متن العقيدة الواسطية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:
وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ.
وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ.
بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ (ِ?لَيْسَ?كَمِثْلِهِ?شَيْءٌ?وَهُوَ?السَّمِيعُ?البَصِيرُ (.
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ.
لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ.
ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى.
فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ مُصَدَّقُون؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ.(1/1)
وَلِهَذَا قَالَ:( سُبْحَانَ?رَبِّكَ?رَبِّ?الْعِزَّةِ?عَمَّا?يَصِفُونَ?وَسَلامٌ?عَلَى?الْمُرْسَلِين - ?وَالْحَمْدُ?لِلَّهِ?رَبِّ?الْعَالَمِينَ (. فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ.
فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ.
وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: ( قُلْ?هُوَ?اللَّهُ?أَحَدٌ - اللَّهُ?الصَّمَد - لَمْ?يَلِدْ?وَلَمْ?يُولَد - ?وَلَمْ?يَكُن?لَّهُ?كُفُوًا?أَحَدٌ(.
وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتِابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: ( اللَّهُ لاَ?إِلَهَ?إِلاَّ?هُوَ?الْحَيُّ?الْقَيُّومُ?لاَ?تَأْخُذُهُ?سِنَةٌ?وَلاَ?نَوْمٌ?لَّهُ?مَا?فِي?السَّمَاوَاتِ?وَمَا?فِي?الأَرْضِ?مَن?ذَا?الَّذِي?يَشْفَعُ?عِنْدَهُ?إِلاَّ?بِإِذْنِهِ?يَعْلَمُ?مَا?بَيْنَ?أَيْدِيهِمْ?وَمَا?خَلْفَهُمْ?وَلاَ?يُحِيطُونَ?بِشَيْءٍ?مِّنْ?عِلْمِهِ?إِلاَّ?بِمَا?شَاء?وَسِعَ?كُرْسِيُّهُ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضَ?وَلاَ?يَؤُودُهُ?حِفْظُهُمَا?وَهُوَ?الْعَلِيُّ?الْعَظِيمُ (.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( هُوَ?الأَوَّلُ?وَالآخِرُ?وَالظَّاهِرُ?وَالْبَاطِنُ?وَهُوَ?بِكُلِّ?شَيْءٍ?عَلِيمٌ (.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى?الْحَيِّ?الَّذِي?لا?يَمُوتُ (.(1/2)
وَقَوْلُهُ : ( وَهُوَ?الْعَلِيمُ?الْحَكِيمُ (، ( وَهُوَ?الْحَكِيمُ?الْخَبِير - ?يَعْلَمُ?مَا?يَلِجُ?فِي?الأَرْضِ وَمَا?يَخْرُجُ?مِنْهَا?وَمَا?يَنزِلُ?مِنَ?السَّمَاء?وَمَا?يَعْرُجُ?فِيهَا (، ( وَعِندَهُ?مَفَاتِحُ?الْغَيْبِ?لاَ?يَعْلَمُهَا?إِلاَّ?هُوَ?وَيَعْلَمُ?مَا?فِي?الْبَرِّ?وَالْبَحْرِ?وَمَا?تَسْقُطُ?مِن?وَرَقَةٍ?إِلاَّ?يَعْلَمُهَا?وَلاَ?حَبَّةٍ فِي?ظُلُمَاتِ?الأَرْضِ?وَلاَ?رَطْبٍ?وَلاَ?يَابِسٍ?إِلاَّ?فِي?كِتَابٍ?مُّبِين(?وَقَوْلُهُ:( وَمَا?تَحْمِلُ?مِنْ?أُنثَى?وَلا?تَضَعُ?إِلاَّ?بِعِلْمِه (، وَقَوْلُهُ: ( ?لِتَعْلَمُوا?أَنَّ?اللَّهَ?عَلَى?كُلِّ?شَيْءٍ?قَدِيرٌ?وَأَنَّ?اللَّهَ?قَدْ?أَحَاطَ?بِكُلِّ?شَيْءٍ?عِلْمًا (.
وَقَوْلُهُ: ( إِنَّ?اللَّهَ?هُوَ?الرَّزَّاقُ?ذُو?الْقُوَّةِ?الْمَتِينُ(.
وَقَوْلُهُ: (ِ?لَيْسَ?كَمِثْلِهِ?شَيْءٌ?وَهُوَ?السَّمِيعُ?البَصِيرُ(.
وَقَوْلُهُ:(?إِنَّ?اللَّهَ نِعِمَّا?يَعِظُكُم?بِهِ?إِنَّ?اللَّهَ?كَانَ?سَمِيعًا?بَصِيرًا(
وَقَوْلُهُ : ( وَلَوْلا?إِذْ?دَخَلْتَ?جَنَّتَكَ?قُلْتَ?مَا?شَاء?اللَّهُ?لا?قُوَّةَ?إِلاَّ?بِاللَّهِ ( ، وَقَوْلُهُ : ( ?وَلَوْ?شَاءَ?اللَّهُ مَا?اقْتَتَلُواْ?وَلَكِنَّ?اللَّهَ?يَفْعَلُ?مَا?يُرِيدُ (، وَقَوْلُهُ: (ِ?أُحِلَّتْ?لَكُم?بَهِيمَةُ?الأَنْعَامِ?إِلاَّ?مَا?يُتْلَى?عَلَيْكُمْ?غَيْرَ?مُحِلِّي?الصَّيْدِ?وَأَنتُمْ?حُرُمٌ?إِنَّ اللَّهَ?يَحْكُمُ?مَا?يُرِيدُ(? ،وَقَوْلُهُ: ( فَمَن?يُرِدِ?اللَّهُ أَن?يَهْدِيَهُ?يَشْرَحْ?صَدْرَهُ?لِلإِسْلاَمِ?وَمَن?يُرِدْ أَن?يُضِلَّهُ?يَجْعَلْ?صَدْرَهُ?ضَيِّقًا?حَرَجًا?كَأَنَّمَا?يَصَّعَّدُ فِي?السَّمَاء (.(1/3)
وَقَوْلُهُ : ( وَأَحْسِنُوَاْ?إِنَّ?اللَّهَ يُحِبُّ?الْمُحْسِنِينَ(، ( وَأَقْسِطُوا?إِنَّ?اللَّهَ?يُحِبُّ?الْمُقْسِطِينَ(،(ْ?فَمَا?اسْتَقَامُواْ?لَكُمْ?فَاسْتَقِيمُواْ?لَهُمْ?إِنَّ?اللَّهَ?يُحِبُّ?الْمُتَّقِينَ ?(، ( إِنَّ?اللَّهَ يُحِبُّ?التَّوَّابِينَ?وَيُحِبُّ?الْمُتَطَهِّرِينَ(، وَقَوْلُهُ: ( قُلْ?إِن?كُنتُمْ?تُحِبُّونَ?اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي?يُحْبِبْكُمُ?اللَّهُ (، وَقَوْلُهُ:( فَسَوْفَ?يَأْتِي?اللَّهُ?بِقَوْمٍ?يُحِبُّهُمْ?وَيُحِبُّونَهُ(?، وَقَوْلُهُ: ( إِنَّ اللَّهَ?يُحِبُّ?الَّذِينَ?يُقَاتِلُونَ?فِي?سَبِيلِهِ?صَفًّا?كَأَنَّهُم بُنيَانٌ?مَّرْصُوصٌ(.
وَقَوْلُهُ:( وَهُوَ?الْغَفُورُ?الْوَدُودُ (، وَقَوْلُهُ : ( بسم الله الرحمن الرحيم (،( ?رَبَّنَا?وَسِعْتَ?كُلَّ?شَيْءٍ?رَّحْمَةً?وَعِلْمًا(.
(?وَكَانَ?بِالْمُؤْمِنِينَ?رَحِيمًا (،(ِ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ?كُلَّ?شَيْء( (ْكَتَبَ رَبُّكُمْ?عَلَى?نَفْسِهِ?الرَّحْمَةَ(،( ِوَهُوَ?الْغَفُورُ?الرَّحِيمُ?(، (ِفَاللَّهُ خَيْرٌ?حَافِظًا?وَهُوَ?أَرْحَمُ?الرَّاحِمِينَ?(.
قَوْلُهُ:?(ِرَضِيَ?اللَّهُ?عَنْهُمْ?وَرَضُوا?عَنْهُ(،(ِوَمَن?يَقْتُلْ?مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا?فَجَزَآؤُهُ?جَهَنَّمُ?خَالِدًا?فِيهَا?وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ?وَلَعَنَهُ (، وَقَولُهُ : (ِذَلِكَ?بِأَنَّهُمُ?اتَّبَعُوا?مَا?أَسْخَطَ?اللَّهَ وَكَرِهُوا?رِضْوَانَهُ (،(ِفَلَمَّا?آسَفُونَا انتَقَمْنَا?مِنْهُمْ(،?وَقَوْلُهُ: (وَلَكِن?كَرِهَ?اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ?فَثَبَّطَهُمْ (،وَقَوْلُهُ: (ِكَبُرَ?مَقْتًا?عِندَ?اللَّهِ?أَن?تَقُولُوا?مَا?لا?تَفْعَلُونَ?(.(1/4)
وَقَولُهُ:(ِهَلْ?يَنظُرُونَ?إِلاَّ?أَن?يَأْتِيَهُمُ?اللَّهُ?فِي?ظُلَلٍ?مِّنَ?الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ?وَقُضِيَ?الأَمْرُ (،( هَلْ?يَنظُرُونَ?إِلاَّ?أَن?تَأْتِيهُمُ?الْمَلآئِكَةُ?أَوْ?يَأْتِيَ?رَبُّكَ?أَوْ?يَأْتِيَ بَعْضُ?آيَاتِ?رَبِّكَ(،(كَلاَّ?إِذَا?دُكَّتِ?الأَرْضُ?دَكًّا دَكًّا وَجَاء?رَبُّكَ?وَالْمَلَكُ?صَفًّا?صَفًّا?(، (وَيَوْمَ?تَشَقَّقُ?السَّمَاء?بِالْغَمَامِ?وَنُزِّلَ?الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً(.
وَقَوْلُهُ:( وَيَبْقَى وَجْهُ?رَبِّكَ?ذُو?الْجَلالِ?وَالإِكْرَامِ?(، (كُلُّ?شَيْءٍ?هَالِكٌ?إِلاَّ?وَجْهَهُ (.
وَقَوْلُهُ:( ?مَا?مَنَعَكَ?أَن?تَسْجُدَ?لِمَا?خَلَقْتُ?بِيَدَيَّ (، (وَقَالَتِ?الْيَهُودُ?يَدُ?اللَّهِ مَغْلُولَةٌ?غُلَّتْ?أَيْدِيهِمْ?وَلُعِنُواْبِمَا?قَالُواْ?بَلْ?يَدَاهُ?مَبْسُوطَتَان ِ?يُنفِقُ?كَيْفَ?يَشَاء (.
وَقَولُهُ: (وَاصْبِرْ?لِحُكْمِ?رَبِّكَ?فَإِنَّكَ?بِأَعْيُنِنَا(?، ( وَحَمَلْنَاهُ?عَلَى?ذَاتِ?أَلْوَاحٍ?وَدُسُرٍ - تَجْرِي?بِأَعْيُنِنَا?جَزَاء?لِّمَن?كَانَ كُفِرَ(،(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ?مَحَبَّةً?مِّنِّي?وَلِتُصْنَعَ?عَلَى?عَيْنِي?(.
وَقَوْلُهُ: ( قَدْ?سَمِعَ?اللَّهُ?قَوْلَ?الَّتِي?تُجَادِلُكَ?فِي?زَوْجِهَا?وَتَشْتَكِي?إِلَى?اللَّهِ وَاللَّهُ?يَسْمَعُ?تَحَاوُرَكُمَا?إِنَّ?اللَّهَ?سَمِيعٌ?بَصِيرٌ ( ،وَقَوْلُهُ :(1/5)
( لَّقَدْ?سَمِعَ?اللَّهُ قَوْلَ?الَّذِينَ?قَالُواْ?إِنَّ?اللَّهَ فَقِيرٌ?وَنَحْنُ?أَغْنِيَاء (، وَقَوْلُهُ: (أَمْ?يَحْسَبُونَ?أَنَّا?لا?نَسْمَعُ?سِرَّهُمْ?وَنَجْوَاهُم?بَلَىوَرُسُلُنَا?لَدَيْهِمْ?يَكْتُبُونَ(، ( ?إِنَّنِي?مَعَكُمَا?أَسْمَعُ?وَأَرَى (، ( أَلَمْ?يَعْلَمْ?بِأَنَّ?اللَّهَ?يَرَى (، ( الَّذِي يَرَاكَ?حِينَ?تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ?فِي?السَّاجِدِينَ إِنَّهُ?هُوَ?السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (،?( وَقُلِ?اعْمَلُواْ?فَسَيَرَى?اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ?وَالْمُؤْمِنُونَ (.
وَقَوْلُهُ: ( وَهُوَ?شَدِيدُ?الْمِحَال(، وَقَوْلُهُ: (وَمَكَرُواْ?وَمَكَرَ?اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(، وَقَوْلُهُ: ( وَمَكَرُوا?مَكْرًا وَمَكَرْنَا?مَكْرًا?وَهُمْ?لا?يَشْعُرُونَ (، وَقَوْلُهُ: ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ?كَيْدًا - وَأَكِيدُ?كَيْدًا(.
وَقَوْلُهُ: ( إِن?تُبْدُواْ?خَيْرًا?أَوْ?تُخْفُوهُ?أَوْ?تَعْفُواْ?عَن سُوَءٍ?فَإِنَّ?اللَّهَ كَانَ?عَفُوًّا?قَدِيرًا(، ?(ِوَلْيَعْفُوا?وَلْيَصْفَحُوا?أَلا?تُحِبُّونَ?أَن?يَغْفِرَ?اللَّهُ?لَكُمْ وَاللَّهُ?غَفُورٌ?رَّحِيمٌ?(.
وَقَوْلُهُ: ( وَلِلَّهِ?الْعِزَّةُ?وَلِرَسُولِهِ?وَلِلْمُؤْمِنِينَ (، وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْلِيسَ : ( فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ?أَجْمَعِينَ ?(.
وَقَوْلُهُ: ( تَبَارَكَ?اسْمُ?رَبِّكَ?ذِي?الْجَلالِ?وَالإِكْرَامِ ?(.(1/6)
وَقَوْلُهُ: ( ?فَاعْبُدْهُ?وَاصْطَبِرْ?لِعِبَادَتِهِ هَلْ?تَعْلَمُ?لَهُ?سَمِيًّا (، ( وَلَمْ?يَكُن?لَّهُ?كُفُوًا?أَحَدٌ (، وَقَوْلُهُ:( فَلاَ?تَجْعَلُواْ?لِلّهِ?أَندَاداً?وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ?(، ( وَمِنَ النَّاسِ?مَن?يَتَّخِذُ?مِن?دُونِ?اللَّهِ أَندَاداً?يُحِبُّونَهُمْ?كَحُبِّ?اللَّهِ (، وَقَوْلُهُ: ( وَقُلِ?الْحَمْدُ?لِلّهِ?الَّذِي?لَمْ?يَتَّخِذْ?وَلَدًا?وَلَم?يَكُن لَّهُ?شَرِيكٌ?فِي?الْمُلْكِ?وَلَمْ?يَكُن?لَّهُ?وَلِيٌّ?مِّنَ?الذُّلَّ?وَكَبِّرْهُ?تَكْبِيرًا ( ، ( يُسَبِّحُ?لِلَّهِ?مَا?فِي?السَّمَاوَاتِ?وَمَا?فِي?الأَرْضِ?لَهُ?الْمُلْكُ?وَلَهُ?الْحَمْدُ وَهُوَ?عَلَى?كُلِّ?شَيْءٍ?قَدِيرٌ ( ،?وَقَوْلُهُ:? ( تَبَارَكَ?الَّذِي?نَزَّلَ?الْفُرْقَانَ?عَلَى?عَبْدِهِ?لِيَكُونَ?لِلْعَالَمِينَ?نَذِيرًا - الَّذِي?لَهُ?مُلْكُ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضِ?وَلَمْ?يَتَّخِذْ?وَلَدًا وَلَمْ?يَكُن?لَّهُ?شَرِيكٌ?فِي?الْمُلْكِ?وَخَلَقَ?كُلَّ?شَيْءٍ?فَقَدَّرَهُ?تَقْدِيرًا?(، وَقَوْلُهُ: ( مَا?اتَّخَذَ?اللَّهُ?مِن?وَلَدٍ وَمَا?كَانَ?مَعَهُ?مِنْ?إِلَهٍ?إِذًا?لَّذَهَبَ?كُلُّ?إِلَهٍ?بِمَا?خَلَقَ?وَلَعَلا بَعْضُهُمْ?عَلَى?بَعْضٍ?سُبْحَانَ?اللَّهِ?عَمَّا?يَصِفُونَ? - عَالِمِ الْغَيْبِ?وَالشَّهَادَةِ?فَتَعَالَى?عَمَّا?يُشْرِكُونَ??(، ( فَلاَ?تَضْرِبُواْ?لِلّهِ?الأَمْثَالَ إِنَّ?اللَّهَ يَعْلَمُ?وَأَنتُمْ?لاَ?تَعْلَمُونَ ( ، ( قُلْ?إِنَّمَا?حَرَّمَ?رَبِّيَ?الْفَوَاحِشَ?مَا?ظَهَرَ?مِنْهَا?وَمَا بَطَنَ?وَالإِثْمَ?وَالْبَغْيَ?بِغَيْرِ?الْحَقِّ?وَأَن?تُشْرِكُواْ?بِاللَّهِ مَا?لَمْ?يُنَزِّلْ?بِهِ سُلْطَانًا?وَأَن?تَقُولُواْ?عَلَى?اللَّهِ مَا?لاَ?تَعْلَمُونَ (.(1/7)
وَقَوْلُهُ: ( الرَّحْمَنُ?عَلَى?الْعَرْشِ?اسْتَوَى?( فِي [سَبْعَةِ](1) مَوَاضِعَ: [فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ؛ قَوْلُهُ:?(إِنَّ?رَبَّكُمُ?اللَّهُ الَّذِي?خَلَقَ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضَ?فِي?سِتَّةِ أَيَّامٍ?ثُمَّ?اسْتَوَى?عَلَى?الْعَرْشِ( ?وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ: ( إِنَّ?رَبَّكُمُ?اللَّهُ الَّذِي?خَلَقَ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضَ فِي?سِتَّةِ?أَيَّامٍ?ثُمَّ?اسْتَوَى?عَلَى?الْعَرْش ِ( وَقَالَ فَي سُورَةِِ الرَّعْدِِ: ( اللَّهُ الَّذِي?رَفَعَ?السَّمَاوَاتِ?بِغَيْرِ عَمَدٍ?تَرَوْنَهَا?ثُمَّ?اسْتَوَى?عَلَى?الْعَرْشِ(? وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: ( الرَّحْمَنُ?عَلَى?الْعَرْشِ?اسْتَوَى( وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: ( ٍ?ثُمَّ?اسْتَوَى?عَلَى?الْعَرْشِ?الرَّحْمَنُ ?( وَقَالَ فِي سُورَةِ آلم السَّجْدَةِ: ( اللَّهُ الَّذِي?خَلَقَ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضَ?وَمَا?بَيْنَهُمَا?فِي?سِتَّةِ?أَيَّامٍ ثُمَّ?اسْتَوَى?عَلَى?الْعَرْشِ( ?وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: ( هُوَ?الَّذِي?خَلَقَ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضَ?فِي?سِتَّةِ?أَيَّامٍ?ثُمَّ?اسْتَوَى عَلَى?الْعَرْشِ (].
__________
(1) هكذا في المطبوع مع الشرح، والذي في المخطوط و"الفتاوى": [وقوله: ( الرَّحْمَنُ?عَلَى?الْعَرْشِ?اسْتَوَى?( ، ( ?ثُمَّ?اسْتَوَى?عَلَى?الْعَرْشِ ( : في ستَّة مواضعَ… إلخ]، وهذا أصحّ؛ لأن الآية الثانية لم ترد في القرآن إلا في ستة مواضع.(1/8)
وَقَوْلُهُ: ( يَا?عِيسَى?إِنِّي?مُتَوَفِّيكَ?وَرَافِعُكَ إِلَيَّ(?، ( بَل?رَّفَعَهُ?اللَّهُ إِلَيْه( ، ( إِلَيْهِ?يَصْعَدُ?الْكَلِمُ?الطَّيِّبُ?وَالْعَمَلُ?الصَّالِحُ?يَرْفَعُهُ (، ( يَا?هَامَانُ?ابْنِ?لِي?صَرْحًا?لَّعَلِّي?أَبْلُغُ?الأَسْبَابَ? - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ?فَأَطَّلِعَ?إِلَى?إِلَهِ?مُوسَى?وَإِنِّي?لأَظُنُّهُ?كَاذِبًا ( ، وَقَوْلُهُ: ?( أَأَمِنتُم?مَّن?فِي?السَّمَاء?أَن?يَخْسِفَ?بِكُمُ?الأَرْضَ?فَإِذَا?هِيَ تَمُورُ? - أَمْ?أَمِنتُم?مَّن?فِي?السَّمَاء?أَن?يُرْسِلَ?عَلَيْكُمْ?حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ?كَيْفَ?نَذِيرِ?(.
( هُوَ?الَّذِي?خَلَقَ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضَ?فِي?سِتَّةِ?أَيَّامٍ?ثُمَّ?اسْتَوَى عَلَى?الْعَرْشِ?يَعْلَمُ?مَا?يَلِجُ?فِي?الأَرْضِ?وَمَا?يَخْرُجُ?مِنْهَا?وَمَا?يَنزِلُ?مِنَ السَّمَاء?وَمَا?يَعْرُجُ?فِيهَا?وَهُوَ?مَعَكُمْ?أَيْنَ?مَا?كُنتُمْ?وَاللَّهُ?بِمَا?تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ، وَقَوْلُهُ: ( مَا?يَكُونُ مِن?نَّجْوَى?ثَلاثَةٍ?إِلاَّ?هُوَ?رَابِعُهُمْ?وَلاخَمْسَةٍ?إِلاَّ?هُوَ?سَادِسُهُمْ وَلا?أَدْنَى?مِن?ذَلِكَ?وَلا?أَكْثَرَ?إِلاَّ?هُوَ?مَعَهُمْ?أَيْنَ?مَا?كَانُوا?ثُمَّ?يُنَبِّئُهُم بِمَا?عَمِلُوا?يَوْمَ?الْقِيَامَةِ?إِنَّ?اللَّهَ?بِكُلِّ?شَيْءٍ?عَلِيمٌ( ، (ِ?لاَ?تَحْزَنْ?إِنَّ?اللَّهَ مَعَنَا ( ?، ?وَقَوْلُهُ: ?(إِنَّنِي?مَعَكُمَا?أَسْمَعُ?وَأَرَى (، ( إِنَّ?اللَّهَ مَعَ?الَّذِينَ?اتَّقَواْ?وَّالَّذِينَ?هُم?مُّحْسِنُونَ?(، ?(وَاصْبِرُواْ?إِنَّ?اللَّهَ مَعَ?الصَّابِرِينَ (، ( كَم?مِّن?فِئَةٍ?قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ?فِئَةً?كَثِيرَةً?بِإِذْنِ?اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ?الصَّابِرِينَ (.(1/9)
وَقَوْلُهُ :(وَمَنْ?أَصْدَقُ?مِنَ?اللَّهِ حَدِيثًا( ،( ? وَمَنْ?أَصْدَقُ?مِنَ?اللَّهِ قِيلاً(، ( وَإِذْ?قَالَ?اللَّهُ يَا?عِيسَى?ابْنَ?مَرْيَمَ ( ( وَتَمَّتْ?كَلِمَةُ?رَبِّكَ?صِدْقًا وَعَدْلاً ( ، (وَكَلَّمَ?اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(،( مِّنْهُم?مَّن?كَلَّمَ?اللَّهُ(، (وَلَمَّا?جَاء?مُوسَى?لِمِيقَاتِنَا?وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ (، (َنَادَيْنَاهُ?مِن?جَانِبِ?الطُّورِ?الأَيْمَنِ?وَقَرَّبْنَاهُ?نَجِيًّا?(، وَقَوْلُهُ :?(وَإِذْ?نَادَى?رَبُّكَ?مُوسَى?أَنِ?ائْتِ?الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ،( وَنَادَاهُمَا?رَبُّهُمَا?أَلَمْ?أَنْهَكُمَا عَن?تِلْكُمَا?الشَّجَرَة(، وَقَوْلُه: (وَيَوْمَ?يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ?مَاذَا?أَجَبْتُمُ?الْمُرْسَلِينَ(.(1/10)
( وَإِنْ?أَحَدٌ?مِّنَ?الْمُشْرِكِينَ?اسْتَجَارَكَ?فَأَجِرْهُ?حَتَّى?يَسْمَعَ كَلاَمَ?اللَّهِ (،( ?وَقَدْ?كَانَ?فَرِيقٌ?مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ?كَلاَمَ?اللَّهِ ثُمَّ?يُحَرِّفُونَهُ?مِن?بَعْدِ?مَا?عَقَلُوهُ وَهُمْ?يَعْلَمُونَ(، ( يُرِيدُونَ?أَن?يُبَدِّلُوا كَلامَ?اللَّهِ?قُل?لَّن?تَتَّبِعُونَا?كَذَلِكُمْ?قَالَ?اللَّهُ?مِن?قَبْلُ (، ( وَاتْلُ?مَا?أُوحِيَ?إِلَيْكَ?مِن?كِتَابِ رَبِّكَ?لا?مُبَدِّلَ?لِكَلِمَاتِهِ (، وَقَوْلُهُ:( إِنَّ?هَذَا?الْقُرْآنَ يَقُصُّ?عَلَى?بَنِي?إِسْرَائِيلَ?أَكْثَرَ?الَّذِي?هُمْ?فِيهِ?يَخْتَلِفُونَ( ،( ?وَهَذَا?كِتَابٌ?أَنزَلْنَاهُ?مُبَارَكٌ ( ، ( لَوْ?أَنزَلْنَا?هَذَا الْقُرْآنَ?عَلَى?جَبَلٍ?لَّرَأَيْتَهُ?خَاشِعًا?مُّتَصَدِّعًا?مِّنْ?خَشْيَةِ اللَّهِ? (، ( وَإِذَا?بَدَّلْنَا?آيَةً?مَّكَانَ?آيَةٍ?وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا?يُنَزِّلُ?قَالُواْ?إِنَّمَا?أَنتَ?مُفْتَرٍ?بَلْ?أَكْثَرُهُمْ?لاَ?يَعْلَمُونَ - قُلْ?نَزَّلَهُ?رُوحُ?الْقُدُسِ?مِن?رَّبِّكَ?بِالْحَقِّ?لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ?آمَنُواْ?وَهُدًى?وَبُشْرَى?لِلْمُسْلِمِينَ - وَلَقَدْ?نَعْلَمُ?أَنَّهُمْ?يَقُولُونَ?إِنَّمَا?يُعَلِّمُهُ?بَشَرٌ?لِّسَانُ الَّذِي?يُلْحِدُونَ?إِلَيْهِ?أَعْجَمِيٌّ?وَهَذَا?لِسَانٌ?عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (.
وَقَوْلُهُ:(وُجُوهٌ?يَوْمَئِذٍ?نَّاضِرَةٌ - إِلَى?رَبِّهَا?نَاظِرَةٌ(،(عَلَى?الأَرَائِكِ?يَنظُرُونَ ( ، ( لِّلَّذِينَ?أَحْسَنُواْ?الْحُسْنَى?وَزِيَادَةٌ( ، وَقَوْلُهُ: ( لَهُم?مَّا?يَشَاؤُونَ?فِيهَا?وَلَدَيْنَا?مَزِيدٌ (، وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ.(1/11)
فَصْلٌ: ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك.َ
فَمِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم : ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزَلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ)). حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/12)
وَقَوْلُهُ: ((يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ)). مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ)).
وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: ((رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ فَيَبْرَأَ)).حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ، وَقَوْلُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)). حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)). حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)). قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)). قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.(1/13)
وَقَوْلُهُ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)). حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : ((اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ)). رِوَايَةُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! أرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا. إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/14)
إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ؛ بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ؛
فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة؛ِ
وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ.
وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ- رضي الله عنه - وَ الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ.
وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ.
وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَ الْخَوَارِجِ.(1/15)
فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ: ( هُوَ?الَّذِي?خَلَقَ?السَّمَاوَاتِ?وَالأَرْضَ?فِي?سِتَّةِ?أَيَّامٍ?ثُمَّ?اسْتَوَى عَلَى?الْعَرْشِ?يَعْلَمُ?مَا?يَلِجُ?فِي?الأَرْضِ?وَمَا?يَخْرُجُ?مِنْهَا?وَمَا?يَنزِلُ?مِنَ السَّمَاء?وَمَا?يَعْرُجُ?فِيهَا?وَهُوَ?مَعَكُمْ?أَيْنَ?مَا?كُنتُمْ?وَاللَّهُ?بِمَا?تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ،(1/16)
وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ( وَهُوَ?مَعَكُمْ ( أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ، اللُّغَةُ، بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرُ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِم إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ. وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ ـ مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا ـ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: ( فِي?السَّمَاء( ، أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ.
فَصْلٌ: وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ( وَإِذَا?سَأَلَكَ عِبَادِي?عَنِّي?فَإِنِّي?قَرِيبٌ...?( الآيَة، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِّن عُنقِ رَاحِلَتِهِ)). وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ.(1/17)
وَمِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ الإيمانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً، لاَ كَلامَ غَيْرِهِ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلاَمِ اللهِ، أَوْ عِبَارَةٌ؛ بَلْ إِذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْكَلاَمَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لاَ إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا. وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُرُوفُهُ، ومَعَانِيهِ؛ لَيْسَ كَلامُ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي، وَلاَ الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ.
وَقَد دَّخَلَ أيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلاَئِكَتَهِ وَبِرُسُلِهِ: الإيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ بِهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لاَ يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ. يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهَ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ كَمَا يَشَاءُ اللهُ تَعَالَى.(1/18)
فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ. فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُمْتَحَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرِّجُلِ: مَن رَّبُكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَن نَّبِيُّك؟
فيُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّي. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ. ثُمَّ بَعْدَ هّذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ.(1/19)
وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ . فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد ، ( فَمَن?ثَقُلَتْ?مَوَازِينُهُ?فَأُوْلَئِكَ?هُمُ?الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ?مَوَازِينُهُ?فَأُوْلَئِكَ?الَّذِينَ?خَسِرُوا?أَنفُسَهُمْ?فِي?جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (. وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ( وَكُلَّ إِنسَانٍ?أَلْزَمْنَاهُ?طَآئِرَهُ?فِي?عُنُقِهِ?وَنُخْرِجُ?لَهُ?يَوْمَ?الْقِيَامَةِ?كِتَابًا يَلْقَاهُ?مَنشُورًا? - اقْرَأْ?كَتَابَكَ?كَفَى?بِنَفْسِكَ?الْيَوْمَ?عَلَيْكَ?حَسِيبًا?(.
وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا.
وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا.(1/20)
وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ.(1/21)
وَلَه صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة. وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ. وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا. وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ.
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ.(1/22)
وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ. فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَلْق،ِ وَهُمْ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ. فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( أَلَمْ?تَعْلَمْ?أَنَّ?اللَّهَ?يَعْلَمُ?مَا?فِي?السَّمَاء?وَالأَرْضِ?إِنَّ?ذَلِكَ فِي?كِتَابٍ?إِنَّ?ذَلِكَ?عَلَى?اللَّهِ?يَسِيرٌ?( ، وَقَال َ: ( مَا?أَصَابَ مِن?مُّصِيبَةٍ?فِي?الأَرْضِ?وَلا?فِي?أَنفُسِكُمْ?إِلاَّ?فِي?كِتَابٍ مِّن?قَبْلِ?أَن?نَّبْرَأَهَا?إِنَّ?ذَلِكَ?عَلَى?اللَّهِ?يَسِيرٌ( وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً: فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ. وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ.. وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ.(1/23)
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، مَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ.
وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ خَلَقَ أفْعَالَهُم. وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ. وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:( لِمَن?شَاء?مِنكُمْ?أَن يَسْتَقِيمَ - وَمَا?تَشَاؤُونَ?إِلاَّ?أَن?يَشَاء?اللَّهُ?رَبُّ?الْعَالَمِينَ ?(.(1/24)
وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مَجُوسَِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حُكْمَهَا وَمَصَالِحَهَا.
فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ ؛ بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : ( فَمَنْ?عُفِيَ?لَهُ?مِنْ?أَخِيهِ?شَيْءٌ?فَاتِّبَاعٌ?بِالْمَعْرُوفِ ( ، وَقَالَ: ( وَإِن?طَائِفَتَانِ مِنَ?الْمُؤْمِنِينَ?اقْتَتَلُوا?فَأَصْلِحُوا?بَيْنَهُمَا?فَإِن?بَغَتْ?إِحْدَاهُمَا عَلَى?الأُخْرَى?فَقَاتِلُوا?الَّتِي?تَبْغِي?حَتَّى?تَفِيءَ?إِلَى?أَمْرِ?اللَّهِ?فَإِن?فَاءتْ فَأَصْلِحُوا?بَيْنَهُمَا?بِالْعَدْلِ?وَأَقْسِطُوا?إِنَّ?اللَّهَ?يُحِبُّ?الْمُقْسِطِينَ? - إِنَّمَا?الْمُؤْمِنُونَ?إِخْوَةٌ?فَأَصْلِحُوا?بَيْنَ?أَخَوَيْكُمْ (.(1/25)
وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمِ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ. بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ( فَتَحْرِيرُ?رَقَبَةٍ?مُّؤْمِنَةٍ( ، وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( إِنَّمَا?الْمُؤْمِنُونَ?الَّذِينَ?إِذَا?ذُكِرَ?اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ?وَإِذَا?تُلِيَتْ?عَلَيْهِمْ?آيَاتُهُ?زَادَتْهُمْ?إِيمَانًا(، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)). وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ.(1/26)
فَصْلٌ : وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:( وَالَّذِينَ?جَاؤُو?مِن?بَعْدِهِمْ?يَقُولُونَ?رَبَّنَا?اغْفِرْ?لَنَا وَلإِخْوَانِنَا?الَّذِينَ سَبَقُونَا?بِالإِيمَانِ?وَلا?تَجْعَلْ?فِي?قُلُوبِنَاغِلاًّ?لِّلَّذِينَ?آمَنُوا?رَبَّنَا?إِنَّكَ?رَؤُوفٌ?رَّحِيمٌ ( ، وَطَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ)). وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ.
وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ـ وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ـ وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ. وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ. وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ ـ وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَـ: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُم. فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)). وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة . وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِّنَ الصَّحَابَةِ.(1/27)
وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا : أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ. وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ، وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ. مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ـ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا. لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ. وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ ـ مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ـ لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ.(1/28)
وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: ((أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي)). وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه ـ وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ ـ فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي)). وَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)).
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ: خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ. وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ((فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ)).(1/29)
وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ. وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ. وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ. وَلَهُم مِّنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ ـ إِنْ صَدَرَ ـ، حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِّنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِّنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدََّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ. ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛(1/30)
فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ. ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمَن نَّظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.
وَمِنْ أُصًولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِّنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.(1/31)
فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَيثُ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)). وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ. وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ. وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ. وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ. وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ.(1/32)
فَصْلٌ: ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ: وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ. وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا))، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بُالْحُمَّى وَالسَّهَرِ)). وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ. وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا)). وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َوَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا. وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ،(1/33)
وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم .
لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّتُهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي))، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَّنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ))، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
- - - - - -(1/34)
ملحق
العقيدة الواسطيَّة
بقلم
علوي بن عبد القادر السَّقَّاف
مقدمة الملحق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد أشار عليَّ بعض الإخوة الأفاضل أن أضم مع هذا الشرح المبارك أهم مسائل العقيدة التي لم يتطرق لها شيخ الإسلام ابن تيمية في ((العقيدة الواسطية))، وكذلك شارحها الشيخ محمد خليل هرَّاس، وذلك تسهيلاً لمن يُدَرِّسُ أو يَدْرُسُ هذه العقيدة.
وبعد تفكير طويل استجبت لرغبة الإخوة؛ بعد أن علمت أن كثيرًا ممن يدرسون ((العقيدة الواسطية)) يضطرون إلى أن يفتشوا في غيرها من كتب العقيدة ليستخرجوا منها ما لم يذكره شيخ الإسلام من مسائل مهمَّة في العقيدة، فأردت بهذه الزيادة (الملحق) إتمام أبواب العقيدة؛ بحيث يجد الباحث أو المدرس لهذه المادة جميع أبواب العقيدة التي يحسن دراستها وتدريسها للناس، وجعلتها في ملحق خاص آخر الكتاب.
عملي في الملحق:
نظرت في المطبوع من كتب العقيدة التي بين أيدينا, وطفقت أبحث عن مسائل العقيدة التي لم يذكرها شيخ الإسلام في ((الواسطية))، فوجدتها لا تزيد عن تسع مسائل؛ كلها ذكرها أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في ((متنه)) المشهور، أو ذكرها شارحه ابن أبي العز، وهي كالتالي(1):
1- الجماعة والفرقة.
2- الموالاة والمعاداة.
3- الحكم بغير ما أنزل الله.
4- عدم الخروج على الأئمة.
5- الميثاق.
6- الإسراء والمعراج.
7- أشراط الساعة.
8- الجنة والنار.
9- ذم الكلام ووجوب التسليم لنصوص الكتاب والسنة.
__________
(1) لم أذكر في هذا الملحق المسائل المتعلقة بالتوحيد وأقسامه، والشرك وأنواعه؛ لأن هذه المسائل مظانُّها كتب التوحيد وشروحها، وبذكرها يتضاعف الكتاب ويخرج عن أصله. فليعلم.(1/1)
ولما كانت هذه المسائل التسع أهم المسائل التي عدها من كتب في العقيدة من أبواب العقيدة، ولما كانت كلها موجودة كما أسلفت في ((شرح)) ابن أبي العز لـ((العقيدة الطحاوية))؛ فقد سِرتُ على طريقة تشبه طريقة شيخ الإسلام في ((الواسطية)) وشارحها الهراس؛ من حيث الاختصار والإيجاز، وذلك على النحو التالي:
أ - أذكر متن الطحاوي.
ب- أذكر في الهامش الموضع الذي ذكر فيه المتن من ((شرح الطحاوية))؛ لابن أبي العز الحنفي (تحقيق الألباني، الطبعة الثامنة)، والموضع الذي ذكر فيه شيخ الإسلام نحو كلام الطحاوي في أيٍ من كتبه.
ج - أذكر شرح ابن أبي العز لكلام الطحاوي مختصرًا مع ذكر الصفحة.
د- علقت تعليقات يسيرة، وخرَّجت الأحاديث؛ متبعًا الطريقة نفسها في أصل الشرح.
هـ- أدخلت الآيات والأحاديث والمراجع وغيرها في مواضعها من الفهارس العامة.
هذا؛ وأسأل الله عز وجل أن أكون قد وفقت في عملي هذا، وأن يكون هذا العمل نافعًا ومفيدًا للأساتذة والمربين الذين نذروا أنفسهم لتعليم الناس عقيدة السلف أهل السنة والجماعة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المؤلِّف
- - - - - -
فصل في الجماعة والفرقة
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا)(1).
الشرح: قال تعالى: ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( (2).
وقال تعالى: ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ((3).
__________
(1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص512-517)، و((مجموع الفتاوى)) (1/12-19 قاعدة في الجماعة والفُرقة وسبب ذلك ونتيجته).
(2) آل عمران: (103).
(3) آل عمران: (105).(1/2)
وقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ((1).
وقال تعالى : ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ((2)، فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف.
وقال تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ((3).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
((إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين مِلّة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثٍ وسبعين مِلّة (يعني: الأهواء)، كلها في النار؛ إلا واحدة، وهي الجماعة))(4). وفي رواية: قالوا: مَن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))(5).
والأمورُ التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم تُردَّ إلى الله تعالى والرسول صلَّى الله عليه وآله وسلم؛ لم يتبيَّن فيها الحقُّ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بيِّنة من أمرهم: فإن رحمهم اللهُ؛ أقرَّ بعضُهم بعضًا، ولم يبغِ بَعضُهم على بعضٍ؛ كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيُقر بعضهم بعضًا، ولا يَعتدِي، ولا يُعتدَى عليه. وإن لم يُرحَمُوا؛ وقعَ بينهم الاختلافُ المذموم، فبغَى بعضهم على بعض: إمّا بالقول؛ مثل تكفيره وتفسيقه، وإمّا بالفعل؛ مثل حبسه وضربه وقتله.
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول: إمّا عادلون، وإمّا ظالمون ؛ فالعادل فيهم : الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم: الذي يعتدي على غيره.
__________
(1) الأنعام: (159).
(2) هود: (118، 119).
(3) البقرة: (176).
(4) تقدم تخريجه (ص93).
(5) تقدم تخريجه (ص93).(1/3)
وأكثرهم إنما يظلمون، مع علمهم بأنهم يظلمون؛ كما قال تعالى: ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ((1).
وإلاَّ؛ فلو سلكوا ما علموه من العدل؛ أقرَّ بعضُهم بعضًا؛ كالمقلِّدين لأئمة العلم، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نوابًا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: هذه غاية ما قدرنا عليه؛ فالعادل منهم لا يظلم الآخر ولا يعتدي عليه بقولٍ ولا فعلٍ؛ مثل أن يدَّعي أن قول مقلَّده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من خالفه مع أنّه معذور. اهـ
- - - - - -
فصل في الموالاة والمعاداة
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَالْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ، وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ)(2).
الشرح: قال تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ((3).
الوليُّ: من الوَلاية ـ بفتح الواو ـ التي هي ضِدُّ العداوة؛ فالمؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليُّهم:
قال الله تعالى:
( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات ِ ((4).
وقال تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ((5).
__________
(1) آل عمران: (19).
(2) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص357-362)، والفصل الأول من كتاب ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(3) يونس: (62، 63).
(4) البقرة: (257).
(5) محمد: (11).(1/4)
( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض ( (1).
وقال تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ - وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ((2).
فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله،وأن الله وليهم ومولاهم.
فالله يتولى عبادَه المؤمنين؛ فيحبُّهم ويحبُّونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه،ومن عادى له وليًّا؛ فقد بارزه بالمحاربة.
وهذه الوَلاية من رحمته وإحسانه، ليست كوَلاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه.
قال تعالى: ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ((3).
فالله تعالى ليس له وليٌّ من الذُّلِّ، بل لله العزَّة جميعًا؛ خلاف الملوك وغيرهم، ممَّن يتولاَّه لذلِّه وحاجته إلى وليٍّ ينصره.
والولاية أيضًا نظير الإيمان، وتكون كاملةً وناقصةً؛ فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين؛ كما قال تعالى: ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة ( (4).
فالوَلاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث، وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في مَحابِّهِ ومَساخِطِهِ.
__________
(1) التوبة: (71).
(2) المائدة: (55، 56).
(3) الإسراء: (111).
(4) يونس: (62-64).(1/5)
فوليُّ الله: هو مَن والى اللهَ بموافقته في محبوباته والتقرُّب إليه بمرضاته، وهؤلاء كما قال تعالى فيهم: ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ( (1)؛ فَالمتَّقُون يجعلُ اللهُ لهم مخرجًا مِما ضاق على الناس، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، فيدفع الله عنهم المضارّ، ويجلب لهم المنافع، ويُعطيهم الله أشياءَ يطولُ شرحها.
وقوله: ((وأكرمُهم عندَ اللهِ أطوعُهم وأتبعهم للقرآن)) : أراد: أكرم المؤمنين هو الأطوعُ لله، والأتبع للقرآن، وهو الأتقى، والأتقى هو الأكرم.
قال تعالى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم ( (2).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض؛ إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب))(3).
فإنّ التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان؛ لا بفقرٍ ولا غنًى.
وقال رحمه الله تعالى:
(وَنُحِبُّ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالأَمَانَةِ، وَنُبْغِضُ أَهْلَ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ)(4).
الشرح: وهذا من كمال الإيمان، وتمام العبودية؛ فإنّ العبادة تتضمن كمال المحبَّة ونهايتها؛ فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله؛ فإن المحب يُحبُّ ما يُحبُّ محبوبُه، ويبغض ما يُبغض، ويرضى لرضائه، ويغضب لغضبه.
__________
(1) الطلاق: (2-3).
(2) الحجرات: (13).
(3) صحيح). رواه أحمد في ((المسند)) (5/411)، والطبراني في ((الأوسط)) (5/305/رقم3116 مجمع البحرين)، والبزار بنحوه (2/224/رقم1745 مختصر الزوائد)، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/367 تحقيق العقل)، والألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص361).
(4) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص383، 384).(1/6)
واللهُ تعالى يحبُّ المحسنين، ويحبُّ المتقين، ويحبُّ التوَّابين، ويحبُّ المتطهِّرين، ونحن نحبُّ من أحبَّه الله.
واللهُ لا يحبُّ الخائنين، ولا يحبُّ المْفسدين، ولا يحبُّ المستكبرين، ونحن لا نحبُّهم أيضًا، ونبغضهم؛ موافقةً له سبحانه وتعالى.
وفي ((الصحيحين)) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان: مَن كانَ الله ورسوله أحبَّ إليه مِمَّا سِوَاهما، ومَن كان يحبُّ المرءَ لا يُحبُّه إلاَّ لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار))(1).
فالمحبَّة التامَّة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه، وولايته وعداوته.
ومن المعلوم أنّ مَن أحبَّ اللهَ المحبةَ الواجبة؛ فلا بدَّ أن يُبغض أعداءه، ولا بدَّ أن يحبَّ ما يحبُّه من جهادهم؛ كما قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ( (2)، والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر؛ فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوبًا من وجه، ومبغوضًا من وجه، والحكم للغالب. اهـ
- - - - - -
فصل في الحكم بغير ما أنزل الله
__________
(1) رواه: البخاري في (الإيمان، باب حلاوة الإيمان)، ومسلم في (الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان).
(2) الصف: (4).(1/7)
قال ابن أبي العز شارح الطحاوية(1): ((وهنا(2) أمر يجب أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملّة،وقد يكون معصيةً كبيرةً أو صغيرةً، ويكون كفرًا: إما مجازيًّا، وإما كفرًا أصغر، على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحكم: فإنه إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخيَّر فيه، أو استهان به، مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفرٌ أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة(3)، وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحقٌّ للعقوبة؛ فهذا عاصٍ، ويسمى كافرًا كفرًا مجازيًّا أو كفرًا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطائه؛ فهذا مخطئ، له أجرٌ على اجتهاده، وخطؤه مغفور)). ا.هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ((الفتاوى)): ((ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش، ولا الفقراء، ولا غير ذلك؛ إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك؛ تناوله قوله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ((4)، وقوله تعالى: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا((5)؛ فيجب على المسلمين أن يحكَّموا الله ورسوله في كل ما شجر بينهم…))(6).
__________
(1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص323).
(2) ذكر الشارح هذا الكلام عند شرحه لقول الطحاوي: ((ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله…)). انظر: (ص267).
(3) هو هنا رحمه الله يتحدث عن الوقائع والقضايا الحالَّة.
(4) المائدة: (50).
(5) النساء: (65).
(6) مجموع الفتاوى)) (35/407-408).(1/8)
وقال أيضًا: ((وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة؛ حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا، حتى يعرف الحق؛ حكم بهِ، وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا؛ ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدًا بقبول قول غيره، وإن كان حاكمًا.
وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا؛ فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما حكم قوم بغير ما أنزل الله؛ إلا وقع بأسهم بينهم))(1).
وهذا من أعظم أساب تغير الدول؛ كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا.
ومن أراد الله سعادته؛ جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيَّده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه؛ فإن الله يقول في كتابه: ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ((2).
فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم؛ فإن الحاكم إذا كان ديِّنًا، لكنه حكم بغير علم؛ كان من أهل النار، وإن كان عالمًا؛ لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه؛ كان من أهل النار،وإذا حكم بلا عدل ولا علم؛ كان أولى أن يكون من أهل النار.
__________
(1) حسن). رواه ابن ماجة في (الفتن، باب العقوبات)؛ بلفظ: ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيَّروا مما أنزل الله؛ إلا جعل الله بأسهم بينهم))، وأوله: ((يا معشر المهاجرين))، ورواه أبو نعيم في ((الحلية)) (8/333)، وفي سندهما ابن أبي مالك، خالد بن يزيد، وهو ضعيف، ورواه الحاكم في ((المستدرك)) (4/540) بإسناد حسن. انظر: ((السلسلة الصحيحة)) (رقم 106).
(2) الحج: (40، 41).(1/9)
وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكمًا عامًّا في دين المسلمين(1)، فجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهى عما أمر الله به ورسوله؛ فهذا لون آخر ، يحكم فيه رب العالمين ، وإله المرسلين ، مالك يوم الدين، الذي ( لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون((2)، ( الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ((3).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم))(4).
أقوال العلماء في التشريع العام :
1- قول العلامة ابن حزم الأندلسي:
((لا خلاف بين اثنين من المسلمين .... وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام))(5).
2- قول شيخ الإسلام ابن تيمية:
((نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر))(6).
3- قول الحافظ ابن القيم:
__________
(1) شيخ الإسلام هنا يفرق بين الحكم في قضية معينة والحكم العام أو التشريع العام، واعلم أن الحكم في قضية أو قضايا معينة كفر وذنب عظيم، وهو من باب كفر دون كفر، أمَّا التشريع العام فنصوص العلماء قديمًا وحديثًا ـ بل قد نَقَل ابن حزم وابن القيم وابن كثير الإجماع ـ على أنه كفر أكبر مخرج من الملة، كثيرة جدًا، ويمكن جمعها في كتاب، لكن سأكتفي هنا بنقل بعضٍ منها.
(2) القصص: (70).
(3) الفتح: (28).
(4) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/387-388).
(5) الإحكام في أصول الأحكام)) (5/173)، دار الآفاق الجديدة، ط1.
(6) مجموع الفتاوى)) (35/200) ـ بتصرف يسيرـ.(1/10)
((قالوا: وقد جاء القرآن وصحَّ الإجماع بأنَّ دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام))(1).
4- قول الحافظ ابن كثير:
((من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين))(2).
وقال في تفسير سورة المائدة (الآية: 50): ((ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال(3) بلا مستند من شريعة الله.. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)).
- - - - - -
فصل في عدم الخروج على الأئمة
قال الطحاوي رحمه الله:
__________
(1) أحكام أهل الذمة (1/259). قلت: إذا كان من اتبع التوراة أو الإنجيل عند ابن حزم وابن تيمية وابن القيم كافرًا؛ فكيف بمن اتبع القوانين الوضعية التي هي من صنع البشر وحثالة عقولهم؟!
(2) البداية والنهاية (13/119).
(3) ليس هناك وصف للقوانين الوضعية أبلغ من هذا الوصف: ((آراء وأهواء واصطلاحات وضعها الرجال)).(1/11)
(وَلاَ نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ إِلاَّ مَن وَّجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ. وَلاَ نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا، وَإِنْ جَارُوا(1)، وَلاَ نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُم مِّنْ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاَحِ وَالْمُعَافَاةِ)(2).
الشرح: ((في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: ((لا يحِلُّ دَمُ امرئٍ مُسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))(3).
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ( (4).
__________
(1) أئمة المسلمين وولاة أمورهم هم من أقاموا فيهم الصلاة وحكموهم بشرع الله، ولم يُظهروا الكفر البواح، وإن جاروا و ظلموا، أمَّا من لم يقيموا فيهم الصلاة ونبذوا شرع الله خلفهم وحكَّموا فيهم غيره؛ فلا إمامة لهم ولا ولاية ولا كرامة.
(2) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص379-381)، و((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام (29/179-181)، و((السياسة الشرعية)) له أيضًا.
(3) رواه: البخاري في (الديات، باب قول الله تعالى : ((((( ((((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((((( ...( الآية)، ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم).
(4) النساء: (59).(1/12)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أنه قال: ((مَن أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن عصاني؛ فقد عصى اللهَ، ومَن يُطع الأميرَ؛ فقد أطاعني، ومن يعصِ الأميرَ؛ فقد عصاني))(1).
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه؛ قال: ((إنّ خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا حبشيًّا مُجدَّع الأطراف))(2).
وفي ((الصحيحين)) أيضًا: ((على المرءِ المسلمِ السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره ؛ إلاّ أن يُؤمر بمعصية ، فإن أمِرَ بمعصية ؛ فلا سمعَ ولا طاعة))(3).
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: ((خيار أئمتكم الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم، وتصلُّون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)). فقلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟ قال: ((لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا مَن ولي عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعةٍ))(4).
__________
(1) رواه البخاري في (الجهاد، باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به)، ومسلم في (الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية).
(2) رواه مسلم في (الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية).
(3) رواه البخاري في (الجهاد، باب السمع والطاعة للإمام)، ومسلم في (الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية).
(4) صحيح). رواه أحمد في "المسند" (6/28)، ومسلم في (الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم).(1/13)
فقد دلَّ الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم يأمروا بمعصية، فتأمّل قوله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ( (1)؛ كيف قال: ( وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن أولي الأمر لا يُفْرَدون بالطاعة؛ بل يُطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله(2).
وأما لزوم طاعتهم وإن جارُوا؛ فلأنّه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور؛ فإنّ الله تعالى ما سلّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل؛ فعلينا الاجتهادُ في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل:
قال تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( (3).
وقال تعالى: ( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون(129)( (4).
فإذا أراد الرعيّةُ أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم؛ فليتركوا الظلم)) اهـ
- - - - - -
فصل في الميثاق
قال الطحاوي:
(وَالْمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ)(5).
الشرح: قال تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ( (6).
__________
(1) النساء: (59).
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (29/196): ((الإمام العدل تجب طاعته فيما لم يُعلم أنه معصية، وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة)).
(3) الشورى: (30).
(4) الأنعام: (129).
(5) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص240-247)، و((مجموع الفتاوى)) (8/65).
(6) الأعراف: (172).(1/14)
أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم؛ شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو.
وقد وردت أحاديث في أخذ الذريَّة من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم:
فمنها ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: ((إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان (يعني: عرفة)، فأخرج من صلبه كلّ ذريَّة ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كلَّمهُم قُبُلاً؛ قال: ألستُ بربِّكُم؟ قالوا: بلى شهدنا…)) إلى آخر الآية(1).
وروى الإمام أحمد أيضًا عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال: ((يُقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيءٍ؛ أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم. قال: فيقول: قد أردتُ منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيتَ إلا أن تشرك بي شيئًا)).
وأخرجاه في ((الصحيحين)) أيضًا(2).
- - - - - -
فصل في الإسراء والمعراج
قال الطحاوي رحمه الله:
__________
(1) صحيح لغيره) . رواه أحمد في (( المسند )) (1/272) ، وابن جرير في (( التفسير )) (15338-شاكر)، وابن أبي عاصم في السنة (رقم 202)، وانظر: ((السلسلة الصحيحة)) (رقم 1623).
(2) رواه البخاري في الأنبياء، باب خلق آدم وذريته)، ومسلم في (صفات المنافقين، باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبًا)، وأحمد في ((المسند)) (3/127، 129).
... - اعلم ـ وفقني الله وإياك ـ أن أخذ الميثاق والإشهاد عليه من أمور الغيب التي لا تتخيلها عقولنا القاصرة، ويجب علينا الإيمان بهما كسائر الغيبيَّات، ومن أحسن من رأيته أوضح مشكلها وأبانه الشيخ حافظ حكمي في ((معارج القبول)) (1/84-94)، وللشيخ الألباني عند تخريج حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- السابق في ((السلسلة الصحيحة)) كلام جيد؛ فراجعه إن شئت.(1/15)
(وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ، وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنِّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَعُرَجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللهُ مِنَ الْعُلاَ، وَأَكْرَمَهُ اللهُ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى)(1).
الشرح: المعراجُ: من العُروج؛ أي: الآلة التي يُعرج فيها؛ أي: يُصعد، وهو بمنزلة السُّلّم، لكن لا يُعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغَيَّبات؛ نُؤمن به، ولا نشتغل بكيفيته.
وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعُرِجَ بشخصه في اليقظة. وإنّ الإسراء كان مرّةً واحدةً بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة.
وكان من حديث الإسراء: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أسريَ بجسده في اليقظة على الصحيح، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ راكبًا على البراق، صحبه جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد.
__________
(1) انظر: شرح ((العقيدة الطحاوية)) (ص223-226)، و((مجموع الفتاوى))
(4/328، 5/256)، و((درء تعارض العقل والنقل)) (5/354).(1/16)
ثم عُرِجَ به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، ثم عُرج به إلى السماء الثانية، ثم إلى الثالثة والرابعة حتى السابعة، ورأى هناك عددًا من الأنبياء، ثم رُفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض الله عليه خمسين صلاةً، فرجع حتى مرَّ على موسى، فقال: بِمَ أمِرْت؟ قال: بخمسين صلاة. فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك؛ ارجعْ إلى ربك؛ فاسأله التخفيف لأمتك. فوضع عنه عشرًا، ثم نزل حتى أتى موسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك؛ فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردَّد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى، حتى جعلها خمسًا، فأمره موسى بالرجوع، وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييتُ من ربي، ولكن أرضى وأسلم. فلمَّا نفذَ؛ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي، وخففتُ عن عبادي(1).
وفي رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم ربَّه عزَّ وجلَّ اختلاف، والصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه.
ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة: قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ( (2)، والعبد عبارةٌ عن مجموع الجسد والروح؛ كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر؛ لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوّة، وهو كُفر.
فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري في (بدء الخلق، باب ذكر الملائكة)، وفي (مناقب الأنصار، باب المعراج)، ورواه مسلم في (الإيمان، باب الإسراء برسول الله ( إلى السماوات وفرض الصلوات).
(2) الإسراء: (1).(1/17)
فالجواب ـ والله أعلم ـ: أن ذلك كان إظهارًا لصدق دعوى الرسول ( المعراج حين سألَتْه قريشٌ عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم، وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة؛ لما حصل ذلك؛ إذ لا يمكن إطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس، فأخبرهم بنعته.
وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلوِّ لله تعالى من وجوهٍ لمن تدبَّره، وبالله التوفيق. اهـ
- - - - - -
فصل في أشراط الساعة
قال الطحاوي رحمه الله:
(وَنُؤْمِنُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ(1)؛ مِنْ: خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّمَاءِ، وَنُؤْمِنُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ دَابَّةِ الأَرْضِ مِنْ مَوْضِعِهَا)(2).
__________
(1) الشرط هو العلامة، والساعة القيامة، والمقصود بأشراط الساعة؛ أي: علامات القيامة التي تسبقها وتدل على قربها.
... وقد قسم العلماء أشراط الساعة إلى صغرى وكبرى:
... والصغرى: هي التي تتقدم الساعة بأزمان متطاولة؛ كبعثة النبي (، وقبض العلم، والتطاول في البنيان..
... والكبرى: هي الأمور العظام التي تظهر قرب قيام الساعة، وهي المقصودة هنا.
(2) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص499-502)، و((مجموع الفتاوى)) (36/45).(1/18)
قال الشارح: عن حذيفة بن أسيد؛ قال: اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ((ما تذاكرون))؟ قالوا: نذكر الساعة. فقال: ((إنها لن تقوم حتى تَرَوْن قبلها عشرَ آياتٍ، فذكر: الدُّخَان، والدجَّال، والدابّة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسفٌ بالمشرق، وخسفٌ بالمغرب، وخسفٌ بجزيرة العرب، وآخر ذلك نارٌ تخرج من اليمن؛ تطرد الناس إلى محشرهم)). رواه مسلم(1).
وفي ((الصحيحين)) عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: ذُكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ((إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه، وإن المسيح الدجال أعورُ عين اليمنى، كأنّ عينهُ عنبة طافية))(2).
وروى البخاري وغيرُه عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده؛ ليوشِكنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مريم حَكَمًا عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيضُ المال؛ حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيرًا من الدنيا وما فيها)). ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا(159) ((3) [النساء: 159].
وأحاديث الدجال وعيسى بن مريم عليه السلام ينزل من السماء ويقتله، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم… يضيق هذا المختصر عن بسطها.
__________
(1) صحيح). رواه أحمد في ((المسند)) (4/6)، ومسلم في (الفتن، باب الآيات التي تكون قبل الساعة).
(2) رواه: البخاري في (التوحيد، باب قول الله تعالى: ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي( ، ومسلم في (الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه).
(3) صحيح). تقدم تخريجه (176).(1/19)
وأما خروج الدابَّة وطلوع الشمس من المغرب؛ فقال تعالى: ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ((1).
وروى البخاري عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تقومُ الساعة حتى تطلع الشمسُ من مغربها؛ فإذا رآها الناسُ؛ آمن مَن عليها؛ فذلك حين لا ينفعُ نفسًا إيمانُها لم تكن آمنتْ من قبل))(2).
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو؛ قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثًا لم أنسه بعدُ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابَّة على الناس ضحًى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها قريبًا))(3)؛ أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجَّال ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر، مشاهدة مثلهم مألوفة، وأما خروج الدَّابَّة بشكل غريب غير مألوف، ثم مخاطبتها الناس، ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر؛ فأمر خارجٌ عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أنّ طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية. اهـ
- - - -
فصل في الجنة والنار
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
__________
(1) النمل: (82).
(2) رواه البخاري في (التفسير، باب ( قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ (، ومسلم في (الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان).
(3) رواه مسلم في (الفتن، باب خروج الدجّال ومكثه في الأرض).(1/20)
(وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ، لاَ تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلا تَبِيدَانِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلاً، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلاً مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ، وَكُلُّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ, وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعِبَادِ)(1).
الشرح: أما قوله: ((إن الجنة والنار مخلوقتان))؛ فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك.
فمن نصوص الكتاب: قوله تعالى عن الجنة:( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ((2)، ( أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه ( (3)، وعن النار:
( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ((4)، ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادً - لِلْطَّاغِينَ مَآبًا(22)( (5)، وقال تعالى: ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى - عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى - عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ((6).
وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سِدْرَةَ المُنتهى، ورأى عندها جنّة المأوى؛ كما في ((الصحيحين)) من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره: ((ثم انطلقَ بي جبرائيل، حتى أتى سِدْرَةَ المنتهى، فغشيها ألوانٌ لا أدري ما هي)). قال: ((ثم دخلت الجنّة؛ فإذا هي جنابِذُ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك))(7).
وقوله: ((لا تفنيان أبدًا ولا تبيدان)): هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف.
__________
(1) انظر ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص420-432)، و((مجموع الفتاوى)) (18/307).
(2) آل عمران: (133).
(3) الحديد: (21).
(4) آل عمران: (131).
(5) النبأ: (21، 22).
(6) النجم: (13-15).
(7) رواه البخاري في (الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء)، ومسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله ( إلى السماوات وفرض الصلوات).(1/21)
فأما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد؛ فهذا مِمّا يُعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر به.
قال الله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ?( (1)؛ أي: إلاّ مدَّة مقامهم في القبور والموقف.
وقال ابنُ جرير الطبري: إنّ الله تعالى لا خُلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله:( عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( ؛ أي غير مقطوع، وعلى كل تقدير؛ فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: ( عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ ٍ (؛ محكم، فنأخذ بالمُحْكم، وندع المتشابه إلى عالِمه.
وقوله تعالى: ( أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ?((2).
وقوله تعالى: ( وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ?((3).
وقد أكّدَ اللهُ خلود أهل الجنّة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنّهم: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى ?((4)، وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممتَهُ إلى الاستثناء في قوله تعالى: ( إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ?(؛ تبيَّنَ أنَّ المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنّة من مدَّة الخلود؛ كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت؛ فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها.
__________
(1) هود: (108).
(2) الرعد: (35).
(3) الحجر: (48).
(4) الدخان: (56).(1/22)
والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَن يدخلُ الجنة ينعَمُ ولا يبأس، ويخلدُ ولا يموتُ))(1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يُنادِ مُنادٍ: يا أهل الجنة! إنّ لكم أن تصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا،وأن تشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وأن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا))(2)، وفي حديث ذبح الموت بين الجنة والنار: ((ويقال: يا أهل الجنة! خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار! خلودٌ فلا موتٌ))(3).
وأما أبديَّة النار ودوامُها؛ فإن الله تعالى يُخرج منها من شاء؛ كما ورد في السنة، ويُبقي فيها الكفار بقاءً لا انقضاء له.
ومن أدلَّة بقائها وعدم فنائها:قوله تعالى:( وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ((4) ( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ((5)،(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً ?((6)(?????? وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّار((7)،( لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ?( (8).
وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار مَن قال: لا إله إلا الله، وأحاديثُ الشفاعة صريحة في خروج عُصاة الموحِّدين من النار، وأنّ هذا حكمٌ مختصٌّ بهم؛ فلو خرج الكفار منها؛ لكانوا بمنزلتهم، ولم يختصَّ الخروج بأهل الإيمان.
__________
(1) صحيح). رواه: أحمد في ((المسند)) (15/190/رقم8030 شاكر)، ومسلم في (الجنة، باب في دوام نعيم أهل الجنة)؛ بلفظ: ((من يدخل الجنة؛ ينعم ولا يبأس؛ لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)).
(2) رواه مسلم في (الجنة، باب في دوام نعيم أهل الجنة) بنحوه، وأحمد في ((المسند)) (16/113/رقم8241-شاكر).
(3) رواه البخاري في (الرقاق، باب ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ()ومسلم في (الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء).
(4) المائدة: (37).
(5) الزخرف: (75).
(6) النساء: (169)، والبينة: (8).
(7) البقرة: (167).
(8) فاطر: (36).(1/23)
وبقاءُ الجنَّة والنار ليسَ لذاتهما؛ بل بإبقاء الله لهما.
وقوله: ((وخلقَ لهما أهلاً)): قال الله تعالى: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنس ( (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله خلق للجنّة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم))(2)، رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وقوله: ((فمن شاء منهم إلى الجنَّة فضلاً منه، ومَن شاء منهم إلى النار عدلاً منه…)) إلى آخره: مِمَّا يجب أن يُعلم أنّ الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه، وهو العمل الصالح؛ فإنّه: ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا((3)، كذلك لا يعاقب أحدًا إلا بعد حصول سبب العقاب؛ فإن الله تعالى يقول: ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير((4)، وهو سبحانه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطيَ لما منع، لكن إذا مَنَّ على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح؛ فلا يمنعه موجب ذلك أصلاً ؛ بل يُعطيه من الثواب والقُرب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطَر على قلب بشر، وحيث منعه ذلك؛ فلانتفاءِ سببه، وهو العمل الصالح.
ولا ريب أنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لكن ذلك حكمةٌ منه وعدلٌ؛ فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله، وأما المسببات بعد وجود أسبابها؛ فلا يمنعها بحال، إذا لم تكن أسبابًا غير صالحة: إما لفساد في العمل، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه، فيكون ذلك لعدم المقتضي، أو لوجود المانع.
__________
(1) الأعراف: (179).
(2) رواه مسلم في (القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة)، وأحمد في (( المسند ))
(6/41).
(3) طه: (112).
(4) الشورى: (30).(1/24)
وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح، وهو لم يعطِ ذلك ابتلاءً وابتداءً إلا حكمةً منه وعدلاً؛ فله الحمد في الحالين، وهو المحمود على كل حالٍ، كل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل؛ فإن الله تعالى حكيم، يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها؛ كما قال تعالى: ( وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ((1)، وكما قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( (2)، ونحو ذلك. اهـ
- - - - - -
فصل في ذم الكلام
ووجوب التسليم لنصوص الكتاب والسنة
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وَلا تَثْبُتُ قَدَمُ الإِسْلاَمِ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ والاسْتِسْلامِ)(3).
الشرح: أي: لا يثبت إسلام من لم يسلِّم لنصوص الوحيينِ، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه.
روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله؛ أنه قال: ((مِن الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم))(4).
وهذا كلامٌ جامعٌ نافعٌ.
وقال الطحاوي:
(فَمَن رَام عِلْمَ ما حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ؛ حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ وَصَحِيحِ الإِيمَانِ)(5).
__________
(1) الأنعام: (124).
(2) الأنعام: (53).
(3) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص201-203).
(4) رواه البخاري تعليقًا في (كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ( أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ..().
(5) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص203-208)، و((مجموع الفتاوى)) (36/60).(1/25)
الشرح: هذا تقريرٌ للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يُتَكَلَّم في أصول الدِّين ـ بل وفي غيرها ـ بغير علم.
قال الله تعالى: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً((1).
وقال تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ - ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ((2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما ضلّ قوم بعد هدًى كانوا عليه؛ إلا أوتوا الجدل، (ثم تلا ) : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً?( [الزخرف:58])). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن(3).
ولا شك أن من لم يسلم للرسول؛ نقص توحيده؛ فإنه يقول برأيه وهواه، ويقلّد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول؛ فإنه قد اتَّخذه في ذلك إلهًا غير الله.
قال تعالى: ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه (((4)؛ أي: عبد ما تهواه نفسه.
وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق؛ كما قال عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ
وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمِانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ
وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلاَّ الْمُلُوكُ
وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهبَانُهَا
فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله.
__________
(1) الإسراء: (36).
(2) الحج: (8-9).
(3) حسن). رواه الترمذي في (تفسير القرآن، باب ومن سورة الزخرف)، وابن ماجة في (المقدمة، باب اجتناب البدع والجدل)، وأحمد في ((المسند)) (5/252، 256).
(4) الفرقان: (43).(1/26)
وأحبار السوء، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة، بآرائهم وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه... ونحو ذلك.
والرهبان، وهم جهَّال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه (، والتعوُّض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس.
فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع؛ قدمنا السياسة!
وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل؛ قدمنا العقل.
وقال أصحاب الذوق: إذا تعارض الذوق والكشف وظاهر الشرع؛ قدمنا الذوق والكشف.
ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحصل من كلام المتحيرين؛ بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبَّر معناه ويعقله، ويعرفَ برهانَهُ ودليله العقلي والخبري السمعي، ويعرفَ دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول؛ قُبِلَ، وإن أرادوا بها ما يخالفه؛ رُدَّ.
وسبب الإضلال: الإعراض عن تدبِّر كلام الله ورسوله، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة، وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام؛ لأنهم لم يفيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد. اهـ
وقال الطحاوي أيضًا:
(فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالإِقْرَارِ وَالإِنْكَارِ، مُوَسْوَسًا تَائِهًا، شَاكًّا زَائِغًا؛ لاَ مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، ولاَ جَاحِدًا مُكَذِّبًا) (1).
__________
(1) انظر: ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص208-210).(1/27)
الشرح: هذه الحالة حال كل مَن عَدَلَ عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، أو أرادَ أن يجمع بينه وبين الكتاب والسُّنّة، وعند التعارض يتأوَّل النصَّ ويردُّه إلى الرأي والآراء المختلفة، فيَؤول أمرُه إلى الحيرة والضلال والشك.
قال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي صنّفه ((أقسام اللذات)): ((لقد تأمّلت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ((1)، ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ( (2)، وأقرأ في النفي: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( (3)،( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ((4))).
ثم قال: ((ومن جرَّب مثل تجربتي؛ عرف مثل معرفتي)).
وقال أبو المعالي الجويني: ((يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنّ الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ؛ ما اشتغلت به)).
وقال عند موته: ((لقد خضتُ البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن؛ فإن لم يتداركني ربي برحمته؛ فالويل لابن الجويني، وها أنذا أموتُ على عقيدة أمي (أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور))).
ومن يصل إلى مثل هذه الحالة، إن لم يتداركه الله برحمته، وإلا؛ تزندق.
قال الشافعي رحمه الله:
((حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام)).
وقال: ((لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلمًا يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ـ ما خلا الشرك بالله ـ خيرٌ له من أن يبتلى بالكلام)). اهـ
__________
(1) طه: (5).
(2) فاطر: (10).
(3) الشورى: (11).
(4) طه: (110).(1/28)
وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك، التي كان يقطع بها، ثم تبيَّن له فسادها، أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم ـ إذا سلموا من العذاب - بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب. اهـ
((انتهى الملحق بحمد الله وتوفيقه))
- - - - - - - -
- - - - - -
- - - -
- -(1/29)
شَرْحُ
العَقِيدَةِ الوَاسِطِيَّةِ
لشيخِ الإسلام
أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام ابن تيميَّة
تأليف
العلاَّمة محمد خليل هرَّاس
ضبط نصه وخرَّج أحاديثه
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
مقدمة الطبعة الرابعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمَّدٍ، عبدِ الله ورسوله، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه هي الطبعة الرابعة من كتاب ((شرح العقيدة الواسطيَّة)) للعلاَّمة محمد خليل هرَّاس، ويليه ((ملحق الواسطيَّة))، حيث تمتاز عن سابقتها بما يلي:
مراجعة ضبط النَّص والتحقيق والتخريج.
إضافات في هوامش التعليق وبخاصة على الفرق الضالة.
إضافات في مسائل الإيمان والكفر وعلامات الإرجاء والغلو.
التشريع العام وعلاقته بمسألة الحكم بغير ما أنزل الله.
وضع نص المتن كاملاً مضبوطاً بالشكل في بداية الكتاب.
وضع ملخص لمتن العقيدة في صفحتين آخر الكتاب.
وضع فهرس للمفردات.
هذا وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتقبله خالصاً لوجهه الكريم.
أبو محمد
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
aasaggaf@hotmail.com
المقدمة
إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثمَّ إنَّ من نعم الله على هذه الأمة أن أكمل لها دينها، وأتمَّ عليها نعمته، ورضي لها الإسلام دينًا.(1/1)
وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قُبِضَ إلا وقد تركها على المحجَّةِ البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وما ترك خيرًا يقرِّبها إلى الجنة ويُبْعِدها عن النار؛ إلا ودلَّها عليه، ولا شرًّا إلا وحذرها منه؛ ليَهْلِكَ من هلك عن بيِّنَةٍ ويَحْيَا من حَيَّ عن بيِّنة.
وقد أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نرجعَ عند الاختلاف ونتحاكَمَ عند النزاع إليه وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال عزَّ من قائل:
{ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (1).
وعلى هذا النَّهج سار سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومَن سلك نهجَهم وخطى خطاهُم.
أهميَّة العقيدة السلفية بين العقائد الأخرى:
إن أهمية دراسة العقيدة السلفيَّة تنبع من أهمية العقيدة نفسها، وضرورة العمل الجاد الدّؤوب لإعادة الناس إليها، وذلك لأمور:
أولاً: أنه بها تتوحَّد صفوف المسلمين والدُّعاة، وعليها تجتمع كلمتهم، وبدونها تتفكَّك؛ ذلك أنها عقيدة الكتاب والسنة والجيل الأول من الصحابة، وكل تجمُّع على غيرها مصيره الفشل والتفكُّك.
ثانيًا: أن العقيدة السلفية تجعل المسلم يعظِّم نصوص الكتاب والسنة، وتعْصِمُه من ردِّ معانيها، أو التّلاعب في تفسيرها بما يوافق الهوى.
ثالثًا: أنها تربط المسلم بالسَّلف من الصحابة ومَن تبعهم، فتزيده عزَّة وإيمانًا وافتخارًا، فهم سادةُ الأولياء، وأئمَّة الأتقياء، والأمر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:
__________
(1) النساء: 59.(1/2)
((إن الله نظرَ في قلوب العباد، فوجَد قلبَ محمّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خيرَ قلوب العباد، فاصطفاهُ لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتِلون على دينه، فما رَأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ، وما رأوْهُ سيِّئًا فهو عند الله سيئ))(1).
أو كما رُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
((مَن كان مستنًّا؛ فليستنَّ بمَن قد مات، أولئك أصحاب محمّد - صلى الله عليه وسلم -؛ كانوا خيرَ هذه الأمة؛ أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا على الهدى المستقيم، والله ربِّ الكعبة))(2).
رابعًا: تميُّزُهَا بالوضوح؛ حيث إنها تتَّخذ الكتاب والسنة منطلقًا في التصوُّر والفهم، بعيدًا عن التأْويل والتعطيل والتَّشْبيه، وتنجي المتمسِّك بها من هَلَكةِ الخوض في ذات الله، وردِّ نصوص كتاب الله وسنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثَمَّ تكسب صاحبها الرِّضا والاطمئنان لقدر الله، وتقدير عِظَمِ الله، ولا تكلِّف العقل التَّفكير فيما لا طاقة له به من الغيبيَّات؛ فالعقيدة السلفيَّة سهلةٌ ميسَّرة، بعيدة عن التّعقيد والتّعجيز.
أهميَّة ((العقيدة الواسطية)) بين العقائد السّلفيّة:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في ((المسند)) (1/379)، وصحّح إسناده الشيخ أحمد شاكر (رقم3600).
(2) انظر: ((الحلية)) لأبي نعيم (1/305).(1/3)
إن ((العقيدة الواسطية)) لشيخ الإسلام ابن تيميّة من أكثر العقائد السلفية سهولة ويسرًا، مع وضوحٍ في العبارة، وصحَّةٍ في الاستدلال، واختصارٍ في الكلمات, وقد وُضِعَ لها القَبول في الأرض، فتلقَّفها طلاب العلم ودرسوها وتدارَسوها ثم درَّسوها، وحفظوها جيلاً بعد جيل، وهي بحقٍّ من أجمع وأخصر ما كُتِب في عقيدة أهل السنة والجماعة.
أما لماذا سُمِّيَت بـ((العقيدة الواسطية))؟ فهذا سؤال يجيب عليه مؤلِّفها وواضعها شيخ الإسلام رحمه الله، فيقول:
((قدم عليَّ من أرض واسطٍ بعض قضاة نواحيها ـ شيخٌ يقال له: رضي الدين الواسطي، من أصحاب الشافعي ـ، قدِم علينا حاجًّا، وكان من أهل الخير والدِّين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التَّتر؛ من غلبة الجهل والظلم، ودُروس(1) الدِّين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدةً له ولأهل بيته، فاستعفيتُ من ذلك، وقلتُ: قد كتب الناس عقائد متعدِّدة، فخذ بعض عقائد أئمة السُّنّة. فألحَّ في السؤال، وقال: ما أحبُّ إلا عقيدة تكتبها أنت. فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعدٌ بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخٌ كثيرة؛ في مصر والعراق، وغيرِهما))(2).
ومن توفيق الله وقدره أن كان هذا الرجل من واسط، فسميت العقيدة الواسطية.
__________
(1) دَرَسَ العلمُ: انمحى، وزالت أعلامه.
(2) مجموع الفتاوى)) (3/164).
... و(واسط): بلدة أنشأها الحجَّاج بن يوسف الثقفي، عامل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، في موضع جنوبي العراق، يتوسط بين الكوفة والبصرة، وسميت واسطًا لتوسطها.
... انظر: ((تاريخ واسط)) لبحشل (ص22).(1/4)
وهي ـ أيضًا ـ كما قال شيخ الإسلام في أولها: ((بل هم ـ يعني: أهل السنة والجماعة ـ وسطٌ في فرق الأمة؛ كما أن الأمة هي الوسط في الأمم، فهم وسطٌ في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التّعطيل الجهميّة وأهل التّمثيل المشبّهة، وهم وسطٌ في باب أفعال الله بين الجبريّة والقَدَريّة وغيرهم.. إلخ))؛ فهي ـ إذن ـ واسطيّة وسطيّة.
أهميّة شرح الشيخ هرّاس لـ((العقيدة الواسطيّة))بين شروحها:
يمتاز شرح العلاّمة محمّد خليل هرَّاس لـ((العقيدة الواسطية))بالوضوح والاختصار، وكما قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي: إنه:
((من أنفس الشروح، وأوضحها بيانًا، وأخصرها عبارة)). اهـ
فالشيخ رحمه الله لم يترك كلمة في العقيدة إلا وشرحها ووضَّحها ـ في الغالب الأعم ـ، واستشهد في مواضع كثيرة بالقرآن الكريم، وبأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وبأقوال الصحابة والمفسرين، وبأقوال السلف؛ كالإمام أحمد، والبخاري، ونُعَيْم بن حماد.. وغيرهم ممَّن جاء بعدهم واقتفى أثرهم؛ كشيخ الإسلام في مواضع أخرى من كتبه، وتلميذيه ابن القيّم والذهبي، وبالمتأخرين؛ كالشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ومحمد بن مانع؛ كما أنه ذكر مقالات الفرق، وردّ على شبههم؛ كالجهميّة، والقدريّة، والجبريّة، والمعتزلة، والأشاعرة.. وغيرهم، وبيَّن ضلال أئمتهم في القديم؛ كغيلان الدمشقي، وبشر المَريسي.. وغيرهما، ثم مَن بعدهما؛ كالرازي, والغزالي، ثم رافع راية التجهُّم في عصرنا هذا المدعو زاهد الكوثري، كل ذلك في هذا الشرح الصغير، السهل الميسَّر.
فحُقَّ لهذا الشرح أن يكون من أنفس الشروح، وأخصرها، ولا يعرف حقيقة ذلك إلا من طالعه، ودرسه، وتدارسه، واطَّلع على غيره من الشروح.
((العقيدة الواسطيَّة)) وشروحها:
للعقيدة الواسطية ـ عقيدة الفرقة الناجية ـ طبعات عدَّة، وشروح كثيرة، فمن ذلك مثلاً:
1- (( التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة )):(1/5)
تأليف العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وعليها منتخبات من تقارير الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وقد قام بنشرها أولاً وأشرف على طبعها الأستاذان: عبد الرحمن بن رويشد، وسليمان بن حماد، وقد طبعت في (64 صفحة) من الحجم المتوسط، بدون تاريخ.
ثم طبعت طبعة أخرى مضبوطة النص والأحاديث، ونُشِرَت بدار ابن القيم بالدمّام، وعدد صفحاتها (107 صفحة) من القطع الكبير، وذلك في عام (1410 هـ).
2- ((العقيدة الواسطية)):
علَّق على حواشيها وأشرف على تصحيحها فضيلة العلاّمة محمد بن عبدالعزيز بن مانع؛ مدير المعارف العام سابقًا؛ وهو تعليق مختصر جدًا، بلغت صفحاته (32 صفحة) من الحجم المتوسط، وطُبعت الطبعة الأولى في مطبوعات سعد الراشد بالرياض، بدون تاريخ.
3- ((شرح العقيدة الواسطية)):
للعلاَّمة محمد خليل هرَّاس ـ وهو كتابنا هذا ـ وراجعه الشيخ عبدالرزاق عفيفي، طُبع في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في (176 صفحة) من الحجم الصغير، ثم طُبع مرة أخرى طبعةً قام بتصحيحها والتعليق عليها الشيخ إسماعيل الأنصاري، وقامت بنشرها الرئاسة العامَّة لإدارات البحوث العلميَّة والإفتاء والدعوة والإرشاد في (187 صفحة) من الحجم الصغير، وذلك عام (1403هـ)، وهي لا تختلف عن سابقتها كثيرًا؛ إلا في مواضع يسيرة، علَّق عليها الشيخ إسماعيل الأنصاري.
4- ((التَّنبيهات السنيَّة على العقيدة الواسطية)):
للشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد، رئيس محكمة التمييز بالرياض، وهو شرحٌ موسَّع، يقع في (388 صفحة) من الحجم الكبير، كتبه نزولاً على رغبة طلبته في المعهد العلمي، وقام بنشره دار الرشيد للنشر والتوزيع؛ بدون تاريخ.
5- ((الكواشف الجليَّة عن معاني الواسطية)):(1/6)
للشيخ عبد العزيز المحمد السلمان، المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض (سابقًا)، وهو شرحٌ كبير، يقع في (471 صفحة)، وقد طُبع عدة طبعات، وُزِّعَت مجانًا، آخرها الطبعة السابعة عشرة عام (1410هـ)، وتقع في (807 صفحة).
6- ((الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية)):
له أيضًا، وهو على طريقة السؤال والجواب، ويقع في (340 صفحة) من الحجم الكبير، ووزِّع مجانًا مراتٍ عديدة على نفقة بعض المحسنين، وقد اختصره المؤلف نفسه.
7- ((شرح العقيدة الواسطية)):
للشيخ صالح بن فوزان الفوزان، مدير المعهد العالي للقضاء بالرياض، وهو شرحٌ مُيسَّرٌ ومختصرٌ؛ يقع في (222 صفحة)، اعتمد فيه مؤلِّفه على ((التَّنبيهات السَّنيَِّة)) للشيخ عبد العزيز الرشيد، و((الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية)) للشيخ زيد بن عبد العزيز بن فيّاض، وقد طُبِعَ في مكتبة المعارف بالرياض عدة طبعات.
8- ((العقيدة الواسطية)):
للعلاّمة محمد بن صالح العثيمين، وهو شرح مختصرٌ لبعض الكلمات صغيرٌ جدًّا ، وتعريفٌ لبعض المصطلحات الواردة في الكتاب ، ويقع في (55صفحة) من الحجم المتوسط، وقد طُبع الطبعة الأولى عام (1406هـ) في مكتبة الهدى بمدينة الثقبة في المنطقة الشرقية.
((التعليقات المفيدة على العقيدة الواسطية)):
تعليق وتخريج عبد الله بن عبد الرحمن بن علي الشريف، وهو أحسن ما رأيت في ضبط متن العقيدة، مع إحالة آياتها وتخريج أحاديثها تخريجًا مختصرًا، وبعض التعليقات المختصرة المفيدة؛ كما سمّاها صاحبها، ويقع في (89 صفحة) من الحجم المتوسِّط، وكانت الطبعة الأولى منه في عام (1404هـ) بدار طيبة بالرياض.
10- ((العقيدة الواسطية ومجلس المناظرة فيها بين شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء عصره)):(1/7)
تحقيق الأستاذ/ زهير الشاويش، وهو تحقيقٌ للمتن فقط، وقد اعتمد ـ كما يقول ـ على مخطوطة عنده، وكان إخراجه لها إخراجًا جيِّدًا؛ أحال فيه الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم، وخرَّج الأحاديث تخريجًا مختصرًا جدًا، ثم أعقب ذلك بذكر المناظرة التي جرت بين شيخ الإسلام وخصومه بسبب هذه العقيدة ، وقد بلغ عدد صفحات المتن مع المناظرة (100 صفحة) من القطع المتوسط ، وقد طبعها في مكتبه الإسلامي عام (1405هـ).
11- ((شرح العقيدة الواسطية)):
للشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني، راجعه له الشيخ الدكتور عبدالله بن عبد الرحمن الجبرين، وهو شرح مختصر وسهلٌ وميسَّر، يقع في (87 صفحة) من الحجم الصغير، اعتمد فيها صاحبه على من سبقه ممّن ذكرناهم، وقد طُبع عام (1409 هـ).
12- ((الروضة النديَّة شرح العقيدة الواسطية)):
للشيخ زيد بن عبد العزيز بن فياض، وهو شرح موسع جدًا، طُبعت الطبعة الأولى منه عام (1377هـ)، والطبعة الثانية عام (1378هـ)، وتقع في (516 صفحة).
13- ((شرح الواسطية)):
للشيخ الحجة محمد بن صالح العثيمين، وهو مسجل على أشرطة ((كاسيت))، ثم كتبه أحد تلامذته، وتداوله طلبة العلم، وهو شرح نفيس لا يُعلى عليه(1).
14- ((التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية)):
للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، وهو شرح موسَّع جدًّا، وطبعت الطبعة الأولى منه عام (1419هـ)، وتقع في مجلدين عدد صفحاتهما (618صفحة) بدار الوطن بالرياض، باعتناء الأخ أبي أنس علي بن حسين أبو لوز.
15- ((شرح العقيدة الواسطية من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية)):
__________
(1) وقد طُبع مؤخرًا بمكتبة طبرية باعتناء الأخ أبي محمد أشرف بن عبد المقصود طبعة جيدة، ثم طُبع مرة أخرى عام (1415هـ) بعد أن راجعها الشيخ نفسه باعتناء الأخ سعد بن فواز الصُّميل، وتقع هذه الطبعة في مجلدين عدد صفحاتهما (894صفحة)، نشر دار ابن الجوزي بالدمام.(1/8)
جمع وترتيب الأخ خالد بن عبد الله المصلح، وهو جمع لطيف لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية يوضح ما اشتملت عليه العقيدة الواسطية، ويقع في (216 صفحة)، طبعت الطبعة الأولى منه عام (1421هـ) بدار ابن الجوزي بالدمام.
- - - -
من هنا نعلم أهميَّة هذه العقيدة؛ حيث قام بعض أهل العلم بضبطها، وآخرون بتخريج أحاديثها، وآخرون بالتعليق عليها، أو شرحها شرحًا مختصرًا، أو شرحًا مطوَّلاً؛ كل هذا خدمة للعقيدة السلفيّة المتمثّلة في ((العقيدة الواسطية)).
إلا أنني لم أجد من قام بخدمة شرحها الذي ألّفه الشيخ الهرّاس رحمه الله؛ إلا ما قام به الشيخان؛ عبد الرزاق عفيفي، وإسماعيل الأنصاري (رحمهما الله) من مراجعة وتعليقات قصيرة.
لذلك؛ فإنني رغبت في أن أحظى بشرف الاعتناء بهذا الشرح، وأسأل الله أن يكون عملاً نافعًا متقبلاً عنده.
وصف النسخة الخطيّة للمتن:
توجد هذه النسخة في برلين الغربية.
وهناك صورة منها في مركز المخطوطات والتراث والوثائق بجمعيّة إحياء التراث الإسلامي بالكويت برقم (2/12147ـ عقيدة)، وقد قام المركز بإرسالها لي مشكورًا.
وعدد أوراق هذه النسخة (11) ورقة، ومقاسها (10.5×18.5) سم، وأسطرها (23) سطرًا.
وقد كُتِبت بخط نسخ جيد وواضح داخل إطارات، واستمر الخط ـ الذي لا يُعْلَم ناسخُه، ولا متى نُسِخَ ـ من أول الكتاب إلى آخره.(1/9)
وهذه النسخة ـ رغم جودة خطها ـ كثيرة السقطات والأغلاط، حتى في الآيات، ولذلك ما استطعت أن أجعلها أصلاً ـ كما هو المعتاد عند التحقيق ـ، بل جعلت النص المطبوع مع الشرح هو الأصل(1)؛ لأن الشرح تابعٌ له متمشٍّ معه، وَجعلتُ هذه النسخة كالمرجِّح بين الطبعات عند اختلافها، وخاصةً الاختلاف الواقع بين الطبعة التي جعلتُها أصلاً والطبعة التي هي ضمن مجموع الفتاوى، فاكتفيتُ بالإشارة إلى الاختلافات المهمة التي قد يتغيَّر بها المعنى، وأعرضت عن كثير من الاختلافات التي لا جدوى من ذكرها، وقد يشوِّش إيرادها على القارئ.
- - - - - -
عملي في الكتاب:
1- ضبطتُ نص المتن ضبطًا متقنًا من خلال الطبعات الكثيرة له المستقلة والمقرونة ببعض التعليقات أو الشروح آنفة الذكر، وقابلته بالمخطوط؛ كما جعلته مجموعًا في أول الكتاب وضبطتُه بالشكل حتى تسهُل قراءتُه وحفظه، ثم متفرقًا حسب الشرح، ثم لخصته في صفحتين آخر الكتاب.
2- تتبّعت الاختلاف في نصّ الشرح ـ وهو قليل جدًا ـ بين طبعتي الجامعة الإسلامية والإفتاء، وبيّنت ذلك في مواضعه.
3- ضبطتُ الألفاظ المُشكلة والموهمة في الشرح بالشكل؛ ليسهل على القارئ فهمها.
4- ضبطتُ الآيات، وعزوتُها إلى مواضعها من القرآن الكريم.
5- خرَّجتُ جميع الأحاديث والآثار.
وطريقتي في التخريج هي:
- أبدأ بالحكم على الحديث من حيث الصحة والضعف، وأجعله بين قوسين.
- ثم أذكر من خرَّجه؛ مبتدئًا بالبخاري ومسلم، ثم بقية الستة، ثم أحمد في ((المسند))أو مالك في ((الموطأ))، ثم غيرهم؛ كالبيهقي، أو الحاكم.. أو غيرهما، وقد أكتفي أحيانًا بذكر موضعه في ثلاثة كتب أو أربعة؛ مبتدئًا بالترتيب السابق؛ إلا ما ندر.
__________
(1) إلا في حالات نادرة يكون ما في المخطوط أضبط مما في المطبوع، أو لا يستقيم المعنى إلا به، فأعتمد ما في المخطوط، وبخاصة إذا لم يعتمده الشارح في الشرح.(1/10)
- وإذا كان الحديث موجودًا في الكتب الستة أو بعضها؛ فأشير إلى موضعه بذكر الكتاب والباب؛ لاختلاف الطبعات، وبذكر موضعه في أماكن شروحه، فإن كان في البخاري؛ فإنني أذكر موضعه في ((الفتح))(الطبعة السلفية)، وإن كان في مسلم؛ ففي ((شرح النووي))، وإن كان في الترمذي؛ ففي ((تحفة الأحوذي))، وإن كان في أبي داود؛ ففي ((عون المعبود))، وإن كان في النسائي؛ ففي النسخة التي حقَّقها أبو غدة وعليها شرح السيوطي وحاشية السندي، وإن كان في ابن ماجة؛ فنسخة عبد الباقي، وإن كان في ((المسند))؛ ففي ((الفتح الرباني))، وقد أكتفي بموضعين أو ثلاثة.
- أما بالنسبة للحكم على الحديث؛ فإن كان في البخاري ومسلم أو أحدهما؛ فأكتفي بالعزو إليهما، وإن كان في غيرهما؛ أذكر من صحَّح الحديث أو ضعَّفه من أئمة هذا الفن؛ كالذهبي، وابن حجر، والألباني، أو غيرهم أحيانًا؛ كالأرناؤوط مثلاً. وقد أضطر أحيانًا إلى الكلام على السند بما تقتضيه الصناعة الحديثية، وهذا قليل جدًّا.
6- أحلتُ أغلب الأقوال التي نسبها الشارح لأصحابها إلى مواضعها من كتبهم أو كتب غيرهم.
7- ترجمتُ لأهم الأعلام الذين ورد ذكرهم ولم أترجِم للمعروفين المشهورين؛ كالصحابة، وبعض التابعين والمتأخرين.
8- عرَّفتُ بجميع الفرق التي ورد ذكرها في المتن أو الشرح؛ كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة.. وغيرهم.
9- شرحتُ بعض الكلمات الغريبة؛ ككلمة: (الدستور)، و(المِلِّي)، وغيرها مما هو قليل جدًا.
10- علَّقتُ تعليقات قليلة رأيت أنها ضرورية.
11- أبقيتُ النَّص كما هو؛ سواء المتن أم الشرح؛ إلا في مواضع قليلة جدًا سببها أخطاء مطبعية في النسخ السابقة.
12- وضعت عناوين لبعض الفقرات، وذلك تيسيرًا على القارئ، وجعلتها خارج النص في أطراف الصفحات حتى لا أدخل على النص شيئًا من عندي.(1/11)
13- وتخلُّصًا من مشكلة عدم تطابق مواضع الشرح والمتن في الطبعات السابقة للكتاب؛ فقد قسَّمتُ متن العقيدة إلى أقسام متعددة؛ كل قسم منها هو فكرة كاملة في حد ذاته، ثم جعلتُ شرحه بعده مباشرة مسبوقًا بحرف /ش/، وجعلت حرفَ كلٍّ منهما مختلفًا عن حرف الآخر، حتى يستطيع القارئ أن يتابع شرح كل قسم من أقسام المتن بسهولة ويسرٍ ومطابقة تامَّةً.
14- ترجمتُ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ترجمة موجزة.
15- ترجمتُ للشارح العلاَّمة محمد خليل هرَّاس ترجمة موجزة جدًا.
16- قمتُ بعمل بعض الفهارس الفنيَّة، وهي كالتالي:
فهرس للآيات حسب موضعها في القرآن الكريم.
فهرس للأحاديث والآثار على حروف المعجم.
فهرس للفرق.
فهرس للأعلام المترجَم لهم.
فهرس للمفردات.
فهرس للمصادر والمراجع.
فهرس للموضوعات.
هذا؛ وأسأل الله العلي الكريم ربَّ العرش العظيم أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي يوم القيامة، وأن ينفع به إخواني طلبة العلم والمسلمين، وهو جهدُ المقل، ((فليُمْعِن الناظرُ فيه النظر، وليوسع العذر؛ إن اللبيب من عَذَر، ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه))(1).
والله أعلم، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ترجمة موجزة للشيخ محمد خليل هرَّاس(2)
- هو العلاَّمة، السلفيُّ، المحقِّق، محمد خليل هرَّاس.
- من محافظة الغربيَّة بجمهورية مصر العربية.
- ولد بطنطا عام (1916م)، وتخرَّج من الأزهر في الأربعينات من كلية أصول الدين، وحاز على الشهادة العالمية العالية (الدكتوراه) في التوحيد والمنطق.
- عمل أستاذًا بكلِّيَّة أصول الدين في جامعة الأزهر.
__________
(2) أفادنا بها الشيخان السلفيان عبد الرزاق عفيفي، وعبد الفتاح سلامة، وهما من معاصريه.(1/12)
- أُعير إلى المملكة العربية السعودية، ودرَّس في جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية بالرياض، ثمّ أُعير مرَّةً أخرى، وأصبح رئيسًا لشعبة العقيدة في قسم الدِّراسات العليا في (كلية الشريعة سابقًا / جامعة أم القرى حاليًا) بمكة المكرمة.
- عاد إلى مصر، وشغل منصب نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة النبوية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة.
- وفي عام (1973م) ـ قبل وفاته بسنتين ـ اشترك مع الدكتور عبد الفتاح سلامة في تأسيس جماعة الدعوة الإسلامية في محافظة الغربية، وكان أول رئيس لها.
- توفي رحمه الله تعالى عام (1975م) عن عُمر يناهز الستين.
- كان رحمه الله سلفي المعتقد، شديدًا في الحقّ، قويّ الحجّة والبيان، أفنى حياته في التعليم والتأليف ونشر السنة وعقيدة أهل السنة والجماعة.
- له مؤلفات عدة؛ منها:
1- تحقيق كتاب ((المغني)) لابن قدامة، وقد طُبع لأول مرة في مطبعة الإمام بمصر.
2- تحقيق وتعليق على كتاب ((التوحيد)) لابن خزيمة.
3- تحقيق وتعليق على كتاب ((الأموال)) لأبي عُبيد القاسم بن سلام.
4- تحقيق ونقد كتاب ((الخصائص الكبرى)) للسيوطي.
5- تحقيق وتعليق على كتاب ((السيرة النبوية)) لابن هشام.
6- شرح ((القصيدة النونية)) لابن القيم في مجلّدين.
7- تأليف كتاب ((ابن تيمية ونقده لمسالك المتكلمين في مسائل الإلهيات)).
8- شرح ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية, وهو كتابنا هذا.
- - - - - -
مقدمة الشارح
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمَّد، عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:(1/13)
فلما كانت ((العقيدة الواسطية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أجمع ما كُتِبَ في عقيدة أهل السنة والجماعة، مع اختصارٍ في اللفظة، ودقَّة في العبارة، وكانت تحتاج في كثير من مواضعها إلى شرح يجلِّي غوامضها، ويزيح الستار عن مكنون جواهرها، ويكون مع ذلك شرحًا بعيدًا عن الإسهاب والتطويل والإملال بكثرة النُّقول، حتى يلائم مدارك الناشئين، ويعطيهم زبدة الموضوع في سهولة ويسر؛ فقد استخرتُ الله تبارك وتعالى، وأقدمتُ على هذا العمل؛ رغم كثرة الشواغل، وزحمة الصوارف؛ سائلاً الله عز وجل أن ينفع به كل من قرأه، وأن يجعله خالصًا لوجهه؛ إنه قريبٌ مجيبٌ.
محمد خليل هرّاس
- - - - - -
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
/ش/ اختلف العلماء في البسملة؛ هل هي آية من كل سورة افتُتِحت بها؟ أو هي آية مستقلة أُنزلت للفصل بها بين السور وللتبرُّك بالابتداء بها(1)؟
والمختار: القول الثاني.
واتَّفقوا على أنها جزء آية من سورة النمل، وعلى تركها في أول سورة براءة؛ لأنها جُعِلَت هي والأنفال كسورة واحدة.
والباء في ((بسم)) للاستعانة، وهي متعلقة بمحذوف، قدَّره بعضهم فعلاً، وقدَّره بعضهم اسمًا، والقولان متقاربان، وبكلٍّ ورد في القرآن؛ قال تعالى:
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } (2).
وقال: { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } (3).
ويحسن جعل المقدَّر متأخرًا؛ ((لأن الاسم أحق بالتقديم، ولأن تقديم الجار والمجرور يفيد اختصاص الاسم الكريم بكونه متَبرَّكًا به، والاسم هو اللفظ الموضوع لمعنى تعيينًا له أو تمييزًا)).
واختُلِفَ في أصل اشتقاقه، فقيل: إنه من السمة؛ بمعنى: العلامة. وقيل: من السمو. وهو المختار.
وهمزته همزة وصل.
__________
(1) حرَّر هذه المسألة الشيخ أحمد شاكر تحريرًا مطولاً في (( الجامع الصحيح للترمذي )) (2/16-25)؛ خلص فيه إلى أن البسملة آية من كل سورة سوى براءة.
(2) العلق: (1).
(3) هود: (41).(1/14)
وليس الاسم نفس المسمَّى؛ كما زعم بعضهم، فإن الاسم هو اللفظ الدَّالُّ، والمسمَّى هو المعنى المدلول عليه بذلك الاسم.
وليس هو كذلك نفس التسمية؛ فإنها فعل المسمِّي؛ يقال: سميتُ ولدي محمدًا؛ مثلاً.
وقول بعضهم: إن لفظ الاسم هنا مُقْحَمٌ؛ لأن الاستعانة إنما تكون بالله عزَّ وجلَّ لا باسمه. ليس بشيء؛ لأن المراد ذكر الاسم الكريم باللسان؛ كما في قوله:
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } (1).
أي: سبِّحْهُ ناطقًا باسم ربك، متكلِّمًا به، فالمراد التبرُّك بالابتداء بذكر اسمه تعالى.
واسم الجلالة؛ قيل: إنه اسم جامدٌ غير مشتقٍّ؛ لأن الاشتقاق يستلزم مادة يُشْتَقُّ منها، واسمه تعالى قديم، والقديم لا مادَّة له، فهو كسائر الأعلام المَحْضَة، التي لا تتضمَّن صفاتٍ تقوم بمسمَّياتِها.
والصحيح أنه مشتقٌّ.
واختُلِفَ في مبدأ اشتقاقه، فقيل: من أَلَهَ يَأْلَهُ أُلوهَةً وإِلاهَةً وأُلوهِيةً؛ بمعنى: عبدَ عِبَادةً.
وقيل:من أَلِهَ - بكسر اللام - يَأْلَهُ - بفتحها - أَلَهًا؛ إذا تحيَّر.
والصحيح الأوَّل، فهو إلهٌ؛ بمعنى مأْلوهٍ؛ أي: معبود. ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهُما:
((اللهُ ذُو الإلهيةِ والعُبوديةُ على خلقه أجمعين))(2).
وعلى القول بالاشتقاق يكون وصفًا في الأصل، ولكن غَلَبَتْ عليه العَلَمِيَّة، فتجري عليه بقية الأسماء أخبارًا وأوصافًا؛ يقال: الله رحمنٌ رحيمٌ سميعٌ عليمٌ؛ كما يقال: الله الرَّحمن الرَّحيم… إلخ.
__________
(1) الأعلى: 1.
(2) روى هذا الأثر ابن جرير في تفسير البسملة، وقال الشيخ أحمد شاكر: ((إسناد هذا الخبر ضعيف)).
... انظر: ((تفسير الطبري))، تحقيق: أحمد شاكر (1/123).(1/15)
و((الرحمن الرحيم)): اسمان كريمان من أسمائه الحسنى، دالاَّن على اتِّصافه تعالى بصفة الرحمة، وهي صفة حقيقيَّة له سبحانه، على ما يليق بجلاله، ولا يجوز القول بأن المراد بها لازمها؛ كإرادة الإحسان ونحوه؛ كما يزعم المعطلة، وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله.
واختُلِفَ في الجمع بينهما:
فقيل: المراد بـ(الرحمن) الذي وسعت رحمته كل شيء في الدنيا؛ لأن صيغة (فَعْلان) تدلُّ على الامتلاء والكثرة، و(الرحيم) الذي يختصُّ برحمته المؤمنين في الآخرة.
وقيل العكس.
وقد ذهب العلاَّمة ابن القيم رحمه الله إلى أن (الرحمن) دالٌّ على الصفة القائمة بالذات، و(الرحيم) دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، ولهذا لم يجئ الاسم الرحمن متعدِّيًا في القرآن؛ قال تعالى:
{ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } (1).
ولم يقل: رحمانًا.
وهذا أحسن ما قيل في الفرق بينهما.
وروي عن ابن عباس أنه قال:
((هما اسمان رقيقان؛ أحدهما أرقُّ من الآخر))(2)
__________
(1) الأحزاب: (43): { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا??( .
(2) موضوع). رواه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص71)، وهو مسلسَلٌ بالكذابين، فقد رواه محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به.
... قال السيوطي في ((الإتقان)) (2/242):
... ((وأوهى طرقه ـ يعني: تفسير ابن عباس ـ طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فإذا انضمّ إلى ذلك رواية محمد بن مروان السُّدِّي الصغير؛ فهي سلسلة الكذب)).
... وانظر: ((تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة)) (1/26).
... وروى البيهقي في ((الجامع لشعب الإيمان)) (5/299) عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا:
... ((… فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قال الله عز وجل: عبدي دعاني باسمين رقيقين؛ أحدهما أرقّ من الآخر، فالرحيم أرق من الرحمن، وكلاهما رقيقان)).
... قال البيهقي:
... ((وقوله: (رقيقان)؛ قيل: هذا تصحيف وقع في الأصل، وإنما هما: (رفيقان)، والرفيق من أسماء الله تعالى)).
... قال محققه عبد العلي حامد: ... ... ... ... ... ... =
= ... ((إسناده ضعيف، وفيه جهالة، ومقاتل بن سليمان متهم، والضحاك لم يسمع من ابن عباس)).(1/16)
.
ومنع بعضهم كون (الرحمن) في البسملة نعتًا لاسم الجلالة؛ لأنه عَلَمٌ آخر لا يُطلق على غيره، والأعلام لا يُنْعَتُ بها.
والصحيح أنه نعتٌ له باعتبار ما فيه من معنى الوصفية، فـ(الرحمن) اسمه تعالى ووصفه، ولا تُنافي اسميَّتُهُ وصفيَّتَهُ، فمن حيث هو صفةٌ جرى تابعًا على اسم الله، ومن حيثُ هو اسمٌ ورد في القرآن غير تابع، بل ورود الاسم العلم؛ كقوله تعالى:
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (1).
(الحمد لله الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا).
/ش/ ((الحمد لله)): روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
((كلُّ كلامٍ لا يُبْدَأُ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ؛ فهو أقطع، أبتر، ممحوق البركة))(2).
وورد مثل ذلك في البسملة.
ولهذا جمع المؤلف بينهما عملاً بالروايتين، ولا تعارُض بينهما؛ فإن الابتداء قسمان: حقيقي وإضافي، والحمد ضدُّ الذَّمِّ. يُقال: حمدتُ الرجل أحْمَدُهُ حمدًا ومَحْمَدًا ومَحْمَدَةً، فهو محمودٌ وحميدٌ.
__________
(1) طه: (5).
(2) ضعيف). رواه أبو داود في الأدب (باب: الهدي في الكلام) (13/184-عون)، وابن ماجه، والإمام أحمد.. وغيرهم.
... وحسنه النووي في ((الأذكار)) رقم (339).
... وأورده الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) رقم (902)، بلفظ: ((كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله والصلاة عليَّ؛ فهو أقطع، أبتر، مسحوق من كل بركة))، وقال عنه: ((موضوع)).
... وأورده أيضًا في ((ضعيف الجامع)) (4216-4218) بألفاظ مختلفة، وقال عنه: ((ضعيف)). ... ... ... ... ... ... ... ... =
= ... وانظر: ((الإرواء)) رقم (1، 2)؛ فقد أطال في تخريجه هناك، وبيَّن سبب ضعفه.
... وقال الأرناؤوط في ((جامع الأصول)) (3980):
... ((في سنده قرة بن عبد الرحمن، وهو صدوق، له مناكير)).(1/17)
ويقال: حمَّد الله ـ بالتشديد ـ: أثنى عليه المرة بعد الأخرى، وقال: الحمد لله.
والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياريِّ، نعمةً كانَ أو غيرها؛ يقال:حمدتُ الرجلَ على إنعامه، وحمدتُه على شجاعته.
وأما الشكر؛ فعلى النعمة خاصة، ويكون بالقلب واللسان والجوارح؛ قال الشاعر:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاَثَةً
يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيْرَ الْمُحَجَّبا
وعلى هذا؛ فبين الحمد والشكر عمومٌ وخصوصٌ من وجه، يجتمعان في الثناء باللسان على النعمة، وينفردُ الحمد في الثناء باللسان على ما ليس بنعمة من الجميل الاختياريِّ، وينفردُ الشكر بالثناء بالقلب والجوارح على خصوص النعمة.
فالحمد أعمُّ متعلَّقًا، وأخصُّ آلةً، والشكر بالعكس.
وأما الفرق بين الحمد والمدح؛ فقد قال ابن القيم:
((إن الحمد إخبار عن محاسن المحمود، مع حبه، وتعظيمه، فلا بدَّ فيه من اقتران الإرادة بالخير؛ بخلاف المدح؛ فإنه إخبار مجرَّدٌ))(1).
ولذلك كان المدحُ أوسَعَ تناولاً؛ لأنه يكون للحيِّ والميِّت وللجماد أيضًا.
و(ال) في الحمد للاستغراق؛ ليتناول كل أفراد الحمد المُحَقَّقَة والمُقَدَّرَة، وقيل: للجنس، ومعناه(2): ((أن الحمد الكامل ثابتٌ لله، وهذا يقتضي ثبوتَ كُلِّ ما يُحْمَدُ عليه من صفات كماله ونعوت جماله؛ إذ مَنْ عَدِمَ صِفات الكمال؛ فليس بمحمود على الإطلاق، ولكن غايته [أنه محمودٌ من وجهٍ دون وجهٍ، ولا] (3) يكون محمودًا من كل وجه وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد؛ إلا مَن حاز صفات الكمال جميعها، [فلو عَدِمَ منها صفة واحدة؛ لنقص من حمده بسببها] (4))).
__________
(1) بدائع الفوائد)) (2/93).
(2) الكلام من قوله: "ومعناه…" لابن القيم.
(3) زيادة يقتضيها السياق، سقطت من نقل الشارح لها، وقد أشار لذلك الشيخ الأنصاري في طبعة الإفتاء.
(4) تتمة كلام الحافظ ابن القيم، وانظر: ((مدارج السالكين)) (1/64).(1/18)
الرسول في اللغة هو مَن بُعِثَ بالرسالة ؛ يقال : أرسله بكذا ؛ إذا طلب إليه تأديته وتبليغه . وجمعه : رُسْل ـ بسكون السين ـ ورُسُل ـ بضمها ـ.
وفي لسان الشرع: إنسانٌ، ذكرٌ، حرٌّ، أُوحِيَ إليه بشرعٍ، وأُمِرَ بتبليغه.
فإن أوحِيَ إليه، ولم يؤمر بالتبليغ؛ فهو نبيٌّ.
فكل رسول نبيٌّ، ولا عكس، فقد يكون نبيًّا غير رسول(1).
والمُراد بالرسول المضاف إلى ضمير الرب هنا مُحمد - صلى الله عليه وسلم -.
و((الهدى)) في اللغة: البيان والدلالة؛ كما في قوله تعالى:
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } (2).
فإن المعنى: بَيَّنَّا لهم.
وكما في قوله:
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } (3).
والهُدى بهذا المعنى عامٌّ لجميع الناس، ولهذا يوصَفُ به القرآن؛ كما في قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (4).
ويوصف به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كما في قوله تعالى:
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ٍ } (5).
__________
(1) ذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه ((الرسل والرسالات)) (ص14) أن هذا القول هو الشائع عند العلماء، وأنه بعيد؛ لأن الله نصَّ على أنه أرسل الأنبياء في قوله: { وما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي000 } وأنه لا يمكن أن ينزِّل الله وحيًا لإنسان واحدٍ فقط، ولا يبلغه أحدًا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((عُرِضَتْ عليَّ الأمم، فرأيتُ النبيِّ ومعه الرهط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد…)) رواه البخاري ومسلم.
... والذي رجَّحه في الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول من أُوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرعِ مَن قبله، وأكثر أنبياء بني إسرائيل كذلك، وهو الأقرب للصواب، والله أعلم.
(2) فصلت: (17).
(3) الإنسان: (3).
(4) الإسراء: (9).
(5) الشورى: (52).(1/19)
وقد يأتي الهُدى بمعنى التوفيق والإلهام، فيكون خاصًّا بمَن يشاء الله هدايته؛ قال تعالى:
{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَم ِ } (1).
ولهذا نفاهُ الله عن رسوله؛ قال تعالى:
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } (2).
والمراد بالهُدى هنا: كلُّ ما جاء به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الإخبارات الصادقة، والإيمان الصحيح، والعلم النافع، والعمل الصالح.
والدِّين يأتي لعدة معانٍ:
منها: الجزاء؛ كما في قوله تعالى: { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (3).
ومنهُ قولُهم: كَما يَدِينُ الفَتى يُدَانُ(4).
ومنها: الخضوع والانقياد؛ يقال: دان له؛ بمعنى: ذلَّ وخضع، ويقال: دانَ اللهَ بكذا، أو كذا؛ بمعنى اتَّخذه دينًا يعبده به.
والمراد بالدِّين هنا:جميع ما أرسل الله به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام والشرائع؛ اعتقادية كانت، أم قولية، أم فعلية.
وإضافته إلى الحق من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: الدين الحق.
والحقُّ: مصدرُ حَقَّ يَحِقُّ إذا ثبت ووجب. فالمراد به: الثابت، الواقع. ويقابله: الباطل الذي لا حقيقة له.
اللام في قوله: ((ليظهره)) لام التعليل، وهي متعلقة بـ(أرسل)، وهو من الظهور؛ بمعنى: العلوِّ والغلبة؛ أي: ليجعله عاليًا على الأديان كلها بالحجة والبرهان.
__________
(1) الأنعام: (125).
(2) القصص: (56).
(3) الفاتحة: (4).
(4) روى البيهقي في ((الزهد)) (ص297)، وابن عدي في ((الكامل)) (2/2168)؛ من حديث ابن عمر مرفوعًا: ((البر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والدَّيَّان لا ينام، فكن كما شئت كما تدين تُدان))؛ بإسناد ضعيف.
... ورواه أحمد في ((الزهد)) (ص176) موقوفًا على أبي الدَّرداء؛ بإسناد ضعيف أيضًا.
... انظر: ((ضعيف الجامع)) (4274)، و((الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة)) للسيوطي، تحقيق: الصباغ، رقم (328).(1/20)
و(ال) في ((الدين)) للجنس، فيدخل فيه كل دين باطل، وهو ما عدا الإسلام.
والشهيد: فعيلٌ، وهو مبالغةٌ من شهد، وهو إما من الشهادة؛ بمعنى الإخبار والإعلام، أو من الشهادة؛ بمعنى الحضور. والمعنى: وكَفَى باللهِ شَهِيدًا مخبرًا بصدق رسوله، أو حاضرًا مطَّلِعًا لا يغيب عنه شيءٌ.
والمعنى الإجمالي لما تقدم أن جميع أوصاف الكمال ثابتةٌ لله على أكمل الوجوه وأتمِّها.
ومما يُحْمَدُ عليه سبحانه نعمه على عباده، التي لا يحصي أحدٌ من الخلق عدَّها، وأعظمها إرساله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق رحمةً للعالمين، وبشرى للمتَّقين؛ ليظهره على جميع الأديان بالحجة والبرهان، والعز والتمكين والسلطان، وكفى بالله شهيدًا على صدق رسوله، وحقيقة ما جاء به.
وشهادته سبحانه تكون بقوله وفعله وتأييده لرسوله بالنصر والمعجزات والبراهين المتنوِّعة على أن ما جاء به هو الحق المبين.
(وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا).
/ش/ ((الشهادة)): الإخبار بالشيء عن علم به، واعتقاد لصحته وثبوته، ولا تعتبر الشهادة إلا إذا كانت مصحوبة بالإقرار والإذعان, وواطأ القلبُ عليها اللسان؛ فإن الله قد كَذَّب المنافقين في قولهم: { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } ، مع أنهم قالوا بألسنتهم(1).
و((لا إله إلا الله)): هي كلمة التوحيد، التي اتَّفقت عليها كلمة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ بل هي خلاصة دعواتهم وزبدة رسالاتهم، وما من رسول منهم إلا جعلها مفتتح أمره، وقطب رحاه؛ كما قال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) يعني الشارح تكذيب الله لهم في الآية الأولى من سورة المنافقون في قوله: { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .(1/21)
((أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها؛ فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل))(1).
ودلالة هذه الكلمة على التوحيد باعتبار اشتمالها على النفي والإثبات المقتضي للحصر، وهو أبلغ من الإثبات المجرَّد؛ كقولنا: الله واحد. مثلاً فهي تدلُّ بصدرها على نفي الإلهية عمَّا سوى الله تعالى، وتدلُّ بعجزها على إثبات الإلهية له وحده.
ولا بدَّ فيها من إضمار خبرٍ تقديره: لا معبودَ بحقٍّ - موجودٌ(2)- إلا الله.
وأما قوله: ((وحده لا شريك له))؛ فهو تأكيد لما دلَّت عليه كلمة التوحيد.
وقوله: ((إقرارًا به)) مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الفعل: ((أشهد))، والمراد: إقرار القلب واللسان.
وقوله: ((توحيدًا))؛ أي: إخلاصًا لله عز وجل في العبادة، فالمراد به التوحيد الإرادي الطلبي المبني على توحيد المعرفة والإثبات.
(وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا).
/ش/ وجعل الشهادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والعبودية مقرونًا بالشهادة لله بالتوحيد؛ للإشارة إلى أنه لا بد من كلٍّ منهما، فلا تُغني إحداهما عن الأخرى، ولهذا قرن بينهما في الأذان، وفي التشهد.
وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى: { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } (3):
((يعني: لا أُذْكَرُ إلاَّ ذُكِرتَ معي))(4)
__________
(1) رواه بألفاظ مختلفة: البخاري في أول الزكاة (3/262-فتح)، وفي استتابة المرتدين، ومسلم في الإيمان ، (باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله) (1/314-نووي)، والترمذي، والنسائي، وأبو داود.
... انظر: ((جامع الأصول)) رقم (35-42).
(2) يعني المؤلِّف أن هذه الكلمة تقدير لخبر مستتر؛ للا النافية للجنس.
(3) الشرح: (4).
(4) صح عن مجاهد أنه قال في تفسير هذه الآية:
... ((لا أُذْكَرُ إلا ذُكِرْتَ معي: أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله)).
... وقال الألباني في ((فضل الصلاة على النبي)) لابن إسحاق القاضي (ص86):
... ((إسناده مرسل صحيح، فهو حديث قدسي مرسلٌ)).
... وروى أبو يعلى (2/522) بإسناد ضعيف، من حديث أبي سعيد الخدري رفعه: ((إذا ذُكرتُ ذكرتَ معي)).
... وانظر : ((الدُّر المنثور)) (8/549).(1/22)
.
وإنما جمع له بين وصفي الرسالة والعبودية؛ لإنهما أعلى ما يوصف به العبد.
والعبادة: هي الحكمة التي خَلَقَ الله الخَلْقَ لأجلها؛ كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } (1).
فكمال المخلوق في تحقيق تلك الغاية، وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية؛ ازداد كماله، وعلت درجته.
ولهذا ذكر الله نبيَّه بلقب العبد في أسمى أحواله وأشرف مقاماته؛ كالإسراء به، وقيامه بالدعوة إلى الله، والإيحاء إليه، والتحدِّي بالذي أُنْزِلَ عليه.
ونبَّه بوصف العبودية أيضًا إلى الرد على أهل الغلوّ الَّذين قد يتجاوزون بالرسول قدره، ويرفعونه إلى مرتبة الألوهية؛ كما يفعل ضلاّل الصوفية قبّحهم الله، وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
((لا تطروني كما أطرت النصاري ابن مريم، وإنما أنا عبدٌ، فقولوا عبدُ الله ورسوله))(2).
والمقصود أن هذه الشهادة تتضمن اعتراف العبد بكمال عبوديته - صلى الله عليه وسلم - لربه، وكمال رسالته، وأنه فاق جميعَ البشرِ في كلِّ خصلةٍ كمالُه.
ولا تتم هذه الشهادة حتى يصدقه العبد في كل ما أخبر به، ويطيعه في كل ما أمر به، وينتهي عما نهى عنه.
الصلاة في اللغة: الدعاء؛ قال تعالى:
{ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } (3).
وأصحُّ ما قيل في صلاة الله على رسوله هو ما ذكره البخاري في ((صحيحه)) عن أبي العالية؛ قال:
__________
(1) الذاريات: (56).
(2) رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الحدود، (باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت) (12/144-فتح)، وفي الأنبياء، ( باب: قول الله : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } ) (6/478-فتح).
(3) التوبة: (103).(1/23)
((صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه عند الملائكة))(1).
والمشهور أن الصلاة من الملائكة الاستغفار؛ كما في الحديث الصحيح:
((والملائكة يصلُّون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلَّى فيه؛ يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه))(2).
ومن الآدميين: التضرُّع والدُّعاء.
وآل الشخص هم من يمتُّون إله بصلة وثيقة من قرابة ونحوها.
وآله - صلى الله عليه وسلم - يُراد بهم أحيانًا مَن حَرُمَت عليهم الصدقة، وهم بنو هاشم وبنو المطَّلب، ويراد بهم أحيانًا كل مَن تبعه على دينه.
وأصل (آل): أهل، أُبْدِلَتِ الهاء همزة، فتوالت همزتان، فقُلِبَتِ الثانية منهما ألفًا، ويصغر على أُهَيل أو أُوَيْل، ولا يستعمل إلا فيما شرف غالبًا، فلا يقال: آل الإسكاف وآل الحجام.
والمراد بالصحب أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، وهم كل من لقيه حال حياته مؤمنًا، ومات على ذلك.
والسلام : اسم مصدر من سلَّم تسليمًا عليه ؛ بمعنى طلب له السلامة من كل مكروه، وهو اسم من أسمائه تعالى، ومعناه: البراءة والخلاص من النقائص والعيوب، أو الذي يسلِّم على عباده المؤمنين في الآخرة.
و((مزيدًا)) صفةٌ لـ(تسليمًا)، وهو اسم مفعول من (زاد) المتعدِّي، والتقدير: مزيدًا فيه.
__________
(1) رواه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم في التفسير، (باب: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } ) (8/532-فتح)، ووصله ابن إسحاق القاضي في كتابه ((فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (ص82)، وقال الألباني: ((إسناده موقوف حسن)).
(2) جزء من حديث رواه البخاري في الأذان ، ( باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة) (2/142-فتح)، وفي المساجد، وفي بدء الخلق، ومسلم في المساجد، (باب: فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة) (5/171-نووي)، ورواه أيضًا: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد في ((المسند))، ومالك في ((الموطأ))؛ بألفاظ متقاربة.(1/24)
([أَمَّا بَعْدُ؛ فَهَذَا اعْتِقَادُ](1) الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)(2).
/ش/ ((أما بعد)): كلمة يُؤتَى بها للدِّلالة على الشروع في المقصود، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعملها كثيرًا في خطبه وكتبه، وتقديرها عند النحويِّين: مهما يكن من شيء بعد.
والإشارة بقوله: ((هذا)) إلى ما تضمَّنه هذا المُؤلَّفُ من العقائد الإيمانية التي أجملها في قوله: ((وهو الإيمان بالله…)).
__________
(1) سقطت من المخطوط.
(2) قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه لـ ((الواسطية)) (1/53): ((عُلِمَ من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلاً والماتريدية لا يُعَدُّون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب؛ لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيُّون، وأشعريُّون، وماتريديُّون، فهذا خطأ؛ نقول: كيف يكون الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنَّةٍ وكلُّ واحدٍ منهُم يردُّ على الآخر، هذا لا يمكن؛ إلا إذا أمكن الجمع بين الضِّدين؛ فنعم! وإلا؛ فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ الأشعرية أم الماتريدية أم السلفية؟ نقول مَن وافق السنَّة؛ فهو صاحب السنة، ومَن خالف السنة؛ فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبدًا، والكلمات تعتبر بمعانيها، لننظر كيف نسمي من خالف السنة أهل سنة؟ لا يمكن! وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة، إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقدًا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ فإنه سلفي)). اهـ(1/25)
والاعتقاد: مصدر اعتقد كذا؛ إذا اتَّخَذه عقيدة له؛ بمعنى عقد عليه الضمير والقلب، ودان لله به، وأصله من (عقد الحبل)، ثم استُعْمل في التصميم والاعتقاد الجازم.
((الفرقة)) ـ بكسر الفاء ـ الطائفة من الناس.
ووصفها بأنها ((الناجية المنصورة)) أخذًا من قوله - عليه السلام -:
((لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتي على الحقِّ منصورةً، لا يضرُّهم من خَذلهم، حتى يأتي أمر الله))(1).
ومن قوله في الحديث الآخر:
((ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً: كلهم في النّار إلى واحدة، وهي مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي))(2).
وقوله: ((أهل السنة والجماعة))؛ بدل من الفرقة.
والمراد بالسنة: الطريقة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قبل ظهور البدع والمقالات.
والجماعة في الأصل: القوم المجتمعون، والمراد بهم هنا سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) رواه البخاري في الاعتصام بالسنة، ( باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تزال طائفة.. )) ) (13/293- فتح ) ، ومسلم في الإمارة، (باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة..))) (13/70- نووي) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد.. وغيرهم.
(2) حسن). رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في الإيمان، (باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة) (7/397-تحفة).
... قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (3/230): ((حديث افتراق الأمة أسانيدها جياد)).اهـ
... وحسن إسنادها الحافظ في ((تخريج الكشاف)) (ص63 رقم 17).
... وعن حديث الافتراق انظر كتاب: ((حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة)) للعلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني)) تحقيق سعد بن عبد الله السعدان.(1/26)
(وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانِ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ).
/ش/ هذه الأمور الستة هي أركان الإيمان، فلا يتمُّ إيمانُ أحدٍ إلا إذا آمن بها جميعًا على الوجه الصحيح الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، فمَنْ جَحَدَ شيئًا منها أو آمن به على غير هذا الوجه؛ فقد كفر.
وقد ذُكِرَت كلها في حديث جبريل المشهور، حين جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان؟ فقال:
((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه, ورسله، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره))(1)؛ حلوه ومره من الله تعالى.
والملائكة: جمع مَلَك، وأصله مألك؛ من الألوكة، وهي الرسالة، وهم نوعٌ من خلق الله عز وجل، أسكنهم سماواته، ووكلهم بشؤون خلقه, ووصفهم في كتابه بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم يسبِّحون له بالليل والنهار لا يفترون.
فيجب علينا الإيمان بما ورد في حقهم من صفات وأعمال في الكتاب والسنَّة، والإمساك عمَّا وراء ذلك؛ فإن هذا من شؤون الغيب التي لا نعلم منها إلا ما علَّمنا الله ورسوله.
والكتب:جمع كتاب، وهو مِن الكَتْب؛ بمعنى: الجمع والضم، والمراد بها الكتب المنزَّلة من السماء على الرسل عليهم الصلاة والسلام.
__________
(1) هذا جزءٌ من حديث جبريل المشهور ؛ رواه مسلم، وهو أول حديث يفتتح به الصحيح (1/259-نووي)، ورواه أبو داود في السنة، (باب: القدر) (12/459-عون)، والترمذي في الإيمان، والنسائي فيه أيضًا، (باب: نعت الإسلام)؛ كلهم من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
... كما رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه؛ من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما.(1/27)
والمعلوم لنا منها: صحف إبراهيم، والتوراة التي أُنزلت على موسى في الألواح، والإنجيل الذي أُنزل على عيسى، والزَّبور الذي أُنزل على داود، والقرآن الكريم الذي هو آخرها نزولاً، وهو المصدِّق لها، والمهيمن عليها، وما عداها يجب الإيمان به إجمالاً.
والرسل: جمع رسول، وقد تقدم أنه من أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه.
وعلينا أن نؤمن تفصيلاً بمَن سمَّى الله في كتابه منهم، وهم خمسة وعشرون، ذكرهم الشاعر في قوله:
في { َتِلْكَ حُجَّتُنَا } (1) مِنْهُمْ ثَمَانِيَة
مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ ويَبْقَى سَبْعَةٌ وهُمُ
إدْرِيسُ هُودُ شُعَيْبٌ صَالِحٌ وكَذا
ذُو الكِفْلِ آدَمُ بالمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا
وأما مَن عدا هؤلاء من الرسل والأنبياء؛ فنؤمن بهم إجمالاً على معنى الاعتقاد بنبوَّتِهم ورسالتهم، دون أن نكلِّف أنفسنا البحث عن عدتهم وأسمائهم، فإن ذلك مما اختصَّ الله بعلمه؛ قال تعالى:
{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } (2).
__________
(1) يعني الشاعر قوله تعالى في سورة الأنعام (83-86): { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا(1)إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ(2)إِسْحَقَ(3) وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا(4)وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِه(5)دَاوُودَ(6)وَسُلَيْمَان(7) وَأَيُّوبَ(8)وَيُوسُفَ(9)وَمُوسَى(10)وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *(11)وَزَكَرِيَّا (12)وَيَحْيَى(13)وَعِيسَى(14)وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ *(15)وَإِسْمَاعِيلَ(16)وَالْيَسَعَ (17)وَيُونُسَ(18)وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } فهؤلاء ثمانية عشر نبيًّا، وبقي سبعة أنبياء ذكرهم في البيت الثاني.
(2) النساء: (164).(1/28)
ويجب الإيمان بأنهم بلَّغوا جميعَ ما أُرسلوا به على ما أمرهم الله عز وجل، وبيَّنوه بيانًا لا يسع أحدًا ممَّن أُرسلوا إليه جهله، وأنهم معصومون من الكذب والخيانة، والكتمان والبلادة.
وأن أفضلهم أولو العزم، والمشهور أنهم: محمد، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح؛ لأنهم ذُكروا معًا في قوله تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } (1).
وقوله: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه } (2).
و((البعث)) في الأصل: الإثارة والتحريك ، والمراد به في لسان الشرع: إخراج الموتى من قبورهم أحياء يوم القيامة؛ لفصل القضاء بينهم، فمن يعمل مثقال ذرَّة خيرًا يره، ومَن يعمل مثقال ذرَّةٍ شرًّا يره.
ويجب الإيمان بالبعث على الصفة التي بيَّنها الله في كتابه،وهو أنه جمعُ ما تحلَّل من أجزاء الأجساد التي كانت في الدنيا، وإنشاؤها خلقًا جديدًا، وإعادةُ الحياة إليها.
ومنكر البعث الجسماني ـ كالفلاسفة والنصارى ـ كافر، وأمّا مَن أقرَّ به ولكنه زعم أن الله يبعث الأرواح في أجسامٍ غير الأجسام التي كانت في الدنيا؛ فهو مبتدعٌ وفاسقٌ.
وأما ((القدر))؛ فهو في الأصل، مصدر تقول: قدرتُ الشيء - بفتح الدال وتخفيفها - أقْدِرُهُ - بكسرها - قَدْرًا وقَدَرًا؛ إذا أحطتَ بمقداره.
والمراد به في لسان الشرع أن الله عز وجل علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلاً، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته على وفق ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح قبل إحداثها؛ كما في الحديث:
((أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن))(3).
__________
(1) الأحزاب: (7).
(2) الشورى: (13).
(3) صحيح). سيأتي تخريجه (ص254).(1/29)
وقال تعالى: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } (1).
(وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ).
/ش/ وقوله: ((ومن الإيمان بالله… إلخ)): هذا شروعٌ في التفصيل بعد الإجمال، و(من) هنا للتبعيض، والمعنى ومن جملة إيمان أهل السنة والجماعة بالأصل الأول الذي هو أعظم الأصول وأساسها، وهو الإيمان بالله: أنهم يؤمنون بما وصف به نفسه… إلخ.
وقوله: ((من غير تحريف)) متعلِّقٌ بالإيمان قبله؛ يعني أنهم يؤمنون بالصفات الإلهية على هذا الوجه الخالي من كل هذه المعاني الباطلة؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والتحريف في الأصل مأخوذ من قولهم: حرفتُ الشيء عن وجهه حرفًا، من باب ضرب؛ إذا أملته وغيرته، والتشديد للمبالغة.
وتحريف الكلام: إمالته عن المعنى المتبادر منه إلى معنى آخر لا يدلُّ عليه اللفظ إلا باحتمال مرجوحٍ، فلا بد فيه من قرينةٍ تبيِّن أنه المراد(2).
وأما التعطيل؛ فهو مأخوذ من العطل، الذي هو الخلوُّ والفراغ والترك، ومنه قوله تعالى:
{ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَة } (3).
أي: أهملها أهلها، وتركوا وِرْدها.
__________
(1) الحديد: (22).
(2) والتحريف يكون في اللفظ والمعنى، أما في اللفظ؛ فمثاله نصب اسم الجلالة بدل رفعه في قوله تعالى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً } ، وأما في المعنى؛ فمثاله قولهم: { اسْتَوَى } ؛ أي: استولى، ويده؛ أي: قدرته.
(3) الحج: (45).(1/30)
والمراد به هنا نفي الصفات الإلهية، وإنكار قيامها بذاته تعالى(1).
فالفرق بين التحريف والتعطيل: أن التعطيل نفيٌ للمعنى الحق الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وأمّا التحريف؛ فهو تفسير النصوص بالمعاني الباطلة التي لا تدلُّ عليها.
والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فإن التعطيل أعمُّ مطلقًا من التحريف؛ بمعنى أنه كلما وجد التحريف؛ وجد التعطيل؛ دون العكس، وبذلك يوجدان معًا فيمن أثبت المعنى الباطل ونفى المعنى الحق، ويوجد التعطيل بدون التحريف فيمن نفي الصفات الواردة في الكتاب والسنة، وزعم أن ظاهرها غير مرادها، ولكنه لم يُعَيِّن لها معنًى آخر، وهو ما يسمونه بالتفويض.
ومن الخطأ القول بأن هذا هو مذهب السَّلف؛ كما نسب ذلك إليهم المتأخرون من الأشاعرة(2) وغيرهم، فإن السلف لم يكونوا يفوِّضون في علم المعنى، ولا كانوا يقرؤون كلامًا لا يفهمون معناه؛ بل كانوا يفهمون معاني النصوص من الكتاب والسنة، ويثبتونها لله عز وجل، ثم يفوِّضون فيما وراء ذلك من كُنْهِ الصفات أو كيفيَّاتها(3)؛ كما قال مالك حين سُئِلَ عن كيفية استوائه تعالى على العرش:
((الاستواء معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ))(4)
__________
(1) التعطيل قسمان: كلي؛ كما فعل نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة، وجزئي كما فعل الأشاعرة الذين يثبتون سبع صفات فقط، وينفون الباقي.
(2) سيأتي التعريف بهم (ص130).
(3) المفوِّضة: هم الذين يُثْبِتُون الصفات، ويفوِّضون علم معانيها إلى الله.
... وأهل السنّة والجماعة يُثْبِتُون الصفات وعلم معانيها، ويفوِّضون علم كيفيتها إلى الله تعالى.
... ومَن قال: أنا أثبت الصفات وأفوِّضُ علمها إلى الله؛ قلنا له: ماذا تعني بعلمها؟ علم المعنى؟ أم علم الكيفية؟
(4) ذكره البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (515) عن الإمام مالك بإسناد جوَّده الحافظ في ((الفتح)) (13/407).
... وورد عن ربيعة الرأي، شيخ مالك. ذكره: البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص516)، واللالكائي في ((شرح اعتقاد أهل السنة)) (3/398).
... وورد أيضًا عن أم سلمة مرفوعًا وموقوفًا.
... ولكن قال ابن تيمية في ((الفتاوى)) (5/365):
... ((وقد رُوِيَ هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يُعْتَمَدُ عليه)).
... وقال الألباني عن المرفوع في ((شرح الطحاوية)) (ص281):
... ((لا يصح)).
... ثم قال:
... ((والصواب عن مالك أو أم سلمة، والأول أشهر)).(1/31)
.
وأما قوله: ((ومن غير تكييف ولا تمثيل))؛ فالفرق بينهما أن التكييف أن يعتقد أن صفاته تعالى على كيفية كذا،أو يسأل عنها بكيف.
وأما التمثيل؛ فهو اعتقاد أنها مثل صفات المخلوقين.
وليس المراد من قوله: ((من غير تكييف)) أنهم ينفون الكيف مطلقًا؛ فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف؛ إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه.
(بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (1)).
/ش/ قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِه } ؛ هذه الآية المحكمة من كتاب الله عز وجل هي دستور(2) أهل السنة والجماعة في باب الصفات، فإن الله عز وجل قد جمع فيها بين النفي والإثبات، فنفى عن نفسه المثل، وأثبت لنفسه سمعًا وبصرًا، فدلَّ هذا على أن المذهب الحق ليس هو نفي الصفات مطلقًا؛ كما هو شأن المعطِّلة، ولا إثباتها مطلقًا؛ كما هو شأن الممثِّلة؛ بل إثباتها بلا تمثيل.
وقد اختُلِفَ في إعراب : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } على وجوه ؛ أصحُّها: أن الكافَ صلةٌ زيدَت للتأكيد؛ كما في قول الشاعر:
لَيْسَ كَمِثْلِ الْفَتَى زُهَيْرٍ
خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ
(فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ).
/ش/وقوله: ((فلا يَنْفونَ عنه..إلخ)) تفريعٌ على ما قبله؛ فإنهم إذا كانوا يؤمنون بالله على هذا الوجه ؛ فلا ينفون ولا يحرِّفونَ ، ولا يكيِّفون ولا يمثِّلُون.
والمواضع: جمع موضع، والمراد بها المعاني التي يجب تنزيل الكلام عليها؛ لأنها هي المتبادرة منه عند الإطلاق، فهم لا يعدِلون به عنها.
__________
(1) الشورى: (11).
(2) كلمة فارسية بمعنى قانون أو أساس، وفي ((التاج)): ((النسخة المعمولة للجماعات)).(1/32)
وأما قوله: ((ولا يُلْحِدون في أسماء الله وآياته))؛ فقد قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله:
((والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها؛ مأخوذٌ من الميل؛ كما يدل عليه مادة (ل ح د)، فمنه اللحد، وهو الشق في جانب القبر، الذي قد مال عن الوسط، ومنه المُلْحِد في الدين: المائل عن الحق، المُدْخِل فيه ما ليس منه)). اهـ
فالإلحاد فيها إما أن يكون بجحدها وإنكارها بالكليَّة، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الفاسدة، وإما بجعلها أسماء لبعض المُبتَدَعات؛ كإلحاد أهل الاتحاد.
وخلاصة ما تقدم:
أن السلف رضي الله عنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، وبكل ما أخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إيمانًا سالمًا من التحريف والتعطيل، ومن التكييف والتمثيل، ويجعلون الكلام في ذات الباري وصفاته بابًا واحدًا؛ فإن الكلام في الصفات فرعُ الكلام في الذات، يُحْتَذَى فيه حَذْوُه، فإذا كان إثبات الذات إثباتَ وجودٍ لا إثبات تكييف؛ فكذلك إثبات الصفات.
وقد يعبِّرون عن ذلك بقولهم: ((تُمَرُّ كَما جاءت بلا تأويل))، ومَن لم يفهم كلامهم؛ ظنَّ أنّ غرضهم بهذه العبارة هو قراءة اللفظ دون التعرُّض للمعنى، وهو باطل، فإن المراد بالتأويل المنفي هنا هو حقيقة المعنى وكنهه وكيفيته(1).
قال الإمام أحمد رحمه الله:
((لا يوصَفُ الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يتجاوز القرآن والحديث))(2).
__________
(1) ومما يؤيِّد ذلك أنهم كانوا يقولون أحيانًا: ((تُمَرُّ كما جاءت؛ بلا كيف))، وما كانوا يقولون: ((تُمَرُّ كما جاءت بلا معنى))، فعُلِمَ من ذلك أنهم يُثْبِتُون المعنى، وينفون الكيف.
... والشارح يعني بقوله: ((حقيقة المعنى))؛ أي: الكيفية؛ يفرق بين المعنى وحقيقة المعنى، فيثبتون المعنى وينفون حقيقته، وهي الكيفية.
(2) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/26).(1/33)
وقال نُعيم بن حمَّاد (شيخ البخاري):
((مَن شبَّه اللهَ بخلقه؛ كفر، ومَن جحد ما وصف الله به نفسه؛ كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله تشبيهٌ ولا تمثيلٌ))(1).
(لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ).
/ش/ قوله: ((لأنه سبحانه لا سمي له… إلخ))؛ تعليل لقوله فيما تقدم إخبارًا عن أهل السنة والجماعة: ((لا يكيِّفون ولا يمثِّلون)).
ومعنى : (( لا سميَّ له )) أي : لا نظير له يستحقُّ مثل اسمه(2) ، أو لا مسامِيَ له يساميه، وقد دلَّ على نفيه قوله تعالى في سورة مريم:
{ ِهَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } (3).
فإن الاستفهام هنا إنكاريٌّ، معناه النفي.
وليس المراد من نفي السميِّ أن غيره لا يسمَّى بمثل أسمائه، فإن هناك أسماء مشتركة بينه وبين خلقه، ولكنَّ المقصود أن هذه الأسماء إذا سمِّي الله بها؛ كان معناها مختصًّا به لا يَشْرَكُهُ فيه غيره، فإن الاشتراك إنما هو في مفهوم الاسم الكلِّي، وهذا لا وجود له إلاَّ في الذهن، وأما في الخارج؛ فلا يكون المعنى إلا جزئيًّا مختصًّا، وذلك بحسب ما يضاف إليه، فإن أضيف إلى الرَّبِّ؛ كان مختصًّا به، لا يشاركه فيه العبد، وإن أضيف إلى العبد كان مختصًّا به لا يشاركه فيه الرب.
__________
(1) أورده الذهبي بإسناده في كتاب ((العلو))، وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص184):
... ((وهذا إسنادٌ صحيحٌ)). اهـ
... ونُعَيم بن حماد: هو أبو عبد لله نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخُزاعي المروزي، قال الخطيب: ((يقال إنه أوَّل من جمع المسند في الحديث)). وهو أعلم الناس بالفرائض، كان شديد الرد على الجهمية وأهل الأهواء، توفي سنة (228هـ).
(2) انظر: (ص163).
(3) مريم: (65): { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } .(1/34)
وأما الكفء؛ فهو المكافئ المساوي، وقد دلَّ على نفيه قوله تعالى:
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (1).
وأما النِّدُّ؛ فمعناه المساوي المناوئ؛ قال تعالى:
{ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } (2).
(ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى).
/ش/ وأما قوله: ((يُقاسُ بخلقه))؛ فالمقصود به أنه لا يجوز استعمال شيءٍ من الأقيسة التي تقتضي المماثلة والمساواة بين المَقِيس والمَقِيس عليه في الشؤون الإلهية.
وذلك مثل قياس التمثيل الذي يعرِّفه علماء الأصول بأنه إلحاق فرع بأصل في حكمٍ جامع؛ كإلحاق النبيذ بالخمر في الحرمة لاشتراكهما في علة الحكم، وهي الإسكار.
فقياس التمثيل مبنيٌّ على وجود مماثلة بين الفرع والأصل، والله عز وجلَّ لا يجوز أن يمثِّل بشيء من خلقه.
ومثل قياس الشمول المعروف عند المناطقة بأنه الاستدلال بكليٍّ على جزئيٍّ بواسطة اندراج ذلك الجزئي مع غيره تحت هذا الكُلِّي.
فهذا القياس مبنيٌّ على استواء الأفراد المُنْدَرِجة تحت هذا الكُلِّي، ولذلك يُحكَم على كل منها بما حُكِمَ به عليه. ومعلومٌ أنه لا مساواة بين الله عز وجل وبين شيء من خلقه.
وإنما يُستعمل في حقه تعالى قياس الأوْلى، ومضمونه أن كلَّ كمال ثبت للمخلوق وأمكن أن يتَّصف به الخالق؛ فالخالق أولى به من المخلوق، وكلَّ نقصٍ تَنَزَّهَ عنه المخلوق؛ فالخالق أحق بالتنزُّه عنه.
وكذلك قاعدة الكمال التي تقول: إنه إذا قُدِّر اثنان: أحدهما موصوف بصفة كمال، والآخر يمتنع عليه أن يتصف بتلك الصفة؛ كان الأول أكمل من الثاني، فيجب إثبات مثل تلك الصفة لله ما دام وجودها كمالاً وعدمها نقصًا.
(فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ.
__________
(1) الإخلاص: (4).
(2) البقرة: (22).(1/35)
ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ [مُصَدَّقون](1)؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ).
/ش/ قوله: ((فإنه أعلم بنفسه وبغيره…)) إلى قوله: ((… ثم رسله صادقون مصدوقون))؛ تعليلٌ لصحَّة مذهب السلف في الإيمان بجميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة؛ فإنه إذا كان الله عز وجل أعلم بنفسه وبغيره، وكان أصدق قولاً وأحسن حديثًا، وكان رسله عليهم الصلاة والسلام صادقين في كل ما يخبرون به عنه، معصومين من الكذب عليه والإخبار عنه بما يخالف الواقع؛ وجب التعويل إذًا في باب الصفات نفيًا وإثباتًا على ما قاله الله وقاله رسوله الذي هو أعلم خلقه به، وأن لا يُتْرك ذلك إلى قول مَن يفترون على الله الكذب ويقولون عليه ما لا يعلمون.
وبيان ذلك أن الكلام إنما تَقْصُر دلالته على المعاني المُرادة منه لأحد ثلاثة أسباب: إما لجهل المتكلم وعدم علمه بما يتكلَّم به، وإما لعدم فصاحته وقدرته على البيان، وإما لكذبه وغشه وتدليسه. ونصوص الكتاب والسنة بريئة من هذه الأمور الثلاثة من كل وجه، فكلام الله وكلام رسوله في غاية الوضوح والبيان؛ كما أنه المثل الأعلى في الصدق والمطابقة للواقع؛ لصدوره عن كمال العلم بالنسب الخارجية، وهو كذلك صادر عن تمام النصح، والشفقة، والحرص على هداية الخلق وإرشادهم.
فقد اجتمعت له الأمور الثلاثة التي هي عناصر الدلالة والإفهام على أكمل وجه.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بما يريد إخبارهم به، وهو أقدرهم على بيان ذلك والإفصاح عنه، وهو أحرصهم على هداية الخلق، وأشدُّهم إرادة لذلك، فلا يمكن أن يقع في كلامه شيء من النقص والقصور؛ بخلاف كلام غيره؛ فإنه لا يخلو من نقص في أحد هذه الأمور أو جميعها، فلا يصح أن يُعْدَلَ بكلامه كلام غيره؛ فضلاً عن أن يُعْدَلَ عنه إلى كلام غيره؛ فإن هذا هو غاية الضلال، ومنتهى الخذلان.
__________
(1) في المخطوط و((الفتاوى)): [مصدوقون].(1/36)
(وَلِهَذَا قَالَ: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (1).
فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ).
/ش/ قوله: ((ولهذا قال… إلخ))؛ تعليلٌ لما تقدّم من كون كلام الله وكلام رسوله أكمل صدقًا، وأتمُّ بيانًا ونصحًا، وأبعد عن العيوب والآفات من كلام كل أحد.
و((سبحان))؛ اسم مصدر من التسبيح، الذي هو التنزيه والإبعاد عن السوء، وأصله من السبح، الذي هو السرعة والانطلاق والإبعاد، ومنه فرسٌ سبوح؛ إذا كانت شديدة العدو.
وإضافة الرب إلى العزة من إضافة الموصوف إلى صفته، وهو بدل من الرب قبله.
فهو سبحانه ينزِّه نفسه عما ينسبه إليه المشركون من اتخاذ الصَّاحبة والولد، وعن كل نقص وعيب، ثم يسلِّم على رسله عليهم الصلاة والسلام بعد ذلك؛ للإشارة إلى أنه كما يجب تنزيه الله عز وجل وإبعاده عن كل شائبة نقص وعيب، فيجب اعتقاد سلامة الرسل في أقوالهم وأفعالهم من كل عيب كذلك، فلا يكذبون على الله، ولا يشركون به، ولا يغشُّون أممهم، ولا يقولون على الله إلا الحق.
قوله:((والحمدُ لله رب العالمين))؛ ثناءٌ منه سبحانه على نفسه بماله من نعوت الكمال، وأوصاف الجلال، وحميد الفعال، وقد تقدم الكلام على معنى الحمد، فأغنى عن إعادته.
(وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ).
/ش/ لمَّا بيَّن فيما سبق أن أهل السنة والجماعة يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ولم يكن ذلك كله إثباتًا ولا كله نفيًا؛ نبَّه على ذلك بقوله: ((وهو سبحانه قد جمع… إلخ)).
واعلم أنَّ كلاًّ من النفي والإثبات في الأسماء والصفات مجملٌ ومفصَّلٌ.
__________
(1) الصافات: (180-182).(1/37)
أما الإجمال في النفي؛ فهو أن يُنفَى عن الله عز وجل كلُّ ما يضادُّ كماله من أنواع العيوب والنقائص؛ مثل قوله تعالى:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1)، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } (2)،?? { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } (3).
وأما التفصيل في النفي؛ فهو أن يُنَزَّهَ الله عن كل واحد من هذه العيوب والنقائص بخصوصه، فينَزَّهُ عن الوالد، والولد، والشريك، والصاحبة، والند، والضد، والجهل، والعجز، والضلال،والنسيان، والسِّنة، والنوم، والعبث، والباطل… إلخ.
ولكن ليس في كتاب الله ولا في السنة نفيٌ محضٌ؛ فإن النفي الصرف لا مدح فيه، وإنما يُراد بكل نفيٍ فيهما إثبات ما يضاده من الكمال: فنفي الشريك والند؛ لإثبات كمال عظمته وتفرُّده بصفات الكمال، ونفي العجز؛ لإثبات كمال قدرته، ونفي الجهل؛ لإثبات سعة علمه وإحاطته، ونفي الظلم؛ لإثبات كمال عدله، ونفي العبث؛ لإثبات كمال حكمته،ونفي السِّنة والنوم والموت؛ لإثبات كمال حياته وقيُّومِيَّتِه.. وهكذا.
ولهذا كان النَّفي في الكتاب والسنة إنما يأتي مجملاً في أكثر أحواله؛ بخلاف الإثبات؛ فإن التفصيل فيه أكثر من الإجمال؛ لأنه مقصود لذاته.
وأما الإجمال في الإثبات ؛ فمثل إثبات الكمال المطلق ، والحمد المطلق ، والمجد المطلق ، ونحو ذلك ؛ كما يشير إليه مثل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (4)، { ??وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ } (5).
وأما التفصيل في الإثبات؛ فهو متناوِلٌ لكل اسم أو صفة وردت في الكتاب والسنة، وهو من الكثرة بحيث لا يمكن لأحد أن يحصيه؛ فإن منها ما اختص الله عز وجل بعلمه؛ كما قال عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) الشورى: (11).
(2) مريم: (65).
(3) الصافات: (159)، المؤمنون (91).
(4) الفاتحة: (2).
(5) النحل: (60).(1/38)
((سبحانك لا نحصي ثناءً عليكَ أنت كما أثنيتَ على نفسك))(1).
وفي حديث دعاء المكروب:
((أسألك بكل اسم هو لك؛ سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علَّمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك))(2).
(فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ).
/ش/ قوله: ((فلا عُدولَ… إلخ))؛ هذا مترتِّبٌ على ما تقدم من بيان أن ما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الحق الذي يجب اتِّباعه، ولا يصحُّ العدول عنه، وقد علل بأنه الصراط المستقيم، يعني الطريق السويّ القاصد الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
والصراط المستقيم لا يكون إلا واحدًا؛ من زاغ عنه أو انحرف وقع في طريقٍ من طرق الضلال والجَور؛ كما قال تعالى:
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } (3).
__________
(1) رواه مسلم في الصلاة، 0باب: ما يُقال في الركوع والسجود) (4/450-نووي) عن عائشة مرفوعًا:
... ((اللهُمَّ إني أعوذ برضاك من سَخَطِكَ، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك)).
... والحديث رواه الأربعة والإمام أحمد.
(2) صحيح). رواه أحمد في ((المسند)) (1/391 و452)(14/262-ساعاتي)، والحاكم في ((المستدرك (1/509)، وابن حبان في ((صحيحه))، وصححه أحمد شاكر في ((المسند)) (5/266)، والألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (198).
... وانظر: ((جامع الأصول)) (2300).
(3) الأنعام: (153).(1/39)
والصراط المستقيم هو طريق الأمة الوسط، الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط، ولهذا أمرنا الله عز وجل وعلَّمنا أن نسأله أن يهدينا هذا الصراط المستقيم في كل ركعة من الصلاة؛ أي: يلهمنا ويوفقنا لسلوكه واتباعه، فإنه صراط الذين أنعم الله عليهم من النَّبيِّين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين وحَسُنَ أُولئك رفيقًا.
(وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ الله بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ).
/ش/ قوله: ((وقد دخل… إلخ))؛ شروعٌ في إيراد النصوص من الكتاب والسنة المتضمِّنة لما يجب الإيمان به من الأسماء والصفات في النفي والإثبات.
وابتدأ بتلك السورة العظيمة؛ لأنها اشتملت من ذلك على ما لم يشتمل عليه غيرها، ولهذا سُمِّيَتْ سُورة الإخلاص؛ لتجريدها التوحيد من شوائب الشرك والوثنية.
روى الإمام أحمد في ((مسنده)) عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه في سبب نزولها: أن المشركين قالوا: يا محمد! انسب لنا ربك. فأنزل الله تبارك وتعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ } إلخ السورة(1).
وقد ثبت في الصحيح أنها تعدل ثلث القرآن(2).
__________
(1) حسن). رواه الترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة الإخلاص) (تحفة 9/299)، وأحمد في ((المسند)) (5/133)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (1/297). ...
... وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2680).
... وانظر كتاب ((العظمة)) لأبي الشيخ (1/375) ، وكتاب ((شعب الإيمان)) للبيهقي (1/276).
(2) البخاري)) في التوحيد، (باب: ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى التوحيد) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده؛ إنها لَتَعدِل ثلث القرآن)).(1/40)
وقد اختلف العلماء في تأويل ذلك على أقوال؛ أقربها [ما نقله شيخ الإسلام عن أبي العباس](1)، وحاصله أن القرآن الكريم اشتمل على ثلاثة مقاصد أساسية:
أولها: الأوامر والنواهي المتضمِّنة للأحكام والشرائع العملية التي هي موضوع علم الفقه والأخلاق.
ثانيها: القصص والأخبار المتضمنة لأحوال الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، وأنواع الهلاك التي حاقت بالمكذِّبين لهم، وأحوال الوعد والوعيد، وتفاصيل الثواب والعقاب.
ثالثها: علم التوحيد، وما يجب على العباد من معرفة الله بأسمائه وصفاته، وهذا هو أشرف الثلاثة.
ولما كانت سورة الإخلاص قد تضمَّنَت أُصول هذا العلم، واشتملت عليه إجمالاً؛ صحَّ أن يقال: إنها تعدل ثلث القرآن.
وأما كيف اشتملت هذا السورة على علوم التوحيد كلها، وتضمَّنت الأصول التي هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي؟ فنقول:
إن قوله تعالى: { اللَّهُ أَحَدٌ } دلَّت على نفي الشريك من كل وجهٍ: في الذات، وفي الصفات، وفي الأفعال؛ كما دلَّت على تفرُّده سبحانه بالعظمة والكمال والمجد والجلال والكبرياء ، ولهذا لا يُطلَق لفظ { أَحَدٌ } في الإثبات إلا على الله عز وجل، وهو أبلغ من واحد.
وقوله: { اللَّهُ الصَّمَد } قد فسَّرها ابن عباس رضي الله عنه بقوله:
__________
(1) في طبعة الجامعة الإسلامية: [ما نقله شيخ الإسلام أبو العباس]. والصواب ما هو مثبت هنا، وكذا في طبعة ((الإفتاء))، وأبو العباس هو أبو العباس بن سريج.
... انظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/103).(1/41)
((السيد الذي كمل في سؤدده، والشريف الذي كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمُل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبَّار الذي قد كمل في جبروته، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمُل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله عز وجل ، هذه صفته ، لا تنبغي إلا له، ليس له كفءٌ، وليس كمثله شيء))(1).
وقد فُسِّر الصمد أيضًا بأنه الذي لا جوف له(2)، وبأنه الذي تصمد إليه الخليقة كلها وتقصده في جميع حاجاتها ومهمَّاتها(3).
فإثبات الأحدية لله تضمَّن نفي المشاركة والمماثلة.
وإثبات الصمديَّة بكل معانيها المتقدمة تتضمن إثبات جميع تفاصيل الأسماء الحسنى والصفات العلى. وهذا هو توحيد الإثبات.
__________
(1) رواه ابن جرير في تفسير سورة الإخلاص بسنده، فقال:
... ((حدثنا علي: حدثنا أبو صالح: حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس، به)).
... وعلي (الراوي عن ابن عباس): هو ابن أبي طلحة؛ كما في ((تفسير ابن كثير))، وهو صدوق، ولم يَلقَ ابن عباس، وإنما أخذ تفسيره من مجاهد، فروايته عنه منقطعة.
... والحديث أخرجه أبو الشيخ في ((العظمة)) (1/383) بالسند نفسه، وقد ضعَّفه محققه المباركفوري.
... ولكن قال الحافظ ابن حجر في ((التهذيب)): ((بعد أن عُرفت الواسطة، وهو ثقة ـ يعني مجاهدًا ـ فلا ضير في ذلك)). ... ... ... ... ... =
= ... انظر: ((تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة)) (1/25).
(2) صحَّ ذلك عن: مجاهد، والحسن، والضحاك، وورد مرفوعًا، ولكن لا يصحّ.
... انظر: ((العظمة)) لأبي الشيخ (1/379)، و((السنة)) لابن أبي عاصم، ومعه ((ظلال الجنة)) للألباني (رقم673، 674، 675، 680، 688، 689).
(3) صحَّ ذلك عن إبراهيم النخعي. انظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (رقم687).
... وورد عن ابن عباس بإسناد ضعيف. انظر ((العظمة)) (1/380).(1/42)
وأما النوع الثاني ـ وهو توحيد التنزيه ـ ؛ فيؤخذ من قوله تعالى: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ؛ كما يؤخذ إجمالاً من قوله: { اللَّهُ أَحَدٌ } ؛ أي: لم يتفرَّع عنه شيء، ولم يتفرَّع هو عن شيء، وليس له مكافئ ولا مماثل ولا نظير.
فانظر كيف تضمَّنت هذه السورة توحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرَّبِّ تعالى من الأَحَدِيَّة المنافية لمطلق المشاركة، والصمَدِيَّةِ المُثْبِتَة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم غناه وصمَدِيَّتِه وأَحدِيَّتِه، ثم نفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والنظير(1)؟
فحُقَّ لسورة تضمَّنت هذه المعارف كلها أن تعدل ثلث القرآن.
(وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتِابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ:
{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْم....ٌ
لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } (2))(3).
__________
(1) كذا في المطبوع، والأولى أن يقال: ((الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير)).
(2) البقرة: (255).
(3) زاد في المخطوط : ((ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة ؛ لم يزل عليه من الله حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح))، وكذا في ((الفتاوى)).(1/43)
/ش/ روى مسلم في ((صحيحه))(1) عن أُبيّ بن كعب أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سأله:
((أي آية في كتاب الله أعظم؟)).
قال: الله ورسوله أعلم.
فردَّدها مرارًا، ثم قال أُبيٌّ: آية الكرسي.
فوضع النبي يده على كتفه، وقال: ((ليهنك هذا العلم أبا المنذر)).
وفي رواية عند أحمد:
((والذي نفسي بيده؛ إن لها لسانًا وشفتين تقدِّس الملك عند ساق العرش))(2).
ولا غرو، فقد اشتملت هذه الآية العظيمة من أسماء الربِّ وصفاته على ما لم تشتمل عليه آية أخرى.
فقد أخبر الله فيها عن نفسه بأنه المتوحِّد في إلهيَّتِه، الذي لا تنبغي العبادة بجميع أنواعها وسائر صورها إلا له.
ثم أردف قضية التوحيد بما يشهد لها من ذكر خصائصه وصفاته الكاملة، فذكر أنه الحي الذي له كمال الحياة؛ لأن حياته من لوازم ذاته، فهي أزليَّة أبديَّة، وكمال حياته يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال الذاتيَّة له، من العزَّة والقدرة والعلم والحكمة والسمع والبصر والإرادة والمشيئة وغيرها؛ إذ لا يتخلّف شيء منها إلا لنقصِ في الحياة، فالكمال في الحياة يتبعه الكمال في سائر الصفات اللازمة للحيّ.
__________
(1) في صلاة المسافرين، (باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي) (6/341-نووي)، ورواه أبو داود في الصلاة، (باب: ما جاء في آية الكرسي) (4/334-عون).
(2) إسنادها صحيح). روى هذه الزيادة عبد بن حميد في ((مسنده)) (1/199) من طريق مسلم نفسه، كما رواها أحمد في ((المسند)) (5/141)(18/92-ساعاتي)، والبغوي في ((شرح السنة)) (4/459)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (5/323)، والحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) (ص337). وانظر: ((موسوعة فضائل سور القرآن)) (1/141).(1/44)
ثم قرن ذلك باسمه القيوم، ومعناه الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه غنًى مطلقًا لا تشوبُه شائبةُ حاجةٍ أصلاً؛ لأنه غنًى ذاتيٌّ، وبه قامت الموجودات كلها، فهي فقيرة إليه فقرًا ذاتيًا، بحيث لا تستغني عنه لحظة، فهو الذي ابتدأ إيجادها على هذا النحو من الإحكام والإتقان، وهو الذي يدبِّر أمورها، ويمدها بكل ما تحتاج إليه في بقائها، وفي بلوغ الكمال الذي قدره لها.
فهذا الاسم متضمِّنٌ لجميع صفات الكمال الفعليَّة، كما أن اسمه الحي متضمِّن لجميع صفات الكمال الذاتية، ولهذا ورد أن الحي القيوم هما اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب.
ثم أعقب ذلك بما يدلُّ على كمال حياته وقيُّوميَّته ، فقال : { لاَ تَأْخُذُه ُ } ؛ أي لا تغلبه { سِنَةٌ?? } ؛ أي نعاسٌ { وَلاَ نَوْمٌ } ؛ فإن ذلك ينافي القيومية؛ إذ النوم أخو الموت،ولهذا كان أهل الجنَّة لا ينامون.
ثم ذكر عموم ملكه لجميع العوالِم العُلْوية والسُّفلية، وأنها جميعًا تحت قهره وسلطانه، فقال: { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض?? - .
ثم أردف ذلك بما يدلُّ على تمام ملكه، وهو أن الشفاعة كلها له، فلا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه.
وقد تضمَّن هذا النفي والاستثناء أمرين:
أحدهما: إثبات الشفاعة الصحيحة، وهي أنها تقع بإذنه سبحانه لمن يرضى قوله وعمله.
والثاني: إبطال الشفاعة الشركيَّة التي كان يعتقدها المشركون لأصنامهم، وهي أنها تشفع لهم بغير إذن الله ورضاه.
ثم ذكر سعة علمه وإحاطته، وأنه لا يخفى عليه شيء من الأمور المستقبلة والماضية.
وأما الخلق فإنهم { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِه } ؛ قيل: يعني من معلومه. وقيل: من علم أسمائه وصفاته؛ { إِلاَّ بِمَا شَاء } الله سبحانه أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله، أو بغير ذلك من طرق البحث والنظر والاستنتاج والتجربة.(1/45)
ثم ذكر ما يدل على عظيم ملكه، وواسع سلطانه، فأخبر أن كرسيَّه قد وسع السماوات والأرض جميعًا.
والصحيح في الكرسي أنه غير العرش، وأنه موضع القدمين، وأنه في العرش كحلْقة ملقاة في فلاة.
وأما ما أورده ابن كثير عن ابن عباس في تفسير الكرسي بالعلم؛ فإنه لا يصحُّ(1)، ويفضي إلى التكرار في الآية.
ثم أخبر سبحانه بعد ذلك عن عظيم قدرته وكمال قوته بقوله: { ? وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } ؛ أي: السموات والأرض وما فيهما.
وفسر الشيخ رحمه الله { يَؤُودُه } بـ: (يثقله ويُكْرِثُه)، وهو من آده الأمر: إذا ثقل عليه.
ثم وصف نفسه سبحانه في ختام تلك الآية الكريمة بهذين الوصفين الجليلين؛ وهما: { الْعَلِيُّ } ، و { الْعَظِيمُ } .
__________
(1) لأنه من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
... قال الدارمي في رده على بشر المريسي (1/411، تحقيق الألمعي): ((ليس جعفر ممن يُعتمد على روايته، إذ قد خالفته الرواة الثقات المتقنون)).
قال الذهبي في ((الميزان)) (1/417):
... ((قال ابن مندة: ليس هو بالقوي في سعيد بن جبير. وقال عن سند هذه الرواية: لم يُتابع عليه)).
... ثم قال الذهبي:
... ((فقد روى عمارٌ الدُّهني عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس؛ قال: كرسيُّه: موضع قدمه.. والعرش لا يقدر قدره)). اهـ
... وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (2/162):
... ((إسناده جيد، ولكنه شاذٌّ بمرة، مخالفٌ للثابت الصحيح عن ابن عباس)).
... ثمّ علَّق على رواية ابن عباس في تفسيره بأنه موضع القدمين، وقال:
... ((وهذا هو الصحيح الثابت عن ابن عباس، وأما الرواية السابقة عنه بتأويل الكرسي بالعلم؛ فهي رواية شاذَّّة، لا يقوم عليها دليلٌ من كلام العرب، ولذلك رجَّح أبو منصور الأزهريُّ الرواية الصحيحة عن ابن عباس،وقال: ((وهذه رواية اتَّفق أهل العلم على صحتها، ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم؛ فقد أبطل))). اهـ(1/46)
فالعَلِيُّ: هو الذي له العلوُّ المطلق من جميع الوجوه:
علو الذَات: وكونه فوق جميع المخلوقات مستويًا على عرشه.
وعلو القَدْر: إذ كان له كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أعلاها وغايتها.
وعلو القَهْر: إذ كان هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.
وأما العظيم؛ فمعناه الموصوف بالعظمة، الذي لا شيء أعظم منه، ولا أجل، ولا أكبر، وله سبحانه التعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وأصفيائه.
(وَقَوْله سُبْحَانَهُ: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (1).
/ش/ قوله: { هُوَ الأَوَّلُ } ؛ الجملة هنا جاءت معرفة الطرفين؛ فهي تفيد اختصاصه سبحانه بهذه الأسماء الأربعة ومعانيها على ما يليق بجلاله وعظمته، فلا يُثْبَت لغيره من ذلك شيء.
وقد اضطربت عبارات المتكلِّمين في تفسير هذه الأسماء، ولا داعي لهذه التفسيرات بعدما ورد تفسيرها عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، فقد روى مسلم في ((صحيحه)) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه:
((اللهمَّ ربَّ السماواتِ السبع، وربَّ الأرضِ، ربَّ كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن؛ أعوذ بك من شر كل ذي شرٍّ أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عني الدين وأغْنِني من الفقر))(2).
فهذا تفسير واضحٌ جامعٌ يدلُّ على كمال عظمته سبحانه، وأنه محيطٌ بالأشياء من كل وجه.
فالأول والآخر: بيان لإحاطته الزمانية.
والظاهر والباطن: بيان لإحاطته المكانية.
كما أن اسمه الظاهر يدل على أنه العالي فوق جميع خلقه، فلا شيء منها فوقه.
__________
(1) الحديد: (3).
(2) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، (باب : ما يقول عند النوم وأخذ المضجع) (17-39-نووي)، ورواه أيضًا أبو داود و الترمذي بألفاظ متقاربة.(1/47)
فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، فأحاطت أوَّليَّتُهُ وآخريَّتُهُ بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريَّتُه وباطنيَّتُهُ بكل ظاهرٍ وباطنٍ.
فاسمه الأول: دالٌّ على قِدَمِهِ وأزليَّتِهِ.
واسمه الآخر: دالٌّ على بقائِهِ وأبديَّتِه.
واسمه الظاهر: دالٌّ على علوِّه وعظمته.
واسمه الباطن: دالٌّ على قربِه ومعيَّتِه.
ثم خُتِمَت الآية بما يفيد إحاطة علمه بكل شيء من الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة، ومن العالم العُلوي والسُّفلي، ومن الواجبات والجائزات والمستحيلات ، فلا يغيب عن علمه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماء.
فالآية كلها [في](1) شأن إحاطة الرب سبحانه بجميع خلقه من كل وجه، وأن العوالم كلها في قبضة يده؛ كخردلة في يد العبد، لا يفوته منها شيء، وإنما أتى بين هذه الصفات بالواو مع أنها جارية على موصوف واحد؛ لزيادة التقرير والتأكيد؛ لأن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره، وَحَسُنَ ذلك لمجيئها بين أوصاف متقابلة قد يسبق إلى الوهم استبعاد الاتصال بها جميعًا؛ فإن الأولية تنافي الآخرية في الظاهر، وكذلك الظاهرية والباطنية، فاندفع توهُّم الإنكار بذلك التأكيد.
(وَقَوْله سُبْحَانَهُ: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } (2)).
/ش/ قوله: { وَتَوَكَّلْ } ... إلخ؛ هذه الجملة من الآيات ساقها المؤلف لإثبات بعض الأسماء والصفات.
فالآية الأولى فيها إثبات اسمه الحيِّ، كما تضمَّنت سلب الموت الذي هو ضد الحياة عنه، وقد قدَّمنا أنه سبحانه حيٌّ بحياة هي صفة له لازمة لذاته، فلا يعرض لها موت ولا زوال أصلاً، وأن حياته أكمل حياة وأتمها، فيستلزم ثبوتُها له ثبوتَ كلِّ كمال يضادُّ نفيُه كمالَ الحياة.
وأما الآيات الباقية؛ ففيها إثبات صفة العلم وما اشتُقَّ منها؛ ككونه عليمًا، ويعلم وأحاط بكل شيءٍ علمًا… إلخ.
__________
(1) ليست في الأصل، ولكن يقتضيها السياق.
(2) الفرقان: (58).(1/48)
(وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
(1)، { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } (2)
، { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } (3) وَقَوْلُهُ: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِه } (4)،وَقَوْلُهُ: { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } (5).
/ش/ والعلم صفة لله عز وجل، بها يدرك جميع المعلومات على ما هي به، فلا يخفى عليه منها شيء؛ كما قدمنا.
وفيها إثبات اسمه الحكيم، وهو مأخوذٌ من الحكمة، ومعناه: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، فلا يقع منه عبثٌ ولا باطلٌ، بل كل ما يخلقه أو يأمر به فهو تابعٌ لحكمته.
وقيل: هو من فعيل بمعنى مُفْعِل، ومعناه: المُحْكِم للأشياء، من الإحكام: وهو الإتقان، فلا يقع في خلقه تفاوتٌ ولا فطورٌ، ولا يقع في تدبيره خللٌ أو اضطرابٌ.
وفيها كذلك إثبات اسمه الخبير، وهو من الخبرة؛ بمعنى كمال العلم، ووثوقه، والإحاطة بالأشياء على وجه التفصيل، ووصول علمه إلى ما خفي ودقَّ من الحسيات والمعنويات.
وقد ذكر سبحانه في هذه الآيات بعض ما يتعلَّق به علمُه؛ للدلالة على شموله وإحاطته بما لا تبلغه علوم خلقه:
__________
(1) التحريم: (2).
(2) سبأ: (1، 2).
(3) الأنعام: (59).
(4) فصلت: (47).
(5) الطلاق: (12).(1/49)
فذكر أنه: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ } ؛ أي: يدخل { فِي الأَرْض } من حبٍّ وبذرٍ ومياه وحشرات ومعادن، { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من زرعٍ وأشجارٍ وعيونٍ جاريةٍ ومعادن نافعة كذلك، { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء } من ثلجٍ وأمطار وصواعقَ وملائكةٍ، { وَمَا يَعْرُجُ } ؛ أي: يصعد { فِيهَا } كذلك من ملائكة وأعمال وطير صوافَّ… إلى غير ذلك مما يعلمه جل شأنه.
وذكر فيها أيضًا أن { عِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } ، ومفاتح الغيب؛ قيل: خزائنه. وقيل: طرقه وأسبابه التي يتوصل بها إليه، جمع مِفتح؛ بكسر الميم، أو مفتاح؛ بحذف ياء مفاعيل.
وقد فسرها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله:
((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله))، ثم تلا قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (1).
__________
(1) رواه البخاري في تفسير سورة الأنعام، (باب: { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } (8/91- فتح)، وفي تفسير سورة لقمان، والرعد، وفي التوحيد (13/361- فتح).
... والآية في سورة لقمان، رقم 34.(1/50)
وقد دلّّت الآيتان الأخيرتان على أنه سبحانه عالم بعلم هو صفة له، قائم بذاته؛ خلافًا للمعتزلة(1) الذين نفوا صفاته، فمنهم من قال: إنه عالم بذاته، وقادر بذاته.. إلخ، ومنهم مَن فسر أسماءه بمعانٍ سلبية، فقال: عليم؛ معناه: لا يجهل. وقادرٌ؛ معناه: لا يعجز.. إلخ.
وهذه الآيات حجة عليهم، فقد أخبر فيها سبحانه عن إحاطة علمه بحمل كل أنثى ووضعها من حيث المعنى والكيف؛ كما أخبر عن عموم قدرته، وتعلقها بكل ممكن، وعن إحاطة علمه بجميع الأشياء.
وما أحسن ما قاله الإمام عبد العزيز المكي(2) في كتابه ((الحيدة)) لبشر المَرِيسِيِّ(3) المعتزلي وهو يناظره في مسألة العلم:
__________
(1) المعتزلة: هم في الصفات جهمية ينفونها، وفي القدر قدريَّة يقولون: أعمال العباد مخلوقةٌ لهم، وينكِرون رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، ويوجبون على الله الثواب والعقاب والصلاح والأصلح، ويقولون بالعدل، والمنزلة بين المنزلتين، ويقدمون العقل على النقل، وهم أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، وهم عشرون فرقة، وأصل معتقدهم باقٍ إلى اليوم، متمثل بوجه أو بآخر في كل من الشيعة والزيدية والإباضية، وفيمن يُسمَّوْن بالعقلانيين أو العصرانيين، ويلحق بهم من سُمُّوا زورًا بالتنويريين أو المستنيرين.
(2) هو عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي الفقيه، كان من أهل العلم والفضل، تفقَّه على الشافعي وصاحبه، توفي سنة (240هـ).
(3) متكلِّم مناظر من موالي آل زيد بن الخطاب، من الداعين بخلق القرآن، وكان عالم الجهمية في عصره، مات سنة (218هـ).(1/51)
((إن الله عز وجل لم يمدح في كتابه [مَلَكًا مقرَّبًا ولا نبيًا مرسلاً](1) ولا مؤمنًا تقيًّا بنفي الجهل عنه؛ ليدل على إثبات العلم له، وإنما مدحهم بإثبات العلم لهم، فنفى بذلك الجهل عنهم... فمَن أثبت العلم نفي الجهل، ومَن نفى الجهل لم يثبت العلم))(2).
والدليل العقلي على علمه تعالى أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل؛ لأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم العلم بالمُراد، ولهذا قال سبحانه:
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (3).
ولأن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان وعجيب الصنعة ودقيق الخلقة ما يشهد بعلم الفاعل لها؛ لامتناع صدور ذلك عن غير علم.
ولأن من المخلوقات من هو عالِمٌ، والعلم صفة كمال، فلو لم يكن الله عالمًا؛ لكان في المخلوقات مَن هو أكمل منه.
وكل علم في المخلوق إنما استفاده من خالقه، وواهب الكمال أحق به، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وأنكرت الفلاسفة(4) علمه تعالى بالجزئيات، وقالوا: إنه يعلم الأشياء على وجه كليٍّ ثابتٍ، وحقيقة قولهم أنه لا يعلم شيئًا؛ فإن كل ما في الخارج هو جزئي.
__________
(1) كذا في طبعة الجامعة الإسلامية، وكتاب ((الحيدة)) نشر عبد العزيز آل الشيخ (ص32)، وفي طبعة الإفتاء بدون [مقربًا]، وفي كتاب ((الحيدة)) تحقيق الدكتور علي الفقيهي (ص46): [ملكًا ولا نبيًا].
(2) الحيدة)) (ص30) طبعة الجامعة الإسلامية، و(ص46) بتحقيق الفقيهي.
(3) الملك: (14).
(4) الفلاسفة: هم الذين ينكرون علم الله تعالى، وينكرون حشر الأجساد، ومذهبهم أن العالم قديم، وعلته مؤثرة بالإيجاب، وليست فاعلة بالاختيار.
... وانظر: (ص254).(1/52)
كما أنكر الغُلاة من القدَرِيَّة(1) علمه تعالى بأفعال العباد حتى يعملوها؛ توهُّمًا منهم أن علمه بها يفضي إلى الجبر، وقولهم معلوم البطلان بالضرورة في جميع الأديان.
(وَقَوْله: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (2)).
/ش/ قوله: { إِنَّ اللَّهَ... } إلخ؛ تضمَّنَتْ إثبات اسمه الرَّزَّاق، وهو مبالغة من الرزق، ومعناه: الذي يرزق عباده رزقًا بعد رزق في إكثار وسعة.
وكل ما وصل منه سبحانه من نفعٍ إلى عباده فهو رزقٌ؛ مباحًا كان أو غير مباح، على معنى أنه قد جعله لهم قوتًا ومعاشًا؛ قال تعالى:
{ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَاد } ?(3).
وقال: { وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون??((4).
إلا أن الشيء إذا كان مأذونًا في تناوله؛ فهو حلالٌ حكمًا، وإلا كان حرامًا، وجميع ذلك رزقٌ.
وتعريف الجملة الاسمية والإتيان فيها بضمير الفصل؛ لإفادة اختصاصه سبحانه بإيصال الرزق إلى عباده.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
((أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي أنا الرزاق ذو القوة المتين))(5).
__________
(1) القدرية: هم أتباع معبدٍ الجُهَنِيّ، وغيلان الدمشقي، المنكرون للقدر، المكذبون بتقدير الله تعالى لأفعال العباد، الذين قالوا: إن علم الله مستأنفٌ ليس بقديم، وإن العباد هم الموجِدون لأعمالهم. وبقولهم قالت المعتزلة.
(2) الذاريات: (58).
(3) ق: (10).
(4) الذاريات: (22).
(5) حسن). رواه الترمذي في القراءات (8/261- تحفة)، وقال:
... ((حديث حسن صحيح)).
... ورواه أبو داود في القراءات أيضًا.
... انظر. ((جامع الأصول)) (965).
... وقال الألباني في ((صحيح الترمذي)) (2343):
... ((صحيح المتن، وهذه قراءه شاذّة)).(1/53)
وأما قوله:???(ذُو الْقُوَّة } ؛ أي صاحب القوة؛ فهو بمعنى اسمه القوي؛ إلا أنه أبلغ في المعنى، فهو يدلُّ على أن قوته سبحانه [لا تتناقص فيَهِنُ أو يَفتُرُ](1).
وأما { الْمَتِينُ?? - ؛ فهو اسم له من المتانة، وقد فسره ابن عباس بـ:((الشديد))(2).
(وَقَوْله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? } (3).
وَقَوْله: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } (4)).
/ش/ قوله: ??(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } إلخ؛ دلَّ إثباتُ صفتي السمع والبصر له سبحانه بعد نفي المثل عنه، على أنه ليس المراد من نفي المثل نفي الصفات؛ كما يدَّعي ذلك المعطِّلة، ويحتجون به باطلاً، بل المراد إثبات الصفات مع نفي مماثلتها لصفات المخلوقين.
قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله:
((قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... } إنما قصد به نفي أن يكون معه شريكٌ أو معبودٌ يستحقُّ العبادة والتعظيم؛ كما يفعله المشبهون والمشركون، ولم يقصد به نفي صفات: كماله، وعلوِّه على خلقه، وتكلمه بكتبه، وتكلمه لرسله، ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم كما ترى الشمس والقمر في الصحو…)) اهـ.
ومعنى { السَّمِيعُ } : المدرك لجميع الأصوات مهما خفتت، فهو يسمع السر والنجوى بسمع هو صفة لا يماثل أسماع خلقه.
__________
(1) علّق الشيخ عبد الرزاق عفيفي في طبعة الجامعة الإسلامية بقوله:
... ((هكذا بالأصل، والصواب أن يقال: [لا نقص فيها ولا فتور])). اهـ
(2) رواه ابن جرير بسنده في تفسير الآية (58) من سورة الذاريات، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقد تقدم الكلام (ص114) عن رواية علي عن ابن عباس.
(3) الشورى: (11).
(4) النساء: (58).(1/54)
ومعنى { البَصِيرُ? } : المدرك لجميع المرئيات من الأشخاص والألوان مهما لطفت أو بعدت، فلا تؤثر على رؤيته الحواجز والأستار، وهو من فعيل بمعنى مُفْعِل، وهو دالٌّ على ثبوت صفة البصر له سبحانه على الوجه الذي يليق به.
روى أبو داود في ((سننه)) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } (1)، فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينيه(2).
ومعنى الحديث أنه سبحانه يسمع بسمع، ويرى بعين، فهو حجة على بعض الأشاعرة(3) الذين يجعلون سمعه علمه بالمسموعات، وبصره علمه بالمبصرات، وهو تفسير خاطئ؛ فإن الأعمى يعلم بوجود السماء ولا يراها، والأصم يعلم بوجود الأصوات ولا يسمعها.
( وَقَوْله :???( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } (4)
__________
(1) النساء: (58).
(2) صحيح). رواه أبو داود في السنة، (باب: في الجهمية) (13/37-عون)، وصحح إسناده الألباني والأرناؤوط.
... انظر: ((صحيح سنن أبي داود)) (3/895).
... و((جامع الأصول)) (5020).
... وقال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (13/373).
... ((أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم)).
... ثم ذكر حديث عقبة بن عامر عند البيهقي: ((سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: ((إن ربنا سميع بصير))، وأشار بيده إلى عينه)).
وقال الحافظ: ((سنده حسن)).
(3) الأشاعرة: هم أتباع أبي الحسن الأشعري؛ الذي كان معتزليًّا، ثم ترك الاعتزال، واتَّخذ له مذهبًا بين الاعتزال ومذهب أهل السنة والجماعة، ثم رجع وتاب، ووافق الإمام أحمد وأهل السنة والجماعة في معتقداتهم، وبقي بعض أتباعه إلى اليوم يحملون معتقده الثاني، وهم مرجئة في الإيمان، مؤوِّلة في الصفات، أقرب فرق البدع والضلال لأهل السنة والجماعة، وليسو منهم.
(4) الكهف: (39).(1/55)
، وَقَوْله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
(1)، وَقَوْله: { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } (2)، وَقَوْله: { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } (3))(4).
/ش/ قوله: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ... } إلخ. هذه الآيات دلَّت على إثبات صفتي الإرادة والمشيئة، والنصوص في ذلك لا تحصى كثرة.
و الأشاعرة يثبتون إرادة واحدة قديمة تعلَّقت في الأزل بكل المرادات، فيلزمهم تخلُّف المراد عن الإرادة.
وأما المعتزلة؛ فعلى مذهبهم في نفي الصفات لا يثبتون صفة الإرادة، ويقولون: إنه يريد بإرادة حادثة لا في محل، فيلزمهم قيام الصفة بنفسها، وهو من أبطل الباطل.
وأما أهل الحق؛ فيقولون: إن الإرادة على نوعين:
1- إرادة كونية ترادفها المشيئة، وهما تتعلَّقان بكل ما يشاء الله فعله وإحداثه، فهو سبحانه إذا أراد شيئًا وشاءه؛ كان عقب إرادته له؛
كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (5).
وفي الحديث الصحيح:
__________
(1) البقرة: (253).
(2) المائدة: (1).
(3) الأنعام: (125). ...
(4) وردت الآية في المخطوط بدءًا من قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ } [البقرة: 253]، وكذا في ((الفتاوى)).
(5) يس: (82).(1/56)
((ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن))(1).
2- وإرادة شرعية تتعلق بما يأمر الله به عباده مما يحبه ويرضاه، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2).
ولا تلازم بين الإرادتين؛ بل قد تتعلَّق كل منهما بما لا تتعلق به الأخرى، فبينهما عمومٌ وخصوصٌ من وجه.
فالإرادة الكونية أعمُّ من جهة تعلُّقها بما لا يحبُّه الله ويرضاه من الكفر والمعاصي، وأخصُّ من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر وطاعة الفاسق.
والإرادة الشرعية أعمُّ من جهة تعلُّقها بكل مأمور به واقعًا كان أو غير واقع، وأخصُّ من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به.
والحاصل أن الإرادتين قد تجتمعان معًا في مثل إيمان المؤمن، وطاعة المطيع.
وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر، ومعصية العاصي.
وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر، وطاعة العاصي.
وقوله تعالى: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ... } الآية؛ هذا من قول الله حكاية عن الرجل المؤمن لزميله الكافر صاحب الجنَّتين؛ يعظه به أن يشكر نعمة الله عليه، ويردَّها إلى مشيئة الله، ويبرأ من حوله وقوته؛ فإنه لا قوة إلا بالله.
__________
(1) هذا جزء من حديث ضعيف ؛ رواه أبو داود ، في الأدب ، (باب : ما يقول إذا أصبح) (13/415-عون)، والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (ص140 رقم12)، وابن السني من طريقه في ((عمل اليوم والليلة)) (ص25 رقم46)، قال الحافظ:
... ((حديث غريب)).
... انظر: ((الفتوحات الربانية)) (2/121)، و((الأذكار)) للنووي، تخريج بشير عيون (رقم232)، و((ضعيف الجامع))) (4121).
... لكنّ معناه صحيح حتمًا.
(2) البقرة: (185).(1/57)
وقوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ... } الآية؛ إخبارٌ عمّا وقع بين أتباع الرسل من بعدهم: من التنازع، والتعادي بغيًا بينهم وحسدًا، وأنَّ ذلك إنما كان بمشيئة الله عز وجل، ولو شاء عدم حصوله ما حصل، ولكنه شاءه فوقع.
وقوله: { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ...???(إلخ؛ الآية تدل على أن كلاًّ من الهداية والضلال بخلق الله عز وجل،فمن يرد هدايته أي:إلهامه وتوفيقه يشرح صدره للإسلام، بأن يقذف في قلبه نورًا، فيتسع له، وينبسط؛ كما ورد في الحديث، ومن يرد إضلاله وخذلانه يجعل صدره في غاية الضيق والحرج، فلا ينفذ إليه نور الإيمان، وشبَّه ذلك بمن يصعد في السماء.
(وَقَوْلُهُ: { وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (1)، { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (2)
، { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (3)، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } (4)، وَقَوْلُهُ: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (5)، وَقَوْلُهُ: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (6)، وَقَوْلُهُ: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } (7)).
/ش/ تضمَّنت هذه الآيات إثبات أفعالٍ له تعالى ناشئة عن صفة المحبة، ومحبة الله عز وجل لبعض الأشخاص والأعمال والأخلاق صفة له قائمة به، وهي من صفات الفعل الاختيارية التي تتعلق بمشيئته، فهو يحبُّ بعض الأشياء دون بعض على ما تقتضيه الحكمة البالغة.
__________
(1) البقرة: (195).
(2) الحجرات: (9).
(3) التوبة: (7).
(4) البقرة: (222).
(5) آل عمران: (31).
(6) المائدة: (54).
(7) الصفّ: (4).(1/58)
وينفي الأشاعرة والمعتزلة صفة المحبة؛ بدعوى أنها توهم نقصًا؛ إذ المحبة في المخلوق معناها ميله إلى ما يناسبه أو يستلذُّه.
فأما الأشاعرة؛ فيُرجعونها إلى صفة الإرادة، فيقولون: إن محبة الله لعبده لا معنى لها إلا إرادته لإكرامه ومثوبته.
وكذلك يقولون في صفات الرضا والغضب والكراهية والسخط؛ كلها عندهم بمعنى إرادة الثواب والعقاب.
وأما المعتزلة؛ فلأنهم لا يثبتون إرادة قائمة به، فيفسرون المحبة بأنها نفس الثواب الواجب عندهم على الله لهؤلاء؛ بناء على مذهبهم في وجوب إثابة المطيع وعقاب العاصي.
وأما أهل الحق؛ فيثبتون المحبة صفة حقيقية لله عز وجل على ما يليق به، فلا تقتضي عندهم نقصًا ولا تشبيهًا.
كما يثبتون لازم تلك المحبة، وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته(1).
وليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبَّة عن مثل قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: ((إن الله إذا أحبَّ عبدًا؛ قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلانًا فأحبَّه. قال: فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء: إن ربكم عز وجل يحب فلانًا فأحبوه. قال: فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغضه فمثيل ذلك))(2)، رواه الشيخان؟!
__________
(1) الصواب أن يقال: ((كما يثبتون لازم تلك المحبة؛ وهي إكرام من يحبه وإثابته)) حتى لا تفسَّر الصفة بصفة أخرى، فالإرادة صفة والإكرام صفة فلا يقال إرادة الإكرام، بل لازم المحبة إكرام من يحبه.
(2) رواه البخاري في التوحيد، (باب: كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة) (13/461-فتح)، وفي الأدب، ومسلم في البر والصلة، (باب: إذا أحب الله عبدًا حبَّبه إلى عباده) (16/422-نووي)، والترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة مريم).(1/59)
وقوله تعالى في الآية الأولى: { وَأَحْسِنُواْ } أمرٌ بالإحسان العام في كل شيء؛ لا سيما في النفقة المأمور بها قبل ذلك، والإحسان فيها يكون بالبذل وعدم الإمساك، أو بالتوسط بين التقتير والتبذير، وهو القوام الذي أمر الله به في سورة الفرقان(1).
روى مسلم في ((صحيحه)) عن شداد بن أوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته))(2).
وأما قوله: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ??( فهو تعليل للأمر بالإحسان، فإنهم إذا علموا أن الإحسان موجبٌ لمحبَّته؛ سارعوا إلى امتثال الأمر به.
وأما قوله في الآية الثانية: { وَأَقْسِطُوا } ؛ فهو أمرٌ بالإقساط، وهو العدل في الحكم بين الطائفتين المتنازعتين من المؤمنين، وهو من قَسَطَ؛ إذا جار، فالهمزة فيه للسلب، ومن أسمائه تعالى: المُقْسِط.
وفي الآية الحث على العدل وفضله، وأنه سبب لمحبة الله عز وجل.
وأما قوله تعالى: { فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } ؛ فمعناه: إذا كان بينكم وبين أحدٍ عهدٌ كهؤلاء الذين عاهدتموهم عند المسجد الحرام؛ فاستقيموا لهم على عهدهم مدة استقامتهم لكم، فـ(ما) هنا مصدرية ظرفية.
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى في سورة الفرقان (67):
... { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } .
(2) رواه مسلم في الصيد، (باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل) (13/113- نووي)، والترمذي في الديات، (باب: النهي عن المثلة) (4/664 – تحفة)، وأبو داود في الأضاحي (باب: النهي أن تُصْبَر البهائم، والرفق بالذبيحة)، والنسائي في الضحايا، (باب: الأمر بإحداد الشفرة).(1/60)
ثم علَّل ذلك الأمر بقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } ؛ أي: يحبُّ الذين يتَّقون الله في كل شيء، ومنه عدم نقض العهود.
وأما قوله: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ... } إلخ؛ فهو إخبار من الله سبحانه وتعالى عن محبته لهذين الصنفين من عباده.
أما الأول: فهم التَّوَّابون؛ أي: الذين يكثرون التوبة والرجوع إلى الله عز وجل بالاستغفار مما أَلَمُّوا به على ما تقتضيه صيغة المبالغة، فهم بكثرة التوبة قد تطهَّروا من الأقذار والنجاسات المعنوية التي هي الذنوب والمعاصي.
وأما الثاني: فهم المتطهرون؛ الذين يبالغون في التطهر، وهو التنظيف بالوضوء أو بالغسل من الأحداث والنجاسات الحسية. وقيل: المراد بالمتطهرين هنا الذين يتنزهون من إتيان النساء في زمن الحيض أو في أدبارهن، والحمل على العموم أولى.
وأما قوله: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ؛ فقد رُوِيَ عن الحسن في سبب نزولها أن قومًا ادَّعوا أنهم يحبِّون الله، فأنزل الله هذه الآية محنة لهم(1).
وفي هذه الآية قد شرط الله لمحبَّته اتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينال تلك المحبة؛ إلا من أحسن الاتباع والاستمساك بهديه عليه السلام.
(وَقَوْلهُ : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } (2) ، وَقَوْلهُ : { بسم الله الرحمن الرحيم } ، { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } (3)
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم في ((التفسير)) رقم (379)، وابن جرير موقوفًا على الحسن، وقال ابن جرير:
... ((وأما ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه؛ فلا خبر به عندنا يصح)).
... ثمّ رجَّح أنها نزلت في وفد نصارى نجران.
... انظر ((تفسير الطبري))، تحقيق: شاكر، (6/322-324).
(2) البروج: (14).
(3) غافر: (7)(1/61)
، { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } (1) ، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (2)، { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } (3)، { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (4)، { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (5)).
/ش/ قوله: { وَهُوَ الْغَفُورُ … } إلخ؛ تضمنت الآية إثبات اسمين من الأسماء الحسنى، وهما: الغفور، والودود.
أما الأول: فهو مبالغة في الغفر، ومعناه الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، والتجاوز عن مؤاخذتهم.
وأصل الغفر: الستر، ومنه يقال: الصبغ أغفر للوسخ. ومنه: المغفر لسترة الرأس.
وأما الثاني: فهو من الودِّ الذي هو خالص الحب وألطفه، وهو إما من فعول بمعنى فاعل، فيكون معناه: الكثير الود لأهل طاعته، والمتقرب إليهم بنصره لهم ومعونته. وإما من فعول بمعنى مفعول، فيكون معناه: المودود لكثرة إحسانه، المستَحِقُّ لأن يَوَدَّه خلقه فيعبدوه ويحمدوه.
وأما قوله: { بسم الله الرحمن الرحيم } وما بعدها من الآيات؛ فقد تضمنت إثبات اسميه الرحمن والرحيم، وإثبات صفتي الرحمة والعلم.
وقد تقدم في تفسير { بسم الله الرحمن الرحيم } الكلام على هذين الاسمين، وبيان الفرق بينهما، وأن أولهما دالٌّ على صفة الذات والثاني دالٌّ على صفة الفعل.
وقد أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرحمة بدعوى أنها في المخلوق ضعفٌ وخَوَرٌ وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل، فإن الرحمة إنما تكون من الأقوياء للضعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العزة والقدرة، فالإنسان القوي يرحم ولده الصغير وأبويه الكبيرين ومَن هو أضعف منه، وأين الضعف والخور ـ وهما من أذم الصفات ـ من الرحمة التي وصف الله نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتصفين بها، وأمرهم أن يتواصَوْا بها؟!
__________
(1) الأحزاب: (43).
(2) الأعراف: (156).
(3) الأنعام: (54).
(4) الأحقاف: (8)، ويونس: (107).
(5) يوسف: (64).(1/62)
وقوله: { رَبَّنَا وَسِعْتَ … } إلخ؛ من كلام الله عز وجل حكاية عن حملة العرش والذين حوله، يتوسَّلون إلى الله عز وجل بربوبيّته وسعة علمه ورحمته في دعائهم للمؤمنين، وهو من أحسن التوسُّلات التي يُرْجَى معها الإجابة.
ونصب قوله: { رَّحْمَةً وَعِلْمًا } على التمييز المحوَّل عن الفاعل، والتقدير: وسعت رحمتُك وعلمُك كل شيء. فرحمته سبحانه وسعت في الدنيا المؤمن والكافر والبر والفاجر، ولكنها يوم القيامة تكون خاصة بالمتَّقين؛ كما قال تعالى:
{ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ...???( الآية(1).
وقوله تعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } (2)؛ أي: أوجبها على نفسه تفضُّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحدٌ.
وفي حديث أبي هريرة في ((الصحيحين)):
((إن الله لمّا خلق الخلق كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت ـ أو تسبق ـ غضبي))(3).
وأما قوله: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا } ؛ فالحافظ والحفيظ مأخوذ من الحفظ، وهو الصيانة، ومعناه: الذي يحفظ عباده بالحفظ العام، فييسر لهم أقواتهم، ويقيهم أسباب الهلاك والعطب، وكذلك يحفظ عليهم أعمالهم، ويحصي أقوالهم، ويحفظ أولياءه بالحفظ الخاص، فيعصمهم عن مواقعة الذنوب، ويحرسهم من مكايد الشيطان، وعن كل ما يضرُّهم في دينهم ودنياهم.
وانتصب { حَافِظًا } تمييزًا لـ { خَيْر } الذي هو أفعل تفضيل.
__________
(1) الأعراف: (156).
(2) الأنعام: (54).
(3) رواه بألفاظ مختلفة: البخاري في التوحيد، (باب: قول الله: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (13/384-فتح)، وأبواب أخرى منه، وفي بَدء الخلق، (باب: ما جاء في قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } (6/287-فتح)، ومسلم في التوبة، (باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه) (17/74-نووي)، والترمذي في الدعوات.(1/63)
( قوله : { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } (1) ، { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } (2)
، وَقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } (3)، { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } (4)،وَقوله: { وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } (5) ، وَقوله: { كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } (6)).
/ش/ قوله: { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ... } إلخ؛ تضمَّنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل من الرِّضى لله، والغَضَب، واللَّعنُ، وَالكُرهِ، والسَّخْط، والمَقْت، والأَسَف.
وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عز وجل، على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق.
فلا حجة للأشاعرة والمعتزلة على نفيها، ولكنهم ظنُّوا أن اتصاف الله عز وجل بها يلزمه أن تكون هذه الصفات فيه على نحو ما هي في المخلوق، وهذا الظنُّ الذي ظنوه في ربهم أرداهم فأوقعهم في حمأة النفي والتعطيل.
والأشاعرة يُرْجعون هذه الصفات كلها إلى الإرادة؛ كما علمت سابقًا، فالرضا عندهم إرادة الثواب، والغضب والسخط.. إلخ إرادة العقاب.
وأما المعتزلة؛ فيرجعونها إلى نفس الثواب والعقاب.
وقوله سبحانه: { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } إخبارٌ عمَّا يكون بينه وبين أوليائه من تبادل الرضا والمحبة.
أما رضاه عنهم؛ فهو أعظم وأجلُّ من كل ما أُعطوا من النعيم؛ كما قال سبحانه:
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } (7).
__________
(1) المائدة: (119)، والتوبة: (100)، والمجادلة: (22)، والبينة: (8).
(2) النساء: (93).
(3) محمد: (28).
(4) الزخرف: (55).
(5) التوبة: (46).
(6) الصف: (3).
(7) التوبة: (72).(1/64)
وأما رضاهم عنه؛ فهو رضا كل منهم بمنزلته مهما كان، وسروره بها؛ حتى يظن أنه لم يؤت أحدٌ خيرًا ممَّا أُوتي، وذلك في الجنة.
وأما قوله: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا } الآية؛ فقد احترز بقوله: { مُؤْمِنًا } عن قتل الكافر، وبقوله: { مُّتَعَمِّدًا } - أي: قاصدًا لذلك، بأن يقصد مَن يعلمه آدميًّا معصومًا، فيقتله بما يغلب على الظن موته به - عن القتل الخطإ.
وقوله: { خَالِدًا فِيهَا } ؛ أي: مقيمًا على جهة التأبيد، وقيل الخلود: المكث الطويل.
واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللعين والملعون: من حَقَّت عليه اللعنة، أو دُعِي عليه بها.
وقد استشكل العلماء هذه الآيات من حيث إنها تدلُّ على أن القاتل عمدًا لا توبة له، وأنه مخلَّد في النار، وهذا معارضٌ لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } (1).
وقد أجابوا عن ذلك بعدة أجوبة؛ منها:
أن هذا الجزاء لمن كان مستحلاًّ قتل المؤمن عمدًا.
أن هذا هو الجزاء الذي يستحقُّه لو جوزي ، مع إمكان أن لا يجازى، بأن يتوب أو يعمل صالحًا يرجح بعمله السيئ.
أن الآية واردة مورد التغليظ والزجر.
أن المراد بالخلود المكث الطويل كما قدمنا.
وقد ذهب ابن عباس وجماعة إلى أن القاتل عمدًا لا توبة له، حتى قال ابن عباس:
((إن هذه الآية من آخر ما نزل، ولم ينسخها شيءٌ))(2).
والصحيح أن على القاتل حقوقًا ثلاثة: حقًّا لله، وحقًّا للورثة، وحقًّا للقتيل..
فحق الله يسقط بالتوبة.
__________
(1) النساء: (48).
(2) رواه البخاري في تفسير سورة النساء ، (باب: قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا } (8/257-فتح)، وفي تفسير سورة الفرقان، ومسلم في التفسير (18/365-نووي)، وأبو داود، والنسائي.
... وانظر إن شئت كتاب (( تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة )) (1/259-264)، ففيه مبحث لطيف عن هذه المسألة.(1/65)
وحق الورثة يسقط بالاستيفاء في الدُّنيا أو العفو.
وأما حق القتيل؛ فلا يسقط حتى يجتمع بقاتله يوم القيامة، ويأتي رأسه في يده، ويقول: يا رب! سل هذا فيمَ قتلني؟
وأما قوله: { فَلَمَّا آسَفُونَا... } إلخ؛ فالأسف يستعمل بمعنى شدة الحزن، وبمعنى شدة الغضب والسخط، وهو المراد في الآية.
والانتقام: المجازاة بالعقوبة، مأخوذ من النقمة، وهي شدة الكراهة والسخط.
(وَقوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ } (1)
، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } (2)، { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } (3)، { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً } (4).
/ش/ قوله: { هَلْ يَنظُرُونَ... } في هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل له سبحانه، وهما صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بذلك على حقيقته، والابتعاد عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحادٌ وتعطيل.
ولعلَّ من المناسب أن ننقل إلى القارئ هنا ما كتبه حامل لواء التجهُّم والتعطيل في هذا العصر، وهو المدعو بزاهد الكوثري(5)؛ قال في حاشيته على كتاب ((الأسماء والصفات)) للبيهقي(6) ما نصه:
((قال الزمخشري(7) ما معناه: إن الله يأتي بعذابٍ في الغمام الذي يُنْتَظَرُ منه الرحمة، فيكون مجيء العذاب من حيث تُنتظر الرحمة أفظع وأهول.
__________
(1) البقرة: (210).
(2) الأنعام: (158).
(3) الفجر: (21، 22).
(4) الفرقان: (25).
(5) ستأتي ترجمته (ص173).
(6) ص563).
(7) هو أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري، مفسَّر، لغويٌّ، معتزليٌّ، صاحب ((الكشاف)) في التفسير، و((الفائق)) في غريب الحديث، توفي سنة (538هـ).(1/66)
وقال إمام الحرمين في معنى الباء كما سبق.
وقال الفخر الرازي: أن يأتيهم أمر الله)). اهـ
فأنت ترى من نقل هذا الرجل عن أسلافه في التعطيل مدى اضطرابهم في التخريج والتأويل.
على أن الآيات صريحة في بابها، لا تقبل شيئًا من تلك التأويلات..
فالآية الأولى تتوعَّد هؤلاء المصِرِّين على كفرهم وعنادهم واتباعهم للشيطان بأنهم ما ينتظرون إلا أن يأتيهم الله عزَّ وجلَّ في ظلَلٍ من الغمام لفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة، ولهذا قال بعد ذلك: { وَقُضِيَ الأَمْرُ }
والآية الثانية أشد صراحة؛ إذ لا يمكن تأويل الإتيان فيها بأنه إتيان الأمر أو العذاب؛ لأنه ردَّد فيها بين إتيان الملائكة وإتيان الرب، وإتيان بعض آيات الرب سبحانه.
وقوله في الآية التي بعدها : { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } لا يمكن حملها على مجيء العذاب؛ لأن المراد مجيئه سبحانه يوم القيامة لفصل القضاء، والملائكة صفوف؛ إجلالاً وتعظيمًا له، وعند مجيئه تنشق السماء بالغمام؛ كما أفادته الآية الأخيرة.
وهو سبحانه يجيء ويأتي وينزل ويدنو وهو فوق عرشه بائن من خلقه.
فهذه كلها أفعال له سبحانه على الحقيقة، ودعوى المجاز تعطيلٌ له عن فعله، واعتقادُ أن ذلك المجيء والإتيان من جنس مجيء المخلوقين وإتيانهم نزوعٌ إلى التشبيه يفضي إلى الإنكار والتعطيل.
(وَقوله: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } (1)، { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } (2)).
/ش/ قوله: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } إلخ، تضمَّنت هاتان الآيتان إثبات صفة الوجه لله عز وجل.
__________
(1) الرحمن: (27).
(2) القصص: (88).(1/67)
والنصوص في إثبات الوجه من الكتاب والسنة لا تُحصى كثرةً، وكلها تنفي تأويل المعطِّلة الذين يفسرون الوجه بالجهة أو الثواب أو الذات، والذي عليه أهل الحق أن الوجه صفةٌ غيرُ الذات، ولا يقتضي إثباته كونه تعالى مركبًا من أعضاء، كما يقوله المجسِّمة، بل هو صفة لله على ما يليق به، فلا يشبه وجهًا ولا يشبهه وجه.
واستدلَّت المعطِّلة بهاتين الآيتين على أن المراد بالوجه الذات ؛ إذ لا خصوص للوجه في البقاء وعدم الهلاك.
ونحن نعارض هذا الاستدلال بأنه لو لم يكن لله عز وجل وجهٌ على الحقيقة لما جاء استعمال هذا اللفظ في معنى الذات؛ فإن اللفظ الموضوع لمعنى لا يمكن أن يستعمل في معنى آخر إلا إذا كان المعنى الأصلي ثابتًا للموصوف، حتى يمكن للذهن أن ينتقل من الملزوم إلى لازمه.
على أنه يمكن دفع مجازهم بطريق آخر؛ فيقال: إنه أسند البقاء إلى الوجه، ويلزم منه بقاء الذات؛ بدلاً من أن يقال: أطلق الوجه وأراد الذات.
وقد ذكر البيهقي نقلاً عن الخطابي أنه تعالى لما أضاف الوجه إلى الذات، وأضاف النعت إلى الوجه، فقال: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام } ؛ دلَّ على أن ذكر الوجه [ليس بصلة] (1)، وأن قوله: { ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام } صفةٌ للوجه، والوجه صفةٌ للذَّات.
وكيف يمكن تأويل الوجه بالذات أو بغيرها في مثل قوله عليه السلام في حديث الطائف: ((أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ له الظُّلُمات…)) إلخ(2)، وقوله فيما رواه أبو موسى الأشعري: ((حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سُبُحَات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه))(3)
__________
(1) كذا في المطبوع، ولعله: [ليس بصفة].
(2) ضعيف). ذكره ابن إسحاق بدون سند في قصة الطائف، وضعّفه الألباني في ((فقه السيرة)) للغزالي (ص132).
(3) رواه مسلم في الإيمان، (باب في قوله عليه السلام: ((إنّ الله لا ينام))) (3/16- نووي).
وقيل: معنى: ((سُبُحات وجهه)): نوره وجلاله.
... انظر: ((جامع الأصول)) (5016).(1/68)
؟!
(وَقوله: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1)، { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } (2)).
/ش/ قوله: { مَا مَنَعَكَ } إلخ؛ تضمَّنَتْ هاتان الآيتان إثبات اليدين صفة حقيقية له سبحانه على ما يليق به، فهو في الآية الأولى يوبخ إبليس على امتناعه عن السجود لآدم الذي خلقه بيديه.
ولا يمكن حمل اليدين هنا على القدرة؛ فإن الأشياء جميعًا ـ حتى إبليس ـ خلقها الله بقدرته، فلا يبقى لآدم خصوصية يتميز بها.
وفي حديث عبد الله بن عمرو:
((إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده))(3).
فتخصيص هذه الثلاثة بالذكر مع مشاركتها لبقية المخلوقات في وقوعها بالقدرة دالٌّ على اختصاصها بأمر زائد.
وأيضًا؛ فلفظ اليدين بالتثنية لم يُعرف استعماله إلا في اليد الحقيقية، ولم يرد قط بمعنى القدرة أو النعمة؛ فإنه لا يسوغ أن يقال: خلقه الله بقدرتين أو بنعمتين. على أنه لا يجوز إطلاق اليدين بمعنى النعمة أو القدرة أو غيرهما إلا في حق من اتصف باليدين على الحقيقة، ولذلك لا يقال: للريح يد، ولا للماء يد.
__________
(1) سورة ص: 75.
(2) المائدة: (64).
(3) رواه الدارقطني في ((الصفات)) (ص45) بتحقيق الفقيهي. والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (ص403)؛ من حديث الحارث بن نوفل مرفوعًا.
... وصحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
... ((خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وآدم، وجنة عدن. ثم قال لسائر الخلق: كن. فكان)).
... قال الذهبي في ((العلو)):
... ((إسناده جيد)).
... وقال الألباني في ((مختصر العلو)) (ص105):
... ((سنده صحيح على شرط مسلم)).(1/69)
وأما احتجاج المعطِّلة بأن اليد قد أفردت في بعض الآيات، وجاءت بلفظ الجمع في بعضها؛ فلا دليل فيه؛ فإن ما يصنع بالاثنين قد يُنسب إلى الواحد؛ تقول: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، والمراد: عيناي، وأذناي. وكذلك الجمع يأتي بمعنى المثنى أحيانًا؛ كقوله تعالى: { إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (1)، والمراد: قلباكما.
وكيف يتأتَّى حملُ اليد على القدرة أو النعمة؛ مع ما ورد من إثبات الكفّ والأصابع واليمين والشمال والقبض والبسط وغير ذلك مما لا يكون إلا لليد الحقيقيَّة؟!
وفي الآية الثانية يحكي الله سبحانه مقالة اليهود قبَّحهم الله في ربهم، ووصفهم إياه ـ حاشاه ـ بأن يده مغلولة؛ أي: ممسكة عن الإنفاق.
ثم أثبت لنفسه سبحانه عكس ما قالوا، وهو أن يديه مبسوطتان بالعطاء؛ ينفق كيف يشاء؛ كما جاء في الحديث:
((إن يمين الله ملأى سحَّاء الليلَ والنهارَ؛ لا تَغيضُها نَفَقةٌ))(2).
ترى لو لم يكن لله يدان على الحقيقة؛ هل كان يحسن هذا التعبير ببسط اليدين؟!
ألا شاهَتْ وُجوهُ المتأوِّلين!!
( وَقَوله: { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (3) ،
__________
(1) التحريم: (4).
(2) رواه البخاري في التوحيد، (باب: قول الله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (13/393فتح)، و(باب: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء } ) (13/403-فتح)، وفي التفسير، ومسلم في الزكاة، (باب: الحثّ على النفقة) (7/84-نووي)، ولفظه:
... ((يمين الله ملأى لا يغيضها؛ سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه)). ...
(3) ال النووي:
... ((السحُّ: الصبُّ، الدائم)).
( ) الطور: (48).(1/70)
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ } (1)، { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } (2)).
/ش/ قوله: { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } … إلخ؛ في هذه الآيات الثلاث يثبت الله سبحانه لنفسه عينًا يرى بها جميع المرئيات، وهي صفة حقيقية لله عز وجل على ما يليق به، فلا يقتضي إثباتها كونها جارحة مركَّبة من شحم وعصب وغيرهما.
وتفسير المعطِّلة لها بالرؤية أو بالحفظ والرعاية نفيٌ وتعطيلٌ.
وأما إفرادها في بعض النصوص وجمعها في البعض الآخر؛ فلا حجة لهم فيه على نفيها؛ فإن لغة العرب تتسع لذلك، فقد يعبَّر فيها عن الاثنين بلفظ الجمع، ويقوم فيها الواحد مقام الاثنين كما قدَّمنا في اليدين.
على أنه لا يمكن استعمال لفظ العين في شيء من هذه المعاني التي ذكروها إلا بالنسبة لمن له عين حقيقية.
فهل يريد هؤلاء المعطَّلة أن يقولوا: إن الله يتمدَّح بما ليس فيه، فيثبت لنفسه عينًا وهو عاطلٌ عنها؟! وهل يريدون أن يقولوا: إن رؤيته للأشياء لا تقع بصفة خاصة بها؛ بل هو يراها بذاته كلها ـ كما تقول المعتزلة: إنه قادر بذاته، مريد بذاته… إلخ؟!
وفي الآية الأولى يأمر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر لحكمه، والاحتمال لما يلقاه من أذى قومه، ويعلِّل ذلك الأمر بأنه بمرأى منه، وفي كلاءته وحفظه.
وفي الآية الثانية يخبر الله عز وجل عن نبيِّه نوحٍ عليه السلام أنه لما كذَّبه قومه، وحقَّت عليهم كلمة العذاب، وأخذهم الله بالطوفان؛ حمله هو ومَن معه من المؤمنين على سفينة ذات ألواحٍ عظيمة من الخشب ودُسُرٍ؛ أي: مسامير، جمع دِسَار، تُشَدُّ بها الألواح، وأنها كانت تجري بعين الله وحراسته.
__________
(1) القمر: (13، 14).
(2) طه: (39).(1/71)
وفي الآية الثالثة خطابٌ من الله لنبيِّه موسى عليه السلام بأنه ألقى عليه محبَّةً منه؛ يعني: أحبه هو سبحانه وحبَّبه إلى خلقه، وأنه صنعه على عينه، وربَّاه تربية استعد بها للقيام بما حمله من رسالة إلى فرعون وقومه.
(وَقَوْلُهُ: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (1)
، وَقَوْلُهُ: { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء??( (2)، وَقَوْلُهُ: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } (3)، { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } (4)، { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } (5)، { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (6)، { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } (7).
/ش/ قوله:???( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ... } إلخ؛ هذه الآيات ساقها المؤلف لإثبات صفات السمع والبصر والرؤية.
أما السمع؛ فقد عبَّرت عنه الآيات بكل صيغ الاشتقاق، وهي: سَمِعَ، ويَسْمَعُ، وسميعٌ، ونَسْمَعُ، وَأسمَعُ، فهو صفة حقيقية لله، يدرك بها الأصوات؛ كما قدمنا.
وأما البصر؛ فهو الصفة التي يدرك بها الأشخاص والألوان، والرؤية لازمة له، وقد جاء في حديث أبي موسى:
__________
(1) المجادلة: (1).
(2) آل عمران: (181).
(3) الزخرف: (80).
(4) طه: (46).
(5) العلق: (14).
(6) الشعراء: (218، و219، و220).
(7) التوبة: (105).(1/72)
(( يا أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم ؛ إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، ولكن تدعون سميعًا بصيرًا، إنَّ الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ))(1).
وكلٌّ من السمع والبصر صفة كمال، وقد عاب الله على المشركين عبادتهم ما لا يسمع ولا يبصر.
وقد نزلت الأولى في شأن خولة بنت ثعلبة حين ظاهر منها زوجها، فجاءت تشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحاوِرُهُ، وهو يقول لها: ((ما أراك إلا قد حرمت عليه))(2).
أخرج البخاري في ((صحيحه)) عن عروة عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: ((الحمد لله الذي وسعَ سمعُهُ الأصواتَ؛ لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في ناحيةٍ من البيتِ ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا... } الآيات))(3).
__________
(1) رواه بألفاظ متقاربة : البخاري في الدعوات ،( باب : الدعاء إذا علا عقبة ) (11/18-فتح)، و(باب قول:((لا حول ولا قوة إلا بالله)))، وفي التوحيد، (باب: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } ، وفي القدر، والجهاد، والمغازي، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة، (باب: استحباب خفض الصوت بالذكر) (17/29-نووي)، كما رواه أيضًا أبو داود، والترمذي.
(2) انظر الذي بعده.
(3) رواه البخاري في التوحيد. (باب: قول الله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } تعليقًا (13/372-فتح)، ووصله النسائي في النكاح، (باب: الظهار) (6/168)، ووصله من طريقه الحافظ في ((التعليق)) (5/339) وصحَّحه، وأحمد في ((المسند)) (6/46)، وابن ماجه، والحاكم في ((المستدرك))، وفيه:
... ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخولة: ما أراك إلا قد حرمت عليه)). ... ... ... ... =
= ... انظر: ((جامع الأصول)) (835)، وانظر: ((صحيح النسائي)) (3237)، و((صحيح ابن ماجه)) (155).(1/73)
وأما الآية الثانية؛ فقد نزلت في فنحاص اليهودي الخبيث، حين قال لأبي بكر رضي الله عنه لما دعاه إلى الإسلام: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيًّا ما استَقْرَضَنا(1)!
وأما الآية الثالثة؛ فـ(أم) بمعنى (بل)، والهمزة للاستفهام، فهي (أم) المنقطعة، والاستفهام انكاريٌّ يتضمَّن معنى التوبيخ، والمعنى: بل أيظنُّ هؤلاء في تخفِّيهِم واستتارهم أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؛ بلى نسمع ذلك، وحفظتنا لديهم يكتبون ما يقولون وما يفعلون.
وأما الآية الرابعة؛ فهي خطابٌ من الله عز وجل لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام حين شكوا إلى الله خوفهما من بطش فرعون بهما، فقال لهما: { لا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(??
وأما الآية الخامسة؛ فقد نزلت في شأن أبي جهل لعنه الله حين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند البيت، فنزل قوله تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } إلخ السورة(2).
__________
(1) إسناده ضعيف). رواه ابن جرير بسنده في ((التفسير)) (رقم 8300، 8301-شاكر)، وفيه محمد بن أبي محمد الأنصاري مولى زيد بن ثابت، ذكره البخاري في ((التاريخ الكبير)) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في ((الثقات))، وقال عنه الذهبي في ((الميزان)) (لا يعرف)، وقال الحافظ: مجهول.
(2) رواه مسلم في صفات المنافقين، (باب: قوله تعالى: { إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } (17/145-نووي)، وأحمد في ((المسند)) (2/370). ... ... =
... وانظر ((الصحيح المسند من أسباب النزول)) (ص174).(1/74)
(وَقَوْلُهُ: { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } (1)،وَقَوْلُهُ: { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (2)
، وَقَوْلُهُ: { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(?? (3)، وَقَوْلُهُ: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا } (4)).
/ش/ وقوله: { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَال...???( إلخ؛ تضمَّنت هذه الآيات إثبات صفتي المكر والكيد، وهما من صفات الفعل الاختيارية.
ولكن لا ينبغي أن يشتقَّ له من هاتين الصفتين اسم، فيقال: ماكر، وكائد؛ بل يوقف عند ما ورد به النص من أنه خير الماكرين، وأنه يكيد لأعدائه الكافرين.
أما قوله سبحانه: { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَال } ِ؛فمعناه: شديد الأخذ بالعقوبة؛ كما في قوله تعالى: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } (5)، { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (6).
وقال ابن عباس:
((معناه: شديد الحَوْل)).
وقال مجاهد:
((شديد القوَّة)).
والأقوال متقاربة.
وأما قوله: { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ؛ فمعناه: أنفذهم وأسرعهم مكرًا.
وقد فسَّر بعض السلف مكر الله بعباده بأنه استدراجهم بالنِّعم من حيث لا يعلمون، فكلما أحدثوا ذنبًا أحدث لهم نعمة؛ وفي الحديث:
((إذا رأيتَ الله يُعطي العبد من الدنيا ما يحبُّ وهو مقيمٌ على معصيته؛ فاعلم أنما ذلك منه استدراج))(7)
__________
(1) الرعد: (13).
(2) آل عمران: (54).
(3) النمل: (50)، والآيتان قبلها: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُون } .
(4) الطارق: (15).
(5) البروج: (12).
(6) هود: (102).
(7) صحيح). رواه أحمد في ((المسند)) (4/145)، وتتمته:
... ((ثم تلا: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } )). الأنعام: (44).
... حسَّن إسناده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/132)، وصحَّحه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (413).(1/75)
.
وقد نزلت هذه الآية في شأن عيسى عليه السلام حين أراد اليهود قتله، فدخل بيتًا فيه كوَّةٌ، وقد أيَّده الله بجبريل عليه السلام، فرفعه إلى السماء من الكوّة، فدخل عليه يهوذا؛ ليدلَّهم عليه فيقتلوه، فألقى الله شبهَ عيسى على ذلك الخائن، فلما دخل البيت فلم يجد فيه عيسى؛ خرج إليهم وهو يقول: ما في البيت أحدٌ. فقتلوه وهم يرون أنه عيسى، فذلك قوله تعالى: { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ } (1).
وأما قوله تعالى:???(وَمَكَرُوا مَكْرًا... } إلخ؛ فهي في شأن الرهط التسعة من قوم صالح عليه السلام حين { تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي: لَيَقْتُلُنَّه بياتًا هو وأهله، { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } ، فكانَ عاقبةُ هذا المكر منهم أن مكر الله بهم فدمَّرهم وقومهم أجمعين(2).
(وَقَوْلُهُ: { إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } (3)، { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (4)).
/ش/ قوله: { إِن تُبْدُواْ خَيْرًا... } إلخ؛ هذه الآيات تضمَّنت إثبات صفات العفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة والتبارك والجلال والإكرام.
فالعَفُوُّ الذي هو اسمه تعالى؛ معناه: المتجاوز عن عقوبة عباده إذا هم تابوا إليه وأنابوا؛ كما قال تعالى:
{ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَات } (5).
__________
(1) ذكر هذا المعنى ابن كثير في ((التفسير)) (2/37) دون أن يعزوه لأحد، وذكره ابن جرير بسنده إلى السُّدي (6/454-شاكر)، وعزاه ابن الجوزي في ((زاد المسير)) (1/395) لابن عبَّاس.
(2) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/207).
(3) النساء: (149).
(4) النور: (22).
(5) الشورى: (25).(1/76)
ولما كان أكمل العفو هو ما كان عن قدرة تامَّة على الانتقام والمؤاخذة؛ جاء هذان الاسمان الكريمان: العَفُوُّ والقدير مقترنين في هذه الآية وفي غيرها.
وأما القدرة؛ فهي الصفة التي تتعلَّق بالممكنات إيجادًا وإعدامًا، فكلُّ ما كان ووقع من الكائنات واقع بمشيئته وقدرته؛ كما في الحديث:
((ما شاء الله كانَ وما لم يشأ لم يكن))(1).
وأما قوله تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا... } الآية؛ فقد نزلت في شأن أبي بكر رضي الله عنه حين حلف لا ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان ممَّن خاضوا في الإفك، وكانت أم مسطح بنت خالة أبي بكر، فلما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: ((والله إني لأحب أن يغفر الله لي))، ووصل مسطحًا (2).
(وَقَوْلُهُ: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } (3)، وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْلِيسَ: { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } (4)).
__________
(1) سبق تخريجه (ص132).
(2) جزء من حديث حادثة الإفك، وقد رواه البخاري في الشهادات, (باب: تعديل النساء بعضهن بعضًا) (5/269-فتح)، وفي الجهاد (باب: حمل الرجل امرأته في الغزو)، وفي المغازي، والتفسير، والأيمان والنذور، والاعتصام، والتوحيد. ومسلم في التوبة (باب: حديث الإفك) (17/108-نووي)، ورواه الترمذي، والنسائي.
(3) المنافقون: (8).
(4) ص: (82).(1/77)
/ش/ وأما قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ؛ فقد [نزلت في شأن عبد الله بن أُبيِّ ابن سلول رئيس المنافقين، وكان في بعض الغزوات قد أقسم ليخرجنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه من المدينة، فنزل قول تعالى: { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ } ؛ يقصد بالأعز ـ قبَّحه الله ـ نفسه وأصحابه ، ويقصد بالأذل رسول الله ومن معه من المؤمنين، فردّ الله عزّ وجلّ عليه بقوله: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } ](1).
والعزَّة صفةٌ أثبتها لله عز وجل لنفسه؛ قال تعالى:
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (2).
وقال: { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } (3).
وأقسم بها سبحانه؛ كما في حديث الشفاعة:
((وعزَّتي وكِبْريائي وعظمتي؛ لأخرجنَّ منها مَن قال: لا إله إلا الله))(4).
وأخبر عن إبليس أنه قال: { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } (5).
وفي ((صحيح البخاري)) وغيره عن أبي هريرة:
((بينما أيُّوب عليه السلام يغتسل عريانًا خرَّ عليه جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربُّه: يا أيُّوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى؛ وعزَّتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك))(6)
__________
(1) أورد سبب النزول البخاري في تفسير سورة المنافقون (8/644-فتح)، ومسلم في صفات المنافقين (17/125-نووي)، والترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة المنافقون).
(2) إبراهيم: (4).
(3) الأحزاب: (25).
(4) رواه مسلم في الإيمان، (باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها) (3/65-نووي) بلفظ مقارب، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (828).
(5) ص: (82-83).
(6) رواه البخاري في الغسل، (باب: من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة) (1/387-فتح)، وفي الأنبياء، وفي التوحيد.
... والنسائي في الغسل، (باب: الاستتار عند الاغتسال).
... ورواه الإمام أحمد في ((المسند)).(1/78)
.
وقد جاء في حديث الدعاء الذي علَّمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمن كان به وجع: ((أعوذ بعزَّة الله وقدرته من شرِّ ما أجد وأُحاذر))(1).
والعزة تأتي بمعنى الغلبة والقهر؛ من عزَّ يعُزُّ ـ بضم العين في المضارع ـ يقال: عزَّه؛ إذا غلبه.
وتأتي بمعنى القوة والصلابة؛ من عزَّ يعَزُّ ـ بفتحها ـ، ومنه أرض عزاز؛ للصلبة الشديدة.
وتأتي بمعنى علوِّ القدر والامتناع عن الأعداء ؛من:عزَّ يَعِزُّ - بكسرها - .
وهذه المعاني كلها ثابتة لله عز وجل.
(وَقَوْلُهُ: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } (2)).
/ش/ وأما قوله تعالى: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ...???( فإنه من البركة بمعنى دوام الخير وكثرته.
وقوله: { ذِي الْجَلالِ } ؛ أي: صاحب الجلال والعظمة سبحانه، الذي لا شيء أجلَّ ولا أعظم منه.
و { وَالإِكْرَامِ } : الذي يكرم(3) عما لا يليق به، وقيل: الذي يكرم عباده الصالحين بأنواع الكرامة في الدنيا والآخرة. والله أعلم.
(وَقَوْلُهُ: { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } (4)، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (5)، وَقَوْلُهُ: { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } (6)
__________
(1) رواه مسلم في السلام، (باب: استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء)(14/439-نووي)، وأبو داود في الطب، والترمذي فيه أيضًا، و((الموطأ)) في العين. وهي عند مسلم بدون ذكر العزة، وغيره ذكرها.
(2) الرحمن: (78).
(3) أي: يتنزَّه؛ قال ابن منظور في ((لسان العرب)):
... ((تكرَّم عن الشيء وتكارم: تنزَّه)).
(4) مريم: (65).
(5) الإخلاص: (4).
(6) البقرة: (22).(1/79)
، { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } ِ (1)، وَقَوْلُهُ: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } (2)، { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (3)، وَقَوْلُهُ: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } (4)، وَقَوْلُهُ: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ *عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (5)، { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (6)، { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (7)).
__________
(1) البقرة: (165).
(2) الإسراء: (111).
(3) التغابن: (1).
(4) الفرقان: (1، 2).
(5) المؤمنون: (91، 92).
(6) النحل: (74).
(7) الأعراف: (33).(1/80)
/ش/ قوله: { فَاعْبُدْهُ... } إلخ؛ تضمَّنت هذه الآيات الكريمة جملة من صفات السلوب، وهي نفي السمي والكفء والنِّد والولد والشريك والولي من ذلٍّ وحاجة؛ كما تضمَّنت بعض صفات الإثبات؛ من: الملك، والحمد، والقدرة والكبرياء، والتبارك.
أما قوله: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ؛ فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((قال أهل اللغة: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ؛ أي: نظيرًا استحقَّ مثل اسمه، ويقال: مساميًا يساميه. وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: ?? - هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ؛ مثلاً أو شبيهًا))(1).
والاستفهام في الآية إنكاري، معناه النفي؛ أي: لا تعلم له سميًّا.
وأما قوله: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ؛ فالمراد بالكفء: المكافئ المساوي.
فهذه الآية تنفي عنه سبحانه النظير والشبيه من كل وجه؛ لأن { أحد } وقع نكرة في سياق النفي، فيعم، وقد تقدم الكلام على تفسير سورة الإخلاص كلها، فليرجع إليها.
وأما قوله: { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً... } إلخ. فالأنداد جمع نِدٍّ، ومعناه ـ كما قيل ـ: النظير المناوئ. ويقال: ليس لله ندٌّ ولا ضدٌّ، والمراد نفي ما يكافئه ويناوئه، ونفي ما يضاده وينافيه.
وجملة: { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } وقعت حالاً من الواو في { تَجْعَلُواْ } ، والمعنى: إذا كنتم تعلمون أن الله هو وحده الذي خلقكم ورزقكم، وأن هذه الآلهة التي جعلتموها له نظراء وأمثالاً وساويتموها به في استحقاق العبادة لا تخلق شيئًا، بل هي مخلوقة، ولا تملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؛ فاتركوا عبادتها، وأفرِدوه سبحانه بالعبادة والتعظيم.
__________
(1) انظر: ((الفتاوى)) (3/4).
... وأثر ابن عباس أورده ابن جرير في تفسير الآية بسنده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقد تقدَّم الكلام (ص114) عن رواية علي عن ابن عباس رضي الله عنه.
... وانظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (5/245).(1/81)
وأما قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ... } إلخ؛ فهو إخبارٌ من الله عن المشركين بأنهم يحبُّون آلهتهم كحبهم لله عز وجل؛ يعني: يجعلونها مساوية له في الحب. { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } من حب المشركين لآلهتهم؛ لأنهم أخلصوا له الحب، وأفردوه به، أما حب المشركين لآلهتهم؛ فهو موزَّعٌ بينها، ولا شك أن الحبَّ إذا كان لجهة واحدة كان أمكن وأقوى.
وقيل: المعنى: أنهم يحبُّون آلهتهم كحب المؤمنين لله، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله من الكفار لأندادهم.
وأما قوله تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا... } الآية؛ فقد تقدم الكلام في معنى الحمد(1)، وأنه الثناء باللسان على النعمة وغيرها، وقلنا: إن إثبات الحمد له سبحانه متضمِّنٌ لإثبات جميع الكمالات التي لا يستحقُّ الحمد المطلق إلا من بلغ غايتها.
ثم نفى سبحانه عن نفسه ما ينافي كمال الحمد من الولد والشريك والولي من الذلِّ ـ أي: من فقر وحاجة ـ، فهو سبحانه لا يوالي أحدًا من خلقه من أجل ذلة وحاجة إليه.
ثم أمر عبده ورسوله أن يكبره تكبيرًا؛ أي: يعظمه تعظيمًا ويُنَزِّهَهُ عن كل صفة نقص وصفه بها أعداؤه من المشركين.
وأما قوله: { يُسَبِّحُ لِلَّه...ِ } إلخ؛ فالتسبيح هو التنزيه والإبعاد عن السوء؛ كما تقدم.
ولا شكّ أن جميع الأشياء في السموات وفي الأرض تسبِّح بحمد ربها، وتشهد له بكمال العلم والقدرة والعزَّة والحكمة والتدبير والرحمة؛ قال تعالى:
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم } (2).
وقد اختُلف في تسبيح الجمادات التي لا تنطق؛ هل هو بلسان الحال أو بلسان المقال؟ وعندي أن الثاني أرجح؛ بدليل قوله تعالى: { وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم } ؛ إذ لو كان المراد تسبيحها بلسان الحال؛ لكان ذلك معلومًا، فلا يصحُّ الاستدراك.
__________
(1) صفحة: (81).
(2) الإسراء: (44).(1/82)
وقد قالَ تعالى خبرًا عن داودَ عليه السلامُ:
{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } (1).
وأما قوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي... } إلخ؛ فقد قلنا: إن معنى { تَبَارَكَ } من البركة؛ وهي دوام الخير وكثرته، ولكن لا يلزم من تلك الزيادة سبق النقص، فإن المراد تجدُّد الكمالات الاختيارية التابعة لمشيئته وقدرته، فإنها تتجدَّد في ذاته على وفق حكمته، فالخلوُّ عنها قبل اقتضاء الحكمة لها لا يعتبرُ نقصًا(2) .
وقد فسّر بعضهم التبارك بالثبات وعدم التغيُّر، ومنه سمِّيت البِرْكَة؛ لثبوت مائها. وهو بعيد.
والمراد بـ { الْفُرْقَانَ } القرآن، سمي بذلك لقوَّة تفرقته بين الحق والباطل والهدى والضلال.
والتعبير بـ { نَزَّلَ } بالتشديد؛ لإفادة التدرُّج في النزول، وأنه لم ينزل جملة واحدة.
والمراد بـ { عَبْدِه } ِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتعبير عنه بلقب العبودية للتشريف ـ كما سبق ـ.
و { اِلْعَالَمِينَ } ؛ جمع عالَم، وهو جمع لما يعقل، واختُلِف في المراد به، فقيل: الإنس. وقيل: الإنس والجن. وهو الصحيح؛ فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلٌ إلى الجن أيضًا، وأنه يجتمع بهم، ويقرأ عليهم القرآن، وأن منهم نفرًا أسلم حين سمع القرآن وذهب ينذر قومه به؛ كما قال تعالى:
{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } (3).
__________
(1) ص: (18، 19).
(2) قال الشيخ صالح الفوزان في شرحه لـ((الواسطية)) (ص72): ... ... ... ((تبارك: فعل ماضٍ مأخوذ من البركة، وهي النماء والزيادة المستقرة الثابتة الدائمة، وهذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي)). اهـ
(3) الأحقاف: (29).(1/83)
والنّذير والمنذر هو من يُعْلِم بالشيء مع التخويف، وضده البشير أو المبشِّر، وهوَ من يخبرك بما يسرُّك.
وقوله: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَد... } إلخ؛ تضمَّنت هذه الآية الكريمة أيضًا جملة من صفات التنزيه التي يُراد بها نفي ما لا يليق بالله عز وجل عنه، فقد نزَّه سبحانه نفسه فيها عن اتِّخاذ الولد وعن وجود إله خالقٍ معه، وعمَّا وصفه به المفترون الكذَّابون؛ كما نهى عن ضرب الأمثال له، والإشراك به بلا حجة ولا برهان، والقول عليه سبحانه بلا علم ولا دليل.
فهذه الآية تضمَّنت إثبات توحيد الإلهية، وإثبات توحيد الرُّبوبية، فإن الله بعدما أخبر عن نفسه بعدم وجود إله معه أوضح ذلك بالبرهان القاطع والحجة الباهرة، فقال: { إِذًا } ؛ أي: إذ لو كان معه آلهةٌ كما يقول هؤلاء المشركون؛ { لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض } ٍ.
وتوضيح هذا الدليل أن يقال: إذا تعدَّدت الآلهة؛ فلا بدَّ أن يكون لكل منهم خلق وفعل، ولا سبيل إلى التعاون فيما بينهم؛ فإن الاختلاف بينهم ضروريٌّ، كما أن التعاون بينهم في الخلق يقتضي عجز كل منهم عند الانفراد، والعاجز لا يصلح إلهًا، فلا بد أن يستقلَّ كلٌّ منهم بخلقه وفعله، وحينئذٍ؛ فإما أن يكونوا متكافئين في القدرة، لا يستطيع كل منهم أن يقهر الآخرين ويغلبهم، فيذهب كل منهم بما خلق، ويختص بملكه؛ كما يفعل ملوك الدنيا من انفراد كل بمملكته إذا لم يجد سبيلاً لقهر الآخرين، وإما أن يكون أحدهم أقوى من الآخرين، فيغلبهم، ويقهرهم، وينفرد دونهم بالخلق والتدبير، فلا بد إذًا مع تعدُّد الآلهة من أحد هذين الأمرين: إما ذهاب كل بما خلق، أو علو بعضهم على بعض.
وذهاب كلٍّ بما خلق غير واقع؛ لأنه يقتضي التنافر والانفصال بين أجزاء العالم، مع أن المشاهدة تثبت أن العالم كله كجسم واحد مترابط الأجزاء، متَّسق الأنحاء، فلا يمكن أن يكون إلا أثرًا لإله واحد.(1/84)
وعلو بعضهم على بعض يقتضي أن يكون الإله هو العالي وحده.
وأما قوله تعالى: { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ } ؛ فهو نهيٌ لهم أن يشبِّهوه بشيء من خلقه؛ فإنه سبحانه له المثل الأعلى الذي لا يشركه فيه مخلوق.
وقد قدَّمنا أنه لا يجوز أن يستعمل في حقه من الأقيسة ما يقتضي المماثلة أو المساواة بينه وبين غيره؛ كقياس التمثيل وقياس الشمول.
وإنما يستعمل في ذلك قياس الأولى الذي مضمونه أن كل كمالٍ وجوديٍّ غيرِ مستلزمٍ للعدم ولا للنقص بوجهٍ من الوجوه اتَّصف به المخلوق فالخالق أولى أن يتَّصف به؛ لأنه هو الذي وهب المخلوق ذلك الكمال، ولأنه لو لم يتَّصف بذلك الكمال ـ مع إمكان أن يُتَّصف به ـ لكان في الممكنات من هو أكمل منه، وهو محالٌ، وكذلك كل نقصٍ يتنزَّه عنه المخلوق، فالخالق أولى بالتنزُّه عنه.
وأما قوله: { قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ... } إلخ؛ فـ { إِنَّمَا } أداة حصرٍ تفيد اختصاص الأشياء المذكورة بالحرمة، فيفهم أن مَن عداها من الطَّيِّبات فهو مباحٌ لا حرج فيه؛ كما أفادته الآية التي قبلها.
و { الْفَوَاحِشَ } جمع فاحشة؛ وهي الفعلة المتناهية في القبح، وخصَّها بعضهم بما تضمَّن شهوة ولذة من المعاصي؛ كالزنا، واللواط، ونحوهما من الفواحش الظاهرة، وكالكبر والعجب وحب الرياسة من الفواحش الباطنة.
وأما { وَالإِثْمَ } ؛ فمنهم مَن فسره بمطلق المعصية، فيكون المراد منه ما دون الفاحشة، ومنهم مَن خصَّه بالخمر؛ فإنها جِماع الإثم.
وأما { وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ؛ فهو التسلُّط والاعتداء على الناس من غير أن يكون ذلك على جهة القصاص والمماثلة.(1/85)
وقوله: { وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } ، وحرَّم أن تعبدوا مع الله غيره، وتتقرَّبوا إليه بأي نوع من أنواع العبادات والقربات؛ كالدعاء، والنذر،والذبح، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك مما يجب أن يُخْلِص فيه العبدُ قلبَه ويُسْلِمَ وجهَه لله، وحرَّم أن تتَّخذوا من دونه سبحانه أولياء يشرِّعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله في عباداتهم ومعاملاتهم؛ كما فعل أهل الكتاب مع الأحبار والرهبان؛ حيث اتَّخذوهم أربابًا من دون الله في التشريع، فأحلُّوا ما حرَّم الله، وحرَّمُوا ما أحلَّ الله، فاتَّبعوهم في ذلك.
وقوله: { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } قيدٌ لبيان الواقع؛ فإن كل ما عُبِدَ أو اتّبع أو أُطيع من دون الله قد فعل به ذلك من غير سلطان.
وأما القول على الله بلا علم؛ فهو بابٌ واسعٌ جدًّا يدخل فيه كل خبر عن الله بلا دليل ولا حجة؛ كنفي ما أثبته، أو إثبات ما نفاه، أو الإلحاد في آياته بالتحريف والتأويل.
قال العلاّمة ابن القيم في كتابه ((إعلام الموقعين))(1): ((وقد حرَّم الله القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرَّمات؛ بل جعله في المرتبة العليا منها؛ قال تعالى: { قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ... } الآية، فرتَّب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، وهو الفواحش، وثنّى بما هو أشد تحريمًا منه، وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريمًا منهما، وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أعظم تحريمًا من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه)).
__________
(1) 1/38). ...(1/86)
(وَقَوْلُهُ: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } فِي [سَبْعَةِ](1) مَوَاضِعَ: [فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ؛ قَوْلُهُ: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2).
وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ـ : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (3).
وَقَالَ فَي سُورَةِِ الرَّعْدِِ: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (4).
وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } (5).
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَان ِ: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } (6).
وَقَالَ فِي سُورَةِ آلم السَّجْدَةِ: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش } (7)، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (8)](9)).
__________
(1) هكذا في المطبوع مع الشرح، والذي في المخطوط و((الفتاوى)): [وقوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } : في ستَّة مواضعَ… إلخ]، وهذا أصحّ؛ لأن الآية الثانية لم ترد في القرآن إلا في ستة مواضع.
(2) الأعراف: (54).
(3) يونس: (3).
(4) الرعد: (2).
(5) طه: (5).
(6) الفرقان: (59).
(7) السجدة: (4).
(8) الحديد: (4).
(9) هذه الآيات السبع سقطت كلها من المخطوط.(1/87)
/ش/ وقوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى... } إلخ؛ هذه هي المواضع السبعة التي أخبر فيها سبحانه باستوائه على العرش، وكلها قطعية الثبوت؛ لأنها من كتاب الله، فلا يملك الجهميُّ المعطِّل لها ردًّا ولا إنكارًا، كما أنها صريحة في بابها، لا تحتمل تأويلاً، فإن لفظ: { اسْتَوَى } في اللغة إذا عُدِّي بـ(على) لا يمكن أن يُفْهَمَ منه إلا العلو والارتفاع، ولهذا لم تخرج تفسيرات السلف لهذا اللفظ عن أربع عبارات؛ ذكرها العلاَّمة ابن القيم في ((النُّونية))(1)؛ حيث قال:
فَلَهُمْ عِبَارَاتٌ عَلَيْهَا أَرْبَعٌ
قَدْ حُصِّلَتْ لِلْفَارِسِ الطَّعَّانِ
وَهِيَ اسْتَقَرَّ وَقَدْ عَلاَ وَكَذلِكَ ارْ
تَفَعَ الَّذِي مَا فِيهِ مِن نُّكْرَانِ
وَكَذَاكَ قَدْ صَعِدَ الَّذِي هُوَ رَابِعٌ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ صَاحِبُ الشِّيبَانِي
يَخْتَارُ هَذَا القَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ
أَدْرَى مِنَ الْجَهْمِيِّ بِالْقُرآنِ
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر به سبحانه عن نفسه من أنه مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه بالكيفية التي يعلمها هو جلَّ شأنه؛ كما قال مالك وغيره:
((الاستواء معلومٌ، والكيفُ مجهولُ))(2).
وأما ما يشغِّب به أهل التعطيل من إيراد اللوازم الفاسدة على تقرير الاستواء؛ فهي لا تلزمنا؛ لأننا لا نقول بأن فوقيَّتَهُ على العرش كفوقِيَّة المخلوق على المخلوق.
__________
(1) انظر: ((شرح الهراس)) (1/215)، و((شرح أحمد بن عيسى)) (1/440).
(2) انظر: (ص100).(1/88)
وأما ما يحاولون به صرف هذه الآيات الصريحة عن ظواهرها بالتأويلات الفاسدة التي تدُلُّ على حيرتهم واضطرابهم؛ كتفسيرهم : ??(اسْتَوَى } بـ( استولى ) ، أو حملهم { عَلَى } على معنى ( إلى ) ، و { اسْتَوَى } ؛ بمعنى: (قصد)… إلى آخر ما نقله عنهم حامل لواء التجهُّم والتعطيل زاهد الكوثري(1)؛ فكلها تشغيبٌ بالباطل، وتغييرٌ في وجه الحق لا يغني عنهم في قليلٍ ولا كثيرٍ.
وليت شعري! ماذا يريد هؤلاء المعطِّلة أن يقولوا؟!
أيريدون أن يقولوا: ليس في السماء ربٌّ يُقْصَدُ، ولا فوق العرش إله يُعْبَدُ؟!
فأين يكون إذن؟!
ولعلَّهم يضحكون منا حين نسأل عنه بـ(أين)! ونسوا أن أكمل الخلق وأعلمهم بربهم صلوات الله عليه وسلامه قد سأل عنه بـ(أين) حين قال للجارية: ((أين الله؟)).ورضي جوابها حين قالت: في السماء(2).
وقد أجاب كذلك مَن سأله بـ: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ بأنه كان في عماء.. الحديث(3).
__________
(1) هو محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري، فقيه حنفي متعصب، جركسي الأصل، جهمي المعتقد، حاقد على أهل السنة، كتبه تطفح بسبهم وشتمهم، ولد سنة (1296هـ)، وتوفي سنة (1371هـ).
(2) صحيح). سيأتي تخريجه. (ص209).
(3) يشير إلى حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، قال: قلتُ: يا رسول الله! أين كان ربُّنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال:
... ((كان في عماء، ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء)).
... أخرجه الترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة هود) (8/528-تحفة)، وحسنه، وابن ماجه في المقدمة، (باب: فيما أنكرت الجهمية)، وأحمد في ((المسند)) (4/11).
... قال الأرناؤوط:
... ((وفي سنده وكيع بن عُدُس ـ أو حُدُس ـ لم يوثِّقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، ومع ذلك فقد حسنه الترمذي وغيره)).
... انظر: ((جامع الأصول)) (1989)، والحديث ضعَّفه الألباني في تخريج كتاب ((السنة)) (رقم 612). قال يزيد بن هارون:
... ((العماء؛ أي: ليس معه شيء)).(1/89)
ولم يُرْوَ عنه أنه زجر السائل، ولا قال له: إنك غلطت في السؤال.
إن قصارى ما يقوله المتحذلق منهم في هذا الباب: إن الله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو الآن على ما كان قبل المكان.
فماذا يعني هذا المُخَرِّف بالمكان الذي كان الله ولم يكن؟!
هل يعني به تلك الأمكنة الوجودية التي هي داخل محيط العالم؟!
فهذه أمكنة حادثة ، ونحن لا نقول بوجود الله في شيءٍ منها ؛ إذ لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته.
وأما إذا أراد بها المكان العَدَميَّ الذي هو خلاءٌ محضٌ لا وجود فيه؛ فهذا لا يقال: إنه لم يكن ثم خلق؛ إذ لا يتعلق به الخلق، فإنه أمر عدميٌّ، فإذا قيل: إن الله في مكان بهذا المعنى؛ كما دلَّت عليه الآيات والأحاديث؛ فأي محذورٍ في هذا؟!
بل الحق أن يقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، ثم خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ثم استوى على العرش، وثم هنا للترتيب الزماني لا لمجرَّد العطف.
(وَقَوْلُهُ: { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (1)، { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (2) ، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (3)
، { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا } (4)، وَقَوْلُهُ: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } (5)).
__________
(1) آل عمران: (55).
(2) النساء: (158).
(3) فاطر: (10).
(4) غافر: (36، 37).
(5) الملك: (16، 17).(1/90)
/ش/ وقوله: { يَا عِيسَى...?(?? إلخ؛ هذه الآيات جاءت مؤيِّدة لما دلَّت عليه الآيات السابقة من علوِّه تعالى وارتفاعه فوق العرش مباينًا للخلق، وناعية على المعطِّلة جحودهم وإنكارهم لذلك، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
ففي الآية الأولى ينادي الله رسوله وكلمته عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بأنَّه متوفِّيه ورافعه إليه حين دبَّر اليهود قتله، والضمير في قوله : { إِلَيَّ } هو ضمير الرب جلَّ شأنه، لا يحتمل غير ذلك، فتأويله بأن المراد: إلى محل رحمتي، أو مكان ملائكتي... إلخ لا معنى له.
ومثل ذلك يقال أيضًا في قوله سبحانه ردًّا على ما ادَّعاه اليهود من قتل عيسى وصلبه: { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } .
وقد اختُلِفَ في المراد بالتوفِّي المذكور في الآية، فحمله بعضهم على الموت، والأكثرون على أنَّ المراد به النوم، ولفظ المتوفَّى يُسْتَعْمَل فيه؛ قال تعالى:
{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَار } ِ (1).
ومنهم مَن زعم أنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، وأنَّ التقدير: إنِّي رافعك ومتوفيك؛ أي: مميتك بعد ذلك.
والحق أنَّه عليه السلام رُفع حيًّا، وأنَّه سينزل قرب قيام الساعة؛ لصحَّة الحديث بذلك(2).
__________
(1) الأنعام: (60).
(2) يشير إلى حديث:
... ((والذي نفسي بيده؛ ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحدٌ)).
... رواه البخاري في المظالم، (باب: كسر الصليب)(5/121-فتح)، وفي الأنبياء، (باب: نزول عيسى بن مريم)، ومسلم في الإيمان، (باب: نزول عيسى بن مريم حاكمًا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -)(2/548-نووي)، وأبو داود، والترمذي.(1/91)
وأما قوله سبحانه: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } ؛ فهو صريحٌ أيضًا في صعود أقوال العباد وأعمالهم إلى الله عز وجل، يصعد بها الكرام الكاتبون كل يوم عقب صلاة العصر، وعقب صلاة الفجر؛ كما جاء في الحديث:
((فيعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم ـ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يا ربنا! أتيناهم وهم يصلُّون, وتركناهم وهم يصلُّون))(1).
وأما قوله سبحانه حكايةً عن فرعون: { يَا هَامَانُ... } إلخ؛ فهو دليل على أنَّ موسى عليه السلام أخبر فرعون الطاغية بأنَّ إلهه في السماء، فأراد أنْ يتلمَّس الأسباب للوصول إليه تمويهًا على قومه، فأمر وزيره هامان أنْ يبني له الصرح، ثم عقَّب على ذلك بقوله : { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ ??(؛ أي: موسى { كَاذِبًا } ? فيما أخبر به من كون إلهه في السماء، فمَن إذًا أشبه بفرعون وأقرب إليه نسبًا؛ نحنُ أم هؤلاء المعطِّلة؟! إنَّ فرعونَ كَذَّبَ موسى في كون إلهه في السماء، وهو نفس ما يقوله هؤلاء.
قوله: { أَأَمِنتُم...?? - إلخ؛ هاتان الآيتان فيهما التصريح بأنَّ الله عز وجل في السماء، ولا يجوز حمل ذلك على أنَّ المراد به: العذاب، أو الأمر، أو المَلَك؛ كما يفعل المعطلة؛ لأنَّه قال:?(مَّن } ، وهي [للعاقل](2)، وحَمْلُها على المَلَك إخراجُ اللفظ عن ظاهره بلا قرينة توجب ذلك.
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري في مواقيت الصلاة، (باب: فضل صلاة العصر)(2/33-فتح)، وفي بدء الخلق، (باب: ذكر الملائكة)، وفي التوحيد، ومسلم في المساجد، (باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما) (5/138-نووي)، والنسائي، ومالك في ((الموطأ))، وأوله: ((يتعاقبون فيكم ملائكة.. )).
(2) علّق الشيخ إسماعيل الأنصاري هنا بقوله:
... (لو عبَّر المؤلف هنا بلفظ: ((للعالم))؛ بدل قوله: ((للعاقل))؛ لأصاب).(1/92)
ولا يجوز أنْ يُفهم من قوله: { فِي السَّمَاء } أنَّ السماء ظرفٌ له سبحانه؛ بل إنْ أُريد بالسماء هذه المعروفة؛ فـ { فِي } بمعنى على؛ كما في قوله تعالى: { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل } ِ (1)، وإنْ أريد بها جهة العلو؛ فـ { فِي } على حقيقتها؛ فإنَّه سبحانه في أعلى العلوِّ.
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (2)
، وَقَوْلُهُ: { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (3) ، { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (4)، وَقَوْلُهُ : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } (5)، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } (6)، { وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (7)، { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (8)).
/ش/ قوله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات...???(ِ إلخ؛ تضمَّنت هذه الآية الكريمة إثبات صفة المعيَّة له عزَّ وجلَّ، وهي على نوعين.
__________
(1) طه: (71).
(2) الحديد: (4).
(3) المجادلة: (7).
(4) التوبة: (40).
(5) طه: (46).
(6) النحل: (128).
(7) الأنفال: (46).
(8) البقرة: (249).(1/93)
17- معيَّة عامَّة: شاملة لجميع المخلوقات، فهو سبحانه مع كل شيء بعلمه وقدرته وقهره وإحاطته، لا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه، وهذه المعيَّة المذكورة في الآية.
ففي هذه الآية يخبر عن نفسه سبحانه بأنه هو وحده الذي خلق السموات والأرض ـ يعني: أوجدهما على تقدير وترتيب سابق في مدة ستة أيام ـ، ثم علا بعد ذلك وارتفع على عرشه؛ لتدبير أمور خلقه. وهو مع كونه فوق عرشه لا يغيب عنه شيءٌ من العالَمَيْن العُلويِّ والسُّفليِّ؛ فهو { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ } ؛ أي: يدخل { فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ } ؛ أي: يصعد { فِيهَا } ، ولا شَكَّ أن مَن كان علمه وقدرته محيطَيْن بجميع الأشياء؛ فهو مع كل شيء، ولذلك قال: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قوله: { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ... } إلخ؛ يثبت سبحانه شمول علمه وأحاطته بجميع الأشياء، وأنه لا يخفى عليه نجوى المتناجين، وأنه شهيدٌ على الأشياء كلها، مطَّلِع عليها.
وإضافة { نَّجْوَى } إلى ثلاثة من إضافة الصفة إلى الموصوف، والتقدير: ما يكون من ثلاثة نجوى؛ أي: متناجين.
2- وأما الآيات الباقية؛ فهي في إثبات المعيَّة الخاصَّة التي هي معيَّتُه لرسله تعالى وأوليائه بالنصر والتأييد والمحبة والتوفيق والإلهام.
فقوله تعالى: { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } حكايةٌ عما قاله عليه الصلاة والسلام لأبي بكرٍ الصدِّيق وهما في الغار، فقد أحاط المشركون بفم الغار عندما خرجوا في طلبه عليه السلام، فلما رأى أبو بكر ذلك انزعج، وقال:
((والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا)).
فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما حكاه الله عز وجل هنا:(1/94)
{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (1).
فالمراد بالمعيَّة هنا معية النصر والعصمة من الأعداء.
وأما قوله: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ؛ فقد تقدَّم الكلام عليه، وأنَّها خطابٌ لموسى وهارون عليهما السلام أن لا يخافا بطش فرعون بهما؛ لأنَّ الله عز وجل معهما بنصره وتأييده.
وكذلك بقيَّة الآيات يخبر الله فيها عن معيته للمتَّقين الذين يراقبون الله عز وجل في أمره ونهيه، ويحفظون حدوده، وللمحسنين الذين يلتزمون الإحسان في كل شيء، والإحسان يكون في كل شيء بحسبه، فهو في العبادة ـ مثلاً ـ أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ كما جاء في حديث جبريل عليه السلام(2).
وكذلك يخبر عن معيَّته للصابرين الذي يحبسون أنفسهم على ما تكره، ويتحمَّلون المشاقَّ والأذى في سبيل الله وابتغاء وجهه؛ صبرًا على طاعة الله، وصبرًا عن معصيته، وصبرًا على قضائه.
(وَقَوْلُهُ: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } (3)، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } (4) ، { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } (5)
__________
(1) رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، (باب: مناقب المهاجرين) (7/8-فتح)، و(باب: هجرة النبي إلى المدينة)، وفي تفسير سورة براءة، ومسلم في فضائل الصحابة، (باب: من فضل أبي بكر)(15/158-نووي)، والترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة التوبة)؛ بألفاظ متقاربة.
(2) سبق تخريجه (ص94).
(3) النساء: (87).
(4) النساء: (122).
(5) المائدة: (116).(1/95)
، { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } (1)، وَقَوْلُهُ: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } ، { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } (2)، { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } (3)، { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } (4) ، وَقَوْله : { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (5) { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } (6)، وَقَوْلُهُ: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } (7))(8).
/ش/ تضمَّنت هذه الآيات إثبات صفة الكلام لله عزّ وجلّ.
وقد تنازع الناس حول هذه المسألة نزاعًا كبيرًا:
فمنهم من جعل كلامه سبحانه مخلوقًا منفصلاً منه، وقال: إن معنى (متكلِّم): خالقٌ للكلام. وهم المعتزلة.
ومنهم من جعله لازمًا لذاته أزلاً وأبدًا، لا يتعلَّق بمشيئته وقدرته، ونفى عنه الحرف والصوت، وقال: إنه معنى واحد في الأزل. وهم الكُلاَّبيَّة(9) والأشعرية.
ومنهم مَن زعم أنه حروفٌ وأصواتٌ قديمةٌ لازمة للذَّات، وقال: إنها مقترنة في الأزل، فهو سبحانه لا يتكلم بها شيئًا بعد شيء. وهم بعض الغلاة.
__________
(1) الأنعام: (115).
(2) البقرة: (253).
(3) الأعراف: (143).
(4) مريم: (52).
(5) الشعراء: (10).
(6) الأعراف: (22).
(7) القصص: (65).
(8) زاد في المخطوط قوله تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [القصص: (62، و74)]، وكذا في ((الفتاوى)).
(9) هم أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، وهم يزعمون أن صفاته تعالى: لا هي هو، ولا غيره، ويقولون: إن أسماء الله هي صفاته، ولم يفرقوا بين صفات الذات وصفات الأفعال.
... انظر: ((الصواعق المرسلة)) (1/231).(1/96)
ومنهم من جعله حادثًا قائمًا بذاته تعالى، ومتعلِّقًا بمشيئته وقدرته، ولكن زعم أن له ابتداء في ذاته، وأن الله لم يكن متكلِّمًا في الأزل. وهم الكرَّامية(1).
ويطول بنا القول لو اشتغلنا بمناقشة هذه الأقول وإفسادها، على أن فسادها بيِّنٌ لكل ذي فهمٍ سليمٍ، ونظرٍ مستقيمٍ.
وخلاصةُ مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة أن الله تعالى لم يزل متكلِّمًا إذا شاء، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته، يتكلَّم بها بمشيئته وقدرته، فهو لم يزل ولا يزال متكلِّمًا إذا شاء، وما تكلَّم الله به فهو قائمٌ به ليس مخلوقًا منفصلاً عنه؛ كما تقول المعتزلة، ولا لازمًا لذاته لزوم الحياة لها؛ كما تقول الأشاعرة؛ بل هو تابعٌ لمشيئته وقدرته.
والله سبحانه نادى موسى بصوتٍ، ونادى آدم وحواء بصوتٍ، وينادي عباده يوم القيامة بصوتٍ، ويتكلَّم بالوحي بصوتٍ، ولكن الحروف والأصوات التي تكلَّم الله بها صفة له غير مخلوقة، ولا تشبه أصوات المخلوقين وحروفهم؛ كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده؛ فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته.
والآيتان الأوليان هنا ـ وهما من سورة النساء ـ تنفيان أن يكون أحدٌ أصدقَ حديثًا وقولاً من الله عز وجل، بل هو سبحانه أصدق من كل أحدٍ في كل ما يخبر به، وذلك لأن علمه بالحقائق المخبَرِ عنها أشمل وأضبط، فهو يعلمها على ما هي به من كل وجه، وعلم غيره ليس كذلك.
وأما قوله: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى.... } إلخ؛ فهو حكايةٌ لما سيكون يوم القيامة من سؤال الله لرسوله وكلمته عيسى عمَّا نسبه إليه الَّذين ألَّهوه وأمه من النصارى من أنه هو الذي أمرهم بأن يتَّخِذوه وأمَّه إلهينِ من دون الله.
__________
(1) هم أتباع أبي عبد الله محمد بن كرَّام السجستاني، المتوفى سنة (255هـ)، وهم مشبِّهة مجسِّمة مرجئة، ينقسمون إلى اثنتي عشرة فرقة.(1/97)
وهذا السؤال لإظهار براءة عيسى عليه السلام، وتسجيل الكذب والبهتان على هؤلاء الضالِّين الأغبياء.
وأما قوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } ؛ فالمراد صدقًا في أخباره، وعدلاً في أحكامه؛ لأن كلامه تعالى إما أخبار، وهي كلها في غاية الصدق، وإما أمر ونهي، وكلها في غاية العدل الذي لا جور فيه؛ لابتنائها على الحكمة والرحمة.
والمراد بالكلمة هنا الكلمات؛ لأنها أُضيفت إلى معرفة، فتفيد معنى الجمع؛ كما في قولنا: رحمة الله ونعمة الله.
وأما قوله: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وما بعدها من الآيات التي تدل على أن الله قد نادى موسى وكلمه تكليمًا، وناجاه حقيقة من وراء حجاب، وبلا واسطة ملَكٍ؛ فهي تردُّ على الأشاعرة الذين يجعلون الكلام معنى قائمًا بالنفس؛ بلا حرف، ولا صوت!
فيقال لهم: كيف سمع موسى هذا الكلامَ النفسيَّ؟
فإن قالوا: ألقى الله في قلبه علمًا ضروريًّا بالمعاني التي يريد أن يكلِّمَه بها؛ لم يكن هناك خصوصية لموسى في ذلك.
وإن قالوا: إن الله خلق كلامًا في الشجرة أو في الهواء، ونحو ذلك؛ لزم أن تكون الشجرة هي التي قالت لموسى: { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } .
وكذلك تردُّ عليهم هذه الآيات في جعلهم الكلام معنى واحدًا في الأزل، لا يحدث منه في ذاته شيءٌ، فإن الله يقول: { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ؛ فهي تفيد حدوث الكلام عند مجيء موسى للميقات، ويقول: { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ } ؛ فهذا يدل حدوث النداء عند جانب الطور الأيمن.
والنداء لا يكون إلا صوتًا مسموعًا.
وكذلك قوله تعالى في شأن آدم وحواء: { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا...???(الآية؛ فإن هذا النداء لم يكن إلا بعد الوقوع في الخطيئة، فهو حادث قطعًا.
وكذلك قوله تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ ... } إلخ؛ فإن هذا النداء والقول سيكون يوم القيامة.
وفي الحديث:(1/98)
((ما من عبدٍ إلاَّ سيكلِّمُهُ الله يومَ القيامة ليس بينَهُ وبينَه تَرجمان))(1).
( { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ } (2)، { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (3)
__________
(1) رواه بألفاظ مختلفة: البخاري في التوحيد، (باب: كلام الربّ عزّ وجلّ)، و(باب: في قوله تعالى:?? - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } ) (13/423-فتح)، وفي الزكاة، والأنبياء، والأدب، والرقاق، ومسلم في الزكاة، (باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة)(7/106-نووي)، والترمذي في صفة القيامة.
... و(تَرجمان)؛ بفتح التاء والجيم، وضم الجيم (تَرجُمان)، وبضم التاء والجيم (تُرجُمان)؛ ثلاث لغات صحيحة. انظر: ((الصحاح)) (مادة: ر ج م).
(2) التوبة: (6).
(3) البقرة: (75).(1/99)
، { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } (1)، { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } (2)، وَقَوْلُهُ: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (3)، { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } (4)، { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } (5)، { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } (6)).
/ش/ قوله: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ... } إلخ؛ هذه الآيات الكريمة تفيد أن القرآن المتلوّ المسموع المكتوب بين دفَّتي المصحف هو كلام الله على الحقيقة، وليس فقط عبارة أو حكاية عن كلام الله؛ كما تقول الأشعريَّة.
وإضافته إلى الله عزّ وجلّ تدلُّ على أنه صفةٌ له قائمة به، وليست كإضافة البيت أو الناقة؛ فإنها إضافة معنى إلى الذات، تدلُّ على ثبوت المعنى لتلك الذات؛ بخلاف إضافة البيت أو الناقة؛ فإنَّها إضافة أعيان، وهذا يردُّ على المعتزلة في قولهم: إنه مخلوق منفصلٌ عن الله.
__________
(1) الفتح: (15).
(2) الكهف: (27).
(3) النمل: (76).
(4) الأنعام: (92، 155).
(5) الحشر: (21).
(6) النحل: (101-103).(1/100)
ودلَّت هذه الآيات أيضًا على أن القرآن منزَّلٌ من عند الله، بمعنى أن الله تكلَّم به بصوتٍ سمعه جبريل عليه السلام، فنزل به، وأدَّاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سمعه من الربِّ جل شأنه.
وخلاصة القول في ذلك: أن القرآن العربي كلام الله، منزَّلٌ، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، والله تكلَّم به على الحقيقة، فهو كلامه حقيقة لا كلام غيره، وإذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرجه ذلك عن أن يكون كلام الله؛ فإن الكلام إنما يضاف حقيقةً إلى مَن قاله مبتدئًا، لا إلى مَن بلغه مؤدِّيًا، والله تكلَّم بحروفه ومعانيه بلفظ نفسه، ليس شيء منه كلامًا لغيره، لا لجبريل، ولا لمحمد، ولا لغيرهما، والله تكلم به أيضًا بصوت نفسه، فإذا قرأه العباد قرؤوه بصوت أنفسهم، فإذا قال القارئ مثلاً: { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين } ؛كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله ، لا كلام نفسه ، وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله.
وكما أن القرآن كلام الله، فكذلك هو كتابه؛ لأنه كتبه في اللوح المحفوظ، ولأنه مكتوبٌ في المصاحف؛ قال تعالى:
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } (1).
وقال: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } (2).
وقال: { فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (3).
والقرآن في الأصل مصدرٌ كالقراءة؛ كما في قوله تعالى:
{ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (4).
ويراد به هنا أن يكونَ عَلَمًا على هذا المنزَّل من عند الله، المكتوب بين دفَّتي المصحف، المتعبَّد بتلاوته، المتحدَّى بأقصر سورة منه.
__________
(1) الواقعة: (77، 78).
(2) البروج: (21، 22).
(3) عبس: (13-16).
(4) الإسراء: (78).(1/101)
وقوله: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقّ?? - يدلُّ أن ابتداء نزوله من عند الله عز وجل، وأن روح القدس جبريل عليه السلام تلقَّاه عن الله سبحانه بالكيفيَّة التي يعلمها.
( وَقَوْلُهُ: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (1)، { عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } (2)، { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (3)، وَقَوْلُهُ: { لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } (4)، وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ).
/ش/ قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ... } إلخ؛ هذه الآيات تثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة في الجنة.
وقد نفاها المعتزلة؛ بناء على نفيهم الجهة عن الله؛ لأن المرئي يجب أن يكون في جهة من الرائي، وما دامت الجهة مستحيلة، وهي شرط في الرؤية؛ فالرؤية كذلك مستحيلة.
واحتجُّوا من النقل بقوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } (5)، وقوله لموسى عليه السلام حين سأله الرؤية: { لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } (6).
وأما الأشاعرة؛ فهم مع نفيهم الجهة كالمعتزلة يثبتون الرؤية، ولذلك حاروا في تفسير تلك الرؤية، فمنهم مَن قال: يرونه من جميع الجهات، ومنهم من جعلها رؤية بالبصيرة لا بالبصر، وقال: المقصود زيادة الانكشاف والتجلي حتى كأنها رؤية عين.
__________
(1) القيامة: (22).
(2) المطففين: (23، و35).
(3) يونس: (26).
(4) ق: (35).
(5) الأنعام: (103). ...
(6) الأعراف: (143). ...(1/102)
وهذه الآيات التي أوردها المؤلِّف حجة على المعتزلة في نفيهم الرؤية ؛ فإن الآية الأولى عُدِّي النظر فيها بـ { إِلَى } ، فيكون بمعنى الإبصار؛ يقال: نظرتُ إليه وأبصرتُه بمعنى، ومتعلِّق النظر هو الربّ جلّ شأنه.
وأما ما يتكلَّفه المعتزلة من جعلهم { نَاظِرَةٌ } بمعنى منتظرة ، و { إِلَى } بمعنى النعمة. والتقدير: ثواب ربها منتظرة؛ فهو تأويل مضحك.
وأما الآية الثانية؛ فتفيد أن أهل الجنة، وهم على أرائكهم ـ يعني: أَسِرَّتَهم، جمع أريكة ـ ينظرون إلى ربهم.
وأما الآيتان الأخيرتان؛ فقد صحَّ عن النبي ( تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل(1).
ويشهد لذلك أيضًا قوله تعالى في حق الكفار: { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } (2)، فدلَّ حجب هؤلاء على أن أولياءَه يرونه.
وأحاديث الرؤية متواترة في هذا المعنى عند أهل العلم بالحديث، لا ينكرها إلا ملحد زنديق.
وأما ما احتجَّ به المعتزلة من قوله تعالى: { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ؛ } ؛ فلا حجة لهم فيه؛ لأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، فالمراد أن الأبصار تراه ، ولكن لا تحيط به رؤية ؛ كما أن العقول تعلمه ولكن لا تحيط به علمًا؛ لأن الإدراك هو الرؤية على جهة الإحاطة، فهو رؤية خاصة، ونفي الخاص لا يستلزم نفي مطلق الرؤية.
__________
(1) يشير إلى ما رواه مسلم في الإيمان، (باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربَّهم عز وجل)(3/20-نووي)، والترمذي في صفة الجنة، (باب: ما جاء في رؤية الرب تبارك وتعالى)(7/267-تحفة)، وابن ماجة في المقدمة، (باب: فيما أنكرت الجهمية)، وأحمد في ((المسند))(4/332)، وفيه أنه ( قال: ((… فيكشف الحجاب، فما أُعْطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النَّظَر إلى ربِّهم عزَّ وجلّ، ثمَّ تلا هذه الآية: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } .
(2) سورة المطففين: (15).(1/103)
وكذلك استدلالهم على نفي الرؤية بقوله تعالى لموسى عليه السلام : { لَن تَرَانِي } لا يصلح دليلاً، بل الآية تدل على الرؤية من وجوهٍ كثيرةٍ؛ منها:
1- وقوع السؤال من موسى، وهو رسول الله وكليمه، وهو أعلمُ بما يستحيل في حق الله من هؤلاء المعتزلة، فلو كانت الرؤية ممتنعة لما طلبها.
2- أن الله عز وجلَّ علّق الرؤية على استقرار الجبل حال التجلِّي وهو ممكنٌ، والمعلَّق على الممكن ممكنٌ.
3- أن الله تجلَّى للجبل بالفعل، وهو جمادٌ، فلا يمتنع إذًا أن يتجلَّى لأهل محبَّته وأصفيائه.
وأما قولهم : إن { لَن } ، لتأبيد النفي ، وإنها تدل على عدم وقوع الرؤية أصلاً؛ فهو كذب على اللغة فقد قال تعالى حكايةً عن الكفار: { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } (1)، ثم قال: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } (2)، فأخبر عن عدم تمنِّيهم للموت بـ { لَن } ، ثم أخبر عن تمنِّيهم له وهم في النار.
وإذًا؛ فمعنى قوله: { لَن تَرَانِي } : لن تستطيع رؤيتي في الدنيا؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته سبحانه، ولو كانت الرؤية ممتنعة لذاتها؛ لقال: إنِّي لا أُرى، أو لا يجوز رؤيتي، أو لست بمرئيٍّ… ونحو ذلك، والله أعلم.
مباحث عامَّة حول آيات الصفات
إن الناظر في آيات الصفات التي ساقها المؤلِّف رحمه الله يستطيع أن يستنبط منها قواعدَ وأصولاً هامَّة يجب الرجوع إليها في هذا الباب:
الأصل الأوَّل: اتفق السلف على أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى، وما دلَّت عليه من الصفات، وما ينشأ عنها من الأفعال.
مثال ذلك القدرة مثلاً، يجب الإيمان بأنه سبحانه على كل شيء قدير، والإيمان بكمال قدرته، والإيمان بأن قدرته نشأت عنها جميع الكائنات..
وهكذا بقية الأسماء الحسنى على هذا النمط.
وعلى هذا؛ فما ورد في هذه الآيات التي ساقها المصنِّف من الأسماء الحسنى؛ فإنها داخلةٌ في الإيمان بالاسم.
__________
(1) البقرة: (95).
(2) الزخرف: (77).(1/104)
وما فيها من ذكر الصفات؛ مثل: عزَّة الله، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وإرادته، ومشيئته، فإنها داخلة في الإيمان بالصفات.
وما فيها من ذكر الأفعال المطلقة والمقيَّدة، مثل: يعلم كذا، ويحكم ما يريد، ويرى، ويسمع، وينادي، ويناجي، وكلَّم، ويكلِّم؛ فإنها داخلةٌ في الإيمان بالأفعال.
الأصل الثاني: دلَّت هذه النصوص القرآنية على أن صفات الباري قسمان:
1- صفات ذاتيَّة لا تنفكُّ عنها الذات، بل هي لازمة لها أزلاً وأبدًا، ولا تتعلَّق بها مشيئته تعالى وقدرته، وذلك كصفات: الحياة، والعلم، والقدرة، والقوة، والعزَّة، والملك، والعظمة، والكبرياء، والمجد، والجلال… إلخ.
2- صفات فعليَّة تتعلق بها مشيئته وقدرته كل وقت وآن، وتحدث بمشيئته وقدرته آحاد تلك الصفات من الأفعال، وإن كان هو لم يزل موصوفًا بها، بمعنى أن نوعها قديم، وأفرادها حادثة، فهو سبحانه لم يزل فعّالاً لما يريد، ولم يزل ولا يزال يقول ويتكلَّم ويخلق ويدبِّر الأمور، وأفعاله تقع شيئًا فشيئًا، تبعًا لحكمته وإرادته.
فعلى المؤمن الإيمان بكل مانسبه الله لنفسه من الأفعال المتعلِّقة بذاته؛ كالاستواء على العرش، والمجيء، والإتيان، والنزول إلى السماء الدنيا، والضحك، والرضى، والغضب، والكراهية، والمحبة. والمتعلِّقة بخلقه؛ كالخلق, والرزق، والإحياء، والإماتة، وأنواع التدبير المختلفة.
الأصل الثالث: إثبات تفرُّد الربِّ جلَّ شأنه بكل صفة كمال، وأنه ليس له شريك أو مثيلٌ في شيءٍ منها.
وما ورد في الآيات السابقة من إثبات المثل الأعلى له وحده، ونفي الند والمثل والكفء والسميّ والشريك عنه يدل على ذلك؛كما يدل على أنه منزَّه عن كل نقصٍ وعيبٍ وآفةٍ.(1/105)
الأصل الرابع: إثبات جميع ما ورد به الكتاب والسنة من الصفات، لا فرق بين الذاتية منها؛ كالعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ونحوها، والفعلية؛ كالرضا والمحبة والغضب والكراهة، وكذلك لا فرق بين إثبات الوجه واليدين ونحوهما، وبين الاستواء على العرش والنزول، فكلها مما اتفق السلف على إثباته بلا تأويل ولا تعطيل، وبلا تشبيه وتمثيل.
والمخالف في هذا الأصل فريقان:
1- الجهميَّة: ينفون الأسماء والصفات جميعًا.
2- المعتزلة:فإنهم ينفون جميع الصفات،ويثبتون الأسماء والأحكام، فيقولون: عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وحيٌّ بلا حياة… إلخ.
وهذا القول في غاية الفساد؛ فإن إثبات موصوف بلا صفة، وإثبات ما للصفة للذات المجرَّدة محالٌ في العقل؛ كما هو باطلٌ في الشرع.
أما الأشعرية ومَن تبعهم؛ فإنهم يوافقون أهل السنة في إثبات سبع صفات يسمونها صفات المعاني، ويدَّعون ثبوتها بالعقل، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، و الإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.
ولكنهم وافقوا المعتزلة في نفي ما عدا هذه السبع من الصفات الخبرية التي صحَّ بها الخبر.
والكل محجوجون بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقرون المفضَّلة على الإثبات العام.
(فَصْلٌ: ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ (، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ).
/ش/ قوله: ((ثم في سنة رسول الله)) عطفٌ على قوله فيما تقدَّم(1): ((وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص… إلخ))؛ يعنى: ودخل فيها ما وصف به الرسول ( ربَّه فيما وردت به السنة الصحيحة.
__________
(1) ص112).(1/106)
والسنَّة هي الأصل الثاني الذي يجب الرجوع إليه، والتَّعويل عليه بعد كتاب الله عز وجل؛ قال تعالى:
{ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (1).
والمراد بالحكمة: السنة.
وقال: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (2).
وقال آمرًا لنساء نبيِّه: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } (3).
وقال سبحانه: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (4).
وقال صلواتُ الله وسلامُهُ عليهِ وآله: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))(5).
وحكم السنة حكم القرآن في ثبوت العلم واليقين والاعتقاد والعمل؛ فإن السنة توضيح للقرآن، وبيانٌ للمراد منه: تفصِّل مجمله، وتقيِّد مطلقه, وتخصِّص عمومه؛ كما قال تعالى:
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (6).
وأهل البدع والأهواء بإزاء السنة الصحيحة فريقان:
1- فريقٌ لا يتورَّع عن ردها وإنكارها إذا وردت بما يخالف مذهبه؛ بدعوى أنها أحاديث آحاد لا تفيد إلاَّ الظنَّ، والواجب في باب الاعتقاد اليقين، وهؤلاء هم المعتزلة والفلاسفة.
__________
(1) النساء: (113).
(2) البقرة: (129).
(3) الأحزاب: (34).
(4) الحشر: (7).
(5) صحيح). رواه أبو داود في ((السنة)) (باب: في لزوم السنة) (12/355-عون)، وأحمد في ((المسند)) (4/131)(1/191-ساعاتي).
... انظر: ((المشكاة)) (163)، و((جامع الأصول)) (1/281).
(6) النحل: (44).(1/107)
2- وفريق يُثبتها ويعتقد بصحة النقل، ولكنه يشتغل بتأويلها؛ كما يشتغل بتأويل آيات الكتاب، حتى يخرِجَها عن معانيها الظاهرة إلى ما يريده من معانٍ بالإلحاد والتحريف، وهؤلاء هم متأخِّرو الأشعرية، وأكثرهم توسُّعًا في هذا الباب الغزالي(1)، والرَّازي(2).
قوله: ((وما وصف الرسول به…)) إلخ؛ يعني: أنه كما وجب الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ؛ كذلك يجب الإيمان بكل ما وصفه به أعلم الخلق بربه وبما يجب له،وهو رسوله الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وآله.
قوله: ((كذلك))؛ أي: إيمانًا مثل ذلك الإيمان، خاليًا من التحريف والتعطيل، ومن التكييف والتمثيل بل إثبات لها على الوجه اللائق بعظمة الرب جلّ شأنه.
__________
(1) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، المتكلم، المتصوِّف، الفقيه، الأصولي، تاه في متاهات علم الكلام والتصوف فضَّل وأضلَّ، وقيل: رجع قبل وفاته.
... ولد بطوس سنة (450هـ)، ومن أشهر تصانيفه: ((إحياء علوم الدين).
(2) هو فخر الدين محمد بن ضياء الدين عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني، ولد سنة (544هـ)، أصولي، متكلم، مفسر، له تصانيف كثيرة مليئة بالضلالات والبدع والخرافات والسحر، منها ((التفسير الكبير)) أو ((مفاتيح الغيب))، مات سنة (606هـ) بعد أن رجع وتاب.(1/108)
(فَمِنْ ذَلِكَ: مِثْلُ قَوْلِهِ (: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(1)).
/ش/ قوله: ((فمن ذلك مثل قوله (…)) إلخ؛ الكلام على هذا الحديث من جهتين:
الأولى: صحَّته من جهة النقل؛ وقد ذكر المؤلِّف رحمه الله أنه متَّفق عليه. ويقول الذهبي في كتابه ((العلو للعليِّ الغفار))(2):
((إن أحاديث النزول متواترة، تفيد القطع)).
وعلى هذا؛ فلا مجال لإنكار أو جحود.
الثانية: ما يفيده هذا الحديث؛ وهو إخباره ( بنزول الربِّ تبارك وتعالى كل ليلة… إلخ.
ومعنى هذا أن النزول صفة لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، فهو لا يماثل نزول الخلق؛ كما أن استواءه لا يماثل استواء الخلق.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في تفسيره سورة الإخلاص:
__________
(1) رواه البخاري في التوحيد ، (باب : قول الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّه } ِ (13/464-فتح)، وفي التهجُّد، (باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل) (3/29-فتح)، وفي الدعوات، (باب: الدعاء نصف الليل)، ومسلم في صلاة المسافرين، (باب: الترغيب في الدعاء) (6/282-نووي)، كما رواه مالك في ((الموطأ))، والترمذي، وأبو داود.
(2) انظر: ((العلو للعليِّ الغفَّار)) (ص73، 79)، و((مختصره)) (ص110، 116)، ونص عبارته: ((وأحاديث نزول الباري متواترة))، وفي الموضع الآخر؛ قال: ((وقد ألَّفتُ أحاديث النزول في جزء، وذلك متواترٌ أقطع به)).(1/109)
((فالربُّ سبحانه إذا وصفه رسوله بأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلَّم موسى بالوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخانٌ، فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا؛ لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة حتى يُقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر))(1).
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالنزول صفة حقيقية لله عز وجل، على الكيفية التي يشاء، فيثبتون النزول كما يثبتون جميع الصفات التي ثبتت في الكتاب والسنة، ويقفون عند ذلك، فلا يكيِّفون ولا يمثِّلون ولا ينفون ولا يعطِّلون، ويقولون: إن الرسول أخبرنا أنه ينزل،ولكنه لم يخبرنا كيف ينزل، وقد علمنا أنه فعَّال لما يريد، وأنه على كل شيء قدير.
ولهذا ترى خواصَّ المؤمنين يتعرَّضون في هذا الوقت الجليل لألطاف ربهم ومواهبه، فيقومون لعبوديته؛ خاضعين خاشعين، داعين متضرِّعين، يرجون منه حصول مطالبهم التي وعدهم بها على لسان رسوله (.
(وَقَوْلُهُ (: ((لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(2)).
/ش/ قوله: ((لله أَشَدُّ فَرَحًا…)) إلخ؛ تتمة هذا الحديث؛ كما في البخاري وغيره:
__________
(1) انظر: ((دقائق التفسير)) (6/424).
(2) رواه البخاري في الدعوات، (باب: التوبة)(11/102-فتح)، ومسلم في التوبة، (باب: الحضِّ على التوبة)(17/65-نووي)، والترمذي في صفة القيامة، (باب: المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه)؛ بألفاظ مختلفة.(1/110)
((لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل بأرض فلاة دويَّة مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنزل عنها، فنام وراحلته عند رأسه، فاستيقظ وقد ذهبت، فذهب في طلبها، فلم يقدر عليها، حتى أدركه الموت من العطش، فقال: والله لأرجعن فلأموتن حيث كان رحلي، فرجع، فنام، فاستيقظ، فإذا راحلته عند رأسه، فقال: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح))(1).
وفي هذا الحديث إثبات صفة الفرح لله عزّ وجلّ، والكلام فيه كالكلام في غيره من الصفات: أنه صفة حقيقة لله عزّ وجلّ، على ما يليق به، وهو من صفات الفعل التابعة لمشيئته تعالى وقدرته، فيَحْدُث له هذا المعنى المعبَّر عنه بالفرح عندما يُحدِثُ عبدُه التوبةَ والإنابةَ إليه، وهو مستلزمٌ لرضاه عن عبده التائب، وقبوله توبته.
وإذا كان الفرح في المخلوق على أنواع؛ فقد يكون فرح خفة وسرور وطرب، وقد يكون فرح أشرٍ وبطرٍ؛ فالله عزَّ وجلَّ منزَّه عن ذلك كله، ففرحهُ لا يشبه فرح أحد من خلقه، لا في ذاته، ولا في أسبابه، ولا في غاياته، فسببه كمال رحمته وإحسانه التي يحب من عباده أن يتعرَّضوا لها، وغايته إتمام نعمته على التائبين المنيبين.
وأما تفسير الفرح بلازمه،وهو الرضا، وتفسير الرضا بإرادة الثواب؛ فكلُّ ذلك نفيٌ وتعطيلٌ لفرحه ورضاه سبحانه، أوجبه سوءُ ظنِّ هؤلاء المعطِّلة بربهم، حيث توهَّموا أن هذه المعاني تكون فيه كما هي في المخلوق، تعالى الله عن تشبيههم وتعطيلهم.
__________
(1) تقدم تخريجه آنفًا.(1/111)
(وَقَوْلُهُ: (: ((يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ(1)).
/ش/ قوله: ((يضحك الله إلى رجلين…)) إلخ؛ يثبت أهل السنة والجماعة الضحك لله عز وجل ـ كما أفاده هذا الحديث وغيره ـ على المعنى الذي يليق به سبحانه، والذي لا يشبهه ضحك المخلوقين عندما يستخفُّهم الفرح، أو يستفزُّهم الطرب؛ بل هو معنى يحدث في ذاته عند وجود مقتضيه، وإنما يحدث بمشيئته وحكمته؛ فإن الضحك إنما ينشأ في المخلوق عند إدراكه لأمرٍ عجيبٍ يخرج عن نظائره، وهذه الحالة المذكورة في هذا الحديث كذلك؛ فإن تسليط الكافر على قتل المسلم مَدعاةٌ في بادئ الرأي لسخط الله على هذا الكافر، وخذلانه، ومعاقبته في الدنيا والآخرة، فإذا منَّ الله على هذا الكافر بعد ذلك بالتوبة، وهداه للدخول في الإسلام، وقاتل في سبيل الله حتى يستشهد فيدخل الجنة؛ كان ذلك من الأمور العجيبة حقًّا.
وهذا من كمال رحمته وإحسانه وسعة فضله على عباده سبحانه؛ فإن المسلم يقاتل في سبيل الله، ويقتله الكافر، فيكرم الله المسلم بالشهادة، ثم يمنُّ على ذلك القاتل، فيهديه للإسلام والاستشهاد في سبيله، فيدخلان الجنة جميعًا.
وأما تأويل ضحكه سبحانه بالرضا أو القبول أو أنّ الشيء حلَّ عنده بمحلِّ ما يضحك منه، وليس هناك في الحقيقة ضحك؛ فهو نفيٌ لما أثبته رسول الله ( لربه، فلا يُلْتَفَتُ إليه.
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد، (باب: الكافر يقتل المسلم ثم يسلم) (6/39-فتح)، ومسلم في الإمارة، (باب: بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة) (13/39-نووي)، ومالك في ((الموطأ))، والنسائي في ((سننه))، وتتمة الحديث: ((يقاتل هذا في سبيل الله، ثم يستشهد، فيتوب الله على القاتل، فيسلم، فيقاتل في سبيل الله، فيستشهد)).(1/112)
(وَقَوْلُهُ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ خَيْرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ آزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ))(1). حَدِيثٌ حَسَنٌ).
/ش/ قوله: ((عَجِبَ رَبُّنا…)) إلخ؛ هذا الحديث يثبت لله عز وجل صفة العَجَب، وفي معناه قوله عليه الصلاة والسلام:
((عجب ربك من شابٍّ ليس له صبوة))(2)(3)
__________
(1) ضعيف). لم أجده بهذا اللفظ، ولكن بلفظ: ((يضحك))، أو: ((ضحك ربنا))، وبلفظ: ((غَيَرِه))؛ بدل: ((خيره)).
... والحديث رواه ابن ماجة في المقدمة، (باب : فيما أنكرت الجهمية)، وأحمد في ((المسند)) (4/11)، والطبراني في ((الكبير)) (19/208)، والآجري في ((الشريعة)) (ص279)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات))، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (3/426)؛ كلهم من طريق وكيع بن حُدُس ـ وقيل: عُدُس ـ عن عمه أبي رزين.
... ووكيعٌ؛ قال عنه الذهبي: ((لا يعرف)).
... وقال الحافظ:
... ((مقبول)).
... والحديث قال عنه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3585):
... ((ضعيف جدًا)).
... وانظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (1/244).
(2) ضعيف). رواه أحمد في ((المسند)) (4/151)، وأبو يعلى في ((مسنده)) (3/288)، والقضاعي في ((مسند الشهاب)) (1/336)، والطبراني في ((الكبير))؛ كلهم من طريق ابن لهيعة عن أبي عَشَّانة، به.
... وقال عنه السخاوي في ((المقاصد)) (ص123):
... ((ضعَّفه شيخُنا ـ يعني: الحافظ ابن حجر ـ في فتاويه لأجل ابن لهيعة)). اهـ
... وضعَّفه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (رقم1658).
(3) ليت المصنِّف والشارح اكتفيا بما رواه البخاري في الجهاد، (باب: الأسارى في السلاسل) (6/145-فتح) عن أبي هريرة مرفوعًا:
... ((عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)).
... أو ما رواه البخاري (رقم4889) عن أبي هريرة مرفوعًا:
... ((لقد عجب الله من فلان وفلانة)).
... وهو عند مسلم (2054) بلفظ:
... ((قد عجِبَ الله من صنيعكما بضيفِكما الليلة)).
... أو غيرها من الأحاديث الصحيحة التي تثبت صفة العَجَب لله تعالى.(1/113)
.
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } (1)؛ بضم التاء على أنَّها ضميرٌ للرَّبِّ جلّ شأنه.
وليس عجبه سبحانه ناشئًا عن خفاء في الأسباب أو جهل بحقائق الأمور؛ كما هو الحال في عجب المخلوقين؛ بل هو معنى يحدث له سبحانه على مقتضى مشيئته وحكمته وعند وجود مقتضيه، وهو الشيء الذي يستحقّ أن يتعجب منه.
وهذا العَجَب الذي وصف به الرسولُ ربَّه هنا من آثار رحمته، وهو من كماله تعالى، فإذا تأخَّر الغيث عن العباد مع فقرهم وشدَّة حاجتهم، واستولى عليهم اليأس والقنوط، وصار نظرهم قاصرًا على الأسباب الظاهرة، وحسبوا أن لا يكون وراءها فرجٌ من القريب المجيب؛ فيعجب الله منهم.
وهذا محلٌّ عجيبٌ حقًّا؛ إذ كيف يقنطون ورحمته وسعت كلَّ شيء، والأسباب لحصولها قد توفَّرت؟! فإن حاجة العباد وضرورتهم من أسباب رحمته، وكذا الدعاء بحصول الغيث والرجاء في الله من أسبابها، وقد جرت عادته سبحانه في خلقه أن الفرج مع الكرب، وأن اليسر مع العسر، وأن الشدة لا تدوم، فإذا انضمَّ إلى ذلك قوّة التجاء وطمع في فضل الله ، وتضرع إليه ودعاء ؛ فتح اللهم عليهم من خزائن رحمته ما لا يخطر على البال.
والقنوط مصدر (قَنَط)، وهو اليأس من رحمة الله؛ قال تعالى:
{ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ } (2).
قوله: ((وقُرب خيره))؛ أي: فضله ورحمته. وقد رُوِيَ: ((غِيَرِه)). والغِيَر: اسم من قولك: غَيَّرَ الشيء فتغيَّر.
وفي حديث الاستسقاء:
__________
(1) الصافات: (12). وقد ثبتت هذه القراءة عند الحاكم (2/430) بسند صحيح، ومن طريقه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/225).
قال الحاكم:
((هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي)).
(2) الحجر: (56).(1/114)
((مَن يكفر بالله يلقَ الغِيَر))(1)؛ أي: تغيّر الحال، وانتقالها من الصلاح إلى الفساد.
قوله: ((آزلين قنطين)): حالان من الضمير المجرور في ((إليكم)).
و((آزِلين)): جمع آزِِل، اسم فاعل من الأزْل؛ بمعنى الشِّدة والضيق. يقال: أَزِلَ الرجل يأزَل أزَلاً، من باب فرح؛ أي: صار في ضيق وجدب.
(وَقَوْلُهُ (: ((لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط))(2). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
/ش/ قوله: ((لا تزال جهنَّم…)) إلخ؛ في هذا الحديث إثبات الرجل والقدَم لله عز وجل، وهذه الصفة تُجرى مجرى بقيَّة الصفات، فتُثبت لله علي الوجه اللائق بعظمته سبحانه.
والحكمة من وضع رجله سبحانه في النار أنه قد وعد أن يملأها؛ كما في قوله تعالى: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
ولما كان مقتضى رحمته وعدله أن لا يعذِّبَ أحدًا بغير ذنبٍ، وكانت النار في غاية العمق والسعة؛ حقَّق وعده تعالى، فوضع فيها قدمه، فحينئذ يتلاقى طرفاها، ولا يبقى فيها فضل عن أهلها.
__________
(1) ضعيف). رواه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (25/244)، وفي ((الدعاء)) (3/1775)، والبيهقي في ((دلائل النبوة))(6/141) من حديث أنس رضي الله عنه الطويل في الاستسقاء، وفيه أن رجلاً أنشد بين يدي النبي ( قصيدة آخرها:
فمن يشكر الله يلقى المزيد ... ... ومن يكفر الله يلقَ الغير
... وعلة إسنادهما: مسلم بن كيسان المُلائي؛ وهو ضعيف.
(2) رواه البخاري في تفسير سورة ق، (باب قول الله تعالى: { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } (8/594-فتح)، وفي الأيمان والنذور، والتوحيد، ومسلم في الجنة، (باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء) (17/189-نووي)، ورواه الترمذي في تفسير سورة ق.(1/115)
وأما الجنة؛ فإنه يبقى فيها فضلٌ عن أهلها مع كثرة ما أعطاهم وأوسع لهم، فينشئ الله لها خلقًا آخرين؛ كما ثبت بذلك الحديث(1).
(وَقَوْلُهُ: "يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ)). مُتَّفقٌ عَلَيْهِ(2). وَقَوْلُهُ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ))(3)).
__________
(1) يشير إلى ما رواه الشيخان:
... ((لا تزال جهنم يُلقى فيها…))، وقد تقدَّم تخريجه.
... وتتمة الحديث:
... ((… ولا تزال الجنة تفضل حتى ينشئ الله لها خلقًا، فيسكنهم فضل الجنة)).
(2) تتمة الحديث:
... ((… قال: يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } )).
... فشق ذلك عى الناس حتى تغيَّرت وجوههم، قالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله (: ((من يأجوج ومأجوج تسع مئة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد)).
... وللحديث روايات أخرى.
... رواه البخاري في ((الأنبياء))، (باب: قصة يأجوج ومأجوج)) (6/382-فتح)، وفي الرقاق والتوحيد، ومسلم في الإيمان، (باب: قوله: ((يقول الله لآدم: أخرج بعث النار))) (3/97-نووي).
(3) صحيح). سبق تخريجه (ص185).(1/116)
/ش/ قوله: ((يقول تعالى: يا آدم…)) إلخ؛ في هذين الحديثين إثباتُ القول والنداء والتكليم لله عز وجل، وقد سبق أن بيَّنَّا مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، وأنهم يؤمنون بأن هذه صفات أفعال له سبحانه تابعة لمشيئته وحكمته، فهو قال، ويقول، ونادى، وينادي، وكلَّم، ويكلِّم، وأن قوله ونداءه وتكليمه إنما يكون بحروف وأصوات يسمعها من يناديه ويكلِّمه، وفي هذا ردٌّ على الأشاعرة في قولهم: إن كلامه قديم، وإنه بلا حرفٍ ولا صوتٍ.
وقد دلَّ الحديث الثاني على أنه سبحانه سيكلِّم جميع عباده بلا واسطة، وهذا تكليمٌ عامٌّ؛ لأنه تكليمُ محاسبةٍ، فهو يشملُ المؤمنَ والكافرَ والبر والفاجر، ولا ينافيه قوله تعالى: { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } (1)؛ لأن المنفيَّ هنا هو التكليم بما يسرُّ المكلَّم، وهو تكليمٌ خاصٌّ، ويقابله تكليمه سبحانه لأهل الجنة تكليمَ محبة ورضوان وإحسان.
(وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ:((رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ [فَيَبْرَأَ](2)))(3)
__________
(1) البقرة: (174)، وآل عمران: (77).
(2) ليست في المخطوط.
(3) ضعيف، أو ضعيف جدًا ) . رواه أبو داود في الطب ، (باب : كيف الرقى) (10/385-عون) من حديث أبي الدرداء.
وفيه زيادة بن محمد الأنصاري..
قال عنه البخاري والنسائي:
((منكر الحديث)).
انظر: ((الميزان)) (2/98).
وقال الذهبي فيه:
= ... ((وقد انفرد بحديث الرقية: ربنا الله الذي في السماء)).
... وقد رواه الحاكم من هذا الوجه.
... انظر: ((ضعيف الجامع)) (5422) ـ وفيه قال الألباني: ((ضعيف جدًا))، و((مشكاة المصابيح)) (1555)، و((جامع الأصول)) (5717).
... ورواه الإمام أحمد في ((المسند)) (6/21) من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري، وفي سنده أبو بكر بن أبي مريم الغساني، وهو ضعيف. انظر: ((زاد المعاد)) (4/175).
... وهو في ((الكامل)) لابن عدي (3/1054) من طريق فضالة عن أبي الدرداء به.
... والحديث أورده ابن القيسراني في ((معرفة التذكرة في الأحاديث الموضوعة)) (ص202).(1/117)
[حَدِيثٌ حَسَنٌ](1)، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [وَغَيرُهُ](2).
وَقَوْلُهُ: ((أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ))(3). [حَدِيثٌ صَحِيحٌ] (4).
وَقَوْلُهُ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ [الْمَاءِ](5)، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ))(6)
[حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ] (7).
وَقَوْلُهُ لِلْجَارِيَةِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)). قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)). قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)) (8). رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
__________
(1) ليست في المخطوطة.
(2) ليست في المخطوطة.
(3) رواه البخاري في المغازي، (باب: بعث علي وخالد إلى اليمن) (8/67-فتح)، ومسلم في الزكاة، (باب: ذكر الخوارج وصفاتهم)(7/168-نووي).
(4) في المخطوط: [رواه البخاري وغيره]؛ بدل: [حديث صحيح].
(5) في المخطوط: [ذلك]؛ بدل: [الماء].
(6) صحيح موقوفًا). لم أجده مرفوعًا بهذا اللفظ؛ بل موقوفًا على ابن مسعود، وله حكم الرفع، بلفظ:
... ((العرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم)).
... قال الذهبي في ((العلو)): ((إسناده صحيح)).
... ووافقه الألباني.
... انظر: ((مختصر العلو)) (ص103)، و((التوحيد)) لابن خزيمة (1/243)، و((الرد على الجهمي)) للدارمي، تحقيق: بدر البدر، (ص46).
... والذي في ((سنن أبي داود)) (13/14-عون) بلفظ: ((إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته)).
(7) في المخطوط: [رواه أبو داود والترمذي وغيرهما]، وليس فيه: [حديث حسن].
(8) رواه مسلم في المساجد، (باب: تحريم الكلام في الصلاة) (5/25-نووي)، ورواه مالك، وأبو داود، والنسائي.(1/118)
/ش/قوله: ((ربّنا الله الذي في السّماء…)) إلخ؛ الحديث الأول [والثاني](1) صريحٌ في علوِّه تعالى وفوقيّته؛ فهو كقوله تعالى: { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } (2).
وقد سبق أن قلنا: إن هذه النصوص ليس المراد منها أن السماء ظرفٌ حاوٍ له سبحانه؛ بل (في) إما أن تكون بمعنى (على)؛ كما قاله كثير من أهل العلم واللغة، و(في) تكون بمعنى (على) في مواضع كثيرةٍ؛ مثل قوله تعالى: { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } (3)، وإما أن يكون المراد من السماء جهة العلو، وعلى الوجهين فهي نصٌّ في علوِّه تعالى على خلقه.
وفي حديث الرقية المذكور توسُّلٌ إلى الله عزّ وجلّ بالثناء عليه بربوبيَّته وإلاهيَّته وتقديس اسمه وعلوِّه على خلقه وعموم أمره الشرعي وأمره القدري، ثم توسلٌ إليه برحمته التي شملت أهل سماواته جميعًا أن يجعل لأهل الأرض نصيبًا منها، ثم توسلٌ إليه بسؤال مغفرة الحُوب ـ وهو الذنب العظيم ـ، ثم الخطايا التي هي دونه، ثم توسلٌ إليه بربوبيته الخاصَّة للطَّيِّبين من عباده، وهم الأنبياء وأتباعهم، التي كان من آثارها أن غمرهم بنعم الدِّين والدُّنيا الظاهرة والباطنة.
فهذه الوسائل المتنوِّعة إلى الله لا يكاد يُرَدُّ دعاء مَن توسَّل بها،ولهذا دعا الله بعدها بالشفاء الذي هو شفاءُ الله الذي لا يدع مرضًا إلا أزاله، ولا تعلُّق فيه لغير الله.
فهل يفقه هذا عُبَّاد القبور من المتوسِّلين بالذوات والأشخاص والحق والجاه والحرمة ونحو ذلك؟!
وأما قوله: ((والعرش فوق الماء…))(4) إلخ؛ ففيه الجمع بين الإيمان بعلوِّه تعالى على عرشه، وبإحاطة علمه بالموجودات كلها.
فسبحان مَن هو عليٌّ في دنوِّه، قريبٌ في علوِّه.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) الملك: (16).
(3) طه: (71).
(4) هذا هو الحديث الثالث.(1/119)
وأما الحديث الرابع(1)؛ فقد تضمَّن شهادة الرسول ( بالإيمان للجارية التي اعترفت بعلوه تعالى على خلقه، فدلَّ ذلك على أن وصف العلوِّ من أعظم أوصاف الباري جل شأنه، حيث خصَّه بالسؤال عنه دون بقيَّة الأوصاف، ودلَّ أيضًا على أن الإيمان بعلوِّه المطلق من كل وجه هو من أعظم أصول الإيمان، فمَن أنكره؛ فقد حُرِم الإيمان الصحيح.
والعجب من هؤلاء الحمقى من المعطِّلة النفاة زعمهم أنهم أعلم بالله من رسوله، فينفون عنه الأين بعدما وقع هذا اللفظ بعينه من الرسول مرة سائلاً غيره ـ كما في هذا الحديث ـ، ومرة مجيبًا لمن سأله بقوله: أين كان ربنا؟
(وَقَوْلُهُ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ))(2). حَدِيثٌ حَسَنٌ.
__________
(1) في المطبوعة: ((الثاني))، والصواب ما أثبتُّه، وفيها تقديم شرح الحديث الرابع على الثالث، وجعلناه هنا مرتَّبًا حسب ما في المتن.
(2) ضعيف). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/60): ((روا الطبراني في الأوسط والكبير))، وقال: تفرد به عثمان بن كثير. قلت: ولم أرَ مَن ذكره بثقة ولا جرح)). اهـ
... وهو في ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص541) من رواية عثمان بن كثير أيضًا، ولكنه في ((مسند الشاميين)) للطبراني (1/305) من رواية عثمان بن سعيد بن كثير؛ قال عنه في ((التقريب((: ((ثقة عابد)).
... وفي سنده أيضًا نعيم بن حماد الراوي عنه. انظر ((الحلية)) (6/124)؛ قال عنه الذهبي في ((الميزان((: ((من الأئمة الأعلام، على لينٍ في حديثه))، وقال الحافظ في ((التقريب)): ((صدوق يخطئ كثيرًا)).
... والحديث ضعَّفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1002).(1/120)
وَقَوْلُهُ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ))(1). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (: ((اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ [وَالأَرْضِ](2) وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ](3) كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ))(4). [رِوَايَةُ](5) مُسْلِمٌ.
__________
(1) رواه بألفاظ مختلفة : البخاري في الصلاة، (باب : حك البزاق باليد من المسجد) (1/507-فتح)، وفي صفة الصلاة، وفي الأدب، ومسلم في المساجد، (باب: النهي عن البصاق في المسجد)(5/-41نووي)، ومالك في ((الموطأ))، وأبو داود، والنسائي.
(2) ليست في المخطوط ولا ((الفتاوى)).
(3) ليست في المخطوط ولا ((الفتاوى)).
(4) صحيح). سبق تخريجه (121).
(5) في المخطوط: [رواه]، وكذا في ((الفتاوى)).(1/121)
وَقَوْلُهُ (: لَمَّا رَفَعَ [الصَّحَابَةُ](1) أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا [بَصِيرًا] (2) قَرِيبًا. إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))(3). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
/ش/ قوله: ((أفضل الإيمان أن تعلم…)) إلخ؛ فيه دلالة على أن أفضل الإيمان هو مقام الإحسان والمراقبة، وهو أن العبدُ ربَّه كأنَّه يراه ويشاهده، ويعلم أن الله معه حيث كان، فلا يتكلَّم ولا يفعل ولا يخوض في أمرٍ إلا والله رقيبٌ مطَّلع عليه؛
قال تعالى:
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه } ِ (4).
ولا شكَّ أن هذه المعيَّة إذا استحضرها العبد في كل أحواله؛ فإنه يستحيي من الله عزَّ وجلَّ أن يراه حيث نهاه، أو أن يفتقده حيث أمره، فتكون عونًا له على اجتناب ما حرَّم الله، والمسارعة إلى فعل ما أمر به من الطاعات على وجه الكمال ظاهرًا وباطنًا، ولا سيما إذا دخل في الصلاة التي هي أعظم صلة ومناجاة بين العبد وربه، فيخشع قلبه، ويستحضر عظمة الله وجلاله، فتقلُّ حركاته، ولا يسيء الأدب مع ربه بالبصق أمامه أو عن يمينه.
قوله: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة…)) إلخ؛ دلَّ على أن الله عز وجل يكونُ قِبَلَ وَجهِ المُصلِّي.
قال شيخ الإسلام في ((العقيدة الحموية))(5).
__________
(1) في المخطوط: [أصحابه]، وكذا في [الفتاوى].
(2) ليست في المخطوط ـ كما هي رواية مسلم ـ، والذي في المطبوع رواية البخاري.
(3) صحيح). سبق تخريجه (ص153).
(4) يونس: (61).
(5) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (5/107).(1/122)
((إن الحديث حقٌّ على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قِبَل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبُتُ للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر؛ لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضًا قِبل وجهه)). اهـ
قوله: ((اللهُمَّ ربَّ السموات…)) إلخ؛ تضمَّن الحديث إثبات أسمائه تعالى: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وهي من الأسماء الحسنى، وقد فسرها النبيُّ ( بما لا يدعُ مجالاً لقائلٍ، فهو أعلم الخلق جميعًا بأسماء ربه وبالمعاني التي تدلُّ عليها، فلا يصحُّ أن يُلْتَفَت إلى قول غيره أيًّا كان.
وفي الحديث أيضًا يعلِّمنا نبيُّنا صلوات الله وسلامه عليه وآله كيف نثني على ربِّنا عزّ وجلّ قبل السؤال، فهو يثني عليه بربوبيَّته العامة التي انتظمت كل شيء، ثم بربوبيَّتِه الخاصة الممثَّلة في إنزاله هذه الكتب الثلاثة تحمل الهدى والنور إلى عباده، ثم يعوذ ويعتصم به سبحانه من شر نفسه ومن شر كل ذي شر من خلقه، ثم يسأله في آخر الحديث أن يقضي عنه دينه، وأن يغنيه من فقرٍ.
قوله: ((أيُّها النَّاس! اربعوا على أنفسكم…)) إلخ؛ أفاد هذا الحديث قربه سبحانه من عباده، وأنه ليس بحاجة إلى أن يرفعوا إليه أصواتهم؛ فإنه يعلم السرَّ والنَّجوى، وهذا القرب المذكور في الحديث قرب إحاطة، وعلم، وسمع، ورؤية، فلا ينافي علوَّه على خلقه.
(قَوْلُهُ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا))(1). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
__________
(1) رواه البخاري في مواقيت الصلاة، (باب: فضل صلاة العصر)(2/33-فتح)، وفي تفسير سورة ق، وفي التوحيد، ومسلم في المساجد، (باب: فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما)(5/138-نووي)، ورواه أبو داود والترمذي.(1/123)
/ش/ هذا الحديث الصحيح المتواتر يشهد لما دلَّت عليه الآيات السابقة من رؤية المؤمنين لله عزّ وجلّ في الجنة، وتمتُّعهم بالنظر إلى وجهه الكريم.
وهذه النصوص من الآيات والأحاديث تدلُّ على أمرين:
أولهما: علوُّه تعالى علىخلقه؛ لأنها صريحة في أنهم يرونه من فوقهم.
ثانيهما: أن أعظم أنواع النعيم هو النظر إلى وجه الله الكريم.
وقوله: ((كما ترون القمر ليلة البدر))؛ المراد تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي؛ يعني: أن رؤيتهم لربهم تكون من الظهور والوضوح كرؤية القمر في أكمل حالاته، وهي كونه بدرًا، ولا يحجبه سحاب، ولهذا قال بعد ذلك: ((لا تُضامون في رؤيته))؛ روي بتشديد الميم من التَّضامِّ؛ بمعنى: التزاحم والتلاصق، والتاء يجوز فيها الضمّ والفتح، على أن الأصل تتضامُّون، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا، وروي بتخفيف الميم من الضيم؛ بمعنى: الظلم؛ يعني: لا يلحقكم في رؤيته ضيمٌ ولا غبنٌ.
وفي حثِّه ( في هذا الحديث على صلاة العصر وصلاة الفجر خاصة إشارة إلى أن مَن حافظ عليهما في جماعة نال هذا النعيم الكامل، الذي يضمحلُّ بإزائه كل نعيم، وهو يدلُّ على تأكيد هاتين الصلاتين كما دلَّ على ذلك الحديث الآخر:
((يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر))(1). متفق عليه.
(… إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ ( عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ، بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ).
__________
(1) صحيح). جزء من حديث تقدّم تخريجه (ص177).(1/124)
/ش/ قوله: ((إلى أمثال هذه الأحاديث…)) إلخ. لما كان ما ذكره المؤلف من الأحاديث ليس هو كل ما ورد في باب الصفات من الأخبار؛ نبَّه على أن أمثال هذه الأحاديث التي ذكرها ممَّا يخبر فيه الرسول ( عن ربه بما يخبر به، فإن حكمه كذلك، وهو وجوب الإيمان بما يتضمَّنه من أسماء الله وصفاته.
ثم عاد فأكَّد معتقد أهل السنة والجماعة. وهو أنهم يؤمنون بما وردت به السنة الصحيحة من صفات؛ كإيمانهم بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
ثم أخبر عن أهل السنة والجماعة بأنهم وسطٌ بين فِرَق الضلال والزَّيغ من هذه الأمة؛ كما أن هذه الأمة وسطٌ بين الأمم السابقة؛ قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (1).
ومعنى { وَسَطًا } : عُدولاً خيارًا؛ كما وردَ الحديث بذلك(2).
__________
(1) البقرة: (143).
(2) يشير إلى ما رواه البخاري في التفسير، (باب: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (8/171-فتح)، وفي الأنبياء، وفي الاعتصام، والترمذي في التفسير، (باب: ومن سورة البقرة)(8/297-تحفة)؛ عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا:
... ((يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بَلَّغتَ؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلَّغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله جلّ ذكره: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } )).
... قال الحافظ في ((الفتح)) (8/172):
... ((قوله: ((والوسط: العدل)) هو مرفوع من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة؛ كما وهم فيه بعضهم)).(1/125)
فهذه الأمَّة وسطٌ بين الأمم التي تجنَحُ إلى الغلوِّ الضارِّ والأمم التي تميلُ إلى التَّفريط المُهْلِكِ.
فإنّ من الأمم مَن غلا في المخلوقين، وجعل لهم من صفات الخالق وحقوقه ما جعل؛ كالنصارى الذين غَلَوا في المسيح والرُّهبان.
ومنهم مَن جفا الأنبياء وأتباعَهم ، حتى قتلهُم ، وردَّ دعوتهم ؛ كاليهود الذين قتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل المسيح، ورَمَوْه بالبُهتان.
وأما هذه الأمة؛ فقد آمنت بكل رسول أرسله الله، واعتقدت رسالتهم، وعرفت لهم مقاماتهم الرَّفيعة التي فضَّلهم الله بها.
ومن الأمم أيضًا مَن استحلَّت كلَّ خبيثٍ وطيِّبٍ.
ومنها مَن حرَّم الطَّيِّبات غلوًّا ومجاوزةً.
وأما هذه الأمة؛ فقد أحَلَّ الله لها الطَّيِّبات، وحرَّم عليها الخبائث..
إلى غير ذلك من الأمور التي مَنَّ الله على هذه الأمة الكاملة بالتوسُّط فيها.
فكذلك أهل السنة والجماعة متوسِّطون بين فرق الأمة المبتدعة التي انحرفتْ عن الصراط المستقيم.
(فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ(1)، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ)(2).
__________
(1) الجهميَّة: طائفة انتشرت في أواخر دولة بني أمية، تنتسب إلى الجهم بن صفوان الترمذي، ومذهبهم نفي الأسماء والصفات؛ كما أنهم من غُلاة المرجئة والجبرية.
(2) المشبِّهة: ويسمَّوْن: المجسِّمة، وهم على النقيض من الجهمية في إثبات الأسماء والصفات، فقد قالوا: إن لله يدًا كيد المخلوقين، وسمعًا كسمعهم، وبصرًا كبصرهم، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.(1/126)
/ش/ قوله: ((فهُم وسطٌ في باب صفات الله…)) إلخ؛ يعني: أن أهل السنة والجماعة وسَطٌ في باب الصفات بين مَن ينفيها ويعطِّل الذات العليَّة عنها، ويحرِّف ما ورد فيها من الآيات والأحاديث عن معانيها الصَّحيحة إلى ما يعتقده هو من معانٍ بلا دليلٍ صحيح، ولا عقلٍ صريح؛ كقولهم: رحمة الله: إرادته الإحسان، ويده: قدرتُه، وعينُه: حفظه ورعايته، واستواؤه على العرش: استيلاؤه… إلى أمثال ذلك من أنواع النفي والتَّعطيل التي أوقعهم فيها سوء ظنِّهم بربِّهم، وتوهُّمِهم أن قيام هذه الصفات به لا يُعْقَل إلا على النحو الموجود في قيامها بالمخلوق.
ولقد أحسن القائل حيث يقول:
وَقُصَارَى أَمْرِ مَنْ أَوَّلَ أَنْ ظَنُّوا الظُّنُونَا
فَيَقُولُونَ عَلَى الرَّحْمَنِ مَا لاَ يَعْلَمُونَا
وإنما سُمِّي أهل التعطيل جهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي رأس الفتنة والضلال، وقد تُوُسِّع في هذا اللفظ حتى أصبح يُطلق على كل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات، فهو شامل لجميع فرق النُّفاة؛ من فلاسفة، ومعتزلة، وأشعرية، وقرامطة باطنية(1).
فأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء الجهمية النفاة وبين أهل التمثيل المشبِّهة الذين شبّهوا الله بخلقه، ومثَّلوه بعباده.
وقد ردّ الله على الطائفتين بقوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، فهذا يردُّ على المشبِّهة. وقوله: { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } يردُّ على المعطِّلة.
وأما أهل الحق؛ فهم الذين يثبتون الصفات لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل، وينزِّهُونه عن مشابهة المخلوقات تنزيهًا بلا تعطيل، فجمعوا أحسن ما عند الفريقين؛ أعني: التنزيه والإثبات، وتركوا ما أخطؤوا وأساؤوا فيه من التعطيل والتشبيه.
__________
(1) يعني الشارح أن نقول عنهم: هم جهمية في الأسماء والصفات.(1/127)
(وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ الله بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ(1)
وَالْقَدَرِيَّةِ(2)(3)).
/ش/ قوله: ((وَهُمْ وَسَطٌ…)) إلخ؛ قال الشيخ العلاَّمة محمد بن عبدالعزيز بن مانع في تعليقه على هذه العبارة ما نصه(4):
((اعلم أن الناس اختلفوا في أفعال العباد؛ هل هي مقدورةٌ للرب أم لا؟
فقال جهمٌ وأتباعه ـ وهم الجبرية ـ : إن ذلك الفعل مقدورٌ للرَّب لا للعبد.
وكذلك قال الأشعري وأتباعه: إن المؤثر في المقدور قدرة الرب دون(5) قدرة العبد.
وقال جمهور المعتزلة ـ وهم القدرية؛ أي: نفاة القدر ـ: إن الرب لا يقدر على عين مقدور العبد. واختلفوا: هل يقدر على مثل مقدوره؟ فأثبته البصريون؛ كأبي علي، وأبي هاشم، ونفاه الكعبيُّ وأتباعه البغداديُّون.
وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه منفردٌ بخلق المخلوقات، لا خالق لها سواه.
فالجبرية غلَوْا في إثبات القدر، فنَفَوْا فعل العبد أصلاً.
والمعتزلة نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله، ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة.
وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ، فقالوا: العباد فاعلون، والله خالقهم وخالق أفعالهم؛كما قال تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (6)))اهـ
وإنما نقلنا هذه العبارة بنصها؛ لأنها تلخيصٌ جيِّدٌ لمذاهب المتكلِّمين في القدر وأفعال العباد.
__________
(1) الجبريَّة: هم الجهمية ومن وافقهم؛ القائلون: إن العباد لا إرادة لهم ولا قدرة لهم على فعل الطاعات ولا ترك المنهيات، وهم مجبورون على فعل ذلك كله، وهم نقيض القدرية.
(2) سبق التعريف بهم (ص127).
(3) في المطبوع زيادة: [وغيرهم]، وهي ليست في المخطوط، ولا ((الفتاوى)).
(4) انظر تعليقه على ((الواسطية)) (ص14) من طبعة سعد الراشد بالرياض.
(5) في طبعة الراشد: ((لا))؛ بدل: ((دون)).
(6) الصافات: (96).(1/128)
(وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ((1)[و](2)الْوَعِيدِيَّةِ(3) مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ).
/ش/ قوله: ((وفي باب وعيد الله…)) إلخ؛ يعني: أن أهل السنة والجماعة وسط في باب الوعيد بين المفرِّطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وزعموا أن الإيمان مجرَّد التصديق بالقلب، وإن لم ينطق به، وسُمُّوا بذلك نسبةً إلى الإرجاء؛ أي التأخير؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان.
ولا شكَّ أن الإرجاء بهذا المعنى كفرٌ يخرجُ صاحِبَهُ عن الملَّة؛ فإنه لابد في الإيمان من قولٍ باللسان، واعتقادٍ بالجَنَان، وعملٍ بالأركان، فإذا اختلَّ واحدٌ منها لم يكن الرجل مؤمنًا.
وأمّا الإرجاء الذي نسب إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة؛ كأبي حنيفة وغيره، وهو قولهم: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم مع ذلك يوافقون أهل السنة على أن الله يعذِّب مَن يعذِّب من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم منها بالشفاعة وغيرها، وعلى أنه لا بدّ في الإيمان من نطقٍ باللسان، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة يستحقُّ تاركها الذمَّ والعقاب؛ فهذا النوع من الإرجاء ليس كفرًا، وإن كان قولاً باطلاً مبتَدعًا؛ لإخراجهم الأعمال عن الإيمان.
__________
(1) المرجئة: هم القائلون: الإيمان تصديق بالقلب، ونطق باللسان، والأعمال ليست من الإيمان. والكرّامية منهم يقولون: إن الإيمان هو مجرَّد النطق باللسان، وغلاتهم يقولون: هو تصديق بالقلب فقط،وإن لم ينطق بالشهادتين. وقالوا: لا يضرّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وانظر: (ص182).
(2) في المخطوط: [وبين].
(3) الوعيدية: هم قدرية يقولون بإنفاذ الوعيد، وأن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب؛ فهو مخلَّد في النار. وقالوا: إن الله توعَّد العاصين بالنار والعذاب، وهو لا يخلف الميعاد.(1/129)
وأما الوعيدية؛ فهم القائلون بأن الله يجب عليه عقلاً أن يعذِّب العاصي؛ كما يجب عليه أن يُثيب المطيع، فمن مات على كبيرة ولم يتب منها لا يجوز عندهم أن يَغْفِرَ الله له، ومذهبهم باطلٌ مخالفٌ للكتاب والسنة؛ قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } (1).
وقد استفاضت الأحاديث في خروج عصاة الموحِّدين من النار ودخولهم الجنة.
فمذهب أهل السنة والجماعة وسطٌ بين نفاة الوعيد من المرجئة وبين موجبيه من القدريَّة، فمَن مات على كبيرةٍ عندهم؛ فأمره مفوَّضٌ إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه؛ كما دلَّت عليه الآية السابقة.
وإذا عاقبه بها؛ فإنه لا يخلد خلود الكفار، بل يخرج من النار، ويدخل الجنة.
(وَفِي بَابِ [أَسْمَاءِ](2) الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ(3) وَالْمُعْتَزِلَةِ(4)، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ(5)).
/ش/ قوله: ((وفي باب أسماء الإيمان…)) إلخ؛ كانت مسألة الأسماء والأحكام من أول ماوقع فيه النزاع في الإسلام بين الطوائف المختلفة، وكان للأحداث السياسية والحروب التي جرت بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما في ذلك الحين، وما ترتب عليها من ظهور الخوارج والرافضة والقدريَّة أثر كبير في ذلك النزاع.
والمراد بالأسماء هنا أسماء الدين، مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق… إلخ.
والمراد بالأحكام أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة.
__________
(1) النساء: (48، و116).
(2) ليست في المخطوط.
(3) الحرورية: هم الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه حينما قَبِل التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنه، فنزلوا، واجتمعوا بحروراء ـ وهي بلد قرب الكوفة على ميلين منها ـ، وسُمُّوا بذلك نسبة إليها. وانظر: (ص225).
(4) سبق التعريف بهم (ص125).
(5) سبق التعريف بهم (ص218).(1/130)
فالخوارج الحرورية والمعتزلة ذهبوا إلى أنه لا يستحقُّ اسمَ الإيمان إلاّ مَن صدَّق بجَنانه، وأقرَّ بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميع الكبائر. فمرتكب الكبيرة عندهم لا يسمى مؤمنًا باتفاق بين الفريقين.
ولكنهم اختلفوا: هل يسمَّى كافرًا أو لا؟
فالخوارج يسمونه كافرًا، ويستحلِّون دمه وماله، ولهذا كفَّروا عليًّا ومعاوية وأصحابهما، واستحلُّوا منهم ما يستحلُّون من الكفّار.
وأما المعتزلة؛ فقالوا: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين، وهذا أحد الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال.
واتَّفق الفريقان أيضًا على أن مَن مات على كبيرة ولم يتب منها فهو مخلَّد في النار.
فوقع الاتفاق بينهما في أمرين:
1- نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة.
2- خلوده في النار مع الكفّار.
ووقع الخلاف أيضًا في موضعين:
أحدهما: تسميته كافرًا.
والثاني: استحلال دمه وماله، وهو الحكم الدنيوي.
وأما المرجئة؛ فقد سبق بيان مذهبهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان معصية؛ فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمنٌ كامل الإيمان، ولا يستحقُّ دخول النار.
فمذهب أهل السنة والجماعة وسطٌ بين هذين المذهبين؛ فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمنٌ ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً؛ كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون بأنه كامل الإيمان؛ كالمرجئة والجهمية. وحكمه في الآخرة عندهم أنه قد يعفو الله عز وجل عنه فيدخل الجنة ابتداءً، أو يعذِّبه بقدر معصيته، ثم يخرجه ويدخله الجنة كما سبق، وهذا الحكم أيضًا وسط بين مَن يقول بخلوده في النار، وبين مَن يقول: إنه لا يستحق على المعصية عقابًا.(1/131)
(وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ( بَيْنَ [الرَّافِضَةِ](1)[و](2) الْخَوَارِجِ)(3).
/ش/ قوله: ((وفي أصحاب رسول الله…)) إلخ. المعروف أن الرافضة ـ قبَّحهم الله ـ يسبون الصحابة رضي الله عنهم، ويلعنونهم، وربما كفَّروهم أو كفَّروا بعضهم، والغالبية منهم ـ مع سبهم لكثير من الصحابة والخلفاء ـ يغلون في عليٍّ وأولاده، ويعتقدون فيهم الإلهية.
وقد ظهر هؤلاء في حياة عليٍّ رضي الله عنه بزعامة عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًّا وأسلم وأراد أن يكيد للإسلام وأهله؛ كما كاد اليهود من قبل للنصرانية وأفسدوها على أهلها، وقد حرَّقهم علي بالنار لإطفاء فتنتهم، وروي عنه في ذلك قوله:
لَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا
أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَرًا(4)
__________
(1) في المخطوط: [الروافض]، وكذا في ((الفتاوى)).
(2) في المخطوط: [وبين].
(3) الرَّافضة: هم غلاة فرق الشيعة الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين لما تولَّى أبا بكر وعمر، فخذلوه بالكوفة كما خذلوا جده من قبل.
... وأما الخوارج فهم الحرورية، وقد سبق التعريف بهم (ص223).
(4) ورد هذا الخبر بسند حسَّنه الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (12/270)، وخبر الإحراق ثابت في ((صحيح البخاري)) عن عكرمة، قال: ... ... ... ...
... ((أُتِي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة، فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس؛ فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله (: ((لا تُعَذِّبوا بعذاب الله))، ولقتلتهم؛ لقول رسول الله (: ((من بدَّل دينه فاقتلوه)). ((الفتح)) (12/267)، (كتاب: استتابة المرتدين/باب: حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم)).
... وممن روى ذلك: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم.
... وانظر في ذلك بحثًا قيِّمًا في كتاب ((عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام)) (ص214) لسليمان العودة.(1/132)
وأما الخوارج؛ فقد قابلوا هؤلاء الروافض، فكفَّروا عليًّا ومعاوية ومَن معهما من الصحابة، وقاتلوهم واستحلُّوا دماءهم وأموالهم.
وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطًا بين غلوِّ هؤلاء وتقصير أولئك، وهداهم الله إلى الاعتراف بفضل أصحاب نبيِّهم، وأنهم أكمل هذه الأمة إيمانًا وإسلامًا وعلمًا وحكمةً، ولكنهم لم يغلوا فيهم، ولم يعتقدوا عصمتهم؛ بل قاموا بحقوقهم، وأحبُّوهم لعظيم سابقتهم وحسن بلائهم في نصرة الإسلام وجهادهم مع رسول الله (.
(فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ(1) عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ:
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (2).
__________
(1) هذه اللفظة هي التي أثبتها الأنصاري في طبعة الإفتاء، وقال: إنه وجدها في عدة نسخ من العقيدة الواسطية، وأثبتها كذلك زهير الشاويش في طبعته (ص35)؛ وهي المثبتة في ((الفتاوى))، بدل كلمة ((بائن)) المثبتة في طبعة الجامعة الإسلامية، والإفتاء، وطبعة دار طيبة بتعليق: عبد الله الشريف، وقد سقطت من المخطوط.
(2) الحديد: (4).(1/133)
وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: { وَهُوَ مَعَكُمْ } أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ(1)، اللُّغَةُ(2)، بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ [عَلَيْهِم](3)… إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ.
وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ ـ مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا ـ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: { في السَّمَاء } ؛ أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ).
__________
(1) في طبعة الجامعة الإسلامية: ((لا توجهه)).
(2) زاد في المخطوط: [وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، وهي مثبتة أيضًا في الفتاوى]. وفي طبعتي الشاويش والشريف، ولكنها ليست في الطبعة المشروحة.
(3) في المخطوط: [إليهم]، وكذا في ((الفتاوى)).(1/134)
/ش/ قوله: ((وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان…)) إلخ. صرَّح المؤلِّف هنا بمسألة علوِّ الله تعالى واستوائه على عرشه بائنًا من خلقه؛ كما أخبر الله عن ذلك في كتابه، وكما تواتر الخبر بذلك عن رسوله، وكما أجمع عليه سلف الأمة الذين هم أكملها علمًا وإيمانًا، مؤكِّدًا بذلك ما سبق أن ذكره في هذا الصدد، ومشدِّدًا النكير على مَن أنكر ذلك من الجهمية والمعتزلة ومَن تبعهم من الأشاعرة.
ثم بَيَّنَ أن استواءه على عرشه لا ينافي معيَّته وقربه من خلقه؛ فإن المعيَّة ليس معناها الاختلاط والمجاورة الحسيَّة.
وضرب لذلك مثلاً بالقمر الذي هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغيره أينما كان؛ بظهوره واتصال نوره، فإذا جاز هذا بالنسبة للقمر، وهو من أصغر مخلوقات الله؛ أفلا يجوز بالنسبة إلى اللطيف الخبير الذي أحاط بعباده علمًا وقدرة، والذي هو شهيدٌ مطَّلع عليهم, يسمعهم، ويراهم، ويعلم سرَّهم ونجواهم، بل العالم كله سماواته وأرضه من العرش إلى الفرش كله بين يديه سبحانه؛ كأنه بندقةٌ(1) في يد أحدنا؛ أفلا يجوز لمن هذا شأنه أن يقال: إنه مع خلقه مع كونه عاليًا عليهم بائنًا منهم فوق عرشه؟!
__________
(1) روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ((ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)). انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص281).(1/135)
بلى؛ يجب الإيمان بكلٍّ من علوِّه تعالى ومعيِّته، واعتقاده أن ذلك كله حقٌّ على حقيقته، من غير أن يُساء فهم ذلك، أو يُحمل على معانٍ فاسدة؛ كأن يُفْهَمَ من قوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ } معيَّةَ الاختلاط والامتزاج؛ كما يزعمه الحلولية(1)! أو يفهم من قوله: { في السَّمَاء } أن السماء ظرفٌ حاوٍ له محيطٌ به! كيف وقد وسع كرسيُّه السموات والأرض جميعًا؟! وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؟!
فسبحان مَن لا يبلغه وهم الواهمين، ولا تدركه أفهام العالمين.
(فَصْلٌ: وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ(2) مُجِيبٌ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ في قَوْلُِهُِ: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... } الآيَة(3)،
وَقَوْلُهُ (: ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِّن عُنقِ رَاحِلَتِهِ))(4).
وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ).
/ش/ قوله: ((وقد دخل في ذلك(5) الإيمان…)) إلخ. يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه من أنه قريبٌ مجيبٌ، فهو سبحانه قريبٌ ممَّن يدعوه ويناجيه، يسمع دعاءه ونجواه، ويجيب دعاءه متى شاء وكيف شاء، فهو تعالى قريبٌ قربَ العلم والإحاطة؛ كما قال تعالى:
__________
(1) الحلولية: هم الذين قالوا: إن الله تعالى حلَّ في أشخاص بأعيانهم ـ تعالى الله عمّا يقولون ـ وهم من غلاة المشبهة.
(2) في المخطوط والفتاوى: [قريبٌ من خلقه].
(3) البقرة: (186)، وتتمة الآية: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } .
(4) صحيح). سبق تخريجه (ص153).
(5) أي: الإيمان بالله.(1/136)
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } (1).
وبهذا يتبيَّن أنه لا منافاة أصلاً بين ما ذُكر في الكتاب والسنة من قربه تعالى ومعيَّته وبين ما فيهما من علوِّه تعالى وفوقيَّته.
فهذه كلها نعوتٌ له على ما يليق به سبحانه، ليس كمثله شيءٌ في شيءٍ منها.
(وَمِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَكُتُبِهِ الإيمانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ ( هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً، لاَ كَلامَ غَيْرِهِ.
وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلاَمِ اللهِ، أَوْ عِبَارَةٌ، بَلْ إِذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْكَلاَمَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لاَ إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا.
وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُرُوفُهُ، ومَعَانِيهِ، لَيْسَ كَلامُ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي، وَلاَ الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ).
/ش/ قوله: ((ومن الإيمان بالله وكتبه…)) إلخ. جعل المصنِّف الإيمان بأن القرآن كلام الله داخلاً في الإيمان بالله؛ لأنه صفةٌ من صفاته، فلا يتمُّ الإيمان به سبحانه إلا بها، إذ الكلام لا يكون إلا صفةً للمتكلِّم، والله سبحانه موصوفٌ بأنه متكلِّم بما شاء متى شاء، وأنه لم يزل ولا يزال يتكلَّم؛ بمعنى أن نوع كلامه قديمٌ وإن كانت آحاده لا تزال تقع شيئًا بعد شيءٍ بحسب حكمته.
__________
(1) ق: (16).(1/137)
وقد قلنا فيما سبق: إن الإضافة في قولنا: القرآن كلام الله؛ هي من إضافة الصفة للموصوف، فتفيد أن القرآن صفة الرب سبحانه، وأنه تكلم به حقيقة بألفاظه ومعانيه، بصوت نفسه.
فمن زعم أن القرآن مخلوقٌ من المعتزلة؛ فقد أعظم الفِرية على الله، ونفى كلام الله عن الله وصفًا، وجعله وصفًا لمخلوق، وكان أيضًا متجنِّيًا على اللغة، فليس فيها متكلِّم بمعنى خالق للكلام.
ومَن زعم أن القرآن الموجود بيننا حكاية عن كلام الله؛ كما تقوله الكُلاَّبية، أو أنه عبارة عنه؛ كما تقوله الأشعرية؛ فقد قال بنصف قول المعتزلة؛ حيث فرَّق بين الألفاظ والمعاني، فجعل الألفاظ مخلوقة، والمعاني عبارة عن الصفة القديمة؛ كما أنه ضاهى النصارى في قولهم بحلول اللاهوت ـ وهو الكلمة ـ في الناسوت ـ وهو جسد عيسى عليه السلام ـ؛ إذ قال بحلول المعاني التي هي الصفة القديمة في هذه الألفاظ المخلوقة، فجعل الألفاظ ناسوتًا لها.
والقرآن كلام الله؛ حيث تصرَّف، فمهما كتبناه في المصاحف، أو تلوناه بالألسنة؛ لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله؛ لأن الكلام ـ كما قال المصنّف ـ إنما يضاف إلى مَن قاله مبتدئًا؛ لا إلى مَن قاله مبلِّغًا مؤدِّيًا.
وأما معنى قول السلف: ((منه بدأ وإليه يعود))؛ فهو من البدء؛ يعني: أن الله هو الذي تكلَّم به ابتداء، لم يُبْتَدَأْ من غيره، ويحتمل أن يكون من البُدُو؛ بمعنى الظهور؛ يعني أنه هو الذي تكلَّم به وظهر منه، لم يظهر من غيره.
ومعنى: ((إليه يعود))؛ أي: يرجع إليه وصفًا؛ لأنه وصفه القائم به، وقيل: معناه يعود إليه في آخر الزمان، حين يرفع من المصاحف والصدور؛ كما ورد في أشراط الساعة(1)
__________
(1) يشير إلى ما رواه ابن ماجه (2/1344)، والحاكم في ((المستدرك)) (4/473 و5450)؛ عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا:
... ((يَدْرُس الإسلام كما يدرس وَشْيُ الثوب؛ حتى لا يُدْرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ولَيُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز؛ يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: (لا إله إلا الله)؛ فنحن نقولها))؛ صححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني.
... انظر: ((السلسلة الصحيحة)) (87).
... ويدرس؛ يعني: ينقرض. ووشي الثوب: نقشه.
... قال الألباني تعليقًا على الحديث:
... ((وذلك لا يكون قطعًا إلا بعد أن يسيطر الإسلام على الكرة الأرضية جميعها، وتكون كلمته هي العليا)).(1/138)
.
وأما كون الإيمان بأن القرآن كلام الله داخلاً في الإيمان بالكتب؛ فإن الإيمان بها إيمانًا صحيحًا يقتضي إيمان العبد بأن الله تكلَّم بها بألفاظها ومعانيها، وأنها جميعًا كلامه هو؛ لا كلام غيره، فهو الذي تكلَّم بالتوراة بالعبرانية، وبالإنجيل بالسريانية، وبالقرآن بلسان عربيٍّ مبين.
(وَقَد دَّخَلَ أيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلاَئِكَتَهِ وَبِرُسُلِهِ:
الإيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ [بِهَا](1) سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لاَ يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ.
يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهَ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ كَمَا يَشَاءُ اللهُ تَعَالَى).
/ش/ قوله: ((وقد دخل أيضًا فيما ذكرناه…)) إلخ؛ تقدم الكلام على رؤية المؤمنين لربِّهم عز وجل في الجنة؛ كما دلّت على ذلك الآيات والأحاديث الصريحة، فلا حاجة بنا إلى إعادة الكلام فيها.
غير أن قوله: ((يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة)) قد يوهم أن هذه الرؤية أيضًا خاصة بالمؤمنين، ولكن الحق أنها عامَّة لجميع أهل الموقف؛ حين يجيء الرب لفصل القضاء بينهم(2)؛ كما يدل عليه قوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } (3) الآية.
والعَرَصَات: جمع عَرَصة، وهي كل موضع واسع لا بناء فيه.
__________
(1) في المخطوط: [دونها]، وكذا في ((الفتاوى)).
(2) انظر: رسالة شيخ الإسلام لأهل البحرين في رؤية الكفار ربهم من ((المجموع)) (6/485-507)، فقد فصَّل فيها الشيخ رحمه الله، وفي الرسالة فوائد تربوية عظيمة.
... وانظر الفصل الثالث من كتاب ((دلالة القرآن والأثر على رؤية الله تعالى بالبصر)) للأستاذ عبد العزيز الرومي.
(3) البقرة: (210).(1/139)
(فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ.
فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ [يُمْتَحَنُونَ](1) فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرِّجُلِ: مَن رَّبُكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَ[مَن](2) نَّبِيُّك؟
فيُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: [رَبِّيَ اللهُ](3)، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيِّي.
وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصَعِقَ(4).
ثُمَّ بَعْدَ هّذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ).
__________
(1) في المخطوط: [يفتنون]، وكذا في ((الفتاوى)).
(2) في طبعة الإفتاء والجامعة الإسلامية: [ما]، والذي أثبتُّه هو الصحيح، وهو المثبت في المخطوط و((الفتاوى)).
(3) في المخطوط: [الله ربي]، وكذا في ((الفتاوى)).
(4) يشير لما رواه البخاري في الجنائز، (باب: ما جاء في عذاب القبر) (3/232-فتح)، ومسلم في الجنة، (باب: عرض مقعد الميت من الجنة والنار)(17/208-نووي)، والنسائي في الجنائز، (باب: مسألة الكافر)(4/197-أبو غدة)، والإمام أحمد؛ بألفاظ مختلفة.(1/140)
/ش/ قوله: ((ومن الإيمان باليوم الآخر…)) إلخ؛ إذا كان الإيمان باليوم الآخر أحد الأركان الستة التي يقوم عليها الإيمان؛ فإن الإيمان به إيمانًا تامًّا كاملاً لا يتحقق إلاّ إذا آمن العبد بكل ما أخبر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من أمور الغيب التي تكون بعد الموت.
والضابط في ذلك أنها أمورٌ ممكنةٌ أخبر بها الصادق صلوات الله عليه وسلامه وآلِه، وكل ممكن أخبر به الصادق يجب الإيمان بوقوعه كما أخبر؛ فإن هذه الأمور لا تستفاد إلا من خبر الرسول، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كله.
وأما أهل المروق والإلحاد من الفلاسفة والمعتزلة؛ فينكرون هذه الأمور؛ من سؤال القبر، ومن نعيم القبر، وعذابه، والصراط، والميزان، وغير ذلك؛ بدعوى أنها لم تثبت بالعقل، والعقل عندهم هو الحاكم الأوَّل الذي لا يجوز الإيمان بشيء إلاَّ عن طريقه، وهم يردُّون الأحاديث الواردة في هذه الأمور بدعوى أنها أحاديث آحاد لا تُقبل في باب الاعتقاد، وأما الآيات، فيؤوِّلونها بما يصرفها عن معانيها.
والإضافة في قوله: ((بفتنة القبر)) على معنى في؛ أي: بالفتنة التي تكون في القبر.
وأصل الفتنة وضع الذّهب ونحوه على النار لتخليصه من الأوضار والعناصر الغريبة، ثم استُعْمِلَتْ في الاختبار والامتحان.
وأما عذاب القبر ونعيمه؛ فيدل عليه قوله تعالى في حقِّ آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } (1)، وقوله سبحانه عن قوم نوح: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } (2)، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار))(3)
__________
(1) غافر: (46).
(2) نوح: (25).
(3) ضعيف). رواه الترمذي في صفة القيامة (7/160-تحفة)، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/46): ((رواه الطبراني في ((الأوسط))، وفيه محمد بن أيوب بن سويد، وهو ضعيف)). اهـ
... وقال ابن حجر في ((تخريج الكشاف)) (ص35)(رقم291): ((رواه الترمذي من حديث أبي سعيد، وهو ضعيف)). اهـ
... وقد ضعّفه من قبله شيخ العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/302).
... وضعّف إسناده كلٌّ من السخاوي في ((المقاصد الحسنة)) (ص302 رقم758)، والهندي في ((تذكرة الموضوعات)) (ص216).
... والحديث ضعَّفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (1231)، والأرناؤوط في ((جامع الأصول)) (8696).(1/141)
.
والمِرْزَبَة ـ بالتخفيف ـ: المطرقة الكبيرة، ويقال لها أيضًا: إِرْزَبَّة؛ بالهمزة والتشديد.
(وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ.
فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ.
فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ، { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } (1).
وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } (2)).
/ش/ قوله: ((وتقوم القيامة..)) إلخ؛ يعني: القيامة الكبرى، وهذا الوصف للتخصيص، احترز به عن القيامة الصغرى التي تكون عند الموت؛ كما في الخبر:
((من مات فقد قامت قيامته))(3)
__________
(1) المؤمنون: (102، 103).
(2) الإسراء: (13، 14).
(3) ضعيف مرفوعًا). ضعّفه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/64)، وعزاه لابن أبي الدنيا في كتاب ((الموت))؛ من حديث انس.
... ووافقه الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (1166).
... وقال مؤلف ((تبييض الصحيفة)) (ص128):
... ((روى الدولابي في الكنى والأسماء)) (2/89) عن المغيرة؛ قال: ((يقولون القيامة، القيامة، وإنما قيامة أحدكم موته))، وإسناده حسن)). اهـ.
... ثم ذكر رواية عن عمر بن عبد العزيز في ((الحلية)) (5/325) أنه قال:
... ((فإنه مَن وافته منيته؛ فقد قامت قيامته)).
... وصحَّح إسناده.(1/142)
.
وذلك أن الله عز وجل إذا أذن بانقضاء هذه الدنيا؛ أمر إسرافيل عليه السلام أن ينفخ في الصور النفخة الأولى، فيَصْعَقُ كل من في السموات ومن في الأرض إلا مَن شاء الله، وتصبح الأرض صعيدًا جُرُزًا، والجبال كثيبًا مهيلاً، ويحدث كل ما أخبر الله به في كتابه، لا سيما في سورتي التكوير والانفطار، وهذا هو آخر أيام الدنيا.
ثم يأمر الله السماء، فتمطر مطرًا كمنيِّ الرجال أربعين يومًا، فينبت منه الناس في قبورهم من عَجْبِ أذنابهم، وكل ابن آدم يبلى إلاَّ عجب الذنب(1).
حتى إذا تمَّ خلقُهُم وتركيبُهم؛ أمر الله إسرافيل بأن ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس من الأجداث أحياء، فيقول الكفّار والمنافقون حينئذ: ( يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا( ، ويقول المؤمنون: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( (2).
ثم تحشرهم الملائكة إلى الموقف حفاةً غير مُنْتَعلين، عُراةً غير مكتسين، غُرلاً غير مختتنين؛ جمع أغرل، وهو الأقلف، والغُرلة: القَلَفة.
__________
(1) يشير لما رواه البخاري في ((التفسير)) (باب: { وَنُفِخَ فِي الصُّور } ِ )(8/551-فتح)، ومسلم في الفتن، (باب: ما بين النفختين)(18/303-نووي)، وأبو داود، والنسائي؛ من حديث أبي هريرة بألفاظ متقاربة.
... و(العَجْب) ـ بفتح العين ـ: هو العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع.
... وتشبيه المطر بمني الرجال ورد في حديث ضعيف. انظر: ((الطحاوية)) (ص410-تخريج الألباني). وتقييده بأربعين يومًا ورد في حديث ضعيف أيضًا. انظر: ((البعث)) لابن أبي داود - تخريج الحُوَيني (ص79).
... والذي ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ((ما بين النفختين أربعون))، وأبَى أبوهريرة أن يحدِّدها بيوم أو شهر أو سنة. والله أعلم.
(2) يس: (52).(1/143)
وأول من يكتسي يوم القيامة إبراهيم؛ كما في الحديث(1).
وهناك في الموقف تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ويُلْجِمُهم العرق، فمنهم مَن يبلغ كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم مَن يبلغ ثدييه، ومنهم من يبلغ ترقوته؛ كلٌّ على قدر عمله، ويكون أناسٌ في ظلِّ الله عزّ وجلّ.
فإذا اشتدَّ بهم الأمر، وعظُمَ الكرب؛ استشفعوا إلى الله عزّ وجلّ بالرسل والأنبياء أن ينقذهم مما هم فيه، وكلُّ رسولٍ يحيلهم على مَن بعده؛ حتى يأتوا نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: ((أنا لها))، ويشفع فيهم، فينصرفون إلى فصل القضاء.
وهناك تُنْصَبُ الموازين، فتوزَنُ بها أعمال العباد، وهي موازين حقيقية ، كل ميزان منها له لسانٌ وكفَّتان ، ويقلِبُ الله أعمال العباد ـ وهي أعراضٌ ـ أجسامًا؛ لها ثقلٌ، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة؛ كما قال تعالى:
{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (2).
ثم تُنْشَر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، فأما مَن أُوتي كتابه بيمينه؛ فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا، وينقلب إلى أهله مسرورًا، [وأما من أوتي كتابه بشماله أو من وراء ظهره](3)، فسوف يدعو ثبورًا، ويصلى سعيرًا، ويقول: يا ليتني لم أوتَ كتابيه، ولم أدرِ ما حسابيه؛ قال تعالى:
__________
(1) يشير إلى حديث ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
... ((إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل)).
... رواه البخاري في الرقاق، (باب: الحشر) (11/377-فتح).
(2) الأنبياء: (47).
(3) الأولى أن يقول: ((وأما مَن أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره]؛ كما قال ابن كثير وغيره؛ أنه يُعطى كتابه بشماله من وراء ظهره، تُثنَى يده إلى ورائه، ويُعطى بها.
... انظر: ((تفسير ابن كثير))، سورة الانشقاق، آية (10).(1/144)
{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } (1).
وأما قوله تعالى: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } ؛ فقد قال الراغب:
((أي: عمله الذي طار عنه من خيرٍ وشرٍّ))(2).
ولكن الظاهر أن المراد بالطائر هنا نصيبه في هذه الدنيا، وما كُتِب له فيها من رزق وعمل(3)؛ كما في قوله تعالى:
{ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } (4).
يعني: ما كُتِبَ عليهم فيه.
(وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا(5)).
/ش/ قوله: ((ويحاسب الله الخلائقَ…)) إلخ؛ المراد بتلك المحاسبة تذكيرهم وإنباؤهم بما قدَّموه من خير وشرٍّ أحصَاه الله ونسوه؛ قال تعالى:
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } (6).
وفي الحديث الصحيح:
((مَن نوقِشَ الحساب عُذِّب)).
__________
(1) الكهف: (49).
(2) وهذا الذي رجحه ابن كثير في تفسير الآية.
(3) انظر: ((زاد المسير)) (5/15)، وقد ذكر لمعنى الآية أربعة أقوال، وهذا الذي رجَّحه الشارح هنا نسبه ابن الجوزي لأبي عبيدة وابن قتيبة.
(4) الأعراف: (37).
(5) زاد في المخطوط، و((الفتاوى)): [وَيُخْزَونَ بها]، وفي طبعة الشاويش: [ويُجْزَوْنَ بها]؛ بالجيم.
(6) الأنعام: (108).(1/145)
فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! أوليس الله يقول: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ْ } ؟
فقال: ((إنَّما ذلك العرض، ولكن مَن نوقش الحساب يهلك))(1).
وأما قوله: ((ويخلو بعبده المؤمن))؛ فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الله عز وجل يُدني منه عبده المؤمن، فيضع عليه كَنَفَه، ويحاسبه فيما بينه وبينه، ويقرِّره بذنوبه، فيقول: ألم تفعل كذا يوم كذا؟ ألم تفعل كذا يوم كذا؟ حتى إذا قرَّره بذنوبه، وأيقن أنه قد هلك؛ قال له: سترتُها عليك في الدِّنيا وأنا أغفرها لك اليوم(2).
وأما قوله: ((فإنه لا حسنات لهم))؛ يعني: الكفار؛ لقوله تعالى:
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } (3)،
وقوله: { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ } (4).
والصحيح [أن](5) أعمال الخير التي يعملها الكافر يجازى بها في الدنيا فقط، حتى إذا جاء يوم القيامة وجد صحيفة حسناته بيضاء.
وقيل: يخفَّف بها عنه من عذاب غير الكفر.
__________
(1) رواه البخاري في العلم، (باب: من سمع شيئًا فراجعه حتى يعرفه)(1/197-فتح)، وفي التفسير، وفي الرقاق، ومسلم في الجنة، (باب: إثبات الحساب)(17/213-نووي)، وأبوداود، والترمذي.
(2) رواه البخاري في المظالم ، ( باب: قول الله تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } ) (5/96-فتح)، وفي تفسير سورة هود، وفي الأدب، وفي التوحيد، ومسلم في التوبة، (باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله)(17/93-نووي).
(3) الفرقان: (23).
(4) إبراهيم: (18).
(5) لفظة يقتضيها السياق، ليست في الأصل؛ كما ذكر ذلك الأنصاري في طبعة الإفتاء.(1/146)
(وَفِي [عَرَصَاتِ](1) الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا(2)).
/ش/ وأما قوله: ((في عَرَصَات القيامة…))؛ فإن الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حدَّ التواتر، رواها من الصحابة بضعٌ وثلاثون صحابيًّا(3)، فمَن أنكره؛ فأَخْلِق به أن يُحالَ بينه وبين وروده يوم العطش الأكبر، وقد ورد في أحاديث:
((إن لكل نبيٍّ حوضًا))(4).
__________
(1) في المخطوط و((الفتاوى)): [عَرَصَة]؛ بالإفراد.
(2) يشير إلى ما رواه البخاري في الرقاق، (باب: في الحوض)(11/463-فتح)، ومسلم في الفضائل، (باب: إثبات حوض نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -)(15/60، 67، 68-نووي).
(3) ذكر ذلك الحافظ في ((الفتح)) (11/467)،، وقال: ((منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك)).
(4) حسن أو صحيح). روى الترمذي في صفة القيامة، (باب ما جاء في صفة الحوض)(7/133-تحفة) عن الحسن عن سمرة مرفوعًا:
... ((إن لكل نبيٍّ حوضًا، وإنهم يتباهَوْن أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة)).
... والحديث رواه الطبراني في ((الكبير)) (7/256)، والبخاري في ((التاريخ)) (1/44)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (734)؛ كلهم من طريق الحسن عن سمرة.
... وفي سماع الحسن من سمرة خلاف، والحسن البصري مدلِّس، ولم يصرِّح هنا بالسماع.
... إلا أن للحديث شواهد كثيرة؛ لذا قال الألباني في ((الصحيحة)) (1589):
... ((وجملة القول: أن الحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح)). أهـ
... وانظر: ((الفتح)) (11/467).
... (فائدة): عن سماع الحسن من سَمُرة. انظر: ((المعجم الكبير)) للطبراني (7/231-236-هامش)؛ ففيه تفصيلٌ جيِّد.(1/147)
ولكن حوض نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - أعظمها وأحلاها وأكثرها واردًا.
جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.
(وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ [عَلَيْهِ](1) عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِم
ْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِم مِّن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ(2)).
/ش/ قوله: ((والصراط منصوبٌ…)) إلخ. أصل الصراط الطريق الواسع؛ قيل: سمي بذلك لأنه يسترط السابلة؛ أي: يبتلعهم إذا سلكوه، وقد يستعمل في الطريق المعنوي؛ كما في قوله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } (3).
__________
(1) زيادة من المخطوط مثبتة في ((الفتاوى)) ايضًا.
(2) روى البخاري نحوه في الرقاق، (باب: الصراط جسر جهنم)(11/444-فتح).
(3) الأنعام: (153).(1/148)
والصراط الأخروي الذي هو الجسر الممدود على ظهر جهنَّم بين الجنة والنار(1) حقٌّ لا ريب فيه؛ لورود خبر الصادق به، ومَن استقام على صراط الله الذي هو دينه الحق في الدنيا استقام على هذا الصراط في الآخرة، وقد ورد في وصفه أنه: ((أدق من الشعرة، وأحدُّ من السيف))(2)
__________
(1) لم أجد في السنة ما يثبت أنه بين الجنة والنار،والذي ثبت أنه بين ظهراني جهنم. انظر: ((الفتح)) (13/419، 2/292).
(2) لم يصحَّ مرفوعًا). لذلك قال البيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/247):
... ((وهذا اللفظ من الحديث لم أجده في الروايات الصحيحة)). اهـ
... ولكن روى مسلم في ((صحيحه)) في الإيمان، (باب: معرفة طريق الرؤية)(3/36-نووي) عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال:
... ((قلنا: يا رسول الله! أنرى ربنا؟..)).
... إلى أن قال:
... ((قال أبو سعيد: بلغني أن الجسر أدقُّ من الشعرة، وأحد من السيف)).
... ورواه ابن منده في ((كتاب الإيمان)) (2/802) بتمامه وبالسند نفسه، ولكن قال: ((قال سعيد بن أبي هلال: بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف)).
... وقد وصله البيهقي في ((شعب الإيمان)) (2/246) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه سعيد بن زربى ويزيد الرقاشي، وهما ضعيفان؛ لذا قال الحافظ في ((الفتح)) (11/454):
... ((وفي سنده لين)).
... وروي ايضًا عن زياد النُّمَيْري عن أنس مرفوعًا.
... وزياد ضعيف؛ لذا قال البيهقي في ((الشعب)) (2/248):
... ((وهي أيضًا رواية ضعيفة (2/248).
... ومن عجائب التصحيف أنها تصحَّفت في ((كشف الخفاء)) (2/24-رقم1599) إلى: ((وهي أيضًا رواية صحيحة))!!
... وروي عن عبيد بن عمير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وكذا عن سعيد بن أبي هلال رواية أخرى مرسلة أو معضلة.
... انظر: ((الفتح)) (11/454).
... ولكن صحَّ عن ابن مسعود موقوفًا عليه أنه قال:
... ((والصراط كحد السيف، دحضٌ مزلةٌِ)).
... أخرجه الحاكم (2/276). انظر ((الطحاوية)) (ص415-تخريج الألباني).
... كما صحّ وصفه أنه كحد الموسى من حديث سلمان مرفوعًا:
... ((… ويوضع الصراط مثل حد الموسي)).
... أخرجه الحاكم (4/586)، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) (941).(1/149)
.
(وَأَوَّلُ مَن يَّسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَوَّلُ مَن يَّدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ).
/ش/ قوله: ((وأوّل من يستفتح باب الجنة محمّد - صلى الله عليه وسلم -))؛ يعني: أول من يحرك حلقها طالبًا أن يُفْتَح له بابها؛ كما قال عليه السلام:
((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مَن تنشقُّ عَنه الأرض ولا فخر، وأنا أوَّل من يحرِّك حلَق الجنة، فأدخلها ويدخلها معي فقراء أمَّتي))(1).
يعني: بعد دخول الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكون فقراء هذه الأمة أول الناس دخولاً الجنة.
(وَلَه - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:
__________
(1) إسناده ضعيف). رواه الترمذي في المناقب (10/84-تحفة) عن ابن عباس، وفي سنده زمعة بن صالح، وهو ضعيف. وقال الترمذي: ((هذا حديث غريب)). انظر: ((جامع الأصول)) (3624)، و((ضعيف الجامع)) (4077).
... لكن يشهد لأوله أحاديث أخرى: منها حديث: ((أنا أكثر الأنبياء تبعًا، وأنا أول مَن يقرع باب الجنة))، وحديث: ((آتي باب الجنة يوم القيامة، فاستفتح، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرتُ، لا أفتح لأحد قبلك))؛ رواهما مسلم في الإيمان، (باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا أول الناس يشفع في الجنة)(3/72-نووي).
... ويشهد لوسطه حديث أنس مرفوعًا: ((أنا أوّل مَن يأخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها))؛ رواه أحمد والترمذي والدارمي وغيرهم. انظر: ((السلسلة الصحيحة)) (4/97).
ويشهد لآخره ما رواه أحمد وابن ماجه والترمذي واللفظ له من رواية أبي هريرة: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مئة عام)). انظر:((صحيح الترمذي)) (2/275).(1/150)
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى؛ فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى ابْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَّدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ؛ فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَّخْرُجَ مِنْهَا.
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ)(1).
/ش/ وأما قوله: ((وله - صلى الله عليه وسلم - في القيامة ثلاث شفاعات))؛ فأصل الشفاعة من قولنا: شفع كذا بكذا إذا ضمّه إليه، وسمي الشافع شافعًا لأنه يضمُّ طلبه ورجاءه إلى طلب المشفوع له.
والشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال تعالى:
{ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }
فنفي الشفاعة بلا إذن إثباتٌ للشفاعة من بعد الإذن.
قال تعالى عن الملائكة:
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } (2).
__________
(1) عن الشفاعة انظر كتاب ((الشفاعة عند أهل السنة والرد على المخالفين فيها)) للدكتور ناصر الجديع ، وكتاب ((القيامة الكبرى)) للشيخ عمر الأشقر (ص173-191).
(2) النجم: (26).(1/151)
فبيَّن الله الشفاعة الصحيحة، وهي التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله وعمله.
وأما ما يتمسَّك به الخوارج والمعتزلة في نفي الشفاعة من مثل قوله تعالى: { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } (1)، { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } (2)، { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } (3).. إلخ؛ فإن الشفاعة المنفيَّة هنا هي الشفاعة في أهل الشرك، وكذلك الشفاعة الشركية التي يثبتها المشركون لأصنامهم، ويثبتها النصارى للمسيح والرهبان، وهي التي تكون بغير إذن الله ورضاه.
وأما قوله: ((أما الشفاعة الأولى؛ فيشفع في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم))؛ فهذه هي الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به النبيُّون، والذي وعده الله أن يبعثه إياه بقوله:
{ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } (4).
يعني: يحمده عليه أهل الموقف جميعًا.
وقد أمرنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعنا النداء أن نقول بعد الصلاة عليه:
((اللهم ربَّ هذه الدعوة التَّامَّة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه))(5).
وأما قوله: ((وأما الشفاعة الثانية؛ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة))؛ يعني: أنهم ـ وقد استحقُّوا دخول الجنة ـ لا يؤذن لهم بدخولها إلا بعد شفاعته(6)
__________
(1) المدثر: (48).
(2) البقرة: (123).
(3) الشعراء: (100).
(4) الإسراء: (79).
(5) رواه البخاري في الأذان، (باب: الدعاء عند النداء)(2/94-فتح)، وفي تفسير سورة الإسراء، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
(6) صحيح). لما رواه مسلم في الإيمان، (باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها)(3/70-نووي)، عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما مرفوعًا:
... ((يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تُزْلَفَ لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا…)).
... ثم ذكر في الحديث إتيانَهم إبراهيم وموسى وعيسى… إلى أن قال:
... ((فيأتون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فيقوم، فيؤذن له)).(1/152)
.
وأما قوله: ((وهاتان الشفاعتان خاصَّتان له))؛ يعني: الشفاعة في أهل الموقف، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوها.
وتنضمُّ إليهما ثالثة، وهي شفاعته في تخفيف العذاب عن بعض المشركين؛ كما في شفاعته لعمه أبي طالب، فيكون في ضحضاح من نار؛ كما ورد بذلك الحديث(1).
وأما قوله: ((وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحقَّ النار…)) إلخ. وهذه هي الشفاعة التي ينكرها الخوارج والمعتزلة؛ فإن مذهبهم أن مَن استحقَّ النار؛ لا بدَّ أن يدخُلَها، ومن دخلها؛ لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها.
والأحاديث المستفيضة المتواترة تردُّ على زعمهم وتبطله(2).
(وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ
، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ).
__________
(1) من ذلك ما رواه البخاري في مناقب الأنصار، (باب: قصة أبي طالب)(7/193-فتح)، وفي الرقاق، ومسلم في الإيمان، (باب: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب)(3/85-نووي) عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ وذكر عنده عمه أبو طالب ـ فقال:
... ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة…)) الحديث.
(2) منها ما رواه البخاري في الرقاق، (باب: صفة الجنة والنار)(11/418-فتح)، عن عمران بن حصين مرفوعًا:
... ((يخرج قومٌ من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنَّميين)).(1/153)
/ش/ وأما قوله: ((وأصناف ما تضمَّنَتْهُ الدار الآخرة من الحساب…)) إلخ؛ فاعلم أن أصل الجزاء على الأعمال خيرها وشرّها ثابتٌ بالعقل كما هو ثابتٌ بالسمع، وقد نبَّه الله العقول إلى ذلك في مواضع كثيرة من كتابه؛ مثل قوله تعالى:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } (1)، { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } (2).
فإنه لا يليق في حكمة الحكيم أن يترك الناس سُدًى مهمَلين، ولا يؤمرون، ولا يُنْهَون، ولا يُثابون ولا يُعاقبون؛ كما لا يليق بعدله وحكمته أن يسوي بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ كما قال تعالى:
{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (3).
فإن العقول الصحيحة تأبى ذلك وتنكره أشدَّ الإنكار.
وكذلك نبَّههُم الله على ذلك بما أوقعه من أيامه في الدنيا من إكرام الطائعين، وخذلان الطاغين.
وأما تفاصيل الأجزية ومقاديرها؛ فلا يدرك إلا بالسمع والنقول الصحيحة عن المعصوم الذي لا يَنْطِقُ عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
(وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ).
/ش/ والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تبارك وتعالى أحدُ الأركان الستَّة التي يدور عليها فَلَكُ الإيمان؛ كما دلَّ عليه حديث جبريل وغيره، وكما دلَّت عليه الآيات الصريحة من كتاب الله عزّ وجلّ.
وقد ذكر المؤلِّف هنا أن الإيمان بالقدر على درجتين، وأنّ كلاًّ منهما تتضمن شيئين:
__________
(1) المؤمنون: (115).
(2) القيامة: (36).
(3) ص: (28).(1/154)
(فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى [عَلِيمٌ بِالْخَلْقِ وَهُمْ](1) عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا
، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِّنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ.
فَأَوَّلَ(2) مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ(3) قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (4)، وَقَالَ: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (5).
وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصيِلاً:
فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ.
وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ. وَنَحْوَ ذَلِكَ…
__________
(1) في المخطوط: [علم ما الخلق]، وكذا في ((الفتاوى)).
(2) منصوب على الظرفية.
(3) منصوب على المفعولية.
(4) الحج: (70).
(5) الحديد: (22).(1/155)
فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ)(1).
/ش/ فالدرجة الأولى تتضمَّن:
أَوَّلاً: الإيمان بعلمه القديم المحيط بجميع الأشياء، وأنه تعالى عَلم بهذا العلم القديم الموصوف به أزلاً وأبدًا كلَّ ما سيعمله الخلق فيما لا يزال، وعلم به جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال.
فكل ما يوجد من أعيان وأوصاف ويقع من أفعال وأحداث فهو مطابقٌ لما علمه الله عز وجل أزلاً.
ثانيًا: أن الله كتب ذلك كله وسجَّله في اللوح المحفوظ، فما علم الله كونه ووقوعه من مقادير الخلائق وأصناف الموجودات وما يتبع ذلك من الأحوال والأوصاف والأفعال ودقيق الأمور وجليلها قد أمر القلم بكتابته؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
((قدَّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء))(2).
وكما قال في الحديث الذي ذكره المؤلف:
((إن أول ما خلق الله القلم؛ قال له: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة))(3)
__________
(1) هذا التقسيم بهذه الصورة وجَعْل القدر أربع مراتب لم يكن معروفًا من قبل، وقد يكون أول من فصَّله هو شيخ الإسلام رحمه الله، فزعم بعض المغرضين أنها بدعة ابتدعها، لكن من قرأ كلام السلف علم أنهم يعنون بالإيمان بالقدر الإيمان بهذه المراتب، وعدم الإيمان بواحدة منها لا يحقِّق الإيمان بالقدر، والمراتب هي: علم الله بكل شيء، وكتابته، ومشيئته النافذة وأنه خالق كل شيء. فلا حرج من التقسيم والتبويب من أجل التوضيح.
(2) رواه مسلم في القدر، (باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام)(16/442-نووي)؛ بلفظ: ((كتب الله مقادير..))، والترمذي في القدر أيضًا.
(3) صحيح). رواه أبو داود في السنة، (باب: القدر)(12/468-عون)، والترمذي في القدر (6/369-تحفة)، وأحمد في ((المسند))(5/317).
... انظر: ((جامع الأصول))(7576)، و((السنة)) لابن أبي عاصم (1/48).(1/156)
.
و(أولَ) هنا بالنصب على الظرفية، والعامل فيه (قال)؛ أي: قال له ذلك أول ما خلقه.
وقد روي بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره القلم.
ولهذا اختلف العلماء في العرش والقلم؛ أيهما خُلَقَ أولاً(1).
وحكى العلامة ابن القيّم في ذلك قولين، واختار أن العرش مخلوقٌ قبل القلم. قال في ((النونية))(2):
((وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي الْقَلَمِ الَّذي
كُتِبَ الْقَضَاءُ بِهِ مِنَ الدَّيَّانِ
هَلْ كَانَ قَبْلَ الْعَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ
قَوْلانِ عِنْدَ أَبِي الْعَلاَ الْهَمَدَانِي
وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَرْشَ قَبْلُ لأَنَّهُ
[وَقْتَ](3) الْكِتَابَةِ كَانَ ذَا أَرْكَانِ
وَكَتَابَةُ الْقَلَمِ الشَّرِيفِ تَعَقَّبَتْ
إِيجَادَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلِ زَمَانِ))
وإذا كان القلم قد جرى بكلِّ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة بكل ما يقع من كائنات وأحداث؛ فهو مطابق لما كتب فيه، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره(4)
__________
(1) للشيخ الألباني تخريج لطيف للحديث السابق، رجَّح فيه زيادة (الفاء) أو (ثم) عند قوله: ((قال له: اكتب))، وعليه فقد رجَّح أسبقية خلق القلم على العرش، وأسبقية خلق العرش على الكتابة ، فراجِعْه إن شئت في ((الطحاوية)) (ص264) ، وانظر ((السلسلة الصحيحة))(133). وانظر كتاب ((القدر)) للقرشي (هامش صفحة122).
(2) انظر: ((شرح النونية)) للهراس (1/165)، ولابن عيسى (1/374).
(3) في المرجعين السابقين: [قبل]؛ بدل: [وقت].
(4) صحيح). جزء من حديث رواه الترمذي في القدر، (باب: ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره)(6/356-تحفة) عن جابر بن عبد الله مرفوعًا: ((لا يؤمن عبد، حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)). انظر: ((صحيح الجامع)) (7461).
... كما رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما؛ عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم مرفوعًا وموقوفًا. انظر:((جامع الأصول))(7574، 7575، 7576).(1/157)
.
وهذا التقدير التابع للعلم القديم تارة يكون جملةً؛ كما في اللوح المحفوظ؛ فإن فيه مقادير كل شيء، ويكون في مواضع تفصيلاً يخصُّ كل فردٍ؛ كما في الكلمات الأربع التي يؤمر الملك بكتابتها عند نفخ الروح في الجنين؛ يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيد(1).
فهذا تقديرٌ خاصٌّ، وهذا التقدير السابق على وجود الأشياء قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا؛ مثل: معبد الجهني(2)، وغَيلان الدِّمشقي(3)، وكانوا يقولون: إن الأمر أنف.
ومنكر هذه الدرجة من القدر كافر؛ لأنه أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع.
(وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ
__________
(1) لما رواه البخاري في بدء الخلق، (باب: ذكر الملائكة)(6/303-فتح)، ومسلم في القدر، (باب: كيفية الخلق الآدمي)(16/429-نووي)، وأحمد في ((المسند)) (1/374)، وأبو داود، والترمذي. ... ... ... ... ... ... ... =
= ... وهو جزء من حديث ابن مسعود المشهور:
... ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه…)) الحديث. ...
(2) هو معبد بن عبد الله بن عليم الجهني البصري، أول من قال بالقدر، نهى الحسن عن مجالسته، وقال:
... ((هو ضالٌّ مضلٌّ)).
... قتله الحجَّاج سنة (80هـ)، وقيل: صَلَبه عبد الملك بن مروان.
... انظر: ((ميزان الاعتدال)) (4/141)، و((الأعلام)) (7/264).
(3) هو غيلان بن مسلم بن أبي غيلان، أبو مروان الدمشقي،كاتب بليغ، ثاني مَن تكلم في القدر، أخذه عن معبد الجهني، صَلَبه هشام بن عبد الملك بدمشق بعد عام (105هـ).
... انظر: ((الأعلام)) (5/124).(1/158)
، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، [لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ](1)، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ).
/ش/قوله:((وأما الدرجة الثانية من القدر..)) إلخ؛ فهي تتضمن شيئين أيضًا:
أولهما: الإيمان بعموم مشيئته تعالى، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع في ملكه ما لا يريد، وأن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي واقعة بتلك المشيئة العامة التي لا يخرج عنها كائنٌ؛ سواءً كان مما يحبه الله ويرضاه أم لا.
وثانيهما: الإيمان بأن جميع الأشياء واقعة بقدرة الله تعالى، وأنها مخلوقة له؛ لا خالق لها سواه، لا فرق في ذلك بين أفعال العباد وغيرها؛ كما قال تعالى:
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } (2).
ويجبُ الإيمان بالأمر الشرعيّ، وأن الله تعالى كلَّف العباد، فأمرهم بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته.
__________
(1) في المخطوط: [ولا يكون في ملكه إلا ما يريد]، وكذا في ((الفتاوى))، لكن بدون حرف العطف الواو.
(2) الصافات: (96).(1/159)
ولا منافاة أصلاً بين ما ثبت من عموم مشيئته سبحانه لجميع الأشياء وبين تكليفه العباد بما شاء من أمر ونهيٍ؛ فإن تلك المشيئة لا تنافي حرية العبد واختياره للفعل، ولهذا جمع الله بين المشيئتين بقوله:
{ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (1).
كما أنه لا تلازمَ بين تلك المشيئة وبين الأمر الشرعيّ المتعلِّق بما يحبه الله ويرضاه، فقد يشاء الله ما لا يحبُّه، ويحبُّ ما لا يشاء كونه:
فالأول: كمشيئته وجود إبليس وجنوده.
والثاني: كمحبة إيمان الكفار، وطاعات الفجَّار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين، ولو شاء ذلك؛ لوجد كله؛ فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
(وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ [خَلَقَ](2) أَفْعَالَهُمْ.
وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ.
وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، [وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ](3)؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (4)).
/ش/ وكذلك لا منافاة بين عموم خلقه تعالى لجميع الأشياء، وبين كون العبد فاعلاً لفعله؛ فالعبد هو الذي يوصَفُ بفعله، فهو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، والله خالقه، وخالق فعله؛ لأنه هو الذي خلق فيه القدرة والإرادة اللتين بهما يفعل.
__________
(1) التكوير: (28، 29).
(2) في المخطوط: [خالق]، وكذا في ((الفتاوى)) وطبعة الجامعة الإسلامية.
(3) في المخطوط: [وإرادتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم].
(4) التكوير: (28، 29).(1/160)
يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي(1) غفر الله له وأجزل مثوبته:
((إن العبد إذا صلَّى، وصام، وفعل الخير، أو عمل شيئًا من المعاصي؛ كان هو الفاعل لذلك العمل الصالح، وذلك العمل السيء, وفعله المذكور بلا ريب قد وقع باختياره، وهو يحسُّ ضرورة أنه غير مجبور على الفعل أو الترك، وأنه لو شاء لم يفعل، وكان هذا هو الواقع؛ فهو الذي نصَّ الله عليه في كتابه، ونصَّ عليه رسوله؛ حيث أضاف الأعمال صالحها وسيئها إلى العباد، وأخبر أنهم الفاعلون لها، وأنهم ممدوحون عليها ـ إن كانت صالحة ـ ومثابون، وملومون عليها ـ إن كانت سيئة ـ ومعاقبون عليها.
فقد تبيَّن بلا ريب أنها واقعة منهم باختيارهم، وأنهم إذا شاؤوا فعلوا، وإذا شاؤوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلاً وحسًّا وشرعًا ومشاهدةً.
ومع ذلك؛ إذا أردت أن تعرف أنها وإن كانت كذلك واقعة منهم كيف تكون داخلة في القدر، وكيف تشملها المشيئة؟! فيقال: بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرها وشرها؟ فيقال: بقدرتهم وإرادتهم؛ هذا يعترف به كل أحد. فيقال: ومن خلق قدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم؟ فالجواب الذي يعترف به كل أحد أن الله هو الذي خلق قدرتهم وإرادتهم، والذي خلق ما به تقع الأفعال هو الخالق للأفعال.
فهذا هو الذي يحلُّ الإشكال، ويتمكَّن العبد أن يعقل بقلبه اجتماع القدر والقضاء والاختيار.
ومع ذلك فهو تعالى أمدَّ المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوِّعة وصرف عنهم الموانع؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
((أما من كان من أهل السعادة؛ فسييسر لعمل أهل السعادة))(2).
__________
(1) انظر: ((التنبيهات اللطيفة)) (ص47)، مع تغييرات يسيرة فيما نقله الشارح هنا وفيما هو مثبت في الطبعة التي أشرف عليها الأستاذان عبد الرحمن بن رويشد وسليمان بن حماد.
(2) جزء من حديث ابن مسعود الذي تقدَّم تخريجه (ص ... 256).(1/161)
وكذلك خذل الفاسقين،ووكلهم إلى أنفسهم؛ لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يتوكَّلوا عليه، فولاَّهم ما تولَّوا لأنفسهم)). اهـ
وخلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في القدر وأفعال العباد ما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة من أن الله سبحانه هو الخالق لكل شيء من الأعيان والأوصاف والأفعال وغيرها، وأن مشيئته تعالى عامة شاملة لجميع الكائنات، فلا يقع منها شيء إلا بتلك المشيئة، وأن خلقه سبحانه الأشياء بمشيئته إنما يكون وفقًا لما علمه منها بعلمه القديم، ولما كتبه وقدَّره في اللوح المحفوظ، وأن للعباد قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم، وأنهم الفاعلون حقيقة لهذه الأفعال بمحض اختيارهم، وأنهم لهذا يستحقُّون عليها الجزاء: إما بالمدح والمثوبة، وإما بالذم والعقوبة، وأن نسبة هذه الأفعال إلى العباد فعلاً لا ينافي نسبتها إلى الله إيجادًا وخلقًا؛ لأنه هو الخالق لجميع الأسباب التي وقعت بها.
(وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مَجُوسَِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حُكْمَهَا وَمَصَالِحَهَا).
/ش/ وضلَّ في القدر طائفتان؛ كما تقدم:
الطائفة الأولى: القدرية نفاة القدر، الذين هم مجوس هذه الأمة؛ كما ورد ذلك في بعض الأحاديث مرفوعًا وموقوفًا(1)
__________
(1) من ذلك ما رواه أبو داود في السنة، (باب: في القدر)(12/452-عون) من حديث ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((القدريَّة مجوس هذه الأمة، إن مرضوا؛ فلا تعودوهم، وإن ماتوا؛ فلا تشهدوهم)).
... وفي سنده زكريا بن منصور.
... قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/205). ... ... ... ...
... ((وثقه أحمد بن صالح وغيره وضعَّفه جماعة)). اهـ
... والحديث أورده اللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (3/693) بأسانيد ضعَّفها كلَّها محقَِقُه.
... وقال ابن أبي العز في ((شرح الطحاوية)) (ص273):
... ((كل أحاديث القدريَّة المرفوعة ضعيفة، وإنما يصحُّ الموقوف منها)).
... ولكن حسن الألباني الحديث بمجموع طرقه.
... انظر: ((الطحاوية)) (ص273)، و((السنة)) لابن أبي عاصم (1/149).(1/162)
، وهؤلاء ضلُّوا بالتفريط وإنكار القدر، وزعموا أنه لا يمكن الجمع بين ما هو ثابت بالضرورة من اختيار العبد في فعله ومسؤوليته عنه، وبين ما دلَّت عليه النصوص من عموم خلقه تعالى ومشيئته؛ لأن ذلك العموم في زعمهم إبطال لمسؤولية العبد عن فعله، وهدمٌ للتكاليف، فرجحوا جانب الأمر والنهي، وخصَّصوا النصوص الدَّالة على عموم الخلق والمشيئة بما عدا أفعال العباد، وأثبتوا أن العبد خالق لفعله بقدرته وإرادته، فأثبتوا خالقين غير الله، ولهذا سمُّوا مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يزعمون أن الشيطان يخلق الشر والأشياء المؤذية، فجعلوه خالقًا مع الله، فكذلك هؤلاء جعلوا العباد خالقين مع الله.
والطائفة الثانية: يقال لها: الجبرية، وهؤلاء غَلَوا في إثبات القدر، حتى أنكروا أن يكون للعبد فعل حقيقة، بل هو في زعمهم لا حرية له، ولا اختيار، ولا فعل؛ كالريشة في مهبِّ الرياح، وإنما تُسْنَدُ الأفعال إليه مجازًا، فيقال: صلى، وصام، وقتل، وسرق؛ كما يقال: طلعت الشمس، وجرت الريح، ونزل المطر، فاتهموا ربهم بالظلم وتكليف العباد بما لا قدرة لهم عليه، ومجازاتهم على ما ليس من فعلهم، واتّهموه بالعبث في تكليف العباد، وأبطلوا الحكمة من الأمر والنهي، ألا ساء ما يحكمون.
(فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ [أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ](1) أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ الْقَلْبِ(2) وَاللِّسَانِ(3)، وَعَمَلُ الْقَلْبِ(4) وَاللِّسَانِ(5) وَالْجَوَارِحِ(6).
__________
(1) في المخطوط: [الفرقة الناجية].
(2) قول القلب: تصديقه وإيقانه.
(3) قول اللسان: النطق بالشهادتين.
(4) عمل القلب: النية، والإخلاص، والمحبة والانقياد…
(5) عمل اللسان: ما لا يؤدى إلا به؛ كتلاوة القرآن وسائر الأذكار.
(6) عمل الجوارح: ما لا يؤدى إلا بها؛ مثل: القيام، والركوع، والسجود.
... انظره وما قبله في: ((معارج القبول)) (2/17-20).(1/163)
وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَة)(1).
/ش/ سبق أن ذكرنا في مسألة الأسماء والأحكام أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وأن هذه الثلاثة داخلة في مسمى الإيمان المطلق.
فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين: ظاهرُه وباطنُه، أصولُه وفروعُه، فلا يستحقُّ اسم الإيمان المطلق إلا من جمع ذلك كله ولم ينقص منه شيئًا.
ولما كانت الأعمال والأقوال داخلة في مسمى الإيمان؛ كان الإيمانُ قابلاً للزيادة والنقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ كما هو صريح الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهرٌ مشاهدٌ من تفاوت المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم وأعمال جوارحهم.
ومن الأدلّة على زيادة الإيمان ونقصه أن الله قسّم المؤمنين ثلاث طبقات، فقال سبحانه:
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } (2).
__________
(1) اعلم أن من قال بإحدى هذه العبارات فقد وقع في الإرجاء أو دخلت عليه شبهته:
1- الإيمان تصديق بالقلب فقط. (جهمية)
2- الإيمان نطق باللسان فقط. (كرَّامية)
... 3- الإيمان تصديق بالقلب ونطق باللسان (مرجئة الفقهاء)
الإيمان تصديق بالقلب ، وقول باللسان، وعمل بالقلب دون الجوارح.
5- الإيمان لا يزيد ولا ينقص والناس في أصله سواء.
6- الكفر تكذيب فقط (جهمية)
7- الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد أوالجحود والاستحلال، ويستشهدون بقول الطحاوي رحمه الله في عقيدته: ((ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ، مالم يستحله)).
(والصواب أن يقال : الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب –دون الشرك أو الكفر-، مالم يستحله).
(2) فاطر: (32).(1/164)
فالسابقون بالخيرات هم الذين أدَّوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرَّمات والمكروهات، وهؤلاء هم المقرَّبون.
والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرَّمات.
والظالمون لأنفسهم هم الذين اجترؤوا على بعض المحرَّمات وقصَّروا ببعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم.
ومن وجوه زيادته ونقصه كذلك أن المؤمنين متفاوتون في علوم الإيمان، فمنهم من وصل إليه من تفاصيله وعقائده خيرٌ كثيرٌ، فازداد به إيمانه، وتمَّ يقينُه، ومنهم من هو دون ذلك، حتى يبلغ الحالُ ببعضهم أن لا يكون معه إلا إيمانٌ إجماليٌّ لم يتيسّر له من التفاصيل شيء، وهو مع ذلك مؤمن.
وكذلك هم متفاوتون في كثير من أعمال القلوب والجوارح، وكثرة الطاعات وقلتها.
وأما من ذهب إلى أن الإيمان مجرَّد التصديق بالقلب، وأنه غير قابل للزيادة أو النقص؛ كما يُروى عن أبي حنيفة وغيره؛ فهو محجوجٌ بما ذكرنا من الأدلة، قال عليه السلام:
((الإيمان بضعٌ وسبعون شعبةً؛ أعلاها: قول: لا إله إلاّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق))(1).
(وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ(2)
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان، (باب: أمور الإيمان)(1/51-فتح)، ومسلم في الإيمان (باب: بيان عدد شعب الإيمان)(2/363-نووي)، وأبو داود في ((السنة))، (باب: رد الإرجاء) (12/432-عون)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.
(2) اعلم أن هناك سماتٍ من اتسم بها أو ببعضها فهو خارجي ، أو وقع فيما وقعت فيه الخوارج من الغلو :
1- تكفير صاحب الكبيرة
2- تكفير من وقع في معصية وأصر عليها.
3- القول بأن الإيمان شيء واحد لا ينقص ، فإذا ذهب بعضه ذهب كله. ... =
= 4- جواز الخروج على الحاكم المسلم لجوره وظلمه، وإن لو يُرَ منه كفرٌ بواحٌ.
(ووجه كونه خارجية، أنه قد استقر رأي أهل السنة والجماعة على عدم جواز ذلك، وخالفت الخوارج)
5- عدم العذر بالجهل مطلقاً.
6- تكفير كل من حكم بغير ما أنزل الله ولو في قضية معينة.
والصواب: التفريق بين التشريع العام وجعله دينًا متبعًا وقانونًا ملزمًا وبين جعل الشريعة الإسلامية هي الدين المُلْزِم، ومخالفتها وعدم الحكم بها في قضية أو قضايا معينة. وانظر (ص316).
7- التسرع في تكفير المعين دون مراعاة لتحقق الشروط وانتفاء الموانع.(1/165)
؛ بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ(1): { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوف } ِ (2)
، وَقَالَ: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (3)، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم } (4)).
/ش/ ومع أن الإيمان المطلق مركَّب من الأقوال والأعمال والاعتقادات؛ فهي ليست كلها بدرجة واحدة؛ بل العقائد أصلٌ في الإيمان، فمَن أنكر شيئًا مما يجب اعتقاده في الله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أو مما هو معلومٌ من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا والقتل… إلخ؛ فهو كافرٌ، قد خرج من الإيمان بهذا الإنكار.
(وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ(5) [ اسْمَ الإِيمَانِ](6) بِالْكُلِّيَّةِ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ.
بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَانِ(7)
__________
(1) زاد في المخطوط والفتاوى: [في آية القصاص].
(2) البقرة: (178).
(3) الحجرات: (9).
(4) الحجرات: (10).
(5) أي: الذي على ملة الإسلام.
(6) كذا في المخطوط والفتاوى ، وهو أصح كما أوردها الشارح ، وفي المطبوع: [الإسلام].
(7) في النسخ المطبوعة: ((الإيمان المطلق))، وهو لا يستقيم هنا.
... وفي المخطوط و((مجموع الفتاوى)) (3/151) كما أثبتُّه، وبه يصح المعنى.
... وقد رجَّح الشريف في تعليقه على الواسطية: ((مطلق الإيمان))، ويصح المعنى به أيضًا. والله أعلم.(1/166)
؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } (1).
وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } (2)، وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))(3).
[وَيَقُولُونَ](4): هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ).
/ش/ وأما الفاسق المِلِّي الذي يرتكب بعض الكبائر مع اعتقاده حرمتها؛ فأهل السنة والجماعة لا يسلبون عنه اسم الإيمان بالكلِّيَّة، ولا يخلِّدونه في النار؛ كما تقول المعتزلة والخوارج، بل هو عندهم مؤمنٌ ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر معصيته، أو هو مؤمنٌ فاسقٌ، لا يعطونه اسم الإيمان المطلق،ولا يسلبونه مطلق الإيمان.
وأدلَّة الكتاب والسنَّة دالَّةٌ على ما ذكره المؤلف رحمه الله من ثبوت مطلق الإيمان مع المعصية؛ قال تعالى:
__________
(1) النساء: (92).
(2) الانفال: (2).
(3) رواه البخاري في المظالم، (باب: النهبى بغير إذن صاحبه)(5/119-فتح)، وفي الأشربة، والحدود، والمحاربين، ومسلم في الإيمان، (باب: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبِّس بالمعصية)(2/401-نووي)، ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
(4) في المطبوع: [ونقول].(1/167)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } (1).
فناداهم باسم الإيمان، مع وجود المعصية، وهي موالاة الكفار منهم.. إلخ.
فائدة: الإيمان والإسلام الشرعيَّان متلازمان في الوجود، فلا يوجد أحدهما بدون الآخر، بل كلما وجد إيمانٌ صحيحٌ معتدٌّ به، وُجِدَ معه إسلامٌ، وكذلك العكس، ولهذا قد يُسْتَغْنى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما إذا أفرد بالذكر؛ دخل فيه الآخر، وأما إذا ذُكِرا معًا مقترنين؛ أُريد بالإيمان التصديق والاعتقاد، وأُريد بالإسلام الانقياد الظاهري من الإقرار باللسان وعمل الجوارح.
ولكن هذا بالنسبة إلى مطلق الإيمان، أما الإيمان المطلق؛ فهو أخصُّ مطلقًا من الإسلام، وقد يوجد الإسلام بدونه؛ كما في قوله تعالى:
{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } (2).
فأخبر بإسلامهم مع نفي الإيمان عنهم(3).
وفي حديث جبريل ذكر المراتب الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان، فدل على أن كلاًّ منها أخصُّ مما قبله.
(فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ
__________
(1) الممتحنة: (1).
(2) الحجرات: (14).
(3) أي: الإيمان المطلق.(1/168)
- صلى الله عليه وسلم -، كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (1)، وَطَاعَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَوْلِهِ: ((لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ))(2).
وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ).
/ش/ يقول المؤلِّف : إن من أصول أهل السنة والجماعة التي فارقوا بها مَن عداهم من أهل الزيغ والضلال أنهم لا يُزْرون بأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يطعنون عليه، ولا يحملون له حقدًا ولا بغضًا ولا احتقارًا، فقلوبهم وألسنتهم من ذلك كله براء، ولا يقولون فيهم إلا ما حكاه الله عنهم بقوله:
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } (3) الآية.
__________
(1) الحشر: (10).
(2) رواه البخاري في فضائل الصحابة، (باب: ((لو كنت متخذًا خليلاً)))(7/21-فتح)، ومسلم في فضائل الصحابة، (باب: تحريم سب الصحابة)(16/326-نووي).
(3) الحشر: (10).(1/169)
فهذا الدعاء الصادر ممَّن جاء بعدهم ممَّن اتَّبعوهم بإحسان يدلُّ على كمال محبَّتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثنائهم عليهم، وهم أهل لذلك الحب والتكريم؛ لفضلهم، وسبقهم، وعظيم سابقتهم، واختصاصهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولإحسانهم إلى جميع الأمة؛ لأنهم هُمْ المبلِّغون لهم جميع ما جاء به نبيُّهم - صلى الله عليه وسلم -، فما وصل لأحدٍ علمٌ ولا خبرٌ إلا بواسطتهم، وهم يوقِّرُونهم أيضًا طاعةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث نهى عن سبهم والغضِّ منهم، وبيَّن أن العمل القليل من أحد أصحابه يفضل العمل الكثير من غيرهم، وذلك لكمال إخلاصهم، وصادق إيمانهم.
(وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ـ وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ـ وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ.
وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ.
وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ ـ وَكَانُوا ثَلاثَ مِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَـ: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُم. فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ))(1).
وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -(2)
__________
(1) رواه البخاري في المغازي، (باب: فضل مَن شهد بدرًا)(7/304-فتح)، ومسلم في فضائل الصحابة، (باب: من فضائل أهل بدر)(16/287-نووي).
... وانظر قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
(2) يشير لما رواه مسلم في فضائل الصحابة، (باب: من فضائل أصحاب الشجرة وأهل بيعة الرضوان)(16/290-نووي)، وأبو داود في السنة، والترمذي في المناقب؛ من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
... ((لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها)).
... واللفظ لمسلم.(1/170)
، بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِئَةٍ(1).
وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِّنَ الصَّحَابَةِ).
/ش/ وأما قوله: ((ويفضِّلون مَن أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحديبية ـ وقاتل على مَن أنفق من بعده وقاتل))؛ فلورود النص القرآن بذلك، قال تعالى في سورة الحديد:
{ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } (2).
وأما تفسير الفتح بصلح الحُديبية؛ فذلك هو المشهور، وقد صحَّ أن سورة الفتح نزلت عقيبه(3).
وسمي هذا الصلح فتحًا؛ لما ترتَّب عليه من نتائج بعيدة المدى في عزَّة الإسلام، وقوَّته وانتشاره، ودخول الناس فيه.
__________
(1) صح هذا العدد في البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله ؛ قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: ((أنتم خير أهل الأرض))، وكنا ألفًاوأربع مئة، ولو كنت أبصر اليوم؛ لأريتكم مكان الشجرة. انظر: ((اللؤلؤ والمرجان)) (2/250).
(2) الحديد: (10).
(3) لما رواه البخاري في التفسير، (باب: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ()(8/582-فتح) بإسناد ظاهره الإرسال-ووصله الترمذي؛ انظر ((الصحيح المسند)) (ص139)، ومسلم في الجهاد والسير، (باب: صلح الحديبية)(12/381-نووي).(1/171)
وأما قوله: ((ويقدِّمون المهاجرين على الأنصار))؛ فلأن المهاجرين جمعوا الوصفين: النصرة والهجرة، ولهذا كان الخلفاء الراشدون وبقية العشرة من المهاجرين، وقد جاء القرآن بتقديم المهاجرين على الأنصار في سورة التوبة(1) والحشر(2)، وهذا التفضيل إنما هو للجملة على الجملة، فلا ينافي أن في الأنصار مَن هو أفضل من بعض المهاجرين.
وقد رُوي عن أبي بكر أنه قال في خطبته يوم السقيفة:
((نحن المهاجرون، وأول الناس إسلامًا، أسلمنا قبلكم، وقُدِّمْنا في القرآن عليكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء))(3).
وأما قوله: ((ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر...)) إلخ؛ فقد ورد أن عمر رضي الله عنه لما أراد قتل حاطب بن أبي بلتعة وكان قد شهد بدرًا لكتابته كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بمسير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
((وما يُدريك يا عمر؟ لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
وأما قوله: ((وبأنه لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة…)) إلخ؛ فلإخباره - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولقوله تعالى:
__________
(1) التوبة: (20)؛ { الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } .
(2) الحشر: (8)؛ { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } .
(3) صحَّ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يوم السقيفة للأنصار: ((نحن الأمراء، وأنتم الوزراء)). رواه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، (باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذًا خليلاً)))(7/20-فتح)، وفي الجنائز، والمغازي.(1/172)
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة } ِ(1) الآية
فهذا الرضا مانعٌ من إرادة تعذيبهم، ومستلزمٌ لإكرامهم ومثوبتهم.
وأما قوله: ((ويشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة)).
أما العشرة؛ فهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عُبيدة بن الجراح(2).
وأما غيرهم؛ فكثابت بن قيس(3)، وعُكَّاشة بن محصن(4)
__________
(1) الفتح: (18).
(2) روى ذلك الترمذي في المناقب، (باب: مناقب عبد الرحمن بن عوف)(10/249-تحفة9 عن عبد الرحمن بن عوف، وقال: ((حسن صحيح))، وأحمد في ((المسند)) (1/187)، وأبو داود في ((السنة)) (باب: في الخلفاء)(12/400-عون)؛ عن سعيد بن زيد، ولكنه جعل العاشر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بدل أبي عُبيدة بن الجراح. انظر: (( صحيح الجامع )) (رقم50)، و((جامع الأصول)) (8/560).
(3) لما رواه مسلم في الإيمان، (باب: مخافة المؤمن أن يحبط عمله)(2/493-نووي)، وأحمد في ((المسند)) (3/137):
... ((لما نزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } ؛ قال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتُم أني من أرفعكم صوتًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعدٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بل هو من أهل الجنة)).
(4) للحديث المشهور:
... ((سبقك بها عُكَّاشة)).
... رواه البخاري في الرقاق، (باب: يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب)(11/405-فتح)، ومسلم في الإيمان، (باب: موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم)(3/90-نووي).(1/173)
، وعبد الله بن سلام(1)، وكل مَن ورد الخبر الصحيح بأنه من أهل الجنة(2).
(وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا : أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ.
وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ، وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ فِي الْبَيْعَةِ.
مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ـ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا.
لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ.
وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ ـ مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ـ لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
__________
(1) لما رواه البخاري في مناقب الأنصار، (باب: مناقب عبد الله بن سلام)(7/128-فتح)، ومسلم في فضائل الصحابة، (باب: فضائل عبد الله بن سلام)(16/274-نووي)، واللفظ له؛ من حديث سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه؛ قال:
... ((ما سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحيٍّ يمشي على الأرض: إنه في الجنة؛ إلا لعبد الله بن سلام)).
(2) مثل خديجة بنت خويلد،وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، والحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب، وبلال بن رباح؛ رضي الله عنهم أجمعين.. وغيرهم كثير.(1/174)
[لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ](1) الْخِلاَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ).
/ش/ وأما قوله: ((ويؤمنون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر وعمر))؛ فقد ورد أن عليًّا رضي الله عنه قال ذلك على منبر الكوفة، وسمعه منه الجم الغفير؛ وكان يقول:
((ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى علمنا أن أفضلنا بعده أبو بكر، وما مات أبو بكر حتى علمنا أن أفضلنا بعده عمر))(2).
وأما قوله: ((ويُثَلِّثون بعثمان، ويربَّعون بعليٍّ..)) إلخ؛ فمذهب جمهور أهل السنة أن ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة، وهم لهذا يفضِّلون عثمان على علي، محتجِّين بتقديم الصحابة عثمان في البيعة على عليٍّ.
وبعض أهل السنة يفضِّل عليًّا؛ لأنه يرى أن ما ورد من الآثار في مزايا عليٍّ ومناقبه أكثر.
وبعضهم يتوقَّف في ذلك.
__________
(1) في المخطوط: [لكن المسألة التي يضلل فيها المخالف]، وقريب منها في ((الفتاوى)).
(2) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/570)، وقال الألباني: ((إسناده ضعيف))، ولكن صحَّ عنده عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، ولو شئت أن أسمي لكم الثالث لفعلت)).
... وفي ((صحيح البخاري))(7/54-فتح) عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم)).
... وانظر: ((فضائل الصحابة)) (1/76) للإمام أحمد بن حنبل.(1/175)
وعلى كل حالٍ؛ فمسألة التفضيل ليست ـ كما قال المؤلف ـ من مسائل الأصول التي يُضلَّل فيها المخالف، وإنما هي مسألة فرعيَّة يتَّسع لها الخلاف.
وأما مسألة الخلافة؛ فيجب الاعتقاد بأن خلافة عثمان كانت صحيحة؛ لأنها كانت بمشورة من الستة(1)، الذين عيَّنهم عمر رضي الله عنه ليختاروا الخليفة من بعده، فمن زعم أن خلافة عثمان كانت باطلة، وأن عليًّا كان أحق بالخلافة منه؛ فهو مبتدعٌ ضالٌّ يغلب عليه التشيُّع؛ مع ما في قوله من إزراءٍ بالمهاجرين والأنصار.
(وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:
حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ:
(([أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي](2)))(3).
وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه ـ وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ ـ فَقَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي))(4)
__________
(1) وهم: علي، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن. رضي الله عنهم أجمعين.
... انظر: ((صحيح البخاري)) (7/61-فتح).
(2) تكرَّرت في المخطوط.
(3) رواه مسلم في فضائل الصحابة، (باب: من فضل علي بن أبي طالب)(15/188-نووي)، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (2/643).
(4) روى الترمذي في المناقب، (باب: مناقب العباس رضي الله عنه)(10/264-تحفة) عن عبد المطلب بن ربيعة مرفوعًا:
... ((والذي نفسي بيده؛ لا يدخل قلب رجل إيمانٌ حتى يحبَّكم لله ولرسوله)).
... وقال الترمذي: ((حسن صحيح))، ووافقه الأرناؤوط في ((جامع الأصول)) (6543).
... ورواه الإمام أحمد بهذا اللفظ (1772، و1773-شاكر)، وبلفظ: ((لقرابتي)) (1777)، وصحح إسنادهما أحمد شاكر.
... وضعَّفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (6112). ... ... ... ... =
= ... لكن رواه الإمام أحمد في ((فضائل الصحابة)) (1756) بلفظ:
... ((حتى يحبوكم لله ولقرابتي)).
... بإسناد مرسل ضعيف، ولكن قال محققه وصي الله عباس:
... ((ووجدته موصولاً في أمالي طرَّاد الزَّينبي (88ب) من طريق سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن عباس؛ قال: قال العباس.. وهذا إسناد موصول صحيح)). اهـ
... والله أعلم.(1/176)
.
وَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ))(1)).
/ش/ أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - هم مَن تحرُم عليهم الصدقة، وهم: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس، وكلهم من بني هاشم، ويلحق بهم بنو المطلب؛ لقوله عليه السلام:
((إنهم لم يفارقونا جاهليَّةً ولا إسلامًا))(2).
فأهل السنة والجماعة يرعون لهم حرمتهم وقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كما يحبونهم لإسلامهم، وسبقهم، وحسن بلائهم في نصرة دين الله عز وجل.
و((غدير خُم)) ـ بضم الخاء ـ؛ قيل: اسم رجل صباغ أضيف إليه الغدير الذي بين مكَّة والمدينة بالجحفة. وقيل: خُم اسم غَيْضَةٍ هناك نُسِب إليها الغدير، والغَيْضَة: الشجر الملتف.
__________
(1) رواه مسلم في الفضائل، (باب: فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -)(15/41-نووي)، والترمذي في المناقب، (باب: ماجاء في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -)(10/74-تحفة).
(2) صحيح). وتمام الحديث:
... ((إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه)).
... رواه النسائي في قَسْم الفيء (7/131)، واللفظ له، وبنحوه رواه أبو داود في الخراج، (باب: في بيان مواضع قَسْم الخمس)(8/202-عون).
... وروى البخاري الجزء الأخير منه فقط: ((إنما بنو هاشم وبنو المطَّلب شيء واحدِ ـ والشاهد فيه أقوى ـ في المغازي، (باب: غزوة خيبر) (7/484-فتح)، وفي فرض الخمس، (باب: ومن الدليل على أن الخمس للإمام)(6/244-فتح)، وفي المناقب، (باب: مناقب قريش)(6/533-فتح).
... وهاشم والمطَّلب أخوان؛ أبوهما عبد مناف بن قُصَيٍّ بن كلاب، فبنوهما أبناء عمومة.(1/177)
وأما قوله عليه السلام لعمه: ((والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبُّوكم لله ولقرابتي))؛ فمعناه: لا يتم إيمان أحدٍ حتى يحب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله؛ أولاً: لأنهم من أوليائه وأهل طاعته الذين تجب محبتهم وموالاتهم فيه. وثانيًا: لمكانهم من رسول الله، واتصال نسبهم به.
(وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ:
خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ.
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ))(1)).
/ش/ أزواجه - صلى الله عليه وسلم - هن مَن تزوجهُنَّ بنكاح، فأولهن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، تزوَّجها بمكة قبل البعثة، وكانت سِنُّهُ خمسًا وعشرين، وكانت هي تكبره بخمسة عشر عامًا، ولم يتزوَّج عليها حتى توفِّيت، وقد رُزِقَ منها بكل أولاده إلا إبراهيم، وكانت أول من آمن به، وقوَّاه على احتمال أعباء الرسالة، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين عن خمس وستين سنة، فتزوج بعدها سودة بنت زمعة (رضي الله عنها).
وعقد على عائشة رضي الله عنها، وكانت بنت ست سنين، حتى إذا هاجر إلى المدينة بنى بها وهي بنت تسع.
__________
(1) رواه البخاري في الأنبياء،(باب:قول الله تعالى:(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَم ((6/471-فتح)، وفي فضائل الصحابة، (باب: فضل عائشة رضي الله عنها)(7/106-فتح)، ومسلم في فضائل الصحابة، (باب: فضائل خديجة أم المؤمنين)(15/208-نووي)، و(باب: فضل عائشة رضي الله عنها) (15/219-نووي)، والترمذي، والنسائي.(1/178)
ومن زوجاته أيضًا أم سلمة رضي الله عنها، تزوجها بعد زوجها أبي سلمة.
وزينب بنت جحش تزوجها بعد تطليق زيد بن حارثة لها، أو على الأصح زوجه الله إياها.
وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي، وحفصة بنت عمر، وزينب بنت خزيمة، وكلهن أمهات المؤمنين، وهن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، وأفضلهن على الإطلاق خديجة وعائشة رضي الله عنهما.
(وَيَتَبَرَّؤُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ(1) الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ.
وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ(2) الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ [أَوْ](3)عَمَلٍ.
ويُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.
وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَهُم مِّنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ ـ إِنْ صَدَرَ ـ، [حَتَّى إنَّهُمْ](4) يُغْفَرُ لَهُم مِّنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِّنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
__________
(1) سبق التعريف بهم (ص225).
(2) النواصب: هم الذين ناصبوا العداوة لأهل البيت، وطعنوا فيهم، وكفَّروهم، وهم ضد الروافض.
(3) في المخطوط: [و]؛ بدون تخيير.
(4) في المخطوط: [على أنه]، وفي ((الفتاوى)): [حتى إنه].(1/179)
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ [الأُمُورُ](1) الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ [مَغْفُورٌ](2) فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَمَن نَّظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ).
/ش/ يريد أن أهل السنة والجماعة يتبرؤون من طريقة الروافض التي هي الغلو في عليٍّ وأهل بيته، وبغض مَن عداه من كبار الصحابة،وسبهم، وتكفيرهم.
__________
(1) في المخطوط: [في الأمور]، وفي ((الفتاوى)): [بالأمور].
(2) في المخطوط: [مغمور]، وكذا في ((الفتاوى)).(1/180)
وأول من سماهم بذلك زيد بن علي(1) رحمه الله لأنهم لما طلبوا منه أن يتبرأ من إمامة الشيخين أبي بكر وعمر ليبايعوه أبى ذلك، فتفرقوا عنه، فقال: ((رفضتموني))، فمن يومئذٍ قيل لهم: رافضة.
وهم فرق كثيرة: منهم الغالية، ومنهم دون ذلك.
ويتبرَّؤُون كذلك من طريقة النواصب الذين ناصَبوا أهل بيت النبوَّة العداء لأسباب وأمور سياسية معروفة، ولم يعد لهؤلاء وجود الآن.
ويمسك أهل السنة والجماعة عن الخوض فيما وقع من نزاع بين الصحابة رضي الله عنهم؛ لا سيما ما وقع بين علي وطلحة والزبير بعد
مقتل عثمان، وما وقع بعد ذلك بين علي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم، ويرون أن الآثار المروية في مساوئهم أكثرها كذبٌ أو محرَّفٌ عن وجهه، وأما الصحيح منها؛ فيعذرونهم فيه، ويقولون: إنهم متأولون مجتهدون.
وهم مع ذلك لا يدَّعون لهم العصمة من كبار الذنوب وصغارها، ولكن ما لهم من السوابق والفضائل وصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والجهاد معه قد يوجب مغفرة ما يصدر منهم من زلات؛ فهم بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير القرون، وأفضلها، ومُدُّ أحدِهم أو نَصِيفه أفضل من جبل أحدٍ ذَهَبًا يتصدَّق به مَن بعدهم، فسيِّئاتهم مغفورة إلى جانب حسناتهم الكثيرة.
__________
(1) هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين، وإليه تنسب الزيدية؛ إحدى فرق الشيعة، وهم معتزلة في الأصول، تفرقوا إلى عدة فرق؛ منها من هو أقرب إلى السنة، ومنها ما هو أقرب إلى الرافضة، والمتقدمون منهم أفضل من المتأخرين(1/181)
يريد المؤلِّف رحمه الله أن ينفي عن الصحابة رضي الله عنهم أن يكون أحدهم قد مات مصرًّا على ما يوجب سخط الله عليه من الذنوب، بل إذا كان قد صدر الذنب من أحدهم فعلاً؛ فلا يخلو عن أحد هذه الأمور التي ذكرها؛ فإما أن يكون قد تاب منه قبل الموت، أو أتى بحسنات تذهبه وتمحوه، أو غُفر له بفضل سالفته في الإسلام؛ كما غُفِر لأهل بدر وأصحاب الشجرة، أو بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أسعد الناس بشفاعته، وأحقُّهم بها، أو ابتلي ببلاء في الدنيا في نفسه أو ماله أو ولده فَكُفِّر عنه به.
فإذا كان هذا هو ما يجب اعتقاده فيهم بالنسبة إلى ما ارتكبوه من الذنوب المحققة؛ فكيف في الأمور التي هي موضع اجتهاد والخطأ فيها مغفورٌ.
ثم إذا قِيس هذا الذي أخطؤوا فيه إلى جانب مالهم من محاسن وفضائل؛ لم يَعْدُ أن يكون قطرةً في بحر.
فالله الذي اختار نبيه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي اختار له هؤلاء الأصحاب، فهم خير الخلق بعد الأنبياء، والصفوة المختارة من هذه الأمة التي هي أفضل الأمم.
ومَن تأمَّل كلام المؤلِّف رحمه الله في شأن الصحابة عجب أشد العجب مما يرميه به الجهلة المتعصِّبُون، وادِّعائهم عليه أنه يتهجَّم على أقدارهم، ويغضُّ من شأنهم، ويخرق إجماعهم… إلى آخر ما قالوه من مزاعم ومفتريات.(1/182)
(وَمِنْ أُصًولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِّنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَات(1)ِ
، [كَالْمَأثُورِ](2) عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ [قُرُونِ](3) الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
/ش/ وقد تواترت نصوص الكتاب والسنة، ودلت الوقائع قديمًا وحديثًا على وقوع كرامات الله لأوليائه المتَّبعين لهدي أنبيائهم.
والكرامة أمر خارقٌ للعادة، يجريه الله على يد وليٍّ من أوليائه(4)؛ معونةً له على أمر دينيٍّ أو دنيويٍّ.
ويفرِّق بينها وبين المعجزة بأنّ المعجزة تكون مقرونة بدعوى الرسالة، بخلاف الكرامة.
ويتضمَّن وقوع هذه الكرامات حكم ومصالح كثيرة؛ أهمها:
__________
(1) قوله: ((أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات))؛ أي أن كرامات الأولياء تنقسم إلى قسمين: (1) علم وكشف. (2) قدرة وتأثير. أما الأول فكأن يُعلمه الله ويُطلعه ويكشف له ما لا يكشف لغيره يقظة أو منامًا، كما حدث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة: يا سارية الجبل. وأما الثاني؛ فكأن تكون له قدرة وتأثير على الأشياء ليست لغيره، كما وقع لمريم عليها السلام وما حدث لأصحاب الكهف.
انظر: ((مجموع الفتاوى))(11/314-318).
(2) كذا المخطوط، و((الفتاوى)) وفي المطبوع: [والمأثور].
(3) كذا في المخطوط والفتاوى، وفي المطبوع: [فرق]، والمثبت أصح.
(4) الوليُّ: هو من فعل المأمور، وترك المحظور، وصبر على المقدور، فأحب الله وأحبه، ورضي عنه. انظر: رسالة ((الفرقان)) لشيخ الإسلام ابن تيمية.(1/183)
أولاً: أنها كالمعجزة، تدل أعظم دلالة على كمال قدرة الله، ونفوذ مشيئته، وأنه فعَّال لما يريد، وأن له فوق هذه السنن والأسباب المعتادة سننًا أخرى لا يقع عليها علم البشر، ولا تدركها أعمالهم.
فمن ذلك قصة أصحاب الكهف، والنوم الذي أوقعه الله بهم في تلك المدة الطويلة، مع حفظه تعالى لأبدانهم من التحلل والفناء.
ومنها ما أكرم الله به مريم بنت عمران من إيصال الرزق إليها وهي في المحراب؛ حتى عجب من ذلك زكريا عليه السلام، وسألها: { أَنَّى لَكِ هَذَا } (1).
وكذلك حملها بعيسى بلا أب، وولادتها إياه، وكلامه في المهد، وغير ذلك.
ثانيًا: أن وقوع كرامات الأولياء هو في الحقيقة معجزة للأنبياء؛ لأن تلك الكرامات لم تحصل لهم إلا ببركة متابعتهم لأنبيائهم، وسيرهم على هديهم.
ثالثًا: أن كرامات الأولياء هي البشرى التي عجَّلها الله لهم في الدنيا؛ فإن المراد بالبشرى كل أمر يدلُّ على ولايتهم وحسن عاقبتهم، ومن جملة ذلك الكرامات.
هذا؛ ولم تزل الكرامات موجودة لم تنقطع في هذه الأمة إلى يوم القيامة، والمشاهدةُ أكبرُ دليلاً.
وأنكرت الفلاسفةُ(2) كرامات الأولياء كما أنكروا معجزات الأنبياء، وأنكرت الكرامات أيضًا المعتزلة، وبعض الأشاعرة؛ بدعوى التباسها بالمعجزة، وهي دعوى باطلة؛ لأن الكرامة ـ كما قلنا ـ لا تقترن بدعوى الرسالة.
__________
(1) آل عمران: (37).
(2) الفلسفة باليونانية: محبة الحكمة. والفيلسوف هو: (فيلا) و(سوفا). و(فيلا): هو المحب. و(سوفا): الحكمة؛ أي: هو محب الحكمة.
... وفلاسفة العرب: مَن اتبع فلاسفة اليونان في كفرهم وضلالاتهم؛ كأرسطو طاليس، وأفلاطون، وغيرهما، ومن فلاسفة العرب ابن رشد وابن سينا والرازي الطبيب وغيرهم.
... وهؤلاء لا يؤمنون بالأنبياء ومعجزاتهم، ولا الأولياء وكراماتهم. وانظر (ص127).(1/184)
لكن يجب التنبه إلى أن ما يقوم به الدَّجاجلةُ والمشعوذون من أصحاب الطرق المُبتدعة الذين يسمون أنفسهم بالمتصوِّفة من أعمال ومخاريق شيطانية؛ كدخول النار، وضرب أنفسهم بالسلاح، والإمساك بالثعابين، والإخبار بالغيب… إلى غير ذلك؛ ليس من الكرامات في شيء؛ فإن الكرامة إنما تكون لأولياء الله بحق، وهؤلاء أولياء الشيطان(1).
( فَصْلٌ: ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، حَيثُ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ(2) بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ))(3).
__________
(1) وهناك نوعٌ آخر؛ وهو استعانة بعضهم بالجن لقضاء بعض الحاجات يظن بعض العوام أنه من الكرامات؛ وهو نوعٌ من الشعوذة إذا فسدت النيَّات.
(2) في المخطوط والفتاوى: [فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة].
(3) صحيح). رواه الترمذي في أبواب العلم، (باب: الأخذ بالسنة واجتناب البدعة)(7/438-تحفة)، وقال: ((حسن صحيح))، وأبو داود أول كتاب السنة، (باب: في لزوم السنة)(12/358-عون)، وابن ماجه في المقدمة، (باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين).
... انظر: ((السنة)) لابن أبي عاصم (رقم 54-59 مع ظلال الجنة)، و((جامع الأصول)) (1/278).(1/185)
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.
وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ [الاجْتِمَاعُ](1)، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.
وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ.
وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.
وَالإِجْمَاعِ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، [وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ](2)).
/ش/ قوله: ((ثم من طريقة أهل السنة…)) إلخ؛ هذا بيان المنهج لأهل السنة والجماعة في استنباط الأحكام الدينية كلها، أصولها وفروعها، بعد طريقتهم في مسائل الأصول، وهذا المنهج يقوم على أصول ثلاثة:
أولها: كتاب الله عز وجل، الذي هو خير الكلام وأصدقه، فهم لا يقدِّمون على كلام الله كلام أحد من الناس.
وثانيها: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وما أُثر عنه من هدي وطريقة، لا يقدمون على ذلك هَدْيَ أحد من الناس.
__________
(1) في المطبوع: [الإجماع].
(2) في المخطوط: [وانتشرت الأمة]، وكذا في ((الفتاوى)).(1/186)
وثالثها: ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل التفرُّق والانتشار وظهور البدعة والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه من المقالات وزنوها بهذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، فإن وافقها؛ قبلوه، وإن خالفها ردُّوه؛ أيًّا كان قائله.
وهذا هو المنهج الوسط، والصراط المستقيم، الذي لا يضلُّ سالكه، ولا يشقى مَن اتَّبعه، وسطٌ بين مَن يتلاعب بالنصوص، فيتأوَّل الكتاب، وينكر الأحاديث الصحيحة، ولا يعبأ بإجماع السلف، وبين من يخبط خبط عشواء، فيتقبل كل رأي، ويأخذ بكل قول، لا يفرق في ذلك بين غثٍّ وسمينٍ، وصحيحٍ وسقيمٍ.
(فَصْلٌ: ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ.
وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ(1)، وَقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بُالْحُمَّى وَالسَّهَرِ))(2).
__________
(1) رواه البخاري في المظالم، (باب: نصر المظلوم)(5/99-فتح)، ومسلم في البرِّ والصلة والآداب، (باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم)(16/376-نووي).
(2) رواه البخاري في الأدب، (باب: رحمة الناس والبهائم)(10/438-فتح)، ومسلم في البر والصلة والآداب، (باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم)(16/376-نووي).(1/187)
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ [عِنْدَ الرَّخَاءِ](1) وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا))(2).
وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.
وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ.
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َوَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا.
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -).
__________
(1) زيادة من المخطوط، وهي موجودة في ((الفتاوى)) وطبعة الجامعة الإسلامية.
(2) حسن أو صحيح). رواه الترمذي في الرضاع، (باب: ما جاء في حق المرأة على زوجها)(4/325-تحفة)، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وأبو داود في السنة، (باب: الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه)(12/439-عون).
... والحديث حسَّن إسناده الأرناؤوط في ((جامع الأصول)) (1976)، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1241)، وأورده الحافظ في ((الفتح)) (10/458)، وعزاه لأحمد والترمذي والحاكم وأبي يعلى وسكت عنه.
... وفي البخاري (10/456-فتح) مرفوعًا: ((إن خياركم أحسنكم خلقًا)).(1/188)
/ش/ قوله: ((ثم هم مع هذه الأصول…)) إلخ؛ جمع المؤلف في هذا الفصل جماع مكارم الأخلاق التي يتخلَّق بها أهل السنة والجماعة؛ من الأمر بالمعروف؛ وهو ما عُرِف حُسْنُه بالشرع والعقل، والنهي عن المنكر؛ وهو كل قبيحٍ عقلاً وشرعًا؛ على حسب ما توجبه الشريعة من تلك الفريضة؛ كما يفهم من قوله عليه السلام:
((مَن رأى منكم منكرًا؛ فليُغيّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))(1).
ومن شهود الجُمَعِ والجماعات والحج والجهاد مع الأمراء أيًّا كانوا؛ لقوله عليه السلام:
((صلوا خلف كلِّ برٍّ وفاجرٍ))(2).
ومن النصح لكل مسلم؛ لقوله عليه السلام:
((الدين النصيحةُ))(3).
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان، (باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان) (2/380-نووي)، والترمذي في الفتن، (باب: ما جاء في تغيير المنكر باليد)(6/393-تحفة)، ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
(2) ضعيف). رواه الدارقطني (2/57) من طريق مكحول عن أبي هريرة، وقال: ((مكحول لم يسمع من أبي هريرة))، وقد أعلّه الحافظ ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/35)، والزيلعي في ((نصب الراية)) (2/27) بالانقطاع، وانظر: ((ضعيف الجامع)) (3478).
... ويغني عنه ما رواه البخاري في الأذان، (باب: إذا لم يُتِمَّ الإمام وأتمَّ من خلفه) (2/187-فتح) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يصلون لكم ـ يعني: الأئمة الضلاَّل ـ فإن أصابوا؛ فلكم ولهم، وأن أخطؤوا؛ فلكم وعليهم)).
(3) رواه مسلم في الإيمان، (باب: بيان أن الدين النصيحة)(2/396-نووي)، وأبو داود في الأدب، (باب: في النصيحة) (13/288-عون)، ورواه النسائي أيضًا.(1/189)
ومن فهمٍ صحيحٍ لما توجبه الأخوة الإيمانية من تعاطفٍ وتوادٍّ وتناصرٍ؛ كما في هذه الأحاديث التي يشبِّه فيها الرسول المؤمنين بالبنيان المرصوص المتماسك اللَّبنات، أو بالجسد المترابط الأعضاء من دعوة إلى الخير، وإلى مكارم الأخلاق، فهم يدعون إلى الصبر على المصائب، والشكر على النعماء، والرضا بقضاء الله وقدره.. إلى غير ذلك مما ذكره.
(لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ(1). وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي))(2)؛ صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ [الْمَأْثُورَةِ](3)
__________
(1) صحيح). رواه أبو داود في أول كتاب ((السنة)) (12/341-عون)، وابن ماجة، والدارمي. انظر ((السلسلة الصحيحة)) (1/358)، و((السنة)) لابن أبي عاصم (1/32)، وانظر (ص61).
(2) حسن). تقدم تخريجه (ص93).
(3) في طبعة الإفتاء: [المجثورة]، وهو خطأ مطبعي، والذي أثبتُّه هو المثبت في جميع الطبعات.(1/190)
، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ [أَئِمَّةُ الدِّينِ](1)، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ [وَدِرَايَتِهِمْ](2)، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَّنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ))(3).
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا).
/ش/ وأما قوله: ((وفيهم الصِّدِّيقون…)) إلخ؛ فالصِّدِّيق صيغة مبالغة من الصدق، يراد به الكثير التصديق، وأبو بكر رضي الله عنه هو الصدِّيق الأول لهذه الأمة.
وأما الشهداء؛ فهو جمع شهيد، وهو مَن قتل في المعركة.
وأما الأبدال(4)؛ فهم جمع بدْل، وهم الذين يخلف بعضهم بعضًا في تجديد هذا الدين والدفاع عنه؛ كما في الحديث:
__________
(1) في المخطوط: [الأئمة]، وكذا في ((الفتاوى))، ولكن بدون لفظ: ((وفيهم))، فصارت بدلاً للأبدال.
(2) زيادة من المخطوط، وهي مثبتة في ((الفتاوى)) أيضًا.
(3) صحيح). تقدم تخريجه (ص93).
(4) قال الحافظ ابن القيم في ((المنار المنيف)) (ص136):
... ((أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد؛ كلها باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)). ... ... ... ... ... ... ... =
= ... يردُّ بهذا على الصوفية الذين يزعمون أن هناك أبدالاً سبعة يتحكَّم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث والنجباء، أما الأبدال الذين يعنيهم شيخ الإسلام؛ فهم الذين عرَّفهم الشارح.(1/191)
((يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدد لها أمر دينها))(1).
والله أعلم، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
- - - - - - - -
- - - - - -
- - - -
__________
(1) صحيح). رواه أبو داود في الملاحم، (باب: ما يذكر في قرن المئة)(11/385-عون)، ورواه الحكم، والبيهقي في ((المعرفة))، وقوَّى إسناده ووثَّق رجاله الحافظ ابن حجر في ((توالي التأسيس)) (ص49).
... انظر: ((صحيح الجامع)) (1870)، و((جامع الأصول)) (8881).
... (*) تم الفراغ منه في منتصف شعبان من عام (1410هـ)، وتم الانتهاء من مراجعة هذه الطبعة في شهر الله المحرم من عام (1422)هـ من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والحمد لله أولاً وآخرًا.(1/192)