ، إذ السلامة نتيجة العلم والحكمة ، فلما كان أعلم وأحكم كان أسلم ، والمقصود من هذا الكلام أن يعتقد الإنسان أن منهج السلف أعلم وأحكم وأسلم نقلاً وعقلاً وحساً، أما نقلاً فأن الأدلة من الكتاب والسنة قد دلت على وجوب متابعة سبيل النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره وهي كثيرة معروفة ، وأما عقلاً فإن العقل لا يخالف النص فإذا أثبت النص وجوب متابعة سبيل السابقين فإن العقل يؤيده ويوافقه ، وأما حساً فلأننا لا نرى كثرة التنقل والاضطرابات والتناقض إلا عند من خالف منهج السلف فتراهم لا يثبتون على قول ولا رأي بل يقولون به اليوم ويحاربونه غداً أما السلف فهم على اعتقادهم ثابتين عليه متمسكين به لا تزيغ بهم الأهواء ولا تعصف بهم الفتن وهذا لأن المذهب الذي اتبعوه هو الأسلم والأعلم والأحكم فنسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يحشرنا في زمرتهم آمين . والله تعالى أعلم .
القاعدة الرابعة
مذهب السلف وسَطٌ بين المذاهب وسطيَّة الأمة بين الأمم
هذه قاعدة مفيدة لطالب العلم ومهمة في بابها فإنها تعتبر ميْزةً من ميزات أهل السنة والجماعة ، وبيانها أن يقال :(1/12)
أن الله تعالى في كتابه الكريم قد شهد إن أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أمة وسطًا ، فقال تعالى : { وكذلكَ جعلناكُم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على النَّاس ويكونَ الرسولُ عليكمْ شهيدًا } والوسط هم الخيار العدول ، فأمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أمة وسط في عقائدها ، وأحكامها ، وذلك يتبين بضرب بعض الأمثلة :
فمنها : تعتقد أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أن عيسى عبد الله ورسوله ، وهم في هذا الاعتقاد وسط بين أمتين ، أمة اليهود وأمة النصارى ، فاليهود قالوا : إنه ابن بغي ، وكذاب ليس بنبي ، فقلنا : هو رسول الله . والنصارى قالوا : هو الله وابن الله وثالث ثلاثة ، فقلنا : هو عبد الله .
ومنها : أن اليهود يرون أن الحائض لا تآكل ولا تجالس في البيوت ، والنصارى لا يحرمون جماعها ، والشريعة المحمدية تجيز أن يفعل الإنسان كل شيءٍ إلا النكاح . فالأولون أفرطوا ، والآخرون فرطوا ، والمسلمون توسطوا .
إذا علمت هذا فاعلم ، أن مذهب أهل السنة والجماعة وسط بين مذاهب الأمة وفِرَقِها كوسطية الأمة بين بقية الأمم ؛ ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة ،كلها في النار إلا واحدة ، وهذه الفرق تنقسم إلى ثلاث فرقٍ غالبًا : فرقٌ أفرطت في هذه المسألة ، وفِرقٌ فرَّطت ، وفرقة واحدة فقط توسطت في كل المسائل ، فهذه الفرقة المتوسطة في كل مسائلها هي أهل السنة والجماعة ، وأما بقية الفرق فهم على طرفي نقيض ، إمّا مُفْرِطٌ وإمّا مُفَرِّطٌ .(1/13)
وسبب هذه الوسطية التي تتمتع بها هذه الفرقة - زادها الله تعالى شرفاً ورفعة - هو أنهم تمسكوا بما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، تمسكاً لا زيادة معه ولا نقصان ، وقد تكفل الشارع أن من تمسك بالدليل فهو على الهدى والصراط المستقيم ، فالمتتبع لمذاهب الفرق يجد أن كل فرقةٍ من الفرق تأخذ ببعض الأدلة وتَدَعُ البعض ، لكن أهل السنة والجماعة يأخذون بكل الأدلة ، وحتى تتضح هذه القاعدة أزيدها بعض الفروع فأقول :
فمنها : مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات ، فهم وسط بين فرقتين ، المُمَثِّلة والمعطِّلة ، فالممثِّلة قالوا : نحن نثبت لله الصفات لكن على وجهٍ يماثل صفات المخلوقات ، والمعطِّلة قالوا : نحن ننزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقات تنزيهًا ننفي معه جميع الصفات ، فأهل التمثيل أخذوا بأدلة إثبات الصفات ، وتركوا الأدلة التي تنفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات ، والمعطلة أخذوا بالأدلة التي تنفي مماثلة الله تعالى للمخلوقات وتركوا الأدلة التي تثبت لله تعالى الصفات ، فكلاً منهم أخذ بطرفٍ من الأدلة ، فأصابوا من جانبٍ وأخطأوا من جانبٍ آخر . فأهل التمثيل أصابوا في جانب الإثبات - أي إثبات الصفات - وأخطأوا في جانب التمثيل ، وأهل التعطيل أصابوا في جانب التنزيه ، وأخطأوا في جانب التعطيل .(1/14)
فجاء أهل السنة وأخذوا الحق الذي مع كلا الطائفتين وتركوا الباطل ، وأخذوا بجميع أطراف الأدلة . فقالوا : نثبت لله تعالى من الصفات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع نفي مماثلة المخلوقات ، فقولهم : ( نثبت لله الصفات ) وافقوا فيه أهل التمثيل ، وخالفوا فيه أهل التعطيل . وقولهم : ( مع نفي مماثلة المخلوقات ) وافقوا فيه أهل التعطيل ، وخالفوا فيه أهل التمثيل ، فمذهبهم إثباتٌ بلا تمثيل ، وتنزيهٌ بلا تعطيل ، وهذا هو معنى قول الله تعالى : { ليسَ كمِثْلِهِ شيءٌ وهُو السَّميْعُ البَصِير } فقوله : { ليس كمثله شيءٌ } ردٌ على أهل التمثيل ، وفي قوله : { وهو السميع البصير } ردٌ على أهل التعطيل .
ومنها : مذهب أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة ، فهم وسط بين الوعيدية المكونة من الخوارج والمعتزلة ، وبين المرجئة الجهمية ، فقالت الوعيدية : إن مرتكب الكبيرة خارج عن الإيمان ، ليس له مطلق الإيمان . فقالت الخوارج : هو كافرٌ . وقالت المعتزلة : بل هو في منزلة بين المنزلتين ، فأخذوا بطرف أدلة الوعيد وتركوا أدلة الوعد ، وقالت المرجئة : بل مرتكب الكبيرة كامل الإيمان لا يضره فعل أي كبيرة إلا الشرك ، فما دام يقول لا إله إلا الله ، فليعمل أي كبيرة فإنها لا تضره ، فأخذوا أدلة الوعد وتركوا أدلة الوعيد ، فكل من الفرقتين معها حق وباطل .
فالحق الذي مع الوعيدية هو : أنهم جعلوا فعل الكبيرة له تأثيرٌ في نقص الإيمان ، لكنهم أخطأوا في إخراجه من الإسلام .
والحق الذي مع المرجئة هو : أنهم لم يُخرجوا مرتكب الكبيرة من الإيمان ، والباطل الذي معهم هو أنهم لم يجعلوا للكبيرة تأثيرًا في نقص الإيمان .(1/15)
فجاء أهل السنة والجماعة فقالوا : إن لفعل الكبيرة تأثير في نقص الإيمان ، فإذا فعل إنسان كبيرةً من الكبائر نقص من إيمانه بقدر هذه الكبيرة ، لكنه لا يخرج بمجرد فعل هذه الكبيرة من الإيمان ، فلا نعطيه الإيمان المطلق ولا نسلبه مطلق الإيمان ، وهم بهذا قد أخذوا بكل الأدلة ، أدلة الوعد التي مع المرجئة وأدلة الوعيد التي مع الوعيدية ، فقولهم :( لا نسلب عنه مطلق الإيمان ) ردٌّ على الوعيدية ، وقولهم : ( ولا نعطيه الإيمان المطلق ) ردٌّ على المرجئة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
ومنها : أي ومن صور الوسطية أيضاً مذهب أهل السنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة ، فهم وسط بين فرقتين بين فرقة الوعيدية وبين فرقة المرجئة . فقالت الوعيدية : هو خالد مخلد في النار لا يخرج منها أبدًا . وقالت المرجئة : بل هو في الجنة مباشرة لا يمر على النار ولو للحظة . وقال أهل السنة : بل حكمه إلى الله تعالى ، فإن شاء عفا عنه وغفر له وأدخله الجنة ابتداءً ، وإن شاء عذبه في النار بقدر كبيرته ، ثم يخرج منها إلى الجنة لكن لا يخلد فيها ، وعلى هذا دلت أدلة الشفاعة المتواترة ، وفي ذلك قال الناظم نونيته :
جاني الكبيرة ليس يكفر عندنا ويكون عند قيامة الأبدان
تحت المشيئة إن أراد عذابه فبعدله أو إن أراد الثاني
فبفضله فهو الرحيم بخلقه وهو الغفور لما جناه الجاني(1/16)
ومنها : مذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر، فهم وسط بين فرقتين ضالتين كل الضلال ، فرقة الجبرية وفرقة القدرية . فقالت الجبرية : إننا نؤمن بقضاء الله تعالى وقدره لكننا مجبورون عليه ، فليس لنا قدرة ولا اختيار ، بل إذا عصينا فإنما نعصي بقدر الله تعالى ومحبته ، فهم يثبتون القدر ويسلبون العبد القدرة والمشيئة . وقالت القدرية : بل إن أفعال العباد ليست مقدورة لله تعالى ولا يعلمها إلا بعد وقوعها ، وذلك أنهم خافوا من إثبات ذلك أن يكون الله تعالى ظالماً ، وبيان ذلك : أننا لو قلنا إنّ الله هو الذي خلق أفعال العباد فإن في أفعال العباد الخير والشر ، ففيها الزنى والكفر واللواط ، وغير ذلك من أفعال الشر فلو قلنا إن الله تعالى هو الذي قدرها عليهم فكيف يعذبهم عليها ؟ هذا من باب الظلم والله تعالى مُنزَّهٌ عن الظلم ،كذا قالوا ولبئس ما قالوا .
أما أهل السنة والجماعة فقالوا : بل كل شيء بقدر الله تعالى وعلمه لا يخرج شيء عن أن يكون مقدورًا لله تعالى ، والعبد له مشيئة وقدرة واختيار وله عقل يميز بين الخبيث والطيب ، قال تعالى : { وما تشاءونَ إلا أن يَشاءَ الله } والله تعالى في كتابه الكريم ينسب الأفعال إلينا مما يدل على أن لنا فيها قدرة واختيار ، لكنّ قَدَر الله نوعان : قَدَرٌ كوني ، وقَدَر شرعي ، فكل أفعال الشر فهي من باب القدر الكوني ، وهو كالإرادة الكونية لا يلزم فيها أن يحبها الله تعالى ، قال الناظم في منظومة الاعتقاد :
وقدرنّ ربنا مالا يحب ... كونًا ولا يرضيه هذا يا محب
ككفر فرعون كذا أبي لهب ... وخلق إبليس وذا قسمٌ ذهب
ومنها : مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة وآل البيت ، فهم وسط بين فرقتين من أخبث الفرق : فرقة الشيعة وفرقة الخوارج ، فالشيعة قدَّست بعض الصحابة ، ورفعت آل البيت لمرتبة الألوهية - والعياذ بالله تعالى - ، والخوارج تعبدت إلى الله تعالى بسبِّهم وإهانتهم وقتلهم .(1/17)
أمّا أهل السنة فقالوا : نحبُّهم ، لا نفرط في حب أحدٍ منهم ، ونبغض في الله تعالى من أبغضهم ، وأنهم عندنا عُدُولٌ كلهم بنص القرآن والسنة . قال الناظم :
ونحب آل البيت حقاً واجباً بل من أصول عقيدة الإيمان
لا تفعلن كفعل عباد الهوى أو تفعلن كشيعة الشيطان
والفروع على هذه القاعدة يعرفها من تتبعها ، والله تعالى أعلى وأعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الخامسة
خبر الواحد الصحيح حجة في باب المعتقد
اعلم رحمك الله تعالى أن الأخبار من حيث وصولها إلينا لها طريقان : إما أن تكون أخبارٌ متواترة ، وإما أن تكون أخبار آحاد . فالأخبار المتواترة هي : التي رواها جمع عن جمعٍ ، من مبدأ السند إلى منتهاه ، بحيث يحيل العقل تواطأهم على الكذب ، وهذه تفيد العلم الضروري ، وهي كالقرآن الكريم ومتواتر السنة ، ومن ذلك ما قاله الناظم :
مما تواترَ حديثُ مَنْ كَذَبْ ... ومَنْ بنى لله بيتًا واحتَسبْ
ورؤيةٌ شفاعةٌ والحوضُ ... ومسحُ خفَّينِ وهذه بعضُ
وهذه لا كلام فيها ، وأما أخبار الآحاد فهو ما فقد شرط التواتر ، فأهل السنة والجماعة كما ذكرنا أنهم يعتمدون في إثبات عقيدتهم على الكتاب والسنة ، أما الكتاب فكله متواتر ، أما السنة فهم يهتمون بصحة الدليل فقط ، فإذا صح السند ولم يُنسخ النص فهم يأخذون به ولا يسألون هل هو خبر آحاد أم متواتر ، وسواءً كان في أمور العقيدة أم أمور الشريعة ، المهم هو صحة السند ، وهذا بخلاف أهل البدع الذين يقولون إن أخبار الآحاد لا تثبت بها العقائد ، فهم يقولون هذا دائمًا ؛ لأن أخبار الآحاد عندهم لا تفيد إلا الظن وأمور المعتقد لا تثبت بالظنون ، بل لا بد فيها من اليقين واليقين لا يكون إلا في المتواتر ، وهو مذهب باطل .(1/18)
واعلم أن هؤلاء لم يردوا خبر الآحاد ؛ لأنه إنما يفيد الظن ، وإنما ردوه لأنه لم يتمشى مع أهوائهم العفنة ، فهم لم يقتصروا على رد الآحاد وإنما ردوا حتى المتواتر إذا لم يتوافق مع أهوائهم ، فقد ردوا آيات الصفات التي في القرآن كلها وإن قبلوها سندًا ؛ لأنهم لا يقدرون على تضعيف سند القرآن ؛ لأنهم سيُفضحون حينئذٍ ، فالقوم لا يريدون أصلاً أن يثبتوا الصفات ، لكن قدروا على رد خبر الآحاد بأنه لا يفيد إلا الظن ، فحقيقة كلامهم هذا إنما هو ستارٌ لمذهبهم الخبيث ، فالآحاد يردونه سندًا والمتواتر يردونه معنىً بالتحريف تارة والتأويل أخرى ولا أدل على ذلك من نفيهم لصفة الاستواء وأنه بمعنى استولى ، ببيتٍ من الشعر لا يعرف قائله :
قد استوى بشرٌ على العراقِ ... ... من غيرِ سيفٍ أو دمٍ مهراقِ
فانظروا كيف تحرف النصوص القرآنية والنبوية من المتواترة من أجل بيت من الشعر ، والله أنها الأهواء والعياذ بالله تعالى . قال تعالى { أفرأيتم من اتخذ إله هواه } الآية .
أما أهل السنة والجماعة فهم يأخذون الأمور العلمية من أخبار الآحاد ، ويرون أن أخبار الآحاد لها مأخذان ، من ناحية مطابقة الخبر للواقع ومن ناحية العمل بها ، أما من ناحية مطابقتها للواقع فهي إنما تفيد الظن الراجح إلا إذا اقترن بها من القرائن ما يرفعها إلى مرتبة اليقين كأن يكون قد رواها الشيخان أو اتفقت الأمة على العمل به وهكذا ، ومن ناحية العمل بها إذا صحت فهو قطعي ، إذ يجب العمل به من حين العلم بصحته فإن كان في أمور العقيدة فالواجب هو اعتقاد ما أثبته وإن كان في أمور العبادات فالواجب هو العمل بما دل عليه ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، وهناك عقائد كثيرة أثبتها أهل السنة والجماعة بأحاديث الآحاد الصحيحة ، ومن ذلك على سبيل المثال :(1/19)
صفة الأصابع فإن أهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى أصابعًا تليق بجلاله وعظمته من دون كيف ولا مثل ، والأحاديث التي أثبتت هذه العقيدة ليست من أحاديث التواتر وإنما من أحاديث الآحاد الصحيحة .
ومنها : كذلك إثبات صفة الضحك لله تعالى ، فلله ضحكٌ يليق به سبحانه وتعالى لا يشبه ضحك المخلوقين ، وأحاديثه لا تبلغ حد التواتر .
ومنها : صفة المَلَلَ ، فللَّه مَلَلٌ يليق بجلاله وعظمته ، ليس فيه نقص بوجه من الوجوه ، وأحاديثه كلها لا تبلغ حد التواتر ، والأمثلة كثيرة ، فاحذر يا طالب العلم من الانسياق وراء آراء المضللين العقلانيين الذين يحكمون عقولهم العفنة في شريعة الله تعالى ، ويردون أخباره وأخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لمجرد أن عقولهم لم تدل عليه ، ولمجرد أنها أخبار آحادٍ .
وإنهم لم ينقرضوا ، بل لا زالوا ولا زالت أقلامهم تتقيح الصديد على أخبار الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، بل يصرح بعضهم في مؤلفاته أنه سيعرض كل النصوص على عقله ويرد ما يرده عقله ، حتى ردوا أحاديث كثيرة لأنها أخبار آحاد ، أو لأن العقل لم يدل عليها .
نعوذ بالله تعالى من كل أسباب الضلال والزيغ ، وأن يوفقنا وإخواننا إلى كل ما يقربنا لرضاه ، وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، والله تعالى أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة السادسة
ما لم يرد فيه دليل بخصوصه فلا نثبت لفظه ولا ننفيه ونستفصل في معناه ، فإن أُريد به حقٌّ قبلناه وإن أًريد به باطلٌ رددناه
اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات مجملٌ في ثلاث نقاط :(1/20)
أما في الإثبات فنحن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريفٍ ولا تعطيل ، بل { ليسَ كمِثلِهِ شيءٌ وهُو السَّميْعُ البَصِير } ، وأما في النفي فهم ينفون عن الله تعالى كل ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع إثبات كمال الضد ، وأما النقطة الثالثة فهي قاعدتنا التي معنا ، وهي مذهب أهل السنة والجماعة في ما لم يرد فيه دليل بخصوصه ، أي هناك ألفاظٌ وصفات ، يتكلم بها أهل التعطيل ، ويفرون منها وحرفوا نصوص الكتاب والسنة من أجلها ولم يرد لها ذكرٌ في الكتاب والسنة بخصوصها، فما هو المذهب فيها عند أهل السنة ؟
إذا علمت هذا فاعلم أن ما لم يرد فيه دليل بخصوصه لنا فيه نظرتان ، نظرة من حيث لفظه ونظرة من حيث معناه ، فأما من حيث لفظه فلا نثبت لفظه لعدم ورود الدليل الخاص به ولم يتكلم به السلف ، وأما من ناحية معناه فالواجب هو التوقف فيه والاستفصال عنه ؛ لأن هذه الألفاظ فيها حق وفيها باطل فهي ألفاظ مجملة ، واللفظ المجمل يحتاج إلى بيان فنستفصل فيه ، فإن أُريد به حقٌ قبلناه ، وإن أُريد به باطلٌ رددناه . وحتى تتضح هذه القاعدة نضرب بعض الفروع عليها :(1/21)
منها : لفظ( الجهة ) فيقال : هل الله تعالى في جهة ؟ فيقال : إن لفظ الجهة لا نثبته لعدم وروده في القرآن الكريم ولا السنة ولا في كلام السلف ، أما معناه فنتوقف فيه ؛ لأن لفظ الجهة فيه حق وفيه باطل . فنقول : ما ذا تريد بلفظ الجهة ؟ هل تريد به جهة سفلٍ ؟ أم جهة علو محيطة بالله تعالى ؟ أم جهة علو غير محيطةٍ بالله تعالى ؟ فإن أراد الأول فهو باطل ؛ لأن جهة السفل نقص والله تعالى منزه عن النقص . وإن أراد الثاني فهو باطل أيضًا ؛ لأن الله تعالى لا يحيط به شيءٌ من مخلوقاته . وإن أراد الثالث فهو حق يجوز على الله تعالى ، لكن لا نسميه بالجهة وإنما نسميه بالعلو ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار في خطبة عرفة إلى السماء ، وكذلك لما قال للجارية : (( أين الله )) ؟ قالت : في السماء . رواه مسلم ، وكذلك في الدعاء كان يشير إلى جهة العلو . فالله تعالى في العلو المطلق على ما يليق بجلاله وعظمته .
فصار إذًا لفظ الجهة يحتمل الحق ويحتمل الباطل ، فلو رددناه مطلقًا لأدى ذلك إلى رد ما فيه من الحق ، ولو قبلناه مطلقًا لأدى ذلك إلى قبول ما فيه من الباطل ، لكن لما استفصلنا تميز الحق من الباطل فقبلنا الحق ؛ لأن الحق يجب قبوله ، ورددنا الباطل ؛ لأن الباطل يجب رده .
ومنها : المكان ، فإذا قيل لك هل الله تعالى في مكان ؟ فقل : أما لفظ المكان فلا نثبته ؛ لعدم ورود الأدلة بإثباته ، ولم يثبت عن السلف القول به ، وأما معناه فنتوقف فيه ، فيقال : ماذا تريد بأن الله تعالى في مكان هل تعني أنه مكان سفل فهو باطل لأن الله تعالى منزه عن النقص والسفل نقص ، أم تريد مكان علو محيط بالله تعالى فهو باطل أيضًا لأن الله تعالى لا يحيط به شيءٌ من مخلوقاته ، أم تريد مكان علو غير محيط بالله تعالى فهذا حق نثبته لله تعالى لكن لا ننخدع بألفاظ أهل البدع ، ويكفينا من ذلك قول أهل السنة :- إن الله فوق العرش .(1/22)
ومنها : الحيز ، فإذا قيل هل الله تعالى في حيز ؟ فقل أما لفظ الحيز فلا نثبته لعدم ورود الأدلة النقلية به ولم يتكلم به السلف ، وأما معناه فنستفصل فيه فنقول هل تريد بالحيز أن الله تعالى تحوزه المخلوقات أو هو يحوزها أي أن الله تعالى فيه شيءٌ من مخلوقاته أو في مخلوقاته شيءٌ منه ؟ فإن أردت هذا فهو معنى باطل ، كل البطلان وهو عقيدة أهل الحلول والاتحاد – والعياذ بالله تعالى - ، أم تريد بالحيز بمعنى المنحاز أي أن الله تعالى منحاز عن خلقه بمعنى أنه منفصل عنهم فليس فيه شيء منهم وليس فيهم شيءٌ منه ؟ فإن أردت هذا فهو قول صحيح لكن لا نتكلم بلفظ الحيز لأنه من الألفاظ البدعية التي لم ترد عن السلف ، ويكفينا قول أهل السنة : أن الله مستوٍ على عرشه بائن من خلقه .
ومنها : لفظ الجسم ، فإذا قيل لك هل لله تعالى جسم ؟ فقل إن لفظ الجسم من الألفاظ البدعية التي لم ترد عن السلف فلا نثبته ، وأما معناه فنتوقف فيه ونقول : ماذا تريد بالجسم ؟ هل تريد ما هو أجزاءٌ وأبعاض في حقنا مفتقر بعضها إلى بعض ؟ فهذا معنى باطل لا يجوز على الله تعالى ، أم تريد به الذات القائمة بنفسها المتصفة بصفات الكمال ونعوت الجلال ، فهذا حق لكن لا نتكلم بلفظ الجسم لأنه لفظٌ محدث ولكن نسميه ذاتاً وصفاتاً ، وأظن أن القاعدة بهذا الكلام قد اتضحت ، والمقصود أن أهل البدع يقولون كلامًا مجملاً فيه حقٌ وفيه باطلٌ فالواجب على المنصف أن يتثبت في كلامهم قبل أن يرده أو يقبله ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة السابعة
الإتفاق في الأسماء لا يستلزم الإتفاق في الصفات(1/23)
هذه القاعدة من أهم القواعد كذلك عند أهل السنة والجماعة ذلك لأنها رد قوي على قاعدةٍ عند علماء أهل الكلام المذموم ، فإن علماء الكلام عندهم قاعدة تقول : إن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في الصفات ، وبنوا على هذه القاعدة مذاهبهم في إبطال الأسماء والصفات ، فقالوا إثبات الصفات لله تعالى يستلزم مماثلة الله تعالى بخلقه وهذا نقص في الخالق ، ذلك لأننا - أي هم يقولون ذلك - لو أثبتنا اليد لله تعالى للزم من ذلك أن تكون مثل يد المخلوق لأن لفظ اليد واحد في كل منهما فاتفقا في الاسم فيلزم الاتفاق في الصفة ، كذا قالوا ، وكل صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة نفوها لهذا الأصل الفاسد ، ولذلك لا بد من الرد عليهم وإبطال هذه القاعدة الفاسدة ، إذا علمت هذا فاعلم أن هذه القاعدة باطلة بالنقل والعقل والحس ، كما أن قاعدتنا التي نشرحها الآن هي الصواب بالنقل والعقل والحس ، ذلك أن كل دليلٍ نقلي أو عقلي أو حسي يبطل قاعدتهم فهو يصحح قاعدتنا فسواءً عبرنا بهذا أو بهذا فالكل واحد فتنبه .(1/24)
والدليل على صحة قاعدتنا من النقل أننا نجد الله تعالى في كتابه الكريم يسمي نفسه بأسماء ويسمي عباده بتلك الأسماء وليس المسمى كالمسمى ، من ذلك قول الله تعالى : { إن الله كان سميعًا بصيرًا } . وقال عن عباده : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا } وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير ، ومن ذلك قوله تعالى عن نفسه : { وكان بالمؤمنين رحيمًا } . وقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : { بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم } وليس الرحيم كالرحيم ولا الرؤوف كالرؤوف ، والآيات كثيرة ، وكذلك في الصفات نجد الله تعالى يصف نفسه بصفات يصف بها عباده مع الفارق بين الصفتين والموصوفين ، فوصف الله تعالى نفسه بالرحمة قال : { وربك الغفور ذو الرحمة } . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الراحمون يرحمهم الرحمن )) وليست الرحمة المضافة إلى الله تعالى كالرحمة المضافة إلى المخلوقين ، بل لكلٍ رحمته التي تليق به ، وليس مجرد الاتفاق في اسم الرحمة دليل على أن الرحمة كالرحمة . وأما الدليل العقلي على صحة قاعدتنا وبطلان قاعدتهم هو أن يقال : إن من المعلوم أن المعاني والأوصاف تتميز عن بعضها ، بحسب ما تضاف إليه فصفة كل موصوفٍ تناسبه وتليق به ، فكما أن الذوات تختلف بحسب ما تضاف إليه فكذلك الصفات تختلف بحسب ما تضاف إليه ، فلو وصفنا الحديد بأنه لين ، ووصفنا الإنسان بأنه لين ، فقد اتفق الحديد والإنسان في الوصف باللين لكن نعلم عقلاً وحسًا أن اللين المضاف إلى الحديد ليس كاللين المضاف إلى الإنسان ، بل لين الإنسان يخصه ولين الحديد يخصه .(1/25)
والدليل من الحس على بطلان قاعدتهم وصحة قاعدتنا ، هو أننا نرى في الشاهد أشياء اتفقت في أسمائها واختلفت في صفاتها ، فمن ذلك أننا نرى أن للفيل جسًا وللبعوض جسمًا فاتفق الفيل والبعوض أن كلاً منهما يوصف بالجسمية ، لكن لا أحد يقول إن جسم البعوض كجسم الفيل ومن قال ذلك فهو من أعظم الناس سفسطة ، وكذلك نرى أن المصباح يوصف بالإضاءة ، والشمس توصف بالإضاءة وليست الإضاءة كالإضاءة ومن قال ذلك فلا أظن أحدًا يتوقف عن اتهام عقله بآفة . وكذلك جاء الدليل بأن العرش موجود ونرى نحن أن البعوض موجود ، فاتفق العرش والبعوض بأن كل واحدٍ منهما موجود ، لكن ليس وجود العرش كوجود البعوض ومن قال ذلك ، فقد جعل وجود أكبر المخلوقات كوجود أصغر المخلوقات ، وعلى هذا فقس . وإن أردنا أن نمثل على ذلك أيضًا فما أحسن ما مثل به الشيخ : تقي الدين في التدمرية فقد أورد مثالين ، فقد ذكر أن الله تعالى قد أخبرنا في القرآن أن في الجنة ماءً وخمرًا وعسلاً ونساءً وخدّامًا وبيوتًا وخيامًا وغير ذلك من النعيم المقيم الذي أعده الله تعالى لعباده الصالحين ، بينما نجد أن الله تعالى قد سمى هذا النعيم الذي ذكرت بأسماء توافق الأسماء التي عندنا هنا في الدنيا ، فنحن عندنا الماء والخمر والعسل والنساء والبيوت ، فقد اتفقت الأسماء فهل يلزم على ذلك أن يكون ما في الجنة هو نفس ما عندنا ، في الصفة والكيفية ، بالطبع لا ، فإن الله تعالى أخبر أنه لا تعلم نفس ما أعده الله لها من النعيم فقال : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون } . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :- (( قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) مما يدل على أنه ليس نعيم الدنيا مماثلاً لنعيم الجنة أبدًا . ولذلك قال ابن عباس : ( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ) .(1/26)
وبعد ذلك علمنا يقينًا أن الصواب هو ما قاله أهل السنة والجماعة من أن التوافق في الأسماء لا يستلزم التوافق في الكيفيات . وأما المثال الثاني الذي أورده الشيخ : تقي الدين في التدمرية هو الروح فمن المعلوم أن هذه الروح قد وصفت بصفاتٍ في الكتاب والسنة أنها تصعد وتهبط وتطرح وتكفن وتذهب ويتبعها البصر إلى غير ذلك من الصفات ومن المعلوم أيضًا أن هذه الصفات التي قد وصفت بها الروح نعرفها نحن لأننا نجدها عندنا في الشاهد ومع هذا الاتفاق في الاسم والصفة بين صفاتنا وصفاتها إلا أنه لم يقل أحدٌ فيما أعلم أن الصفات التي قد وصفت بها الروح هي بعينها كصفاتنا فإذا لم يلزم التماثل في ذلك بين المخلوقات مع بعضها البعض فمن باب أولى أن لا يلزم ذلك بين الخالق والمخلوق ، بل وقد ذكرنا زيادة على ذلك في شرحنا للتدمرية فراجعه إن شئت ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الثامنة
الاتفاق في الاسم الكلي العام لا يستلزم الاتفاق بعد التقييد والتخصيص والإضافة(1/27)
هذه القاعدة متممة لما قبلها بل هي فرع لها ، وبيانها : إن الصفات عندنا لا تخلو من ثلاث حالاتٍ لا رابع لها ، إما أن تكون الصفة مطلقة غير مضافة إلى شيء ، كقولك ( سمع ) و ( بصر ) و( علم ) و( كلام ) فتذكر الصفة ولا تقيدها بشيء ، والنوع الثاني : صفات مضافة إلى الله تعالى ، كـ( سمع الله ) و( بصر الله ) و( علم الله ) و( كلام الله ) ، والنوع الثالث : صفات مضافة إلى المخلوقين ،كـ( سمع المخلوق ) و( بصر المخلوق) و( علم المخلوق ) و( كلام المخلوق ) إذا علمت هذا فاعلم أن الصفة المطلقة هي التي نعنيها إذا قلنا ( الاسم الكلي العام ) أو ( الاسم المطلق ) وهذه الصفة ليس لها وجود في الخارج أبدًا إنما وجودها يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان ، فلا تجد في الشاهد سمعًا ولا بصرًا ولا علمًا ولا كلامًا مطلقًا بلا شيء يقيده ، بل لا نجد إلا سمع زيد أو سمع عمرو وهكذا ، أما أن نجد صفة من غير موصوف فلا ، وهذا الأمر ممتنعٌ في بداهة العقول ، إذا تقرر لك هذا فاعلم : أن ما من موجودين إلا وبينهما نوع تشابهٍ واشتراك من وجه هو في الاسم العام فقط لكن هذا الاشتراك يختفي وينتهي من حين ما تُقَيّد الصفة بموصوفٍ ، أما قبل تقييدها ففيه نوع اشتراك ، وهذا الكلام عام في الأسماء كلها سواءً في أسماء الله تعالى أو غيرها ، واعلم أن الاشتراك والتشابه في هذا الاسم العام الذي ذكرناه ليس هو التشبيه الذي نفته الأدلة وليس هو المراد من قول أهل السنة ( من غير تشبيه ) ، بل إن التشبيه الذي حاربته الأدلة ونفاه أهل السنة وهو قول أهل التمثيل هو القول بالمماثلة بعد التقييد والتخصيص ، وإن كان هذا الكلام عسيرًا فسيتضح بالمثال - إن شاء الله تعالى - فأقول : سمع الله تعالى وسمع المخلوق اشتركا في الاسم الكلي العام الذي هو كلمة ( سمع ) لكن لما أضيف السمع إلى الله تعالى زال هذا الاشتراك وهذا الشبه ، فسمع المخلوق يخصه وسمع الخالق يخصه ،(1/28)
وكذلك علم الخالق وعلم المخلوق اشتركا في الاسم الكلي العام الذي هو كلمة( علم ) لكن زال هذا الاشتراك بعد التخصيص والإضافة فعلم الله تعالى يخصه لا يشركه فيه غيره وعلم المخلوق يخصه ويليق به ، وعلى هذا فقس ، والمهم أن تعرف أن هذا الاشتراك في الاسم العام ليس هو المنفي بقولنا ( بلا تشبيه ) لأنه لا يمكن أن يوجد في الخارج أصلاً ، وإنما المنفي هو الاشتراك في الصفة بعد التقييد والتخصيص ، فإذا قلت سمع الخالق صار هذا السمع خاصًا بالخالق ، وإذا قلت سمع المخلوق صار هذا السمع خاصًا بالمخلوق ولذلك لا يصح أن يعتمد في باب النفي على مجرد نفي التشبيه ، لأن المراد حينئذٍ لا يخلو إما أن يراد به نفي التشبيه المطلق أو نفي مطلق التشبيه ، فإن أريد الأول فهو رد على قول ليس له قائل إذ لم يقل أحد منذ آدم إلى الآن بأن لله مثيل في جميع صفاته ، وإن أريد الثاني فليس بصحيح ، لأن ما من شيئين إلا وبينهما نوع اشتراك وتشابه ويكون في الاسم الكلي العام ، والصواب أن يكون الضابط في النفي هو أن ينفى عن الله تعالى صفات النقص جملةً ، وأن ينفى عنه أيضاً توهم النقص في صفات الكمال ، وكذلك ينفى عنه مماثلة المخلوقين ، وهذا واضح ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة التاسعة
أهل السنة والجماعة مفوضة في كيفية الصفة لا معناها(1/29)
وهذا هو المذهب الحق الذي لا يجوز نسبة أهل السنة إلى غيره ، فإن بعض من ينتسب إلى أهل السنة يقول إن أهل السنة يفوضون في المعاني ، كالسفاريني ، عليه رحمة الله تعالى ، لكن الصواب هو أن أهل السنة والجماعة إنما يفوضون الكيفيات لا المعاني ، ومعنى ( يفوضون ) أي يوكلون علم كيفية الصفة وما هي عليه في الواقع إلى الله تعالى ، ولذلك قالوا إن الواجب في الصفات إمرارها كما جاءت بلا كيف ، أي لا ندخل في تأويلها وتحريفها ، وتكلف الكلام في كيفيتها ، أو ندعي أنها مشابهة لصفات المخلوقين ، هذا هو الواجب في جميع الصفات ، واعلم أن الكلام في جميع الصفات له متعلقان ، الأول في المعنى في اللغة ، والثاني في حقيقتها التي هي عليه في الواقع ، أي في حقيقة كيفيتها ، فأما الكلام في الكيفية فهذا لا يجوز البتة ، بل مجرد التفكير وإعمال الذهن في البحث عن كيفية الصفة ممنوع ومحذور ، ولا نعني بهذا الكلام أن صفات الله تعالى ليس لها كيفية في حقيقة الأمر بل لها كيفية ولكن الذي ننفيه هو علمنا نحن بهذه الكيفية ، فلا يعلم هذه الكيفية أحد إلا الله تعالى ، لا يدري عنها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وهذا بالاتفاق إلا أنهم اختلفوا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - والصواب أنه لم يره ، لقوله لما قيل له : ( هل رأيت ربك ؟ ) .(1/30)
قال : (( نور أنى أراه )) والأدلة مذكورة في غير هذا الموضع ، ذلك أنه لا يمكن معرفة كيفية الشيء إلا بثلاثة طرق : إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره أو بإخبار الصادق عنه ، وكلها منتفية في حق كيفية صفة الله تعالى فنحن لم نشاهده في الدنيا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه في الدنيا حتى يموت )) وتقدم القول الراجح فيه هو - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك ليس لله تعالى نظير أو مثيل حتى نستدل به على الله تعالى ، كيف وقد قال الله تعالى : { ليس كمثله شيء } وكذلك لم يخبرنا الصادق عن كيفية صفته وإنما أخبرنا أن له صفات كمال ونعوت جلال فقط ولكن لم يقل إن كيفية صفة اليد مثلاً كذا وكذا ، فوجب الوقوف على ما وقف عليه النص ، فإذا انتفت هذه الطرق الثلاث في حقه - سبحانه وتعالى - فيتقرر حينئذٍ أننا لا نعلم كيفية الصفات وإذا كنا لا نعلمها فنحن نفوض علم كيفيتها إلى الله تعالى فأهل السنة مفوضة في الكيفيات .
وأما أننا لسنا من المفوضة في المعاني فذلك لوجوه :
الأول : قد أمرنا الله تعالى في كتابه الكريم أن نتدبر آياته فقال الله تعالى : { كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } ، وقال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } وآيات أُخر فلو كنا لا نعلم معانيه فكيف يأمرنا بتدبر شيء لا نعلم معناه ، فإن هذا من تكليف ما لا يطاق وهو منتفٍ في الشريعة الإسلامية ، فلما أمرنا بتدبره وتعقله علمنا أنه مما يمكن تدبره وتعقله وهذا الحكم عام في جميع الآيات سواءً كانت من آيات الصفات أو غيرها .(1/31)
الثاني : أن القرآن نزل بلسانٍ عربيٍ مبين ، والمتكلم به لا يريد إلا الهدى والبيان ، قال تعالى : { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسانٍ عربيٍ مبين } ، وقال تعالى : { إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون } ، وقال تعالى : { تلك آيات الكتاب المبين . هدىً وبشرى للمؤمنين } . فمحال مع ذلك أن يخاطبنا بلسانٍ نفهمه وهو لا يريد إلا أن يهدينا إلى الصراط المستقيم محال مع ذلك أن يريد منا غير الذي نفهمه من المعاني المتقررة عندنا في لساننا العربي ومن قال غير ذلك فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الكذب والضلال ، إذ يلزم عليه أن القرآن كله ضلال وليس بهدى ذلك أن أكثر آيات القرآن كلها تقرر أسماء الله تعالى وصفاته ، بل يلزم عليه أيضًا أن ترك الناس بلا كتاب وسنة خير من إنزال الكتاب عليهم لأنه لم يزدادوا بهما إلا تعمية وجهلاً لأنهم يفهمون من ظاهر اللفظ شيئًا ، والمراد شيء آخر هذا اللازم يلزم من قال بقول أهل التعطيل ، وأما أهل السنة فهم يعلمون معاني آيات الصفات وذلك لأنها نزلت بلسانهم ، وهم أهل لسان ، ولذلك قال الإمام مالك لما سأله رجل عن كيفية الاستواء ( الاستواء مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ) فقوله ( الاستواء غير مجهول ) أي غير مجهول معناه في اللغة ، فإن الاستواء في لغة العرب إما أن يرد مجردًا عن الحرف فيكون بمعنى النضج والكمال ، ومنه قوله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا } أي لما بلغ نضجه وكماله ، وإما أن يرد مقيدًا بـ( إلى ) فيكون معناه القصد بإرادة تامة ، ومنه قول تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } أي قصد إليها بإرادة تامة ، وإما أن يرد مقيدًا بـ ( على ) فيكون معناه العلو والاستقرار ومنه قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } في سبع مواضع من كتاب الله تعالى جمعها الناظم بقوله :(1/32)
في السجدة الرعد الحديد ويونس وبطه والأعراف والفرقان
فمعنى الاستواء إذًا معلوم عندنا في لغة العرب وإنما الذي نجهله هو حقيقة هذا الاستواء وكيفيته التي هو عليها في الواقع ، وهي ما يعنيه الإمام مالك بقوله ( والكيف غير معقول )، وكذلك قال أهل السنة والجماعة في آيات الصفات : ( أمروها كما جاءت بلا كيف ) وهذا الواجب في جميع آيات الصفات أننا نمرها كما جاءت ولا نطلب لها كيفية وهي جاءت بمعانٍ معلومة عندنا بلساننا العربي ، ولكن بعض أهل البدع يحتجون لنفي العلم بالمعان بقول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في آيات الصفات ( نؤمن بها لا كيف ولا معنى ) فقد نفى المعنى فكيف تقول إن أهل السنة يعلمون معاني الصفات ؟
الجواب أن يقال : إن صحت هذه العبارة عن هذا الإمام فلا بد من حمل كلامه على أحسن المعاني ذلك أن الواجب أن يؤخذ كلام المتكلم كله ويجمع ويؤلف بينه حتى لا يتناقض ، فالإمام أحمد من أكثر أهل السنة إثباتًا لمعاني الصفات ، فيكون المراد بالمعنى المنفي في كلام الإمام أحمد هو المعنى الذي ابتكرته الجهمية النفاة للأسماء والصفات وليس للمعنى الصحيح اللائق بالله تعالى ، ولا بد من هذا الكلام حتى لا يتناقض كلام هذا الإمام ، والعجب من أهل الأهواء فالذي يسمعهم يحتجون بكلام هذا الإمام يظن أنهم من أتباعه ولكنهم أهل أهواء فهم من أبعد الناس عن الأخذ بأقوال هذا الإمام وإنما أخذوا هذا القول من بين سائر أقواله لأنهم ظنوا أنه يخدم مذهبهم الباطل وما ظنوا أنه من معاول الهدم لمذهبهم لأنهم أتوا بمعانٍ باطلة ، وكلامه ينفي هذه المعاني الباطلة ، والله أعلم قال الناظم :
واحذر سؤال الكيف عن أوصافه وأجب بقول العالم الرباني
قل نعلم المعنى ونجهل كيفها والسؤل يحرم يا أخا العرفان
فإن قيل هل الصفات من قبيل المتشابه أم من قبيل المحكم ؟(1/33)
قلت هذا سؤال مجمل لا بد فيه من التفصيل ، فإن أريد بالصفات أي معانيها في اللغة فهي من قبيل المحكم الذي اتضح معناه كل الوضوح ، بل هي من أعلى درجات المحكم ، وإن أُراد بالصفات أي كيفياتها فهي من قبيل المتشابه الذي قد خفي معناه وليس لنا فيه إلا أن نقول { آمنا به كل من عند ربنا } ، والله أعلم .
فإن قيل هل المراد بالصفات ظاهرها أم غير ظاهرها ؟
قيل أن لفظ الظاهر من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى بيان ، فإن أُريد بالظاهر ما يفهمه أهل البدع من المعاني التي لا تليق بالله تعالى من التشبيه والتعطيل فهذا الظاهر لا شك أنه غير مراد لكن السلف رحمهم الله تعالى لا يسمون هذا ظاهر الصفة وإنما يسمونه لفظ الصفة وإن أُريد بالظاهر ما يتبادر إلى الذهن من المعاني التي تليق بالله تعالى فهذا الظاهر لا شك أنه مرادٌ وهذا هو الظاهر الصحيح للصفة ، والله أعلم.
وزيادةً في البيان أذكر بعض الفروع على هذه القاعدة :
منها : صفة السمع فنحن نعلم معنى السمع في اللغة فهو إدراك المسموعات وسماعها ، لكن حقيقة سمع الله تعالى وكيفيته هي التي لا نعلمها ونفوض أمر علمها إلى الله تعالى .
ومنها : صفة البصر نعلم معناها في لغة العرب فهو رؤية المبصرات ومشاهدتها أما حقيقة صفة البصر وكيفيته هي التي نجهلها ونفوض أمر علمها إلى الله تعالى . وتقدم لك القول في صفة الاستواء وعلى هذا فقس .
ومنها : صفة العلم ، فالعلم هو انطباع صورة المعلوم في الذهن وأما كيفية العلو الذي يضاف إلى الله فلا يعلمه إلا الله . وعلى ذلك فقس . والله أعلم .
القاعدة العاشرة
أهل السنة يثبتون إثباتًا مفصلاً وينفون نفياً مجملاً(1/34)
اعلم أن أهل السنة والجماعة تميزوا عن غيرهم بميزات كثيرة جداً ومن أهم ما تميزوا به عن أهل الضلال هو أنهم في إثباتهم للصفات يثبتون إثباتًا مفصلاً وفي نفيهم ينفون نفيًا مجملاً وهذه هي بعينها طريقة القرآن ، وقبل الدخول في الاستدلال لهذه الطريقة نوضح أربع مصطلحات مهمة .
الأول : قولهم ( الإثبات المفصل ) يعنون به أن تثبت صفات الكمال لله تعالى على وجه التفصيل بحيث ينصب الإثبات على كل صفة بعينها ، كالدليل الذي يثبت صفة اليدين على حدة ، وصفة الوجه على حدة ، وصفة العلم على حدة وهكذا .
الثاني : قولهم( النفي المجمل ) يعنون به أن تنفى صفات النقص عن الله تعالى على وجه العموم لا على وجه التفصيل ، كقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } فهذه الآية تنفي مماثلة المخلوقات لله تعالى فالله ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وكقوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون } أي ليس لله ند في كل ما ذكر ، وكقوله تعالى : { هل تعلم له سميا } أي سميًا يساميه فيما هو من خصائصه ، وكقوله تعالى : { سبحان الله عما يصفون } وكل آية فيها كلمة ( سبحان ) فهي من قبيل النفي المجمل والتنزيه المطلق .
والثالث : الإثبات المجمل : ويعنون به أن تثبت صفات الكمال لله تعالى على وجه العموم لا على وجه التفصيل وذلك كقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } ، وكقوله تعالى : { ولله المثل الأعلى } أي الوصف الأعلى .(1/35)
والرابع : النفي المفصل وهي أن تنفى عن الله تعالى صفات النقص بعينها بحيث ينصب النفي على هذه الصفة بعينها كقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد } ، وكقوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } ، وكقوله تعالى : { ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا } إذًا صارت عندنا أربع مصطلحات ، إثبات مفصل وإثبات مجمل ، ونفيٌ مفصل ونفيٌ مجمل ، إذا علمت هذا فاعلم أن القرآن أتى بهذه الأنواع الأربعة ففيه نفي مجمل ومفصل وفيه إثبات مجمل ومفصل وبالاستقراء ثبت أنه يأتي بالإثبات المفصل والنفي المجمل أكثر من ذكره للنفي المفصل والإثبات المجمل ، وهو ما نريد تقريره في قاعدتنا هذه ، واعلم أن هذه الطريقة هي الطريقة السليمة والمنهج القويم في باب الأسماء والصفات والذي دل على ذلك عدة أمور :
الأول : أن هذه هي طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وكذلك هي طريقة القرآن ومن المعلوم بالضرورة أن خير الهدي هو هدي الكتاب والسنة فالرسل تثبت لله الصفات على وجه التفصيل وتنفي عنه صفات النقص على وجه الإجمال .
الثاني : أن هذه الطريقة فيها لزوم الأدب مع الله تعالى وذلك أن العرب إذا نفوا الصفات نفوها على وجه الإجمال وإذا أرادوا مدح أحدٍ مدحوه بما معه من الصفات على وجه التفصيل ، والقرآن نزل بلغة العرب التي يفهمونها ، ولذلك لو مدحت ملكا وقلت : أنت لا يساميك ملك من ملوك الدنيا ثم بدأت تعدد صفاته من الكرم والحلم والقوة والحنكة في الحكم لكان هذا الكلام له وقع كبير في نفس الملك ، لكن لو قلت : أنت لست بزانٍ ولست بلص ولست بسارق ولا خباز ولا بقال ، وأنت محق في هذا كله لعد ذلك منك سخرية واستهتارًا وقد يعاقبك عليه ولله المثل الأعلى وكل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به وهذا منها .(1/36)
وأما النفي المفصل فاعلم أن الله تعالى لا ينفي صفة على وجه التفصيل إلا لأن بعض الناس وصفه بها فقد وصفته اليهود والنصارى بالولد فنفاه ، ووصفته اليهود بالعجز والتعب والنوم فنفاه ، ووصفه المشركون بأن له شريك في الملك ووليٌ من الذل فنفاه وهكذا . وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم فعلى العكس من ذلك فهم يثبتون إثباتًا مجملاً وينفون نفيًا مفصلاً ويجعلون الله تعالى موجودًا بشرط الإطلاق أي موجود بلا صفة وقد علم بصريح العقل أن الوجود المطلق لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجودٍ في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان ، فهم لا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المحض المجرد عن الإثبات ، فيقولون : إملأ الدنيا نفيًا لكن لا تثبت ولا صفة واحدة ، وهذه الطريقة ضالة توصل أصحابها إلى أعظم الكفر وأعظم التعطيل وأعظم التشبيه فإنهم شبهوا الله تعالى بالمعدومات والجمادات والممتنعات ، وعطلوه عن صفات الكمال ونعوت الجلال ، فالواجب على المرء أن يلزم طريقة السلف فإنها طريقة القرآن والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، والرد على أهل هذه الطريقة مذكور بالتفصيل في كتب شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية ، وابن القيم فراجعه إن شئت ، وفي ذلك قال الناظم :
إثباتنا جل الصفات مفصلٌ والنفي يجمل يا أخا الإيمان
والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الحادية عشرة
أسماء الله تعالى تدل على صفاته دلالة مطابقة وتضمنٍ والتزام
اعلم رحمك الله تعالى ، أن الألفاظ لها ثلاث دلالات من حيث دلالتها على المعنى :
الأولى : دلالة المطابقة وهي دلالة اللفظ على كل معناه ، كدلالة لفظ زيد على ذاته وصفاته فإن كلمة زيد تدل عليها دلالة مطابقة ، وكدلالة لفظ البيت على الجدران والأرض والسقف وما يحويه وكدلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته .(1/37)
والثانية : دلالة التضمن وهي دلالة اللفظ على بعض معناه ، كدلالة لفظ زيد على الذات وحدها أو الصفات وحدها ، وكدلالة لفظ البيت على الجدران وحدها أو السقف وحده ، وكدلالة أسماء الله تعالى على الذات وحدها أو الصفات وحدها .
والثالثة : دلالة الالتزام وهو دلالة اللفظ على لازم معناه كدلالة لفظ زيد على أن له أبًا إذ من لوازم وجوده أبوه وكذلك أمه ، وكدلالة لفظ البيت على بانيه إذ من لوازم البيت أن يكون له بانٍ بناه ، وكدلالة أسماء الله تعالى على بعضٍ كدلالة اسم الخالق على صفة الحياة إذ من لوازم الخلق أن يكون الخالق حيًا لأن الميت لا يخلق ، وكدلالة اسمه الحكيم على صفة العلم لأن من لوازم الحكمة أن يكون الحكيم عالمًا وهكذا ، إذا علم هذا فاعلم أننا نقدر أن نثبت لله تعالى صفات الكمال بمجرد صفة واحدة تضمنًا والتزامًا وبيان ذلك أن يقال :(1/38)
قد تقرر عندنا أن ما من اسم من أسماء الله تعالى إلا ويتضمن صفة من صفاته ، وهذه تعتبر قاعدة عند أهل السنة والجماعة يردون بها على المعتزلة الذين يقولون إن أسماء الله تعالى أعلام محضة لا تتضمن أي صفة فيقولون عليم بلا علم وقدير بلا قدرة وهكذا ، فأسماء الله تعالى تدل عليه بدلالة المطابقة فاسمه الله يدل على ذاته وعلى صفاته دلالة مطابقة ويدل على الذات وحدها أو الصفات وحدها دلالة تضمنٍ ويدل على جميع بقية صفات الكمال ونعوت الجلال دلالة التزام لأن الله هو المألوه المعبود ومن لوازم المعبود أن يتصف بصفات الكمال ، ولذلك قال بعض السلف : إن هذا الاسم هو أبو الأسماء وما عدا ذلك فإنه يجري مجرى الصفات له وكذلك اسمه المهيمن يدل على الذات والصفات دلالة مطابقة ويدل على الذات وحدها وعلى الصفات وحدها دلالة تضمنٍ ويدل على صفة القوة والجبروت والقدرة والحياة والعلم دلالة التزام ، ومن ذلك اسمه جل وعلا الحكيم فإنه يدل على الذات وعلى صفة الحكمة دلالة مطابقة ويدل على الذات وحدها والحكمة وحدها دلالة تضمن ويدل على صفة العلم والحياة والسمع وغيرها دلالة التزام ، ومن ذلك اسمه الحي فهو يدل على الذات وعلى صفة الحياة دلالة مطابقة ويدل على الذات وحدها وصفة الحياة وحدها دلالة تضمن ويدل على باقي صفات الكمال دلالة التزام لأن حياة الله حياة كاملة من كل وجه لا يعتريه نقص بوجه ، والخلاصة من هذه القاعدة أننا نقدر أن نثبت من اسمٍ واحدٍ من أسماء الله تعالى أكثر من صفة كمال ، ولكن ذلك لمن وفقه الله تعالى لفهم هذه القاعدة فهمًا مستقيمًا ، قال الناظم :
لا تحصر الأسماء في عددٍ وقد دلت على الأوصاف للرحمن
بتطابقٍ وتضمنٍ وتلازمٍ فاجن الثمار براحة وأمان
والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الثانية عشرة
الكلام في الصفات كالكلام في الذات وفي بعضها(1/39)
هذه القاعدة مكونةٌ من قاعدتين من أهم القواعد في مذهب أهل السنة والجماعة وهما الأصلان اللذان بنى شيخ الإسلام ابن تيمية عليهما كتابه التدمرية وهي أعني القاعدة من أعظم الأجوبة التي يتبين بها تناقض الطوائف الزائغة الضالة المنحرفة عن منهج الله تعالى ، وإليك بيانها :
الشطر الأول منها : الكلام في الصفات كالكلام في الذات ، اعلم رحمك الله تعالى أن ما من ذاتٍ موجودةٍ إلا ولها صفاتٌ تميزها عن الذات الأخرى وهذا من الأمور البدهية التي تعرف بالاضطرار فلا يمكن أن توجد في الخارج ذات إلا ولا بد أن تكون متصفةً بصفات ، وهذه الصفات تختلف من ذاتٍ إلى ذات وسبب اختلافها راجعٌ إلى اختلاف الذات فيما بينها فاختلاف الذوات سببٌ لاختلاف الصفات ، فمثلاً صفات زيدٍ ليست كصفات عمرو فما السبب ؟
الجواب أن يقال لأن ذواتهما مختلفةٌ وبالتالي اختلفت صفاتهما ، ومن المعلوم أن للفيل صفاتٍ وللبعوض صفاتٍ لكن صفات الفيل تختلف كل الاختلاف عن صفات البعوض فما السبب ؟(1/40)
الجواب أن يقال لأن ذواتهما مختلفة فذات الفيل ليست كذات البعوض ، إذا علمت ذلك فيقال من المعلوم لدى جميع الناس باختلاف طوائفهم مسلمهم وكافرهم أن لله تعالى ذاتًا تليق بجلاله وعظمته ليست كالذوات ولم يخالف في ذلك فيما أعلم إلا طائفةٌ شاذة لا عبرة بها ، فإذا قلنا إن لله تعالى ذاتًا فالواجب حينئذٍ علينا أمران : أن نثبت لهذه الذات صفات لأنه قد تقرر لنا سابقًا أنه ما من ذات إلا ولها صفات ونكون بهذا قد رددنا على الذين يقولون بنفي صفات الله تعالى كالمعتزلة والجهمية والفلاسفة النفاة غلاتهم وغلاة غلاتهم ، لأن حقيقة قولهم هو نفي جميع صفات الله تعالى بحيث لا يثبتون له سبحانه إلا وجودًا مطلقًا عن الصفات وقد عُلِم بصريح المعقول أن هذا ممتنعٌ كل الامتناع فإن الوجود المطلق عن الصفات لا وجود له في الأعيان وإنما يرجع إلى وجودٍ في الأذهان لا حقيقة له عند التحصيل ، فتأتي هذه القاعدة رادةً عليهم هذا القول وتقرر أنكم أيها المبتدعة إذا كنتم تقرون أن لله تعالى ذاتًا فيجب عليكم أن تقروا أن لهذه الذات صفات لائقةٍ بها وإذا لم تقولوا بذلك فاعلموا أنكم قد وقعتم في التناقض الذي ليس لكم منه مخرجٌ إلا أن تقروا بالصفات ، وهذه القاعدة بشطرها الأول تعتبر ردًا على المعطلة النفاة الذين انصبوا على أدلة الصفات نفيًا وتعطيلاً ، هذا أولاً وأما ثانيًا فإنه يجب على كل من أقر أن لله تعالى ذاتًا ليست كالذوات أن يقر أن له كذلك صفاتٍ ليست كالصفات لأنه قد تقرر لنا سابقًا أن الاختلاف في الذوات يؤدي إلى اختلاف الصفات فيجب أن تكون صفات الله تعالى لائقةً بذاته ليست كصفات المخلوقين ، هذا أمرٌ لا زمٌ لهم لا محيص ولا مناص لهم عنه والقاعدة بهذا الاعتبار تعتبر من أعظم الردود على أهل التمثيل وأهل التعطيل أما ردها على أهل التمثيل فلأنهم جعلوا صفات الله تعالى كصفات المخلوقين مع أنهم يقرون أن ذاته ليست كذواتهم فإما أن يقولوا إن ذاته(1/41)
كذواتهم فيلحقوا بإخوانهم الكفرة وإما أن يقولوا له ذاتٌ تليق به وصفاتٍ تليق به فيلحقوا بأهل السنة أما أن يقولوا له ذاتٌ ليست كذوات المخلوقين ثم يقولوا له صفاتٌ كصفاتهم فهذا والله هو عين التناقض الذي يبين أن الحق في خلاف مذهبهم .
وعلى هذا إذا قال لك الجهمي { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى فقل له قبل الجواب على هذا السؤال قل لي أنت كيف ذات الله تعالى ؟ فإن قال لا أعلم كيف ذاته لأني لم أره ولم أر نظيره ولم يخبرني الصادق عن كيفية ذاته فقل له وكذلك أنا لا أعرف كيف استوى لأني لا أعلم كيف هو في ذاته لأن العلم بالصفة فرعٌ عن العلم بالذات فإنه لا تعرف كيفية صفة شيء إلا إذا عُلِمت ذاته فإذا كنا أنا وأنت مشتركين في عدم العلم بكيفية الذات فكذلك لا نعلم كيفية الصفات فإذًا لا يحق لك أن تلزمني بعلم كيفية صفةٍ لا أعلم كيف ذاتها ذلك لأن الكلام في الصفات كالكلام في الذات فإذا جهلنا كيف ذات الله تعالى فمن باب أولى أن نجهل كيفية صفاته . وفي ذلك قال الناظم :
والقول في بعض الصفات كقولنا في بعضها والذات دون تواني
هذا هو الشطر الأول من القاعدة وهو أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات .
وأما الشطر الثاني منها فهو أن الكلام في الصفات كالكلام في بعضٍ وهذه القاعدة لا تقصر في الأهمية عن سابقتها وبيانها :(1/42)
أنه يجب في صفات الله تعالى جميعها أن تثبت على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تمثيل ولا تعطيل ومن غير تكيفٍ ولا تحريف وأن من أثبت صفةً واحدةً فإنه يُلزمُ بإثبات جميع الصفات التي أثبتها الله لنفسه لأنه لا فرق بين ما أثبت وبين ما نفى فإن كان نفى ما نفى من أجل محذور قام في رأسه وأثبت البعض فإنه يقال له إن ما نفيت من الصفات من أجل هذا المحذور هو بعينه في الصفات التي أثبتها فإما أن تنفي الجميع أو تثبت الجميع أما أن تثبت بعض الصفات وتنفي البعض فهذا هو عين التناقض ، وهذا يكون ردًا قويًا على الأشاعرة الذين لا يثبتون إلا سبع صفاتٍ فقط وهي في قول الناظم :
له الحياة والكلام والبصر ... سمعٌ إرادةٌ وعلمٌ واقتدر
وينفون الباقي ، واعلم أن أول ما يقال للأشاعرة هو طلب الفرق بين الصفات التي ينفون وبين الصفات التي يثبتون وليس لهم إلا أحد جوابين :
أما أولهما : فسيقولون إن الصفات التي نثبتها لا تقتضي تمثيلاً ولا تشبيهًا وأما بقية الصفات التي نفيناها فإنها تقتضي التمثيل والتشبيه ، فإذا قالوا ذلك فقل لهم : إن كانت الصفات التي نفيتموها تقتضي ذلك فاعلموا أن ما أثبتموه من الصفات يقتضي ذلك ، وإن كانت الصفات التي أثبتموها لا تقتضي ذلك فإن الصفات التي نفيتموها لا تقتضي ذلك فالكلام في جميع الصفات واحدٌ لا يتغير .(1/43)
ويقال لهم أيضًا أنتم تقولون إننا لو وصفنا الله تعالى باليد أو بالرحمة أو بالوجه أو بالرجل أو بالساق أو بالضحك والفرح والعَجَبِ فإننا نكون قد شبهناه بمخلوقاته لأن المخلوق له يد ورجل ووجه وساق وضحكٌ واتفاق الأسماء يلزم منه اتفاق الكيفيات ، فيقال لهم : أنتم قد حكمتم إذًا أنكم من المشبهة ذلك لأنكم تصفون الله تعالى بالكلام والسمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة والعلم ونحن نتصف بها ففينا كلام وبصر وسمع . . . الخ ، فهلا نفيتم ما أثبتموه من الصفات لأنه قد تحقق فيه عين المحذور الذي من أجله نفيتم ما نفيتم من الصفات أو أثبتم ما نفيتموه من الصفات تبعًا لما أثبتموه وهذا هو الحق لأن الكلام فيهن واحدٌ فإما أن تنفوا الجميع وتلحقوا بركب إخوانكم من الجهمية وإما أن تثبتوا الجميع فتلحقوا بركب أهل السنة والجماعة ، أما أن تنفوا بعض الصفات وتثبتوا البعض مع أن القول فيهما واحد فإن هذا هو عين التناقض والسفسطة .
ويقال لهم أيضا إن إخوانكم من المعتزلة والجهمية ينكرون عليكم ما أثبتموه من الصفات السبع وأنتم تقومون بالرد عليهم دفاعًا عن مذهبكم فنقول لكم اعلموا أن جوابكم عليهم دفاعًا عن مذهبكم فيما أثبتموه هو بعينه جوابنا عليكم في ما نفيتموه من الصفات فإن قلتم لهم إننا نثبت صفاتٍ تليق بالله تعالى فنثبت سمعًا وبصرًا وكلامًا وقدرةً وعلمًا وحياةً تليق بالله تعالى قلنا لكم نحن وكذلك القول في سائر الصفات فأثبتوا وجهًا ويدين ورجلاً وغير ذلك من الصفات السمعية على الوجه الذي أثبتم به ما أثبتموه من الصفات لأن الكلام فيهن واحدٌ ومن فرق بينها فقد فرق بين الأمور المتماثلة .(1/44)
والجواب الثاني : للأشاعرة عند سؤالهم عن الفرق بين ما نفوه وما أثبتوه هو قولهم : إن الصفات التي أثبتناها دل عليها العقل وأما الصفات التي نفيناها لم يدل عليها العقل فالفعل الحادث دل على القدرة والتخصيص دل على الإرادة والإحكام دل على العلم وهذه الصفات لا تقوم إلا بحي والحي إما أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا أو لا يكون والنقص منتفٍ عن الله تعالى فتعين أن يكون بسمع وبصر وكلام ، كذا قالوا . فيقال لهم لنا عليكم أجوبة أربعة حتى لا نطيل :
أولها : إن إقحام العقل في باب الصفات مخالفٌ لمنهج السلف الصالح ذلك لأن باب الصفات من الأبواب الغيبية وما كان من باب الغيب فمبناه على الدليل الشرعي ولم يكن من عادة السلف أن يدخلوا عقولهم في باب الغيب .
ثانيًا : إن إقحام العقل في باب الصفات أصلاً مخالفٌ للعقل ذاته ذلك لأن الله تعالى لما خلق العقل خلقه بحدودٍ وطاقاتٍ لا يتعداها ويكون تفكيره سليمًا إذا لم يتعداها لكن إذا أُقْحم فيما لم يكن داخلاً في حدوده وطاقاته فإنه سوف يضل ويتيه ، وباب الصفات من الأمور الخارجة عن حدود العقل وطاقاته ولذلك ما ضل من ضل في باب الصفات إلا لأنهم حكموا عقولهم فيما ليس للعقل فيه مجال .
ثالثًا : هب أن العقل لم يدل على بقية الصفات فهل عدم العلم بها دليل على العدم ؟ بالطبع لا ، فإن العقل إذا لم يدل عليها فإن الدليل الشرعي قد دل عليها وهو دليلٌ مستقلٌ بنفسه ، بل هو عندنا أقوى من الدليل العقلي .(1/45)
رابعًا : إننا لا نسلم لكم دعوى أن العقل لا يدل على ما نفيتموه من الصفات ، بل العقل السليم دل عليها إجمالاً وتفصيلاً فأما دليله إجمالاً فإن العقل يقضي أن يكون الخالق متصفاً بصفات الكمال ونعوت الجلال التي يتميز بها عن غيره وأن معطي الكمال في المخلوق هو الأولى به فكل صفة كمال في المخلوق لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله تعالى أولى بها ، فدخل في هذه الجملة كل صفات الكمال جملةً ، وأما دليله التفصيلي فإن صفات الله تعالى نوعان بالنسبة لطريق الثبوت : صفاتٌ عقلية خبرية وصفات خبرية محضة ؛ فأما الصفات الخبرية المحضة فلا طريق لإثباتها بالعقل ، بل يتوقف إثباتها على النقل فقط ، وذلك كصفة اليدين والاستواء والنزول إلى السماء الدنيا ، وأما الصفات الخبرية العقلية فإننا نقدر على إثباتها وإليك بعض الأمثلة :
فمن ذلك صفة المحبة فإن ثواب الطائعين وإكرامهم وإدخالهم الجنة من أكبر الأدلة على أن الله تعالى أحبهم .
ومن ذلك صفة الغضب ، فإن عقاب المذنبين وإهانتهم وإدخالهم النار من أكبر الأدلة على أن الله تعالى يبغضهم .
ومن ذلك صفة الحكمة ، فإن من رأى بعين العقل هذا الشرع وعرف ما فيه من الحكم العظيمة عرف أنه من عند حكيمٍ حميد ، بل الغايات المحمودة في أفعاله ومأموراته تدل على الحكمة البالغة كدلالة التخصيص على الإرادة ، بل وأولى لقوة العلة الغائية .
ومن ذلك صفة القوة ، فإن من رأى السماء كيف على كبرها بنيت من غير عمدٍ نراها ، ومن رأى هذه الجبال على كبرها من أرساها وجعلها أوتادًا للأرض عرف حق المعرفة أن الذي خلقها قويٌ كريم . وغير ذلك من الصفات .
إذًا تبين من هذا أن باب الصفات بابٌ واحدٌ ، والله تعالى أعلى وأعلم .
((1/46)
فائدة ) : يقرب من هذه القاعدة قاعدةٌ مهمة أيضًا وهي قاعدة : ( أن الكلام في الأسماء كالكلام في الصفات ) وهي من الردود القوية على مذهب المعتزلة ، ذلك أن المعتزلة يثبتون الأسماء وينفون الصفات ، ويجعلون الأسماء من باب الأعلام المحضة المترادفات وبعضهم يجعلها من باب المتباين لكن يصرح بنفي الصفة فيقول عليم بلا علم قدير بلا قدرة وهكذا ، والمقصود أن المعتزلة يحتجون على نفي الصفات بقولهم إننا لا نجد في الشاهد ما هو موصوفٌ بصفةٍ إلا وهو جسمٌ والأجسام متماثلة ، فلو أثبتنا لله تعالى الصفات لوصفناه بالجسمية ولشبهناه بمخلوقاته ، كذا قالوا ولبئس ما قالوا .
ويجاب عنهم بأجوبةٍ كثيرة :
منها : أننا نمنع أن يكون كل شيء موصوف بصفة جسمًا بل هناك أشياءٌ وصفت بصفات وليست أجسامًا ، كقولك ليل طويل ونهار قصير وذكاءٌ متوقد وهذه الأشياء ليست أجسامًا فالمقدمة الأولى باطلة ممنوعة .
ويقال لهم أيضًا : إن قولكم إن الأجسام متماثلة قول مخالف للمعقول لأننا نرى أجسامًا اتفقت في الجسمية واختلفت في الصفة وذلك مثل الفيل والبعوض فالفيل له جسم والبعوض لها جسم فهل نقول في ذلك إن الأجسام متماثلة ؟ من قال ذلك فهو من أعظم الناس سفسطة .
ويقال لهم أيضا : إن الكلام في الأسماء كالكلام في الصفات فإذا كنتم لا تجدون شيئًا موصوفًا بصفةٍ إلا وهو جسم فكذلك نحن لا نجد شيئًا مسمى باسمٍ إلا وهو جسمٌ ، فإن قلتم : بل نجد أشياء سميت بأسماءٍ وليست أجسامًا فنقول وكذلك نحن نجد أشياءً وصفت بصفاتٍ وليست أجسامًا .
ويقال لهم أيضاً : إن أسماء الله تعالى أسماءٌ حسنى ومن حسنها أنها متضمنةٌ لصفات كمال من كل وجه فإذا سلبتم عن الأسماء صفاتها فقد سلبتم حسنها وجعلتموها كأسماء المخلوقات ، أسماءً محضةً لا تتضمن صفات كمال .(1/47)
ويقال لهم أيضاً : أنتم فررتم من إثبات الصفات خوفًا من وصف الله تعالى بالجسمية ، فما ذا تعنون بهذا الجسم الذي تفرون من إثباته فحرفتم الصفات من أجله ؟ فإن كنتم تعنون ما هو أجزاءٌ وأبعاضٌ في حقنا مفتقرٌ بعضها إلى بعضٍ فهذا الجسم بهذا المعنى نحن أيضًا نفر منه ولا نثبته ، وإن كنتم تعنون بالجسم ذاتًا كاملةً متصفةً بجميع صفات الكمال اللآئقة بها فإننا لا نفر من إثبات هذا الأمر لله تعالى لأنه ليس فيه نقصٌ ، فلفظ الجسم لا نثبته وأما معناه فنستفصل فيه والله تعالى هو الذي وفقنا لهذا وهدانا له وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الحق ، والله تعالى أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الثالثة عشرة
صفات الله تعالى إما خبريةٌ محضة ، وإما خبرية وللعقل فيها مجالٌ
لقد تكلمنا في القاعدة السابقة عن هذه القاعدة ولكن لأهميتها أفردتها بالذكر لأنها تستحق ذلك فأقول :(1/48)
اعلم رحمك الله تعالى أن صفات الله تعالى من حيث الثبوت لها طريقان لا ثالث لهما ، إما أن نثبتها بالنقل فقط وليس لها طريق إلا هو فهذه تسمى الصفات الخبرية المحضة أي ليس لها طريق تثبت به إلا النقل الذي هو الخبر من كتابٍ أو سنة ، وإما أن يكون أصل ثبوتها هو النقل ولكن للعقل في إثباتها مجال بحيث لو لم يرد الخبر بإثباتها لاستطعنا أن نثبتها لله تعالى على الوجه اللائق به جل وعلا ، ولا أعني أي عقلٍ يقدر على إثباتها وإنما أخص عقول أهل السنة والجماعة لأنهم أسلم الناس عقلاً ، ولذلك تقدم لك أننا نقدر أن نرد على الأشاعرة الذين يقولون إن العقل لم يثبت إلا الصفات السبع فقط بأن العقل قادرٌ على إثبات غيرها من الصفات ، ولكن هنا إشكال لا بد له من جواب وهو ، أننا ذكرنا سابقًا أن أهل السنة والجماعة لا يقحمون عقولهم في باب الصفات لأنه من الأبواب الغيبية وقلنا إن ما كان من باب الغيب فليس للعقل فيه مجالٌ فكيف تقول إننا نقدر على إن نثبت بعض الصفات لله تعالى بالعقل المجرد عن النقل ؟(1/49)
والجواب عن هذا أن الذي أنكره أهل السنة والجماعة هو جعل العقل دليلاً مستقلاً تثبت به الأسماء والصفات بحيث تُثبت به الصفات وإن لم يدل عليها دليلٌ شرعي وينفى عن الله تعالى من الصفات ما نفاه هو وإن كان عليها دليلٌ شرعي متواتر كما فعل الأشاعرة ، الذين نفوا الصفات التي دلت عليها الأدلة السمعيات بمجرد أن عقولهم لم تثبتها ، وأما العقل السليم عن الآفات المؤيد بالشرع فإنه يعرف أن كل كمال ثبت للمخلوق وليس فيه نقص أن الله تعالى أولى به لأنه هو معطي الكمال ومعطي الكمال أولى بالكمال وأنه يعرف أن الصفات الخبرية المحضة ليس له فيها مجالٌ . فلا ننكر عليه حينئذٍ باب الصفات لأنه لا يترتب على الدخول فيها محذور ، ويقال أيضًا إننا نمنع دخول العقل فيما كان من باب الصفات الخبرية المحضة وأما الصفات الخبرية العقلية فلا ننكر إدخال العقل فيها إذا توافق العقل مع النقل ولذلك نحن لم ننكر على الأشاعرة أنهم أثبتوا الصفات السبع بالعقل لأن هذه الصفات خبرية عقلية ، ولكننا ننكر عليهم أنهم ينفون بقية الصفات لأن عقولهم لم تدل عليها فقد نفوا بعقولهم ما أثبته الدليل النقلي الصحيح .
وخلاصة الجواب أن يقال : إن إدخال العقل فيما ليس له فيه مجال وهي الصفات الخبرية المحضة هو الذي ننكره ، والله تعالى أعلى وأعلم .
لقد مثلنا على هذه القاعدة بعدة أمثلةٍ ذكرناها في القاعدة التي قبلها فلعلك تكون على ذكر منها ، والله أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الرابعة عشرة
أسماء الله تعالى مترادفةٌ من حيث الذات متباينةٌ من حيث الصفات
قبل الدخول في شرح هذه القاعدة أود أن أبين لك أولاً بعض الألفاظ التي تعينك على فهم هذه القاعدة فأقول :(1/50)
اعلم أن المترادف هو : ما اختلف لفظه واتفق معناه ، وذلك مثل أسماء السيف فهي كثيرة مختلفة في ألفاظها متفقةٌ في معانيها وكأسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلفت في ألفاظها واتفقت في معناها إذ كلها تدل على ذاتٍ واحدة وهي ذاته - صلى الله عليه وسلم - ، وكأسماء القرآن الكريم كالذكر والكتاب والقرآن كلها تدل على شيء واحدٍ بألفاظٍ مختلفة ، وأما التباين فهو ما اختلف لفظه ومعناه كلفظ البيت ولفظ الفيل اختلفت في ألفاظها فحروف هذه الكلمة ليست هي نفس حروف هذه الكلمة والفيل ليس هو البيت، وأما التواطئ فهو ما اتفق لفظه ومعناه وهو نادر في اللغة العربية ويمثل له بالاسم المطلق الكلي ، وأما الاشتراك فهو ما اختلف معناه واتفق لفظه كلفظ العين فهو يدل على العين الباصرة وعلى العين الجارية وعلى العين الجاسوسة وعلى عين الذهب ، إذا علمت هذا فاعلم أن أسماء الله تعالى وردت لنا بألفاظٍ مختلفة كالسميع والبصير فلفظ الأولى ليس هو بعينه لفظ الثانية . . . . وهكذا إلا أنها مع هذا الاختلاف اللفظي تدل على ذاتٍ واحدة وعلى شيء واحدٍ هو الله جل وعلا ، فهي من حيث دلالتها على الله وحده من باب الترادف فقد اختلفت ألفاظها واتفقت دلالاتها ، لكننا لو نظرنا إلى ما تتضمنه هذه الأسماء من الصفات لوجدنا أن كل اسمٍ منها يتضمن غير الصفة التي يتضمنها الاسم الآخر كالسميع والبصير فالسميع دل على صفة السمع والبصير دل على صفة البصر ومن المعلوم ضرورة أن السمع ليس هو البصر ، بل هو غيره وهكذا بقية الأسماء فهي من حيث دلالتها على ذاتٍ واحدةٍ من باب المترادف وهي من حيث دلالتها على ما تتضمنه من الصفات من باب المتباين إذًا صدقت القاعدة ولله الحمد .
إذا علمت هذا فاعلم أننا قد قلنا سابقًا أن المعتزلة يجعلون الأسماء من باب الأعلام المحضة المترادفات وبعضهم يجعلها من باب المتباين ويصرح بنفي الصفة ، فهل هذا حقٌ أم باطل ؟(1/51)
الجواب أن هذا الكلام فيه إجمال وما كان من باب المجمل فإنه يتوقف فيه حتى يأتي البيان ، فأقول : الذين قالوا : إن الأسماء من باب المترادف إن أرادوا أنها مترادفةٌ من حيث الذات فكلامهم هذا صوابٌ لا شك ، وإن أرادوا أنها مترادفةٌ من حيث ما تدل عليه من الصفات فهذا باطلٌ مخالفٌ للمعقول والمنقول ، فالسمع غير العلم والقدرة غير البصر وهكذا ، وأما الذين قالوا : إنها من باب المتباين فإن أرادوا أنها من باب المتباين من حيث ما تدل عليه من الصفات فهذا كلامٌ صحيحٌ لا قدح فيه وإن أرادوا أنها من باب المتباين من حيث الذات فهو الكفر بعينه فالله تعالى واحدٌ لا شريك له في ذاته ولا في أسمائه وصفاته ، فصار الحق الذي لا مرية فيه هو قول أهل السنة والجماعة أن أسماء الله تعالى مترادفةٌ من حيث الذات متباينةٌ من حيث ما تدل عليه من الصفات ، فالذي يقول : إن ( العليم والسميع والبصير والقدير والمهيمن ) شيء واحد فهو مصيب إن أراد أنها تدل على ذاتٍ واحدة ، ومخطئٌ إن أراد أن كل اسمٍ منها يدل على عين الصفة التي دل عليها الآخر ، والذي يقول إن هذه الأسماء ليست شيئًا واحدًا هو مصيبٌ إن أراد أنها تدل على صفاتٍ متباينة ومخطئٌ إن أراد أنها تدل على ذواتٍ متعددة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الخامسة عشرة
الأعيان المضافة إلى الله تعالى إن كانت لا تقوم بذاتها فإضافة صفة وإلا إضافة تشريف وتكريم
اعلم رحمك الله تعالى أن الله تعالى في كتابه الكريم يضيف بعض الأشياء إلى نفسه إما تصريحًا باسم الجلالة وإما بالضمير ، فماذا تعني هذه الإضافة ؟ هل لها ضابطٌ معينٌ مطرد ؟
الجواب هو هذه القاعدة فنقول :
إن الأعيان التي يضيفها الله تعالى إلى نفسه نوعان :(1/52)
الأول : أشياءٌ تقوم بنفسها ، والثاني أشياء لا تقوم بنفسها بل لا يتصور العقل أن تقوم إلا بغيرها ، فإذا أضاف الله تعالى الأعيان التي تقوم بنفسها فإن هذه الإضافة تعتبر إضافة تكريمٍ وتشريف أو إضافة عبودية أو إضافة خلقٍ باعتبار المضاف ، وهذا له أمثلةٌ كثيرة في كتاب الله تعالى فمن ذلك قول الله تعالى : { هذه ناقة الله لكم آية } فقد أضاف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الناقة إلى نفسه فقال : ( ناقة الله ) فلننظر أولاً إلى المضاف هل هو يقوم بنفسه أم لا ؟ بالطبع أن الناقة مما يقوم بنفسه فعلى هذا فالإضافة هنا تكون إضافة تشريفٍ وتكريمٍ لهذه الناقة وإظهارًا لعظمتها ، وليست إضافة صفة إذ لا يجوز أن نقول إن الناقة من صفات الله تعالى لأنه أضافها إلى نفسه ، لأن الناقة ذاتٌ مستقلةٌ لا تقوم بغيرها وإنما تقوم بنفسها .
ومن الأمثلة قوله تعالى : { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } ففي هذه الآية أضاف الله تعالى البيت الحرام إلى نفسه فقال : ( بيتي ) ومن المعلوم أن البيت الحرام مستقلٌ عن الله تعالى بل هو قائمٌ بنفسه مستقلٌ عن غيره فإضافته هنا إضافة تشريفٍ وتعظيم .
ومن ذلك قول الله تعالى : { فأرسلنا لها روحنا فتمثل لها بشرًا سويا } فأضاف الله تعالى جبريل إلى نفسه لأن المراد بالروح هنا جبريل ، ومن المعلوم أن جبريل - عليه السلام - ذات منفصلة عن الله تعالى قائمٌ بنفسه فهذه الإضافة إضافة تشريفٍ وتكريم .
ومن ذلك قول الله تعالى : { ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين } فهنا أضاف الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نفسه ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منفصل عن الله تعالى كل الانفصال وأنه ذاتٌ مستقلةٌ قائمةٌ بنفسها فالإضافة هنا إضافة تكريم وتشريف . والأمثلة على هذه الإضافة كثيرة يطول المقام بتتبعها .(1/53)
وأما إذا أضاف الأشياء التي لا يتصور قيامها بنفسها فاعلم أن هذه الإضافة إضافة صفةٍ إلى موصوف ، ومن الأمثلة على ذلك : قول الله تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديَّ } فقد أضاف الله تعالى اليدين إلى نفسه الكريمة ونحن لا نتصور يدين إلا بعد تصورنا لمن قامت به فهي لا تقوم بنفسها ، بل لا بد من محلٍ لتقوم به ، فهي إضافة عين لا تقوم بنفسها فهي إذًا إضافة صفة إلى موصوف فالله تعالى متصفٌ بصفة اليدين .
ومن ذلك قول الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } فقد أضاف الله تعالى هنا الرحمة إلى نفسه والرحمة لا تقوم بذاتها ، بل لا بد من محل لتقوم فيه فلا نتصور رحمةً تمشي على الأرض ، فهي إذا من باب إضافة الأعيان التي لا تقوم بذاتها فهي إضافة صفةٍ إلى موصوفٍ .
ومن ذلك قول الله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } والوجه لا يمكن أن يقوم إلا في غيره فهي إذًا إضافة صفة .
ومن ذلك قوله تعالى : { فأجره حتى يسمع كلام الله } فقد أضاف الله تعالى الكلام إلى نفسه والكلام لا يقوم إلا بالمتكلم فهي إذًا إضافة صفة إلى موصوف ، وبهذا يرد على من قال : إن الكلام ذاتٌ قائمةٌ بنفسها ، منفصلٌ عن الله تعالى كل الانفصال ، فهذا القول مخالفٌ للمعقول إذ العقل لا يمكن أن يتصور كلامًا مستقلاً عن المتكلم ، لأن الكلام صفة للمتكلم والصفة لا يعقل أن تفارق الموصوف ، بل ومخالفٌ للمنقول ، لأنه يقتضي نفي صفة الكلام عن الله تعالى . قال الناظم :-
وإذا أضاف الله عيناً لا تقو مُ بذاتها فالوصف للرحمن
وإذا تقوم بذاتها فإضافة ال تشريف يا إخواني(1/54)
والأمثلة على ذلك كثيرة وفيما مضى كفايةٌ - إن شاء الله تعالى - والذي دعانا لتقرير هذه القاعدة : أن المبتدعة يقولون : إن إضافة اليد والوجه والكلام والعين والعلم إلى الله تعالى كإضافة الناقة والبيت إليه ويقصدون بذلك أنها إضافة تشريف وتكريم لا إضافة صفة إلى موصوف فاضطر أهل السنة إلى الرد عليهم بالتفريق والتمييز بين هاتين الإضافتين وبيان مدلول كل واحدة منها ، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بمتابعة كتابه ظاهرًا وباطنًا وبمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم في العمل والاعتقاد ، فإنها والله هي السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة وهي أعني الهداية إلى الصراط المستقيم من أعظم النعم على ابن آدم فاسأل ربك دائمًا أن يجعلك من الهادين المهتدين ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة السادسة عشرة
صفات الله تعالى ثبوتيةٌ ومنفيةٌ والثبوتية تنقسم إلى ذاتيةٍ وفعليةٍ
اعلم رحمك الله تعالى أن صفات الله تعالى إما أن تكون صفاتٍ منفية ، وإما أن تكون صفاتٍ مثبتة فإذا كانت صفات منفية فالواجب علينا فيها أمران :
أولاً : أن ننفي الصفة المنفية وثانيًا أن نثبت كمال ضدها ، وقد مضى هذا الكلام ، إلا أن الذي أريد أن تنتبه له هو أن تعلم أن أهل السنة والجماعة لا يصفون الله تعالى بالنفي المجرد عن الإثبات الذي هو النفي المحض ، وذلك لأمور :
منها : أن النفي المحض ليس بمدحٍ ولا كمال لأن النفي المحض عدمٌ محض والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء .
ومنها : أن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع ، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدحٍ ولا بكمال .
ومنها : أن عامة ما في الكتاب والسنة من النفي إنما هو النفي الذي يتضمن كمال ضد الصفة المنفية ووصف الله تعالى بالنفي المجرد عن الإثبات مخالفٌ لطريقة القرآن والسنة وما خالفهما فهو باطلٌ .
ومنها : أن نفي الشيء قد لا يكون لكمال ضده وإنما قد يكون للعجز عن فعله كما قال الشاعر :(1/55)
قبيلةٌ لا يغدرون بذمةٍ ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فلهذا ولغيره كان مذهب أهل السنة والجماعة في النفي صفات النقص هو أنهم يصفون الله تعالى بالنفي المتضمن كمال ضد الصفة المثبتة . فهذا في شأن الصفات المنفية .
وأما الصفات المثبتة فقد تقدم أن أهل السنة والجماعة يثبتونها على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييفٍ ولا تعطيل ومن غير تحريفٍ ولا تمثيل ، وهي أكثر من الصفات المنفية والغالب فيها التفصيل كما مضى ، إذا علمت هذا فاعلم أن هذه الصفات التي أثبتها الله تعالى إلى نفسه نوعان : صفاتٌ ذاتية وصفاتٌ فعلية ، فالصفات التي لا يمكن أن تنفك عن الله تعالى بحال ، بل هو متصفٌ بها أزلاً وأبدًا هي الصفات الذاتية ، والصفات التي تتعلق بالمشيئة فمتى ما شاء الله فعلها ومتى ما شاء لم يفعلها فهي الصفات الفعلية وإليك بعض الأمثلة حتى تتضح :
فمن الصفات الذاتية : العلم واليد والرجل والقوة والقدرة والحياة والألوهية والسمع والبصر ، وغيرها فهذه كلها من الصفات الذاتية لأنها ملازمة للذات لا تنفك عنها ولأنه لا يصح اتصاف الله بنقيضها .
وأما الصفات الفعلية : فكالغضب والرضى والنزول إلى السماء الدنيا والاستواء ، وغيرها كل هذه من الصفات الفعلية التي تتعلق بمشيئة الله تعالى متى ما شاء الله فعلها ومتى ما أراد تركها .
وفي ذلك قال الناظم :
وصفات ربك باعتبار ثبوتها ودوامها أقسامها نوعان
ذاتية كالعلم أو فعلية وهي التي تنفك في الأحيان
واعلم أن هناك من الصفات ما يكون من الصفات الفعلية باعتبار ومن الصفات الذاتية باعتبار كالكلام فهو من حيث أصله من الصفات الذاتية فالله تعالى لم يزل متكلمًا ، ومن حيث الآحاد من الصفات الفعلية فالله يتكلم متى شاء بما شاء ولذلك قال أهل السنة ( كلام الله تعالى قديم النوع حادث الآحاد ) وفي ذلك قال الناظم :
آحاده حادثةٌ فعلية ... وأصله قل : صفة ذاتية
والضمير في قوله : ( آحاده ) يعود إلى الكلام .(1/56)
واعلم أن كل صفةٍ من صفات الذات يثبتها الله تعالى فإنه نفيٌ لضدها ونقيضها ، وكل صفةٍ ينفيها عنه فإنه إثباتٌ لضدها ونقيضها . والله أعلم .
القاعدة السابعة عشرة
أسماء الله تعالى لا تحصر بعددٍ معينٍ
هذا ما نطق به أهل السنة والجماعة من أننا لا نعلم من أسماء الله تعالى إلا ما أخبرنا به فقط لكن هناك أسماءً قد استأثر الله تعالى بها في علم الغيب عنده ويدل على ذلك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب : (( اللهم إني أسألك بكل اسمٍ هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ومنار صدورنا . . . )) الحديث ، والشاهد في قوله ( أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) فهناك أسماءً قد استأثر الله تعالى بها في علم الغيب عنده لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى والواجب علينا تجاه هذه الأسماء أن نؤمن بها إيمانًا مجملاً ونكلها إلى الله تعالى ، فإن قلت : كيف نجمع بين ما قلت وبين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن لله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة )) . فأقول : إن هذا إنما يدل على حصول هذا الثواب لمن أحصاها ونحن لسنا في هذا وإنما نقول إن هناك أسماءً غير ما ذُكِر في الكتاب والسنة ، أما هذا الثواب فإنه حاصل لمن أحصى من أسمائه تسعةً وتسعين لكن هذا لا ينافي أن يكون لله تعالى أسماءً غير هذه التي وردت الحديث بفضل إحصائها ، بدليل ما ذكرنا من الحديث وهو صحيح ، وكقول القائل :إن عندي مائة درهم أعدتتها للصدقة فإن هذا لا ينافي أن يكون عنده أكثر من ذلك ولله المثل الأعلى ، ومعنى إحصائها أي حفظها والإيمان بها واعتقادها والعمل بمقتضاها ، واعلم أنه لا يمكن معرفة هذه الأسماء التي استأثر الله تعالى بها في علم الغيب عنده لانقطاع الوحي . وفي ذلك قال الناظم :
لا تحصر الأسماء في عدد وقد دلت على الأوصاف للرحمن(1/57)
بتطابق وتضمن وتلازم فاجن الثمار براحة وأمان
نسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة وأن يثبتنا على اعتقادهم وأن يغفر لنا ما قد أخطأنا فيها وأن يهدينا سبل الرشاد وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور إنه هو خير مسئول وهو الهادي والموفق إلى الصراط المستقيم ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الثامنة عشرة
أسماء الله تعالى وصفاته مبناها على التوقيف
وذلك لأنه قد تقدم لنا سابقًا أن أسماء الله تعالى وصفاته من باب الغيب وكل ما كان من باب الغيب فهو على التوقيف أي موقوفٌ على الدليل الشرعي الصحيح فإن ثبت الدليل أثبتناه وإن لا فلا ، وذلك أن العقول لا مدخل لها في باب الغيب ، ولأن العقول تقصر عن معرفة ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات وما لا يجوز له ، فلا تسم الله تعالى أو تصفه إلا بما سمى ووصف به نفسه الكريمة واحذر من التخبط في درك الإلحاد في أسماء الله تعالى فإن من الإلحاد في أسمائه أن يسمى بغير ما سمى به نفسه كما فعل الفلاسفة الضالون الذين سموه بأنه العلة الفاعلة أو العقل الفعال أو صاحب الفيوضات ، وكما سمته النصارى بالأب وبثالث ثلاثة كل ذلك مما لا يجوز ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى ، ومن ذلك تسميته بالدهر وبالقديم ، فالدهر ليس من أسماء الله تعالى ولا من صفاته ونسبة الدهر لله تعالى في الحديث إنما هي نسبة ملك وتقليبٍ وتصريف لا نسبة تسمية بدليل أنه قال فيه (( بيدي الأمر أقلب الليل والنهار )) والليل والنهار هو الدهر فلو كان الدهر هو الله فكيف يكون المقلِب هو عين المقلَّب ، وأما القديم فإنه ليس من أسماء الله تعالى لأمرين :(1/58)
أولاً : لأن أسماء الله تعالى كلها حسنى والقديم ليس فيه حسن لأنه يتضمن صفة القدم وليست هي بذاك من الحسن ، ولأن أسمائه تعالى مبناها على التوقيف ولم يرد دليل صحيح يدل على أن القديم من أسمائه جل وعلا ، واعلم أن اسمه الأول يغني عن ذلك ، واعلم أن شيخ الإسلام قد يذكر القديم في بعض كتبه فإذا وجدته فاعلم أنه من باب الخبر وليس من باب الوصف ولا التسمية - حاشاه وكلا - ويتضح ذلك الكلام بالقاعدة الحادية والعشرين - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلى وأعلم .
القاعدة التاسعة عشرة
يجب في أسماء الله تعالى الإيمان بها وبمقتضاها وبأثرها المتعدي
قد عرفنا سابقًا أن أسماء الله تعالى تتضمن صفات كمال من كل وجه ، لكن هذه الصفات نوعان باعتبار التعدي وعدمه ، منها صفات متعدية أي لها أثر متعدٍ من الله تعالى إلى غيره ومنها صفات غير متعدية ، فالأسماء التي لها صفات متعدية يجب فيها ثلاثة أمور :
الأول : أنه يجب أن نؤمن بها اسمًا لله تعالى فندعوه بها ونسميه بها .
والثاني : أن نؤمن بما تضمنته هذه الأسماء من الصفات .
والثالث : وأن نؤمن أيضًا بهذا الأثر المتعدي ، وأما الأسماء التي صفاتها غير متعدية فالواجب فيها أمران فقط : أن نؤمن بها اسمًا لله تعالى ، وأن نؤمن بالصفة التي تضمنتها . وزيادةً في الإيضاح أضرب بعض الأمثلة :
من ذلك اسم الله تعالى ( الرحيم ) فنؤمن به اسمًا لله تعالى وندعوه به ، ونؤمن بالصفة التي تضمنها وهي صفة الرحمة ونؤمن بالأثر المتعدي وهو رحمة الله تعالى للمخلوقات وأنه وسع كل شيء رحمة وعلما وأنه أرحم بعباده من الأم بولدها ، فكل هذه الأمور الثلاثة من الواجبات في اسم الله تعالى ( الرحيم ) .(1/59)
ومن ذلك اسم الله تعالى ( البصير) فنؤمن به اسمًا لله تعالى فندعوه به ، ونؤمن بالصفة التي تضمنها وهي صفة البصر، ونؤمن بالأثر المتعدي لها وهو أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وأنه يرى النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء .
ومن ذلك اسم الله تعالى ( السميع ) فنؤمن به اسمًا لله تعالى ونؤمن بالصفة التي تضمنها وهي صفة السمع ونؤمن بالأثر المتعدي لهذه الصفة وهو أن الله تعالى يسمع جميع الأصوات ولا تشتبه عليه اللغات ، ويوجب ذلك أن لا يتكلم الإنسان إلا في الشيء الذي يسره أن يسمعه الله تعالى منه .
وأما الأسماء التي صفاتها ليست بمتعدية فكاسم الله تعالى ( الحي ) فنؤمن به اسمًا لله تعالى ونؤمن بالصفة التي تضمنها وهي صفة الحياة لكن ليس لهذه الصفة أثرٌ متعدٍ ، بل حياته سبحانه قاصرة عليه لا تتعداه إلى غيره جل وعلا . والله أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة العشرون
كل معطلٍ ممثل وكل ممثلٍ معطل
هذه العبارة تعرفك الترابط بين مذهب التعطيل وبين مذهب التمثيل ، وأي المذهبين أسبق للآخر ، إذا علمت هذا فاعلم أن هذه القاعدة مكونةٌ من شقين : الأول : ( كل معطلٍ ممثل ) . والثاني : ( كل ممثلٍ معطل ) .(1/60)
أما الأول : فاعلم أن هذا المعطل لم يصل إلى درجة التعطيل إلا بعد أن صعد درجة التمثيل وبيان ذلك ، أنه قام في رأسه أنه لو أثبت الصفات لله تعالى لاستلزم ذلك أن يكون الله تعالى مماثلاً للمخلوقات ، فلو أثبتنا له اليد لصارت مثل أيدي المخلوقين ، ولو وصفناه بالرجل والاستواء لاستلزم ذلك أن يكون مثل المخلوقين فماذا نفعل ؟ أسلم طريقةٍ في ذلك أن ننفي هذه الصفات التي توهم المماثلة بخلقه ، فنفوها وعطلوها والسبب في ذلك هو الفرار من ربقة التشبيه كما زعموا فهذه شبهتهم وهذا زعمهم ، فالمعطل لم يصل إلى التعطيل إلا بعد أن قام في رأسه محذور التمثيل ، فهو مثل أولاً ثم عطل ، فلذلك نقول كل معطلٍ ممثل ، ولنضرب مثلاً على الأشاعرة ، فهم ينفون الصفات الخبرية بحجة أنهم لو أثبتوها لاستلزم ذلك تشبيه الله بخلقه ، فيقولون الصفات العقلية لا تستلزم التشبيه فنثبتها وأما الصفات الخبرية فإنها تستلزم التشبيه فالواجب نفيها ، وكذلك المعتزلة لم ينفوا الصفات كلها إلا لقيام محذور التشبيه في رؤوسهم لكن هذا المحذور لم يقم عندهم في إثبات الأسماء فقالوا : نثبت الأسماء لأن إثباتها لا يستلزم التشبيه وننفي الصفات لأن إثباتها يستلزمه ، فالأشاعرة والمعتزلة مثلوا أولاً ثم عطلوا . وأما الجهمية النفاة فإنهم قالوا : بل إثبات الأسماء يستلزم التشبيه فالواجب نفيها فنفوا جميع الأسماء والصفات لأن إثباتها يستلزم تشبيه الله تعالى بخلقه ، وأما غلاة الغلاة منهم فقالوا : لو سلبنا عن الله تعالى الصفات لاستلزم ذلك أن يكون مماثلاً للمعدومات ، فالواجب هو سلب النقيضين لأننا إن وصفناه بالإثبات شبهناه بالموجودات وإن وصفناه بالنفي شبهناه بالمعدومات فنسلب النقيضين فنقول لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل . . .(1/61)
فأنت ترى أن هذه الطوائف لم تقع فيما وقعت فيه من التعطيل إلا بعد أن اعتقدت أن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه يقتضي تشبيهه بخلقه ففروا من التشبيه إلى التعطيل ، إذًا علمت بعد هذا صدق هذه العبارة أن كل معطلٍ ممثل . أما أهل السنة والجماعة فهم الذين سلموا من هذه الشبه بقولهم إن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات فقالوا نصِف الله تعالى بما وصف به نفسه ولا نعتقد أنها مماثلة لصفات المخلوقين . لأن المعاني والأوصاف التي ذكرها الله تعالى في كتابه لم يذكرها مطلقةً وإنما ذكرها مقيدة مضافةً إلى نفسه الكريمة ومن المعلوم كما مضى أن الصفة تكون مناسبة للموصوف لائقةً به . هذا بالنسبة إلى الفقرة الأولى .
وأما الفقرة الثانية : وهي قولنا : ( كل ممثل معطل ) فهي تحتاج إلى شيء من التوضيح ، وهو أن الممثل يعتقد أن الصفات التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم ووصف بها نفسه أنها مماثلةٌ الصفات لمخلوقين ، فيده سبحانه كأيدينا ورجله كأرجلنا وعينه كأعيننا ، وهكذا تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، فهم في هذا الاعتقاد - أعني اعتقاد مماثلة صفات الله تعالى لصفات خلقه - عطلوا ثلاثة أمور :
الأول : أنهم عطلوا النص الذي أثبت هذه الصفة بخصوصها عن كماله الواجب وعن المراد منه ، ذلك أن هذه النصوص لا تفيد المماثلة وإنما تفيد صفاتٍ لا ئقةٍ بالله تعالى ، لا تماثل صفات المخلوقين ، فإذا قالوا : بأنها تفيد مماثلة صفات الله لخلقه فقد عطلوا هذه النصوص عن المراد بها وعن حقيقتها ، فإذا قالوا : إن يد الله كأيدينا فقد عطلوا النصوص التي أثبتت صفة اليد ، عن المراد منها ، وإذا قالوا : إن سمع الله تعالى وبصره كسمعنا وبصرنا فقد عطلوا النصوص التي تثبت صفتي البصر والسمع بخصوصها ، وهكذا فهذا هو التعطيل الأول .(1/62)
والثاني : أنهم إذا اعتقدوا هذا الاعتقاد فإنهم قد عطلوا النصوص التي تنفي مماثلة الله تعالى لخلقه إجمالاً ، كقوله تعالى : { ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير } ، وكقوله تعالى : { ولم يكن له كفوًا أحد } . فإذا قلنا إن صفاته كصفاتنا فقد عطلنا هذه النصوص عن معناها الواجب لها لأنها تقضي أن الله تعالى لا يماثله شيءٌ ، فكيف نقول بل له مماثلٌ في الصفات هذا القول تكذيبٌ لهذه النصوص وكفرٌ بها - والعياذ بالله تعالى - ، هذا هو التعطيل الثاني .
وأما التعطيل الثالث : فأنهم إذا قالوا : هذا القول فإنهم قد عطلوا الله تعالى عن كماله الواجب له فالله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وصفاتنا ليست بعليا ، فإذا مثلنا صفات الله تعالى بصفاتنا فقد عطلناه عن كماله الواجب له جل وعلا ، هذا هو التعطيل الثالث . وبعد هذا عرفت صدق قولنا ( أن كل ممثلٍ معطلٍ ) و( كل معطلٍ ممثل ) إذا علمت هذا فنقول من باب زيادة الإيضاح أن كلاً من المعطلة والممثلة اتفقوا في شيء واختلفوا في شيء ، فأما الشيء الذي اتفقوا فيه فهو الطريق الذي توصلوا به إلى إثبات المماثلة ، فهم يقولون : إن اتفاق الأسماء يستلزم اتفاق الصفات ولما اتفقت أسماء صفات الله تعالى مع أسماء صفاتنا فإنه يلزم من ذلك أن تكون صفاته كصفاتنا ، إلى هنا وهم متفقون، فكلهم نتج عندهم أن صفات الله كصفاتنا للاتفاق في الاسم ، لكنهم اختلفوا في الرضا بهذه النتيجة فأما أهل التمثيل فقد رضوا بها ورأوا أنها هي الواجبة وهي الأسلم ، فمثلوا ، وأما أهل التعطيل فخافوا منها وأبوا أن يكون الله تعالى كخلقه ولم يجدوا إلا أن يعطلوا الله تعالى عن الصفات فعطلوا ، فكلٌ من الفريقين سلكوا طريقًا واحدًا حتى نتج من هذه الطريق نتيجةٌ ثم افترقوا فمنهم من رضي بهذه النتيجة وهم أهل التمثيل ، ومنهم من لم يرض بها وهم أهل التعطيل ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الحادية العشرون(1/63)
باب الصفات أوسع من باب الأسماء وباب الأخبار أوسع من باب الصفات
لعلك تذكر أننا قلنا فيما مضى أن شيخ الإسلام يطلق لفظ القديم على الله تعالى من باب الخبر وقلنا أن هذا الكلام سوف يتضح بالقاعدة الحادية والعشرين ، وهذا أوانها فأقول :
عندنا في هذه القاعدة ثلاثة أمور عندنا أسماء وعندنا صفات وعندنا أخبار ، فاعلم أن باب الأسماء والصفات من الأبواب التوقيفية على الدليل الشرعي الصحيح كما مضى لكن باب الأخبار ليس من الأبواب التوقيفية ، بل هو من الأبواب التي ليس فيها حد معين إلا أنه يجب فيما يُخبرُ به عن الله تعالى أن يكون مما يجوز على الله تعالى ولا يكون فيه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه ، هذا أمرٌ .(1/64)
والأمر الثاني : اعلم أن أضيق الأبواب في هذا هو باب الأسماء لأنها أقل من الصفات - هذا فيما نعلم من الأسماء التي في الكتاب والسنة - وبعده يأتي باب الصفات فهو أوسع من باب الأسماء وأضيق من باب الأخبار ذلك أن كل اسمٍ فهو يتضمن صفةً ولا عكس ، فهناك كثيرٌ من الصفات لا يصح أن نشتق منها لله تعالى أسماءً وذلك كصفة المجيء يوم القيامة فلا يصح أن نقول لله تعالى : ( الجائي ) ، ومثله صفة النزول إلى السماء الدنيا فلا يصح أن نقول لله تعالى : ( النازل ) ، وكذلك صفة الكيد والمكر والمخادعة فلا يصح أن نقول لله تعالى : ( الكائد والماكر والمخادع ) فهذه الصفات لا يصح أن نسمي الله تعالى بما اشتق منها ، ولذلك قلنا إن باب الصفات أوسع من باب الأسماء ، وخلاصة الكلام ، أن باب الصفات أوسع لأن هناك صفاتٍ يجوز إطلاقها على الله تعالى إطلاق وصفٍ لا إطلاق تسمية ، وأما باب الأخبار والأفعال فإنه أكبر من باب الأسماء وأكبر من باب الصفات لأن مبناه أصلاً ليس على التوقيف وإنما مبناه على صحة الخبر وجوازه على الله تعالى فيجوز أن نخبر عن الله تعالى بما لم يرد في الكتاب والسنة إذا كان خبرًا صحيحًا يجوز عليه لكن لا نعتقد أن هذا الخبر من أسمائه ولا من صفاته لعدم الدليل ، وحتى تتضح هذه القاعدة نضرب بعض الأمثلة .
قد ذكرنا في ثنايا القاعدة أمثلةً على أن هناك صفاتٍ لا يجوز أن نشتق منها لله تعالى أسماءً ، وأما الأمثلة على الأخبار ، فمن أمثلته :
أنه يؤثر عن الإمام أحمد أنه كان يقول في سفره إذا تاه : ( يا دليل الحائرين دلني ) فإذا صح ذلك عنه فإنه يحمل على أنه من باب الأخبار وإلا فليس من أسماء الله تعالى الدليل وليس كذلك من صفاته وإنما من أفعاله جل وعلا أنه هو الذي يهدي التائهين ويدلهم على الطريق الصحيح .(1/65)
ومن ذلك قول بعض أهل السنة ( إن الله تعالى موجود قديم أزلي واجب الوجود ) فكل هذه الأمور ليست من باب الأسماء ولا من باب الصفات وإنما هي من باب الأخبار عن الله تعالى وكلها أخبارٌ صحيحة تجوز على الله تعالى .
ومن ذلك قوله تعالى : { أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } فلا يجوز أن يقال لله تعالى : ( الزارع ) على أنه اسمًا له أو صفةً من صفاته وإنما يقال : هو الزارع على أنه خبرٌ عن فعلٍ من أفعال الله تعالى وليس كل فعلٍ فعله الله تعالى يشتق له منه اسمًا أو صفة . فمن أفعاله تعالى أنه أرسل الرسل وأنزل الكتب ، فلا يقال لله تعالى : ( المرسل أو المنزل ) على أنه اسمًا له أو صفةً وإنما يجوز ذلك على أنه خبرٌ عن فعلٍ من أفعاله ، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي : (( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار )) فلا يقال لله تعالى : ( المقلب ) على أنه اسمًا أو صفةً ولكن يجوز ذلك على أنه خبرٌ عن فعلٍ من أفعال الله تعالى .
ومن ذلك قول بعض أهل السنة إن الله تعالى : ( شيء من الأشياء ) ويستدلون عليه بقوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادةً قل الله } لكن لا يقال لله تعالى : ( الشيء ) على أنه اسمًا له أو صفة وإنما يجوز ذلك على أنه خبرٌ عنه وهو خبرٌ صحيح ولا شك لهذه الآية .
ومن ذلك قول الله تعالى : { نحن جعلناها تذكرةً ومتاعًا للمقوين } فلا يقال إن الله : ( جاعلٌ ) على أنه اسمٌ أو صفةٌ وإنما يجوز ذلك على أ نه خبر عن فعلٍ من أفعال الله تعالى .
والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا فالواجب هو أن يعرف الإنسان الفرق بين هذه الإضافات فيفرق بين إضافة التسمية وبين إضافة الصفة وبين إضافة الخبر عن الفعل فمن عرف التفريق بينها فقد أوتي خيرًا كثيرًا نسأل الله تعالى أن يوفقنا فيه ، والله تعالى أعلى وأعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الثانية والعشرون(1/66)
أهل السنة والجماعة لا ينتسبون إلا إلى الإسلام أو الإيمان وما دل عليه الدليل
اعلم رحمك الله تعالى أن من أعظم مميزات أهل السنة و الجماعة أنهم لا ينتسبون إلا إلى الإسلام أو ما دل عليه الدليل أو كانت صفة راسخة فيهم واشتهروا بها ، بخلاف الفرق الضالة المنحرفة عن منهج الحق فإنها في نسبتها إما أن تنتسب إلى مؤسسها أو لأصل بدعتها أو غير ذلك ، كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - ، أما أهل السنة والجماعة فلا ، بل الألقاب التي تلقبوا بها هي حق وصدق في ذاتها ، وهي تدل على سلامة المنهج ووضوحه وأصله ومستنده .
وإن من أعظم أسمائهم هو ما سماهم به ربهم في كتابه الكريم ، وهو من أحب الأسماء إليهم - نسأل الله أن يجعلنا منهم - وهو اسم المؤمنين ، فدائمًا تجد في كتاب الله تعالى يخاطب عباده الصالحين باسم المؤمنين ، وهذا الاسم صادق على المؤمنين جميعًا ، إلا أنه أصدق وأليق على أهل السنة والجماعة ؛ لأنهم هم المؤمنون حقًا الذين آمنوا بالله وكتابه ورسله وملائكته واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، ولذلك قال الله تعالى { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك هم المؤمنون حقًا } وأهل السنة والجماعة آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ، أما من عداهم من الفرق فإنهم لم يحققوا الإيمان الكامل بالله ولا برسله فإن من أنكر الأسماء والصفات كلها أو بعضها ومن أنكر القدر ومن أنكر رؤية الله تعالى ، ومن يسلب عن الله النقيضين ، ومن يصف الله بصفات النقص والعيب ، ومن لا يقبل ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب بل يُقدِّم آراء اليونان على الكتاب والسنة ، فكيف يكون مؤمنًا بالله تعالى ورسله ، فإن حقيقة الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بالقول والعمل ، فمن آمن ولم يقل ولم يعمل فليس بمؤمن ، أما أهل السنة والجماعة فهم آمنوا بقلوبهم وقالوا بألسنتهم وعملوا بجوارحهم .(1/67)
قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون ... أولئك هم المؤمنون حقًا } وهذه الآيات من سورة الأنفال هي الحد الفاصل بيننا وبين القوم فنقول لهم : تعالوا حتى تتلى عليكم آيات الله ، الآيات التي تثبت الوحدانية ، وأن الله تعالى ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوًا أحد وأنه سبحانه ليس له سمي ، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فوالله إن القوم حتى وإن تلوا آيات بألسنتهم إلا أن قلوبهم من أبعد الأشياء عن الإيمان بها واعتقادها ، فإنهم يعتقدون أن القرآن لم يأت إلا بالتعطيل المحض وبالكفر الصراح فتراهم يحاربون قوله تعالى : { بل يداه مبسوطتان } وقوله تعالى : { ويبقى وجه ربك } وقوله تعالى : { وجاء ربك } فيقولون من اعتقد أن لله يدين فقد كفر ، ومن اعتقد أن لله وجهًا ومجيئًا فقد كفر ، فيا سبحان الله وهل يكفر من آمن بما قال ربه ؟ فهؤلاء القوم الضُّلال إذا تُتلى عليهم آيات ربهم زادتهم نفورًا وتعطيلاً وتشبيهًا وتحريفًا وطغيانًا .
أما أهل السنة والجماعة هم الذين إذا تتلى عليهم آيات الله تزيدهم إيمانًا إلى إيمانهم فهم المؤمنون حقًا ، والمقصود أن من أحب الأسماء إلى السلف هو اسم المؤمنين فلهم الحظ الأعظم والنصيب الأوفر من هذا الاسم الشريف الكريم والله أعلم .(1/68)
ومن أسمائهم المحبوبة لديهم - رحمهم الله تعالى - : أهل السنة والجماعة فهذا الاسم هو الاسم الذي اشتهروا به وصار علمًا عليهم وهو مكون من لفظتين ، اللفظة الأولى : ( أهل السنة ) ، اللفظة الثانية : ( الجماعة ) . فسموا بأهل السنة ؛ لأنهم اتفقوا على الأخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العقيدة والعمل ، وسبب ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) فالسلف أخذوا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عقيدةً وعملاً ، وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وبسنة الخلفاء الراشدين ، وساروا عليها في وقت تفرقت فيه الآراء ، وتعددت فيه الفرق ، واختلفت فيه النِّحَل ؛ ولذلك سموا بأهل السنة .
وأما تسميتهم بالجماعة ؛ فلأمرين :
الأول : لأن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجاة في الدنيا والآخرة ، وذلك في حديث الافتراق ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ... وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) . قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : (( الجماعة )) فسموا بالجماعة ؛ لأن الجماعة مأخوذة من الاجتماع على الشيء وهو الإجماع أيضًا ، فهم أجمعوا قاطبة على الأخذ بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتمعوا عليها ، ولأنه صلى الله عليه وسلم أوصى بالجماعة فقال " وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة " ، فألف بين قلوبهم حتى توافقت آراؤهم ، فأجمعت على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهي جماعة واحدة مجتمعة على الحق .(1/69)
ولا نعني بالجماعة أنها لابد أن تكون مؤلفة من أفراد ، بل الأهم هو موافقة الحق ، فالجماعة هو ما وافق الحق وإن كنت وحدك ، وإلا فالمعتزلة جماعة والجهمية جماعة ، لكنهم جماعة سوءٍ وضلال ليست جماعة حق ، فلو قدَّر الله تعالى أن لا يعتقد منهج السلف إلا واحد فقط وأهل الأرض كلهم في ضلال فهو الجماعة ، وإن كان وحده .
ومن أسمائهم أيضًا : الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ، فأما تسميتهم بالفرقة الناجية فلأنهم نجوا من بليتين هما : الشبهات والشهوات في الدنيا ، فإن الشبهات والشهوات هي مصدر كل بلاء وفُرقة وفجور ، ونجوا يوم القيامة من النار ، وهذه الشهادة هي من نوع الشهادة العامة ، وسيأتي التفصيل فيها ، بمعنى أن نقول : إن من كان على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقد نجى من النار لكن لا نشهد للواحد منهم بأنه ناجٍ من النار بعينه إلا من شهد له النص . فلأنهم نجوا من الشبهات والشهوات في الدنيا ونجوا من النار يوم القيامة سموا الفرقة الناجية . وقد وردت هذه التسمية في بعض الآثار الله أعلم بصحتها .
وأن تسميتهم بالطائفة المنصورة فذلك لأمرين :(1/70)
الأول : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله )) ولا نعلم طائفة منصورة على مر التاريخ إلا أهل السنة والجماعة . فانظر بعين الواقع إلى كثرة من يعاديهم ، ومن يكيد لهم ، إني لا أكون مبالغًا إن قلت إن الفرق الضالة يكيدون لأهل السنة والجماعة كيدًا كما يكيد اليهود والنصارى لأمة الإسلام ، بل أعظم ؛ فإن عداوة اليهود والنصارى عداوة ظاهرة لا خفاء فيها ، وأما عداوة الفرق الضالة لأهل السنة والجماعة فهو عداء متكيف مع الوقت والضغوط ، فتارة يظهر واضحًا كعداء المعتزلة زمن المأمون والشيعة في بعض الدول ، وتارة يدخل في الظلام ، لكنه مثل عداء المنافقين الذين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم يخرجون معه للجهاد ويحضرون مجالسه غالبًا ومع ذلك فهم من ألد أعداء الدين ، وهؤلاء مثلهم . ومن استقرأ الأدلة الشرعية وجدها تذكر عداوة المنافقين وتفضح خططهم بإسهاب أكثر مما تذكر عداء الكافرين ؛ لأنه موكول إلى فهمهم فهو أمر واضح ؛ ولا أدّلَّ على ذلك من أول سورة البقرة ، فلم يذكر في الكفار إلا آيتين فقط وذكر في المنافقين أكثر من ثلاث عشرة آية ، بل ناهيك بسورة التوبة التي هي الفاضحة ، وسورة المنافقون ، وغيرها .
والمقصود أن مذهب السلف لو لم يكن منصورًا من الله تعالى لاندثر وباد كما أن دين الإسلام لو لم يكن من الله تعالى والله تولى حفظه لاندثر وباد والله المستعان .(1/71)
الثاني : أن السلف هم الطائفة المنصورة ؛ لأنهم منصورون في اعتقادهم فهم منصورون بالحجة والبيان ، والبرهان والدليل ، فلا يناظرهم مناظر أيًا كان إلا رد الله تعالى كيده في نحره وجعله غنيمة لأهل السنة ، فلا يأتون بشبهة وإن كبرت إلا ترى الله سبحانه وتعالى يسخر لها جنده فيكسرونها على سنن الكتاب والسنة ، أو ليس هذا نصر من الله تعالى لهذه الطائفة القليلة ، بلى والذي نفسي بيده .
فهم يلقبون بالطائفة المنصورة ، أثرًا ونظرًا والله أعلم ومن أسمائهم أيضًا السلف ، وهذا الاسم لم يرد فيه دليل شرعي بخصوصه إلا أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على التسمية به ، فأطلقوه بينهم بلا نكير ، ولم يكن هذا الاسم معروفًا إلا بعد ظهور المذاهب الضالة التي تنتسب إلى الإسلام ويلقبون أنفسهم بالسلف ، فأبى الله تعالى إلا أن يجعل الفضل لأهله فتسمى أهل السنة بالسلف وصار شعارًا عليهم والسلف لهم اعتباران ، اعتبار زمان واعتبار معتقد :(1/72)
فأما السلف باعتبار الزمان : فهم القرون الثلاثة المفضلة فقط ، الذين شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية كما في حديث عمران بن حصين مرفوعًا : (( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . . . . )) والحكم بالخيرية في هذه القرون حكم مختلف ، فالخيرية في قرن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم هو باعتبار الأعيان فأعيانهم خير ممن يأتي بعدهم إذ لا يأتي بعد الصحابة من هو خير منهم ، وأما الخيرية في القرنين الآخرين فهو باعتبار العموم والأغلب ، فالأغلب أن القرن الثاني خير من الثالث والثالث خير من الرابع في الجملة بغض النظر عن الأفراد ، فقد يأتي من الأفراد في القرون المتأخرة من هو خير وأفضل ممن قبله عدا قرن الصحابة ، وهكذا . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه )) هذا الحكم في الغالب لا الأعيان ، والله أعلم . فالسلف هم أهل القرون الثلاثة ومن بعدهم خلف .
وأما السلف بالاعتبار الثاني : فيدخل فيهم كل من سار على نهجهم في العقيدة والعمل إلى قيام الساعة ، فإذا قيل : هل الحسن البصري من السلف ؟ قل : نعم ، هو من أئمة السلف بالاعتبارين باعتبار الزمان وباعتبار المعتقد . وإذا قيل لك : هل أبو العباس بن تيمية من السلف ؟ قل : هو سلفي ، باعتبار المعتقد ، خلفي باعتبار الزمان ، وعلى هذا فقس .
ومن أسمائهم أيضًا : أهل الأثر وأهل الحديث وغيرها من الأسماء العظيمة التي تدل على سلامة هذا المنهج العظيم .(1/73)
وأما من عداهم من الفرق فإنهم لم ينالوا هذا الشرف بل هم يتسمون بأسماء من أسس مذهبهم كالأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري ، والماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي ، والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان ، والسبأية نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي عليه من الله ما يستحق ونسأل الله أن يعامله بعدله لا بعفوه ؛ لأنه أدخل على الإسلام وأهله من البدع المضللة الشيء الذي يفوق الذكر . والزيدية نسبة إلى زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو منهم براء - رضي الله عنه - . وهي مع التعداد كثيرة والمقصود الإشارة .
وإما أن تتسمى بالبدعة التي ابتدعتها ، وذلك كالخوارج ؛ لأنهم خرجوا على علي بن أبي طالب ، بل خرجوا عن المسلمين بالكلية واعتقدوهم كفارًا دمهم حلال ودارهم دار حرب . وكالقدرية ، وهم المعتزلة في باب القدر ؛ وذلك لأنهم يخرجون أفعال العباد أن تكون مقدورة لله تعالى . وكالجبرية ؛ لأنهم يعتقدون أن العبد مجبور على فعله ، وغيرها .
أو تتسمى بشيء اشتهرت به وإن لم يكن في حقيقته أنه بدعة ، كالمعتزلة ؛ لأن رئيسهم واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري - رحمه الله تعالى - .(1/74)
فاحذر رحمك الله تعالى من الدخول في هذا الميدان المظلم وكن لازمًا أهل السنة والجماعة فإنهم أهل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة . إذا علمت هذا فاعلم أننا في هذا الزمان نعاني من المشكلة نفسها ، وهي التسمي بغير الأسماء التي دل عليها الدليل ووقع عليها الإجماع ، فكثير من المسلمين اليوم يتسمون بأسماء محدثة مولَّدة ليس عليها دليل بل هي إما لبدعة أحدثوها ، وإما على اسم مؤسس فرقتهم ، فأنت ترى هذه الجماعات التي عمت بها البلوى وطمت تتسمى بأسماء ليست شرعية ، لا تعرف عن أحدٍ من السلف ، بل بعضهم - والعياذ بالله - يعقد الولاء والبراء مع هذه النسبة فتراه يحارب وبقوة كل من رفض الانتساب لفرقته وهذا هو عين التمزق والتفرق المنهي عنه في كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وإليك بعض الأمثلة :
فنحن نسمع كثيرًا عن جماعة يقال لها جماعة التكفير والهجرة ، فهذه الجماعة من أخبث الجماعات الموجودة ، وهي جماعة ضالة مخالفة للأدلة الشرعية من كتاب وسنة وهي جماعة تعتقد أن الأصل في الناس هو الكفر ، ويكفرون المسلمين بلا دليل ويعملون معهم بالتقية ، والمقصود أنهم كالخوارج في كثير من أصولهم ، فهم تسموا بجماعة التكفير لأنهم يكفرون المسلمين بسبب وبغير سبب ، وتسموا بالهجرة لأنهم يوجبون الهجرة من ديار الإسلام ؛ لأنها دار حرب ، ولا أدري إلى أين وخاصة في هذا الزمان . فهذه الجماعة بهذا الاسم أعظم دليل على مخالفة القاعدة السابقة ( فالتكفير والهجرة ) ليس اسمًا شرعيًا ، ولا دليل عليه ، وهو خلاف منهج السلف .(1/75)
ومن ذلك أيضًا حزب ( التحرير ) ، وهو حزب أصوله معروفة مقررة ، بل هو تسمية أخرى لمذهب المعتزلة وليس المقصود هنا بيان أصول الفرق والأحزاب وإنما المراد هو بيان أن من تسمى بغير اسم الإسلام والإيمان أو ما دل عليه دليل أو إجماع للسلف فهو مخالف لمنهجهم ومن ذلك حزب التحرير ، ولا أدري تحرير ماذا ؟ أهو تحرير البلاد أم تحرير القلوب من الاعتقاد الصحيح ؟
هذان مثلان مضروبان حتى تقوم أنت بجرد أسماء الجماعات الموجودة والأحزاب والفرق ، ثم تنظر فإن دل عليه دليل أو إجماع فهو اسم شرعي ، أو لا فيكون مخالفًا لمنهج أهل السنة والجماعة ، لكن يجب عليك أن تتنبه لقضية خطيرة جدًا – وهي كالخدعة من هؤلاء الضالين المضلين – وهي : أنهم انتبهوا لهذا الشيء أي انتبهوا إلى أن سبب التسمية لها شأن عند أهل السنة والجماعة ، من حيث الحكم على أهلها ، فأصبحوا يبحثون عن أسماء شرعية موافقة للكتاب والسنة لكنهم على ما هم عليه من الاعتقاد الباطل وذلك كتسمية المعتزلة والأشاعرة بالسلف وأهل السنة والجماعة فإنهم يطلقون على أنفسهم ذلك واقرأ في كتبهم ترى من ذلك الشيء الكثير ، فلا تنخدع بذلك وكن على حذر ، بل عليك أن تتعرف على الأمر كله ظاهره وباطنه قبل أن تحكم ، فأهل الضلال الذين ينفون الصفات يسمون أنفسهم أهل التنزيه ، والمعتزلة يسمون أنفسهم أهل التوحيد والعدل ، وبعض الفرق عندنا يسمون أنفسهم حزب الله ، وحزب التوحيد ، والإخوان المسلمين ، وغير ذلك ، فيجب عليك البحث قبل إصدار الحكم فالأمر أصبح نفاقًا وخدعة - والله المستعان - .
وإذا علمت هذا فإنه قد يتطرق إلى الذهن سؤال مهم وهو : أنت حكمت على أن من تسمى بغير اسم الإسلام أو ما دل عليه دليل وتسمى به السلف فقد خالفت منهج أهل السنة والجماعة ، فهل مخالفته هذه توجب علي أن لا أنظم معه ولا أعمل معه في الأعمال الدعوية والأنشطة التي يقوم بها حتى وإن كان فيها صلاح للإسلام والمسلمين ؟(1/76)
فالجواب وبالله التوفيق : هذا السؤال مبني على مقدمات :
الأولى : هل يجوز الانتساب إلى هذه الفرق مع مخالفتها لمنهج أهل السنة والجماعة في التسمية ؟
الثانية : هل يجوز التعاون معهم دون الانتساب إليهم أم أن الواجب هو ترك ما معهم من الخير والشر ؟
وجواب المقدمة الأولى : هو أنه لا يجوز الإنضمام إلى إحدى هذه الجماعات التي خالفت منهج أهل السنة والجماعة وذلك لأن القول بجواز الإنضمام إليها والدخول تحت شعارها إقرار لها على هذه التسمية هذا بالنسبة إلى المخالفة في التسمية فما بالك إذا اقترن مع التسمية مخالفة لأهل السنة والجماعة في التأصيل كما هو واقع اليوم ، المهم : أن تعدد الجماعات الموجودة تدعو غالبًا إلى منهجها لا إلى الكتاب والسنة فتجد الواحد إذا انضم إليهم أعطوه أصولهم قبل أن يعطوه أصول الإسلام وهذا مشاهد مجرب ، فالقول : بجواز الإنضمام دليل الرضى بهذا التفرق ونحن لا نقره . هذا جواب المقدمة الأولى .
وأما جواب الثانية : فإن الدخول مع هؤلاء في نشاطاتهم الدعوية فإن الأمر لا يخلوا من أربع حالات :
إما أن يكون في التعاون معهم مصلحة خالصة لا مفسدة فيها بوجه من الوجوه فهذا لا بأس به .
وإما أن يكون التعاون فيه مفسدة من وجه ومصلحة من وجه لكن تغلب مصلحته على مفسدته فهذا لا بأس به .
وإما أن يكون التعاون معهم فيه مفسدة خالصة فحينئذٍ لا يجوز التعاون معهم وكذلك إذا غلبت المفسدة ، وذلك لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
وتقدير المفاسد والمصالح راجع إلى الشرع وشيء من الاجتهاد الخالي من الهوى - والله المستعان وعليه التكلان - .
قال الشيخ : محمد بن عثيمين في جواب سؤال عن جواز الإنضمام والإنتماء إلى حزب الإخوان أو التبليغ في بلادنا أهو صواب أم خطأ .(1/77)
فأجاب : (( الذي أرى أنه خطأ وأنه لا ينبغي أن تفرق الأمة هذا إخواني وهذا سلفي كلنا نريد أن نكون أمة واحدة تحت شعار واحد وهو الإسلام الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولابد أن يطبق الإنسان أحكامه على حسب ما تقتضيه سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) . والله أعلم .
القاعدة الثالثة والعشرون
الرسل كلهم لم يدعوا إلا لتوحيد الألوهية
اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن التوحيد لغة : هو مصدر وحد يوحد توحيدًا أي جعل الشيء واحدًا ومنه قولهم وحد البلدة أي جعلها واحدة تحت حاكم واحد . واصطلاحًا : هو إفراد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، ومن هنا نعرف أقسام التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وبعضهم يجعلها قسمين : توحيد القصد والطلب وهو توحيد الألوهية ، وتوحيد المعرفة والإثبات وهو التوحيدين الآخرين .(1/78)
إذا علمت هذا فاعلم أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطر لا يحتاج إلى تقرير وإنما يحتاج إلى تذكير وذلك لقوله تعالى في الحديث القدسي : ( خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ) . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )) ولم يقل يمسلمانه أي يجعلانه مسلمًا لأنه مسلم بالأصالة ولذلك أجمعت كلمة علماء أهل السنة والجماعة إلا من شذ ولا يعول على قوله أن أولاد المؤمنين معهم في الجنة ، بل حتى المشركين يقرون بهذا التوحيد ، بل لم يعرف عن أحدٍ إنكاره باطنًا أبدًا ، أما ظاهرًا فيعرف إنكاره عن فرعون فإنه أنكر الربوبية لكن فضحه الله بقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا } أي أقروا بها باطنًا وتيقنوا أنها الحق لكن جحدوها في الظاهر ظلمًا وعلوًا ، وكذلك الدهرية الذين يصرفون الموت والحياة للدهر ، وقد قال الله تعالى عنهم : { ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت نحيا وما يهلكنا إلا الدهر } ، وكذلك الثنوية الذين يقولون إن العالم له صانعان إله الخير وإله الشر لكن لا يعرف أن أحدًا من الأفراد أو الفرق أثبت إلهين معبودين مستويين في خصائصهما أبدًا ، وهذا له موضع آخر ، والمقصود أن توحيد الربوبية توحيد مغروز في الفطر ، ولا يكفي الإقرار به للحكم بالإسلام ، بل لا يعصم الدم والمال فإن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقرون أن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت ، ولذلك قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله } وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون }(1/79)
ومع ذلك الإقرار بهذا التوحيد فقد قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - واستباح دمائهم وسبى نساءهم واستعبد رجالهم مما يدل على أن مجرد الإقرار به ليس هو المطلوب ، إنما المطلوب هو التوحيد الثاني وهو : توحيد الإرادة والقصد أي توحيد الألوهية أو توحيد العبادة ولذلك كل الرسل من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يدعوا إلا لهذا التوحيد وإن ذكروا توحيد الربوبية فإنما ذكروه استدلالاً به على توحيد الألوهية لم يذكروه حتى يقرءوه في نفوس الناس ، ولذلك قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } ، وقال تعالى عن جميع الرسل أنهم قالوا لأقوامهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } وهذا هو مذهب السلف الذي تؤيده الأدلة ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر في الصحيحين : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ...(1/80)
)) الحديث ، وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله فمن قالها عصم من ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله تعالى )) ، وفي حديث طارق بن أشيم الأشجعي : (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله )) رواه مسلم ، والأحاديث والآيات التي تؤيد هذه القاعدة كثيرة جدًا ، ومع هذه الأدلة وهذا الوضوح إلا أن الله تعالى أعمى بصائر بعض الفرق الصوفية وطوائف من أهل الكلام فقالوا : إن الرسل بعثت لتقرير توحيد الربوبية ويجعلون تقرير الربوبية هو الغاية والمقصد الأول ويفسرون ( لا إله إلا الله ) بتوحيد الربوبية وهذا خطأ وجهل وكذب إن نسب إلى السلف ، بل الرسل كلهم لم يدعوا إلا لتوحيد الألوهية وإن ذكروا توحيد الربوبية فإنما يذكرونه استدلالاً به على غيره لا يذكرونه تقريرًا ، والبحث في كلمة التوحيد من معناها وأركانها وشروطها ونوا قضها ومتعلقاتها ذكرته في موضعٍ آخر عند شرحي للمنظومة إنما أردت هنا أن أقرر هذه القاعدة بأدلتها ، قال الناظم :
واعلم بأن الله جل جلاله خلق العباد على مدى الأزمان
كي يعبدوه ويفردوه بحقه فهو الإله فما إله ثاني
وبذاك قد بعث الكرام جميعهم وتنزلت كتب من الرحمن
فالله تعالى أعلى وأعلم
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الرابعة والعشرون
من صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله على وجه لا يليق إلا بالله تعالى فشرك أكبر
هذه القاعدة هي لب التوحيد وجماعه ، وهي أخطر نقطة فيه ، فكم زلت الأقدام لما لم تفهمها ، وكم من مشركٍ بيننا يحسب أنه على التوحيد وهو من الخاسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ، فلا بد من فهمها حق فهمها فنقول :(1/81)
العبادة : اسم جامع لما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، فكل شيء يحبه ويرضاه فهو عبادة ، ولها أنواع كثيرة جدًا ، ولكن قبل الدخول في تفصيلها نشرح القاعدة فنقول : إن أي نوع من أنواع العبادة فهو حق خالص لله تعالى لا يجوز صرفه إلى غيره البتة ، ومن صرفه لغير الله ، فقبل الحكم ننظر هل صرفه لغير الله في شيء يقدر عليه عامة البشر ، فإن كان الجواب نعم ، فهذا لا بأس به وليس من العبادة في شيء ، وإن صرفه في شيء لا يقدر عليه إلا هو سبحانه فهذا هو الشرك الأكبر ، وهذا معنى قولي : (( على وجه لا يليق إلا بالله )) فإن هذه الأنواع التي سأذكرها - إن شاء الله تعالى - لا تصرف إلا إلى الله تعالى في الشيء الذي لا يقدر عليه إلا الله ، وأما في الشيء الذي يقدر عليه عامة البشر فلا بأس أن تصرف لغير الله تعالى لأنها ليست حينئذٍ عبادة ، وحتى يتضح الكلام أذكر بعض الفروع :(1/82)
فمنها : الدعاء : الدعاء عبادة خالصة لله تعالى لا يجوز أن يدعى مع الله تعالى غيره قال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا } وقال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } وقال تعالى على لسان إلياس النبي : { أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين ، الله ربكم ورب آبائكم الأولين } . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس : (( إذا سألت فاسأل الله )) فهذه الأدلة وغيرها تخبر أن الدعاء عبادة ، وبناءً عليه فلا يجوز صرف الدعاء لغير الله تعالى ، أما دعاء العبادة فهذا لا إشكال فيه . ولكن من صرف شيئًا من دعاء المسألة لغير الله فننظر هل المدعو به شيئًا يقدر عليه البشر أم لا ؟ إن كان يقدر عليه البشر فلا بأس وليس صرفه لغير الله حينئذٍ شرك لكن بشروط ثلاثة : أن يكون المدعو حيًا فمن دعا ميتًا فهو مشرك ؛ لأن الأموات غير قادرين على فعل شيء . وأن يكون حاضرًا ؛ لأن الغائب لا يسمع دعاء من دعاه فالذي يدعوه فقد اعتقد أنه يعلم الغيب وهو كفر . وأن يكون قادرًا على إجابة الدعاء ، وبناءً عليه فلا يجوز أن يقال يا فلان أنزل المطر أو أخرج الزرع أو ارزقني بولد أو أمد في عمري ؛ لأن هذه الأشياء لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، المهم : أن من دعا غير الله فإن كان في شيء يقدر عليه البشر فليس بشرك ، وإن كان في شيء لا يقدر عليه إلا الله فهو شرك أكبر لأنه صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله على وجه لا يليق إلا بالله .(1/83)
ومنها : الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة : فالاستغاثة : طلب الغوث . والاستعانة : طلب العون . والاستعاذة : طلب العوذ والسين والتاء إذا دخلت على المصدر أفادت الطلب ، هذه الثلاثة أنواع من العبادة دل الدليل الشرعي عليها من الكتاب والسنة فإذا كان كذلك فمن صرفها لغير الله على الوجه الذي لا يليق إلا بالله فهو مشرك شركًا أكبر مخرجًا عن الملة ، ويكون ذلك إذا استغاث أو استعان أو استعاذ بالمخلوقات في شيء لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، كأن يقول : غوث يا بدوي وقد مات ، أعوذ بك من النار يا سيدي الحسين ، وهكذا فهذا شرك لأنه لا يقدر عليه إلا الله تعالى . وأما إذا صرفت لغير الله فيما يقدر عليه البشر فهذا لا بأس به لأنها ليست حينئذٍ من العبادة .
ومنها : الخوف : منه ما هو عبادة وهو ما يسميه العلماء بخوف السر كالخوف من قبر أو ولي ويتعبد له بهذا الخوف فهذا لا يجوز صرفه إلا لله تعالى ، أما الخوف الطبيعي الجبلي فهذا لا بأس به كالخوف من الحية والعقرب والذئب ونحوه ؛ لأنه خوف ليس للإنسان فيه حيلة ، فقد خاف كليم الله موسى من قوم فرعون لما قتل منهم نفسًا قال تعالى عنه : { ففرت منكم لما خفتكم } وقال تعالى عنه : { فخرج منها خائفًا يترقب } . المقصود أن من صرف الخوف لغير الله على الوجه الذي لا يليق إلا بالله فهو مشرك .
ومنها : النذر : عبادة دل الدليل على أنه عبادة ، قال تعالى في صفات أهل الجنة : { يوفون بالنذر } ، فالوفاء بالنذر يحبه الله ويرضاه فهو عبادة ، فإذا كان عبادة فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى على الوجه الذي لا يليق إلا بالله تعالى ، كالنذر للأموات أو للأولياء أو للأنبياء فهذا كله شرك لا يجوز .
ومنها : الخشية والرهبة : ويقال فيها ما قيل في الخوف .(1/84)
ومنها : التوكل : قال تعالى : { وعلى الله فليتوكل المتوكلون } وقال : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، فإذا كان عبادة فلا يجوز صرفه لغير الله في الشيء الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، أما التوكل على المخلوقين فيما يقدرون عليه فلا بأس به .
والقول الجامع في هذا : أن كل عبادة لا يجوز صرفها إلا لله تعالى ، وصرفها لغيره شرك إذا كان صرفها على الوجه الذي لا يليق إلا بالله تعالى ، والله تعالى أعلم .
ت
القاعدة الخامسة والعشرون
كل من اعتقد سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فهو شرك أصغر وإن اعتقده الفاعل بذاته فهو شرك أكبر
اعلم رحمك الله تعالى أن الناس في الأسباب انقسموا إلى فرق ففرقة قالت : ليس لها تأثير البتة ، وهذا القول فيه مكابرة للمعقولات . وفرقة قالت : أنها هي الفاعلة بذاتها ، وهؤلاء هم المشركون ، فهذا القول كفر وشرك – والعياذ بالله تعالى - . وفرقة قالت : إنها مؤثرة لكن لا بذاتها وإنما يجعل الله لها مؤثرة ، وهذا هو الصواب وهو قول أهل السنة والجماعة ، فإنكار الأسباب بالكلية قدح في الشرع والاعتماد عليها بالكلية شرك أكبر والأخذ بها مع التوكل على الله هو دين الإسلام ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( اعقلها وتوكل )) . فقوله : (( اعقلها )) أخذ بأسباب حفظ الدابة ، وقوله : (( وتوكل )) اعتراف بأن السبب وحده ليس هو الكفيل بالحفظ إلا إذا شاء الله تعالى .(1/85)
واعلم أن الأخذ بالأسباب بمسبباتها ، فربط المطر بوجود السحاب ، وربط إنجاب الولد بالزواج ، وربط دخول الجنة بالعمل الصالح ، فالمسبب في شريعتنا لا يقع إلا إذا وقع سببه لكن قد يقع السبب ويختلف عنه سببه لحكمة يعلمها الله تعالى فقد يوجد السحاب ولا يوجد المطر لكن لا يوجد مطر إلا بسحاب ، وقد يوجد الزواج ولا يوجد الولد لكن لا يوجد ولد إلا بجماع ، وقد يتحقق العمل الصالح لكن يتخلف عنه دخول الجنة لكن لا يدخل الجنة إلا من عمل صالحًا . ولذلك قال الله تعالى بعد ما ذكر ما في الجنة وأنه أعدها لعباده المؤمنين قال : { جزاءً بما كانوا يعملون } والباء هنا باء السبب أي بسبب أعمالهم ، لكن ليست باء العوض ، أي لأنهم عملوا صالحًا دخلوا الجنة ، كقولك : اشتريت كذا بكذا ، فإن أحدًا لن يدخل الجنة بعمله حتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله )) . قالوا : ولا أنت يا رسول الله . قال : (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته )) . فالباء في قوله : (( بعمله )) هي باء العوض والمقابلة . والباء في قوله تعالى : { بما كانوا يعملون } هي باء السبب ، فالأعمال سبب من أسباب دخول الجنة ، لكن ليست الجنة عوضًا لازمًا للأعمال ، قال ذلك أبو العباس بن تيميه .(1/86)
إذا علمت هذا فاعلم أن الأسباب نوعان باعتبار معرفتنا بمسبباته ، أي عرفنا أن هذا سبب لهذا عن طريقين عن طريق الشرع وعن طريق القدر ، فالشرع يخبرنا أن هذا الشيء سبب لهذا الشيء ومترتب عليه : كقوله تعالى : { جزاءً بما كانوا يعملون } فأخبرنا أن الأعمال الصالحة سبب من أسباب دخول الجنة والآيات كثيرة ، وكذلك القدر أي عرفنا قدرًا أن هذا الشيء سبب لهذا الشيء ، كعلاج الحرارة دلت التجربة على أنه سبب لانخفاضها ، وعلاج الإسهال دل على أنه سبب لإمساك البطن والبروز للحرارة دل على أنه سبب للإصابة بالحمى وهكذا ، فمن ادعى أن هذا الشيء سبب لهذا الشيء فنحن نطالبه بالدليل الذي دله على هذه السببية ، إذا علم هذا فليعلم أن كل من تعلق سببًا لم يدل عليه دليل شرعي أي لم يدل على سببيته شرع من كتاب وسنة ، ولم يدل عليه قدر كالتجربة مثلاً فلا يخلو من حالتين : إما أن يعتقد أن هذا السبب هو الفاعل للمسبب بذاته ، فإذا اعتقد ذلك فهذا هو الشرك الأكبر ، إما أن يعتقد أن الفاعل هو الله تعالى لا السبب وهذا سبب فقط فهذا شرك أصغر لأن الأصل أن الله هو الذي يربط الأسباب بالمسببات ، فالأسباب الشرعية خاصة توقيفية على الدليل فإذا اعتقد الإنسان أن هذا الشيء سبب ولا دليل عليه فيكون قد نصب نفسه مشرعًا وتكلم فيما لا يعنيه وهو حرام لا يجوز ، ولأن الأسباب قد يكون ارتباطها بمسبباتها ارتباطًا غيبيًا لا يدرك فكيف يقال إن هذا الشيء سبب لهذا الشيء وهو غير محسوس ففيه نوع من ادعاء علم الغيب ولأن هذا أي اتخاذ الأسباب بلا دليل وسيلة للشرك الأكبر والقاعدة تقول : أن كا ما كان وسيلة للشرك الأكبر فهو شرك أصغر والوسائل لها أحكام المقاصد . إذا عرفت هذا وفهمته فهمًا جليًا فهاك فروعًا على هذه القاعدة العظيمة حتى تتضح :(1/87)
منها : التمائم : هي حرام وشرك دل على تحريمها السنة والإجماع ، وهي حرام حتى وإن كانت من القرآن على الصحيح لأوجه ثلاثة مذكورة في غير هذا الموضع ، والمراد أن بعض الناس يتخذ التمائم ويقصد بها دفع الشر وجلب الخير فأناس يتخذونها لدفع العين وبعضهم للحماية من الجن وبعضهم للوقاية من السحر ، فهم اتخذوها واعتقدوا فيها هذا الاعتقاد ، فهم لا يخلون من حالتين : إما أن يعتقدوا أنها هي الفاعلة بذاتها أي هي التي تدفع الشر وتجلب الخير بذاتها فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة بالكلية والعياذ بالله تعالى فهو شرك في الربوبية .
وإن اعتقدوا أن الله هو الدافع للشر الجالب للخير لكن هذه التمائم سبب من الأسباب الدافعة للشر الجالبة للخير فهذا شرك أصغر ؛ لأن الشرع لم يدل على أن من أسباب دفع الشر تعليق التمائم ، بل حتى ولا القدر فنحن نرى أناسًا قد علقوها ومع ذلك تصيبهم المصائب الكثيرة ، فالتمائم لم يدل عليها شرع ولا قدر فما بالك إذا كان الشرع قد دل على تحريمها وأنها شرك ، فمع هذا لا يجوز اتخاذها .
ومنها : الرقى : دل الدليل الشرعي على أنها سبب من أسباب دفع الشر ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا )) ، وقال تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } . فمن اعتقد أنها هي الفاعلة بذاتها فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة وهو شرك في الربوبية ، لكن من اعتقد أنها سبب من الأسباب وأن الله هو الذي يُقَدِرْ ويحكم فهذا لا بأس به ، بل هو الواجب لأن الدليل دل على سببيتها لدفع الأمراض . ومن اعتقد أنها ليست سببًا أصلاً فهذا ضال مخالف للأدلة .(1/88)
ومنها : الدعاء في المقابر خاصة للنفس : لا شك أن زيارة القبور شرعية وبدعية ؛ والشرعية : هي ما كان قصد الزائر بها الذكرى والاعتبار أو الدعاء لهم ، أما أن يزور المقبرة ليدعو لنفسه فهذا من الزيارة البدعية لا الشرعية ، لكن من اعتقد في الدعاء للنفس في المقبرة فضيلة فلا يخلوا من حالتين : إن اعتقد في الدعاء أن الله هو المجيب الذي يقدر الأشياء وأن الأموات ليس تصرف في شيء أبدًا ، فهذا شرك أصغر ؛ لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب ، وإذا اعتقد أن الأموات يملكون شيئًا من الإجابة فهذا هو الشرك الأكبر وهو شرك المشركين في زمان محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - .
ومنها : وضع القرآن في السيارة لدفع الضرر عنها : إن اعتقد أن القرآن هو الذي يدفع بذاته ، فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة وإن اعتقده سببًا من الأسباب والله تعالى هو الذي يدفع الشر فهذا شرك أصغر ؛ لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب فإن الشرع لم يدل على أن القرآن كأوراقٍ وحبرٍ وكتابةٍ وجلدةٍ سبب لدفع الضر عن المكان الذي هو فيه .
ومنها : الاعتقاد في الأنواء : فإذا نزل مطر أو هبت ريح فإن بعض الناس ينسبون هذا إلى النجم الفلاني والأنواء هي مواقع النجوم ، فهذه النسبة لا تخلوا من حالتين : إما أن يعتقد أنها هي الفاعلة بذاتها فهذا هو الشرك الأكبر ، وإن اعتقد أن الله هو الفاعل المقدر لهذا الشيء ، لكن النوء سبب من الأسباب فهذا شرك أصغر ؛ لأنه اعتقد سببًا ما ليس بسبب ، لكن اعتقد أنها ليست سببًا وليست هي الفاعلة وإنما ينسب المطر إلى النوء نسبة توقيت بدون اعتقاد فهذا لا بأس به وتركه هو الأولى سدًا للذريعة ، وعلى هذا فقس ، قال الناظم :
وتؤثر الأسباب ليس بذاتها لكن بتقدير من الرحمن
والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة السادسة والعشرون
لا يجوز فعل عبادة لله بمكان يفعل فيه جنس هذه العبادة لغير الله(1/89)
وهي من قول الشيخ : محمد في كتاب التوحيد ( باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ) ودليل ذلك قوله تعالى : { لا تقم فيه أبدًا } فإن المنافقين لما بنوا مسجد الضرار إرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل وتفريقًا بين المؤمنين أرادوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي فيه حتى يتخذوا صلاته فيه دعاية لهذا المسجد وشهرة له ، فقال عليه الصلاة والسلام سأفعل إن شاء الله ، فلما رجع من تبوك أنزل الله عليه آيات سورة التوبة في مسجد الضرار فأمر به فأحرق ، والشاهد أن الله تعالى نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم في مسجد الضرار أي أن لا يصلي فيه مع أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - عبادة ؛ ذلك لأن هذا المكان تفعل فيه هذه العبادة لغير الله ، ويدل على ذلك أيضًا حديث ثابت بن الضحاك قال : ( نذر رجل أن يذبح إبلاً ببوانة فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ )) . قالوا : لا . قال : (( هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ )) . قالوا : لا .(1/90)
فقال للرجل : (( فأوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم )) ) رواه أبو داود وسنده على شرطهما ، وهذا الحديث أقرب في الاستدلال لهذه القاعدة من الآية ، ووجه الاستشهاد منه أن هذا الرجل حدد لنذره موقعًا محددًا ولا شك أن الوفاء بالنذر عبادة كما مضى لأنه يحبه الله ويرضاه وكل ما يحبه الله ويرضاه فهو عبادة ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتأكد من سبب هذا التحديد خشية من الوقوع في الشرك وإحياء سنة الكفار من الأعياد والأوثان ، ومن المعلموم أن المشركين يريقون الدماء عند أوثانهم وكذلك يريقون الدماء في أعيادهم ، كما نحن نفعل من إراقة الدماء عند بيت الله الحرام وفي عيد الأضحى ، والمراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل هذه الأسئلة دل على أن الجواب يختلف باختلاف حال المكان وأن الجواب لو كان بنعم لكان جوابه بتحريم إقامة هذا النذر و لا شك ولو لم نعتقد ذلك لصار سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عنبًا لا فائدة فيه ، فقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الناذر أن لا يفعل هذه العبادة وهي الوفاء بالنذر في مكان تفعل فيه نفس العبادة وهي الذبح والتقرب للأوثان وليوم العيد لغير الله تعالى ، فالمشركين يذبحون لأوثانهم فلا يجوز أن نذبح في أمكنتهم التي يذبحون فيها .
وكذلك كره كثير من العلماء إراقة الدماء في الأيام التي يذبح فيها المشركون لأعيادهم وأوثانهم خشية من المشابهة وهذا الحديث نص في هذه القاعدة ، فلا يجوز إذًا أن نفعل أي عبادة ولو لله تعالى في مكان تفعل فيه هذه العبادة لغير الله تعالى فلا نذبح لله في مكان يذبحون فيه لغير الله ولا نصلي لله في مكان يصلون فيه لغير الله ، وهذا واضح إن شاء الله تعالى ، وبقي عندنا سؤالان تتميمًا للفائدة :
الأول : لماذا نهينا عن هذا الشيء ؟
الثاني : ما حكم زيارة المقابر التي يفعل فيها الشرك ؟(1/91)
الجواب : أما السؤال الأول : فإن الشريعة الإسلامية المحمدية حذرت كل الحذر من أمور : من مشابهة الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة ، ومن إحياء سنتهم بعد موتهم ، وسد للذرائع ، وحماية المسلم من الدخول في هذه المواقع التي قد ينزل العذاب عليهم فيها ، والموافقة في الهدي الظاهر قد تؤدي إلى الموافقة في الهدي الباطن ، ومن أدلة الأول : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) وقوله على سبيل الإنكار : (( لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة )) . قالوا : اليهود والنصارى . قال : (( فمن ؟ )) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( خالفوا المجوس أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( صلوا في نعالكم فإن اليهود لا تصلي في نعالها )) ونهى عن السدل لأنه من فعل اليهود وهكذا في أدلة كثيرة . ومن أدلة الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار لما رآهم يلعبون في يوم كان لهم في الجاهلية : (( قد أبدلكم الله بهما يومين يوم الفطر ويوم الأضحى )) وهذا إخماد لسعادة المشركين وكذلك هذا الحديث أعني حديث ثابت بن الضحاك السابق يدل على إخماد عادات المشركين في أعيادهم وعند أوثانهم ، وغير ذلك من الأدلة ، فهذان الأمران حرام في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز لنا أن نشبه بالمشركين ولا أن نحيي ما كان من عاداتهم وعباداتهم ، وهذه القاعدة منبثقة من تحريم هذين الأمرين فهي تمنع أن تقام العبادات في الأمكنة التي يقيم المشركون فيها عباداتهم سواءً يقيمونها الآن أو كانوا يقيمونها ؛ لأن في الحديث (( هل كان فيها وثن يعبد )) وكان فعل ماضٍ ناقص مما يدل على المنع من إقامة العبادة في مكان تقام أو كان يقام فيه جنس هذه العبادة لغير الله .(1/92)
وأما جواب الثاني : فإن زيارة القبور نوعان شرعية وبدعية وقد مضى ذلك ولا شك أن زيارة القبور عبادة إذا لم تترتب على محظور ، فتسن هذه العبادة في مكان لا يفعل فيه جنسها لغير الله ، فبناءً عليه لا يجوز زيارة القبور إذا كانت المقبرة يفعل فيها عبادات شركية من الطواف حول القبور والنذر إلى القبور والذبح عندها ونحوه لهذه القاعدة لأن الزيارة الشرعية من جنس الزيارة البدعية فليس بينهما فرق كبير في الصفة .
فالواجب هو تجنب المقابر التي يفعل فيها نوع من أنواع الشرك ، والله تعالى أعلى وأعلم .
ومن فروع هذه القاعدة عدم جواز ذبح شيء لله تعالى في مكان يذبح فيه لغير الله كمسلخة يذبح فيهل لوثن ونحوه ، بل والأفضل أن لايذبح الإنسان في الأوقات التي يكون فيها عيد من أعياد المشركين قطعًا لدابر المشابهة ، وما النهي عن الصلاة بعد طلوع الفجر وصلاة العصر إلا أكبر دليل على ذلك .
ومنها : أنه لا تشرع ، بل لا تصح الصلاة في مسجد فيه قبر يصلي فيه له كما في بعض المساجد في بعض الدول ، فالصلاة في هذا المسجد حرام لا تصح ؛ لأنه يفعل فيه جنس هذه العبادة لغير الله تعالى ، وعلى هذا فقس ، قال الناظم :
لا تفعلن عبادة في بقعة فعلت به للشرك والكفران
والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة السابعة والعشرون
لا يجوز الحلف إلا بالله أو صفة من صفاته(1/93)
إن الحلف عبادة من العبادات دل الدليل على عدم جواز عقدها إلا بالله أو صفة من صفاته ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) إذا علم هذا ، فإن من حلف بغير الله تعالى فقال : وجبريل ، أو والنبي ، أو والعيش ، والملح ، أو وحياة أبيك أو وليك أو الأمانة أو الشرف فلا يخلو الحلف بهذا من حالتين : إن اقترن بحلفه تعظيم كتعظيم الله تعالى فهذا شرك أكبر ؛ لأنه جعل الله في مرتبة واحدة مع خلقه ، وإن حلف ولم يعتقد ذلك كالحلف الذي يجري على اللسان مما اعتاد بعض الناس عليه بلا قصد تعظيم فهذا شرك أصغر ، وهو من أكبر الكبائر – والعياذ بالله - . قال ابن مسعود : ( لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا ) وذلك لأن الحلف بالله مع الكذب معصية وليست شركًا ، لكن الحلف بغير الله ولو صادقًا شركٌ قد يكون أكبرًا أو قد يكون أصغرًا ، وحال المسلمين اليوم ترثى إلى الله تعالى ، فقد تفاقم الأمر وعظم ، فتجد من لم يعظم الله حق تعظيمه إذا حلف كاذبًا لا يحلف إلا بالله تعالى ، فتجده يذكر جميع أسماء الله دونما خوفٍ أو حرج ، لكن يتورع أن يحلف بوليه المزعوم كاذبًا بل وليه أعلى وأجل من أن يحلف به كاذبًا وهذا هو عين الكفر والشرك – والعياذ بالله تعالى - . قال الناظم في نونيته :
لا تحلفن بغير ربك واقتصد عود لسانك قلة الأيمان
فلا يجوز عقد اليمين إلا بالله أو بصفة من صفاته ، كقولك : ( ويد الله وعين الله وكلام الله ، وهكذا ) .(1/94)
ولذلك اختلف العلماء في الحلف بالمصحف على قولين : فقيل : لا ، وقيل : نعم ، والذي عليه المحققون أن الحلف بالمصحف لا يخلو من حالتين : إما أن يكون قصد الحالف أوراقه وجلدته وحبره فهذا كله مخلوق لا يجوز الحلف به وإما أن ينوي الكلام الذي فيه فإنه كلام الله فهذا لا بأس به لأن كلام الله صفة من صفاته ، وأنت تسمع كثيرًا بعض الناس يقول : والكعبة وبيت الله ، ورسول الله ، فهذا كله لا يجوز ؛ لأنها مخلوقة بخلاف قولك : ورب البيت ورب الكعبة فهذا جائز لأنه حلف بالله تعالى . وقولك : ( والذي نفسي بيده ) جائز ؛ لأن الذي بيده الأنفس هو الله تعالى ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحلف به كثيرًا .
وأما قول الله تعالى : { والشمس وضحاها ، والقمر إذا تلاها ، والنهار إذا جلاها ، والليل إذا يغشاها } وقوله : { والفجر } وقوله : { والضحى } فهذا حلف بالمخلوقات لكنه صادر من الله جل جلاله والقاعدة تقول : الله يحلف بما شاء من مخلوقات وهذا الحلف من الله تعالى يدل على عظمة المحلوف به . لكن البشر لا يحلفون إلا بالله تعالى أو صفة من صفاته فإذا قلت : أليست الصفة غير الموصوف ، لا أعني بهذا الكلام أن الصفة لا تفيد معنى زائداً على الذات أو أنها منفصلة عن الموصوف بل أعني أنها متصلة به ولكنها تفيد معنى زائداً عنه فذواتنا شيء وصفاتنا شيء ، فكيف يجوز الحلف بالصفة مع أنها ليست هي الموصوف ؟ وقد قلتم سابقًا أنه لا يجوز دعاء الصفة لأنها ليست هي عين الموصوف أو ليس الحلف والدعاء بابها واحد فلم أجزتم الحلف بالصفة ولم تجيزوا دعائها ؟(1/95)
قلنا وبالله التوفيق : هذا سؤال دقيق ومهم وجوابه : هو معرفة الفرق بين باب الدعاء وباب الحلف ، فإن باب الدعاء مبناه على الافتقار والمذلة التي تقوم بالداعي وأنه لا يدعو إلا من يقدر على الإجابة ، الذي يملك الضر والنفع ، وهذا لا يملكه إلا الله تعالى فلا يفتقر إلا إليه ولا يملك النفع والضر إلا هو سبحانه وتعالى ، فمن هذا الباب لم يجز الدعاء إلا لله تعالى فصفاته لا تملك ضرًا ولا نفعًا لأن الصفة ليست هي عين الموصوف . وأما باب الحلف فمبناه على التعظيم فلا تحلف إلا بمعظم والله وصفاته كلها عظيمة فمن هذا الباب جاز الحلف بالصفة والله سبحانه وتعالى عظيم في ذاته عظيم في صفاته عظيم في أفعاله هذا الجواب الأول . ويقال ثانيًا : أنه قد ثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ببعض الصفات كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا المقتول في أي شيء قتل )) والأحاديث في ذلك كثيرة لكن لم يرد قط أنه دعا صفة من الصفات وباب العبادة باب مبناه على الحظر والتوقيف ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الثامنة والعشرون
الأصل في العبادات الحظر والتوقيف
لقد شرحنا هذه القاعدة في غير هذا الموضع شرحًا مفصلاً لكن نذكر هنا جملاً نافعة - إن شاء الله تعالى - ، فأقول :(1/96)
إن معرفة الأصل في الأشياء من أهم ما ينفع طالب العلم في بحثه وفتاواه ، فإنه إذا عرف الأصل ، ثبت عليه ولا يتعداه إلا بدليل ناقل عنه ، فمن ذلك : أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة ، والأصل في الميتات الحرمة ، والأصل في الفروج التحريم ، والأصل أن اليقين لا يزول بالشك ، ومن ذلك - ما نحن بصدده - : أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف إلا بدليل شرعي ، وذلك لأن أحدًا لا يعرف ما يجوز التعبد به لله ومالا يجوز ؛ لأن العقول لا تستقل بإدراك الشرع ، وإلا لما احتجنا إلى إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، لكن لضعف العقل عن إدراك الشرع بعث الله الرسل وأنزل الكتب ، حتى تبين للناس ما يجب عليهم من العبادات أصولاً وفروعًا ، فما وجدنا فيها من العبادات تعبدنا بها ، ومالا فلا .
وليس الدليل على نافي العبادة إذا لم يثبت لها دليل شرعي ، ولكن الدليل على المثبت لها ؛ وذلك لأن الدليل على الناقل عن الأصل ، لا على المثبت عليه ، فإذا ادعى أحد أن هذا الشيء عبادة فنحن نطالبه بالدليل ، فإن أتى به قبلنا وتعبدنا ، وإن لم يأت به فلا ، وهذا هو مذهب السلف - رضي الله عنهم - ، فالعبادات مبناها على الشرع لا العقل ، بخلاف من جعل العبادة مبناها على ما تنتجه عقولهم الفاسدة ، كالصوفية الذين يتعبدون إلى الله تعالى بأذواقهم العفنة ، وكالمعتزلة الذين يوجبون ويحرمون بعقولهم المنتنة ، وغيرهم من الطوائف من الذين تركوا عباداتٍ دلَّ الدليل عليها ، وأمر بها الشارع ، إما أمر إيجاب أو ندب ، بل ويحاربونها أشد المحاربة ، ثم تراهم يقومون بعبادات لا خطام لها ولا زمام .(1/97)
فإن فتح الباب للعقل في هذا المقام إقحام للعقل في غير موضعه ، فالحكم لله ، كما قال تعالى : { إن الحكم إلا لله } وهذا هو توحيد الحاكمية ، أي لا حاكم شرعًا وقدرًا إلا الله . فالحلال ما أحل الله تعالى ، والحرام ما حرمه ، وما سكت عنه فهو عفو ، والأدلة على ذلك كثيرة ، ذكرناها في شرح القواعد الفقهية .
واعلم أن هذا هو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، فماذا بعد الحق والسنة إلا الباطل والبدعة ، والبدع في الشرع كلها ضلال وفي النار . فالواجب الوقوف عند الدليل ، هذا هو النجاة ، والله غني عن العالمين ، والكلام عن البدعة وأقسامها ذكرناه في شرح المنظومة فليراجعها من شاء ، والله تعالى أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة التاسعة والعشرون
الأصل في التوسل التوقيف إلا بدليل
التوسل هو : أن يقرن الإنسان بدعائه أمرًا تُرجى معه الإجابة ، وذلك بذكر محبوب للمدعو ، هذا التوسل من أمور العقيدة المهمة التي تاهت فيها العقول وزلت فيها الأقدام ، والأصل في هذا الباب هو الحظر والتوقيف إلا بدليل شرعي ، فلا يجوز للإنسان أن يتوسل بشيء إلا وعليه دليل شرعي صحيح . وقد سبر العلماء الأدلة فوجدوا أنه لم يرد في الكتاب والسنة إلا ست وسائل دل الدليل على جواز التوسل بها ، فإليكها بأدلتها :
فمنها : الأسماء : أي أسماء الله تعالى ، فيجوز التوسل بأسماء الله تعالى سواءً على العموم ، أي تقول : أسألك بأسمائك الحسنى ، أو على الخصوص ، لكن يشترط أن يكون الاسم المتوسل به ملائمًا للمطلوب ، فإذا طلبت الرزق فقل : يا رازق ، وإذا طلبت المغفرة فقل : يا غفور يا رحمن . قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } .
ومنها : الصفات : أي يجوز لك أن تتوسل لصفات الله تعالى على العموم أو على الخصوص مع تلائم الصفة المتوسل بها مع المدعو وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى )) .(1/98)
ومنها : التوسل بذكر الأعمال الصالحة فتقول أسألك بصلاتي وأسألك بحبي لك ولرسولك - صلى الله عليه وسلم - وهكذا ودليل ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين في ذكر الثلاثة الذين دخلوا الغار فسدت عليهم صخرة الباب فقالوا : إنه لن ينجيكم من أخر هذه الصخرة ألا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم فتوسل الأول ببره بوالديه والآخر لعفته وخوفه من ربه والثالث بأمانته ، وهذه كلها أعمال صالحة وأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكى حالهم مما يدل على جوازه .
ومنها : التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى عن حال المتفكرين في خلق السموات والأرض { ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفرعنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } أي بسبب إيماننا اغفر لنا ، وهذا داخل فيما قبله لأن الإيمان عمل صالح .
ومنها : التوسل إلى الله تعالى بذكر حال الداعي وهذه سنة أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم فهذا نوح يقول : (( رب إن قومي كذبون )) وهذا موسى : (( رب إني لما أنزلت إلى من خيرٍ فقيرٍ )) وهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ... )) الحديث ، فتقول : اللهم إني كذا وكذا فأعطى أو وفقني وهكذا .
ومنها : التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجال الصالح وستأتي له قاعدة معتقلة - إن شاء الله تعالى - بعد هذه القاعدة . قال الناظم :
لا تقرنن مع الدعاء وسيلة فالأصل فيه المنع دون تواني
إلا إذا دل الدليل فجائزٌ كالوصف والأسماء للرحمن
أو بالدعاء من الذي هو صالح إن كان حياً حاضراً شرطان
وكذا بذكر الحال والعمل الذي هو قربة لله كالإيمان(1/99)
وماعدا ذلك فإنه من التوسل الممنوع وذلك كالتوسل بالأموات والفساق وبذات النبي - صلى الله عليه وسلم - وبجاهه أو بالأحجار والأشجار فكل هذا من التوسل المحرم وما يروى لبعضها من الأحاديث كله كذب مفترى لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كقولهم : (( إذا سألتم الله فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم )) فهو موضوع باتفاق أهل المعرفة وكقولهم : (( من زار قبري وقبر أبي في عام ضمنت له الجنة )) وكقولهم (( من أحسن ظنه بحجر نفعه )) وغيرها كل هذا من الكذب البين المصادم لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وذلك يقول الناظم في ذكر التوسل الممنوع :
ونمنعن من التوسل الذي ... لم يبعثنه شرعنا حينئذ
كمن دعا الأموات أو بجاره ... نبينا ومصطفى الإله
ومثله إن كان بالأشجار كذلكم إن كان بالأشجار
وجامع الأصول في التوسل ... أن تعرضن وسيلة التوسل
فإن تكن صحيحة مشروعة ... أو إن تكن وسيلة ممنوعة
أجز إذًا أو لا تجز كما مضى وتلكم الخاتمة فقد قضى
والبيتين الأخيرين كالقاعدة في باب التوسل فخذ بها تنجو من خرافات المخرفين وخزعبلات المبتدعين ، والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الثلاثون
لا يطلب الدعاء إلا من الحي الحاضر القادر(1/100)
فهي شروط ثلاثة إذا توفرت جاز ذلك وإذا لم يتوفر واحد منها فلا يجوز حينئذ التوسل بذلك ، فالشرط الأول : الحياة أي حياة المطلوب منه الدعاء وبناءً عليه فلا يجوز أن يطلب الدعاء من الميت لأن الميت لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا بل هو مسكين مرهون بعمله إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا قال تعالى : { أموات غير أحياء } ومن هنا تعرف خطأ من يدخل المقبرة ليدعو الولي الفلاني أو النبي الفلاني ، فتراهم يدعونه في كشف الملمات وفي تفريج الكربات وهذا كله شرك أكبر مخرج عن الملة لا يجوز فالأموات لا يجوز دعاؤهم وقد مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفن بالمدينة في غرفة عائشة والصحابة متوافرون الخلفاء الأربعة وغيرهم لكنهم لم يثبت عن أحدٍ منهم أنه دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ، بل كانوا إذا ألمت بهم سنة دعوا بأنفسهم أو طلبوا من أحدٍ حاضر حي قادر أن يدعو لهم فقد استسقى المسلمون في عهد عمر بن الخطاب بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن اتخاذ القبور مساجد وجعلها مكانًا للدعاء لأنه من اتخاذها مساجد فقد قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا قبري عيدًا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني )) وعن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لا تجعلوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا وصلوا علي فإن تسيلمكم ليبلغني حيث كنتم )) رواه المقدسي المختارة ، وأحاديث النهي عن ذلك كثيرة منها : حديث عائشة في الصحيحين في كنيسة الحبشة وحديثها وابن عباس في الصحيحين أيضًا في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك حين(1/101)
نزل به الموت .
واعلم أن من صرف دعاءه للأموات فإنه في خسارة عظيمة فإنه لا يسمعه من يدعوه وإذا لم يسمعه كيف يستجيب له ولو سمعه لما قدر على الإجابة لأنه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا فكيف يملك لغيره فإن فاقد الشيء لا يعطيه . وأما الشرط الثاني : فهو أن يكون المدعوا حاضرًا والحضور إما حقيقي وإما حكمي ؛ فالحقيقي : هو أن تراه أمامك رؤية طبيعية فتطلب منه أن يدعو لك ، وأما الحضور الحكمي : فهو أن تسمع كلامه ويسمع كلامك لكن لا ترى صورته أو يصله طلبك للدعاء بوسيلة حسية معروفة وإن لم تكن أمامه عيانًا كالتلفون فلو طلبت من أحدٍ أن يدعو لك في التلفون فهذا لا بأس به لأنه في حكم الحاضر إلا أن تركه أولى سدًا للذريعة ، وكذا لو أرسلت إلى أحدٍ رسالة وطلبته الدعاء فيها فإنها تصله ويقرأها فهذا لا بأس به - إن شاء الله - وتركه أولى سدًا للذريعة وخروجًا من الخلاف وبناءً عليه فلا يجوز أن تطلب الدعاء من غائب عنك ليس بحاضر لا حقيقة ولا حكمًا إذ الغائب كيف يسمع دعاءك إلا إن كنت تعتقد أنه يعلم الغيب فهذا شرك - والعياذ بالله تعالى - قال تعالى : { قل لا يعلم من في السموات ومن في والأرض الغيب إلا الله } إذًا أنت ما دعوته وهو غائب عنك إلا لاعتقادك فيه أنه يعلم الغيب . وأما الشرط الثالث : فهو أن يكون المدعو قادرًا قدرة حسية على الدعوة لك ، وكل يقدر على دعاء الله تعالى إلا الأموات . وبعضهم يزيد شرطًا رابعًا : وهو أن يكون المدعو صالحًا وهذا شرط طبعي إذ لا يطلب أحدٌ أحدًا الدعاء إلا لأنه يتوسم فيه الإجابة فكل يبحث بنفسه عن الأصلح لأنه ادعى أن تجاب دعوته ، إلا أن المخافة ممن يتظاهرون بالصلاح كمشائخ الصوفية الضالين ونحوهم ، فإذا توفرت هذه الشروط جاز حينئذ أن يطلب منه الدعاء إلا أن هنا مسألة هل الأولى هو طلب الدعاء من الغير أم أن تركه أولى ؟(1/102)
الجواب : أن هذا يختلف باختلاف نية الطالب إن كان قصده هو انتفاعه بدعاء المدعو فهذا خلاف الأولى فإنه لم يكن من عادة السلف ذلك ، إلا أنه جائز مباح إلا إذا كان المقصود انتفاع العامة فيرغب فيه وعليه يخرج طلب عمر من العباس أن يستسقي لهم لأن المنفعة هو العامة وليس عمر وحده ، وإن كان الطالب يقصد أن ينفع المدعو بأن يكون سببًا لدعاء الملائكة له فقط فهذا هو ما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع عمر لما قال له : (( لا تنسنا من صالح دعائك )) فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - غني عن دعاء عمر وإنما يريد نفع عمر بذلك لأنه ما دعى أحد لأخيه في ظهر الغيب إلا وكل الله له ملَكًا يجيبه : (( ولك بالمثل )) ، ونكتفي بهذا الكلام حتى لا نطيل فنخرج عن المقصود . والله أعلم .
القاعدة الحادية والثلاثون
الإيمان : قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان
هذه القاعدة هي من أعظم معتقدات أهل السنة والجماعة والتي خالفوا بها كثيرًا من الفرق الضالة ، وكل جزئية من جزئيات هذه القاعدة لها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة مبني على ثلاث ركائز :
الركيزة الأولى : الاعتقاد بالقلب : وهو من أهم ركائز الإيمان ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبريل عن الإيمان قال : (( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره )) ، وقبل ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ... } الآية ، وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } ، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدًا .(1/103)
الركيزة الثانية : قول باللسان : وهو في المرتبة الثانية بعد الاعتقاد بالقلب ولا يغني أحدهما عن الآخر أبدًا ، بل لا بد منهما جميعًا إذ الاعتقاد بلا إقرار لا يعد إيمانًا والإقرار بلا اعتقاد وهو عين النفاق ، قال تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل ... } الآية [ في سورة آل عمران ] وكذلك سورة البقرة ، فأمر الله تعالى فيهما بالقول أي بالنطق بالإيمان ولم يكتف بمجرد الإقرار ، وكذلك قوله تعالى : { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } فأمرهم بالنطق بالإسلام ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) وفي حديث ابن عمر : (( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله )) فعلق عصمة الدم والمال والنفس على النطق ولم يكتف بمجرد الاعتقاد .
واعلم أن هذه الركيزة أخرجتها من مسمى الإيمان الأشاعرة والماتريدية ؛ لأنهم قالوا : إن الإيمان هو مجرد الاعتقاد فقط ، والركيزة الأولى وهي الاعتقاد أخرجتها الكلابية فقالوا : إن الإيمان هو مجرد القول فقط ، فيلزم على هذا القول أن المنافق نفاقًا اعتقاديًا مؤمن كامل الإيمان ؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، ومما يدل على أهمية الجمع بين الاعتقاد والقول هو قول الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } فهم قالوا بألسنتهم ، لكنهم كذبوا في هذا القول ، ليس لأن المقول كذب ، بل لأن القائل كاذب فيما قال من الحق ، أي هم لم يقولوا كذبًا لكنهم كذبوا في هذه الشهادة بعينها لأنهم شهدوا بما ليس في قلوبهم ولذلك قال تعالى : { والله يعلم إنك لرسوله } فلما كذبهم في شهادتهم ؛ لأنهم لم يعتقدوا فدل ذلك على أهمية ارتباط القلب باللسان .(1/104)
الركيزة الثالثة : العمل : وهي ركيزة مهمة إلا أنها ليست كالركيزتين الأوليين ، فالأعمال من الإيمان ولاشك ، دل على ذلك الكتاب والسنة قال تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم ؛ لأن الصحابة لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة قالوا : كيف بإخواننا الذين ماتوا قبل ذلك كيف بصلاتهم فأنزل الله هذه الآية فسماها إيمانًا وهي عمل مما يدل على أن الأعمال داخلة في الإيمان ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من شعب الإيمان )) متفق عليه ، ومسلم : (( فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )) فعد إماطة الأذى عن الطريق إيمانًا وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس : (( أتدرون ما الإيمان )) . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس )) وهذه كلها أعمال فجعلها إيمانًا ، والأدلة على ذلك كثيرة مذكورة في غير هذا الموضع فالمقام مقام اختصار لا بسط والمهم أن تعرف أن أهل السنة والجماعة يقولون : إن الإيمان قول وعمل واعتقاد ، وأن المرجئة أخرجوا العمل والأشاعرة والماتريدية أخرجوا العمل والقول ، والكلابية أخرجوا الاعتقاد والعمل ، وأما الجهمية فقالوا : إن الإيمان هو مطلق المعرفة فمن عرف الله عزوجل فهو مؤمن كامل الإيمان وهذا قول يلزم عليه لوازم كثيرة باطلة ويكفي في بطلانه أن فرعون الطاغية وإبليس المطرود ومؤمن كامل الإيمان . قال الناظم :
إيماننا عقد وقول هكذا عمل فتلك ركائز الإيمان
والرد على هذه الأقوال مذكورة في كتب المطولات وإنما القصد التقعيد والله تعالى أعلى وأعلم .
طح
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الثانية والثلاثون
الإيمان يزيد وينقص(1/105)
هذه الظقاعدة حقها أن تذكر مع القاعدة قبلها لكن لكثرة المخالفين فيها أفردتها بالذكر حتى تخص بالدليل فأقول : قد دل الكتاب والسنة وإجماع السلف أن الإيمان بزيد وينقص فيزيد بالطاعات وينقص بالسيئات ، قال الناظم :
ويزيد بالطاعات إن قبلت كذا ك ويعتريه النقص بالعصيان
فمن فعل الطاعات فإنه يسمو بإيمانه حتى يبلغ تمامه ومن أسرف في المعاصي فإن إيمانه ينقص بحسب هذه المعصية لأن المعاصي تتفاوت فمنها ما هو كبير ومنها ما هو صغير .
وقد دل على ذلك الكتاب والسنة فمن الكتاب قوله تعالى : { ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم } وكل شيء قابل للزيادة فهو قابل للنقصان ، وقوله تعالى : { ويزداد الذين آمنوا إيمانًا } وقوله تعالى : { ويزيد الذين اهتدوا هدى } . واعلم أنه لم يرد لفظ النقص في الإيمان في القرآن أبدًا وإنما فهمناه من لفظ الزيادة فكل شيء قابل للزيادة فهو قابل للنقص ، وإنما ورد لفظ النقص صريحًا في السنة وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن )) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( الإيمان يزيد وينقص )) فهو ليس بصحيح ، بل عده بعضهم من الموضوعات ، وقد أجمع سلف الأمة على هذا ، إلا من شذ منهم ولا عبرة بشذوذه ، وقد ذكر العلماء أسباب زيادة الإيمان ونقصانه وهي أسباب كثيرة بجمعها أن نقول : إن كل طاعة واجبة أو مندوبة فهو سبب لزيادة الإيمان وكل معصية محرمة فهي سبب لضعفه . واعلم أن الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان يقولون : إن الإيمان جزء واحد لا زيادة فيه ولا نقصان ، ويلزم على هذا أن إيمان أفسق الناس كإيمان الأنبياء والرسل ، فهو قول فاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الثالثة والثلاثون(1/106)
كل فعل نفى الله الإيمان عن فاعله فلحرمته وكل فعل نفى الله الإيمان عن تاركه فلوجوبه
وقد قرر هذه القاعدة شيخ الإسلام أبو العباس في كتابه : ( الإيمان ) تقريرًا لا نزيد عليه فرحمه الله تعالى ، وخلاصة ما ذكر أن للإيمان كمالين كمال واجب لابد منه ، وكمال مستحب ، ومثل على الكمال الواجب بالأفعال التي نفى الله الإيمان عن فاعلها أو الأفعال التي نفى الله الإيمان عن تاركها ، فإنها دليل على وجوبها أو حرمتها وهي منافية لكمال الإيمان الواجب ولذلك أمثلة كثيرة :
منها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، فالزنى والسرقة وسرب الخمر أفعال نفى الله الإيمان عن فاعلها فهو دليل على حرمتها وأنها منافية لكمال الإيمان الواجب ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك الفعل عاد إليه الإيمان )) رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة ، وقال أبو إسماعيل البخاري : ( لا يكون هذا مؤمنًا تامًا ولا يكون له نور الإيمان ) وأدل العلماء هذا الحديث بأنه لا يكون له كمال الإيمان الواجب ؛ أي لا يزني حين يزني وهو تام الإيمان التمام الواجب وهكذا في البقية .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن )) . قالوا : من يا رسول الله . قال : (( من لا يأمن جاره بوائقه )) رواه مسلم ، فهذا فعل نفى الإيمان عن تاركه فدل على وجوبه فيجب على الإنسان أن يأمن جاره بوائقه وأن من لا يأمن جاره بوائقه فقد نقص إيمانه نقصًا ينافي التمام الواجب .(1/107)
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )) فمحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة التقديم على محبة الوالد والولد وأن من لم يفعل ذلك فقد نقص إيمانه نقصًا ينافي الكمال الواجب ؛ لأنه فعل نفى الله الإيمان عن تاركه فدل على وجوبه .
والأمثلة كثيرة والضابط أن تنظر في هذا الفعل فإن علق على فعله نفي الإيمان فهو دليل حرمته وإن علق على تركه نفي الإيمان فهو دليل وجوبه . والله أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الرابعة والثلاثون
الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا
اعلم أن النص الذي لا يرد فيه إلا ذكر الإيمان فقط فإنه يدخل فيه الإسلام والنص الذي لا يذكر فيه إلا الإسلام فإنه يدخل فيه الإيمان ، ومن ذلك قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } فإنه يدخل فيه الإسلام نصًا والإيمان تبعًا ، ومنه قوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه } أي الإسلام والإيمان ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس : (( هل تدرون ما الإيمان )) . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : (( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس )) وهذه أركان الإسلام فأراد بالإيمان ، الإيمان والإسلام ، وهذا معنى قولنا : إذا افترقا اجتمعا أي إذا لم يذكر إلا أحدهما فإنه يدخل فيه الآخر الذي لم يذكر تبعًا وهذا واضح .(1/108)
وإذا اجتمعا افترقا أي إذا ذكرا في نص واحد في سياق واحد فإنهما يفترقان أي كل واحد منهما يأخذ معنى آخر فيأخذ الإسلام معنى الأعمال الظاهرة ويأخذ الإيمان معنى الأعمال الباطنة ولا أدل على ذلك من قوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } فنفى عنهم الإيمان وأثبت الإسلام ، وكذلك يدل على ذلك حديث جبريل فقد ذكر أن الإسلام هو الأعمال الظاهرة وأن الإيمان هو الأعمال الباطنة ، وهذه القاعدة ليست خاصة بلفظ الإيمان والإسلام ، بل تدخل في ألفاظ كثيرة ذكرها الشيخ أبو العباس في كتاب ( الإيمان من الفتاوى ) ، فمنها لفظ الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، فيكون الفقير أشد حاجة من المسكين ومنه قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } فقدمهم الله تعالى لشدة حاجتهم وأما المسكين فقد يجد شيئًا ، لكن لا يكفيه ، بل قد يملك شيئًا لا يملكه غيره قال تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } فهم مساكين وعندهم سفينة إلا أنهم لا يجدون منها كفايتهم . ومنه لفظ الشرك والكفر فإذا اجتمعا فيكون معنى الشرك هو : اتخاذ الند لله تعالى يصرف له ما لا يجوز صرفه من العبادات ، والكفر معناه : إنكار معلوم من الدين بالضرورة ، كإنكار وجوب الصلاة ونحوها ، قال الناظم :
والسلم والإيمان إذ يتفرقا في النص قل شيئان متفقان
وإذا رأيتهم بنصٍ واحدٍ فإذا هما شيئان مختلفان
فالسلم في عمل الجوارح يا فتى وكذاك في عمل القلوب الثاني
والله أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الخامسة والثلاثون
أهل السنة والجماعة لا يسلبون مرتكب الكبيرة مطلق الإيمان ولا يعطونه الإيمان المطلق(1/109)
إن من القواعد المفيدة لطالب العلم هو التفريق بين مطلق الشيء والشيء المطلق ، فإذا قيل الشيء المطلق فيدخل فيه كل ما يطلق عليه هذا الشيء فإذا قلنا الإيمان المطلق فيدخل فيه كل ما يسمى إيمانًا ، وإذا قلنا المعرفة المطلقة فيدخل فيه كل ما يسمى معرفة ، وإذا قلنا المحبة المطلقة فيدخل فيه كل ما يطلق عليه محبة ، وإذا قلنا التوكل المطلق فيدخل فيه كل ما يطلق عليه توكل وهكذا ، وأما قولنا مطلق الشيء فإن يدخل فيه أدنى ما يطلق عليه هذا الشيء ، فإماطة الأذى عن الطريق من مطلق الإيمان ، وأدنى درجات التوكل أن يقال لها : مطلق التوكل ، وأدنى درجات المحبة يقال له : مطلق المحبة ، إذا عرفت هذه القاعدة أعني قاعدة الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق فإنها تعتبر قاعدة كبرى يدخل تحتها قواعد كلية ومنها هذه القاعدة التي معنا فأهل السنة والجماعة يحكمون على مرتكب الكبيرة بحكمين :
الأول : أنهم لا يسلبونه مطلق الإيمان أي لا يقولون إنه ليس معه أدنى درجات الإيمان كما تقوله الخوارج والمعتزلة ، بل معه من الإيمان مطلقه ، أما الخوارج والمعتزلة ويقال لهم : الوعيدية فإنهم يسلبونه مطلق الإيمان ولذلك حكموا عليه بالكفر وبالمنزلة بين المنزلين ، وهذا مخالف للأدلة الشرعية ، وهم كذلك أعني أهل السنة والجماعة لا يعطونه الإيمان المطلق أي لا يحكمون له بالإيمان الكامل ، بل يعطونه إيمانًا ناقصًا بقدر هذه الكبيرة ة، بخلاف المرجئة الذين يعطونه الإيمان المطلق وهو مخالف للأدلة الشرعية فصارت المذاهب عندنا في مرتكب الكبيرة كما يلي :
أهل السنة : لا يسلبونه مطلق الإيمان ولا يعطونه الإيمان المطلق ، والخوارج والمعتزلة : يسلبونه مطلق الإيمان ، والمرجئة تعطيه الإيمان المطلق وقد ذكرنا ذلك في القاعدة السادسة فارجع إليها ، قال الناظم :
والفاسق الملي بالعصيان لا يسلبن مطلق الإيمان
كذلكم لا يعطين مطلقه من دون تقييد بما قد فسقه(1/110)
بل مؤمن بباقي الإيمان وفاسق بالفسق والعصيان
وأماني الآخرة فأهل السنة يجعلونه تحت المشيئة إن شاء غفر الله له وإن شاء عذبه بذنوبه ثم يدخله الجنة ، وأما الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون هو خالد مخلد في النار - وتقدم هذا الكلام في قاعدة الوسطية - ، والله أعلى وأعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة السادسة والثلاثون
يجب الإيمان بالشفاعة التي دل عليها الدليل الصحيح(1/111)
وهذه القاعدة أيضًا من مميزات أهل السنة والجماعة فإن أهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع الشفاعات التي دل عليها الدليل وأما غيرهم فإنهم ينكرون بعضها كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - ، فالشفاعة لغة : ضد الوتر وهي ضم شيء إلى شيء . وشرعًا : طلب الخير للغير بجلب محبوب أو دفع مكروه ، واعلم أنه قد أثبت الدليل ثماني شفا عات يجب أن تؤمن بها كلها منها ما هو خاص ومنها ما هو عام ، فالشفاعات الخاصة ثلاث : الأولى : الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود المراد بقوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودا } ، ودليلها حديث أبي هريرة الطويل المتفق عليه ، الثانية : شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة ليدخلوا الجنة فإن أهل الجنة يأتونها وأبوابها مغلقة فلا يفتح الخازن إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد فيقول بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك )) ، والثالثة : شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب وهي شفاعة تخفيف لا إخراج وهي خاصة بأبي طالب وإلا فالشفاعة في المشركين لا يؤذن بها فعن العباس بن عبد المطلب أنه قال : يا رسول الله هل نفعت أب طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك . قال : (( نعم هو في ضحضاح من نار ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار )) وفي رواية : (( إن أهون أهل النار عذابًا لرجل توضع في قدميه جمرة من نار يغلي منها دماغه وإنه ليرى أنه أشد أهل النار عذابًا )) ، فهذه الثلاث خاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، قال الناظم :
وعليك إثبات الشفاعة إن أتت في السنة الغراء والقرآن
كشفاعة المختار في فصل القضا وبعمه ودخولهم بجنان
وبرفعة الدرجات في دار الرضى وبمن أتى بكبائر العصيان
لا يدخلون النار أو أن يخرجوا بعد الدخول لجنة الرحمن(1/112)
وشروطها إذن الإله كذا الرضى ودليلها في النجم دون تواني
وأما بقية الشفاعات فهي عامة للأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين من المؤمنين وهي كما يلي : شفاعتهم فيمن استحق النار أن لا يدخلها ، وشفاعتهم فيمن دخلها أن يخرج منها وهي التي تنكرها المعتزلة والخوارج وأحاديثها متواترة لفظًا ومعنى ، وشفاعتهم في أهل الأعراف ، وشفاعتهم في رفع درجات بعض المؤمنين في الجنة ودليلها حديث أم سلمة في مسلم في دعائه لأبي سلمة ، والشفاعة في قومٍ يدخلون الجنة بغير جزاء ولا عذاب ، ودليلها متفق عليه من حديث حصين بن عبد الرحمن وسعيد بن جبير عن ابن عباس ، فيجب عليك أن تؤمن بهذا كله إيمانًا خاليًا من الزلل ، ثم اعلم أنه لا يملك أحد الشفاعة عند الله تعالى إلا بعد شرطين الإذن والرضى قال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } قال تعالى : { لا يشفعون إلا لمن ارتضى } وجمع بينهما في قوله : { وكم من ملَك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لم يشاء ويرضى } .
ومن هنا نعرف خطأ الذين يطلبون الشفاعة من أوليائهم وشياطينهم فقد قال تعالى : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فكل شفاعة فيها شرك فإنها منتفية يوم القيامة ، والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة السابعة والثلاثون
المعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء(1/113)
المعجزة هي : الأمر الخارق للعادة يجريه الله تعالى على أيدي أنبيائه ورسله تصديقًا لهم بدعواهم الرسالة ، بل هي الفرق بين الصادق والكاذب ، وهذه المعجزات الابتدائية هي التي يجريها الله تعالى على يد الرسل ابتداءً أي بلا طلب من المدعوين كإنزال القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو معجزة وقريش لم تطلب ذلك ، وكذلك تكوين الطير والنفخ فيه وإحياء الموتى هي معجزة عيسى - عليه الصلاة والسلام - أجراها الله تعالى على يديه بلا طلب من بني إسرائيل وهكذا ، وأما المعجزات الطلبية فهي المعجزة التي لم يجرها الله تعالى على أيدي رسله إلا بعد طلب قومهم ذلك فمن ذلك أن المشركين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - شق القمر فشق القمر فهي معجزة جاءت بعد طلب قال تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } ومنه الناقة وهي معجزة نبي الله صالح جاءت بعد طلب قومه قال تعالى : { فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } وهي كثيرة ، وليست كل ما طلبه القوم أجابهم الله تعالى له ، بل قد يسألون ولا يجابون كما قال تعالى : { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ... } الآيات ، ولم يجابوا لشيء منها . واعلم أن معجزات الأنبياء تكون مناسبة لما يعرفه القوم واشتهروا به ، فقريش اشتهروا بالفصاحة التي فاقوا بها العرب فأنزل الله تعالى القرآن بلسان عربي مبين من أفصح الكلام وأبينه وأبلغه ، بل ومع هذا تحداهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة ، ولم يقدروا على ذلك . وكذلك قوم موسى لما اشتهروا بالسحر وعمله حتى برعوا فيه جعل الله تعالى معجزة موسى - عليه السلام - من باب تغيير الحقائق لكن ليس سحرًا وإنما هو حقيقة ، حتى رأى السحرة من ذلك فكانوا أول من آمن لعلمهم أنه لا يقدر على هذا بشر .(1/114)
ولما كان قوم عيسى مشتهرين بالطب أجرى الله تعالى على يد نبيه عيسى - عليه السلام - أمورًا من الطب لكن طب رباني من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وهكذا . واعلم أن كل المعجزات انتهت بانتهاء وقتها إلا معجزة نبينا - صلى الله عليه وسلم - التي هي القرآن فإنها معجزة خالدة إلى قيام الساعة .
وأما الكرامة : فهي أيضًا أمر خارق للعادة يجريه الله تعالى على أيدي أوليائه إظهارًا لشرفهم وقدرهم عنده ، وهي كثيرة جدًا فمنها كرامة الصديقة مريم ، وهي أنها ولدت نبيًا بلا زواج ، ومن ذلك نداء عمر وهو في المدينة : ( يا سارية الجبل وهو في الشام فسمعه ) ، وهو كثير يراجع فيه كتاب اللالكائي وهو مطبوع مع كتابه شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة . إلا أنه ينبغي التنبيه على أمرين مهمين :
الأمر الأول : لا ينبغي طلب الكرامة وليس منهجًا شرعيًا وإنما قلت هذا لأن بعض أهل البدع يبحثون عنها فبعضهم يحجر نفسه مع حية ويمسكها إذا لم تلدغه ادعى أنها كرامة وبعضهم يحبس نفسه مع أسد وبعضهم يمر في النار كل هذا بحثًا عن الكرامة وهذا ليس هو منهج السلف ، بل السلف تعبدوا الله تعالى لا بحثًا عن الكرامة إنما إخلاصًا لله تعالى ومتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا جاءت الكرامة لم يعرفوا بأنها كرامة إلا بعد مرورها وهذا هو الصواب . فمن يتعبد لله تعالى بحثًا عن الكرامة فهو على خطر عظيم إذ مبنى الأعمال على الإخلاص والمتابعة .(1/115)
الأمر الثاني : النظر فيمن يدعي الكرامة أي النظر في هذا الذي وقعت منه الكرامة فإن كان على منهج السلف الصالح في العقيدة والعمل فهي كرامة رحمانية وإن كان من المبتدعة الضلال الذين خالفوا شرع الله تعالى عملاً ومعتقدًا فهؤلاء كذابون فيما ادعوه وإن ظهر على أيديهم بعض خوارق العادة فإنما هي تلبيس من الشياطين والجن حتى يفتنوا الناس به ، بل ذكر شيخ الإسلام أبي العباس أن أحدهم قد يمشي على الماء أو يطير في الهواء أو يدخل الجمر في فيه أو يمر في النار وكل هذا أحوال شيطانية وخوارق إبليسية فاحذر منهم فإن كثيرًا من الناس ضلوا بهذا الفعل ضلالاً بعيدًا ، إذا علمت هذا فاعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بمعجزات الأنبياء والتصديق بكرامات الأولياء وأن المقصود من المعجزات إظهار صدق الأنبياء والمقصود من الكرامات إظهار شرف الأولياء ، قال الناظم :
ونؤمن بمعجزات الأنبيا كذا كرامات عبادٍ أوليا
القاعدة الثامنة والثلاثون
لا يجوز الاحتجاج بالقدر إلا في المصائب لا المعائب(1/116)
ونعني بالمعائب أي المعاصي فلا يجوز أن يعصي الإنسان ويحتج بالقدر فيها فيقول : أنا عصيت بقدر الله ، وإلا لو كان الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية حجة مقبولة لفسدت الشرائع ولجاز لكل عاصٍ أن يقول : أنت الذي قدرت على فعل هذه المعصية ولذلك أبطل الله تعالى بالقدر في كتابه الكريم لما احتج به المشركون فقال تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء } فكذبهم الله تعالى في هذه الحجة الداحضة فقال : { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } واحتج سارق على عمر فقال : سرقت بقدر الله . فقال عمر : وأنا أقطع يدك بقدر الله ، ولأن الإنسان له مشيئة وقدرة واختيار ولا يعلم قبل فعل المعصية هل الله قدرها عليه أم لا ، ولأننا نرى الناس يحتجون بالقدر في أمور الخير فلم نسمع أحدًا صلى ركعتين وقال : صليت بقدر الله ، بل لا يحتجون بالقدر إلا على الاستمرار في المعصية ، وكذلك لا نرى الناس يحتجون بالقدر في أمور الدنيا فلا ينام أحدهم في بيته ويقول : إن كان الله قد كتب أن آخذ الراتب آخر الشهر فسيكون ولا يقول أحدهم أنا لن أتزوج وإن كان الله تعالى قد كتب أنه سيكون لي أولاد فسيكون ولو بلا زواج ، بل الناس لا يصفون من يقول هذا إلا بأنه مجنون فكيف يحتج بالقدر على ترك العمل في أمور الآخرة ولذلك لا يجوز الاحتجاج بالقدر على الشرع أبدًا ، وإذا علمت هذا فاعلم أن الذين يجوزون الاحتجاج بالقدر على فعل المعصية يحتجون بحديث أبي هريرة الذي رواه مسلم من أن آدم احتج على موسى بأن الله هو الذي قد عليه أن يأكل من الشجرة فقال : ( أفتلومني على أن عملت عملاً قد كتبه الله علي أن أعمله قيل أن أخلق بأربعين سنة ) . قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( حجج آدمُ موسى )) فالأكل من الشجرة كان معصية ومع ذلك احتج آدم على فعل هذه المعصية بقدر الله ، فنقول لهم : بل هذه حجة عليكم لا لكم ، وبيانه من وجهين :(1/117)
الأول : أن آدم لم يحتج على موسى بالقدر لأنه أكل من الشجرة وإنما لأنه خرج من الجنة فهو احتج بالقدر على مصيبة لا معصية فإن موسى قال له : ( أخرجتنا من الجنة بخطيئتك ) هذا أولاً .
وثانيًا : أن آدم تاب من هذه المعصية وعلى ذلك نقول : يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إذا تاب الإنسان منها فإذا تاب الإنسان من المعصية وقيل : لم عصيت فله أن يقول : عصيت بقدر الله ، لكن المحظور هو أن يحتج الإنسان بالقدر على معصية لا زال مواقعًا لها حتى يبرر موقفه أمام الناس .
أما المصائب فيجوز أن يحتج الإنسان بالقدر عليها فإذا أصابت الإنسان مصيبة فله أن يقول : أصابتني بقدر الله تعالى وعليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أصابك شيء فلا تقل لو أنه كان كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل )) . قال الناظم :
قل ليس في القدر المقدر حجة كي يستمر على الذنوب الجاني
لكنه عند المصائب فرجة أو عند توبتنا من العصيان
والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة التاسعة والثلاثون
كل من ورد الثناء عليه في القرآن والسنة فإنه يموت على ذلك(1/118)
هذه القاعدة لطمة في وجوه الخوارج والشيعة والناصبة الذين كفروا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرجوهم من الإيمان فإذا قيل لهم كيف تخرجونهم من الإيمان وقد ورد الثناء عليهم بالرضى والمغفرة في القرآن يقولون : هذا قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أما بعد وفاته فإنهم قد ارتدوا على أعقابهم وكفروا وصاروا حربًا على الإسلام والمسلمين ، فنقول : كذبتم ثم كذبتم ، يا أفراخ إبليس والله أنتم الحرب على الإسلام والمسلمين أنتم الفجار الخونة الذين فتحتم لأعداء الإسلام أبوابكم وقدمتم له دولة الإسلام سهلة سائغة وتاريخكم يشهد بذلك ، إن كان من مرتد فهم أنتم وإن كان من عدو فهو أنتم أما الأطهار الأخيار من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا وألف لا ، بل هم حماة الدين وهم أهل الجنة - رضي الله عنهم - رضى سطره في كتابه الكريم ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ ، فمن ورد الثناء عليه في القرآن فإنه يموت على ذلك ولا شك فلو كان الأمر كما قاله هؤلاء الفجار لصار كله تلبيسًا إذ يصير الأمر أننا نترضى عن أناس كفروا والترضي عن الكفار لا يجوز ، فهذه القاعدة مهمة لطالب العلم فليبحث عن أطرافها ، قال الناظم :
بل كل من أثنى عليه مليكنا بالمدح أو بالذم في القرآن
فلأنه سيموت وفق ثنائه كصحابة المعصوم والشيطان
والله أعلم .
القاعدة الأربعون
أهل السنة لا يكفرون المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع(1/119)
اعلم أن التكفير إما ينصب على الأفعال وإما على الأشخاص فأما إن انصب التكفير على الفعل فهذا جائز ولا بأس به ، بل هو منهج السلف فإن السلف يحكمون على الأفعال وقليلاً ما يحكمون على الأشخاص ومثال الحكم على الفعل كقولهم : من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر ، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر ومن أنكر شيئًا مما وصف الله به نفسه كفر ومن ترك الصلاة تهاونًا وكسلاً فقد كفر وهكذا ، فهذا الأمر جائز لا بأس به ، وأما تكفير الأشخاص فهذا هو الذي خاف منه السلف وحذروا منه لأن الحكم بالتكفير ليس حكمًا سهلاً ، بل إنه يلزم عليه لوازم عظيمة من حرمان ورثته الميراث وعدم دفنه في مقابر المسلمين وعدم الترضي عليه ولا يغسل ولا يكفن ولا يدعى له بالرحمة ولذلك أعظم السلف هذا الأمر أشد الإعظام وهابوا منه أشد الهيبة .(1/120)
ولذلك وضعوا لتكفيره شروطًا وموانعًا إذا تحققت جميعها وانتفت الموانع فيجوز حينئذٍ ، وهذه الشروط هي : أن يكون فاعل الكفر بالغًا وبناءً عليه فلو فعله صغير لم يكلف فلا يحكم عليه بالكفر لأن القلم مرفوع عنه ، ومن الشروط : أن يكون عاقلاً وبناءً عليه لو فعل المجنون كفرًا فلا يحكم عليه بأنه كافر إذ لا تكليف عليه ، والقاعدة تقول لا تكليف إلا بعقل وفهم خطاب ، ومن الشروط : أن يكون عالماً ذاكراً بالحكم فإن فعل الكفر وهو جاهل بأنه يكفر فلا يحكم عليه بالكفر لأن تكليف النفس بما لا تعلم تكليف لا يطاق وقد قال تعالى : { لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها } وقال : { ربنا لا توآخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، ومن الشروط : أن لا يكون مكرهًا فإن كان مكرهًا على قول الكفر أو فعله فلا يكفر لأن الإكراه مسقط للتكليف قال تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ، ومن الشروط كذلك : أن لا يكون متأولاً فإن فعل أو قال كفرًا متأولاً فإنه لا يكفر ، بل تقام عليه الحجة الرسالية . فهذه الشروط التي نعرفها عن العلماء وقرأناها في كتبهم ، واعلم أن ضد كل شرط مانع من الموانع فضد البلوغ الصغر فالصغر مانع ، وضد العقل الجنون ، وضد العلم الجهل ، وهكذا بقية الشروط ، فإذا توفرت هذه الشروط وانتفت الموانع فلا يؤاخذ الإنسان إذا حكم حينئذٍ بالكفر وقد ثبت عن السلف تكفير بعض المعينين فشيخ الإسلام ثبت عنه تكفير ابن عربي الطائي الحلولي وابن سينا الملحد الزنديق ، وغيرهم ، واعلم أنه لا يكفي في قيام الحجة بلوغها ، بل لابد من بلوغها وفهمها ، والله تعالى أعلى وأعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الحادية والأربعون
يجب التثبت في الأخبار إن كانت من الفاسق(1/121)
ومستند هذه القاعدة هو قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } منهج إلهي عظيم يأمر بالتثبت في الأخبار التي تروى لا يعلم قائلها أو الأخبار التي جاءت على الذين لا يؤمنون بالأخبار ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في الأرض فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليك السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا } فأمر بالتبين والتثبت في آية واحدة مرتين والأحاديث في ذلك كثيرة كحديث المقداد بن الأسود وأسامة بن زيد وصفوان بن محرز المخرجه في الصحيحين وبعضها في مسلم ، فالإنسان عليه أن لا يستعجل بإصدار الحكم على مجرد وصول الخبر إليه ، بل عليه بالتثبت أولاً لأنه قد يندم على إصداره لهذا الحكم إذا تبينت الحقائق وانكشفت الأمور وإذا هو قد ظلم المشاع عنه ، ففي التأني السلامة وفي العجلة الندامة وإن الناس لو لم يصدقوا هذه الشائعات التي تذاع بين الفينة والأخرى لارتاحوا وأراحوا ولو لم يتكلم الناس ويشغلوا بها مجالسهم لسقط ثلاثة أرباع كلامهم إلا أن بعض الناس هداه الله عنده همجية وعفن فهمه فتراه يبني أحكامه وآراءه على مجرد أوهام وظنون لا صحة لها ، وهذا حال كثير من أهل زماننا ، بل يحصل بينهم من التطاحن وقطع السلام والهجر بسبب هذه الإشاعات والأراجيف الشيء الذي يندى له الجبين ونشكوه إلى الله تعالى فالواجب هو التأني والبحث عن مصدر الخبر فإن كان صوابًا واقتضى الحال أن تحكم فاستعن بالله تعالى واسأله التسديد وإلا فالصمت فيه نصف السلامة ومن صمت نجا ، والله تعالى أعلم .
القاعدة الثانية والأربعون
من الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه(1/122)
بعض الناس هداه الله تعالى عنده حب البحث على الخطأ فالخطأ ضالته فتجده يتقصص كتب العلماء لا بحثًا عن الفائدة وإنما بحثًا عن الزلة فهو كالذباب لا يقع إلا على كل قبيح فإذا ظفر بالخطأ قال : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ) فطار به في المجالس هذا الرجل فيه كذا وكذا وعنده من الخطأ كيت وكيت ، فإذا بحثنا عن هذا الرجل وجدنا له في الإسلام أيادٍ مشكورة وآثار محفوظة فكم خدم الإسلام بكتاب وتعليم علم ، فصوابه كثير وخطأه قليل ، وهذا الرجل لا يبث إلا خطأه وهذا خطأ ولاشك ، بل الإنصاف أن يغتفر هذا الخطأ اليسير وأن يبحث له عن التأويلات المناسبة إذا كان المقام يحتمل ذلك أما أن يحذر من هذا الرجل على الإطلاق فهذا ليس بصواب ، بل الإنصاف أن يغتفر فقليل خطأ المرء في كثير صوابه ، فمن الذي لا يخطئ ومن هو المعصوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلو أننا قدحنا في كل من أخطأ فإنه والله لا يسلم أحد حتى صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم ليسوا بمعصومين إلا فيما أجمعوا فيه أما آحادهم فلا ، والمراد أن الإنسان لا ينظر إلى الخطأ مطلقًا ويترك الصواب ولا يترك الخطأ مطلقًا وينظر إلى الصواب بل يحذر من الخطأ حتى لا يقع الناس فيه ولا وثلب على الرجل ، بل يذكر أن له محاسنًا وأنه ليس بمعصوم .(1/123)
لكن عنده من الأخطاء كيت وكيت فحذر من الخطأ لذات الخطأ بغض النظر عن قائله ما أمكن وإلا فلا تنس جانب الخير عند كثير الإصابة بقليل الخطأ ، والله يتولانا وهو أعلم بنا ، والذي دعاني لهذه القاعدة والتأكيد عليها هو ما انتشر في هذه الأزمان من الكلام على أئمة في العلم كالإمام النووي وابن حجر وابن الجوزي ، وغيرهم من أئمة الحديث الذين لا نعرف عنهم إلا حسن السيرة وسلامة النية أتعبوا أنفسهم في تأليف العلم خدمة لله تعالى وخدمة لأهل العلم إلا أننا نقول : إنهم ليسوا بمعصومين ولا يخلون من الأخطاء فهم مخالفون لمنهج أهل السنة في الأسماء والصفات غالبًا ، لكن لا يكون هذا ذريعة لرد ما عندهم من الحق والصواب فالحق مقبول مما جاء به وإن كان أكذب الناس والباطل مردود ممن جاء به وإن كان موصوفًا بالصدق ، فهؤلاء لاشك أن لهم أيادٍ مشكورة في الإسلام وخدمة السنة إلا أن عندهم هذا الخطأ فهو مردود ، لكن لا نتكلم على ذواتهم ونكثر اتهامهم والحط من منزلتهم هذا لا يجوز ، اللهم إنا نبرأ إليك من كل ما يخالف شرعك ، والله أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
القاعدة الثالثة والأربعون
الأصل هو إحسان الظن بالمسلمين
بل هذه من حق المسلم على المسلم أن يحسن الظن به ولا يتهمه بمجرد الإشاعات أو أقوال لا سند لها ، بل الواجب أن نحسن الظن بكلامه وأن نحمل عبارته محملاً حسنًا وعلى المعنى الأقرب إلى المعنى الطيب .(1/124)
فقد أمرنا بإحسان الظن بالمسلمين ففي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة يقول : (( ما أطيبك وأطيب ريحك وما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن لا يظن به إلا خيرًا )) رواه ابن ماجة ، ففي هذا الحديث حث على تغليب إحسان الظن والابتعاد عن ضده وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً ) وعن سعيد بن المسيب قال : كتب إلي يعض إخواني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتيك ما يغلبك ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً ) ، ومن الصور الجميلة التي تذكر في هذا المجال أن الربيع بن سليمان أحد تلامذة الشافعي دخل على الشافعي وهو مريض فقال له : ( قوَّى الله ضعفك ) . فقال الشافعي : لو قوى الله ضعفي لقتلني . فقال الربيع : ( والله ما أردت إلا الخير ) . فقال الشافعي : أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير .
فقد يخطئ الرجل ويستعمل كلمة محتملة أو في غير محلها ولكنه لا يقصد المعنى الخبيث ولابد من النظر إلى مقصد الرجل وأحواله كما قاله غير واحدٍ من أهل العلم ، لكن إذا نظرت إلى أحوال بعض الناس وجدتهم يقلبون هذا الأصل ويجعلون إساءة الظن بالناس هي الأصل عندهم وهذا مخالف للأدلة ، فلا تراهم يسمعون كلمة تحتمل مائة احتمال صواب واحتمالاً واحدًا خطأ إلا يحملونها على هذا الواحد وهذا فيه من سوء النية وحنث الطوية وفساد المقصد الشيء الكثير .
فالواجب هو إحسان الظن إلا إذا ظهر خلاف ذلك فمن أظهر لنا سوء النية فمن السذاجة أن نحسن الظن به ، لكن من لم يعرف عنه إلا الخير والصلاح وخدمة العلم والدين فالواجب هو إحسان الظن به ، والله أعلم .
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ
ظ(1/125)
القاعدة الرابعة والأربعون
كلام الأقران يطوى ولا يروى
ونعني بالأقران أي الذين تساووا في السن والعلم فإن الإنسان مجبول على حب الظهور وخاصة على أبناء جنسه ، فإذا رأى من في سنه قد فاقه في العلم والزهد والتفات أنظار الناس إليه فإنه سوف يحس من نفسه الغيرة من هذا الرجل فتجده يقدح فيه من حيث يشعر أو لا يشعر حتى يصرف أنظار الناس إليه فهذا الكلام حقه أن يطوى أي لا يقبل ولا يذكر ولا يروى أي لا يقال : إن فلانًا يقول في فلان كذا وكذا ، وهذه قاعدة يقررها علماء السلف وجهابذة الجرح والتعديل ، قال ابن عباس : ( خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة ) ، وقال مالك بن دينار : ( يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسدًا من التيوس ) ، وقال الذهبي : ( كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلا من عصمه الله تعالى وما علمت أن عصرًا من العصور سلم منه أهله من ذلك ، سوى الأنبياء والصديقين ولو شئت لسردت في ذلك كراريس ) وهذه القاعدة تعتبر من قواعد العدل والإنصاف ، فمن الظلم أن نستشهد بكلام الأقران بعضهم في بعض والأمثلة على ذلك مذكورة في كتب الجرح والتعديل وكتب سير الأعلام وخاصة سير أعلام النبلاء ، والله أعلم .
القاعدة الخامسة والأربعون
ليس كل من فعل الكفر أو قاله يحكم عليه بمقتضاه(1/126)
وقد تقدم معنى هذه القاعدة إلا أن الذي تجدر الإشارة إليه أن يقال : ليس كل من وقع في الكفر كَفَرَ وليس كل من وقع غي البدعة بدع وليس كل من فعل الفسق فسق بل لابد من توفر الشروط السابقة وانتفاء الموانع ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنه كان فيمن كان قبلكم رجل أسرف على نفسه بالذنوب فقال لأولاده إذا مت فأحرقوني ثم ذروني في يوم ريح حتى لا يقدر علي ربي فيعذبني )) فبعثه الله فقال : لم فعلت ذلك قال خوفًا منك . قال : قد غفرت لك ، فهذا الرجل أنكر البعث وأنكر قدرة الله ومع ذلك لم يحكم عليه بالكفر لوجود المانع وهو شدة الخوف وكذلك الرجل الذي قال : ( رب أنت عبدي وأنا ربك )) لم يكفر ، بل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتذرًا له : (( أخطأ من شدة الفرح )) وكذلك ما فعله خاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - كفيل بأن يحكم عليه بمقتضاه ، لكن بين عذره فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فالواجب الحذر والتثبت في كل شيء عامة وخاصة في مسائل التكفير والتفسيق ، والله أعلم .
القاعدة السادسة والأربعون
مذهب أهل السنة أن لا نحكم لمعين بنار ولا جنة إلا من شهد له النص بذلك
وذلك لأن هذه الأمور غيبية لا ندري عنها والأمور الغيبية مبناها على الدليل كما مضى ، لكن من شهد له النص بذلك فيجب علينا اعتقاد ذلك كالعشرة المبشرين بالجنة ، وثابت بن قسس بن شماس ، وعكاشة بن محصن ، وخديجة بنت خويلد ، وغيرهم ، ومن سهد له النص بالنار شهدنا له بذلك كأبي لهب ، والوليد بن مغيرة ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن لحي ، وغيرهم ، وهي قاعدة مضمونة واضحة لا تحتاج إلى تطويل ، قال الناظم :
لا تشهدن له بنارٍ أو رضى وبجنةٍ من دونما برهان
والله أعلم .
القاعدة السابعة والأربعون
يحكم على الناس بالظاهر ولا نتعرض للنيات(1/127)
وهذا هو الواجب فالنيات والسرائر أمرها إلى الله تعالى ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها حديث أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله فلامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاتبه على ذلك حتى تمنى أنه لم يسلم إلا يومئذٍ ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا )) وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس )) ويا ليت أهل زماننا يفقهون هذا الأدب الكريم فاتركوا النوايا للذي يعلم السر وأخفى ولا تتعرضوا لها ولا تقولوا : إن هذا الرجل يقصد كذا وكذا ، بل خذوا الناس بالظاهر ودعوا سرائرهم إلى الله ، والله أعلم .
القاعدة الثامنة والأربعون
لازم القول ليس بقول إلا بعد عرضه وقبوله
اللوازم عندنا نوعان : لوازم من كلام الله ورسوله فهي حق كلها لأنها حق ولازم الحق حق ، وأما اللازم من كلام غيرهما فلا يخلوا من ثلاث حالات : إما أن يعرض عليه فيقبله فينسب إليه ويحكم عليه به ، وإما أن يعرض عليه ولا يقبله فلا يجوز نسبته إليه أبدًا ، وإما أن لا يعرض عليه أو عرض عليه فلم يرده ولم يقبله فالأصل عدم نسبة القول إليه لأن الإنسان قد يغفل عن لوازم كلامه وليس كل أحدٍ يعرف ما هي اللوازم من هذا الكلام فلا ينسب إليه ، والواجب تقوى الله تعالى وأن لا يحمل كلام الناس ما لا يحتمله وأن ننسب إليهم ما لا يقبلونه لا سيما إذا كان هذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام لا يعرف عنه إلا سلامة الصدر وحسن النية ، والله أعلم .
القاعدة التاسعة والأربعون
الحق يقبل ممن جاء به والباطل يرد ممن جاء به(1/128)
وهذه قاعدة عظيمة ومهمة تقتل شهوة النفس وتبين تقديم الشرع على الهوى ومقدار التعصب في كل أحد ، إذا علمت هذا فاعلم أن الحق المذكور هو ما وافق الدليل والباطل هو ما خالفه ، فكل شيء وافق قول الله أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حق وكل شيء خالفهما فهو باطل ، ثم اعلم أن أهل السنة والجماعة يقبلون الحق لذات الحق أي لأنه حق بغض النظر عن الذي جاء بالحق أحرٌّ هو أم عبد صالح أم طالح أبشر أو جن المهم أنه حق فالحق مقبول ممن جاء ، وكذلك الباطل فإنهم يردونه لذاته بغض النظر عمن جاء به ، فهو مردود إن جاء به أصدق الناس لأنه باطل ، والحق مقبول وإن جاء به أكذب الناس لأنه حق فلذلك نجد الله تعالى قبل الحق من المشركين وذلك في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } فهم احتجوا على فعلهم للفاحشة بأمرين : الأول : أنهم وجدوا عليها آباءهم ، والثانية : أن الله تعالى أمرهم بها ، ولكن الجواب لم يأت إلا عن حجة واحدة وهي قولهم : ( والله أمرنا بها ) فأين الجواب عن الثانية ؟(1/129)
إنه ليس هناك جواب عنها فهي حق فهم وجدوا آباءهم على هذه الفواحش من الشرك وغيره والحق يقبل ممن جاء به فالله تعالى قبل الحق الذي قاله المشركون ، وكذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبل الحق الذي جاء به الشيطان والشياطين من أكذب خلق الله تعالى وذلك في حديث أبي هريرة : والشيطان يأخذ من الزكاة ثلاثة أيام وكل مرة يهم يرفعه لكنه يعتذر إليه خير ويتركه ويرفع الأمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول : (( كذبك وسيعود )) وفي المرة الأخيرة قال هذا الشيطان لأبي هريرة : ألا أخبرك بشيء إذا قلته لا نأتيك . قال : بلى . قال : تقرأ آية الكرسي حتى تختمها فرفع الأمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( صدقك وهو كذوب )) أي أن الذي قاله حق فاقبله لكن أصله أنه كذوب ، لكن كذبه هذا لم يكن سببًا لرد ما جاء به من الحق ، ولو قال لنا الشيطان : إن الله واحد أحد فرد صمد ، لقبلنا منه هذا الكلام ليس قبولنا لكلامه لأنه كلامه وإنما قبلناه لأنه حق موافق الدليل .(1/130)
إذًا بهذه القاعدة تعرف خطأ كثير من الناس - هداهم الله - من أنهم إذا وجدوا على عالمٍ أو شخصٍ خطأ من الأخطاء فإنهم يجعلون هذا الخطأ عذرًا لرد ما معه من الصواب فتراهم إذا قيل صوابًا ونسب إلى هذا الرجل تتغير وجوههم ويقولون كيف تنقلون من المبتدع الفلاني أو ليس عنده من الأخطاء كيت وكيت ، وهذا مخالف لمنهج السلف ، بل تحامق بعضهم وتمادى به حمقه إلى أن أحرق الكتب التي يجد فيها خطأ من بين ألف صواب وهذا والله منهج خطير إذ من يروم العصمة من الخطأ في الفروع والعقيدة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلنا خطاءٌ ، بل الخطأ طبع في الإنسان ومن يسلمُ لنا إذا جعلنا شرط قبول الصواب من أحدٍ هو عدم خطأه ، بل هذا الذي يبحث عن الأخطاء هو نفسه خَطَّاءٌ فبحثه عن الخطأ ليفضح لا لينصح خطأ حَدِّ ذاته ، ولا يفهم أننا نتميع في العقيدة ـ فإن هذا من سوء الظن ، بل المراد هو أن نقبل الحق الموافق للدليل ممن جاء به ورد الباطل المخالف للدليل ممن جاء به والبحث عن الأشخاص والحكم عليهم بخطأهم له موضع آخر وليس هو من دأبنا ولله الحمد ، بل دأبنا الستر على أخطاء العلماء إلا ما اقتضت النصيحة لله وللمسلمين بإخراجه فنخرجه ولا نخاف في الله لومة لائم ، فنحن ندع العلماء والحكم عليهم للعلماء ونتمثل دومًا قول القائل : ( من لم يبصر عيوب نفسه عميت عينه عن محاسن غيره ) ، والله أعلى وأعلم .
القاعدة الخمسون
العدل أكبر مقاصد الشرع(1/131)
وهذه القاعدة تبين أن هذه الشريعة وسط بين الجافي والغالي وبين المُفْرِطْ والمُفَرِّطْ ، وذلك أن العدل من أكبر الأشياء التي اهتمت بتقريرها هذه الشريعة العظيمة ، فالتوسط سمة ظاهرة في هذا الدين وفي هذه الأمة حيث حضها الله تعالى بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب فالشرع مبناه على العدل والاقتصاد ، والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها كالفردوس الذي هو أعلى الجنة وأوسط الجنة فمن كان في اعتقاده وعبادته معتدلاً فمصيره إليها - إن شاء الله تعالى - .(1/132)
وأدلة هذه القاعدة كثيرة جدًا ، فمنها قول الله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } والوسطية هنا من أعظم ما تمتاز به هذه الأمة - زادها الله تعالى شرفًا ورفعة - ، قال العلماء : أي خيارًا عدولاً ، وكذلك حديث أنس قال : جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : ( أما أنا فإني أصلي الليل ولا أنام أبدًا ) . وقال آخر : ( أنا أصوم الدهر ولا أفطر ) .(1/133)
وقال آخر : ( أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا ) ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم منه وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )) متفق عليه ، وهذا الحديث ظاهر الدلالة في أن المطلوب هو العدل في العبادة فلا إفراط كما قال هؤلاء ولا تفريط فتترك التطوعات وإنما الموازنة فيقوم وينام ويصوم ويفطر ويتزوج النساء فلا رهبانية في الإسلام ، هذا والله هو عين العدل ، ويؤيده أيضًا قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن لربك عليك حقًا وإن لنفسك عليك حقًا وإن لأهلك عليك حقًا فآت كل ذي حقٍ حقه )) فلا يطغوا حق على حق ، ويؤيده أيضًا نهيه - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر بن العاص عن صيام الدهر ورخص له بعد المراجعة في أن يصوم يومًا ويفطر يومًا ، ويؤيده أيضًا حديث بريدة الأسلمي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم هديًا قاصدًا فإنه من يشاد الدين يغلبه )) أخرجه أحمد في المسند ، وحديث أبي هريرة : ( سددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) فهذه الأحاديث وغيرها دالة على أن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الاقتصاد والعدل في العبادة وكذلك الاعتقاد وما خرج عن حد الاعتدال فهو مذموم سواء كان إلى التفريط أو إلى الإفراط وهذه القاعدة يتفرع عليها فروع كثيرة منها : أن ما عليه الصوفية الآن من الضلال الواضح ليس من دين الله تعالى في شيء يحملون أنفسهم أوزارًا من العبادات ليس لها خطام ولا زمام فتراهم يثقلون كاهلهم بذلك فيسيح أحدهم في البراري ويعاشر الأفاعي والوحوش ويطيل الصمت كل هذا حتى يصل إلى مرتبة الكشف وخوارق العادة فهذا الفعل ليس من الدين في شيء ؛ لأنه خروج عن العدل وبعضهم يصلي في الليلة ألف ركعة أو أكثر أو أقل(1/134)
وهذا تحميل للنفس ما لا تحتمل فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد على إحدى عشرة ركعة وهو أخشانا وأتقانا .
ومن ذلك أن من أسرف على نفسه بسرد الصيام ومداومة قيام الليل حتى أضعفه ذلك عن القيام بالواجبات فهو مخطئ آثم مستحق للعقاب .
ومن ذلك اعتقاد أهل السنة في الولاة فهو بين طرفين جافٍ وغالٍ فالجافي أطاعهم في المعصية ، والغالي أمر بالخروج عليهم بمجرد الكبائر والمعتدل قال : لا طاعة لهم فيما إذا أمروا بمعصية ولا يجوز الخروج عليهم بمجرد الكبائر إلا إذا رأينا كفرًا عندنا فيه من الله برهان وغلب الظن النصر وإلا فلا وقد تقدم طرف من الفروع في قاعدة الوسطية . والله أعلم .
القاعدة الحادية والخمسون
قاعدة دخول الرياء في الأعمال
اعلم أن الرياء هو العمل للغير تزينًا وهو محرم ، بل هو الشرك الأصغر ففي الحديث : (( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر )) فسئل عنه قال : (( الرياء )) فما الحكم لو دخل الرياء في العمل ؟(1/135)
الجواب : أن الرياء لا يخلوا إما أن يكون مصاحبًا لأصل العمل ، وإما أن يكون طارئًا فإن كان من أصله فهذا العمل باطل كله ؛ لأن الله تعالى من أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك معه فيه غيره تركه وشركه كما في الحديث ، ولأن من شروط العمل الإخلاص وهذا ليس بمخلص لله في هذا العمل ، وإن كان الرياء طارئًا فلا يخلوا من حالتين : إما أن يسترسل معه ويرضى به ، وإما أن يدافعه ما استطاع فإن لم يسترسل معه ولم يرضى به فإن العمل صحيح ؛ لأنه اتقى الله ما استطاع ومن اتقى الله ما استطاع فلا إثم عليه ، وإن استرسل معه ورضي به فلا يخلو هذا العمل من حالتين : إما أن تبني صحة أوله على آخره ، وإما لا فإن انبنت صحة أوله على آخره فإنه باطل كالصلاة ، وإن كان صحة آخره لا تتعلق بأوله فإنه يبطل العمل الذي حصل فيه الرياء فقط كالصوم والصدقة وقراءة القرآن فهذه الأعمال لا يبطل منها إلا ما خلطه الرياء ، فالواجب هو مراقبة النية ومحاسبتها دائمًا وأن يعلم الإنسان أنه ليس له من عمله إلا ما نواه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرءٍ ما نوى )) وأن يعلم الإنسان دائمًا أن أحدًا لا يملك له ضرًا ولا نفعًا وإنما الذي يملك ذلك هو الله تعالى وأن التزين بالعمل لا يجوز إلا لله تعالى فهو المثيب ولذلك يقال لمن يرائي يوم القيامة : ( اذهب إلى من رائيته هل تجد عنده شيئًا ) فصحح الإخلاص دائمًا وحاسب نفسك قبل العمل وبعده على مجاهدتها لإخلاص النية فإن الرياء شعب مظلمة فالحذر الحذر . قال الناظم :
واحذر من العمل المراد به الريا وعليك بالإخلاص للرحمن
القاعدة الثانية والخمسون
كل ما كان وسيلة للشرك الأكبر فشرك أصغر
فتحرم وسائل الشرك الأكبر كلها ؛ لأنها شرك أصغر فتحريم الشرك الأصغر إذًا ليس تحريم مقاصد وإنما هو تحريم وسائل والوسائل لها أحكام المقاصد ، قال الناظم :(1/136)
وسائل الأحكام تبع المقصد فحكمها كحكمه للأبد
ولهذه القاعدة فروع كثيرة :
منها : تحريم الرقى الشركية هي من هذا الباب .
ومنها : تحريم التمائم هي أيضًا من هذا الباب .
ومنها : تحريم دعاء القبور هو من هذا الباب .
ومنها : تحريم الرياء مفرع على هذه القاعدة .
ومنها : تعظيم القبور والمشاهد وزيارتها والنذر لها والعكوف عندها هو من هذا الباب .
ومنها : تحريم الغلو في الصالحين ؛ لأن الغلو فيهم يصير قبورهم أوثانًا تعبد من دون الله تعالى .
ومنها : البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها من هذا الباب .
ومنها : تحريم الصلاة في المقابر وإلى القبور أيضًا لسد ذريعة الشرك الأكبر . والفروع في هذا الباب كثيرة جدًا فإن الشريعة إذا حرمت شيئًا فإنه تحريم لجميع الطرق والوسائل التي توصل إلى هذا الشيء فما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام وإذا أوجبت شيئًا فإنه إيجاب لكل ما لا يتم هذا إلا به وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
ومنها : تحريم الصور عمومًا والتماثيل خصوصًا بطمسها والأمر بتسوية القبور أيضًا من هذا الباب ، والله أعلم .
القاعدة الثالثة والخمسون
زيارة القبور شرعية وبدعية
فالشرعية : هي ما كان قصد الزائر فيها ثلاثة أمور : الأول : أن يدعو للميت أي أن ينفع الميت بدعائه وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي للمقبرة ويدعو للأموات ، الثاني : أن يقصد الزائر الذكر بهذا المنظر وأنها المثوى لكل البشر ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة )) ، والثالث : أن يقصد نفع نفسه باتباع السنة بهذه الزيارة فالزيارة الشرعية عبادة وفاعلها مأجور - إن شاء الله تعالى - .(1/137)
وأما الزيارة البدعية فهي ما عدا ذلك والحرام لا يحصر فالزيارة لقصد الدعاء للنفس بدعية وكذلك للذبح للقبور أو للطواف بها أو للنذر لها وتطييبها بالطيب وكسوتها ولطلب النفع منها فهذا كله بدعي لا يجوز . قال الناظم :
وزر القبور زيارة شرعية وهي التي جمعت ثلاث معاني
أن تدعون لميتٍ بخصوصه أو تدعون لكل من هو فاني
أو تقصدن تذكراً للموت أو ترجو الثواب بسنة العدناني
إلا النساء فما لهن زيارة لحديث حبر الأمة الرباني
وأجز زيارة كافرٍ لا للدعا بل لارتداع القلب عن عصيان
والله تعالى أعلى وأعلم .
القاعدة الرابعة والخمسون
الصفات التي هي كمال باعتبار ، ونقص باعتبار تثبت لله حال كمالها وتنفى عنه حال نقصها
اعلم أن الصفات باعتبار نفيها عن الله تعالى وإثباتها له ثلاثة أنواع :
الأول : صفات هي كمال من كل وجه كالعلم والحياة والبصر والسمع والقدرة والقوة ، فهذه تثبت لله تعالى مطلقًا ليس في حالٍ دون حال .
الثاني : صفات هي نقص من كل وجه كالغدر والخيانة والظلم والعجز والفقر ، فهذه تنفى عن الله مطلقًا ليس في حالٍ دون حال .
الثالث : صفات هي كمال باعتبار ، ونقص باعتبار ، فهذه الصفات هي قاعدتنا ، فمذهب أهل السنة والجماعة أننا نثبتها لله تعالى حال كمالها ، وننفيها عنه حال نقصها فلا نثبتها مطلقًا ؛ لأن فيها نقص والله منزه عن النقص ، ولا ننفيها مطلقًا ؛ لأن فيها كمال والله أولى بالكمال ، لكن يثبت ما فيها من الكمال وينفى ما فيها من النقص ، وحتى تتضح هذه القاعدة أذكر بعض الفروع عليها :(1/138)
فمنها : صفة الكيد ، قال تعالى : { إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا } ، فصفة الكيد كمال باعتبار ونقص باعتبار ، فهي نقص باعتبار الابتداء بها ؛ لأنها حينئذ ظلم ، وكمال باعتبار الجزاء والمقابلة فالله تعالى يكيد من كاد ولذلك لا تذكر هذه الصفة أعني الكيد منسوبة لله تعالى مطلقًا ، بل مقيدة بالذي يفعل ذلك كما في الآية السابقة ، فمن كاد للمؤمنين والأنبياء بغير حق فالله يكيد به ويرد كيده في نحره ، فهي باعتبار الابتداء ظلم ننفيه عن الله تعالى ، وباعتبار الجزاء والمقابلة عدل نثبتها له .
ومنها : صفة الخداع ، قال تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } وقال تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } ، فصفة المخادعة نقص باعتبار وكمال باعتبار ، فهي نقص باعتبار الابتداء بها فلا يوصف الله بها حينئذٍ ، وهي كمال باعتبار الجزاء والمقابلة ؛ لأنها عدل فيوصف الله تعالى بها ، فلا تذكر صفة المخادعة مطلقًا وإنما مقيدة بمن يفعل ذلك .
ومنها : المكر ، قال تعالى : { ومكروا ومكر الله } ، فصفة المكر كمال باعتبار الجزاء والمقابلة كما في الآية ؛ لأنه جزاء بالجنس فهو عدل ، فيوصف الله تعالى به ، وأمل المكر بالناس بلا سبب أي ابتداءً فهو ظلم ، فلا يوصف الله تعالى به .
ومنها : الانتقام ، قال تعالى : { إن الله عزيز ذو انتقام } ، فصفة الانتقام كمال إذا كانت لمن يستحق ذلك ، فيوصف الله بها ، ونقص إذا كانت بلا سبب ؛ لأنها ظلم ، فينزه الله عنها .
والخلاصة : أن هذه الصفات وما شاكلها فيها مدح وفيها ذم ، فهي تثبت لله في حال المدح وتنفى عنه في حال الذم ، وفي ذلك يقول الناظم في منظومة الاعتقاد :
ولا يجوز الوصف للخلاق ... بالمكر والخداع بالاطلاق
بل في مقام المدح أثبتنْها ... وفي مقام الذم فُرَّمنها
ومثله يقال في المنتقم ... ... ..........................
القاعدة الخامسة والخمسون(1/139)
لا يقرن مع الله غيره في أمور العبادة والمشيئة ويجوز ذلك في غيرها
وهذا هو معتقد الموحدين أن أمور العبادة حق محض لله تعالى ليس لأحد فيه شرك أو واسطة ، قال تعالى : { فاعبد الله مخلصًا له الدين ألا لله الدين الخالص } ، وقال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } ، فكل ما يتعبد به فهو لله وحده لا شريك له لا يصرف لا إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل ، فالدعاء والذبح والنذر والتوكل والخشية والرجاء والإنابة والسجود ، ونحو ذلك كله حق لله تعالى فمن صرفه لغير الله فقد أشرك به - نعوذ بالله من الشرك وأهله - .
فإذًا إذا ذكرت أمور العبادة فإنها لا يذكر إلا الله فقط ولا يذكر معه غيره ، فنقول : ندعو الله ، ونسجد لله ، ونتوكل على الله ، لا تقول ندعو الله والرسول أو نسجد لله وللقبر أو نتوكل على الله وعليك وهكذا ، فهذا لا يجوز ؛ لأنها من أمور العبادة وأمور العبادة لا يقرن مع الله فيها غيره ولذلك وردت الآيات والأحاديث تدل على ذلك كما سيذكر في التفريع - إن شاء الله تعالى - ، هذا في أمور العبادة الخالصة لله تعالى ، وأما في غيرها من الأمور فيجوز أن يقرن معه فيها غيره بـ( واو ) الجمع وذلك في المحبة مثلاً ، فنقول : نحن نحب الله والرسول ، فهذا لا بأس به ؛ لأن محبة الرسول محبةٌ لله ومحبة الله محبةٌ للرسول ، أما محبة التعبد فهذه خاصة بالله تعالى ، وكذلك في الطاعة ، فنقول : نحن نطيع الله والرسول ، وفي الرضى ، فنقول : نحن نريد أن نرضي الله والرسول وهكذا ، فهذه ليست حقًا محضًا لله تعالى ، بل هي حق لله تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذا علمت هذا فإليك بعض الأمثلة على هذه القاعدة حتى تتضح أكثر :(1/140)
فمنها : قال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } ، فانظر كيف قال : { ما آتاهم الله ورسوله } فقرن اسمه مع اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإتيان ، وهو الإعطاء الشرعي من التحليل والتحريم فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فهو مبلغ عن الله تعالى .
ومثل ذلك قوله تعالى في نفس الآية { سيؤتينا الله من فضله ورسوله } فقرن اسمه باسم رسوله فالإيتاء ليس عبادة محضة لله تعالى على هذا التقرير ، لكن لما جاء أمر العبادة أفرد اسمه ولم يقرن به غيره ، وذلك كما في هذه الآية قال : { وقالوا حسبنا الله } والحسب هو الكافي ، فالله تعالى هو الكافي وحده كما قال : { أليس الله بكافٍ عبده } ولم يقرن اسم الرسول معه في هذا الأمر ؛ لأنه عبادة وهذا واضح .
ومنها : قوله تعالى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فاؤلئك هم الفائزون } ففي هذه الآية ذكر ثلاثة أشياء ذكر الطاعة ، والخشية ، والتقوى ، فقرن اسمه باسم رسوله بـ( واو ) العطف في أمر الطاعة ؛ لأن الطاعة حق لله تعالى وحق للرسول ، وطاعة أحدهما مستلزمة لطاعة الآخر ، كما قال تعالى : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وقال : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ، أما في أمر الخشية والتقوى فلم يقرن معه أحد ، بل قال : { ويخش الله ويتقه } فالخشية والتقوى حق خالص لله تعالى لا يشرك معه فيه غيره .
ومنها : قوله تعالى : { قل أطيعوا الله والرسول } فقرن اسمه مع اسمه في أمر الطاعة مما يدل على أن الطاعة تكون لله وللرسول كما مضى .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت )) فالحلف عبادة فلا يجوز أن يقرن مع الله تعالى فيه غيره .(1/141)
ومنها : قوله تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين } فقرن اسمه مع اسم رسوله في أمر الرضى مما يدل على أن الواجب هو إرضاء الله وإرضاء رسوله باتباع ما أمر الله ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع .
ومنها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . . . )) الحديث ، فقرن اسمه مع اسمه في المحبة فالواجب هو محبة هذا ومحبة هذا فالمحبة حق لكليهما .
ومنها : ما رواه قتيلة أن يهوديًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إنكم تشركون ، تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون : والكعبة . فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت ) رواه النسائي وهو حديث صحيح .
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قال له رجل : ( ما شاء الله وشئت ) . قال : (( أجعلتني لله ندًا ، قل : ما شاء الله وحده )) رواه النسائي ، فهذه المشيئة حق لله تعالى فلا يجوز أن يقرن مع الله فيها غيره كائنًا من كان ، ولعل القاعدة تكون قد اتضحت وبانت معالمها ، ولا يبقى عندنا فيها إلا إشكال واحد فقط وهو : أن بعض الناس يجوز التوكل على الأولياء والصالحين ويحتج بقوله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } والحسب هو الكافي ، فقال : فقد جعل المؤمنين حسب الرسول كما أن الله حسبه ، فالله تعالى والمؤمنون يكفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على جواز التوكل على الأولياء والصالحين .(1/142)
وهذا الكلام ليس بصواب ، فإن المراد من هذه الآية ليس كما فهمه هذا الغالط ، بل المراد أن الله يكفي رسوله ويكفي المؤمنين ، فالله تعالى هو حسب الطائفتين كلتيهما الرسول والمؤمنين ، فيكون التقدير : حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين ، وذلك أنه لو كان المراد هو ما ذكره هؤلاء الغالطين لكان الرسول أولى بالحسب من المؤمنين ؛ لأن منزلته أعظم عند الله منهم ، لكن ليس هذا هو المراد وإنما المراد هو ما ذكرناه فالله تعالى حسب الرسول وحسب من اتبع الرسول من المؤمنين وهذا أسلوب معروف في اللغة . وعليه قول الشاعر : ( فحسَبك والضحاكَ سيفُ مهند ) ، أن سيف مهند حسبك أنت وحسب الضحاك ، وكذلك تقول العرب : حسبك وزيدًا درهم ، أي أن الدرهم حسبك أنت وحسب زيد ، فلا إشكال في هذه الآية ، بل هي من الفروع على هذه القاعدة وهو أن الحسب عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى ، فالتوكل عبادة له وحده لا شريك له سبحانه ، ولم يقرن معه فيه غيره ، قال الناظم :
لا تقرنن مشيئة الهادي إلى سبل الهدى بمشيئة الإنسان
والله تعالى أعلى وأعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وفي الختام فأحمد الله تعالى على الإتمام وهذا آخر ما كتبته من هذه القواعد وهي في بابها مفيدة إلا أنها لم تستوف كل ما في مذهب أهل السنة والجماعة من الفروع والشوارد فذلك ليس بشرط عندي وما ذكر فيه الكفاية إن شاء الله تعالى فإن وجدت صوابًا فإني أعترف بأنه من الله تعالى بتوفيقه وحسن تسديده وإن وجدت عيبًا فاستره ستر الله عيوبك وبادر بالنصيحة لتعديله فإنها دونت في وقت يسير من حفظ مكدود والله يتولانا ويتولاك ، والله أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا .
وكان الفراغ منها بفضل الله وحسن توفيقه عام سبع عشرة وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام .(1/143)
وقد استوفينا قراءتها على فضيلة الشيخ/ عبد الرحمن بن عثمان الجاسر . رحمه الله. بتاريخ 17/8/1421هـ بعد صلاة المغرب في بيت الشيخ .
... ... فهرس الكتاب
القاعدة الأولى
أهل السنة والجماعة لا يأخذون معتقدهم إلا من الكتاب والسنة،
والعقل وسيلة لفهم النقل .................................................... 2
القاعدة الثانية
لا يتعارض نصٌ صحيح وعقلٌ صريح ...................................... 5
القاعدة الثالثة
مذهب السلف أعْلَمُ وأحْكَم وأسْلَم .......................................... 10
القاعدة الرابعة
مذهب السلف وسَطٌ بين المذاهب وسطيَّة الأمة بين الأمم ............... 12
القاعدة الخامسة
خبر الواحد الصحيح حجة في باب المعتقد ................................ 17
القاعدة السادسة
ما لم يرد فيه دليل بخصوصه فلا نثبت لفظه ولا ننفيه ونستفصل في معناه ،
فإن أُريد به حقٌّ قبلناه وإن أًريد به باطلٌ رددناه ......................... 20
القاعدة السابعة
الإتفاق في الأسماء لا يستلزم الإتفاق في الصفات ....................... 23
القاعدة الثامنة
الاتفاق في الاسم الكلي العام لا يستلزم الاتفاق
بعد التقييد والتخصيص والإضافة...........................................26
القاعدة التاسعة
أهل السنة والجماعة مفوضة في كيفية الصفة لا معناها................. 28
القاعدة العاشرة
أهل السنة يثبتون إثباتًا مفصلاً وينفون نفياً مجملاً ..................... 32
القاعدة الحادية عشرة
أسماء الله تعالى تدل على صفاته دلالة مطابقة وتضمنٍ والتزام ....... 35
القاعدة الثانية عشرة
الكلام في الصفات كالكلام في الذات وفي بعضها.......................... 37
القاعدة الثالثة عشرة
صفات الله تعالى إما خبريةٌ محضة ، وإما خبرية
وللعقل فيها مجالٌ .......................................................... 44
القاعدة الرابعة عشرة(1/144)
أسماء الله تعالى مترادفةٌ من حيث الذات
متباينةٌ من حيث الصفات ................................................... 46
القاعدة الخامسة عشرة
الأعيان المضافة إلى الله تعالى إن كانت لا تقوم بذاتها فإضافة صفة
وإلا إضافة تشريف وتكريم ................................................ 48
القاعدة السادسة عشرة
صفات الله تعالى ثبوتيةٌ ومنفيةٌ والثبوتية
تنقسم إلى ذاتيةٍ وفعليةٍ .................................................... 51
القاعدة السابعة عشرة
أسماء الله تعالى لا تحصر بعددٍ معينٍ .................................... 53
القاعدة الثامنة عشرة
أسماء الله تعالى وصفاته مبناها على التوقيف .......................... 54
القاعدة التاسعة عشرة
يجب في أسماء الله تعالى الإيمان بها وبمقتضاها
وبأثرها المتعدي ............................................................ 55
القاعدة العشرون
كل معطلٍ ممثل وكل ممثلٍ معطل ......................................... 57
القاعدة الحادية العشرون
باب الصفات أوسع من باب الأسماء وباب الأخبار
أوسع من باب الصفات ..................................................... 60
القاعدة الثانية والعشرون
أهل السنة والجماعة لا ينتسبون إلا إلى الإسلام أو الإيمان
وما دل عليه الدليل ......................................................... 63
القاعدة الثالثة والعشرون
الرسل كلهم لم يدعوا إلا لتوحيد الألوهية ................................. 71
القاعدة الرابعة والعشرون
من صرف نوعًا من أنواع العبادة لغير الله على وجه لا يليق
إلا بالله تعالى فشرك أكبر ................................................. 74
القاعدة الخامسة والعشرون
كل من اعتقد سببًا لم يدل عليه شرع ولا قدر فهو شرك أصغر
وإن اعتقده الفاعل بذاته فهو شرك أكبر.................................. 77
القاعدة السادسة والعشرون(1/145)
لا يجوز فعل عبادة لله بمكان يفعل فيه جنس
هذه العبادة لغير الله ........................................................ 81
القاعدة السابعة والعشرون
لا يجوز الحلف إلا بالله أو صفة من صفاته ............................... 84
القاعدة الثامنة والعشرون
الأصل في العبادات الحظر والتوقيف ...................................... 86
القاعدة الثلاثون
لا يطلب الدعاء إلا من الحي الحاضر القادر .............................. 91
القاعدة الحادية والثلاثون
الإيمان : قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل
بالجوارح والأركان ......................................................... 93
القاعدة الثانية والثلاثون
الإيمان يزيد وينقص ...................................................... 96
القاعدة الثالثة والثلاثون
كل فعل نفى الله الإيمان عن فاعله فلحرمته
وكل فعل نفى الله الإيمان عن تاركه فلوجوبه .......................... 97
القاعدة الرابعة والثلاثون
الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا
وإذا افترقا اجتمعا ........................................................... 99
القاعدة الخامسة والثلاثون
أهل السنة والجماعة لا يسلبون مرتكب الكبيرة مطلق الإيمان
ولا يعطونه الإيمان المطلق .............................................. 101
القاعدة السادسة والثلاثون
يجب الإيمان بالشفاعة التي دل عليها الدليل الصحيح ................. 103
القاعدة السابعة والثلاثون
المعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء .................................. 105
القاعدة الثامنة والثلاثون
لا يجوز الاحتجاج بالقدر إلا في المصائب لا المعائب .................. 107
القاعدة التاسعة والثلاثون
كل من ورد الثناء عليه في القرآن والسنة
فإنه يموت على ذلك ...................................................... 109
القاعدة الأربعون(1/146)
أهل السنة لا يكفرون المعين إلا بعد توفر الشروط
وانتفاء الموانع ............................................................ 110
القاعدة الحادية والأربعون
يجب التثبت في الأخبار إن كانت من الفاسق ........................... 112
القاعدة الثانية والأربعون
من الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ............... 113
القاعدة الثالثة والأربعون
الأصل هو إحسان الظن بالمسلمين ...................................... 115
القاعدة الرابعة والأربعون
كلام الأقران يطوى ولا يروى ............................................ 117
القاعدة الخامسة والأربعون
ليس كل من فعل الكفر أو قاله يحكم عليه بمقتضاه .................... 118
القاعدة السادسة والأربعون
مذهب أهل السنة أن لا نحكم لمعين بنار ولا جنة
إلا من شهد له النص بذلك ............................................... 119
القاعدة السابعة والأربعون
يحكم على الناس بالظاهر ولا نتعرض للنيات ........................... 120
القاعدة الثامنة والأربعون
لازم القول ليس بقول إلا بعد عرضه وقبوله ........................... 121
القاعدة التاسعة والأربعون
الحق يقبل ممن جاء به والباطل يرد ممن جاء به ...................... 122
القاعدة الخمسون
العدل أكبر مقاصد الشرع ................................................. 124
القاعدة الحادية والخمسون
قاعدة دخول الرياء في الأعمال .......................................... 126
القاعدة الثانية والخمسون
كل ما كان وسيلة للشرك الأكبر فشرك أصغر .......................... 127
القاعدة الثالثة والخمسون
زيارة القبور شرعية وبدعية ............................................ 128
القاعدة الرابعة والخمسون
الصفات التي هي كمال باعتبار ، ونقص باعتبار
تثبت لله حال كمالها وتنفى عنه حال نقصها ......................... 129(1/147)
القاعدة الخامسة والخمسون
لا يقرن مع الله غيره في أمور العبادة والمشيئة
ويجوز ذلك في غيرها .................................................... 131
الفهرس ......................................................... 135(1/148)