تواتر الشرع وكلام السلف في إثبات القدر
قال: [كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر -أي: أن عمر بن عبد العزيز قال لعامله: لقد كتبت إلي تسألني عن الإقرار بالقدر- فعلى الخبير بإذن الله وقعت -أي: أنك لا تجد أكفأ مني تسأله عن هذا، فأنا بإجابة هذا السؤال خبير- ما أعلم أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أمراً ولا أثبت أثراً من الإقرار بالقدر -ليس هناك أعظم في الإسلام من بدعة القدرية-، لقد كان ذكره -أي: أمر القدر- في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم -أي: من الخير-، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين قد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم، وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه، فمنه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله عز وجل آية كذا؟ ولم قال الله عز وجل كذا؟ لقد قرءوا منه ما قرأتم].
أي: إذا سألتم: ما معنى هذه الآية؛ على سبيل الاعتراض، أو على سبيل رد مسائل القدر، فتقولون: لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال الله كذا؟ ف
الجواب
أن السلف رضي الله عنهم قد قرءوا هذه الآيات التي تعتمدون أنتم عليها، وتحتجون أنتم بها، فهل كان موقفهم من هذه الآيات مثل موقفكم أنتم؟!
الجواب
لا.
إذاً: فيسعكم ما وسع السلف، ولا يسعكم ما لم يسع السلف، فالسلف قرءوا هذه الآيات وهذه الأحاديث، فآمنوا بها وأمروها كما جاءت، ولم يخوضوا فيها بتأويل، ولم يصرفوها عن ظاهرها، بل آمنوا بها.
قال: [لقد قرءوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر].
أي: أن كل ذلك مذكور في الكتاب الأول في اللوح المحفوظ، والله تعالى قد علمه وقدره.
يعني: بعد أن قرءوا هذه الآيات، وعلموا تأويل وتفسير هذه الآيات؛ سلموا بعد ذلك لله تعالى في باب القدر، وقالوا: ما أصابنا إلا ما كتبه الله لنا من خير أو شر.
قال: [وما قدر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً].
أي: أن الذي يملك النفع والضر هو الله عز وجل؛ ولذلك سمى نفسه النافع الضار سبحانه وتعالى.
قال: [ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا].
أي: بعد علمهم بهذا كله عبدوا الله تعالى بجناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء، ولا حيلة للعبد أبداً في عبادته لله عز وجل إلا بهذين الجناحين، فمن غلب عليه الخوف أيس من رحمة الله، ومن غلب عليه الرجاء فرط في جنب الله.(58/4)
موافقة عبد العزيز بن أبي سلمة لكلام عمر بن عبد العزيز في إثبات القدر
وعبد العزيز بن أبي سلمة رحمه الله تعالى ذكر عنه نفس هذا الكلام الذي ذكر عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، ولعله كلام أدخل بعضه في بعض، أو لعل عبد العزيز بن أبي سلمة حفظ كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما يتعلق بالقدر فأجاب به سائلاً سأله هو، ثم زاد عليه.
قال: [ثم رغبوا مع قولهم هذا ورهبوا، وأمروا ونهوا].
أي: لم يتكلوا على قضية القدر، وإلا من كان يعتقد اعتقاد القدرية فإنه في نهاية أمره يقول بمذهب الجبرية وهو: تعطيل الأمر والنهي.
وبالتالي فكل شيء مجبول ومجبور عليه العبد، إذاً: فلم نؤمر ولم ننه؟ ولا غرو إذ يقول أهل العلم: إن أعظم مفسدة للقدرية: إبطال الشريعة؛ لأن الشريعة قامت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يقول: بأن أفعال العباد أو أن العباد مجبورون مقهورون على أفعالهم لا حيلة لهم في ذلك؛ فلابد أنه يقول: لم الأمر إذاً؟! ولم النهي إذاً؟! وأما السلف فمع إيمانهم بهذه الآيات وعلمهم بتأويلها؛ إلا أنهم عبدوا الله تعالى رغبة ورهبة [وأمروا ونهوا، وحمدوا ربهم على الحسنة، ولاموا أنفسهم على الخطيئة، ولم يعذروا أنفسهم بالقدر -أي: لم يحتجوا بالقدر على المعصية- ولم يملكوها فعل الخير والشر -أي: ما قال واحد منهم: بيدي وبمشيئتي وإرادتي أن أفعل الخير والشر، وإنما رد ذلك كله إلى الله تعالى- فعظموا الله بقدره، ولم يعذروا أنفسهم به، وحمدوا الله على منه، ولم ينحلوه أنفسهم دونه، وقال الله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:85]، وقال: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59]]، فلما ذكر الخير بين الله تعالى أن هذا الخير نال المؤمنين بما كانوا قد أحسنوا في الدنيا، فبين أن إحسان العباد في الدنيا يستوجب على الله أن يكرمه، وأن الله تعالى هو الذي أوجب ذلك على نفسه، ولم يوجبه عليه أحد، ومن أساء في الدنيا فإن الله تعالى يعاقبه في الآخرة بما كان عنده من فسق.
[فكما كان الخير منه، وقد نحلهم عمله -أي: قد وهبهم ومن عليهم أن يعملوه- فكذلك كان الشر منه، وقد مضى به قدره سبحانه وتعالى.
وإن الذين أمرتك باتباعهم في القدر لأهل التنزيل].
أي: أنه يقول له: أنا آمرك أن تتبع أهل العلم من أهل السنة والجماعة في فهمهم لباب القدر، لا أن تكون تابعاً للقدرية.
قال: [الذين تلوه حق تلاوته -أي: الذين قرءوا القرآن كما أراد الله عز وجل -فعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه]، ولم يخوضوا فيه، ولم يصرفوه عن ظاهره، ولم يقولوا فيه: لم؟ وكيف؟ وإنما آمنوا به وأمروه كما جاء، [وكانوا بذلك من أهل العلم في الراسخين].
يعني: مع إيمانهم بالمتشابه، وإمرارهم له، وعدم الخوض فيه؛ كانوا من الراسخين في العلم.
قال: [ثم ورثوا علم ما علموا من القدر وغيره من بعدهم -يعني: هكذا علم السلف بعضهم بعضاً، فالصحابة علموا التابعين، والتابعون علموا تابعي التابعين وهكذا- فما أعلم أمراً شك فيه أحد من العالمين أعلى ولا أفشى ولا أكثر ولا أظهر من الإقرار بالقدر، لقد آمن به الأعرابي الجافي، والقروي القاري، والنساء في ستورهن، والغلمان في حداثتهم، ومن بين ذلك من قوي المسلمين وضعيفهم، فما سمعه سامع قط فأنكره، ولا عرض لمتكلم قط إلا ذكره، لقد بسط الله عليه المعرفة، وجمع عليه الكلمة، وجعل على كلام من جحده النكرة -أي: النكارة- فما من أحد جحده ولا أنكره فيمن آمن به وعرفه من الناس إلا كأكلة رأس.
فالله الله، فلو كان القدر ضلالة ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت بدعة ما علم المسلمون متى كانت، فقد علم المسلمون متى أحدثت المحدثات والبدع والمضلات.
وإن أصل القدر لثابت في كتاب الله تعالى، يعزي به المسلمون بعضهم بعضاً في مصائبهم بما سبق منها في الكتاب عليهم، يريد بذلك تسليتهم -الله تعالى يسلي عباده الموحدين-، ويثبت به على الغيب يقينهم، فسلموا لأمره وآمنوا بقدره، وقد علموا أنهم مبتلون، وأنهم مملوكون غير مملكين ولا موكلين، قلوبهم بيد ربهم، لا يأخذون إلا ما أعطى، ولا يدفعون عن أنفسهم ما قضى، قد علموا أنهم إن وكلهم إلى أنفسهم ضاعوا، وإن عصمهم من شرها أطاعوا هم بذلك من نعمته عارفون، كما قال نبيه وعبده الصديق: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33]-فبين يوسف عليه السلام أن الذي يملك صرف الشر هو الله عز وجل- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، وقال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]، فتبرأ إلى ربه من الحول والقوة، وباء مع ذلك على نفسه بالخطيئة، كانت لهم فيه أسوة، وكانوا له شيعة].(58/5)
رأي عمر بن عبد العزيز فيما يستحقه القدرية من العقوبة
قال: [عن مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك قال: كنت أسير مع عمر بن عبد العزيز فقال: ما رأيك في هؤلاء القدرية؟ قال: أرى أن تستتيبهم -أي: تحبسهم ثلاثة أيام حتى يتوبوا فيها، ويرجعوا عن قولهم- فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف].
وهذه إشارة إلى قتلهم، يعني: فإن تابوا وإلا قتلوا.
[فقال عمر بن عبد العزيز: وذلك رأيي، وتلك سيرة الحق فيهم.
قال معن وقتيبة: قال مالك: وذلك أيضاً رأيي]، يعني: أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا.
[وقال عمر بن عبد العزيز: ينبغي لأهل القدر أن يوعز إليهم فيما أحدثوا من القدر -أي: يزجروا زجراً شديداً- فإن كفوا وإلا سلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالاً].
يعني: يخرجون ألسنتهم من رقابهم بعد قتلهم، وهذا الكلام فيه إشارة إلى القتل.
[وقال عمر بن عبد العزيز في أصحاب القدر: يستتابون، فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين].(58/6)
مناظرة عمر بن عبد العزيز لغيلان الدمشقي وإظهار غيلان للتوبة وما آل إليه أمره
[وعن محمد بن عمرو الليثي: أن الزهري حدثه قال: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري الدمشقي -وهذا زعيم القدرية- فقال: يا غيلان! بلغنا أنك تقول في القدر -أي: لك قول سيء رديء في القدر- فقال: يا أمير المؤمنين! إنهم يكذبون علي].
أي: أنه جبن عن الاعتراف بعقيدته أمام أمير المؤمنين، ثم يتهم غيره الذي تكلم بالحق ونقل الصدق إلى أمير المؤمنين بأنه كاذب يفتري عليه.
[قال: يا أمير المؤمنين! يكذبون علي، فقال: يا غيلان! اقرأ علي يس، فقال: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:1 - 4]، حتى بلغ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:8 - 10]]، وهذه الآية هي الشاهد، أي: أن الله علم منهم الكفر فكتبه عليهم.
قال: [فقال غيلان: يا أمير المؤمنين! والله لكأني لم أقرأها قبل اليوم].
أرأيتم إلى النفاق؟! فهو يقول: لقد ذكرتني بالذي غاب عني، فأنا فعلاً كان عندي شك، لكن لما قرأت هذه الآية علمت أن الإيمان والكفر بيد الله عز وجل، وأن الخير والشر من عند الله، وأن الله علم ذلك في الأزل، وكتبه وقدره على العباد، ((وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))، فعلمت أن إيمان هؤلاء بيد الله، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.
ثم قال: [أشهدك يا أمير المؤمنين! أني تائب إلى الله عز وجل مما كنت أقول في القدر].
أي: أنني قد تبت من شيء قلته واعتقدته! إذاً: هذا يرد به على قوله الأول: إنهم يكذبون علي يا أمير المؤمنين! فهو ابتداءً رد القول الذي قيل فيه بحق؛ رده بباطل وبافتراء وبهتان على الصادقين.
ثم نافق وبين أنه لأول مرة يسمع هذه الآيات، بينما هو قد سمعها وقرأها مراراً، ووقف عندها، وله فيها تأويل غير سائغ ولا معتبر، لكنه خشي السيف.
فقال: [إني تائب يا أمير المؤمنين! مما كنت قلته في القدر، فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته -أي: فثبته على هذا الصدق واليقين- وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين].
أي: عبرة وعلامة.
قال: [فقال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق].
وهذه آية، فقد أصابته دعوة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز.
قال: [قال عمرو بن المهاجر: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياماً -أي: حبسه عنده أياماً- ثم أدخله عليه، فقال: يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر: فأشرت إليه ألا يقول شيئاً، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:1 - 3]].
وهذا هو الشاهد: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ))، فهو إما أن يختار الشكر، وإما أن يختار الكفر، وإما أن يختار الإيمان أو الكفر، فهذه مشيئتي، فأنا حر أختار الكفر فلا علاقة لله بي، أو أختار الإيمان فلا علاقة لله بي، ما على الله إلا أن يهديني السبيل، وأنا بعد ذلك أقبله أو أرده، هذا من عندي بغير إرادة الله وبغير مشيئة الله، هكذا فهم غيلان الدمشقي.
[فقال له: اقرأ آخر السورة].
ونحن قد قلنا في الدرس الماضي: إن أهل البدع دائماً يحتجون بأول الآية ويتركون آخرها أو العكس، ولا يحتجون بآية كاملة.
فقال عمر بن عبد العزيز: إذا كان الذي بدا لك من هذه الآية هو ما قلت فاقرأ آخر السورة، وآخر السورة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30 - 31].
إذاً: فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل، والأصل في ذلك هي مشيئة الله تعالى، وأن العبد لا يشاء شيئاً إلا وقد شاءه وقدره وأراده الله عز وجل.
قال: [ثم قال: ما تقول يا غيلان! قال: قد كنت أعمى فبصرتني -وهو خائف من القتل- وأصم فأسمعتني، وضالا(58/7)
منهج عمر بن عبد العزيز في مسألة كتابة أعمال العباد وقدر الله السابق
وخطب عمر بن عبد العزيز فقال: يا أيها الناس! من أحسن منكم فليحمد الله -أي: من وفق للطاعة فليحمد الله تعالى على ذلك-، ومن أساء فليستغفر الله، ثم إذا أساء فليستغفر الله، ثم إذا أساء فليستغفر الله، ثم إذا أساء فليستغفر الله، مع أني قد علمت أن أقواماً سيعملون أعمالاً وضعها الله في رقابهم، وكتبها عليهم].
وهذا يدل على أن الخير والشر من عند الله عز وجل.
قال: [وعن عمر بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: لو أراد الله ألا يعصى لم يخلق إبليس].
لأن إبليس وراءه الشر، لكن الذي خلقه هو الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره، ولا رب سواه، فهو رب كل شيء ومليكه، إذاً: أراد الله تعالى أن يعصى، ومعنى أراد أن يعصى: أنه لا يعصيه أحد إلا إذا أراد هو سبحانه وقوع هذه المعصية، وقدر هذه المعصية قدراً كونياً لا شرعياً دينياً.
قال: [فقد فصل لكم وبين لكم ما أنتم عليه (بفاتنين) بمضلين، إلا من قدر له أن يصلى الجحيم].
قال: [وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول في دعائه: وإنك إن كنت خصصت برحمتك أقواماً أطاعوك فيما أمرتهم به، وعملوا لك فيما خلقتهم له؛ فإنهم لم يبلغوا ذلك إلا بك -أي: فإنهم لم يوفقوا إلى هذه الطاعة والعمل بالمشروع إلا بك -ولم يوفقهم لذلك إلا أنت، كانت رحمتك إياهم قبل طاعتهم لك].
يعني: أنت كتبت لهم الطاعة والرحمة قبل أن تخلقهم، وقبل أن يعملوا من الأعمال شيئاً.(58/8)
تحذير عمر بن عبد العزيز من القدرية والتفريق بين دعاتهم وعامتهم
قال: [وقال عمر بن عبد العزيز: لا تغزوا مع القدرية؛ فإنهم لا ينصرون].
أي: أن القدرية إذا دخلوا في قتال لا ينصرهم الله عز وجل؛ لأنهم أعداؤه، وهم مجوس هذه الأمة كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
وهذا يدل على أن تقوى الله عز وجل، والتزام السنة، واتباع الأنبياء وأتباع الأنبياء، عليها مدار النصر، وهم الذين يكتب لهم الغلبة والنصر، وأما أهل البدع والزندقة والإلحاد فإنهم لا ينصرون، وإن نُصروا لا يثبتون على هذا النصر؛ فسرعان ما ينحدر؛ لأنه لا أساس لهم يركنون إليه، ولا قاعدة متينة سليمة يستندون إليها.
قال: [قيل لـ عمر بن عبد العزيز: إن قوماً ينكرون من القدر شيئاً، فقال عمر: بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا].
أي: أن الأصل في الدعوة أولاً: البيان والرفق؛ حتى يرجعوا عن مقالتهم السوء.
قال: [فقال قائل: هيهات هيهات يا أمير المؤمنين! لقد اتخذوه ديناً يدعون إليه الناس، ففزع لها عمر، فقال: أولئك أهل أن تسل ألسنتهم من أقفيتهم -أي: آن أن يقتلوا- هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار؟!].
وهنا ملحظ عظيم جداً في هذا النص لأمير المؤمنين رضي الله عنه، وذلك لما قيل له: إن قوماً ينكرون شيئاً من القدر، قال: ادعوهم وبينوا لهم حتى يرجعوا عن هذه المقالة، قال قائل: يا أمير المؤمنين! هيهات، أي: هذا شيء بعيد جداً؛ لأنهم قد اتخذوا هذه النحلة ديناً وصاروا يدعون إليها الناس، فانتقل الأمر من الشبهة المجردة في قلوبهم إلى العقيدة الراسخة التي صارت ديناً، وخروجاً على جماعة المسلمين، فذكر أن الأمر هنا يختلف.
لذلك فأهل السنة والجماعة دائماً في كل بدعة من البدع يفرقون بين دعاة البدعة وبين أتباع البدعة، فدعاة البدعة غالباً ما نجد أن أهل السنة والجماعة يكفرون الغلاة فيهم، كما كفر علماء العصر بالإجماع خميني إيران، ولا أعلم أحداً من أهل العلم المعتبرين تأخر عن تكفيره للخميني، وقد صنفت في ذلك رسائل، وسجلت في هذا التكفير أشرطة لأهل العلم: كالشيخ الألباني، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، واللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد في السعودية، فقد أصدرت بالإجماع فتوى بتكفير الخميني، وحيثيات التكفير كثيرة جداً، وليس هذا مكانها.
وهؤلاء الذين كفروا الخميني لم يكفروا الشعب الإيراني، ولذلك لو قرأت في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وفي ترجمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لوجدت كلاماً رائعاً جداً للإمام الذهبي.
فقال: ما ذنب أناس ولدوا في الشام، ورضعوا حب معاوية؟! ومعلوم أن الذي رضع حب معاوية لابد أن يسب علياً، والذي نشأ في الكوفة ورضع حب علي وحب آل البيت يدفع الثمن بلعن وسب معاوية.
يقول: ما ذنب هؤلاء، فهم قوم نشئوا هكذا، فما وجدوا مقالة أخرى، وإنما نشئوا لم يسمعوا إلا شيئاً واحداً، وهو تفضيل علي على معاوية، أو في الشام تفضيل معاوية على علي.
يقول: ما ذنب هؤلاء إلا أن يتخصصوا في العلم ويطلبوا ذلك هنا وهناك، ويتبين لهم الحق فيصروا على ما هم عليه، ثم يصل بهم الأمر إلى مرحلة التنظير لهذا المذهب الباطل، والتنظير يعني: أن يكون هناك عالم متفنن في بدعته، فحيئذ لابد أنه قد قامت عليه الحجة؛ لأنه قد نظر في كتب الخصم فعلم الحق، لكنه أصر على بدعته، فحينئذ يكفر بهذا، وأما أتباع أهل البدع ورعاع أهل البدع فإنهم لا يكفرون.(58/9)
تأييد علماء السلف لهشام بن عبد الملك في قتله لغيلان الدمشقي
قال: [وعن رجاء بن حيوة: أنه كتب إلى هشام بن عبد الملك: بلغني يا أمير المؤمنين! أنه وقع في نفسك شيء من قتل غيلان وصالح -وهو صالح الدمشقي]، وذلك لما أمر هشام بن عبد الملك بقتلهم وصلبهم ثم ندم بعد ذلك، فأرسل إليه رجاء بن حيوة وهو سيد من السادات، فقال: [فوالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الروم].
يعني: لا تندم على قتل هؤلاء.
قال: [وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: كنت عند عبادة بن نسي فأتاه رجل فأخبره أن أمير المؤمنين هشام قطع يد غيلان ولسانه وصلبه، فقال له: حقاً ما تقول؟ قال: نعم، قال: أصاب والله السنة والقضية ولأكتبن إلى أمير المؤمنين فلأحسنن له ما صنعه].
يعني: أنا سأكتب إليه كتاباً أحسن فيه فعله، وأمدحه على قتله لـ غيلان الدمشقي.(58/10)
باب ما روي عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر
قال: [باب: ما روي عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر].(58/11)
أثر الأوزاعي: (القدرية خصماء الله)
الإمام الأوزاعي رجل من أهل السنة، بل هو من كبار أهل السنة، وهو الذي قال: [القدرية خصماء الله عز وجل في الأرض].
أي: أن القدرية ينازعون الله تعالى في القدر.
[قال الليث بن سعد في المكذب بالقدر: ما هو بأهل أن يعاد في مرضه، ولا يُرغب في شهود جنازته، ولا تُجاب دعوته].
يعني: إذا دعاك فلا تُجبه.(58/12)
الآثار الواردة عن مالك بن أنس في القدر
[وقال مالك بن أنس: ما أضل من يكذب القدر، لو لم تكن عليهم حجة إلا قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]].
أي: قبل أن يخلقكم علم الله أن منكم الكافر، ومنكم المؤمن.
[وعن مروان بن محمد قال: سألت مالك بن أنس عن تزويج القدري -أي: إذا تقدم إلي رجل يقول بالقدر ليتزوج ابنتي هل أزوجه؟ - قال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة:221]].
يعني: أن القدري مشرك، ويكفينا في ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (القدرية مجوس هذه الأمة).
[وعن محمد بن إسحاق الصاغاني قال: قرأت على أصبغ بن الفرج عن ابن وهب عن مالك سمعه، وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع من القدرية، فقال مالك: ولا أرى أن يُصلى خلفهم -إذاً: لا نزوجهم ولا نصلي خلفهم- قال: وسمعته وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع؟ فقال: لا، ونهى عنه].
أي: أنه نهى عن الصلاة خلف أهل البدع.(58/13)
حكم الصلاة خلف أهل البدع
وقال رجل لبعض السلف: يا إمام! لقد صليت خلف رجل من أهل القدر، أو ممن ينكر القدر؟ قال: منذ كم وأنت تصلي خلفه؟ قال: منذ خمسين سنة، قال: أعد صلاتك منذ خمسين سنة! إنه شيء عجيب وعظيم جداً، ولذلك نجد كثيراً جداً من أهل البدع وهم أئمة للمسلمين، فمنهم الأشعري المؤول، ومنهم المعتزلي العقلاني، ومنهم القدري، ومنهم المرجئ، ومنهم الخارجي، ومنهم ومنهم، فيتحرج المرء أشد الحرج أن يصلي خلف أحد، لكن لابد أن تعلم أن هذا أيضاً يجرنا إلى بدعة الخوارج، وأنهم لا يصلون إلا خلف أنفسهم فقط، ومن أشر البدع كذلك أن تتعنت أنت في اختيار إمامك الذي لا تعرفه.
فيدخل أحدهم مسجداً من المساجد -كما يفعله بعض أهل الحجاز ولعلهم تلقوه من أهل البدع في مصر- ثم يخترق الصفوف حتى يصل إلى الإمام فيسأله عن الصفات، ويسأله في القدر، ويسأله في تقديم النقل على العقل، ويسأله عدة أسئلة، فإذا أحسن الإمام الجواب صلى خلفه وإلا فلا، وهذه أيضاً بدعة.
فإذا كنت تعلم يقيناً بغير بحث ولا تنقيب أن هذا الإمام من أهل البدع المكفرة فلا تصلي خلفه، وأما إذا كانت بدعته ليست مكفرة فهو فاسق بذلك، وأنت تعلمون أن الصلاة تصح على كل فاسق وخلف كل فاسق، كما قال أهل السنة والجماعة بجواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، وعلى كل بر وفاجر.
وأما الفجور الذي يؤدي به إلى الكفر فلا، لكن فجور يؤدي به إلى الفسق أو الظلم فحسب فالصلاة خلفه جائزة، وعليه كذلك جائزة، إلا لإمام يشار إليه بالبنان فيستحب ألا يصلى عليه؛ حتى يكون عبرة لأمثاله من الأحياء ألا يفعلوا فعله، ولا يصنعوا صنيعه.
أما أن تتعنت وتسأل عن الإمام فهذا لم يكن عليه أهل السنة والجماعة، إذا كنت تعلم أنه من أهل البدع فابتعد عنه، وإذا كان أمره على الستر فلا يحل لك أن تسأل، وإنما صل وانصرف.
وقد عانينا من أهل البدع في هذا الباب في مصر والشام سنوات عديدة في أوائل الثمانينات، فقد كان الواحد منهم وخاصة من أهل مصر يدخل مسجداً من مساجد الشام فلا يصلي خلف الإمام إلا أن يوجه إليه الأسئلة، حتى علم أئمة البدعة والضلالة في الأردن وسوريا ولبنان هذه الأسئلة فحفظوها، وحفظوا الجواب المريح، فإذا سئلوا في القبلة بعد الإقامة أجابوا بما يريح السائل، وهم يعتقدون غير ذلك، وكانت فتنة عظيمة جداً عمت البلاد في ذلك الوقت تقريباً منذ سنة (1982م) أو (1983م) حتى سنة (1987م) حتى جاء الأمر من السماء بطرد هؤلاء من الشام؛ لأن أرض الشام أرض مباركة، فلا يكاد يظهر فيها مبتدع أو تظهر فيها بدعة إلا ويفضح الله تعالى أمرهم، ويشتت شملهم، وأبعدهم عن هذه الديار والأراضي المباركة.(58/14)
الآثار الواردة عن الثوري في القدر
قال: [قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان وقد قال له رجل: يا أبا عبد الله! أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: ما أجبر، قد علمت أن ما عمل العباد لم يكن لهم بد من أن يعملوا].
فقوله له: ما أجبرهم.
جواب ذكي، واعلم أن سفيان الثوري عاش في القرن الثاني الهجري، وكان يعيش في الكوفة، وقد امتلأت الكوفة بأهل البدع، وسفيان في هذا الميدان يكاد يكون لوحده يدعو إلى السنة، وكان في قمة الغضب والعصبية.
وقد سئل الخليل بن أحمد من امرأة: لقد رأيت أهل العلم أحد الناس كلاماً، وأسرعهم غضباً، لم يا إمام؟ قال: لأن الحق معهم والباطل مع غيرهم، ومع هذا هم مصرون على باطلهم، رادون للحق الذي مع غيرهم.
فهذا هو السر الذي يجعل أهل الحق دائماً في غضب وعصبية؛ لأنهم أصحاب حق، يرون العالم بأكمله في ضياع، والعالم كله ليس صاحب قضية، وهم يعلمون القضية، فلا شك أن هذا أمر يثير جداً حفيظتهم؛ لأنهم يعلمون الحق من الله عز وجل، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فحيئذ يدخلهم من الهم والغضب والحزن ما الله به عليم.
وأما غيرهم فلا يفكر ولا يعلمون شيئاً، وبالتالي لا غرض ولا هدف لهم، وأما أهل العلم الصادقون فلهم غرض ولهم هدف من هذه الحياة، ويعلمون سنن الله تعالى الكونية في الخلق.
فقال: [أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: ما أجبرهم].
أي: إذا كنت تريد أن تعثرني فلن تستطيع؛ لأن الذي يقول: إن الله أجبر العباد على المعاصي ينفي قدرة العبد على الفعل، وينفي استطاعة العبد على الفعل، وينفي أن يكون للعبد مشيئة وإراده، مع أن الله أثبت أن له إرادة وأن له مشيئة، لكنها إرادة ومشيئة مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، قال: ما أجبرهم، لكن لابد أن تعلم أن أعمال العباد كلها في علم الله، وتمت بقدرة الله.
والناظر في الكلامين -أي: في النفي والإثبات- يتصور أن النفي والإثبات شيء واحد، وبينهما فرق دقيق، وهو: نفي الجبر؛ لأن سفيان لو قال لهذا المبتدع: نعم جبر الله العباد على المعاصي؛ فلابد أن يكون السؤال التالي مباشرة: إذاً فلم يعذبهم؟ فهناك فرق بين الأمرين.
قال: [قال بشر بن المفضل: رأيت سفيان الثوري في المنام، فقال لي: يا بشر! أنا مدفون هاهنا في وسط القدرية].
فتصور أن واحداً طول عمره مستمر في محاربة التبشير أو التنصير وهي التسمية الصحيحة، وحياته كلها يتنقل من بلد إلى بلد لمحاربة هذا المذهب الضال، وهذه الديانة الفاسدة، ثم في نهاية مطافه يموت في بلد من بلاد الكفر فيدفن في مقابر النصارى، بلا شك أن هذا أمر يعز عليه حتى بعد موته.
فـ سفيان الثوري عليه رحمة الله عاش حياة طويلة يحارب أمرين اثنين: الأول: أهل الرأي، فيرد الناس إلى الأثر بدلاً من اتباع قول فلان وعلان، فهذه كانت قضية من قضايا سفيان الثوري في الكوفة؛ ولذلك مدرسة سفيان كلها في الكوفة تسمى مدرسة: الأثر أو مدرسة الحديث، ومدرسة الأحناف تسمى: مدرسة الرأي، فكان بين الأحناف وبين أهل الحديث ما الله به عليم من الفتن والمشاكل في الكوفة.
الثاني: نبذ القدرية، وإظهار فساد هذا المذهب وبطلانه، ومع ذلك يختم به الأمر أن يدفن بين أقوام يتكلمون في القدر ويقولون بالقدر! فقال: يا بشر بن المفضل أبعد هذه الحياة الطويلة في حرب أهل البدع تدفنوني في وسط أهل القدرية؟! يعني: لا ينجو منهم لا حياً ولا ميتاً، كأنه أراد أن يقول ذلك.(58/15)
تكفير السلف لمن زعم أنه يستطيع أن يفعل في ملك الله ما لا يشاؤه الله
قال: [قال أبو محمد الغنوي: سألت حماد بن سلمة وحماد بن زيد ويزيد بن زريع وبشر بن المفضل والمعتمر بن سليمان عن رجل زعم أنه يستطيع أن يشاء في ملك الله ما لا يشاء الله! فكلهم قال: كافر مشرك -أي: الذي يقول: أنا أستطيع ما لا يستطيعه الله، وأشاء ما لا يشاؤه الله؛ كافر مشرك- إلا معتمر بن سليمان التيمي قال: الأحسن بالسلطان استتابته، فإن تاب وإلا قتله]، ولو أن القدري استتابه الإمام ثلاثة أيام فلم يتب فقتله، أيكون هذا القتل ردة أم حداً؟ هذا قتل ردة وليس قتل حد.(58/16)
رد ربيعة الرأي على غيلان الدمشقي في عقيدته في القدر
قال: [وعن سفيان قال: وقف غيلان على ربيعة]، وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ربيعة الرأي، وكان شيخاً للإمام مالك في المدينة، وقد ورد في ترجمته قصة طويلة أنكرها الإمام الذهبي في السير، ولا داعي لسردها، أي: في طريقة تربية الإمام، ولا داعي لسردها ما دامت باطلة، ويكفي في ردها بطلانها.
قال: [وقف غيلان الدمشقي على ربيعة الرأي -وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني - فقال: يا ربيعة! أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يعصى؟ فقال ربيعة: ويلك يا غيلان! أنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟].
وللعلم هذا النص من أغلى النصوص عند أهل السنة والجماعة، فهي مناظرة تمت بكلمتين بين غيلان الدمشقي المبتدع القدري، وبين ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي إمام السنة.
قال غيلان: يا ربيعة! أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يُعصى؟ أليست هذه المعصية تمت بقدر الله عز وجل، وبإرادة الله عز وجل، أم هناك أحد يستطيع أن يعصي الله تعالى قسراً ورغماً عن الله؟ أيستطيع أحد فعل ذلك؟ أيستطيع أحد أن يقول: أنا سأزني أو أقتل أو أسرق أو أشرب الخمر رضي الله أم أبى، شاء أم أبى، أيستطيع أحد أن يقول ذلك؟ لا، فالزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والصلاة بقدر، والصيام بقدر، وكل ما يكون في الكون بقدر، علمه الله تعالى في الأزل، وكتبه في اللوح المحفوظ، سواء كان خيراً أو شراً، ولا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الخير والشر من عند الله عز وجل.
فهو يقول له: ألستم تقولو يا أهل السنة: ما من شر في الأرض إلا والله يحبه؟ وهذا الكلام خطأ، فنبعد كلمة: (يحب)، ونضع بدلها كلمة (يريد).
والعجيب أنني وجدت هذا النص بهذا السياق هنا، وهو في كل كتب السنة: يا ربيعة أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى؟ وهو نص صحيح، وأنا أتصور أن هذا تصحيف في هذه النسخة، لأن هذا خطأ عظيم جداً، ولا يمكن لـ ربيعة أن يقع في هذا الخطأ العظيم.
وفي الدرس الماضي سألت سؤالاً فقلت: لو أنك بقيت سنة وأنت تدرس القدر، وفهمت ما قلت لك فإنك ستجيب الجواب الصحيح، وقلت لك: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به؟ فاختلطت أقوال الناس، فبعضهم قال: لا، وبعضهم قال: نعم، والجواب التفصيل: أما السؤال الأول: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر؟ ف
الجواب
نعم، يجب الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله.
وأما الرضا بالقدر فإننا نرضى بما قدره الله شرعاً، ولا نرضى بما قدره كوناً، فلا نرضى بالمعاصي؛ لأننا لو رضينا بالمعاصي فقد رضينا بما أسخط الله وبما سخطه الله، فالله تعالى أراد القتل، وأراد الزنا، والسرقة وسائر المعاصي، ومعنى كلمة (أراد) أي: أذن في وقوعها في الكون، وعلم أن هذا العبد عامل لها، مقترف لها، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن العبد مدرك ذلك لا محالة، هذا معنى: أن الله تعالى أراد المعصية، أي: أذن في خلقها ووجودها في الكون.
ولذلك ليست هي إرادة شرعية دينية، وإنما إرادة كونية قدرية، وبين الإرادة الشرعية الدينية والكونية القدرية عموم وخصوص، فكل إرادة شرعية دينية كونية قدرية، وليس كل إرادة كونية قدرية شرعية دينية، فالصلاة إرادة شرعية دينية ومع هذا هي كونية قدرية، فنحن نحب مِن قدر الله الذي وقع في الكون ما أراده ورضيه شرعاً، كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك، ونسخط ما وقع بإرادة الله تعالى في الكون من معاصي وكفر وفسق وظلم وغير ذلك من كبائر وصغائر، وإن كنا نؤمن أنه وقع بقدرة الله عز وجل، لكن نسخطه لأن الله تعالى سخطه وأبغضه، وحذر منه، ونهى عنه ورتب عليه العقوبات.
قال: [يا ربيعة! أنت تزعم أن الله يريد أن يعصى؟!].
وكلمة: (يريد أن يعصى) أراد بها ربيعة أن الله أراد ذلك إرادة كونية قدرية، لا شرعية دينية.
فقال ربيعة: [ويلك يا غيلان! وأنت الذي تزعم أن الله يعصى قسراً؟!] يعني: أيستطيع أحد أن يعصي الله رغماً عن الله؟ فلا يستطيع أحد أن يتحرك حركة ولا يسكن سكنة إلا بإرادة الله.
فهذه المناظرة مناظرة عزيزة جداً تكتب بماء الذهب عند أهل السنة والجماعة.(58/17)
الأسئلة(58/18)
تحذير السلف من مجالسة أهل الأهواء والبدع وسماع كلامهم
السؤال
في الدرس الماضي كان الكلام على أن القدرية استغلوا كلام الحسن البصري في الوعظ في ترجيح مذهبهم في القدر، وقد تم إيضاحه والدفاع عن الحسن البصري، والسؤال هو: ما هو نص كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى؟
الجواب
إخفاء نص الحسن البصري عنك نعمة من نعم الله تعالى عليك، فلماذا تنقب عنه؟! وما الفائدة من أن تعلم ما قال الحسن؟ مع أنه قد مر بنا في الدرس الماضي كلام الحسن، لكني ما أردت أن نقف عنده حتى لا يعلق بقلب أحد ولا بذهن أحد شيء من البدعة، وأنا يحلو لي ألا أذكره أيضاً الآن، ويحلو لي أكثر ألا ترجع إليه.
وقد ذكرنا من قبل وفي هذا الكتاب: أن أهل السنة والجماعة كانوا إذا رءوا أو سمعوا واحداً من أهل البدع يتكلم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم؛ حتى ينصرف أهل البدع.
فهذا الإمام ابن سيرين فعل ذلك، فلما سئل عن سبب ذلك قال: القلب ضعيف! ومن هو محمد بن سيرين؟ إنه سيد التابعين في البصرة في زمانه، فهو لا يريد أن يسمع كلام أهل البدع؛ خشية أن يعلق في قلبه شيء من كلامهم، وأنت تريد أن تقتحم، فاتق الله عز وجل، فأنت لم تدرك معنى منهج أهل السنة والجماعة منذ أول الكتاب، ففر من أهل البدع ومن كلامهم فرارك من الأسد.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(58/19)
شرح كتاب الإبانة - باب جامع في القدر وما روي في أهله
القدر سر من أسرار الله عز وجل، لا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو أحد أركان الإيمان الستة التي لا يصح إيمان العبد إلا بها، وقد ضل وزل فيه أقوام؛ لخوضهم فيما لا علم لهم به، وقد تصدى لهم سلف الأمة، فبينوا عوارهم، وكشفوا أستارهم، وبينوا المنهج الحق في هذا الباب.(59/1)
باب جامع في القدر وما روي في أهله
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [فهذا الجزء الحادي عشر من كتاب الإبانة، وفيه ثلاثة أبواب: الباب الأول: باب جامع في القدر وما روي في أهله، وفيه حديث العنقاء مع سليمان، وما تلته من الأخبار والأفعال.
الباب الثاني: ذكر الأئمة المضلين الذين أحدثوا الكلام في القدر، وأول من ابتدعه وأنشأه ودعا إليه.
الباب الثالث: ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير عن القدر، والخوض فيه والجدال، وفيه حديث موسى وعزير وعيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام.
الباب الأول: باب: جامع في القدر وما روي في أهله.(59/2)
إنكار السلف على من أحدث حدثاً في الدين
قال: [وعن سليمان بن جعفر العدوي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيفتح على أمتي في آخر الزمان باب من القدر، فلا يسده شيء، ويكفيهم أن يقرءوا هذه الآية: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]].
[وعن نافع قال: بينما نحن عند ابن عمر قعود إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً يقرأ عليك السلام؛ لرجل من أهل الشام، فقال ابن عمر: بلغني أنه قد أحدث حدثاً -أي: ابتدع بدعة- فإن كان كذلك فلا تقرأ عليه السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي خسف ومسخ، وهي الزندقة والقدرية)].
والخسف والمسخ سيكون في أهل البدع لا في أهل السنة والجماعة.
فقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحج:70] هذا إثبات للمرتبة الأولى من مراتب القدر، {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] إثبات للمرتبة الثانية؛ أي: علم الله تعالى ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].(59/3)
ما من عبد قدر له أن يقبض في أرض إلا هيأ له الله بلوغها
قال: [وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان أجل عبد بأرض هيئت له الحاجة إليها)] أي: إذا كان انتهاء أجل العبد في الحجاز وهو مصري؛ هيئت له حاجته ويسر له السفر إلى بلاد الحجاز؛ حتى تقبض روحه هناك.
وإذا كان رجل من أقصى الأرض وكتب له أن تقبض روحه في أدنى الأرض؛ فإنه لابد أن يصل إلى أدنى الأرض لتقبض روحه هناك، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، فليس بلازم أن المصري يموت في مصر، والحجازي يموت في الحجاز، والأمريكي يموت في أمريكا، والأوربي يموت في أوروبا، وإنما لكل نفس أجل في الزمان وأجل في المكان، فلابد من استيفاء المكان واستيفاء الزمان.
ثم قال: [(حتى إذا بلغ أقصى أجله قبض، قال: فتقول الأرض يوم القيامة: رب! هذا عبدك كما استودعت)] أي: قد أديت الأمانة كما أمرتني أن تقبض روح العبد هاهنا في هذه البقعة.
قال: [قال ابن مسعود: إذا قدر الله عز وجل لنفس أن تموت بأرض؛ هيئت له إليها الحاجة].
قال: [وعن خيثمة قال: كان ملك الموت صديقاً لسليمان بن داود عليهما السلام، فأتاه ذات يوم فقال: يا ملك الموت! تأتي أهل الدار فتأخذ أهلها كلهم وتذر الدويرة -أي: البيت الصغير جداً إلى جنب هذه الدار- إلى جنبهم لا تأخذ منهم! قال: ما أنا بأعلم بذلك منك، إنما أكون تحت العرش، فتلقى إلي صكاك فيها أسماء، أي: صحائف فيها أسماء- فجاء ذات يوم وعنده صديق له فنظر إليه ملك الموت فتبسم ثم ذهب -أي: جاء ملك الموت إلى سليمان وعنده رجل آخر فتبسم ملك الموت ثم انصرف- فقال الرجل: من هذا يا نبي الله؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته يتبسم حين نظر إلي، فمر الريح فلتلقني بالهند، فأمرها؛ فألقته بالهند، قال: فعاد ملك الموت إلى سليمان فقال: أمرت أن أقبضه بالهند فرأيته عندك!].
قال: [وعن خيثمة قال: قال سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني، قال: ما أنا بأعلم بذلك منك، إنما هي كتب تلقى إلي فيها تسمية من يموت]، وهي تلك الصحائف.(59/4)
سابق علم الله في خلقه
قال: [وعن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: (قلت: يا رسول الله! متى خلقت نبياً؟ قال: إذ آدم بين الروح والجسد)]، أي: في الوقت الذي كان فيه آدم جسداً، وقبل أن تنفخ فيه الروح، فعلم الله تعالى في الأزل أنه سوف يخلق محمد بن عبد الله، وأنه سيكلفه الرسالة والنبوة، وآدم بين الماء والطين، أو بين الروح والجسد، لكن هذا لا يعني صحة ما يقولون: يا أول خلق الله! ونور عرش الرحمن! إذ إن كل هذه أشعار وأوراد شركية والعياذ بالله قال: [وعن ابن شقيق قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى كنت نبياً؟ فقال الناس: مه -أي: ما هذا السؤال؟ إنه سؤال عجب لا ينبغي أن يوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة: (مه) كلمة تعجب واستغراب- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعوه، كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)]، وهذا يدل على سابق علم الله عز وجل في خلقه.
قال: [وعن سليمان بن موسى قال: لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، قال أبو جهل لعنه الله: الأمر إلينا: إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم]، أي: أن الله تعالى ليست له مشيئة نافذة في الخلق، وإنما الخلق يشاءون ما شاءوا وما أرادوا، فإن شاءوا الهداية اهتدوا، وإن شاءوا الشقاوة شقوا، وإن شاءوا الغنى صاروا أغنياء، وإن شاءوا الفقر صاروا فقراء، هكذا قال أبو جهل، وهو يعتمد على قول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، فجعل المشيئة إليه، فقال: الله تعالى جعل المشيئة إلينا، فإن شئنا استقمنا وإن شئنا ضللنا، إذاً فالهداية والضلالة بيد أبي جهل!! هكذا قال.
قال: [فأنزل الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]].
قال: [وعن الأعمش قال: استعان بي مالك بن الحرث في حاجة] أي: أن مالكاً بن الحرث أتى يستشفع بالإمام الأعمش عند صاحب الحاجة حتى يقضيها له.
قال: [قال: فجئت وعلي قباء مخرق -عباءة مخرقة- فقال لي: لو لبست ثوباً غير هذا] أي: لا يصح أن تلبس هذا الثوب المخرق وندخل على العظماء، بل لابد أن تلبس أفضل ما عندك، وأحسن ما عندك، وتتهيأ للقاء هؤلاء الأفاضل.
قال: [قال: قلت: امش، فإنما حاجتك بيد الله عز وجل]، فانظروا إلى هذا التوكل، إذ إن حاجته بيد الله عز وجل لا بيد هذا الملك أو الزعيم أو السلطان أو الكبير، إنما هي بيد الله عز وجل، إن شاء أمضاها وإن شاء منع، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى، فليس الثوب المخرق هو الذي يمنع، وليس الثوب الجديد هو الذي يجلب.(59/5)
بيان معنى الجور والظلم في كلام العرب
قال: [وعن إياس بن معاوية قال: ما كلمت بعقلي كله من أهل الأهواء إلا القدرية -أي: ما استجمعت عقلي كله إلا مع القدرية- قلت: أخبروني عن الجور في كلام العرب ما هو؟ قالوا: أن يأخذ الرجل ما ليس له، قلت: فإن الله عز وجل له كل شيء].
فإذا كان الظلم والجور في كلام العرب هو أن يأخذ الرجل ما ليس له، فهل إذا حرم الله تعالى عبداً من عباده الهداية ورزقه الشقاء والضلالة؛ هل يكون الله تعالى قد ظلمه؟
الجواب
لا؛ لأن الهداية والضلال ملك لله عز وجل، يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، فلا ظلم على أحد قط.
قال: [وعن حبيب بن الشهيد قال: جاءوا برجل إلى إياس بن معاوية فقالوا: هذا يتكلم في القدر، فقال إياس: ما تقول؟ قال: أقول: إن الله عز وجل قد أمر العباد ونهاهم -أي: أمرهم بالخير ونهاهم عن الشر- وأن الله لا يظلم العباد شيئاً، فقال له إياس: خبرني عن الظلم تعرفه أو لا تعرفه؟ قال: بلى أعرفه، قال: فما الظلم عندك؟ قال: أن يأخذ الرجل ما ليس له، قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال الرجل: لا، قال: الآن عرفت الظلم].
أي: أن الله تعالى إذا أخذ من العباد نعمة أو منحهم نعمة فإنه لم يأخذ ما لهم، والكل يدور بين فضل الله تعالى وبين عدله سبحانه وتعالى.(59/6)
مناظرة الخليل بن أحمد مع رجل شك في القدر
قال: [وجاء رجل إلى الخليل بن أحمد -وهو إمام كبير من أئمة اللغة، وله كتاب اسمه: العين، وهو من أعظم ما كتب في اللغة ومخارج الحروف- فقال للخليل بن أحمد: قد وقع في نفسي شيء من أمر القدر، فقال له الخليل: أتبصر من مخارج الكلام شيئاً -أي: هل تستطيع أن تبصر مخرج الحرف من الفم أو الشفتين أو اللسان أو الحلق؟ - قال: نعم، قال: فأين مخرج الحاء؟ قال: من أصل اللسان -أي: من أقصى اللسان- قال: فأين مخرج الثاء؟ قال: من طرف اللسان -الحاء في آخر اللسان من جهة الحلق، والثاء من طرف اللسان من جهة الفم- قال: فاجعل هذا مكان هذا وهذا مكان هذا، قال: لا أستطيع، قال: فأنت مدبَّر]، أي: أنت سائر بتدبير الله عز وجل لك، والأمر لا علاقة له بمشيئتك وإرادتك، وإنما بمشيئة الله تعالى وإرادته.(59/7)
كلام لبعض السلف في القدر
قال: [وعن الأصمعي قال: من قال: إن الله عز وجل لا يرزق الحرام فهو كافر]؛ لأنه جعل في الرزق إلهاً آخر، وكأن الله تعالى يرزق الحلال، وهناك إله آخر يرزق الحرام، فلما كان الرزاق واحداً إذاً فهو الذي يرزق الحرام ويرزق الحلال.
قال: [وعن أرطأة بن المنذر قال: ذكرت لـ أبي عون شيئاً من قول أهل التكذيب بالقدر، فقال: أما تقرءون كتاب الله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]].
ثم قال: [وكتب أبو داود الديلي إلى سفيان الثوري: أما بعد: فما تقول في رب قدر علي هداي وعصمتي وإرشادي، فخذلني وأضلني، وحرمني الصواب، وأوجب علي العقاب، وأنزلني دار العذاب؛ أعدل علي هذا الرب أم جار؟ قال: فكتب إليه سفيان: أما بعد: فإن كنت تزعم أن العصمة والتوفيق والإرشاد وجب لك على الله فمنعك ذلك فقد ظلمك -أي: إذا كان هذا واجب لك عند الله، وواجب على الله أن يوفيك هذا، لكنه منعك وحرمك؛ فلا شك أن هذا ظلم، ومحال أن يظلم الله عز وجل أحداً، وإن كنت تزعم أن ذلك من فضل الله؛ فإن فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم].
فهل هذا فضل من الله أم حق للعبد عند الله؟ لاشك أنه فضل من الله تعالى.(59/8)
مناظرة بين مجوسي وقدري
قال: [وعن عمر بن الهيثم قال: خرجت في سفينة إلى الأبلة أنا وقاضيها هبيرة العديس، وصحبنا في السفينة مجوسي وقدري؛ قال: فقال القدري للمجوسي: أسلم -أي: انطق بالشهادتين- فقال المجوسي: حتى يريد الله -أي: إذا أراد الله لي الإسلام أسلمت- قال: فقال القدري: الله يريد، والشيطان لا يدعك]، أي: أن الله أراد منك الهداية والإسلام، لكن الشيطان هو الذي أضلك، هكذا أراد القدري أن يبلغ الرسالة للمجوسي.
[فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي]، أي: أنه أقوى من الله عز وجل، فانظروا إلى المجوسي هو أصح اعتقاداً من القدرية، فالمجوسي يوقن أن الهداية والضلال بيد الله، والقدري يقول: الهداية من عند الله والضلال من عند الشيطان أو من عند العبد.(59/9)
مناظرة بين أبي عصام العسقلاني وقدري
قال: [وقال أبو صالح: قال رجل من القدرية لـ أبي عصام العسقلاني: يا أبا عصام أرأيت من منعني الهدى، وأوردني الضلالة والردى، ثم عذبني يكون لي منصفاً؟ قال أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً لك عنده فمنعك إياه؛ فما أنصفك، وإن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطي من يشاء ويمنع من يشاء].(59/10)
بدعة عمرو بن عبيد أمام فطرة أعرابي
قال: ووقف رجل على حلقة فيها عمرو بن عبيد القدري المبتدع، فقال: إني قدمت بلدكم هذا، وإن ناقتي سرقت، فادع الله أن يردها علي]، فهذا رجل أعرابي أتى من البادية وهو غريب في البصرة، فقال: يا عمرو بن عبيد! ادع الله لي أن يرد علي ناقتي فقد سرقت في بلدكم.
[فقال عمرو بن عبيد: يا هؤلاء -يا طلاب يا تلاميذ- ادعوا الله لهذا الذي لم يرد الله أن تسرق ناقته فسرقت أن ترد عليه، فقال الأعرابي: لا حاجة لي بدعائك -أي: لا تدع لي- قال: ولم؟ قال: أخاف كما أراد ألا تسرق فسرقت؛ أن يريد أن ترد علي فلا ترد!].
لأن الشيطان حينئذ أقوى من الله عز وجل في الإرادة والمشيئة عياذاً بالله، فهذا الأعرابي الذي أتى من البادية لا علم له بالعلوم الشرعية، وقد علم قضية القدر أكثر من عمرو بن عبيد الذي كان منظراً لمسائل القدر والقدرية، وهو سيد أهل البدع في زمانه.(59/11)
دعاء مطرف بن الشخير بأن يعصمه الله من شر ما تجري به الأقلام
قال: [وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير يدعو بهؤلاء الدعوات الخمس الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من شر الشيطان -أي: ألجأ إليك وأتضرع إليك أن تعصمني من شر الشيطان- ومن شر السلطان، ومن شر ما تجري به الأقلام، وأعوذ بك من أن أقول حقاً هو لك رضى، أبتغي به حمد سواك، وأعوذ بك من أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري، وأعوذ بك أن يكون أحد هو أسعد بما علمتني مني].(59/12)
ثمرة الفهم الصحيح للقدر
قال: [وقال آدم: يا رب! أرأيت ما أتيت -أي: يا رب أترى ما قد اقترفته- أشيء ابتدعته من نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ -ومعنى: قدرته: أي: علمته مني فكتبته- قال: بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: فكما قدرته علي فاغفر لي].
فانظروا إلى الفهم الصحيح؛ فإنه لم يقل: فكما قدرته علي فلم تعذبني إذاً؟ وإنما قال: فاغفر لي.
وأما حديث العنقاء ففي النفس منه شيء، وهو حديث طويل، وأفضل ألا أسرده، وإن كان المعنى في هذا الحديث يدور في فلك هذا الكلام الذي ذكرناه آنفاً، وسنذكره مستقبلاً بإذن الله تعالى.(59/13)
آثار عن السلف في بيان سابق علم الله في عباده
قال: [وقال أبو سليمان الداراني: والله لقد أنزلهم الغرف قبل أن يطيعوه، وأدخلهم النار قبل أن يعصوه]، أي: أن الله تعالى علم أهل الجنة وعلم أهل النار، فأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قبل أن يخلقهم، وهذا يدل على سابق علم الله الأزلي في الخلق.
قال: [وقال أبو سليمان أيضاً: كيف يخفى على الله عز وجل ما في القلب ولا يكون في القلب إلا ما ألقي فيه، فكيف يخفى عليه؟ وقال: أنا بمنزلة الحجر إن لم أحرك لم أتحرك]، أي: لابد أن يتصرف في الذي خلقني، وهو الله سبحانه وتعالى.
قال: [وعن الخشني قال: ما في جهنم واد ولا دار ولا مغار ولا غل ولا قيد ولا سلسلة إلا اسم صاحبه عليه مكتوب قبل أن يخلق -أي: أن هذه العقوبات كلها مكتوب عليها أنه يغل بها فلان، ويسلسل بها فلان، ويقيد بها فلان- قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان فبكى، ثم قال: ويحك؛ فكيف به لو قد اجتمع عليه هذا كله، فجعل الغل في عنقه، والقيد في رجليه، والسلسلة في عنقه، وأدخل النار، وأدخل الدار، وجعل في المغار؟].
أي: فكيف بك لو اجتمع هذا كله عليك؟! نسأل الله السلامة والعافية.
قال: [قال أحمد بن أبي الحواري لـ أبي سليمان الداراني: من أراد الحظوة -أي: الرفعة والمكانة- فليتواضع في الطاعة، وقال لي: ويحك وأي شيء التواضع؟ إنما التواضع في ألا تعجب بعملك، وكيف يعجب عاقل بعمله، وإنما يعد العمل نعمة من الله عز وجل ينبغي أن يشكر الله عليها ويتواضع له، إنما يعجب بعمله القدري الذي يزعم أنه يعمل، فأما من زعم أنه يستعمل فكيف يعجب؟!]، فالله تعالى هو الذي قدر لك العمل، وأعانك عليه.
قال الشيخ ابن بطة: [فكل ما قد ذكرته لكم يا إخواني رحمكم الله! فاعقلوه وتفهموه، ودينوا لله به، فهو ما نزل به الكتاب الناطق، وقاله النبي الصادق، وأجمع عليه السلف الصالح والأئمة الراشدون من الصحابة والتابعين، والعقلاء والحكماء من فقهاء المسلمين، واحذروا مذاهب المشائيم القدرية الذين أزاغ الله قلوبهم -فالله تعالى هو الذي يزيغ القلوب- فأصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً؛ حتى زعموا أن المشيئة إليهم، وأن الخير والشر بأيديهم، وأنهم إن شاءوا أصلحوا أنفسهم، وإن شاءوا أفسدوها، وأن الطاعة والمعصية إليهم، فإن شاءوا عصوا الله وخالفوه فيما لا يشاؤه ولا يريده؛ حتى ما شاءوا هم كان، وما شاء الله لا يكون، وما لا يشاءوه لا يكون، وما لا يشاؤه الله يكون.
فإن القدري الملعون لا يقول: اللهم اعصمني -القدري لا يدعو بهذا قط، بل ينكر على من دعا بهذا- اللهم وفقني، ولا يقول: اللهم ألهمني رشدي، ولا يقول: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، ويقول: إن الله لا يزيغ القلوب، ولا يضل أحداً، ويجحد القرآن، ويعاند الرسول عليه الصلاة والسلام، ويخالف إجماع المسلمين، ولا يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله -بل يقول: الحول والقوة بيديه- ولا يقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وينكر ذلك على من قاله، ويزعم أن المشيئة إليه، والحول والقوة بيديه، وأنه إن شاء أطاع الله وإن شاء عصى، وإن شاء أخذ وإن شاء أعطى، وإن شاء افتقر، وإن شاء استغنى.
وينكر أن يكون الله عز وجل خالق الشر، وأن الله شاء أن يكون في الأرض شيء من الشر، وهو يعلم أن الله خلق إبليس، وهو رأس الشر، وأن الله علم ذلك منه قبل أن يخلقه، والله تعالى يقول: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]-إذاً: هو الذي خلق الشر- وهو الذي يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]-أي: من خير وشر- ويقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]-إذاً: هو الذي خلق الإيمان وخلق الكفر- فالقدري يجحد هذا كله، ويزعم أنه يعصي الله قسراً، ويخالفه شاء أم أبى].
فهذا دين القدرية، وهو بلا شك كفر بواح.(59/14)
إعادة بعض السلف للصلاة خلف القدرية
قال: [وقال معاذ بن معاذ: صليت أنا وعمر بن الهيثم الرقاشي خلف الربيع بن بزة -وهو سيد من سادات أهل البدع- قال معاذ: فأخبرني عمر بن الهيثم أنه حضرته الصلاة مرة أخرى، فصلى خلف الربيع بن بزة، قال: فقعدت أدعو، فقال: لعلك ممن يقول: اعصمني، قال معاذ: فأعدت تلك الصلاة بعد عشرين سنة.
والربيع بن بزة من كبار مشائيم القدرية بالبصرة، وكان من العباد المجتهدين في هذا الخذلان، عصمنا الله وإياكم منه ومن كل بدعة].(59/15)
مسلك في المناظرة يقطع القدري
قال: [وقال بعض العلماء: مسألة يقطع بها القدري -أي: إذا أردت أن تناظر قدرياً فاسلك معه هذا السبيل، فإنك إن سلكت معه هذا السبيل انقطعت حجته وانهزم- يقال له: أخبرنا؛ أراد الله من العباد أن يؤمنوا به ويطيعوه ولا يعصوه فلم يقدر، أم قدر فلم يرد؟ فإن قال: قدر فلم يرد، قيل له: فمن يهدي من لم يرد الله هدايته؟ وإن قال: أراد فلم يقدر، قيل له: لا يشك جميع الخلق أنك قد كفرت يا عدو الله!]، أي: أنه في كلا الحالين والأمرين ضلال مبين.
فهل الهداية ملك للعبد عند الله، وواجبة في حق الله، وأن الله منعه حقه؟ لا شك أنه لا يقول بذلك، فإن قال بذلك فقد كفر، وإن قال: بأن الملك كله لله تعالى؛ فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فهذه حجة أقوى من حجة بعض العلماء التي نحن بصددها.(59/16)
إيمان أهل الجاهلية ومن بعدهم من الأعراب بالقدر
قال: [وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أهل السماوات والأرضين من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، ومن دونهم من الخليقة أعجز في حيلتهم، وأضعف في قوتهم من أن يحدثوا في ملك الله عز وجل وسلطانه طرفة بعين، أو خطرة بقلب، أو نفساً واحداً من روع من لم يشأه الله لهم، ولم يعلمه منهم، ولقد أذعنت الجاهلية الجهلاء بالقدر].
أي: حتى أهل الجاهلية قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يؤمنون بالقدر، وكذلك المجوسية يعلمون قضية القدر، وأما فرقة القدرية التي تنسب إلى الإسلام فليست أفهم من هؤلاء أصحاب الجاهلية والمجوس وعبدة البقر والأصنام، فإن القدرية أضل من هؤلاء جميعاً.
قال: [ولذلك قال بعض الرجاز من أهل الجاهلية: يا أيها المضمر هماً لا تهم إنك إن تقدر لك الحمى تحم ولو علوت شاهقاً من العلم كيف يوقيك وقد جف القلم] أي: لابد أنه واقع بك ما كان مكتوباً في اللوح المحفوظ.
قال: [وأتى علي بن أبي طالب رجل فشكا إليه تعذر الأشياء، والتياث الدهر عليه -اختلاطه عليه- فتمثل علي رضي الله عنه بهذه الأبيات: فإن يقسم لك الرحمن رزقاً يعد لرزقه المقضي بابا وإن يحرمك لا تسطع بحول ولا رأي الرجال له اجتلابا فقصر في خطاك فلست تعدو بحليتك القضاء ولا الكتابا].
أي: ما كان مقضياً مكتوباً لك فسيأتيك، فتمهل في طلبه.
قال: [وكتب الخليل بن أحمد إلى سليمان بن علي: أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال سحى بنفسي أني لا أرى أحداً يموت هزلاً ولا يبقى على حال فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال وقال بعض الشعراء: هي المقادير فلمني أو فذرني إن كنت أخطأت فما أخطا القدر] وهذا شعر جاهلي، أي: إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر، وانظر وقارن بين قول هذا الجاهلي وبين هذا الذي ينسب إلى الإسلام، والذي يقول قولاً قبيحاً، وشركاً وكفراً صريحاً.
[وقال لبيد بن ربيعة] وهو صاحب إحدى المعلقات، وقد أسلم، وهو صاحب البيت المشهور: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل فقال ابن عباس عندما سمع قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل: صدق، ولما قال: وكل نعيم لا محالة زائل: قال: كذب، فنعيم الجنة لا يزول.
ولبيد كان يقصد أن كل نعيم من نعيم الدنيا سيزول، فهو على قصده، والمعنى في بطن الشاعر كما يقولون، وهو صادق فيما أراد، لكن ابن عباس كان أدق منه.
[قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل].
إذاً: الهداية والضلال بيد الله عز وجل.
قال: [وقال النابغة الذبياني -وهو شاعر جاهلي-: وليس امرؤ نائلاً من هواه شيئاً إذا هو لم يكتب].
أي: مهما يهوى المرء شيئاً فإنه لا يأخذه مادام أنه لم يكتب في اللوح المحفوظ.
قال: [وهناك نص عن رجل يذكره الأصمعي، لكن هذا النص عندي فيه بعض الشيء، [قال الأصمعي: وقع الطاعون بالبصرة، فخرج أعرابي فاراً منه على حمار له- أي: يهرب من الطاعون- فلما صار في جانب البر سمع هاتفاً -أي: صوتاً من بعيد- يقول: لن يسيق الله على حمار والله لا شك إمام الساري فرجع الأعرابي إلى البصرة وهو يقول: قدر الله واقع حين يقضي وروده قد مضى فيه علمه وانقضى ما يريده وأخو الحرص حرصه ليس مما يزيده فأرد ما يكون إن لم يكن ما تريده وقال الفرزدق: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار وكانت جنة فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار ولو منت بها كفي ونفسي لكان علي للقدر الخيار].
وهناك أشعار كثيرة في القدر لأهل الجاهلية وغيرهم.(59/17)
أثر سهل بن عبد الله التستري في إثبات القدر
وهناك نص مهم جداً لـ سهل بن عبد الله التستري، وهو يعتبر نصاً جامعاً فيما يتعلق بمسألة القدر.
قال: [قال سهل بن عبد الله التستري: ليس في حكم الله عز وجل أن يملك علم الضر والنفع إلا الله عز وجل -أي: ليس هناك نزاع في ذلك، فإن الله تعالى هو الذي يملك الضر والنفع- ولكن حكم العدل في الخلق إنكار فعل غيرهم من الضر والنفع، وهو حجة الله علينا، أمرنا بما لا نقدر عليه إلا بمعونته، ونهانا عما لا نقدر على تركه والانصراف عنه إلا بعصمته، وألزمنا بالحركة بالمسألة له المعونة على طاعته، وترك مخالفته في إظهار الفقر والفاقة إليه، والتبري من كل سبب واستطاعة دونه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، قال: فخرجت أفعال العباد في سرهم وظاهرهم على ما سبق من علمه فيهم، من غير إجبار منه لهم في ذلك أو في شيء منه -أي: أن أفعال العباد خيرها وشرها وقعت منهم على ما سبق في علم الله عز وجل في الأزل قبل أن يخلق الخلق، من غير إجبار منه لهم، لا على فعل الطاعة ولا على فعل المعصية- ولا قسر ولا إكراه، ولا تعبد ولا أمر، بل بقضاء سابق ومشيئة وتخلية منه لمن شاء، كيف شاء، لما شاء، فله الحجة على الخلق أجمعين، فأفعال الخلق وأعمالهم كلها من الله مشيئة].
أي: أن الله تعالى شاء من فلان الطاعة، وشاء من فلان المعصية مشيئة كونية قدرية في باب المعصية، لن نرضاها ولا نحبها، لكن نؤمن بها أنها من عند الله عز وجل، وقد طرحنا السؤال من قبل: هل يجب الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به؟
الجواب
يجب أن نؤمن بالقدر خيره وشره، لكن لا نرضى بالشر؛ لأن الله تعالى نهانا عنه، وحذرنا منه، ورتب عليه العقوبة في الدنيا والآخرة.
قال: [فأفعال الخلق وأعمالهم كلها من الله مشيئة، فيها معنيان: فما كان من خير فالله أراد ذلك منهم، وأمرهم به، ولم يكرهم على فعله، بل وفقهم له -إذاً: الطاعة ليس فيها إكراه، لكنها توفيق من الله- وأعانهم عليه، وتولى ذلك الفعل منهم وأثابهم عليه، وما كان من فعل شر فالله عز وجل نهى عنه، ولم يجبر عليه، ولم يتول ذلك الفعل، بل أراد العبد به والتخلية بينه وبينه، وشاء كون ذلك قبيحاً فاسداً؛ ليكون ما نهى ولا يكون ما أمر، ويظهر العلم السابق فيه: (فمنهم شقي وسعيد)، فهو من الله مشيئة، ومن الشيطان تزيين، ومن العبد فعل].
فالشر من الله مشيئة، شاء الله تعالى لهذا الفعل القبيح الفاسد الشر أن يكون موجوداً في الكون مخلوقاً، فالله تعالى يشاء الخير والشر، ويقدر الخير والشر، ويأذن في حق الخير والشر، والشيطان يزين الشر، والعبد هو الذي يجترح ويقترف ذلك بجوارحه.
وأما الخير فالله تعالى أراده إرادة شرعية دينية، وأحبه وتولاه، وأثاب عليه في الدنيا والآخرة، ولم يجبر العبد عليه وإنما وفقه، وفي المقابل لم يجبر العبد على المعصية، لكن الله تخلى عنه، فزين له الشيطان الشر فاقترفته يداه.(59/18)
آثار عن السلف في القدرية
قال: [قال الحسن بن علي: قضي القضاء، وجف القلم، وأمور تقضى في كتاب قد خلا].
أي: جفت الأقلام وطويت الصحف.
قال: [وقال أبو حميد الخرساني -وكان مؤذن مسجد سماك، ومات شهيداً في سبيل الله غرقاً في البحر- بينما أنا في المنارة قبل أذان الصبح وأنا قاعد فخفقت رأسي، إذ مر رجلان في الهواء، فقال قائل لأحدهما: ما تقول في الذين يزعمون أن المشيئة إليهم؟ قال: أولئك الكفار، أولئك الكفار، أولئك هم وقود النار]، وهذه رؤية منامية.
قال: [وقال أبو داود بن أبي هند: اشتق قول القدرية من الزندقة، وهم أسرع الناس ردة].
قال: [قال ابن مسعود: المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة، ولا يسبق بطيئاً رزقه، ولا يأتيه ما لم يقدر له].
قال حماد بن زيد: سألت أبا عمرو بن العلاء عن القدر، فقال: ثلاث آيات في القرآن: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ} [عبس:11 - 12]-أي: فمن شاء الله- {ذَكَرَهُ} [عبس:12].
وعن إسحاق بن إبراهيم بن طلحة عن أبيه عن جده أنه قال: كان عبد الله بن جعفر وعمر بن عبيد الله في موكب لهما فذكروا القدرية، فقال ابن جعفر: هم والله الزنادقة، فقال عمر بن عبيد الله: إنما يتكلمون في القدر -أي: ليسوا زنادقة، فهم مسلمون، لكن يتكلمون في القدر- فقال عبد الله بن جعفر: هم والله الزنادقة].(59/19)
حكم العمل بالرؤى المنامية والإسرائيليات
والرؤى والمنامات لا يؤخذ منها اعتقاد، وإنما هي مبشرات أو محذرات، أي: محطات يقف عندها العبد، فإذا كانت خيراً يستبشر بها، وإن كانت شراً يتوقف عندها، ويحاول أن يراجع حساباته مع الله عز وجل.
فالرؤى والمنامات لا يؤخذ منها شيء، لكن إذا وافقت الرؤية ما كان في واقع هذا الرأي، وكانت منضبطة على الأصول الشرعية فلا شك أنها تكون أقرب إلى الحقيقة؛ خاصة إذا كانت لها الشواهد والأدلة والأصول في الكتاب والسنة أو إجماع أهل العلم، وحينئذ يستأنس بها ويسترشد بها، ولا يقف المرء عندها، ولا يقول: إذاً سينزل بي كذا وكذا، أو سينالني من الخير أو الشر كذا وكذا؛ لأنه عند ذلك قد حول الرؤية إلى عقيدة عنده، وهي في الحقيقة استئناس ومبشرات فقط، أو تحذيرات للعبد، لذا لا يتوقف عندها، ولا تنبني عليها أحكام ولا أعمال.
وكذلك تلك الروايات التي تنقل من كتب أهل الكتاب من الإسرائيليات، والمعلوم أن هذه الكتب لا تمثل أحكاماً انفرادية عندنا، وإنما ما وافق منها ما كان عندنا قبلناه من باب الاستئناس، على أن يكون الأصل هو كتاب الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع أمة الإسلام، وما كان من كتب أهل الكتاب يوافق هذه الأصول أخذنا به استئناساً لا تأصيلاً، وما خالفها نرده ولا نقبله، بل يغلب على الظن أنه من الكلام المحرف في كتب بني إسرائيل.
وما كان مسكوتاً عنه في كتب بني إسرائيل فإننا لا نقبله ولا نرده، أي: لا علاقة لنا به، لكننا لا نكذبه كما أننا لا نصدقه، وهذا باختصار حكم الإسرائيليات، وقد ذكرنا منها كثيراً، فهل رأيتم فيما ذكرنا شيئاً يخالف عقيدة أهل الإسلام في القدر؟ ما وجدنا شيئاً يخالف عقيدة أهل الإسلام في القدر.(59/20)
حديث العنقاء والحكم عليه
وإذا كان الأمر كذلك فحديث العنقاء يدور في هذا الفلك وفي هذا المضمار، والعبرة منه كالعبرة من غيره من النصوص، سواء في كتب السلف أو في كتب بني إسرائيل، وقد تحرف أو تصحف في كتاب ابن بطة حيث قال: حديث العقاد، وهو تصحيف، والصحيح: حديث العنقاء.
وعلى أية حال العنقاء أفضل وأحسن من العقاد، فإن العنقاء أفضل من عباس العقاد؛ وما لقب العقاد بهذا اللقب إلا لأنه كان يتعمد عقد مجلسه في ساعة صلاة الجمعة، فصالونه الأدبي الذي كان يعقده فيما يسمى الآن: بمحطة الإسعاف؛ كان يتعمد عقد هذا الصالون الأدبي في ساعة صلاة الجمعة، فكان تاركاً للصلاة ولصلاة الجمعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من ترك صلاة الجمعة ثلاث مرات متواليات طبع الله على قلبه)، فكيف بمن تركها طيلة عمره؟! وحديث العنقاء يرويه داود بن أبي هند قال: [كانت العنقاء عند سليمان بن داود وكان سليمان قد علم كلام الطير، وسخرت له الشياطين، وأعطي ما لم يعط أحد، فذكر عنده القضاء والقدر، وكانت العنقاء حاضرة، فقالت العنقاء: وأي شيء هذا القضاء والقدر، ما يغني شيئاً، قيل لسليمان بن داود: إنه يولد بالمشرق جارية ويولد في المغرب غلام في يوم واحد وساعة واحدة، وأنهما يجتمعان على الفجور -الزنا- فقالت العنقاء: إن هذا لا يكون، وكيف يكون وهذا بالمغرب وهذه بالمشرق؟ فقال لها سليمان: إن ذلك يكون بالقضاء والقدر، قالت: لا أقبل ذلك]، وهذا الكلام لا يستقيم مع العقل.
وهناك شخص مجرم سوري ساكن في أمريكا، وأمريكا لا تنضح علينا إلا بالبلاء، واسمه: أنور إسحاق، وهو لا أنور ولا حتى هو إسحاق، وهو ينادي بالتجديد منذ أكثر من عشر سنوات، وهو إنسان جاهل أحمق غبي لا يعرف شيئاً، بل بمجرد أن تراه تلمح فيه الغباء؛ لأن هناك أناساً هكذا؛ أعمالهم تظهر على وجوههم، وهذه سنة، فعندما ترى شخصاً نصرانياً تشعر بأنك تنظر إلى رأس خنزير، وكذلك عندما ترى شخصاً يكتب المحاضرات وراءك تعرف إن كان هذا طالب علم أو طالب شيء آخر، فتميز الاثنين من بعض، وغير ذلك.
فهذا شكله -أستغفر الله العظيم- عليه الغباء، والعجب أنه يدخل في نقاش، وهو من الناس الهمج الرعاع الذين لا علاقة له بالعلم والأدب، وقد التقيت به منذ أربع سنوات هناك ينادي بالتجديد.
ولعلكم تذكرون أني قلت لكم من قبل: وما مظهر التجديد عندك؟ قال: أن يظهر في الأمة من يكذب القرآن ويكذب السنة، ثم نحكم بالرد عليه! فتصور أن هذا مظهر من مظاهر التجديد؛ إذ إنه يظهر في الأمة أناس يطعنون في القرآن ويطعنون في السنة، وهذا يعتبر عندهم مجدد، أرأيت إلى هذه الخيبة؟! وقد فوجئت بأنه كتب كتاباً وأنزله إلى الأسواق، وقد أتتني منه نسخة أمس البارحة، واسمه: جاهلية العنف، والصورة التي على الغلاف هي صورة البرج! واعلم أنه أغبى وأحقر وأقل مما تظن، ويقيناً أن هذا تلقفته الأيدي العابثة التي تعبث بالشرع، وفرصة أن وجدوا لهم ضالة في بقعة من بقاع الأرض، فيصير إنساناً معترضاً على كل شيء، فلا يوجد عنده شيء اسمه: علماء تفسير، ولا شراح أحاديث، ولا رواة للسنة، ولا مصنفين للسنة، وما بقي إلا أن يقول: ولا قرآن، ولا رواة للقرآن! ويرفض أي تفسير للقرآن أو السنة، فهذه السنة قد هدمها من أساسها، لكن القرآن كلام ربنا، فلا يتجرأ على ذلك، لكن هذا الرجل ذكر نموذجاً فقال: لا نريد هذا التفسير، وأخذ مسألة التقوى وأحضر تفسير فلان للتقوى، وفلان للتقوى، وترك تفسير هؤلاء كلهم، وقال: كل هذا كلام فارغ وتخريف ليس له أصل، وقال: أنا سافرت العالم كله، ودخلت مكتبات العالم في أوروبا وأمريكا والبلاد الإسلامية، وقابلت العلماء الكبار مثل الشيخ شحرور! والشيخ شحرور هذا هو رافع لواء الطعن في السنة في سوريا، وهو ليس شيخاً ولا شيئاً من هذا القبيل، وإنما هو رجل مهندس لا علاقة له بالشرع ولا بالدين، وشحرور له كتابات إن لم يكفر بها فعلى الأقل يسقط بها في الطامات، لكن على أية حال تصور أن هذا يقول: أنا قابلت الشيخ شحرور! وسألته عن القدر، فما أقنعني بشيء يشفي غليلي، فعلمت أن الهداية والظلام بيد العبد لا بيد الله! ويحضر لك بآيات من القرآن الكريم، ونحن متفقون على أنه ليس له علاقة بالسنة، فإما أن يأتي بأولها ويترك آخرها، أو يأتي بآخرها ويترك أولها، على عادة أهل البدع كما ذكرنا وكررنا ذلك.
وأنا متأسف أنني ذكرت هذا الكتاب، لكن أريد أن أقول لك: إن أهل البدع يعملون بجد في ضلالهم وعماهم، والله تعالى قد أعمى بصيرتهم وأراد لهم الشقاء والضلال، وأسأل الله تعالى أن يهديهم، فإن كان سبق في علمه أنهم لن يهتدوا فنسأل الله أن يأخذهم ويريحنا منهم.
وهذا الرجل ما جلس إلى رجل محترم من أهل العلم يشار إليه باتباع السنة، وإنما كل من لقيهم إما من أهل البدع، وإما جهال مغمورون لا علاقة لهم كذلك بمناظرات أهل البدع، والواضح أنه لم يق(59/21)
الأسئلة(59/22)
حكم الاحتفال بأعياد النصارى
السؤال
هل من التشبه أن يحتفل بعض المسلمين بأعياد النصارى، كعيد شم النسيم وغيرها من الأعياد؟
الجواب
ليس للمسلمين إلا عيدان اثنان: عيد الفطر وعيد الأضحى، أما شم النسيم فهو عيد النصارى وليس من أعياد المسلمين، وأنتم تعلمون أن الأعياد عبادة من العبادات، وعقيدة من العقائد، وليس من الأحكام الشرعية فقط، فمن شارك النصارى في هذا العيد فإنما يشاركهم في جزء من اعتقادهم.
وقد صنف الإمام الذهبي كتاباً رائعاً جداً أسماه: نهي الخسيس عن التشبه بأهل الخميس، وهذا العيد يسمى عندهم بـ: عيد الخميس، والذهبي سمى كتابه هذا بـ: نهي الخسيس، يعني: أن من شاركهم فهو خسيس في عقيدته.
وهذا باب عظيم جداً من أبواب الولاء والبراء، فاتقوا الله عز وجل فلا تشاركوهم في شيء من أعيادهم قط لا بشم النسيم ولا بغيره، وإذا كان الأصل في البيض والكيك وغير ذلك الحل إلا أنه في هذا اليوم لا ينبغي للمسلم أن يتعمد شراءه؛ حتى لا يكون في هذا وجه من وجوه التشبه بهؤلاء.
كما أنه من البدع كذلك أن يخصص هذا اليوم بصيام أو قيام مخالفة لأهل الكتاب كما يزعم الزاعم، فيقول: إذا كان المشركون يحتفلون بشيء شركي من أعيادهم أو غير ذلك؛ فإنا نخالفهم بقيام الليل وصيام النهار! فهذا أيضاً بدعة، وإنما اجعل الأمور طبيعية جداً، فإذا كنت تصوم الإثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من الشهر فطبيعي: (إلا أن يكون صوم أحدكم فليصم)، لكن شخص طول عمره تارك للصيام وتارك للقيام، ثم يأتي في هذا اليوم بالذات ويقول: مخالفة للنصارى أنا أصوم! ومعاندة للنصارى أنا أقوم الليل! أو مخافة أن ينزل عذاب من السماء فيصيب الكل، فإذا نزل يدركني وأنا قائم أو أنا صائم! كل هذا من التخريف والبدع وإن قال بها من قال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(59/23)
شرح كتاب الإبانة - ذكر الأئمة المضلين الذين أحدثوا الكلام في القدر
لقد بليت الأمة الإسلامية بأئمة مضلين أحدثوا في الأمة أقوالاً غريبة عنها، أدت إلى تفرقها وتشتتها، ومن أولئك أئمة القدرية، فقد افتتحوا باب ضلالة، وتكلموا بكل جهالة، فضلوا وأضلوا.(60/1)
ذكر الأئمة المضلين الذي أحدثوا الكلام في القدر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثاني: ذكر الأئمة المضلين الذين أحدثوا الكلام في القدر، وأول من ابتدعه وأنشأه، ودعا إليه.
[عن شيخ أهل البصرة عبد الله بن عون بن أرطبان المزني الحافظ قال: أمران أدركتهما وليس بهذا المصر منهما شيء -أي: وليس في البصرة من هاتين البدعتين شيء-: الكلام في القدر، إن أول من تكلم في القدر رجل من الأساورة يقال له: سيسويه]، وفي رواية: سنسويه، وفي رواية: سوسن، وهو سوسن النصراني الذي أسلم ثم ارتد وتنصر مرة أخرى، ثم أخذه عنه معبد الجهني، ثم أخذه عن معبد غيلان الدمشقي.
فأول من تكلم في القدر رجل كان نصرانياً ثم أسلم ثم تنصر، فتكلم في القدر، وكان أستاذاً في الضلالة، ثم أخذه عنه معبد الجهني وهو من أهل البصرة، ثم أتى إليه غيلان وتعلم منه ذلك.
قال ابن عون في سنسويه: [وكان دحيقاً -يعني: إنساناً طريداً شريداً غير محترم، ولم يكن أحد يقبل عليه، وإنما كان إذا أتى إلى أهل مدينة طردوه عن المجلس، أو قاموا وتركوا له المجلس، فقد كان دحيقاً، أي: طريداً- وما سمعته قال لأحد دحيقاً غيره.
قال: فإذا ليس له عليه تبع إلا الملاحون -وهم أصحاب السفن].
يعني: أول من تكلم في القدر سوسن النصراني، وأول من اتخذ لدعوته أناساً لا حظ لهم من العلم، وبهذا يعلم أن أهل البدع دائماً إنما يتخذون لرواج بدعهم الجهلاء، وأما أهل العلم فيصعب جداً السيطرة عليهم، ولذلك اختار أهل الجهل بدينهم وبشريعتهم، فكان له فيهم تأثير عظيم.
[ثم تكلم فيه بعده رجل كانت له مجالسة -يعني: رجل كان يجالسه- يقال له: معبد الجهني، فإذا له عليه تبع.
ثم قال: وهؤلاء الذين يدعون المعتزلة].(60/2)
ترتيب الخلفاء في الأفضلية
[عن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان رضي الله عنهما].
وقول ابن عون: (أدركت الناس) أي: أهل العلم لا يتكلمون إلا في التفضيل بين علي وعثمان، وأيهما أفضل؟ وهذه المسألة قد اختلف فيها السلف، يعني: حتى أهل السنة اختلفوا في هذه القضية في أول الأمر، ثم أجمعت الأمة على أفضلية عثمان على علي، وقد انعقد الإجماع إلى يومنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة؛ لأن الشيعة ابتداء يكفرون عثمان بن عفان، كما يكفرون أبا بكر وعمر.
وقد انعقد الإجماع بغير خلاف في أحقية عثمان في الخلافة، وإنما الذي وقع بين أهل السنة الخلاف فيه هو في الأفضلية، وإمامة المفضول تجوز مع وجود الفاضل، حتى لا يقال: إذا كان علي أفضل من عثمان فلم تقدم عثمان في الخلافة؟ لأنا نقول: الخلافة إمامة، وإمامة المفضول تجوز مع وجود الفاضل، وإن كنا نعتقد اعتقاداً جازماً -كما انعقد على ذلك الإجماع بعد ذلك- أن الخلفاء الأربعة ترتيبهم في الأفضلية على نفس ترتيبهم في الخلافة.(60/3)
تلطف بعض الأئمة في الكلام
[قال ابن عون: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان رضي الله عنهما؛ حتى نشأ ها هنا هني].
والهن: اسم لما يستقبح ذكره، وقديماً كانوا يقولون لنا في الإعدادية: الأسماء الخمسة، ويقولون: باب الأسماء الخمسة، وفي الحقيقة هي الأسماء الستة، ولكنهم كانوا يحجبون عنا اسماً من الأسماء الستة وهو: الهن؛ لأن (الهن) اسم لما يستقبح ذكره، وإن شئت فقل: هو اسم من أسماء الدبر، ولما لم يكن ذلك مناسباً لعقول الصغار حذفوه من الأسماء الستة، وقالوا: هي أسماء خمسة، وهي في الحقيقة أسماء ستة.
[قال ابن عون: حتى نشأ ها هنا هني حقير يقال له: سيسويه البقال، فكان أول من تكلم في القدر، قال حماد: فما ظنكم برجل يقول له ابن عون: هني حقير].
فـ ابن عون في الحقيقة كان إماماً في الفضل والعلم والورع والتقى، وكان يشار إليه بالبنان، وكان مشهوراً في زمانه وبعد زمانه بالإمامة والعلم، وكان عفيف اللسان جداً لا يكاد يتكلم في أحد مطلقاً، فما بالك أنه يتجرأ ويقول عن رجل: (هني حقير؟!) فهذا بمثابة رميه بالكفر، وهذا قد جرى من كثير من أهل العلم كالإمام أحمد بن حنبل، فقد كلامه في الرجل كالمسمار في الصاج لا يمكن أن يثنى عنه.
والإمام البخاري عليه رحمة الله يقول: إذا قلت في رجل ضعيف؛ فلا تحل الرواية عنه، وهذه الكلمة لم يستخدمها عامة النقاد، وإنما الضعيف عند النقاد ضعيف، ولكن إذا قال البخاري عن راو: ضعيف فلا تحل الرواية عنه؛ لأن الضعيف عند البخاري يساوي عند غير البخاري كذاب، ولكن الإمام البخاري كان عفيف اللسان جداً، وعلى أي حال هذه مصطلحات، ولكل ناقد مصطلحاته الخاصة.(60/4)
أول من تكلم في القدر
قال: [عن الأوزاعي قال: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن -وربما يكون سيسويه أو سنسويه، وهو اسم فارسي معرب إلى سوسن - وقد كان نصرانياً فأسلم -أي: أثناء فتح العراق- ثم تنصر -أي: ارتد عن دين الإسلام- فأخذ عنه معبد الجهني -وبئس المعبد هو معبد الجهني -، وأخذ غيلان عن معبد]، أي: غيلان الدمشقي.
[وعن يونس بن عبيد قال: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سيسويه، ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوانة].
وقوله: (وآخر معلون) هذا اللعن إنما جاء على حكم سابق عليه وهو التكفير، وإذا قرأت في كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي في هذا الباب: باب أول من أنشأ بدعة القدر؛ لوجدت لعناً وسباً لـ سنسويه ومعبد الجهني وغيلان الدمشقي وسائر من تكلم في مسألة القدر وغيرها من مسائل الابتداع العظيمة، وقد أنكر علي بعض أهل العلم -ومنهم شيخنا الشيخ مصطفى محمد شيخ حلوان- أني لعنت معبداً في محاضرة من المحاضرات، وقال: لا يجوز لعنه، فأرسلت إليه بكتاب الإبانة لـ ابن بطة وكتاب أصول الاعتقاد للالكائي في نفس الباب، وقد سبه أكثر من عشرة من أهل العلم ولعنوه لعناً صريحاً بقولهم: لعنة الله على معبد، وقولهم: الملعون، وقولهم: معبد لعنه الله، وغير ذلك من ألفاظ اللعن المختلفة التي انصبت من سلف الأمة على هذا الرجل، ولا يلزم من اللعن الكفر، كما أنه لا يلزم من القتل الكفر، وربما يقتل الرجل لبدعة عظيمة ابتدعها طار شررها، وعظم خطرها في الأمة، فيقتل من باب المحافظة على الأمة، ولخطورة البدعة، لا لكونه كافراً.
وخالد بن عبد الله القسري -رحمه الله- لما خطب خطبة عيد الأضحى نزل من على المنبر وقال: ضحوا أيها الناس! تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، فلما سئل خالد القسري عن الجعد بن درهم أكافر هو؟ قال: لا، مع أنه ذبحه ذبحاً كما تذبح الشاة في أصل المنبر والناس وفرة في هذا الوقف في صلاة العيد، وما أنكر عليه أحد؛ لبدعته العظيمة جداً والقصيرة جداً التي انتشرت في الناس، وجل السلف كفروا هؤلاء.
ثم إن سوسن قد ارتد واختار طريق الكفر، وأما معبد الجهني فعامة السلف على تكفيره، وعلى تكفير أئمة الضلال في كل بدعة من البدع، وفي كل فرقة من تلك الفرق.
قال ابن عون: أدركت البصرة وما بها أحد يقول هذا القول -أي: في القدر- إلا رجلان ما لهما ثالث معبد الجهني، وسيسويه، وكان محقوراً ذليلاً].
أي: كان طريداً لا يعبأ به أحد، [وهذه القدرية والمعتزلة كذبوا على الحسن -وهو إمام السنة الإمام الحسن بن أبي الحسن البصري أبي سعيد - ونحلوه ما لم يكن من قوله]، يعني: نسبوا إليه كلاماً ليس من قوله.
قال: [قد قاعدنا الحسن وسمعنا مقالته، ولو علمنا أن أمرهم يصير إلى هذا لو أثبتناهم عند الحسن رحمه الله، وليكون لأمرهم هذا غب -أي: خطر-، وإني لأظن عامة من أهل البصرة إنما يصرف عنهم النصر لما فيهم من القدرية].
يعني: أن النصر ليس حليف أهل البصرة لما فيهم من القول بالقدر، وهذا يدل على أن صاحب البدعة لا ينصر حتى يدع بدعته، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).(60/5)
سبب انتشار القدرية
قال: [عن داود بن أبي هند قال: ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى]، أي: حتى انتشر من أسلم من النصارى، فقالوا بقولهم الذي كانوا يعتقدون في أيام نصرانيتهم.
وهكذا دخول كل غريب على الإسلام وبعيد عنه لا بد أن يحدث فيه أثراً سلبياً، وقد تكلمت من قبل عن خطورة ترجمة كتب فلاسفة اليونان في عصر المأمون في الدولة العباسية، فإنه لما ترجمت هذه الكتب دخل على الأمة من الفلسفة والمنطق والبدع والخرافات ما كانوا عنه في غنىً، وكان المأمون حسن القصد في ذلك، ولكن حسن القصد وحده دائماً لا يكفي.(60/6)
الحث على العقيدة الصحيحة وهي عقيدة الفطرة
قال: [عن أنس بن عياض قال: أرسل إلي عبد الله بن هرمز فقال: أدركت وما بالمدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل من جهينة يقال له: معبد، فعليكم بدين العواتق اللاتي لا يعرفن إلا الله عز وجل].
وكم من شخص من أئمة الضلال بعدما صال وجال وقرأ الكتب وصنف المصنفات؛ وهو على فراش الموت أيقن أن الحق في خلاف ما قال، فكانت وصيته لأبنائه ولتلاميذه وللأمة من بعده: أن عليكم بدين آبائكم وأمهاتكم.
وحقيقة الواحد منا يشعر أحياناً بأن أمه وجدته اللتين لا حظ لهما من العلم، ولم تجلسا إلى عالم، ولا سمعتا الخطب الرنانة، ولا درستا كتب السنة ولا غيرها؛ أصح اعتقاداً منه، وأعظم توكلاً على الله تعالى منه، فهذا هو أصل الدين المفطور والمركوز في فطر آبائنا وأجدادنا وأمهاتنا.
وقد كان الواحد منهم على فراش الموت يقول: دعوكم من قولي، فإني أبرأ إلى الله من كل قول قلته يخالف قول السلف، وعليكم بدين العجائز، أي: عليكم بدين كبار السن من الآباء والأمهات، وهذا اعتراف منهم بفرط ضلالهم، وأن من لم تتلوث فطرته من عامة الناس أحسن حالاً منهم.(60/7)
الضرر الذي أحدثه غيلان الدمشقي في الأمة
قال: [قال مكحول: حسيب غيلان الله -يعني: الله تعالى حسيبه، وهو الذي يحاسبه-؛ لقد ترك هذه الأمة في لجج مثل لجج البحار] أي: في الفتن والاختلافات أعظم من اضطراب أمواج البحر؛ وذلك بقوله في القدر.
[وعن ثابت بن ثوبان قال: سمعت مكحولاً يقول: ويحك يا غيلان! ركبت في هذه الأمة مضمار الحرورية -أي: طريق الحرورية، وهي فرقة ضالة من فرق الخوارج- غير أنك لا تخرج عليهم بالسيف -أي: والحرورية خرجوا على علي بن أبي طالب وعلى من أتى بعده بالسيف، فأنت أعظم خطراً على الأمة من الحرورية، غير أن الحرورية إنما خرجوا بالسيف وأنت لم تخرج بالسيف -والله لأنا على هذا الأمة منك أخوف من المزققين أصحاب الخمر]، أي: الذين يأخذون الخمر في الزق، والزق: وعاء من جلد يشرب فيه الخمر.(60/8)
خطورة الغزو الفكري
صنف أكثر من شخص في خطورة الفكر والغزو الفكري، وأن خطره أعظم من خطورة السيف والدبابة والطائرة، ولقد تنبه العدو مؤخراً إلى أن هذه الشعوب المؤمنة المسلمة وقت النزال والحروب العسكرية يجتمعون وتجتمع كلمتهم، وأن أهل الكفر والغرب لا قبل لهم بأبناء الإسلام حين النزال العسكري، فوضعوا أوزار الحرب وتركوا هذا اللون منها، وبحثوا بعد ذلك عن ألوان أخرى أشد فتكاً بأمة الإسلام من البندقية والطائرة والدبابة، وهذا هو الغزو الفكري، مع أن الغزو العسكري سريع التأثير جداً، وهو يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً في لحظة واحدة، ولا يحتاج إلى وقت ودراسة، بخلاف الغزو الفكري فإنه يحتاج إلى وقت طويل جداً، والعدو أصبر على مراده من أبناء المسلمين.
فالانقلاب العسكري يقلب الدولة رأساً على عقب في لحظة واحدة، فبعد أن كانت علمانية تصبح مسلمة، وبعد أن كانت مسلمة تصبح علمانية في لحظة واحدة، فالتكتيك العسكري لا يحتاج إلى وقت، وإنما التكتيك الفكري هو الذي يحتاج إلى وقت.
ولو ناقشت رجلاً الآن في أي مسألة شرعية يقول لك: أنا منذ (60) سنة أصلي وأصوم فكيف تأتي وتصحح لي قولاً قد أخذته عن آبائي وأجدادي؟ وهو في الحقيقة لم يأخذه عن آبائه وأجداده، ولكنه شرب السم في العسل، فهو يتصور أنه هنيء وهو رديء، ويتصور أنه حق وهو باطل، ويتصور أنه خير وهو شر، ولكنه تربى على أنه هنيء وخير وحق، فيصعب جداً زحزحته عما يعتقده إلا مع الصبر عليه وطول الوقت، أو فناء هذه الأجيال ونشوء أجيال أخرى تتربى على غير ما تربى عليه الآباء والأمهات.
فالغزو الفكري طويل الأمد، وعظيم التأثير؛ بخلاف الغزو الاقتصادي أو الغزو العسكري أو غير ذلك من الغزو السريع المؤقت.(60/9)
إهانة السلف لأهل البدع
قال: [عن عمرو بن دينار قال: بينما طاوس -وهو طاوس بن كيسان اليماني - يطوف بالبيت لقيه معبد الجهني، فقال له طاوس: أنت معبد؟ قال: نعم، قال: فالتفت طاوس إلى تلاميذه وقال: هذا معبد فأهينوه].
وهذه الإهانة أين كانت حول الكعبة، ولا يقال: كيف يهان رجل حول الكعبة مع حرمة الكعبة والمسجد؟ لأن المسجد مع حرمته له رسائل في الإسلام عظيمة وكبيرة جداً ومنها: إقامة الحدود، ومحاربة البدع، والمناظرات، وإرجاع المبطل عن باطله، وغير ذلك.
وعمرو بن عبيد المعتزلي والقدري كان من سادات أهل الضلال والبدع، [قال حماد بن زيد: كنت مع أيوب ويونس وابن عون -وهؤلاء الثلاثة من أئمة السنة- فمر بهم عمرو بن عبيد فسلم عليهم ووقف، فلم يردوا عليه السلام].
والعامة اليوم تقول: السلام حق الله، وما لنا والمبتدع سواء قدرياً أو غير ذلك.(60/10)
شؤم الاعتراض والكلام بغير علم
وفي يوم الإثنين الماضي لما كنت أنبه أن المشاركة في عيد شم النسيم هي مشاركة لأهل الخميس، وقد صنف الإمام الذهبي عليه رحمة الله كتيباً صغيراً قدر الكف لكنه مركز جداً في قضية الولاء والبراء، وسماه: نهي الخسيس عن التشبه بأهل الخميس، نهي الخسيس أي: من المسلمين الذي يتشبه بالنصارى، والأعياد بإجماع المسلمين ليست من الأحكام الشرعية وإنما هي من باب العقائد، وهذا عيد من أعياد النصارى، ولما قلت: لا يجوز لمسلم أن يشارك النصارى في هذا اليوم، وهذا عيد من أعيادهم؛ قام إلي رجلان أحدهما استنكر هذا القول جداً وقال: الأعياد ليست من العبادات، وهو قد تربى في أحضان أمريكا سبعة وعشرين عاماً، حتى تعلموا أن الذي يذهب إلى هناك وإلى دول أوروبا مهما حرص على التزامه لا بد أن يحصل له شيء من التفلت، والإنسان جزء من المجتمع، والإخوة في مصر جزء من المجتمع المصري، وبلايا المجتمع المصري يتلطخ بها الإخوة.
ولذلك من الخطأ العظيم جداً أن تقول لرجل من الناس أو أخ من الإخوة: كيف تفعل هذا؟ وأنت تفعله! وكونك علمت أن هذا الفعل لا ينبغي منه إذاً: فلا ينبغي منك أنت كذلك، ولا ينبغي للمدخن أن يقبل أن يدخن هو ولا يقبلها من أخ ملتح، فالتدخين حرام على الحليق وعلى الملتحي، فلم يقبله الحليق على نفسه ويستنكره على الأخ الملتحي ويقول: هذا شيخ؟! وإذا دخل شيخ السينما فكل الناس ينظرون إليه ويتلفتون شمالاً ويميناً ويقولون: كيف يدخل شيخ سينما؟! يعني: أنهم عارفون أن دخول السينما حرام؟ ويقولون: نعم دخول السينما حرام، فإذا سألتهم فلماذا دخلتم؟ يقولون: هذا شيخ، وقد يأتيه داخل السينما أكثر من مائة يلومونه مع أنهم أولى باللوم، وكل واحد منهم يقول: أنا لست شيخاً، وكأنه يقول: أنا لست مسلماً، ولست مطالباً بالحلال والحرام، بل كل شيء لدي جائز ومباح، فيكون هو الذي حكم على نفسه ولم يحكم عليه أحد.
وقام الثاني إلي وقال: أنا أختلف معك؛ لأن هذا عيد الفراعنة، قلت: ولو سلمنا أنه عيد فرعوني فهل يجوز الاحتفال به؟ وقصده أن الفراعنة هؤلاء قد آمنوا وتركوا الكفر، وأن الفرعنة أيضاً ليست كفراً، يعني: أن فرعون هذا كان مؤمناً، وهناك من يقول: إن فرعون كان مؤمناً، وقد صُنف في ذلك كتاب اسمه: إثبات إيمان فرعون، واستدل بقوله تعالى: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90].(60/11)
الفرق بين الوعد والوعيد في كلام العرب
[قال الأصمعي: كنا عند أبي عمرو بن العلاء فجاء عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو! يخلف الله وعده؟ -يعني: هل يمكن أن يخلف الله وعده؟ - قال: لا، قال: أرأيت من وعده الله على عمل عقاباً؟] ولم يقل: أريت من توعده، وهناك فرق بين الوعد والوعيد، فالوعد لا يخلفه الله، وأما الوعيد فتحت مشيئة الله، فإذا توعد الله عبداً على فعل بعقاب فإما أن ينفذ فيه عقابه أو يعفو عنه، ونحن نقول: إن مرتكب الكبيرة يوم القيامة إذا لم يتب ولم يقم عليه الحد؛ أنه في مشيئة الله: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
فهناك فرق بين الوعد والوعيد، والله لا يخلف الميعاد، أي: لا يخلف الوعد؛ لأن وعده لا يتخلف، وإنما إذا أوعد أو توعد الله عبداً على فعل شر فهو في مشيئته إن شاء أوقعه به، وإن شاء عفا وأصلح سبحانه وتعالى.
فهنا عمرو بن عبيد يقول لـ أبي عمر بن العلاء: هل يمكن أن يخلف الله وعده؟ قال: مستحيل؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9].
قال له: [أرأيت لو أن الله وعد على عمل عقاباً، وهذا الكلام لا يجوز والأصل أن يقول: أرأيت لو أن الله توعد، فأتي عمرو بن عبيد من الخلط واللبس لديه بين الوعد والوعيد، ولذلك قال له: أرأيت من وعده الله على عمل عقاباً أليس هو منجزه له؟ فقال له أبو عمر: يا أبا عثمان من العجمة أتيت -أي: هذا ليس من كلام العرب، وهذا في اللغة لا يستقيم- لا يعد عاراً ولا خلفاً أن تعد شراً ثم لا تفي به، بل تعده فضلاً وكرماً، إنما العار أن تعد خيراً ثم لا تفي به].
يريد أن يقول له: إنه جاء في كلام العرب أن الواحد إذا وعد خيراً وفى به، ولو تخلف عن الوفاء بالخير والفضل والكرم لكان هذا عاراً في حق الآدمي، فما بالك بالله عز وجل؟! ولله المثل الأعلى، ومن وعد من الخلق شراً فعفا عنه عد ذلك من الكرم، ولا يقال: إنه أخلف الوعد، وهذا كما تقول لابنك: لو لم تذاكر لأضربنك، فلو لم يذاكر ولم تضربه فلن يقول لك: يا من وعدتني وأخلفت! يا من لست قادراً على تنفيذ قولك! بل يعد هذا من كرم أبيه وسماحته، ثم هو بعد ذلك يحاول أن يجتهد في أن يفي بما يرضي والده.
[فقال عمرو بن عبيد لـ أبي عمر بن العلاء: أهذا في كلام العرب؟ -يعني: الفرق بين الوعد والوعيد، وأن الوعد لا يتخلف والوعيد يتخلف موجود في لغة العرب؟ - قال: نعم، قال: أين هو؟ قال قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي] فقوله: (وإني وإن أوعدته) أي: توعدته، (أو وعدته) أي: في الخير والفضل، (لمخلف إيعادي) يعني: سوف أتوعده وأخلف هذا الوعيد، (ومنجز موعدي) أي: منفذ وعدي؛ فهذا الفرق بين الوعد والوعيد موجود في كلام العرب، فالوعيد يتخلف أحياناً حسب المشيئة، وأما الوعد فلا يتخلف، وهذا فضل من الله وكرم.(60/12)
لا أسوة في الشر
كان الحسن البصري مبتلى بأهل البدع، فقد كان بصرياً، وأرض العراق أرض الفتن والبلايا خاصة البصرة والكوفة، والفتن فيها تموج موج البحر في كل زمان وفي كل عصر إلى اليوم.
أحدهم كان مشهوراً، واسمه على الكتب له وزنه، وقد بلغنا أنه لا يصلي، فجاء إلى الأردن سنة (1985م)، والتقيت معه في مكة عند الشيخ سامي الأرناؤوطي حفظه الله، فقلت: يا فلان! بلغني عنك شيء قد غم كل من سمعه، قال: ادع لي ربنا يوفقني، قلت: وهل هذا الكلام صحيح؟ أنا أقول لك هذا الكلام لكي تكذب الخبر، فضحك، فقلت له: تضحك وأنت عالم وتارك للصلاة كيف ذلك؟! قال: أنا أحببت أن أتأكد أنها الصلاة، فقد يكون الأمر شيئاً آخر غير الصلاة.
فقال: يا شيخ! ادع لي، وكل إنسان مبتلى، وقد كان من السلف فلان وفلان وفلان لا يصلون، قلت له: لا أسوة في الشر، وقد ورد في ميزان الاعتدال في أسماء الرجال للإمام الذهبي ترجمة أحد الأعلام الكبار، وله مصنف في أصول الفقه في أربع مجلدات، فقال: ويغلب على الظن أنه كان تاركاً للصلاة، حتى كان ذلك محل نظر الطلاب، فاختلفوا فيه، فقال بعضهم: إنه يصلي وقال البعض الآخر: لا يصلي، فقالوا: إذا نام لطخنا قدمه بالحبر الأسود فننظر هل يذهبه ماء الوضوء أم لا؛ حتى نتيقن من دون أن نسأله؟ فبقي الحبر في قدمه يومين لم يذهب، وهذا بلاء عظيم جداً، ولكن لا أسوة في الشر وإن أجمع الناس جميعاً على ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج، فلا يحل لمسلم قط أن يترك ذلك ويقول: فلان ترك كذا وفلان ترك كذا، وأنا كذلك أترك هذا، فهذا لا يجوز، وأنا في الحقيقة متأسف أني ذكرت ذلك.
وعمرو بن عبيد كان من رءوس البدع بعد واصل بن عطاء، ودائماً أهل البدع يجلسون مع بعضهم البعض حتى في الدرس، فالطيور على أشكالها تقع، في حين أن الأخ الذي يأتي إلى الدرس فقط يجلس يستمع إلى الدرس ولا يهمه من هو جالس عن يمينه وعن شماله، ومن ورائه ومن أمامه.
وكان في مجلس الشافعي جماعة من أهل اللغة العربية، وهؤلاء ما كانوا يأتون لكي يسمعوا العقيدة ولا السنة ولا الأحكام ولا الحلال والحرام، وإنما كانوا يأتون لكي يستمتعوا بجمال وروعة لسان الشافعي، فقد كان الشافعي في اللغة حجة، وهذا قول أشهر من أن يذكر، فكانوا يجلسون في آخر المسجد وفي آخر الخيمة لكي يستمتعوا بكلام الشافعي، ولكي يرووا الأدبيات والفصاحة والبلاغة واللغة والكلمات التي تخفى عليهم في اللغة العربية، وهؤلاء جاءوا لغرض معين، وأما الحلال والحرام فليس طريقهم، وهؤلاء مثل شخص يقول: كلما تتكلم في الإسناد أنام، وإذا تكلمت في المتن أستيقظ، أو مثل من يقول: أنا آتي بسبب كلمة واحدة وهي حلال أو حرام، ولما تتكلم في المسألة أبقى حريصاً على سماع الكلمة النهائية حلال أو حرام، ولذلك استوقفك إذا تعديتها وأقول لك: يا شيخ! هذه المسألة حلال أم حرام؟ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهو صاحب حق فيما يطلب، فهو يقول: أنا أريد أن أعرف هل هذه المسألة حلال أم حرام، ثم تسأله عنها بعد عشرين سنة فيقول لك: أنت قلت في مسجد الرحمة في شارع الهرم سنة كذا: إنها حرام.(60/13)
رأي واصل بن عطاء في مرتكب الكبيرة
جاء الحسن البصري شخص يسأله: يا أبا سعيد! ما تقول في مرتكب الكبيرة، وتصور لو أن شخصاً يسألني الآن سؤالاً وقام كل أحد من الجالسين يجيب، فهذا ليس من أدب العلم، ولا من أدب المجلس مهما كان ضعفي؛ لأن السؤال موجه لي وأنا صاحب المجلس.
إذاً: أنا الذي أجيب أو أطلب الجواب من الحاضرين، فقام واصل بن عطاء وقال: لا هو مؤمن ولا هو كافر، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ثم أشار إلى جماعته فقاموا وذهبوا إلى آخر المجلس، فقال الحسن رحمه الله: اعتزلنا واصل، فسميت هذه الفرقة بالمعتزلة إلى يوم القيامة، وهي من أعظم فرق الضلال في الأمة، وكان منشؤها في أوائل القرن الثاني الهجري على يد واصل، فهو أول من اعتزل، وأول من تكلم في مرتكب الكبيرة بكلام يخالف فيه كلام أهل السنة والجماعة.(60/14)
حال عمرو بن عبيد المعتزلي
[وغضب الحسن مرة على عمرو بن عبيد فعوتب فيه فقال: تعاتبوني في رجل رأيته -والله الذي لا إله إلا هو- في النوم يسجد للشمس من دون الله عز وجل!] أي: أنه وثني.
[وعن ثابت البناني قال: رأيت عمرو بن عبيد فيما يرى النائم وهو يحك آية من المصحف].
والرؤى مبشرات أو منفرات، وهي لا يؤخذ منها عقائد، ونحن لا نحكم على عمرو بن عبيد من واقع رؤية رآها الحسن ولا أيوب ولا يونس ولا أحد من هؤلاء، لكن هذه منزلة هذا الرجل عند هؤلاء أهل الإيمان والشفافية المطلقة في الإيمان، وهم قد رأوه في النوم وصحت الأسانيد بذلك.
[قال مطر الوراق: لقيني عمرو بن عبيد فقال: إني وإياك لعلى أمر واحد -يعني: عمرو بن عبيد أراد أن يخدع مطراً - فقال له مطر: لا والله كذب عمرو، وإنما عنى: على الأرض]، أي: على كوكب الأرض، وهذا من المعاريض التي يستخدمها أهل العلم.
وجاء رجل أيضاً إلى الحسن البصري وقال له: يا إمام! لقد داينت فلاناً بدين وأنا أريده وهو يمنعني، فجاء الرجل إلى الحسن فقال الحسن: أعطه ماله، قال: سأدفعه له اليوم أو غداً.
فتبسم أبو سعيد فقيل له: ماذا فهمت؟ قال: فهمت أنه يقصد أنه سوف يدفعه له في الدنيا أو في الآخرة، فالمقصود باليوم الدنيا، وغداً الآخرة، فهؤلاء أئمة لا يمكن لأحد أن يضحك عليهم؛ لأن الله نور بصيرتهم.
وأول من تكلم في القدر هو سوسن الذي كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، ثم أخذ عنه معبد الجهني، وهو رجل من أهل البصرة، ثم أخذه رجل من دمشق يسمى غيلان الدمشقي، وهؤلاء هم أئمة هذه البدعة في القدر، وأما واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد فإنهما إماما الاعتزال، وعمرو بن عبيد له كلام كذلك في القدر.(60/15)
ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير عن القدر والجدال والخوض فيه
قال: [الباب الثالث: ما أمر الناس به من ترك البحث والتنقير في مسائل القدر، والخوض والجدال فيه.
عن أبي ذر قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتذاكرون شيئاً من القدر، فخرج مغضباً كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟! أوما نهيتم عن هذا؟ إنما هلكت الأمم قبلكم في هذا، إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا)].
فهذه الثلاثة لا يحل لأحد أن يخوض فيها، والنجوم ليس لنا منها إلا معرفة الأوقات والشهور وحساب الزمان ومعرفة الطرق وغير ذلك، وأما استخدامها في السحر والعرافة والشعوذة فهذا شرك بالله عز وجل.
وأما الصحابة رضي الله عنهم فنذكرهم بكل خير، ونتجاوز عن كل ما كان دون ذلك بينهم، فهم أولاً وآخراً بشر يجري عليهم ما يجري على البشر، وهم أفضل البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، ومذهب أهل السنة عامة الإمساك عما شجر بين الصحابة، وعدم ذكر ذلك إلا لعالم يريد أن يذكر معتقد أهل السنة والجماعة في مثل هذا، ونعتقد أنه إذا كان قد بدر منهم شيء يشين في الظاهر فلهم من الفضل والعلم والعبادة والجهاد وغير ذلك أمثال الجبال مما يكفر ما قد ورد مما كان بينهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
[وعن أبي هريرة قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى أحمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه حب الرمان، ثم أقبل علينا فقال: أبهذا أمرتم؟! أم بهذا أرسلت إليكم؟! -وهذا سؤال استنكاري- إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر -أي: في القدر- عزمت عليكم -أي: أوجبت عليكم- ألا تنازعوا فيه).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - عمرو بن العاص - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر؛ هذا ينزع آية وذاك ينزع آية -يعني: هذا يأتي بآية يثبت فيها القدر، وذاك يأتي بآية ينفي فيها القدر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبهذا أمرتم؟! أبهذا وكلتم؟! تضربون كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه)].(60/16)
ما جاء عن السلف في النهي عن الكلام في القدر
[وقال ابن أبزى: بلغ عمر أن ناساً تكلموا في القدر، فقام خطيباً وقال: يا أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم في القدر، والذي نفسي بيده لا أسمع برجلين تكلما فيه إلا ضربت أعناقهما -وكان عمر يأتي للأمر من جذوره، رضي الله عنه- فأمسك الناس حتى نبغت نابغة في الشام].
وهو غيلان.
[وعن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال: يا أبا عباس أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله وإياك وذكر أصحاب النبي].
فإذا ذكرت الخلاف بين معاوية رضي الله عنه وعلي رضي الله عنه، وإذا كنت تعتقد هذا الشيء فينبغي أن تذكر جبال الطاعات والحسنات التي كانت لـ معاوية ولـ علي؛ [فإنك لا تدري ما سبق لهما من الفضل، وإياك وعمل النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر؛ فإنها تدعوا إلى كهانة]، يعني: أنها تؤدي بك إلى العرافة والكهانة والسحر، [وإياك ومجالسة الذين يكذبون بالقدر، ومن أحب أن تستجاب دعوته، وأن يزكى عمله ويقبل منه؛ فليصدق حديثه، وليؤد أمانته، وليسلم صدره للمسلمين].
[وعن أبي الخليل قال: كنا نتحدث عن القدر فوقف علينا ابن عباس فقال: إنكم قد أفضتم في أمر لم تدركوا غوره]، يعني: أن الذي يدخل ويتكلم في القدر فقل أن يرجع سالماً.
[وقال مسلم بن يسار في الكلام عن القدر: هما واديان عريضان -أي: القضاء والقدر- عميقان، يسلك الناس فيهما، لم يدرك غورهما -يعني: مهما سلكوا فيهما فلن يصلوا- فاعمل عمل رجل يعلم أنه لن ينجيه إلا عمله، وتوكل توكل رجل يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له].
وهذا كلام جميل ومريح.
[وقال زياد بن عمر القرشي عن أبيه: كنت جالساً عند ابن عمر فسئل عن القدر، فقال: شيء أراد الله ألا يطلعكم عليه -أي: هو شيء ستره الله عنكم، وهو سر الله في الخلق- فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم] أو ما أخفى عنكم.
[وعن عبدة بن أبي لبابة قال: علم الله ما هو خالق، وما الخلق عاملون، -أي: أن الله تعالى علم قبل أن يخلق الخلق أنه سيخلق الخلق، وأنهم سيعملون الخير والشر- ثم كتبه -أي: كتب ذلك في اللوح المحفوظ- ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]].
قال الشيخ ابن بطة رحمه الله: [فجميع ما قد رويناه في هذا الباب يلزم العقلاء الإيمان بالقدر -أي: أن الإيمان بالقدر واجب-، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره]، أي الرضا بقضاء الله وقدره الشرعي، وأما الكوني: فنحن نبغض ما يبغضه الله، ونحب ما يحبه الله.
قال: [وترك البحث والتنقير، وإسقاط لم وكيف وليت ولولا]، يعني: لا تقل: لماذا ربنا خلق هذا ولم يخلق هذا؟ ولم أثاب الله فلاناً؟ ولم قتل فلاناً؟ ولم أحيا فلاناً؟ فهذا لا يمكن أن يكون خطاباً مع الله عز وجل، فإن هذه كلها اعتراضات من العبد على ربه، ومن الجاهل على العالم معارضة، ومن المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى -أي: أن ترضى بما قضاه الله وقدره، وأن تسلم لله عز وجل في أمره ونهيه، هذا طريق الهدى- وسبيل أهل التقوى، ومذهب من شرح الله صدره للإسلام، فهو على نور من ربه، فهو يؤمن بالقدر كله خيره وشره، وأنه واقع بمقدور الله، جرى بذلك العلم والقلم، ومن يعلم أن الله يضل من يشاء؛ ويهدي من يشاء فقد سلك سبيل الرشاد، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وسأزيد من بيان الحجة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته، وعن التابعين وفقهاء المسلمين في ترك مجالسة القدرية، ومواضعتهم القول ومناظرتهم والإعراض عنهم، وقد تكلمنا في هذا من قبل].
يعني: قد تكلمنا ونقلنا نقولات عظيمة جداً عن السلف في عدم مناكحة القدرية، ومجالستهم ومناظرتهم، وعدم الصلاة خلفهم، وعدم عيادة مرضاهم، وعدم تشييع جنائزهم، ومقاطعتهم مقاطعة تامة؛ لما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة).(60/17)
يشترط في المناظر لبيان الحق إجادة فن المناظرة
[عن الليث بن سعد المصري عن عبد الله بن عمر العمري قال: كنا نجالس يحيى بن سعيد -وهو الأنصاري - فينشر علينا مثل اللؤلؤ]، يعني: يحدثنا بحديث كاللؤلؤ، وهذا ثناء على يحيى بن سعيد عالم المدينة في العلم.
ولما ذهب الأعمش إلى المدينة -وكان في الكوفة- اجتمع الناس عليه، فقال أهل المدينة: من هذا؟ قالوا: هذا سليمان بن مهران الأعمش الكوفي، فقالوا: من هو؟ فقالوا: هذا عالم الكوفة، فقالوا: إذاً: نسمع من حديثه، فجلس الأعمش للتحديث فانبهر علماء المدينة بما عنده من العلم، وقالوا: هذا علم الكوفة؟ أي: هل أحد في الكوفة عنده هذا العلم؟ قال: [فإذا اطلع ربيعة -وهو ابن أبي عبد الرحمن صاحب الرأي- قطع يحيى الحديث؛ إعظاماً لـ ربيعة] وقد كان السلف لا يتحدثون في مجلس أو في قرية وهم يعلمون أن في القرية من هو أعلم منهم.
قال: [فبينما نحن يوماً عنده وهو يحدثنا فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] قال له جميل بن بنانة العراقي وهو جالس معنا: يا أبا محمد! -يعني: يكلم يحيى بن سعيد - أرأيت السحر من تلك الخزائن؟ قال يحيى: سبحان الله! ما هذا من مسائل المسلمين -يعني: ما ينبغي للمسلم أن يسأل هذا السؤال- فقال عبد الله بن أبي حبيبة: إن أبا محمد ليس بصاحب خصومة، ولكن علي فأقبل].
يعني: أن يحيى بن سعيد رجل عالم، وليس من أصحاب الكلام الذي تذكرون؛ فتعال إلي، ودع أبا محمد يحيى بن سعيد الأنصاري، وهذا يدل على أن الرجل ربما يكون عالماً لكنه لا يجيد المناظرة مع أهل البدع، فقد يخدعه أهل البدع، فلا يستحضر ما عنده من علم، ولو استحضر لا يعرف يرتبه، فلا بد للمناظر أن يكون عالماً، والمناظرة فن.
وقد تمكن من هذا الفن في هذا الزمان الشيخ الألباني رحمه الله، وأكثر من يعجبني بعد الشيخ الألباني في المناظرة الشيخ محمد بن عبد المقصود، فإنه كالسبع يلتهم من أمامه، ولا يجادله إلا خاسر، وقد تجد الواحد يتكلم عن الشيخ محمد بن عبد المقصود بكلام غير مقبول؛ فإذا أتى أمامه طأطأ رأسه، وقد كان بالأمس يتكلم وهو رافع صوته، ولا يوجد أحد يرد عليه، فتراه يجلس على الكرسي أو تحت الكرسي ولا يريد أحداً أن يراه، ولا يتكلم بشيء أبداً، والشيخ جالس ينتظر أن يتكلم أي كلمة، ولكنه لا يريد أن يتكلم، ويقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت.
قال: [إن أبا محمد! ليس بصاحب خصومة ولكن علي فأقبل، أما أنا فأقول: إن السحر لا يضر إلا بإذن الله، هذا الذي عندي، أفتقول أنت غير ذلك؟ فسكت فكأنما سقط عن جبل.
وقال رجل من الشيعة: قلنا لـ جعفر بن محمد رحمه الله: إن المعتزلة تنافرنا نفاراً شديداً -يعني: يناظرونا ويجادلونا حتى لا نقدر أن نتكلم معهم- فقل لنا شيئاً حتى نقاتلهم به -يعني: نغلبهم- فقال: اكتبوا: إن الله عز وجل لا يطاع قهراً، ولا يعصى قسراً].
يعني: أن ربنا لا يقهر الطائع على طاعته، كما أنه لا يمكن أن يعصى بغير إرادته، ولكنها إرادة كونية قدرية، فإذا أراد الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت، فإذا عذب فبحق، وإن عفا فبفضل.
[قال أبو عمر: وسمعت أبا العباس ثعلباً يقول: قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] خصوص وليس عموماً، ولو كان عموماً لما كفر به أحد.
[وقال عمر بن محمد العمري: جاء رجل إلى سالم بن عبد الله فقال: رجل زنا، فقال سالم: يستغفر الله ويتوب إليه، فقال له الرجل: الله قدره عليه، فقال سالم: نعم.
ثم أخذ قبضة من الحصى فضرب بها وجه الرجل، وقال: قم] أي: يا مبتدع!(60/18)
كل شيء بقدر
قال: [وقال أبو هريرة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: (فقلت: إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء، فائذن لي يا رسول الله! أن أختصي، قال: فسكت عني، فأعدت عليه فسكت عني أربع مرات، ثم قال: يا أبا هريرة! قد جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر)].
أي: اختصي أو اترك الخصاء فما تفعله يا أبا هريرة! مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله السموات والأرض.
[وعن عبد الله بن مسعود قال: (قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم متعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، فلن يعجل شيء قبل أجله، لو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، وعذاب في القبر؛ كان خيراً وأفضل)].
[عن الأصمعي قال: مر أعرابي -وكان فصيحاً فاضلاً، وكان من أهل الخير- بقوم من أهل القدر يختصمون ويتناظرون، فقيل له: ألا تنزل فتجري معهم؟ -يعني: ألا تنزل تتكلم معهم في مسألة القدر، وتنظر في أي فريق فيهم تجلس؟ - فقال: هذا أمر قد اشتجرت فيه الظنون، وتقاول فيه المختلفون، والواجب علينا أن نرد ما أشكل من حكمه إلى ما سبق من علمه].
هذا القول هو ختام مسألة القدر، وبذلك يكون قد تم كتاب القدر، ويليه الكتاب الثالث وهو: الكلام عن الجهمية.
وإن شاء الله تعالى إذا فرغنا من كتاب الإبانة نبدأ في كتاب آخر من كتب السنة، وهو موسوعة في السنة، جمع كل كتب السنة المصنفة والمخطوطة بفضل الله عز وجل، ويبلغ خمسة عشرة مجلداً، وهو من تصنيف محدثكم العبد الفقير إلى الله تعالى.(60/19)
الأسئلة(60/20)
حال الدكتور مصطفى محمود
السؤال
هل الدكتور مصطفى محمود من المعتزلة؟
الجواب
هو من المعتزلة تارة، ومن القدرية تارة، ومن الشيعة تارة، ومن الصوفية تارة، وكلما أعجبته فكرة أو مسألة في أي فرقة من فرق الضلال قال بها، إلا فرقة واحدة لا علاقة له بها وهي: فرقة أهل السنة والجماعة، وهذا يذكرني بقول ابن حبان في نوح بن أبي مريم، ونوح بن أبي مريم كان كذاباً، فقد أخذ القرآن الكريم وألف حديثاً ونسبه للنبي عليه الصلاة والسلام وذكر فيه فضلاً لكل سورة من سور القرآن، فلما سئل عنه أبو حاتم قال: نوح الجامع جمع كل شيء إلا الخير، أي: أنه جمع الشر كله ولم يجمع من الخير شيئاً، وقوله هذا أولى به الدكتور مصطفى محمود.(60/21)
نصاب الذهب، وعياره المعتبر في النصاب
السؤال
هل نصاب الزكاة يكون إذا زاد عن خمسة وسبعين جرام ذهب؟ وهل عيار الذهب المعتبر في القياس هو واحد وعشرين أو أربعة وعشرين؟
الجواب
عيار الذهب المعتبر هو أربعة وعشرين؛ لأن هذا هو الذهب الخالص، والزكاة لا تجب إلا في الذهب الخالص إذا بلغ خمسة وثمانين جراماً؛ لأن الذهب -كما في الحديث- لا تجب فيه الزكاة إلا إذا بلغ عشرين مثقالاً، والمثقال الواحد أربعة جرامات وربع، وأربعة وربع في عشرين تصير خمسة وثمانين، فإذا كانت المرأة عندها مثلاً ذهب عيار سبعة عشر أو عيار واحد وعشرين فعليها أن تحسب العيار في مجموع ما عندها من جرامات على أربعة وعشرين، فيكون الناتج للجرام أربعة وعشرين، فتضيفه إلى ما عندها من أربعة وعشرين، فإذا بلغ مجموع ما عندها خمسة وثمانين جرام ذهب أو ما فوق فيجب فيه ربع العشر: اثنان ونصف في المائة.(60/22)
المصنفات في القدر
السؤال
هل كتاب الإبانة هو أصل ما صنف في باب القدر أم هناك مصنفات أخرى أفضل؟
الجواب
لا شك أنه أكثر استيعاباً، وهناك كتاب السنة للخلال، وكتاب السنة للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل، ولكن بتفاوت بينها في ذكر النصوص.(60/23)
معنى السنة الحسنة الواردة في حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة)
السؤال
قرأت حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم معناه: (أن من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها) إلى آخر الحديث، فما معناه؟
الجواب
هو حديث صحيح، والقرآن لا يفهم إلا بأسباب النزول، وكذلك السنة لا تفهم إلا بأسباب الورود، ولو نظرنا في المناسبة التي قيل فيها هذا الحديث لوجدنا أن القصة التي قيل فيها هي: أن قوماً أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجتابي النمار تعلوهم مناظر الجوع والكآبة والفقر، فلما رآهم النبي عليه الصلاة والسلام غضب لذلك وحزن واغتم، فلمح ذلك في وجهه رجل من أصحابه، فقام إلى بيته فأتى بما عنده من طعام وغذاء، فلما رأى الصحابة ذلك تنبهوا وقام كل منهم إلى بيته، فأتى أحدهم بما عنده من طعام، وبما عنده من غذاء، وبما عنده من شراب ووضعوه في نطع -أي: قطعة من الجلد المفروشة- حتى أصبح كومة عظيمة، فحملوها حتى كادت أيديهم أن تكل، بل قد كلت، أي: عجزت عن حمل هذا المتاع الذي جمع من هنا وهناك، فحينئذ تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة)، والذي سنها هو الأول الذي ذهب إلى بيته وفطن لمراد النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه السنة كانت مشروعة في الإسلام، فأصل الصدقة قد حث عليها القرآن وحثت عليها السنة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً)، وبالمقابل من سن في الإسلام سنة سيئة أو أحيا بدعة أميتت فعليه وزرها ووزر من عمل بها.
ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جمع الناس على صلاة الليل والقيام والتهجد في رمضان على أبي بن كعب؛ نظر إليهم وقال: نعمت البدعة.
وقيام رمضان جماعة في المسجد سنة، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام هو المشرع لها أصلاً، بدليل ما صح عنه أنه صلى أول يوم في بيته فصلى بصلاته الناس في المسجد، وفي اليوم الثاني ازداد الناس وكثروا حتى امتلأ المسجد، وفي اليوم الثالث لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم؛ لأنه قد خرج في اليوم الثاني، وخرج في صلاة الفجر، وقال: (لقد علمت ما كان منكم)، أي: ولكني لم أخرج متعمداً؛ مخافة أن تفرض عليهم.
فالأصل فيها أنها سنة مؤكدة مستحبة، فالنبي عليه الصلاة والسلام فعلها، وإن فعلها مرة فقد ثبت بذلك سنيتها واستحبابها، وكم من أمر مندوب فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة لبيان استحبابه أو لبيان الجواز، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما كلم في هذا قال: والله ما كنت لأفعل شيئاً تركه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد وخرج، وكان آخر الأمرين منه الترك فتركه أبو بكر.
وعمر اجتهد في هذه المسألة وخالف أبا بكر، فجمع الناس على صلاة القيام في المسجد، وقال: نعمت البدعة هي، وعلى فرض صحة هذا اللفظ عن عمر رضي الله عنه فإنه لم يبتدع في دين الله شيئاً محدثاً جديداً، وإنما رجعت الأمة إلى الأمر الأول الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم أولاً.
فحينئذ لا يقال: إن عمر ابتدع في الدين، وإنما هو سن فيه سنة حسنة، ومعنى سنة حسنة أي: أن أصلها بإقرار الشرع، والبدع المذمومة هي التي أحدثت في الدين على غير مثال سابق، وليس لها دليل في الكتاب والسنة، ومع ذلك يراد بها التقرب إلى الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(60/24)
شرح كتاب الإبانة - كتاب الرد على الجهمية باب التعريف بالجهم والجهمية
الجهمية هي فرقة سميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها الجهم بن صفوان، وهي على رأس الفرق الضالة الهالكة؛ لأنها خالفت أهل الإسلام في أصول معتقدهم، وأصل هذه البدعة يعود إلى اليهود، وهذا شأن أكثر البدع أنها تعود إلى أمم الكفر من اليهود والنصارى والمجوس؛ الذين لم يستطيعوا مواجهة الإسلام بالسيف، فبثوا فيه الأفكار الضالة، والمعتقدات المنحرفة لإفساده.(61/1)
التعريف بالجهم والجهمية
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فهذا هو الجزء الثالث من كتاب الإبانة، وكان الأول بعنوان: الإيمان، والثاني بعنوان: الرد على القدرية، والثالث بعنوان: الرد على الجهمية، ويحسن بنا قبل الدخول في هذا القسم أن نميز الجهمية عن أهل السنة والجماعة؛ لأن الجهمية على أغلب أقوال أهل العلم إنما هم فرقة من الفرق الضالة الهالكة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فالجهمية على رأس هذه الفرق الهالكة الضالة؛ لأنها خالفت أهل السنة والجماعة في أصول معتقدهم، وكل شر لابد له من منشئ، ولابد له من مؤثر، ولابد له من رجل قال بقول عليك يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة، فكما أن المعتزلة لهم إمام في الاعتزال، والخوارج لهم إمامهم في مذهبهم، والشيعة لهم إمامهم، وغير ذلك من سائر الفرق، فكذلك الجهمية لهم إمام ينتسبون إليه وهو صاحب أصل هذا الضلال، وما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة كما قلنا من قبل مراراً، فما من أحد يقول قولاً إلا وله في الخلق أتباع مهما كان قوله.
والذي قرأ منكم أخبار يوم السبت في جريدة (أخبار اليوم) يعلم أن هناك رجلاً قد ادعى الألوهية وله أتباع كثر، وقد تسلح وتحدى العالم أجمع أن يقاتل ويفعل الأفاعيل؛ لأجل فرض إلهيته في الأرض، وهناك شخص قال: أنا نبي! فهذا الجهم إنما خرج على حين غفلة، فقد انتهز اضطراباً واختلافاً فخرج بأقواله، وغالباً إن لم يكن هذا أصل في أهل البدع أنهم لا ينشرون كلامهم علناً، وإنما يسلكون مسلك الدعوة الفردية، فيجلس معك على انفراد، ومع الآخر على انفراد، حتى إذا استقر له الأمر واستتب بدأ يعلن هذا هنا وهناك، ويبحث دائماً عن الشبهات ثم يلقيها على الناس الذين ليس عندهم جواب، ولذا فما من شبهة تلقى على قلبك ليس لها جواب إلا ولابد أن يتعلق شيء منها بقلبك، فيحسن بنا قبل الدخول في الرد على الجهمية أن نتعرف على الجهم الذي تنسب إليه هذه الفرقة، وعلى سيرته وتاريخه الطويل، وكيف خرج بهذه البدعة؟ وما هي أصول أفكاره التي خالف بها أهل السنة والجماعة؟ ثم ما هي فرقة الجهمية؟ وما هو كلامها؟ وما هي مخالفتها لأهل السنة والجماعة؟(61/2)
اسم وكنية الجهم بن صفوان
الجهمية تنسب إلى رجل يسمى: الجهم بن صفوان، وهو الذي أظهر هذا المذهب، ودعا إليه، وجادل من أجله، وتوسع في مسائله، حتى قال الإمام أحمد: إنه وضع دين الجهمية، وهذا يدل على أن أحمد عنده أن الجهمية لهم دين يختلف عن دين المسلمين، وإن كان هناك من الآراء التي دعا إليها الجهم قد سبق إليها، لكنه هو الذي أظهرها وتبناها وجمع لها الشبهات وغير ذلك، وقبل الحديث عن آرائهم نتعرف على مؤسس الجهمية.
اتفق كل من ترجم للجهم أن اسمه: الجهم بن صفوان، وكنيته: أبو محرز، ويقال له: الراسبي، فقد كان مولاً لبني راسب من الأزد.(61/3)
نسبة الجهم ولقبه
وكان الجهم من أهل خراسان، ودائماً يأتي البلاء من جهة العراق وخراسان ومرو وترمذ ونسا وإيران وغيرها، فهذه البقاع كلها بقاع شر وفساد، والتاريخ كله يقول: ما قامت بدعة إلا من العراق وإيران مروراً بهذه البلاد الفرعية، والقرى والنجوع كلها، فهي أرض قد امتلأت بالفتن قديماً وحديثاً، فكان الجهم من أهل خراسان، وينسب تارة إلى مدينة سمرقند، وتارة إلى مدينة ترمذ، فيقال له: السمرقندي أو الترمذي، ويقال له: الخراساني نسبة إلى الإقليم الكبير خراسان، وهذا لا يعني أن هذا الإقليم كله إقليم شر؛ فقد أخرج أئمة أفذاذاًَ من أئمة العلم والهدى، كالإمام الترمذي، والإمام النسائي، وعبد الله بن المبارك، والبخاري وغيرهم من أئمة العلم.(61/4)
نشأة الجهم وخروجه على بني أمية
أصل الجهم كان من مدينة بلخ، ثم انتقل منها إلى سمرقند وترمذ، ثم انتقل إلى الكوفة -ونزول شخص من أهل البدع في الكوفة فإنه يدل على أن الحرب ستبدأ من هناك ثم رجع إلى خراسان، وفي الكوفة التقى بشيخه الجعد بن درهم، ولا يعرف عن نشأة الجهم شيء في أيام صغره، فلا هو من بيت علم، ولا من بيت صلاح ودين وتقوى وعبادة، وإنما كانت شهرة الجهم بعد ظهوره بآرائه، وقتاله لبني أمية مع الحارث بن سريج، فقد كان الجهم قاضياً، وكاتباً، وخطيباً للحارث بن سريج الذي خرج على الأمير في دولة بني أمية في خراسان، وذلك في آخر دولة بني أمية، فكان الجهم يقرأ على الناس كتاباً فيه سيرة الحارث في الجامع والطرقات، فاستجاب له خلق كثير، ووقع القتال بين الحارث ونصر بن سيار أمير خراسان لبني أمية، فانهزم الحارث ومن معه، وأسر الجهم بن صفوان؛ لأنه كان تبعاً للحارث، وأحضر وأوقف بين يدي سلم بن أحوز والي الشرطة -أي: وزير الداخلية في هذه الأيام لدولة بني أمية- فقال له جهم: إن لي أماناً من أبيك، أي: إياك أن تقتلني أو تؤذيني فأنا صاحب أمان، فقال سلم: ما كان له أن يؤمنك -أي: ما كان لوالدي أن يؤمنك- ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم ما نجوت من يدي، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، وأمر بقتله فقتل.(61/5)
الناحية العلمية عند الجهم بن صفوان
لم يكن الجهم من أهل الرواية للحديث، مع أن العصر الذي عاش فيه كان العلماء فيه متوافرين على تحمل الحديث وآثار الصحابة ومروياتهم، أي: أن العلم كان في قمة الانتشار والازدهار، لكنه ما طلب العلم يوماً ما، وما جلس العلماء السنة يوماً من حياته، وقد أعرض الجهم عن ذلك، وآثر علم الكلام والفلسفة على علم الحديث والسنة، ودائماً ننصح أبناءنا وتلاميذنا ألا يدخلوا أبداً كلية التجارة والتربية قسم الفلسفة والمنطق، أو علم الكلام أو غير ذلك، كما ننصحهم كذلك ألا يدخلوا قسم العقيدة، سواء في جامعة الأزهر أو في غيرها من الجامعات، أو الكليات المتخصصة كالآداب، بل ودار العلوم كذلك؛ لأنهم يعتقدون أن عقيدة الأشاعرة والماتريدية هي عقيدة أهل السنة والجماعة، مع أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة، ولا الماتريدية، فأهل السنة لهم خصائص وعلامات ومميزات يتميزون بها عن غيرهم، وقد دخلنا الأزهر ودرسنا عقيدة الأشاعرة فيه، ونافحنا عن عقيدة أهل السنة، وبيتنا أن هذه العقيدة الأشعرية ليست عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي يدرسونها للطلاب على اعتبار أنها عقيدة أهل السنة والجماعة ما هي إلا خليط من عقيدة الأشاعرة والماتريدية، وهذا خلط للحقائق.
قال الذهبي: الجهم بن صفوان الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، لكنه زرع شراً عظيماً.
أي: زرع في الأمة شراً عظيماً.
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: إن كلام جهم صفة بلا معنى، وبناء بلا أساس، ولم يعد قط من أهل العلم.
ومما يدل على جهله بأحكام الشريعة ما روي أن جهماً سئل عن رجل طلق قبل أن يبني بها، فقال: عليها العدة، فخالف كتاب الله تعالى بجهله، قال الله سبحانه: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].(61/6)
مناظرة الجهم لقوم من الزنادقة وبيان عقيدته
وقال خلف بن سليمان البلخي: كان جهم من أهل الكوفة، وكان فصيحاً، ولم يكن له نفاذ في العلم -أي: أنه كان صاحب لسان لكنه ليس عالماً- فلقيه قوم من الزنادقة فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده؟ فدخل البيت لا يخرج مدة من الزمان ثم خرج، فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء! أي: أن الإله الذي يعبده إنما دخل في ذرات الهواء، وبالتالي فإله الجهم ليس هو إلهنا الذي استوى على العرش، وهذا نفس معتقد النصارى، فقد قام طالب وقال القسيس في كنيسة: أين الإله؟ فأتى ببعض السكر وأذابه في كوب من الماء، فقال القسيس للطالب: أين السكر؟ قال: في الماء، قال: وكذلك الرب في كل شيء! فعقيدة الجهم بن صفوان هي نفس عقيدة النصارى، بل ليس كل النصارى يعتقدون ذلك، وإنما وافق جل النصارى في إثبات أن الله تعالى في كل مكان، وهذا نفس قول الأشاعرة الذين قالوا: إن الله في كل مكان، وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل على عرشه، وهذا هو الحق الذي نطق به الكتاب وجاءت به السنة، وعمل به اعتقاداً وعملاً أئمة الدنيا من سلف الأمة، وما خالف في هذه القضية إلا خلف ليس له في ذلك سلف إلا سلف ضلالة وبدعة، والله تعالى على العرش استوى، بائن من خلقه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية صغيرة ترعى غنماً لا حظ لها من العلم فقال: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
وأعجب من ذلك منذ عدة سنوات أني دخلت الجمعية الشرعية الرئيسية؛ لأنهم كانوا يوزعون كتباً مجاناً، فذهبت لآخذ بعضها لتوزيعها على الطلاب، فلما رأى هيئتي ليست كهيئة الجمعية الشرعية قال: أنا أسألك سؤالاً واحداً: أين الله؟ قلت: على العرش، فتبرم وقال: هو في كل مكان، وفي أثناء نزاعنا دخل حمال كان ينزل بالكتب إلى تحت، فقلت له: ما اسمك؟ قال: محمد، قلت: يا محمد! أين الله؟ قال: في السماء، فقلت: حمال يفهم ما لا يفهمه زعماء في الجمعية الشرعية! فهذه عقيدتهم، فهم يقولون: الله تعالى في كل مكان، وليس الأمر كذلك، ولا دليل معهم قط، بل ناقشني زعيم وكبير من كبرائهم يرحمه الله ويعفو عنه، فقال: أنت الذي تقول: إن الله على العرش استوى؟! فهو جالس على الكرسي! ما رأيكم أن تلبسوا ربنا عمامة؟! فقلت: لا والله، الله تعالى هو الذي أثبت في كتابه أنه على العرش استوى، وجميع الأنبياء والمرسلين وأهل العلم الصادقين المخلصين العاملين بشرائع الله، وبدين الله الواحد يعتقدون ذلك، فلا عقيدتكم في القرآن، ولا في السنة، ولا في عقيدة الأنبياء، ولا في عقيدة سلف الأمة، وكفى بها مخالفة، فهذه عقيدة الجهم بن صفوان! وقال أبو معاذ البلخي: لم يكن للجهم علم ولا مجالسة لأهل العلم، فقيل له: صف لنا ربك؟ فدخل البيت لا يخرج كذا، ثم خرج بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء! إذاً فالذي يقول: إن الله تعالى بذاته في كل مكان؛ يلزمه أن يقول: بأنه في أماكن القاذورات، وأماكن النجاسات والحمامات، وغير ذلك من البرك والمستنقعات المنتنة، وهذا قول يحمل بين طياته الكفر البواح، تعالى الله عما يقوله الملحدون علواً كبيراً.
وقد كان الجهم من أهل الجدل والخصومات كما سيتبين لنا بإذن الله تعالى.(61/7)
هلاك الجهم بن صفوان
قتل الجهم سنة ثمان وعشرين بعد المائة الهجرية، وكان قتله على يد سلم بن أحوز المازني على المشهور كما تقدم.
والإمام القاسمي كان له بعض الدفاع عن الجهم بن صفوان، فكان مما قال: إنما قتل الجهم لأمر سياسي لا لأمر ديني؛ لأنه كان مع الحارث بن سريج ضد دولة بني أمية، فخرج مع الخارجين على الإمام الحق في ذلك الزمان، فلما أسر قتله سلم بن أحوز المازني، فكان قتله لأمر سياسي لا لأمر ديني، وليس الأمر كذلك، ولا يمنع أن يكون قد جمع بين الأمرين، لكن أصل فكرة القتل انبنت على مخالفته الدينية، وكذلك لا يمنع أن يكون قتله لأمر سياسي، وإن كان قد أمر الخليفة هشام بن عبد الملك بقتله قبل ذلك لأمر ديني، وهو ما اشتهر عنه من شكه وتركه الصلاة أربعين يوماً، أي: أنه شك في وجود الإله لما سئل: صف لنا إلهك؟ فشك في إلهه فتوقف عن عبادته أربعين يوماً، ثم نفيه لصفات الرب عز وجل واشتهار ذلك عنه، فكان ذلك سبباً قوياً في أن يأمر الخليفة هشام بن عبد الملك عامله على خراسان نصر بن سيار أن يقتله، ولكنه لم يظفر به، وإنما ظفر به سلم بن أحوز فقتله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن صالح بن أحمد بن حنبل أنه قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان: أما بعد، فقد نجم -أي: ظهر- قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية، فإن ظفرت به فاقتله.
إذاً كان قتله بسبب أنه يقول بقول الدهرية، وهذا أمر ديني لا أمر سياسي.
ومما يؤكد أن قلته بسبب ما صدر عنه من إنكار صفات الله تعالى: ما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، قال: أخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه: يا جهم؟ إني لست أقتلك لأنك قاتلتني -فهذا تصريح بأن القتل لم يكن لأمر سياسي- فأنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهداً ألا أملكك إلا قتلتك، فقتله.
وقد جاء البيان عن سبب قتله له، فقد أخرج عن ابن أبي حاتم من طريق خلاد الطفاوي، قال: بلغ سلم بن أحوز -وكان على شرطة خراسان- أن جهم بن صفوان ينكر أن الله كلم موسى تكليماً، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً؟ فسكت الجهم، فقام إليه سلم فقتله، إذاً أصل قتله كان لأمر ديني، ولو كان لأمر سياسي فلا بأس بذلك، لكن لابد من تقرير الحقائق.
وقال بكير بن معروف: رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم، فاسود وجه جهم.
نعم لابد أن يسود: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع والضلالة.
ولهذا من إهانة الله عز وجل لأهل البدع في حياتهم وبعد مماتهم أنهم ليس لهم ترجمة، ولو أردنا أن نقرأ ترجمة أحمد بن حنبل لوجدنا أنها في سير أعلام النبلاء جل المجلد الحادي عشر، حوالي أربعمائة أو خمسمائة صفحة، بل وفي ترجمته صنفت مجلدات وكتب أخرى؛ لأن الله أبى إلا أن يعلي ذكر أحمد في الدنيا والآخرة، وأما هؤلاء فقد أبى الله تعالى إلا أن يجعلهم في أسفل سافلين، فليس لهم ترجمة إلا ترجمة السوء والضلال، ترجمة اللعنة والغضب والسخط من الله عز وجل ومن عباده.(61/8)
من شيوخ الجهم بن صفوان: الجعد بن درهم
أما شيخ الجهم بن صفوان فاسمه: الجعد بن درهم، وبئس الدرهم هو، وكان مولى من موالي بني مروان، وأصله من خراسان، لكنه سكن دمشق، وانتقل ببدعته من خراسان إلى دمشق، فبذر البذرة هناك، ثم رجع إلى الكوفة، فالتقى بـ الجهم في الكوفة، وكان الجعد بن درهم مؤدباً لآخر ملوك بني أمية وهو مروان بن محمد بن مروان، وكان يقال له: مروان الجعدي؛ لتقريبه للجعد بن درهم، فنسب إليه وبئس النسبة هي، كما كان له لقب آخر وهو: مروان الحمار.
قال الذهبي في الجعد: عداده في التابعين، مبتدع ضال.
وفي هذا دليل على أنه ليس كل التابعين أهل صلاح، بل منهم المبتدع، ومنهم الثقة، ومنهم الإمام في الهدى، ومنهم الإمام في الضلالة، وكل ما هنالك أنه رأى بعض الصحابة، والمعلوم أن التابعي: هو من لقي الصحابة أو بعضهم.
وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: أن الجعد كان يتردد إلى وهب بن منبه، ووهب بن منبه إمام من الأئمة، فهو رجل هدى وتقوى وعلم، لكن كان يعاب عليه أنه كان ينظر في كتب السابقين، أي: في كتب اليهود والنصارى والصحف وغيرها، فوجد الجعد ضالته عند وهب، فكان يتردد إليه ويحمل عنه، وكان كلما راح الجعد إلى وهب اغتسل وهب وقال وهب: إن هذا الغسل أجمع للعقل، أي: كأن لقاء جعد كان يذهب بعقل وهب بن منبه، وكان يسأل وهباً عن صفات الله تعالى، فقال له وهب يوماً: ويلك يا جعد! أقصر المسألة عن ذلك، أي: لا تسأل عن هذا، واسأل عن الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأركان الدين، لكن هو أراد أن ينطلق ببدعته من هذا الباب، فقال وهب للجعد: إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً ما قلنا ذلك، وأن له عيناً ما قلنا ذلك، وأن له نفساً ما قلنا ذلك، وأن له سمعاً ما قلنا ذلك، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك.
وكان هذا آخر كلام في الصفات؛ من أجل أن تنتهي الجولة مع الجعد بن درهم.
قال: والله لا نقول إلا بما قاله الله في كتابه، وما قاله الرسول في سنته، فلا تسألني عن شيء بعد ذلك.
ولما أقام الجعد بدمشق أظهر القول بخلق القرآن، أي: قال: هذا القرآن مخلوق وحادث، وأن الله لم يكن متكلماً فتلكم، ولم يكن عالماً فخلق لنفسه العلم، فعلم بعد أن كان غير عالم، وغير ذلك من بقية صفات المولى عز وجل التي يمكن أن يتصف بها المخلوق، من العلم والكلام والقدرة وغير ذلك، فطلبه بنو أمية لما أظهر القول بخلق القرآن، فهرب وسكن في الكوفة -مأوى الضلال- وفيها لقيه الجهم بن صفوان وأخذ عنه مذهبه في التعطيل -أي: تعطيل الصفات عن الله عز وجل، وتعطيل الذات أن تتصف بالصفات- وقال بقوله في القرآن.(61/9)
سلسلة التجهم المظلمة
قال ابن تيمية عليه رحمة الله: إن الجعد أخذ بدعته وتلقاها عن أبان بن سمعان -انظر إلى هذه السلسلة السوداء- وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً الجهم عن الجعد عن أبان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم، خمسة في سلسلة واحدة، لكنها ليست كسلسلة مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه سلسلة الذهب، سلسلة اللؤلؤ والمرجان، أما تلك فسلسلة الضلال والبدع، وتصور أن يأتيك إسناد كهذا: حدثني الجهم، قال: حدثني الجعد، قال: حدثني أبان بن سمعان، قال: حدثني طالوت، قال: خالي لبيد بن الأعصم اليهودي!! ويغلب على ظني أنه ما أحدثت محدثة، ولا ابتدعت بدعة في الإسلام إلا وكان أصلها إما من اليهود، وإما من النصارى، وإما من المجوس، أي: لابد أن يكون لها جذور يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، وأتحدى أي رجل يأتيني ببدعة في الإسلام ليس له أصل من هذه الأصول الثلاثة.(61/10)
نسبة الجعد ومذهبه وهلاكه
وكان الجعد من أهل حران -وهي بلد ابن تيمية الحراني الشامي السوري- وتصور أن حران تنبت هذا الجعد، وتنبت شيخ الإسلام ابن تيمية الذي تعيش الأمة في كنفه، وفي بحر علمه في هذه الأيام، وقد سألني أستاذ في كلية اللغة العربية منذ أسبوع تقريباً فقال: أنا أريد أن أعرف لماذا كل الجماعات الإسلامية معتمدة على ابن تيمية في هذه الأيام، وأظهرت علم ابن تيمية في هذه الأيام؟ قلت: هذا رزق ابن تيمية، فمع سنه وعلمه ومكانته وجهاده الطويل إلا أنه كان أقرب للشباب من سائر علماء زمانه، وتكلم بكلام معتمداً على الكتاب والسنة، وحارب الفلاسفة، وحارب التتار، وحارب بسيفه وقلمه، وحارب جميع المعتقدات، ورد على الفرق الضالة، وقال كلاماً لا يمكن لأحد قبله ولا بعده أن يقوله، فكان إماماً فذاً، وهو جدير وخليق أن يكون مجتهداً مطلقاً، وهذا معظم من ترجم لـ ابن تيمية، قال هذا الكلام: هو جدير أن يكون مجتهداً مطلقاً، وابن تيمية عليه رحمة الله في مسائل الفكر والسياسة الشرعية على جهة الخصوص، والرد على الخصوم والفلاسفة، وجهاده للصوفيين، وجهاد سائر فرق الضلال؛ كانت له ميادين كل ميدان منها تهلك فيه أمة من العلماء، فكان رجلاً بمعنى الكلمة، أي: أن هذا الرجل لم يسبقه في قوته إلا عمر رضي الله عنه، وابن تيمية جدير بالاحترام والتبجيل، ولذلك كتب الله تعالى له في قلوب المؤمنين الذكر الجميل والثناء الحسن.
كان الجعد من أهل حران، وكان فيها خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، وكانوا يسمون: صابئة الإسلام وصابئة الشرك، والعلماء صنفوا الصابئة على نوعين: صابئة كانت تابعة لإبراهيم عليه السلام، وصابئة كانت مشركة تعبد الأصنام في زمن إبراهيم عليه السلام، وكان في حران خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين، وكانت الصابئة -إلا قليل منهم- إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر، لكن كثيراً منهم كانوا كفاراً أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما، أي: مركبة من السلبية والإيجابية.
ولما أظهر الجعد مقالة التعطيل حبسه أمير العراق خالد بن عبد الله القسري، ثم خرج به في يوم عيد الأضحى وخطب خالد في الناس، فقال في خطبته: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من التابعين، وقصة قتله مشهورة ذكرها أهل التراجم ودونها السلف في كتبهم، ولم ينكر على خالد القسري أحد من أهل العلم، بل أثنوا عليه خيراً، لكن في هذا الوقت دع واحداً يقوم على ضال من هؤلاء، أو مبتدع من هؤلاء ربما تكون بدعته أخطر من بدعة الجعد بن درهم؛ فيقتله على الملأ، والنساء تنظر في التلفاز، لقالوا: حرام، لماذا هذه القسوة؟! هل الدين هكذا؟! وهل الإسلام هكذا؟! هل النبي قال هكذا؟! بينما العلماء أثنوا على ما قام به خالد القسري.
قال الدارمي: ذبحه خالد بواسط -أي: بمدينة واسط في العراق- يوم عيد الأضحى، على رءوس من حضر من المسلمين، لم يعبه به عائب، ولم يطعن عليه طاعن، بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه.
قال: ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب النونية في العقيدة: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان أي: يثني على خالد القسري أنه ذبح الجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، وقد شكره كل صاحب سنة.(61/11)
كلام العلماء في بيان ضلال الجهمية وكفرهم
قال: ابن تيمية: اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الجهمية من شر طوائف أهل البدع، حتى أخرجهم كثير عن الثنتين والسبعين فرقةن وذكروا أن قوله أشر من قول اليهود والنصارى.
أي: قول الجعد بن درهم أشر من قول اليهود والنصارى، فرجل قوله شر من قول اليهود والنصارى الذين حكم الله تعالى بكفرهم في كتابه، إذاً يكون كفره أعظم من كفر اليهود والنصارى، فلماذا إذاً نصفه بأنه كان داعية للكتاب والسنة؟ لأن الإمام القاسمي للأسف الشديد قال: كان الجعد داعية إلى الكتاب والسنة! وهذه زلة عظيمة جداً من القاسمي.
قال الإمام القاسمي: وكان الجعد داعية إلى الكتاب والسنة، مجتهداً في الصفات خاصة، هكذا قال القاسمي، لكن ليس للجاهل أن يجتهد، وإنما الاجتهاد وقف على أهل العلم، وليس كل أهل العلم لهم هذا الحق وهذا الحظ، بل الاجتهاد له أهله، بأركان وشروط.
قال القاسمي: له أجر المجتهدين المخطئين! والخطأ في العقيدة أمر مردود، ولهذا نهى السلف عن مذهب الجهمية، وحذروا من سلوك سبيلهم، وشددوا في ذلك.
قال الإمام البخاري: ما أبالي أصليت خلف الجهمي والرافضي الشيعي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني! فلا يسلم عليهم، ولا يعادون إذا مرضوا، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم.
أي: أنهم كفار؛ لأن هذه أحكام الكفار.
وقال البخاري أيضاً -وانتبه فقد كان البخاري متلطفاً جداً في العبارة- فقال: إذا قلت عن أحد: ضعيف، فلا تحل الرواية عنه.
أي: أن الذي يقول عنه غيره: كذاب وضاع يقول عنه الإمام البخاري: ضعيف، وتصور أن الإمام البخاري يقول هذا كله-: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم -أي: من الجهمية- وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم.
أي: أنه يقول: إن كلام الجهمية أشر من كلام اليهود والنصارى والمجوس، وليس ذلك بعجب، وإنما العجب ممن عرف كلامهم ولا يكفرهم، إلا أن يكون إنساناً لا يعرف ماذا يعني الكفر؟ وماذا يعني الإيمان؟ ولا شك فالجاهل ليس مطلوباً منه أن يظهر أحكام الكفر، أو التفسيق أو التبديع، بل هذا تعد منه، وإنما له أن يقلد أهل العلم والمجتهدين.
وقال ابن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
وللدارمي كلام عظيم جداً، بل له كتاب اسمه: الرد على الجهمية، قال: وصدق ابن المبارك، فإن من كلامهم في تعطيل صفات الله تعالى ما هو أوحش من كلام اليهود والنصارى.
أي: إذا قرأه إنسان يشعر بوحشة في صدره ربما لا يشعرها إذا نظر في التوراة أو الإنجيل.
وذكر سعيد بن عامر الضبعي الجهمية فقال: هم أشر قولاً من اليهود والنصارى، قد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله عز وجل على العرش.
أي: أن عقيدة اليهود والنصارى والمسلمين أصلاً أن الله تعالى مستو على العرش، لكن الجهمية هم أول من أحدث أن الله تعالى ليس على العرش، وقالوا: ليس على شيء.
وقد كفر السلف جهماً ومن قال بقوله في الله، وفي صفاته، وفي القرآن، وكتبهم مملوءة بذلك.(61/12)
أهم آراء جهم(61/13)
نفيه لأسماء الله تعالى
آراء الجهم هي آراء الجعد بن درهم، وآراء الجعد بن درهم هي الأصول التي اعتمدت عليها الجهمية، ولم يصنف الجعد بن درهم ولا الجهم بن صفوان كتاباً في معتقدهم، ولكن العلماء ناظروا الجعد وناظروا الجهم فصنفوا أصول المخالفات بين الجهمية وأهل السنة والجماعة، ومن هذه المخالفات: نفي الأسماء والصفات، فأول شيء اعتمد عليه دين الجهمية أنهم جردوا ذات الإله من الأسماء والصفات، فقالوا: ذات بلا صفة وبلا اسم، ولابد أن تعلموا أن الذي ينفي الصفات والأسماء إنما ينفي القرآن كله؛ لأن القرآن أثبت الأسماء وأثبت الصفات، فالذي ينفي عن الذات الأسماء والصفات كأنما ينكر القرآن الكريم، فكثير ممن كتب عن مذهب جهم يذكرون أنه يقول بنفي الصفات، ولم يتعرضوا لمذهبه في الأسماء إلا القليل، ولكن الجهم في الحقيقة ينكر الأسماء والصفات، فلا يسمي الله باسم من الأسماء التي يمكن أن يسمى به المخلوق كالحي؛ لزعمهم أن هذه الصفة مشتركة بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق موصوف بالحياة لأنه حي، وكذلك المولى عز وجل موصوف بالحياة لأنه حي.
فقالوا: لا يمكن أن يستقيم هذا؛ لأننا إذا قلنا بذلك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، فنفى الجهم عن الله عز وجل اسم الحي، والعالم، والسميع، والبصير، وغير ذلك من الأسماء، قال: لأن المخلوقين يتسمون بهذه الأسماء، واشتراك الخالق مع المخلوق في هذه الأسماء يوجب التشبيه، أي: أن يكون المخلوق كالخالق، والعكس بالعكس، لكنه يسميه: المحيي، المميت، الموجب، الفاعل، الخالق؛ لأن هذه الصفات لا تطلق على العباد ولا على المخلوقين، ويسميه القادر، لكن العبد يوصف بأنه قادر، وعند الجهم بن صفوان والجعد بن درهم ليس قادراً؛ لأنه مجبور في جميع أفعاله، لذلك يقولون: الفاعل الحقيقي لأفعال العباد هو الله، والعبد ما هو إلا صورة تجرى عليه تلك الأفعال والأقوال، فهم الذين يقولون بفكرة الجبر، أي: أن الإنسان مجبور في أقواله وأفعاله، فينفون عن العبد الإرادة والمشيئة بالكلية، فلا إرادة ولا مشيئة ولا قدرة له على الأفعال والأقوال أبداً، وإنما الفاعل الحقيقي لذلك كله هو الله عز وجل، والعبد ما هو إلا صورة، ولذلك يقولون: بفناء الجنة والنار، فالدوام عندهم مستحيل.(61/14)
نفيه لصفات الله تعالى
وأما مذهبه في الصفات: فهو ينفي الصفات عن الله تعالى؛ لأن إثباتها يقتضي التشبيه كما هو مذهبه في كثير من الأسماء، وقال ابن تيمية: أصل قول الجهم هو نفي الصفات.
أي: العمدة الذي يعتمد عليه مذهب الجهم: هو نفيه لصفات المولى عز وجل.
ولـ أبي الحسن الأشعري كلام في ذلك، وهو قد تاب من بدعته، حيث إنه تربى في حجر أبي علي الجبائي شيخ الاعتزال في ذلك الزمان، وكان زوجاً لأم أبي الحسن الأشعري، فتربى أبو الحسن في حجر أبي علي الجبائي صغيراً، فرضع من أدب الاعتزال حتى صار منظراً في الاعتزال، وحتى قيل: أفلس المعتزلة لما اعتزلهم أبو الحسن، وصار له مذهب سيئ كذلك في مذهبه الجديد وهو المذهب الأشعري، فلم يكن للمعتزلة في ذلك الزمان منظر قوي وفصيح وبليغ يقيم الحجة على الخصم كما كان في أيام أبي الحسن.
وأبو الحسن رحمه الله انخلع كذلك من مذهبه الثاني وتاب منه على المنبر أمام الملأ، وقال: أخرج من كلامي كما أخرج هذا السيف من غمده، وسل سيفه من غمده على المنبر، وتوبته مذكورة عند كل من ترجم له إلا أهل البدع؛ فإنهم يخفون هذه التوبة، بل قد صنف أبو الحسن كتباً في عقيدة أحمد بن حنبل، وعقيدة أهل السنة على مذهب أهل السنة، مع أنه قد أخطأ في مسألة أو مسألتين بعد توبته، وذلك أن للبدعة رواسب، وآتوني بصاحب بدعة في هذا الزمان تاب من بدعته إلا وله رواسب، كأن يدعو إلى مذهب التكفير والهجرة مثلاً وقد تاب منذ عشرين عاماً فلا بد أن لديه رواسب.
وصاحب البدعة نشيط، وصاحب السنة خامل للأسف الشديد، فـ أبو الحسن الأشعري صنف كتاب الإبانة في أصول الديانة بعد توبته، وتأتي تكلم الأشاعرة فيقولون لك: نسبة الإبانة لـ أبي الحسن نسبة مشكوك فيه، وكذلك كتابه: مقالات الإسلاميين، وهو كتاب رائع جداً وممتاز، لكن لا يجوز لأحد من طلبة العلم الصغار أن ينظر فيه؛ لأنه أصعب من كتب أهل الكتاب، والذي يقرأ فيه وليست عنده أرضية متينة قوية في باب الاعتقاد فلابد أنه سيزل؛ لأنه سيفهم الأمور خطأ، وأما كتاب الإبانة فسهل جداً ويسير، ويصح أن يكون مقدمة في علم الاعتقاد للطلاب، لكن أيضاً لا أحب ذلك؛ لأجل أن هذه العقيدة لم تكن واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار كعقيدة الإمام أحمد بن حنبل، وعلى أية حال هو معذور في مسألة أو مسألتين أخطأ فيهما، وقد قال: فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله عز وجل، وهو توفيق الله وهدايته، يهدي من يشاء، فيكفي أنه قال: وإن كان خطأ مني فإني أبرأ إلى الله منه، وأصير فيه إلى عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، والأئمة كلهم يقولون: لا يحل لأحد أن يقبل قولنا ما لم يعلم من أين أخذنا؟ فالتقليد والتعصب للمذهب بدعة وضلالة مع ظهور الدليل في مخالفة قول الإمام، وكل يتبرأ من قوله إذا كان قوله مخالفاً للكتاب والسنة، وليس لأحد حجة ولا عذر أن يقول: أنا حنفي أو شافعي أو مالكي أو غير ذلك؛ لأن هؤلاء تبرءوا من أخطائهم، ولابد أنهم يخطئون؛ لأنهم بشر، وكل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
والكلام عن الأشاعرة سيأتي معنا بإذن الله، وأنا لا أريد أن أسبق الأحداث، لكن على أية حال متأخرو الأشاعرة مثل الشيعة، فتقول للشيعة: الأئمة الاثنا عشرية تبرءوا منكم، والبراءة ثابتة في النص الصحيح، فيقول لك: تبرأ هؤلاء تقيه! فتقول لهم: لكن علي بن أبي طالب أثنى على عمر وأثنى على أبي بكر وأثنى على عثمان وقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين، قالوا: قال ذلك تقيه! فنقول: لكن أنتم شرطكم في الإيمان: أن يكون شجاعاً مقداماً، والتقية تتنافى مع الشجاعة، يقول لك: نعم علي بن أبي طالب كان أشجع الخلق، لكنه قال ذلك تأدباً وتواضعاً! فنقول: لكن أنتم تكفرون أبا بكر وعمر، فكيف يحترم علي رجلاً كافراً ويتأدب معه؟! ألا يستحق القتل؟ لأنهم قالوا في كتبهم: لو كان أبو بكر -قال هذا الكلب الهالك الخميني -وعمر في زماننا، ثم يقول: ومعاذ الله أن يذكرا على لساني! -أي: أنه أطهر من أنه يذكر أبا بكر وعمر - ما وسعني إلا قتلهما.
قال أبو الحسن: قال جهم: إن علم الله محدث هو أحدثه، أي: لم يكن ثم كان، فمن الذي علمه؟ قالوا: هو الذي خلق علم نفسه، ثم اختلفت الأخبار عن الجهم: متى خلق الله العلم؟ هل خلقه في الأزل، أم خلقه بعد العمل، أم في أثناء العمل، أم قبيل العمل؟ قال بكل قول من هذه الثلاثة إلا أن يكون علم الله أزلياً، قال: ليس علمه أزلياً، بل علمه حا(61/15)
الإيمان عند الجهمية
ولهم كلام في الإيمان، فقد قالوا: الإيمان عند الجهمية هو المعرفة بالله فقط، فما دام الرجل يعرف بقلبه أن الله تعالى موجود؛ فهذا كاف، وإن نطق الكفر بلسانه، أو ترك جميع الأركان والفرائض ما ضره شيء من ذلك! لأن الأصل في الإيمان عندهم معرفة القلب.
إذاً تعريف الإيمان عند الجهمية لابد وأن يدخل فيه إبليس، أليس إبليس يعرف الله تعال؟ بلى، وهل إبليس أنكر ربوبية الله عز وجل؟ أبداً ما أنكرها، بل أقرها في القرآن مراراً وتكراراً، فإبليس مؤمن، ولذلك ما استحت الجهمية أن يحكموا لإبليس ولفرعون بالإيمان، ثم صنفوا رسائل وذكروا كلاماً فيما يتعلق بالرد على الناصبة -أي: أهل السنة- مع أنهم هم الذين يناصبونهم العداء في إثبات إيمان فرعون وإثبات إيمان إبليس، فالإيمان عندهم هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل بالله.
قال جهم: من أتى بالمعرفة -المعرفة تختلف عن العلم- ثم جحد بلسانه لم يكفر بجحده؛ لأن العلم والمعرفة لا يزولان بالجحد.
مثل أن يأتي شخص فيقول لك: تعرف النظرية الفلانية؟ تقول له: نعم أعرفها، لكن لو أنك جحدت النظرية بعد إقرارك بمعرفتها فلا يستلزم أنك فعلاً قد جهلت هذه النظرية، ولذلك يقولون: الذي يقر بالربوبية والإلهية ثم جحد بعد ذلك؛ فهذا الجحود لا يؤثر على المعرفة.
وقال: الإيمان لا يتبعض، أي: لا ينقسم إلى عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان، ولا يتفاضل أهله فيه، أي: لا يزيد مؤمن على مؤمن، بل كل المؤمنين في ذلك سواء، سواء في ذلك الملائكة أو البشر أو الجن أو سائر المكلفين، فكلهم في مسألة الإيمان على مرتبة واحدة، فإيمان الأنبياء وإيمان الأمة على نمط واحد؛ إذ المعارف لا تتفاضل، وهذا غير صحيح؛ فعموم المعارف عند أهل السنة وليست المعرفة بالله فقط تتفاضل، فليست معرفة زيد بالله عز وجل كمعرفة عمر.(61/16)
قول الجهمية بالجبر، وإنكارهم الشفاعة والكرسي والاستواء وغير ذلك
ولهم قول كذلك بالجبر، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده؛ إذ إنه هو الفاعل الحقيقي، والعبد مسلوب الإرادة، مسلوب المشيئة، ولذلك من الظلم أن يعذب في الآخرة هكذا يقولون، وهذا بعض ما أنكر الجهم، فقد أنكر أن يكون الله تعالى على العرش، وأنكر أن يكون لله تعالى كرسي، وأنكر أن يكون الله تعالى في السماء دون الأرض، وأنكر أن يكون لله تعالى وجه وسمع وبصر ويد، وأنكر أن الله استوى إلى السماء، وأنكر أن الله تعالى يتكلم أو أنه كلم موسى تكليماً، وأنكر أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا، وأنكر النظر إلى الله تعالى، وأن يكون لله حجاب، وأنكر أن ملك الموت يقبض الأرواح، وأنكر عذاب القبر، وأنكر منكراً ونكيراً، وأنكر الميزان، وأنكر الكرام الكاتبين، وأنكر الشفاعة.
فانظروا حتى لا تتصوروا أن الكلام عن الجهمية كلام ليس له قيمة وليس له داعي في هذا الزمن؛ إذ إن التوحيد منتشر، والإسلام منتشر، ومصرنا أحسن بلد في العالم، ونحن الحمد الله جيدين! لا، نحن لسنا جيدين، فقد صنفت كتباً في إنكار الميزان والصراط وعذاب القبر وإنكار الشفاعة، فهذه أصول من أصول الجهمية، فهناك أستاذ في جامعة الأزهر أنكر الصراط والميزان والحساب؛ لأن هذه كلها معنويات، ثم يتهكم بعد ذلك ويقول: عليهم أن يثبتوا هل للميزان كفة أم كفتان؟ وإذا كان له كفتان فهل يكون مثل ميزان الدنيا؟! إذاً ونحن قائمون من قبورنا وقادمون على الله نأخذ معنا البطاطس والطماطم من أجل أن نوزنها! فهو يتهكم ويسخر، مع أنه أستاذ في جامعة الأزهر! كما أنكر الجهم الشفاعة، وأنكر أن قوماً يخرجون من النار، وأنكر أن الجنة والنار مخلوقتان، وزعم أنهما تفنيان بعد خلقهما.(61/17)
مناظرة الجهم لقوم من السمنية
وقد ناظر جهم قوماً من السمنية الدهرية المجوسية الذين جحدوا الإله، وهذه المناظرة تبين بعض آراء جهم، وهي مناظرة كبيرة مشهورة، قال السمني لـ جهم: نناظرك؛ فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، قالوا له: أنت تزعم أن لك إلهاً؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا =مع أن من كلام الله عز وجل القرآن الكريم- قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجساً؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟! ولولا أن الله تعالى حكى في القرآن مقالة الكافرين ما تجرأت على أن أقول حرفاً واحداً من هذا، وما نذكرها إلا على سبيل فضحهم وبينان ضلالهم.
فعند ذلك تحير الجهم، وتحيره دليل على جهله واغتراره بالله عز وجل، فلم يدر من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة والنصارى، وذلك أنه جلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول لهؤلاء القوم؟ ومثل ذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال السمني: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فهل وجدت له حساً؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.(61/18)
الآيات التي بنى عليها الجهم أصل مذهبه
وذكر الإمام أحمد أن الجهم بنى أصل كلامه على ثلاث آيات تشتبه معانيها على من لا يفهمها: الأولى: آية نفي الإدراك، قال الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وقلنا من قبل في هذه الآية: إن الإدراك يعني الإحاطة والشمول.
الثانية: آية نفي المثل؛ لينفي بها الصفات، ويجعل من أثبتها مشبهاً.
قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقد أخذنا في الكلام عن القدرية: أنه ما من صاحب بدعة إلا ويحتج بأول الآية ويترك آخرها، أو يحتج بآخرها ويترك أولها، فمثلاً: هذه الآية كلها توحيد لله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي: لا تشبهه الأشياء ولا تماثله، وليس له في الأشياء والمخلوقات مثيل ولا شبيه ولا ند ولا كفؤ، ثم أثبت أنه السميع البصير، فسمعه يختلف عن أسماع الأشياء، وبصره يختلف عن أبصار الأشياء، إذاً هو سميع بسمع يليق بجلاله، وبصير ببصر يليق بجلاله؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فأهل السنة يحتجون بأول الآية وآخرها، وأهل البدعة يحتجون ببعض الآية ويتركون البعض الآخر.
الثالثة: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3]، فقالوا: ما دام في الأرض فهو في الأرض بذاته، وما دام في السماء فهو في السماء كذلك، وهو ما بين السماء والأرض، حتى في الأراضين السبع، لكن كل هذا يقولون: بذاته، وهذا الذي جعل أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله بذاته مستو على العرش، فلم يكونوا يقولون: بذاته في أول الأمر، لكن لما تطرق المبتدعة إلى القول في الذات اضطر أهل السنة والجماعة أن يقولون: بالذات كذلك، فأهل السنة والجماعة يقولون دائماً: الله على العرش استوى، ولا يقولون بذاته ولا بغير ذاته، وإنما يسكتون عن هذا؛ لأن الله تعالى قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، لكن لما قالت المبتدعة: هو في كل مكان بذاته؛ قال أهل السنة: لا، بل هو بذاته على العرش، وبعلمه وسمعه وإحاطته ورعايته في جميع الخلق، ومع جميع الخلق، فمعيته معية علم وسمع وبصر وإحاطة ورعاية وقيومية وغير ذلك من سائر صفاته وأسمائه سبحانه وتعالى، فلم يكونوا يقولون: بالذات أولاً؛ لأن الأدلة ليس فيها ذكر للذات، وما كانوا يتمنون أن يلجئوا لمثل هذا، وإنما ألجأهم واضطرهم إلى ذلك الرد على أهل البدع.(61/19)
الأسئلة(61/20)
معنى الاستواء في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)
السؤال
قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فنؤمن ونشهد بذلك، لكن ما معنى الاستواء؟
الجواب
الاستواء له في اللغة عدة معانٍ، وكل معنى من هذه المعاني إنما يفهم من السياق، فإذا كان متعلقاً بالله عز وجل فمعناه: العلو والارتفاع، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، أي: علا وارتفع، وقد حاضرنا مراراً وتكراراً في هذه الجزئية بالذات، وسيأتي معنا إن شاء الله في الرد على الجهمية عند الكلام على فوقية الله تعالى وعلوه على عرشه.(61/21)
بيان عقيدة علماء دار العلوم
السؤال
عفواً، ليست عقيدة أهل الفلسفة الإسلامية في دار العلوم عقيدة أشعرية، بل هي عقيدة أهل السنة والجماعة، ويحفل هذا القسم بعلماء سلفيين نافحوا ودافعوا عن العقيدة الصحيحة، مثل الشيخ: مصطفى حلمي، والدكتور: حسن الشافعي.
الجواب
لا يا أخي! وإذا قبلت ذلك في الدكتور مصطفى حلمي؛ فأنا متأسف جداً أن أقبل هذا في الدكتور حسن الشافعي، فإن كتبه موجودة بين أيدينا، فتارة يصير إلى مذهب الخوارج، وتارة إلى الشيعة، وتارة إلى المعتزلة، ومعظم أقواله هي أقوال الأشاعرة، بل يرى كل شيء إلا أن يرى سلفياً أمامه، وإذا كان هذا موطن خلاف بيني وبينك فتفضل، وأنا عندي كتب الأستاذ حسن الشافعي وقد درسني، وأنا أعلم أنه ليس موجوداً في هذه البلاد، لكنه قد درسني في الدراسات العليا في دار العلوم وقال كلاماً في غاية الغرابة في وجود أخي الدكتور جمال السنوتي، والدكتور أكرم أستاذ موجود حي يرزق، والأستاذ الشيخ: محمد عارف السجوري في أنصار السنة وهو معنا، وبقية الدفعة لا أذكرها الآن.
قال الدكتور حسن الشافعي: أما قول مالك: الاستواء معلوم فأنا أوافقه على ذلك، والكيف مجهول أنا أوافقه على ذلك، فقلت له: يا دكتور حسن! ما معنى الكيف مجهول؟ فأقسم بالله الذي في السماء أنه قال: الكيف مجهول على الله! فقلت: كيف يجهل الله تعالى ذاته؟ قال: إما أن تسكت وإما أن تخرج من المحاضرة، فقلت: بل أخرج، فخرجت فتلقاني من هو شر منه أحمد شلبي، فقال: اهدأ يا رجل! وأخذني إلى المكتبة، وقال لي: أنت لم تر آخر الأبحاث؟ فقلت له: لا، فقال لي: آخر الأبحاث في عيسى بن مريم، قلت له: وماذا فيها؟ قال: ألم تسمع أن الأبحاث الحديثة أثبتت أن عيسى قد قتل، قلت له: هذه أبحاثك، وأنت لا يأتي منك إلا كل شر، فوقف وانتفض، قلت له: إذا تكلمت كلمة سأرد عليك، فجلس يصيح، وأنا إذا أردت أن أنسحب من قولي فأنسحب منه فعلاً؛ لأنني متأكد أن معظم أساتذة ودكاترة العقيدة في دار العلوم الآن سلفية وأفاضل جداً، ويكفي وجود الدكتور مصطفى حلمي بالقسم، وهذا دين لا يحابى فيه أحد، ورغم بعض الزلات للدكتور مصطفى حلمي التي وافق فيها الأشاعرة، لكن الرجل محب للسلف وعقيدة السلف، فإذا أخطأ في شيء فأظن أنه أخطأ فيه بغير علم، والله تعالى يعفو عنا وعنه.(61/22)
من صفات الدجال أنه أعور
السؤال
هل من المحتمل أن يكون الرجل الذي ادعى الألوهية هو المسيح الدجال؟
الجواب
لا؛ لأنه ليس بأعور، وإنما هو أعور القلب.(61/23)
حكم الصلاة في مكان أهله أشاعرة
السؤال
هل تجوز الصلاة في مسجد الجمعية الشرعية بعد أن عرفنا أنها تقول بقول الأشاعرة؟
الجواب
نعم تجوز.
والسؤال هذا ما كان ينبغي طرحه، يقول: من علماء الجمعية الشرعية من صنف كتاباً في العقيدة وسماه: هذه عقيدتنا، وإذا بها عقيدة الأشاعرة، وأنا يا إخواني لم آت بهذا من عندي، وكتاب (الدين الخالد) للشيخ: محمود خطاب السبكي، انظر إلى المجلد الأول في العقيدة ففيه عقيدة الأشاعرة، وإن كنا نعتقد أن معظم القائمين على الجمعية الشرعية أيضاً إخوة سلفيون، لكن أصل منهج الجمعية أشعري، والعجيب أنهم لا يريدون أبداً أن يتخلوا عن هذا.(61/24)
حكم التجارة بالعملة
السؤال
هل يجوز التجارة بالعملة؟
الجواب
نعم، هي جائزة شرعاً محرمة قانوناً.(61/25)
حكم تكفير الجماعات
السؤال
هل يجوز تكفير الجماعات كجماعات الشيعة؟
الجواب
جماعات الشيعة أو الخوارج أو المعتزلة أو القاديانية أو الجهمية الأمر فيها يحتاج إلى تفصيل، فغلاة هذه الفرق أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وأما عامة هذه الفرق فلا يكفرون إلا من نقض أصلاً عظيماً من أصول الإيمان.(61/26)
نفي بعض الفرق لأسماء الله وصفاته لا يستلزم الخلود في النار
السؤال
هل القدرية والأشاعرة والجهمية والفرق التي نفت الصفات والأسماء مخلدون في النار؟
الجواب
الأمر يحتاج إلى تفصيل، ولا يلزم كون هذه الفرق ليست من أهل السنة والجماعة أنهم كفار، بل هم من أهل القبلة، ولذلك نسبهم النبي إلى أمته، فقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار)، ولا يلزم من دخولهم النار الخلود فيها، ونحن قبل أن نبدأ في شرح كتاب ابن بطة تكلمنا عن حديث افتراق الأمة بكلام طويل في محاضرات عدة، وفصلنا بعض التفصيل، وربما يكون لنا ختام في نهاية الكتاب بذكر الكلام العام في هذه الفرق، وفي الدعاة إليها، وفي أتباعهم.(61/27)
حكم استعمال السبحة
السؤال
هل يجوز استعمال المسبحة أم هي بدعة؟
الجواب
الذي أعتقده جواز استخدامها، وأنها ليست بدعة، وإن كنت لا أحب ذلك؛ لأنها صارت علامة على أهل البدع، فالذي يراك بمسبحة وأنت ماش في الشارع تسبح بها يعتقد أنك صوفي، فهي صارت علامة على أهل البدع، وكم من أمور مباحة يتركها الرجل مخالفة الوقوع في التهمة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(61/28)
شرح كتاب الإبانة - نبذة عن تاريخ الجهمية وأعلامها
لقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فكان الدين كاملاً والسنة قائمة، إلى أن خلفت خلوف فابتدعت في دين الله ما ليس منه، وحرفوا وبدلوا، وكان من أوائلهم ظهوراً فرقة الجهمية المارقة، التي تكلمت في الدين، وعطلت ونفت أسماء الله وصفاته، ولقد بين السلف رحمهم الله ضلالهم وزيغهم، وحذروا من سلوك سبيلهم واعتقاد ما يعتقدون من الباطل والضلال.(62/1)
ظهور البدع في الدين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في الدرس الماضي تكلمنا عن الجهم بن صفوان وعن شيخه الجعد بن درهم، وفي الجملة تكلمنا عن سلسلة أهل النار التي هي سلسلة مشايخ الجهم بن صفوان الذي هو زعيم الجهمية، وأن أصل بدعة التجهم إنما نشأت في الإسلام عن طريق سوسن النصراني العراقي والذي كان شيخاً للجعد بن درهم، وأصل هذه البدعة هو لبيد بن الأعصم، ذاك اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فوعدنا أن نتكلم عن مذهب الجهمية.
إذا كنا في الدرس الماضي تكلمنا عن الجهم الذي هو مؤسس هذا المذهب، فالكلام في هذه الليلة وما يتلوها بإذن الله تعالى عن الجهمية.
لقد بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، فبلغ البلاغ المبين، وأوضح للناس المنهج القويم الذي يجب أن يسيروا عليه في هذه الحياة، حتى يلقوا ربهم تبارك وتعالى، فتركهم عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها أحد بعده إلا هالك، وبالتالي لم يكن هناك خلاف ولا اختلاف في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان من شيء ينشأ عند الصحابة إلا ويبادرون بسؤال النبي عليه الصلاة والسلام؛ فيقيمهم على الجادة.
فهؤلاء الذين سول ووسوس لهم الشيطان في ذات الله عز وجل -لأن أعظم البدع المتعلقة بذات الله أو بأسمائه وصفاته- أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا لتحدثه نفسه بالشيء لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم فيه) ومع هذا لم ينقلوا أصل الوسوسة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما فهم عليه الصلاة والسلام ما عنه يتحدثون، فقال: (ذاك صريح الإيمان) أي: خوفكم أن تتلفظوا به يدل على إيمانكم الكامل والتام، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق الجبال؟ من خلق الأنهار؟ من خلق السموات؟ من خلق الأرض؟ فتقولون: الله، فيقول: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟!)، هذا هو عين الوسوسة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وبين العلاج فقال: (فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا -أي: جاهدوا أنفسكم ألا يستقر هذا الوسواس في قلوبكم- وقولوا: آمنا بالله ورسوله)، فهذه ثلاث علاجات حددها النبي عليه الصلاة والسلام.
إن الشيطان قد جثم على صدور أهل البدع والأهواء من بعد النبي عليه الصلاة والسلام، مع أن أصول هذه البدع قد ظهرت بوادرها في زمنه عليه الصلاة والسلام كالخوارج مثلاً، فالخوارج جاء زعيمهم وهو التميمي المعروف، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم الغنائم: اعدل يا محمد! هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ ثم ولى الرجل فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يخرج من ضئضئ هذا - أي: من صلب هذا ومن ظهره- أناس تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
فهذا كان أصل الخوارج، وهذا الرجل هو جدهم الأكبر وأبوهم الأعظم.
انظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل البدع أنهم من أشد الناس اجتهاداً في العبادات: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم) أنتم يا أهل السنة! ويا معشر الصحابة! إذا رأيتموهم في حال عبادتهم احتقرتم صلاتكم وصيامكم وزكاتكم وقراءتكم للقرآن، ولذلك ينطلي على كثير من العامة بدع المبتدعين إذا رأوهم قد تنسكوا وتمسحوا بمسوح أهل العبادة والزهاد، ويقولون: كيف ذلك؟ هذا الرجل يصلي ويصوم ويزكي، بل ويحج كل عام، ومتصدق جواد ينفق على الفقراء والأيتام، وإذا رأيته في قيام الليل فحدث ولا حرج، بل وفي الجهاد وغير ذلك! إن المنافقين كانوا يجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام وهم من أهل النار، وكان يعرضون أنفسهم لبريق السيف مع نفاقهم، فليست العبادة دليلاً على صلاح العابد، بل ربما يكون من أعبد الناس، وقلبه أقسى من الحجارة، ويأتي بنواقض الإسلام كلها.
وهذا رجل آخر -وهو من الخوارج كذلك- كان يجمع الناس فيجعلهم حلقاً في المسجد، فيجعل على كل حلقة أميراً وكبيراً يلقي لهم الحصى، فيقول: كبروا مائة، سبحوا مائة، احمدوا مائة، فلما رأى ذلك أبو موسى الأشعري -وكان ذلك في الكوفة- قال: أتيت إلى ابن مسعود رضي الله عنه فانتظرت على باب بيته حتى خرج قال: ما شأنك يا أبا موسى؟! قلت: رأيت شراً، قال: هل أنكرت؟ قلت: لا، فجاء عبد الله بن مسعود(62/2)
تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة وفي مضمونها الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع
لقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام الأمة على المحجة البيضاء ناصعة البياض لا اختلاف فيها ولا تفرق ولا تشرذم، ولم يتركنا ونحن في حاجة إلى معرفة شيء من أمر ديننا إلا بمستجدات الحياة التي لها أصول في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إما بها تلحق أو عليها تقاس، والفقه متجدد في كل زمان ومكان، ولذلك أصوله في الكتاب والسنة، أما أن تجد لكل حادثة في حياة الناس نصاً يخصها في الكتاب والسنة فلا، فإنما الكتاب أصول وعمومات بينته وشرحته وفصلته وقيدته السنة المطهرة، وعلى هذين الأصلين انبثق الإجماع، ومن الإجماع كان قياس الفرع على الأصل لاتحاد العلة، وهذا حال الناس إلى أن تقوم الساعة.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد ترك هذه الأمة لا ينقصها شيء، وقد تلقى الصحابة رضي الله عنهم ما جاء به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم بغير لم؟ ولا كيف؟ ما سمعنا واحداً يقول للنبي النبي عليه الصلاة والسلام: لم كذا يا رسول الله؟ وكيف كذا يا رسول الله؟ بل آمنوا بما ذكره الله تعالى من نصوص الأسماء والصفات للرب تبارك وتعالى خاصة، وأثبتوها كما جاءت، واتفقوا على إقرارها وإثباتها والإيمان بها وإمرارها مع فهم معانيها، فانظر إلى هذا القيد: (مع فهم معانيها)، حتى لا نقع فيما وقع فيه أهل البدع من تأويل أو تفويض للمعنى، وإنما نفهم المعاني كما نثبت الحقائق، ومع نفي العلم بكيفيتها نثبت حقيقة الصفة، وننفي العلم بكيفية هذه الصفة؛ لأنه لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، فقد وصف الله تعالى نفسه بصفات، وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، فأخبر أنه يحب ويكره، ويمقت ويغضب، ويسخط ويجيء ويأتي، وينزل إلى السماء الدنيا، واستوى على العرش، وأن له علماً وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً ووجهاً، كل ذلك من الصفات الخبرية وغير الخبرية أثبتها الله تعالى لنفسه.
وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب من عباده، وأنه مع المحسنين ومع المتقين، ومع الصابرين، وأن السموات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى.
كل ذلك قد آمن به الصحابة ومن بعدهم التابعون بغير أن يسألوا: كيف يده يا رسول الله؟! وكيف وجهه يا رسول الله؟! وكيف نفسه يا رسول الله؟! وكيف سمعه؟ وكيف إرادته؟ وكيف مشيئته؟ وإنما آمنوا بذلك كله على الوجه اللائق بالله عز وجل.
فوصفه الصحابة بهذه الصفات الكاملة من غير تشبيهه بأحد من خلقه، ولا تعطيل له عن صفاته، ولا تمثيل له بغيره، ولا تأويل وصرف عن ظاهر هذه النصوص، آمنوا بذلك، وفروا من الابتداع في الدين، وأعظم الابتداع ما كان في أصل الدين، وفي ذات الإله وفي أسمائه وصفاته، وأمروا بالاقتداء لا الابتداع.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنا نقتدي ولا نبتدي.
هذا ابن مسعود وهو سادس ستة في الإسلام -أي: من كبار الصحابة، ومن المهاجرين الأوائل- قال: إنا نقتدي ولا نبتدي، أي: لا ننشئ أمراً جديداً، وإنما نقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا نتبع أمراً من عند أنفسنا.
قال: ونتبع ولا نبتدع، أي: نتبع النهج القويم الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ولا نبتدع في دين الله.
قال: (ولن نضل) لن: لنفي الحاضر والمستقبل، قال: (ولن نضل ما تمسكنا بالأثر) أي: ما دمنا قد تمسكنا بقال الله وقال الرسول، كما قال ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه هكذا قال ابن القيم يحدد أصول العلم الشرعي.
لما سألني أحد السائلين المتفلسفين عن حكم الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام قلت: أليس أصل العلم الكتاب؟ قال: بلى.
ومن بعده السنة؟ قال: بلى.
ومن بعده الإجماع؟ قال: بلى.
قلت: هل جاء الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام في القرآن؟ قال: لا.
في السنة؟ قال: لا.
هل احتفل النبي صلى الله عليه وسلم بميلاده؟ قال: لا.
احتفل الصحابة بميلاده؟ قال: لا.
التابعون؟ قال: لا.
هل أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من ذلك؟ قال: لم يقع منهم شيء من ذلك حتى يقر أو يثبت.
قلت: لو كان خيراً هل يصح أن يحجبه الله عن نبيه والصحابة الكرام ويظهره لنا؟ قال: مستحيل.
قلت: إذاً: قد أجبت.
قال: أنا ما أجبت.
قلت: أنت قلت: هذا بدعة وحرام؛ لأن الحرام هو فعل ما لم يكن في القرآن ولا في السنة، ولا أجمع عليه العلماء خاصة الصحابة رضي الله عنهم، فقال: لكن هذا شيء لابد لنا منه، قلت: هذه مقولة المبتدعة في كل زمان يقولون هذا، ويقولون: ما الضرر من هذا إنما يذكرنا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنتهى البلاء أن تتذكر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في كل عام مع أنك لا تنسى أباك، ولا تنسى أمك ولا صاحبك، بل ربما تستيقظ من النوم قبل ميعادك لتنظر في وجه صاحبك؛ لفرط محبتك له، فهل(62/3)
خطر كتب اليونان والفرس على عقيدة المسلمين
ثم دخل الشر بعد ذلك لما ترجمت كتب اليونان في زمن العباسيين، وكتب الفرس؛ لأن الفرس كانوا أصحاب حضارة، واليونان كانوا أصحاب حضارة، فلما ترجمت كتب حضارة الفرس وحضارة اليونان إلى الإسلام، دخلت الفلسفة والثقافات الغربية على المسلمين، فأفسدت عليهم أمر دينهم، واشتغل بعضهم بدراستها لاعتقادهم أنها تزيدهم معرفة ويقيناً، في الوقت الذي أعرضوا فيه عن كتاب الله عز وجل.
فلو أخرجنا مثلاً من الأمثلة لوجدنا أن طه حسين أعمى البصر والبصيرة، ذهب ليدرس الفلسفة الغربية في فرنسا، ورجع بالشك في كل ثوابت الإسلام وأصوله، حتى قال: لابد من الشك في كتاب الله حتى نصل إلى الحقيقة، وبكل وقاحة أثبت هذا في كتابه، بل في بعض كتبه قال: لابد من الشك، وكان اتخاذ الشك مصدراً أساسياً لتعطيل العلوم عنده، فكان مذهب التعطيل والشك دائماً في كل النصوص الشرعية وفي الإجماع، وأنكر كثيراً من الأصول الشرعية.
ثم أعلن ولده من بعده تقريباً سنة (1988م) تنصره في الكنيسة العظمى في باريس، فكان تعليق المشايخ وأهل العلم: وماذا تنقمون على ابن طه حسين إذا كان هو شر خلف لشر سلف، فهو قد سار على نهج أبيه؟ ولكن هناك تلميع لمثل هذه الشخصيات حتى تكون القدوة في بلاد المسلمين، إذ كانوا يضيفون عليهم ألقاباً عظيمة جداً مخيفة ومهولة، بحيث لا يقدر الواحد أن يخترق هذا الجدار من هذا الأدب العربي، ومن يستطيع أن يتكلم كلمة واحدة مع عميد الأدب العربي؟ وهكذا الإمامة لفلان الفلاني، والكاتب الإسلامي الكبير، والمفكر الإسلامي الكبير، وهكذا كل من سار على نهج هؤلاء المستشرقين وأتوا إلى هذه البلاد وصاروا على نهجهم، ثم اتخذوا لهم أذناباً في هذه البلاد عندما فارقوا بلاد الإسلام، فبقي بيننا من يتكلم بألسنتنا ويدين ظاهراً بديننا، وهو أطعن لنصوص الشرع، وأبعد الناس عن دين الله عز وجل.
قصص في كل زمان ومكان تتم بمشيئة الله عز وجل؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر سبحانه وتعالى، لما ترجمت هذه الدراسة اعتقدها الدارسون، واعتقدوا أنها تزيدهم علماً ومعرفة ويقيناً في الوقت الذي أعرضوا فيه عن كتاب الله وسنة رسوله، وزهدوا فيهما، فعند ذلك دخلت عليهم الشبه والضلالات، عندما يكون الإنسان حصيلته من الثقافة الغربية مذهلة، ورصيده من الإيمان صفراً أو فوق الصفر بشيء يسير؛ لاشك أن الشبه والضلالات تدخل عليه، واستغل ذلك أعداء الإسلام من اليهود والفرس واليونان وغيرهم، فأخذوا في ترويج باطلهم مستخدمين في ذلك من لم يتشبع بعلم الكتاب والسنة، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه ممن دخل الإسلام؛ ليطعنه في صميم عقيدته، وكانت بعض مقالات الضلالات قد ظهرت ذيولها في أواخر عصر الصحابة كما قلنا من قبل.
ولكنها كانت محصورة في نطاق ضيق، وكانت في مسائل محدودة يسيرة، ثم استفحل الشر، وانتشر بعد ذلك بعد أن ترجمت كتب الضلال، وتطورت الخلافات وتعددت علوم الفلسفة والكلام.
إن أقسام العقيدة في الجامعات الآن يسمونها: قسم الفلسفة، أو قسم علم الكلام، حتى تعلموا أن هذه التسمية نفسها تسمية غربية لا تسمية شرعية، فعلم الكلام أو المتكلمين، أو قسم الفلسفة، كل هذه مصطلحات غربية لا علاقة للإسلام بها.(62/4)
المنهجية التي سلكها علماء السلف في الرد على طوائف الضلال والانحراف
وانبرى علماء السلف لما انتشر الفساد؛ للرد على طوائف الضلال، وبيان الحق من الباطل، وكشف الشبه، والتحذير من الخروج عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
وحثوا على الالتزام بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد قال أبو العالية الرياحي: تعلموا الإسلام؛ لأنك لو تعلمت الإسلام استرحت وعرفت الحق من الباطل، والخير من الشر، والضلال من الهدى، وما سلمت رقبتك لآحاد الناس، وإنما الأمر كما قال العلماء: اعرف الحق تعرف أهله، إن الدين لا يعرف بالرجال ولا بالمناصب ولا بالوجاهات ولا بالزعامات ولا بالإمارة، إنما الدين بمعرفته ومعرفة أبنائه وأهله المخلصين العاملين.
إن الدين لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالدين، فالدين هو القاضي والحاكم في الناس، وليس الناس يحكمون في دين الله عز وجل.
قال: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فتعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه فتعلموا السنة.
إذاً: الخطوة الأولى: دخولك في الإسلام.
الثانية: أن تتعلم القرآن بعد الإيمان؛ ولذلك قال عبد الله بن عمر: كنا نتعلم الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن ازددنا به إيماناً.
إذاً: توحيد الله تعالى هو أهم شيء؛ لأن الإسلام هو النطق بالشهادتين واعتقادهما، والعمل بمقتضاهما، ولكن الصحابة الأوائل لما نطقوا بكلمة التوحيد في أول بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كان لهم من الإيمان والكمال والتمام فيه ما لهم بغير عمل؛ لأنه لم تنزل الأعمال حينئذ، فلم تشرع الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة ولا الحج، ولا الأمر بالمعروف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً أن يدعو سراً، فلم يكن هناك شيء من العمل في أول الأمر، ومع هذا كانوا في كمال الإيمان وتمامه؛ لأن هذا هو المفروض عليهم في ذلك الوقت.
فلما أتوا به كاملاً كانوا على درجة عالية من كمال الإيمان والإسلام، فقوله: (تعلموا الإسلام) أي: تعلموا توحيد الله، تعلموا الإيمان الحق بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالأنبياء والكتب، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وغير ذلك من مسائل الإيمان، والتي منها: الغيب، وغيره.
فإذا تعلمتم هذا واستقر الإيمان في قلوبكم، فتعلموا القرآن؛ لأن القرآن مع هذه الأرض الصالحة الطيبة ينفع، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58] والتقدير: لا يخرج منه إلا نكداً.
فإذا كانت الأرض صالحة والإيمان قد استقر في القلب، فحينئذ لا يسمع القلب آية من كتاب الله إلا وينتفع بها، يقف عندها فيقول: ما المراد من هذه الآية؟ وما المطلوب مني؟ وما الواجب؟ فلا يمر بآية إلا ويعمل بها؛ ولذلك جاء عن الصحابة أنهم كانوا يتعلمون القرآن عشر آيات عشر آيات، يحفظونها علماً وعملاً واعتقاداً، ولا يتعدونها إلا إذا عملوا بمقتضاها، فازدادوا بهذا العمل إيماناً؛ لأن الإيمان يزيد بالعمل -أي: بالطاعة- وينقص بالمعصية، فحينئذ قال: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فتعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه فتعلموا السنة، فإن سنة نبيكم صراط مستقيم.
وإياكم وهذه الأهواء المؤذية -أي: البدع والأهواء والضلالات والانحرافات عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
إياكم وإياهم- فإنها تلقي بين الناس العداوة، وعليكم بالأمر الأول العتيق، أي: سنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام مالك: إياكم والبدع.
قيل: يا أبا عبد الله! وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته.
أي: على جهة النفي أو التأويل أو التحريف أو التمثيل، أما الذي يتكلم في أسماء الله وصفاته على سبيل الإثبات اللائق بالله عز وجل فهم أهل السنة والجماعة.
قال: أهل البدع هم الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه -أي: ينفون عن الله تعالى أنه يتكلم- وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.(62/5)
قول الإمام الأوزاعي في لزوم السنة وترك البدعة
وقال الإمام الأوزاعي عالم الشام: اصبر نفسك على السنة -يعني: ألزم نفسك على اتباع السنة- وإن كان يخفى عليك شيء منها ففوض أمرها إلى الله عز وجل، فليس بلازم أن تفهم كل شيء، ومن من الناس يفهم حتى في مجال عمله كل شيء، الذي يقتات منه في كل يوم، ويمارسه في كل يوم عدة ساعات، تخفى عليه مسائل في عمله، فمن باب أولى أن يسكت عما لم يفهمه فيما يتعلق بأمور الغيب، ويؤمن به كما جاء ويمره إمرار الكرام إيماناً وإقراراً وإثباتاً على ما يليق بالله تعالى بكماله وجلاله، فصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم.
وإذا قلنا: (قف حيث وقف القوم) فإن القوم هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، والتابعون لهم بإحسان الذين ساروا على نفس الخط ونفس النهج، الذين لم يختلفوا في صفات ذاته تبارك وتعالى، صفات الذات من اليد والعين والساق والقدم وغير ذلك.
أو الخبرية: كالمجيء والإتيان، والغضب والرضا والسخط، وغير ذلك من الصفات فهذه الصفات هل قرأها الصحابة في كتاب الله أم لا؟
الجواب
قرءوها، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأها التابعون، فإن قيل: هل نحن أحسن من هؤلاء؟
الجواب
لا.
السؤال الثاني: هل النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه: كيف عينك؟ كيف قدمك؟ كيف تنزل إلى السماء الدنيا؟ كيف استويت على العرش؟ الجواب: لا.
فإن قيل: هل يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ الجواب: لا.
لا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا يعرفه إلا الله، أي: لا يعرف كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه وتعالى.
ولذلك لم يثبت أن واحداً من الأنبياء أو المرسلين أو الحواريين أو الأصحاب أو آحاد الناس ومن سار على نهجهم ورضي بمنهجهم أنه سأل عن الكيف مطلقاً، وإنما آمن به، وأمره كما جاء، وما خاض فيه بشيء من ذلك.
وهذا يدل على أن الذي خاض سلك سبيلاً غير سبيل المؤمنين، وغير سبيل المرسلين، فهو من أهل الضلال والبدع؛ لأن الأنبياء والمرسلين ما تركوا خيراً إلا وقد دلوا أممهم عليه، وخيرهم نبينا عليه الصلاة والسلام، فما ترك شيئاً فيه خير لنا وصلاح لنا ونفع لنا وتقريب إلى الله وإلى جنته إلا وقد أمرنا به وحثنا عليه، وما ترك شيئاً فيه شر لنا، وفساد لنا، وإبعاد لنا عن ربنا، وإدخال لنا في النار إلا وقد نهانا عنه عليه الصلاة والسلام.
قال: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، إذا تكلموا في شيء فتكلم فيه؛ لأنهم عن علم تكلموا، فلا بأس أن تتكلم بما تكلموا به، وكف عما كفوا -الذي أمسكوا عنه يجب عليك الإمساك عنه- واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما يسعهم، ولو كان خيراً ما خصكم الله تعالى به دون أسلافكم.
لو قلنا: ناهيكم عن نصوص الشرع، لو وزناها بالمنطق والعقل لقلنا: لا يمكن أن يخفي الله خيراً على نبيه ويظهره لنا! هذا مستحيل، والقول بذلك يلزم منه: أن الأنبياء ما عرفوا الحق وما عرفوا الخير، وإن كانوا قد عرفوه وما بلغوه إلى أممهم فقد خانوا الله وخانوا الرسالة، إذاً: الرسل والأنبياء بلغوا البلاغ المبين، وأقاموا الحجة على سائر الخلق أجمعين، فلو كان الخوض في الصفات خيراً لما أخفاه الله على نبيه وأصحاب نبيه، ثم يبلغ الله به من بعدهم، والقائل بهذا يلزمه أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى يومنا هذا أجمعوا على الضلال، والأمة معصومة من ذلك.
قال: ولو كان خيراً ما خصصتم به دون أسلافكم، وإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم في فضل عندكم.
أنتم لستم أفضل منهم، وهم أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام اختارهم الله وبعثه فيهم.(62/6)
قول أبي حنيفة فيما أحدثه الناس من الأعراض والأجسام
وقال نوح بن أبي مريم.
وهو أبو عصمة المروزي القرشي هذا كذاب ووضاع، وهو الذي وضع في فضل سور القرآن سورة سورة، وضع حديثاً في فضل كل سورة، والحديث الواحد عبارة عن كراسة أو (كشكول)، وهذا لا يمكن أن يقوله النبي عليه السلام، فإن أعظم خطب النبي عليه الصلاة والسلام هي خطبة حجة الوداع، وخطبة فتح مكة، ولا تبلغ ثلاث صفحات.
لكن عندما يأتي شخص في هذا الوقت بدفتر كامل ويقول: هذا دعاء أربعة من الصحابة، فلا شك أن هذا الكلام ليس من دين الله عز وجل أبداً، فالدين قال الله قال رسوله قال الصحابة، وليس هذا منه أبداً، فقد كثرت هذه الأوراق في هذه الآونة الأخيرة، حيث يأتي في ذيلها أو في عقبها تحذير ووعيد شديد، ثم يتبع هذا الدعاء أو الحديث سبع وسبعون أمراً، منها: قد يحرق الله لك مرادك، ويحرق لك ابنك، وأنت ليس لك في ذلك فائدة؛ لأنه ليس فيه من علم ابن تيمية عليه رحمة الله شيء، فإن ابن تيمية إذا ذكرنا اسمه فذكره كفاية، كما قال سفيان الثوري: عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمات.
وكان ابن تيمية يناقش الصوفية الرفاعية، وهم من شر الخلق، وشر الناس ابتداعاً في الدين، وفاقوا حد التصوف بحدود كثيرة متناهية؛ حتى كان الواحد منهم يمسح بدنه بشحم الثعبان أو بنوع معين من الشحوم لا يتأثر هذا الشحم بالنار، كشحم الضفدع والثعبان، وكلاهما عجيبان، ثم يدخلون في النار ولا تضرهم، فقال ابن تيمية: ندخل النار نحن وأنت فمن أكلته النار فهو على الباطل، ومن نجا من النار فهو على الحق.
ولما وقفوا على النار قال ابن تيمية: يغتسل كل منا قبل دخول النار؛ لأن الماء يزيل هذا الشحم.
فرفضوا الاغتسال، فرفض ابن تيمية أن يدخل النار؛ لأنهم رفضوا أصل التحدي.
وفي رواية: أنه دخل النار وخرج منها ولم يحترق، ولما دخلوا هم أحرقتهم النار؛ لأنه صاحب حق، وقد كان أعلم الناس في زمانه بالله عز وجل، فإن العلم الخشية، والعلم علمان: علم بالأحكام من الحلال والحرام، وعلم بالله وهو الخشية والرجاء.
والرجاء بعد العمل لا قبل العمل، فإن الرجاء قبل العمل غرور واغترار بالله تعالى، أما بعد العمل فهو رجاء صحيح في الله عز وجل.
قال نوح الجامع، وهو نوح بن أبي مريم الذي يعرف بـ نوح الجامع، وقد لقب بـ الجامع؛ لأنه جمع كل شيء إلا الخير، جمع الشر كله.
قال نوح: قلت لـ أبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ الأعراض: كل ما هو معنوي من إثبات النفس لله عز وجل، والأجسام: هي الجوارح من إثبات اليد والعين والساق وغير ذلك من صفات ذاتية له سبحانه وتعالى.
قال: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: هي مقالات الفلاسفة، أي: من منهج الفلاسفة، وليس من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام.
ثم قال له: يا نوح! عليك بالأثر وطريق السلف، وإياك وكل محدثة، فإنها بدعة.
أي: كلام الفلاسفة والمتكلمين كله بدعة حتى ما وافق منه الشرع، فإنه لا يجوز لأحد المسلمين أن يحتج به، وإنما يحتج بما جاء في الشرع؛ لأن هذا هو الطريق الحقيقي الذي يستجلب رضا الله عز وجل، فهذا أبو حنيفة رحمه الله ينصح نوحاً الجامع بسلوك سبيل السلف، والتزام الأثر، وسلوك ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من نهج وأصحابه الكرام.(62/7)
جواب الإمام مالك على من سأله عن الكلام والتوحيد
وسأل رجل إسماعيل الرياحي المزني عن شيء من الكلام فقال: إني أكره هذا -أنا أكره الخوض في هذه المسائل- بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، فلقد سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد، فقال مالك: محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد.
محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: توضئوا كذا وصلوا كذا، وزكوا كذا وصوموا كذا، ولم يعلمهم الإيمان بالله وتوحيده في الأسماء والصفات وتوحيد الذات وتوحيد الأفعال، محال أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك وعلمهم كيف يتوضئون وكيف يصلون؛ لأن هذه العبادة كلها لا تصح إلا بعد صحة التوحيد وصحة الاعتقاد، فكيف ينطق النبي صلى الله عليه وسلم بالفرع ويترك الأصل؟ ومن خلال هذا الكلام نعلم أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم خاضوا في شيء من ذاته أو صفاته أو أسمائه، إذاً: يسعنا ما وسعهم، فلما لم يتكلموا في توحيد الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته وآمنوا بها وأخذوها كما جاءت فإنه يلزمنا ما لزمهم، ويحرم علينا الخوض فيه كما كان يحرم عليهم الخوض فيه.
قال: محال أن نظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، فهذا هو أصل الأصول، فالله سبحانه لا يقبل من أحد ديناً إلا بهاتين الشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ولا يسمى العبد مسلماً إلا إذا أتى بهاتين الشهادتين ظاهراً وباطناً عند الله عز وجل، وأما عند الخلق فيأتي بهما ظاهراً، وإن كان هناك نفاق في قلبه فله حكم الإسلام في الدنيا، وأما في الآخرة فإنه عند الله كافر، ومن المخلدين في النار؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وما عصم الدم والمال والأعراض حقيقة إلا بهذه الكلمة.(62/8)
مناظرة الشافعي لبشر المريسي وإخباره بأنه لن يفلح لأنه مبتدع ضال
دخل بشر المريسي -وهو سيد من سادات أهل البدع والضلال- على الإمام الشافعي، فقال الشافعي لـ بشر: أخبرني عما تدعو إليه.
وهذه المناظرات يا إخواني! وإن كانت تنتهي بكلمتين أو ثلاث إلا أنها مقنعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال الشافعي لـ بشر: أخبرني عما تدعو إليه.
أكتاب ناطق -يعني هل تستند فيما تقول إلى كتاب الله عز وجل- أو سنة قائمة -حجتك فيما تقول قال الله قال الرسول- ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟ ومعلوم أن بشراً سيجيب كما يجيب أهل الضلال؛ لأنه مبتدع فهو يقولها بلسان الحال، فيجيب عن أسئلة هذا مفادها.
قال: لا، إلا أنه لا يسعنا خلافه.
فهو يعلم أن المرد والملجأ دائماً إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول وإلى الصحابة رضي الله عنهم، لكن إن قيل له: فلم تسأل عن شيء لم يسأل عنه الصحابة؟ قال: لأنه أمر ضروري لابد لنا منه، ولا يسعنا السكوت عنه، فإن قيل له: أليس ما وسع السلف يسعك؟ لا شك أن الجواب عنده: لا، بدليل أنه تكلم وقال: هو أمر ضروري لنا؛ فقال الشافعي: أقررت بنفسك على الخطأ، يعني: أنت حكمت على نفسك أنك مخطئ؛ لأن ما أتيت به إنما هو قول اتبعته وأتيت به من عند نفسك لا من عند الله عز وجل.
قال: فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار تواليك الناس عليه فتترك هذا؟ قال بشر: لي نبذ فيه، وهكذا شغل بشر نفسه بما حرم الله عز وجل عليه أن يشتغل به.
قال: فلما خرج بشر من عند الشافعي قال الشافعي: لا يفلح.
فهو من الخاسرين الهالكين لا يمكن أن ينال الفلاح أبداً.(62/9)
قول الإمام أحمد في الحارث المحاسبي
وكتب الإمام أحمد إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان قال له: لست بصاحب كلام.
أي: إذا كنت أرسلت إلي بشيء من هذا تريد أن أناظرك فيه وأجادلك فاعلم أني لست بصاحب كلام، ولا أحسنه ولا أجيده.
هذا الباب للإمام أحمد بن حنبل، لما كان يسأل في شيء لم يكن عنده فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: أنا لا أفهم هذا ولا أعرفه، فاسأل أحداً غيري عن هذا، وليس معنى (لا علم لـ أحمد به): أنه يعجز عن الرد، ولكن أحمد كان ينزه لسانه وسمعه أن يسمع شيئاً من تلك الفلسفات.
أضرب لكم مثالاً: الحارث المحاسبي رجل له كلام متين جداً في الزهد وفي محاسبة النفس وغيرها، وله كتاب اسمه: التوهم، لو قرأه أحد لأيقن أنه هالك، حتى وإن كان أعبد الناس، وكان في مجلسه الآلاف؛ فقالوا لـ أحمد بن حنبل: ما تقول في الحارث؟ قال: لا أعرفه.
أي: لا أعرف عنه شيئاً، وأصم أذني عن سماع كلامه، فقالوا: يا إمام! لابد لك من أن تسمع كلامه، قال: إذا دعوتموه فآذنتموني سمعت كلامه من خلف الستار أو الجدار، فدعوه في الليل في بيت أحدهم، فلما جاء أحمد وسمع الحارث، سمع أصحاب الحارث لـ أحمد نشيجاً وبكاءً حتى أشفقوا عليه، فلما قدموا على أحمد وجدوا أنه قد بل الثرى بدموعه تأثراً من كلام الحارث، فلما قالوا له: يا أحمد! ما تقول في الحارث؟ قال: لا تسمعوا منه حرفاً واحداً.
إن أحمد رضي الله عنه فهم كلام الحارث ومن أين جاء به، وما مراده بهذا الكلام فتأثر منه، وله أن يتأثر، بل لـ أحمد أن يطلع على كتب أهل الكتاب، وكتب الفلاسفة واليونانيين والفرس والترك والروم، لكن ليس لآحاد الأمة ذلك.
إن ابن تيمية عليه رحمة الله درس كتب الفلاسفة ورد عليهم بمنطقهم، لكن لا يجوز لآحاد الأمة أن يدرس ما درسه ابن تيمية، فإن كثيراً من الطلاب دخلوا ودرسوا علم الفلسفة والمنطق فكانوا نقمة وحرباً على دينهم؛ لأنهم تعلموا التجرؤ على كتاب الله وعلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتبارهما كتباً من الكتب قابلة للنقل، وقابلة للتجريح وللأخذ والرد.
هكذا تعلموا؛ لأن هذا أصل في الفلسفة.
فاعتبار كتاب الله تعالى من آحاد الكتب وبأنه لا فرق بين كتاب الله وبين غيره من الكتب اعتقاد معروف عند الفلاسفة.
قال الإمام أحمد: لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله، فإن كنت تريد أن تناقشني فائتني بقول الله، أو بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود أبداً.
وللأسف الشديد من المفكرين الإسلاميين اليوم من يريد أن يناقش الغربيين بمنهج الغربيين؛ ويقول: لأنهم كفار، ولا يريدون أن يسمعوا القرآن والسنة، ويرفضون الاحتجاج به، سبحان الله! هم يرفضون الاحتجاج بالقرآن والسنة، وأنت تقبل الاحتجاج بهذا الكلام التافه السخيف.
ذات مرة تأخر خطيب عن الخطبة، فاضطر أحد الحاضرين أن يصعد، وليس أهلاً لذلك، لكنه قال كلمة عجيبة جداً، قال: لابد أن تطبقوا شرع ربنا، وكل واحد يلتزم بشرع ربنا، لأنه لا يمكن أبداً أن يستوي شرع ربنا مع شرع أبيه وأمه.
هكذا قال! سبحان الله! قال كلمة أجمل فيها، وتذكرت أن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جاء إليه وقال: (يا رسول الله! إني أقول: اللهم أدخلني الجنة وأعذني من النار) ولم يأت بدليل على قوله.
قال: (أما دنددنتك ودندنة معاذ فإني لا أحسنها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن) يعني: نحن ندعو الله عز وجل، ونصل في نهاية الأمر إلى ما وصلت إليه، ونتمنى ما تتمناه أنت.
فهذا الرجل أجمل ما قاله الدعاة منذ عشرات ومئات السنين في كلام مختصر جداً.
قال: لست بصاحب الكلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود.
إذا كان الله تعالى غنياً عن إيمان المؤمنين وإسلام المسلمين، فمن باب أولى أن الله تعالى غني عن العالمين، والله هو الغني الحميد، الغني عن جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، فإن طاعة الطائعين لا تنفعه، ولا معصية العاصين تضره سبحانه وتعالى؛ لأنه الغني بذاته عن عباده وعن خلقه، فهؤلاء من أئمة الأمة ينهون عن الخوض في علم الكلام والتعدي في الأسئلة، فأهل البدع يقولون: نحن ننزه الله تعالى عما تنزهونه، يقولون: نحن ننزه الله أن يكون له يد، وأن يكون له رجل وساق وعين ووجه ونفس وغير ذلك، وننزهه أن يضحك ويغضب ويسخط ويرضى ويأتي ويجيء؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس بعقل ولا جسم، ولا لون، ولا له عين، ولا أذن ولا سمع يتكلم به، ولا لسان وليس(62/10)
شرح قاعدة النفي المجمل والإثبات المفصل لأسماء الله وصفاته
إن من منهج أهل السنة والجماعة: أنك تثبت لله تعالى الكمال تفصيلاً، وتنفي عنه النقص إجمالاً، فمنهج أهل السنة النفي المجمل، والإثبات المفصل.
هذه قاعدة تتعلق بالأسماء والصفات.
وشرح هذه القاعدة: أن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذا نفي مجمل، لأنه قال: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، فأنا نفيت عن الله عز وجل مشابهته للأشياء كلها من جميع المخلوقات، فهو يختلف عن جميع المخلوقات، ولا شيء منها يماثله ولا يكافئه ولا يشبهه سبحانه وتعالى.
فالنفي المجمل دليله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، والإثبات المفصل دليله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3].
فهو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وغير ذلك من أسماء الله تعالى وصفاته، أما إثبات ما لله إجمالاً، ونفي ما ليس له تفصيلاً، فهو منهج المجرمين المبتدعين من الجهمية وغيرهم، يقولون: الله تعالى ليس بذات، ولا عرض ولا جسم، ولا له أنف ولا أذن ولا عين، ويظنون أنهم بذلك ينزهون الله.
ولو دخلت على ملك من ملوك الدنيا فهل ستقول له: أيها الملك! أنا أؤمن أنك لست حماراً ولا كلباً ولا خنزيراً ولا قطاً سبعاً! فهذا الأسلوب في حق المخلوقين مرفوض، بخلاف قولك له: أنت ملك عادل، وليس في ملوك الدنيا أعدل منك، فهذا أسلوب مدح ولا شك، وتقول: وعدلك قد ظهر في كيت وكيت وكيت، وهذا إثبات على سبيل التفصيل، وتقول: وباعد الله بينك وبين أهل السوء، فهذا نفي مجمل وإثبات مفصل، فالمنهج يا إخواني! مع المخلوقين منهج محمود، النفي المجمل والإثبات المفصل، وهو منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الكمال لله عز وجل تفصيلاً، ونفي النقص عنه سبحانه وتعالى.
إن لأهل السنة والجماعة خمساً وعشرين قاعدة، كانت سبباً لعصمة أهل السنة والجماعة من أن يقعوا في بدعة من البدع على طول التاريخ وعرضه.
أما أئمة المسلمين فهم ينهون عن الخوض في علم الكلام من العرض والجوهر والجسم، والتعدي في البحث والسؤال عما لم يرد عن سلف الأمة، فلابد من التسليم والاتباع، وترك التكلف والتعمق فيما فيه خطر على القلوب من الزيغ والضلال.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(62/11)
شرح كتاب الإبانة - مذاهب ودرجات الجهمية والاختلاف بينها
الجهمية فرق ضالة منحرفة، كثير من عقائدها مأخوذ عن اليهود والنصارى، وهي تجتمع في النفي والتعطيل لأسماء الله وصفاته وأفعاله وما ينبغي له من الطاعة والعبادة، والجهمية على درجات؛ فأشدهم وأشنعهم الجهمية الغالية النفاة، ثم المعتزلة، الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، ثم الصفاتية الذين لم يثبتوا إلا بعض الصفات ونفوا أكثرها.(63/1)
حكم أهل السنة والجماعة على الجهمية وتقسيمهم لهم إلى درجات
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: في الدروس الماضية تكلمنا عن مؤسس فرقة الجهمية وهو الجهم بن صفوان، وذكرنا طرفاً من شيوخه، ويحلو للإنسان أن يسميها سلسلة أهل النار، وتكلمنا في المحاضرة الأخيرة عن طرف من تاريخ الجهمية.
وقد أطلق أهل السنة وعلماء السنة لقب الجهمية على الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته.
فمعتقد الجهمية متعلق دائماً بالأسماء والصفات، والجهمية ليسوا جميعاً على درجة واحدة، وليسوا مذهباً واحداً فبينهم اختلافات، فالجهمية فرقة أساسية كبيرة، تفرقت فيما بينها إلى فرق داخلية، وهذا شأن أي فرقة من الفرق؛ ولذلك كثير من أهل العلم لما تعرض لشرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام في افتراق الأمة ذكر من الفرق فرقتين وثلاث فرق وأربع فرق خطأً؛ لأن هؤلاء جميعاً يدخلون تحت مسمى الشيعة مثلاً، فالشيعة فرقة أساسية افترقت فيما بينها إلى ثلاث: غلاة، وإمامية، وزيدية، فهو عد الغلاة فرقة، والزيدية فرقة، والإمامية فرقة، وفي الحقيقة أن هؤلاء جميعاً فرقة واحدة، وكذلك فرق الجهمية الفرعية التي تندرج في نهايتها تحت فرقة واحدة وهي الجهمية ظن بعض أهل العلم أنها كذلك فرق، فجعل فرق الأمة أكثر من مائتي فرقة، وهذا خطأ، ويصطدم مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما الخطأ في فهم من تصور أن الفرع الذي انبثق من الأصل في داخل الفرقة الواحدة يعد فرقة لوحدها؛ ولذلك فالجهمية درجات:(63/2)
الجهمية الخالصة الغالية (النفاة)
الدرجة الأولى من الجهمية: هم الذين يسميهم العلماء: الغلاة أو الجهمية الغالية، وقولنا: الغالية، من الغلو، أي: المغالية في تجهمها، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، يجردون ذات الله عز وجل من كل اسم ومن كل صفة، ويقولون: الله بلا أسماء وبلا صفات.
وأحياناً يريدون أن يحسنوا وجههم القبيح، فيقولون: لله أسماء لكنها ليست مرادة، ولله صفات ولكنها ليست مرادة، ولهم فلسفات سنتعرف عليها بإذن الله تعالى.
ولذلك يقول الشيخ هنا: وهم أشر درجات الجهمية، وهم الذين ينفون أسماء الله تعالى وصفاته، وإن سموه بشيء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي، ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، ولا يتكلم، فحقيقة قولهم: أنهم لا يثبتون شيئاً لله.
إذا أردت أن تنظر إلى حقيقة قولهم فلا بد أن تعلم أنهم ينفون عن الله تعالى الأسماء والصفات مطلقاً.
قال: ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ -هل تعبدون رباً لا اسم له ولا صفة له- قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فإذا قيل لهم: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هل هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم.
فإذا قيل لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى؟ قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم- ثم عللوا بأن الله تعالى لا يتكلم ولن يتكلم بقولهم: لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة.
يعني: الكلام لا يكون إلا بلسان وفم ولهاة، والله تعالى منزه عن ذلك.
إذاً: فقد آلة الكلام فلا يتكلم، إذ كيف يتكلم والعقلاء قد علموا أن المتكلم لا بد له من جارحة يتكلم بها، ونقول: هذا في حق المخلوقين، أما في حق الخالق فإن القياس منتفٍ، فالله تعالى يتكلم بحرف وصوت، ويتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، وما زال كلام الله تبارك وتعالى قائماً، ولا زال الله تعالى متصفاً بالكلام لا ينتفي عنه ذلك سبحانه وتعالى، وصفة الله تعالى ليست مخلوقة أياً كانت هذه الصفة، الكلام أو غير الكلام، ولكنهم يقولون: لا بد للمتكلم من جارحة، مع أن الله تعالى في القرآن أخبر أن بعض مخلوقاته يتكلم بغير جارحة، كقوله تعالى عن السماوات والأرض: {َقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا -أي: تكلمتا السماوات والأرض- أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
إذاً: السماوات والأرض تكلمتا بغير جارحة، أم أن للأرض لساناً وفماً ولهاة، وللسماوات لساناً وفماً ولهاة؟ هل أحد منا يعتقد أن للأرض لساناً أو فماً أو لهاة؟ لا أحد يعتقد ذلك، ومع هذا أثبت الله تعالى أن السماوات والأرض تكلمتا.
وقال الله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:13]، من من الناس يعلم أن الرعد له لسان يسبح به؛ لأن التسبيح لا يكون إلا بجارحة؟ وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى، وكذلك الجبال، هل رأى أحد منا جبلاً له لسان، أو بحراً له لسان؟ إن الله تبارك وتعالى سخر الجبال مع داود يسبحن والطير، هل الطير له لسان يسبح به ويتكلم كما نتكلم؟ إذاً: لا يلزم دائماً لكل متكلم أن يتكلم بجارحة، وإذا كان هذا في حق بعض المخلوقين فما بالك بالخالق سبحانه وتعالى، فهو قادر على أن يتكلم كيفما شاء وبما شاء.
قالوا: والجوارح عن الله منتفية.
نقول: نعم.
الجواح عن الله منتفية.
قال الشيخ: وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله تعالى.
الجاهل يقول: هؤلاء ما أرادوا إلا تنزيه المولى عز وجل أن يكون شبيهاً بمخلوقاته أو مثيلاً لمخلوقاته، ولكن عند النظر والتدقيق يتبين أن هؤلاء ليسوا معظمين لله عز وجل، وإنما هم معطلون لأسماء الله عز وجل ولصفاته.
قال: وقد أفصح عن هذا المذهب رجل منهم يسمى ابن الإيادي.
أخطأ شيخ الإسلام ابن تيمية، وربما لا يكون هو الذي أخطأ حينما الناسخ لكتابه هو الذي أخطأ أنه قال: ابن الأباري، وابن الإيادي وابن الأباري في الرسم شيء واحد، وهو أقرب إلى التصحيف.
فالذي يقرأ عن تاريخ الفرق سواء كان في كتاب موسوعة الفتاوى لـ شيخ الإسلام أو في درء تعارض العقل والنقل، أو في كتاب منهاج السنة لـ ابن تيمية يجد ابن الأباري، وفي الحقيقة ليس هناك أحد بهذا الاسم، إنما هو ابن الإيادي، فالصواب: أنه ابن الإيادي.
قال: وكان ابن الإيادي ينتحل قول الجهمية، فزعم أن البارئ عالم، قادر، سميع، بصير في المجاز لا في الحقيقة.
يعني: أن الله تبارك وتعالى عالم مجازاً، وكلمة (مجاز) تنفي العلم الحقيقي عن الله عز وجل؛ لأن المجاز ضد الحقيقة، فإذا قلنا: إن الله تعالى عالم مجازاً لا حقيقة؛ لزمنا أن نقول: إن الله تعالى بذاته ليس عالماً، وإنما أودع علمه بعض مخلوقاته؛ ولذلك الجهمية أخذوا كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام من أوله إلى آخره، كلما مروا على اسم أو صفة جعلوه مجازاً لا ح(63/3)
المعتزلة
أما الدرجة الثانية من درجات الجهمية: فهم المعتزلة، وهم الذين تبنوا مذهب الجهمية أو شيئاً منه؛ ولذلك ربما تجد في الشخص الواحد متناقضات وأضداداً في عقيدته لا تدري كيف كان ذلك منه! ولكن ربما لانحرافه عن طريق السلف عاقبه الله عز وجل بأن جعل في عقله الأضداد، حتى يحيره في حياته، وقد شاهدنا في هذا الزمان كثيراً من أهل العلم لا نظر له في الكتب ولا يحسن أن يفتح الكتب فضلاً عن أن يفهم ما فيها، قد شاهدناه يقرأ في الباب الواحد كلاماً للمعتزلة، فإذا أعجبه قصه من الكتاب وألصقه في كتاب آخر يريد إخراجه، فإذا قرأ في نفس الباب كلاماً للجهمية أعجبه وضعه تحت الكلام الأول، وللخوارج تحت الكلام الأول، وللمرجئة تحت الكلام الأول، فيجمع في مسألة واحدة بين عدة عقائد، إلا عقيدة أهل السنة والجماعة.
وللأسف الشديد بعض هذه الكتب يدرس الآن في بعض معاهد إعداد الدعاة هنا وهناك.
فالمعتزلة فرقة لا علاقة لهم في الأصل بالجهمية؛ إذ إن المعتزلة فرقة أسسها واصل بن عطاء المعتزل البصري في زمن الإمام الحسن البصري، وقصة الاعتزال معروفة، وتاريخ واصل معروف، وربما لو تسنى لنا دراسة مذهب المعتزلة لتعرفنا عليه أكثر من ذلك.
والجهمية كما علمتم من المحاضرتين السابقتين لهم مؤسس ولهم أصول ثابتة يتكئون عليها، ولهم إنكارات ونفي للأسماء والصفات، فهم يعتمدون في أصل دعوتهم على خمسة أسس، فحينئذ مذهب المعتزلة في أصله له أصول يتكئ عليها، وينافح عنها، هذه الأصول -وإن كانت في الظاهر أصول الجهمية- تخالف الجهمية.(63/4)
أصول المعتزلة
أما أصول المعتزلة فهي خمسة: الأصل الأول: التوحيد.
هذا أصل أصيل يتكئ عليه أهل الاعتزال، والذي يسمع أن كلمة التوحيد أصل من أصول المعتزلة يقول: لماذا تنكرون على المعتزلة؟ أنتم تدعون إلى التوحيد وهم يدعون إلى التوحيد؟ بل حتى صار التوحيد شعاراً من شعارهم، لكن التوحيد عند المعتزلة إنما هو إبطال الصفات؛ بزعمهم أنهم ينزهون الله عز وجل عن أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، فيقولون: الله تعالى ليس له يد، ولا ساق ولا وجه، وليس له نفس، ولا يغضب ولا يسخط ولا يفرح ولا يضحك، قالوا: لأن هذا كله لا يصدر إلا من المخلوق، والخالق منزه عن ذلك، فنحن نوحده في ذاته أن يكون شبيهاً بمخلوقاته، هذا هو التوحيد عندهم، والتوحيد عندهم فيه كلام كثير.
لكن على أية حال: إذا علمت أن هذا هو التوحيد عند المعتزلة فاعلم أن هذا عند أهل السنة إنما هو نفي وتعطيل، وقد سمى المعتزلة هذا النفي وهذا التعطيل لصفات الله تعالى توحيداً، ولا مشاحة في الاصطلاح، فكل إنسان يصطلح لنفسه مصطلحاً، ويفعل لنفسه ما يشاء، لكن أهل السنة والجماعة إنما ينظرون إلى معنى هذه المصطلحات، يقولون: نحن نتفق معكم في نفي المماثلة ونفي المشابهة، لكننا نثبت الأسماء والصفات وأنتم تنفونها، وتظنون أن التوحيد لا يكون إلا بالتعطيل، ونحن لا نقول بالتعطيل، وإنما نقول بالتوحيد الذي هو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على المعنى اللائق بالله عز وجل، دون استلزام مشابهته بالمخلوقات؛ لأن المخلوقات فيما بينها مختلفة في هذه الأسماء والصفات، فلو قلنا: للحمامة جناح، ولليمامة جناح، وللعصفور جناح، ولكل طائر جناح، ولجبريل عليه السلام جناح، فهذه كلها أشياء مخلوقة تطير، وتطير بأجنحتها، لكن هل جناح العصفور كجناح جبريل؟
الجواب
لا.
إذاً: العصفور يتفق مع جبريل في مجرد الاسم، أما الكنه والحقيقة فشتان وهيهات، وكذلك الله تعالى له يدان وله عينان وله نفس، ويضحك ويغضب ويسخط وغير ذلك من صفاته الخبرية التي أخبر بها، وصفاته الذاتية التي أخبر بها سبحانه وتعالى، وأخبر بها رسوله، وكذلك شتان بين ضحك المولى عز وجل وضحك المخلوقات، حتى الحيوانات فيما بينها تضحك وتغضب وتبكي وتحزن، وليس حزنها كحزن بعضها البعض، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.
فالمعتزلة فضلاً عن أصولهم الخمسة تجهموا، أي: مالوا إلى مذهب الجهمية، فصاروا يضبطون أصولهم الخمسة على مذهب الجهمية ويخالفون الجهمية في بعض المسائل، لكن المعتزلة في نهاية أمرها أشربت مذهب الجهمية، وكثير من الناس يقول: هذا معتزلي جهمي، أو هذا جهمي معتزلي، وفي الحقيقة أن كل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً، وهنا نقول: بين الجهمية والاعتزال عموم وخصوص، فكل معتزلي قد أشرب منهج التجهم، وليس كل جهمي يقبل مذهب الاعتزال.
قال: الدرجة الثانية: هم تجهم الاعتزال، أو المعتزلة الجهمية.
قال: وهم الذين يقرون بأسماء الله الحسنى -هناك النفاة لا يقرون بهذا، لكن هؤلاء يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة، وكلمة (في الجملة) لها معنى، فقد قلنا بالأمس: إن مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأسماء الصفات على سبيل التفصيل والإجمال من باب أولى، فأهل السنة والجماعة إذا أرادوا إثبات الأسماء والصفات أثبتوها تفصيلاً، والذي يثبت تفصيلاً من باب أولى أنه يثبت إجمالاً، وإذا أرادوا أن ينفوا عن الله تعالى صفة النقص نفوها إجمالاً.
إذاً: نفي النقص عن الله عز وجل عند أهل السنة والجماعة يكون إجمالاً، ودليل ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
أما إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فيكون على سبيل التفصيل؛ ولذلك بينها الله تعالى إجمالاً، قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ثم أثبت الله تبارك وتعالى في كتابه وأثبت رسوله في سنته عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة)، فهذا إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته على سبيل التفصيل، خلافاً للمعتزلة الذين يثبتون الكمال إجمالاً، وينفون النقص تفصيلاً، فيقولون: ليس الله تعالى بذات ولا جسم، ولا طويل ولا قصير، ولا أبيض ولا أسود، وغير ذلك.
مع أن هذا الكلام لا يصلح أن يكون منهجاً للمخلوقين، فلو أردت أن تمدح واحداً أو ملكاً أو شريفاً أو وجيهاً، فلا يصح منك أن تقول له: لست حماراً ولا كلباً ولا خنزيراً ولا غبياً ولا كيت وكيت وإنما تأتي بإثبات المدح مباشرة، فإذا كان هذا لا يصح في حق المخلوقين فمن باب أولى أنه منكر في حق المولى عز وجل.
فهؤلاء المعتزلة الجهمية يقرون بأسماء الله الحسنى إجمالاً، لكن ينفون عنه صفاته، وهم أيضاً لا يقرون بأسماء الله كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيراً منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون، وهم الذين اعتنى العلماء بالرد عليهم.
ولذلك معظم ردود ابن بطة عليه رحمة الله في هذا الجزء الخاص(63/5)
الصفاتية
إذاً: الدرجة الأولى: النفاة الغالية، والدرجة الثانية هم المعتزلة الجهمية، أي: المعتزلة الذين أشربوا منهج الجهمية، وأصل الرد على هذه الطائفة من بين الطوائف الثلاث.
أما الدرجة الثالثة فهم الصفاتية، وهم: المثبتون المخالفون للجهمية، وكلمة (المثبتون) عند الإطلاق تعني: أنهم يثبتون الأسماء والصفات في الجملة، والنفاة: هم الذين يعطلون الأسماء والصفات كذلك في الجملة، فهؤلاء هم الصفاتية، والصفاتية تعني: أنهم يثبتون الصفات في الجملة، وهم بذلك مخالفون للجهمية وللمعتزلة الجهمية.
قال: لكن هذه الدرجة فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من الأسماء والصفات الخبرية أو غير الخبرية، ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها.
يعني: يقولون: نحن نثبت الصفات، فنقول: يد الله فوق أيديهم، لكن المراد باليد: القوة، فهم أثبتوا الصفة لكنهم أولوها، وهذا التأويل باطل.
وإذا كان بعض الشر أهون من بعض، فهل هؤلاء الصفاتية الذين يثبتون الصفات ويؤولونها على غير ظاهرها المراد منها أقرب إلى الحق أم النفاة الذين لا يثبتون أسماء ولا صفات؟ وللتقريب نقول: هل الذي يموت كافراً كفراً بواحاً لم يدخل في الإسلام قط يكون كالشيعي أو القدري يوم القيامة مع أن كليهما شر؟
الجواب
بعض الشر أهون من بعض، والذي لا يصدق كلامي هذا يقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية الفرقان بين الحق والباطل، فقد قال: لأن يموت الرجل جهمياً أو قدرياً أو شيعياً أو مرجئاً أو أشعرياً خير له من أن يأتي ربه كافراً كفراً بواحاً لم يدخل الإسلام.
هذا قول الإمام ابن تيمية شيخ الصحوة منذ زمانه، وإن شاء الله تعالى يكتب له ذلك إلى يوم القيامة.
والعجيب أن ابن تيمية رجل واحد في الأمة، وهو الذي يقود الأمة الآن إلى قيام الساعة، أو إلى وقتنا هذا على الأقل، فأي شخص من الناس إذا التزم بحث عن كلام ابن تيمية وابن القيم، وكأن الله تعالى لم يخلق علماء قبله؛ لأن العلماء قبله كانوا مصنفين ومؤصلين ومقعدين لهذه المسائل التي أخذها ابن تيمية وفهمها فهماً جيداً موافقاً لمنهج السلف، فنشرها هنا وهناك بالقول والعمل، وكان مجاهداً حقاً؛ إذ لا خلاف في شجاعته وجهاده الأعداء المبطلين في الداخل والخارج في ذلك الوقت؛ ولذلك كتب له القبول، وربما يكون سر هذا القبول الإخلاص، فكم من عالم جليل عنده من العلم ما ليس عند غيره ولم يكتب له شيء من ذلك.
إذاً: هؤلاء يثبتون الصفات لكن يؤولونها, ويحلو لنا أن نقول: إن هؤلاء من طرف خفي هم الأشاعرة، والماتريدية، فهم يثبتون الأسماء ويثبتون الصفات، لكن يقولون: ليس المراد من الصفة ظاهرها وإنما لا بد من التأويل، وابن تيمية عليه رحمة الله يقول: وهؤلاء هم أقرب الناس لأهل السنة.
ولا يعني ذلك: أنهم أهل سنة، لا والله بل هم أهل بدعة، بدليل أنهم درجة من درجات الجهمية، لكننا إذا قارناهم بالنسبة للمعتزلة الجهمية لكانوا هم أقرب الناس إلى الحق، لكن لا يعني هذا: أنهم أصابوا الحق، بل هم بعيدون عن الحق، لكنهم بالنسبة لغيرهم من أهل النفي الأصلي الكلي أو الاعتزال التجهمي هم أقرب الناس إلى الحق، ولم يصيبوا الحق بعد، فهم الصفاتية الذين يثبتون الصفات، فبلا شك أن الذي يثبت الصفة ويؤولها خير من الذي لا يثبتها، وكلاهما شر، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، لكن لا يمكن أن يستوي الخيران، فكذلك هنا: كلاهما شر لكن شتان بين المثبت والنافي، والذي نفى نفى بزعمه تنزيهاً لله عز وجل، والذي أول الصفة قال: قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، هل الله له يد؟ أستغفر الله، لا.
اليد: هي القوة؛ لأننا نثبت لله القوة، والطرف الآخر يقول: ليس الله تعالى بسميع ولا عليم ولا حي ولا قادر ولا قوي، فينفون الاسم والصفة في آن واحد، فكأنهم في نهاية الأمر يذهبون إلى أن الله عدم، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً! فالله تعالى ذات، ولا بد لكل ذات من صفات، حتى هذه الورقة التي بين يدي، إذا أردنا أن نصفها نقول: مستطيلة وبيضاء، وفيها كلام مكتوب بالأزرق، ورقة جديدة أو ورقة قديمة، فهذه كلها صفات لهذه الذات، فكل ذات لها صفات، وهذا أمر مستقر في عقول العقلاء أنه لا يمكن أن يكون هناك ذات إلا بصفات، فالعجيب أن الجهمية الغالية ينازعون في أن الله تعالى ذات، والذي يقول منهم: له ذات يقول: له ذات بلا صفات، وإذا أثبتنا الصفات فإنما نثبتها على سبيل المجاز لا الحقيقة، وهو في حقيقة الأمر إلحاد وزندقة؛ لأنه يلزمهم أن يقولوا: إن الله تعالى ليس متصفاً بصفات على الحقيقة، إذاً: هو ذات عدمية، ولا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه ذات عدمية، فلا بد أن يقولوا في نهاية قولهم: إن الله تعالى عدم، خلافاً للمغالين في الإثبات أو في التشبيه أو ف(63/6)
أصول الجهمية التي خالفوا فيها أهل الإسلام
ما هي الأصول التي خالف فيها الجهمية أهل السنة والجماعة؟ في الجملة: قولهم بخلق القرآن، وإنكارهم رؤية المولى عز وجل بالأبصار في الآخرة، وإنكارهم أن يكون لله تعالى وجه ويدان، وأنكروا شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
قد يقول قائل: لماذا ندرس الجهمية والمعتزلة والقدرية، هل ما زالوا موجودين؟
الجواب
كل الفرق الضالة موجودة في الأمة بأسماء غير الأسماء المعروفة، وستظل موجودة في الأمة، فهم يسمون في كل عصر ومصر بأسماء تختلف عن أسمائها الواردة في النصوص، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يستحلونها يسمونها بغير اسمها) يأتي الواحد منهم فيقول: الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] لم يقل: (الوسكي) ولم يقل: (الشنبانيا) ويبدأ بذكر عشرات ومئات الأسماء للخمر، ثم يقول: إن الله حرم الخمر ونحن مقرون بذلك، والذي ينكر أن الله حرم الخمر يكفر، لكنه لم يذكر (الشنبانيا) ولا (الوسكي)، ويقول: الربا حرام، لكن ليس في البنوك ربا، إنما هي فوائد، فما حرم الله في القرآن نقول بتحريمه، فالله قصد بتحريم الربا نوعاً معيناً ليس هو ما تتعاطاه البنوك اليوم؛ ولذلك البنوك حلال.
فنقول: البنوك قول المبطلين الأفاكين، حتى لا يفهم أحد أني أقول: إن فوائد البنوك حلال أبداً.
قال: وجحدوا علم الله وقدرته، قالوا: ليس بعالم ولا قادر، ونفوا عن الله تعالى الصفات التي نطق بها القرآن من السمع والبصر والحلم والرضا والغضب والعفو والمغفرة والصفح والمحاسبة والمناقشة -كل هذا نفوه عن الله عز وجل- وأثبتوا لأنفسهم من القدرة والاستطاعة والتمكن ما لم يثبتوه لله تعالى؛ وذلك لأنهم يقولون في هذا الباب بمذهب القدرية الذين يثبتون لأنفسهم القدرة على الفعل، وأن العبد مختار لفعله ولا علاقة لله تعالى بأفعاله البتة، وزعموا أنهم يقدرون على ما لا يوصف الله تعالى بالقدرة عليه، ويخلقون ما لا يخلقه الله تعالى من الأعمال والأقوال، وزعموا أنهم يفعلون ويقدرون على ما لا يفعله الله ولا يقدره، ويريدون ويشاءون ما يستحيل أن يكون من تدبير الله ومشيئته، ويزعمون أنهم يريدون لأنفسهم ما لا يريده الله، ولم يشأه لهم خالقهم، فيكون ما يريدون ولا يكون ما يريده ربهم.
عندما تكلمنا عن القدر الشرعي والقدر الكوني قلنا: إن الله تعالى أراد الخير والشر وخلقهما وأذن في وجودهما، ولا يكون في الكون إلا ما أراده الله عز وجل، لكنه أراد الحق وأراد الطاعة والخير إرادة شرعية دينية وأعان عليها، وأراد الشر إرادة كونية قدرية، بمعنى: أنها لا تكون في الكون إلا بإذن الله خلقاً وإرادة وكسباً من العبد، فالله تعالى أذن في وجود الشر؛ ولذلك هو الذي خلق إبليس وهو رأس الشر، فهو الذي أذن في خلقه ووجوده، مع أن الله تعالى يبغض إبليس ولا يحبه، وكذلك الله تعالى هو الذي خلق الزنا والسرقة وشرب الخمر، ونهى عنه، وقدره في الكون تقديراً، وأذن في وجوده خلقاً، والذي باشر هذا الشر هو هذا الإنسان؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فأثبت للعبد مشيئة وأثبت لنفسه سبحانه وتعالى مشيئة، فالعبد مختار لفعله بعد قيام الحجة عليه؛ ولذلك خلق الله تعالى الجنة والنار.
قال: وزعموا أن الجنة تفنى وتبيد ويزول نعيمها، وأن النار تزول وينقطع عذابها، هذا آخر ما زعموا من أصول مسائل الاختلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة، ولهم أقوال في غاية الغرابة.(63/7)
مغالطات الجهمية المعتزلة وبعض عقائدهم
قال ابن بطة: ومن مغالطات الجهمية المعتزلة -الدرجة الثانية- وتمويههم على الناس قولهم: إن الله تعالى منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود.
هذا كلام جميل في الجملة في الظاهر، لكن مقصودهم غير ذلك.
قال: ومقصودهم بذلك: نفي الأفعال ونفي مباينة الله تعالى للخلق، وعلوه على العرش، فإذا قالوا: إن الله منزه عن الأعراض، لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر؛ لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد.
الأعراض كالصحة والسقم والمرض وغير ذلك، فلا شك أن الله تعالى لا يفسد ولا يمرض فهو منزه عن الأعراض، فكل ما يصيبني من أعراض الحياة من غنى وفقر، وصحة وسقم، وطلوع ونزول وغير ذلك من صفات المخلوقين الله تعالى منزه عنها، أي: لا يصيبه آفات كما تصيب المخلوقين، فلا شك أن هذا كلام جميل، ولا ريب أن الله تعالى منزه عن ذلك، لكن مقصودهم بهذا القول: (إن الله منزه عن الأعراض) أنه ليس له علم؛ لأن العلم بالنسبة لي عرض، كنت جاهلاً فتعلمت، كنت عدماً فأحدثت بعد ذلك، كنت عدماً فصرت بعد العدم كائناً حياً، كنت ميتاً ثم صرت حياً.
قال: ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة، ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها أعراضاً.
إذاً: قولهم: إن الله منزه عن الأعراض أي: منزه عن صفاته التي وردت في القرآن والسنة.
ونقول لهم: كيف يثبت الله تعالى لنفسه الصفة وأنفيها أنا زاعماً التنزيه، هل أنا أعلم بالله من الله؟ إن الله تعالى أعلم بذاته من سائر المخلوقين؛ ولذلك وصف نفسه بصفات، فلا يحل لآحاد الخلق أو للخلق أجمعين أن ينفوا هذه الصفات من باب التنزيه زعماً.
قال: وكذلك إذا قالوا: (إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات).
أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك: أنه لا تحصره المخلوقات، ولا شك أن هذا الكلام في ظاهره كلام جميل، أن الله تعالى حقاً لا تحصره المخلوقات ولا تحيط به المخلوقات، هذا كلام حق، لكن قولهم: إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات أنه ليس مبايناً للخلق، ولا منفصلاً عنه، يعني: أن الله تعالى داخل في مخلوقاته، يعني: لو سألنا: أين الله؟ لبادر جل الناس بقولهم: الله تعالى في كل مكان، أليس هذا الذي حفظناه وتعلمناه من آبائنا وأجدادنا والناس في الشوارع والمساجد؟ أليس هذا الذي تعلمناه؟ أين الله؟
الجواب
في كل مكان، الجواب محفوظ وأسرع من السؤال، وهو أبطل البطلان، وأفسد الفساد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سأل جارية -بنتاً صغيرة- ترعى الأغنام: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله) جارية ترعى الأغنام تعقل عن الله عز وجل علوه واستواءه على عرشه على الحقيقة والمعنى اللائق به تعالى، جارية تفهم ما لا يفهمه معظم الأمة في هذا الزمان، ويبدو أنها لم يكن لها مجالس مع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت مجالسها مع سيدها الذي لطمها على خدها، ثم بعد ذلك أراد أن يكفر عن هذه اللطمة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لطمت جاريتي؛ لأنها فعلت كيت وكيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جارية! أين الله؟ قالت: في السماء، ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة).
فأثبت لها الإيمان لصحة اعتقادها في علو الله تعالى وفوقيته واستوائه على العرش؛ ولو سألت أحد الناس الآن: أين الله؟ لقال: في كل مكان، والذي يقول: على العرش، هذا كذاب ومفتر، أليس الذي قال: إنه على العرش هو الله سبحانه وتعالى؟ ونبيه عليه الصلاة والسلام هو الذي أثبت له العلو على العرش والفوقية؟ فهل الله تعالى كذاب ومفتر؟! وهل رسوله كذاب ومفتر؟! بل الكذاب والمفتري هو الجاهل الذي قال على الله بغير علم كذباً وزوراً وافتراءً: إن الله تعالى ليس على العرش، بل هو مع خلقه في كل مكان، حتى إنهم أثبتوا أن الله تعالى في الحمامات وفي القاذورات وفي الحش وغير ذلك من الأماكن المستقذرة.
قالوا: لا يخلو منه مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! أما أهل السنة والجماعة فيقولون: الله تعالى مستو على عرشه، مع خلقه بعلمه وسمعه وإحاطته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، أي: بمقتضى أسمائه وصفاته هو مع خلقه، فمعيته ثابتة له، معية علم وسمع وإحاطة وإرادة ومشيئة وغير ذلك، أما الله تعالى فهو مستو على العرش، مباين لخلقه، أي: الله تعالى فوق السماوات السبع، مختلف عن خلقه، ليس الله تعالى بذاته في المكان الذي فيه خلقه، وإنما الله عز وجل مستو على العرش، استواءً يليق بجلاله وعظمته.
قال: ومقصودهم بذلك: أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب هو إلى شيء، ولا ترتفع إليه الأيدي في الدعاء، ونحو ذلك من معاني الجهمية.
كل هذا كلام قالت به الجهمية المعتزلة.
قال: وإذا قالوا: إنه ليس بجسم ب(63/8)
تشعب آراء الجهمية وتعدد أقوالهم
قال ابن بطة رحمه الله: [ومع ذلك فإن الجهمية كغيرهم من الفرق ليسوا على رأي واحد، فقد تعددت أقوالهم وتشعبت آراؤهم].
دائماً المبتدع لا يمكن أن يستقر على بدعة واحدة إلى نهاية أمره؛ ولذلك يقول ابن الجوزي: وأصل البدع إما من المجوس أو من اليهود أو من النصارى، ودليل ذلك أن أهل البيت الواحد من النصارى إذا كانوا عشرة إذا اجتمعوا على مسألة فقال كل واحد منهم رأيه؛ تفرقوا على أحد عشر رأياً، وشيء غريب أن يكونوا عشرة فيخرجون بأحد عشر رأياً، فهل من الممكن أن يختلف شخص مع نفسه فيقول رأياً ثم يقول نقيض هذا الرأي في المجلس الواحد؟
الجواب
نعم.
كاليهود فقد قالوا في عبد الله بن سلام: أنت سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا فلما قال لهم: أسلمت، قالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا وحقيرنا وابن حقيرنا، هكذا قالوا بالقول وضده في مجلس واحد.
وهذا شأن أهل البطلان والزيغ والضلال، لا يثبتون على رأي، بل يختلفون مع بعضهم البعض، وهذا شأن جماعة التفكير في هذا الزمان، يكفرون لأدنى معصية، فإذا قلت لهم: هل أنا أكفر بحلقي للحيتي؟ يقولون: نعم؛ لأنها معصية، فإن قلت أنت لأحدهم: وأنت ألست تلبس ثوباً قد نسجه الكفار؟ قال: نعم.
فإن قلت: هذه معصية أم لا؟ قال: نعم.
وإن قلت له: وما حكمك إذاً؟ قال: أنا كافر، وهذا كلام لا طعم له ولا لون ولا رائحة؛ ولذلك دائماً تسيطر على أهل البدع والضلال غياهب الجهالة فيكون منطلقهم في المناظرات والمناقشات الجهل، لا يحبون العلم، بل بينهم وبين العلم عداء، ولو تعلموا حقاً لاهتدوا؛ لأن العلم أعظم عاصم من هذه الأهواء والمضلات والفتن؛ ولذلك جعله الله عز وجل فريضة، قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أنس: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)؛ لأن المسلم لا نجاة له من هذه الأهواء والفتن إلا بطلب العلم على منهج السلف.
الجهمية كذلك ليسوا على مذهب واحد، ولا على كلام واحد؛ بل تعددت أهواؤهم وآراؤهم، وقد قسمهم العلامة الملطي حسب آرائهم إلى ثمانية أصناف، إذاً هم من حيث الدرجات ثلاثة ومن حيث الأصناف ثمانية على مذهب الملطي، لكل صنف منهم عدة آراء، وليس ما ذكره الملطي هو جماع آراء الجهمية، لكن هذه أصول المخالفات؛ والعلماء دائماً عندما يردون على المبتدعة يذكرون أصل الخلاف، لكن عندما يصنفون في الفروع تجد أن لهم أقوالاً لا يمكن أن تتصور أنهم قالوها! فلو نظرت إلى كتاب أبي الحسن الأشعري (مقالات الإسلاميين)، لوجدته كتاباً رائعاً جداً جداً جداً، ويحتاج كل سطر منه أن يشرح في ورقتين أو ثلاث ورقات، وأنا أسأل الله تعالى أن يسخر لهذا الكتاب رجلاً من أهل العلم يشرحه باستفاضة، ويضبطه على منهج أهل السنة والجماعة، فيخرج في أكثر من عشرين أو ثلاثين مجلداً مع أنه مجلد واحد؛ كما أنه لا ينصح أهل العلم قط بقراءة هذا الكتاب إلا رجلاً قد تمكنت من قلبه عقيدة أهل السنة والجماعة، ففي هذا الكتاب العجب من فروع الخلاف بين أهل الأهواء وأهل السنة والجماعة.
قال: للجهمية آراء كثيرة غير ما ذكرنا، ومن أهمها: منهم صنف من المعطلة يقولون: إن الله لا شيء، وما من شيء، ولا في شيء، ولا يقع عليه صفة شيء، ولا معرفة شيء، ولا توهم شيء، ولا يعرفون الله فيما زعموا إلا بالتخمين، فوقعوا عليه اسم الألوهية، ولا يصفونه بصفة يقع عليه الألوهية.
إن هذا الكلام يحتاج إلى شرح وبسط كثير جداً، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام سمى الله شيئاً، فقد قال في دعائه: (اللهم يا أحسن الأشياء! لا تجعلنا أهون الأشياء عليك)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ربه شيئاً، لكن ليس كبقية الأشياء، وشيء صفة في الله عز وجل، وهي تأخذ حكم بقية الصفات، فنقول: إن الله شيء لكن ليس كبقية الأشياء، وإنما يقع التوحيد في مجرد الاسم، فأنا شيء والله شيء، لكن شتان ما بين المخلوق والخالق سبحانه وتعالى.
فهؤلاء المعطلة زعموا أن الله ليس بشيء، أو لا شيء ولا منه شيء، ولا يكون في شيء وغير ذلك، وهذا كلام يحتاج إلى ضبط وتفنيد.
قال: ومنهم صنف زعموا أن الله شيء وليس كالأشياء، لا يقع عليه صفة ولا معرفة ولا توهم ولا نور ولا سمع ولا بصر.
إذاً: قولهم: أولاً: أن الله تعالى شيء ليس كالأشياء يوافقون أهل السنة والجماعة في هذا، أما قولهم بعد ذلك: أنه شيء ليس كالأشياء فهذا يعني عندهم: أنه ليس نوراً ولا سميعاً ولا بصيراً فهذا كلام يحتاج كذلك إلى ضبط وتفنيد سيكون في أثناء الشرح بإذن الله تعالى.
قال: ومنهم صنف زعموا أنه ليس بين الله وبين خلقه حجاب ولا خلل، وأنه لا يتخلص من خلقه ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع فلا يبقى من خلقه شيء، وهو مع الآخر في آخر خلقه ممتزج به إلى آخر كلام كثير جداً، ولولا أن الله تعالى حكا في كتابه مقالة الكافرين ما تجرأ الواحد منا أن يتكلم هذا الكلام.
قال: ومنهم صنف أنكروا أن يكون ا(63/9)
شرح كتاب الإبانة - ما جاء من الآيات أن القرآن كلام الله غير مخلوق
لقد أثبت الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن القرآن الكريم كلام الله منه بدأ وإليه يعود، تكلم به على الحقيقة بحرف وصوت، كلاماً يليق بجلاله سبحانه، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة حتى ظهر المبتدعة القائلون بخلق القرآن من الجهمية وغيرهم، فانبرى لهم علماء السلف فدحضوا بدعتهم، وحذروا من اتباعهم والقول بقولهم؛ لأن ذلك كفر مخرج من الملة.(64/1)
بيان أن القديم والباقي ليس من أسماء الله
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
بقي في مقدمة كتاب الرد على الجهمية جزء ليس بالقليل، وهذا الجزء ما هو إلا دراسة مستفيضة أو شارحة ومبينة للنصوص التي وردت في الجزء الثاني عشر وهو هذا المجلد، ووصف للمخطوطة ومنهج التحقيق، ثم التفصيل الطويل جداً فيما يتعلق بتكفير الجهمية الذين أنكروا الأسماء والصفات، خاصة صفة الكلام لله عز وجل؛ لأن الذي ينكر صفة الكلام لله عز وجل لابد أنه سينكر بقية الأسماء والصفات، لأن أسماء الله تعالى وصفاته موجودة في كلامه، فالذي ينكر أن هذا الكلام هو كلام الرب تبارك وتعالى لزاماً عليه أن ينكر كذلك بقية الأسماء والصفات التي وردت في القرآن الكريم، فالشارح أو المحقق قد استفاض في هذا الأمر، لكن لا بأس أن نبدأ في الجزء المحقق مباشرة فإذا مر بنا شيء غامض شرحناه بإذن الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله: [الجزء الثاني عشر قال فيه الشيخ: وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم.
أخبرنا الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن عبيد الله بن نصر بن الزاغواني بمدينة السلام -التي هي بغداد- بنهر معلى في الخريم]، ونهر المعلى نسبة إلى المعلى بن طريف، وهو نهر يسير من تحت الأرض حتى يدخل قصر الخلافة المسمى بالفردوس، وكان يقال: هو جنة الموحدين لجماله وروعته، وقربه كذلك من دجلة [في الخريم] وهو المكان الذي كانوا يخزنون فيه السلاح.
[قال: أخبرنا الشيخ أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن علي بن أحمد بن البسري بباب المراتب -وهو اسم لموضع ببغداد- قال: أخبرنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة إجازة -يعني: أجازه برواية هذا الجزء ولم يسمعه منه- الحمد لله الأول القديم].
فبلا شك أن الأول من أسماء الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3].
وقال أهل السنة: أول بلا ابتداء، آخر بلا انتهاء، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء سبحانه وتعالى.
أما القديم فأنتم تعلمون أن من قواعد وأصول الأسماء والصفات أنها توقيفية، بمعنى أننا نتوقف في إثبات الاسم لله عز وجل أو في إثبات الصفة لله عز وجل إلا إذا ورد الاسم أو الصفة في الكتاب أو في السنة؛ لأن الله تعالى أعلم بذاته وأسمائه وصفاته، وأعلم الخلق بالله تعالى هم الأنبياء والمرسلون وما دون ذلك من الخلق لا يعلمون عن الأسماء والصفات شيئاً إلا ما جاء في الكتب وفي الوحي، فالقديم إذا بحثنا عنه في الكتاب والسنة لم نجد له ذكراً، حتى في كلام السلف ليس له ذكر، ولكن بعض أهل العلم استعملوا اسم القديم للدلالة على الأول، مع أن بين الأول والقديم من الفروق ما بينهما، فالأول معلوم أنه لا شيء قبله، أما القديم فقبله أقدم، ولذلك تقول: قديم وأقدم، ولكنهم لا يقصدون هذا، الذين قالوا: إن الله قديم أو موصوف بالقدم لا يقصدون أن هناك من هو أسبق من الله في القدم.
وعلى آية حال ما وسع السلف في باب الاعتقاد يسعنا، وما لم يسعهم لا يسعنا، فالأولى فيما يتعلق بالأسماء والصفات الوقوف عند الوارد في النصوص، وليس في النص إثبات أن القديم من أسماء الله تعالى، ولا من صفات الله تعالى، ولذلك نقول: (الحمد لله الأول الذي لم يزل).
قال: [الدائم الباقي].
الدائم من أسماء الله تعالى، وأما الباقي فليس من أسماء الله تعالى، وإن كان المعنى صحيحاً، لكن القضية الآن في ثبوت هذا من عدمه، كما لو أنك أخذت حديثاً موضوعاً أو ضعيفاً أو منكراً فوجدت معناه جميلاً جداً، وفي غاية الروعة والجمال، ويدعو إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، فإذا قلت لحامل الحديث هذا حديث موضوع أو مكذوب، أو حديث ضعيف لا يجوز العمل به قال لك: وما بال هذا الحديث؟ إنه حديث جميل، وألفاظه طيبة تدعو إلى مكارم الأخلاق وإلى الفضائل وغير ذلك، فليست القضية في معنى الحديث، وإنما القضية في ثبوت نسبة الحديث إلى قائله.
وكذلك إذا كان القديم معنى من المعاني اللائقة بالله عز وجل، والباقي معنى من المعاني اللائقة بالله عز وجل إلا أن القضية هي أن الأسماء توقيفية، وهذا ليس منها، فكأنك تقول أنا أعلم بالله من الله، ولذلك أنا أثبت له ما لم يثبته لنفسه، وهذا بلا شك ضلال مبين فلا نثبت إلا ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله، وهذا كلام عام يحفظه جميع أبناء الصحوة في هذا الزمان عن سلفهم، نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
فإذا كنا نحفظ هذا الكلام فعند التطبيق(64/2)
منهج أهل السنة في إثبات صفات الكمال لله ونفي النقائص عنه سبحانه
قال: [الحمد لله الأول القديم الذي لم يزل، الدائم الباقي إلى غير أجل، خلق الخلق بقدرته، حجة لنفسه، ودلالة على ربوبيته فإنه ليس كمثله شيء].
وكما قلنا من قبل: منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الكمال لله عز وجل على سبيل التفصيل لا الإجمال، أما نفي النقص عن الله تعالى فعلى سبيل الإجمال، إذا أردنا أن ننفي النقص عن الله عز وجل قلنا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإذا أردنا أن نثبت الكمال قلنا: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]؛ لأن الله تبارك وتعالى نفى وأثبت، نفى المشابهة، والمماثلة، والأنداد، والأضداد، وكل مشابهة بين الخالق والمخلوق، فقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: ليس شيء مثيلاً له ولا شبيهاً به ولا كفؤاً ولا عدلاً لله عز وجل، فكل شيء مهما عظم هو دون الله عز وجل، لا يمكن قيام المشابهة والمماثلة بينه وبين الله عز وجل.
وإذا أردنا أن نثبت الكمال أثبتناه على التفصيل، فقلنا: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي أثبتت الأسماء متعددة مسرودة تفصيلاً على الوجه اللائق بالله عز وجل من غير مشابهة سمعه لسمع المخلوقين، أو علمه بعلم المخلوقين، أو قدرته بقدرة المخلوقين، وقل في كل أسمائه وصفاته مثل ما قلنا في هذه الصفات أو الأسماء، فإثبات الكمال تفصيلاً لله، ونفي النقص إجمالاً عن الله هو منهج أهل السنة والجماعة.
ومنهج المعتزلة والجهمية عكس ذلك تماماً يثبتون الكمال إجمالاً وينفون النقص تفصيلاً، فيقولون: ليس الله تعالى بطويل ولا قصير ولا عريض ولا نحيف ولا مصمت ولا مجوف وغير ذلك من أقوالهم الكفرية تعالى الله تعالى عن قولهم علواً كبيراً، وهذا لا يصلح أن يكون أسلوب مدح لآحاد المخلوقين.
أي: نفي النقص تفصيلاً عن المخلوقين غير مقبول، لو دخلت على عظيم من عظماء الدنيا وقلت له: أنت لست بالطويل ولا بالقصير ولا بالمصمت ولا المجوف ولا أنت كلب ولا حمار ولا خنزير، ولا أنت غبي ولا أحمق، لابد أنه سيقوم عليك؛ لأنه لا يقبل هذا منك، إنما يقبل منك المدح ابتداءً، إنما المدح عن طريق نفي النقص فلا شك أن هذا أسلوب غير مقبول، فما بالك بالله عز وجل ولله المثل الأعلى؟(64/3)
إثبات القدرة لله تعالى
قال: [خلق الخلق بقدرته].
فأثبت لنفسه القدرة وهو الذي خلق الخلق، وما ادعى أحد قط أنه خلق نفسه، ولا يقبل من أحد قط أن يزعم أنه خلق نفسه أو خلق شيئاً من الأشياء؛ لأن جميع الخلق متفقون على أن الخالق الواحد الأحد هو الله عز وجل، حتى المشركين قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كانوا متفقين على أن الله هو الخالق الذي خلق الخلق أجمعين، وهو رب العالمين، كانوا يعتقدون ذلك، ولكنهم كانوا قد أشركوا في عبادة الله عز وجل فعبدوا المخلوقين من دون الله زعماً منهم أنها توصلهم وتبلغهم إلى الله زلفى، مع علمهم أن الله خلق الخلق أجمعين، فالله تعالى هو الذي خلق الخلق بقدرته.
قال: [حجة لنفسه].
وجعل ذلك حجة لنفسه أي: [ودلالة على ربوبيته].
أي: ليدل العالمين على أنه رب كل شيء ومليكه [فإنه ليس كمثله شيء] سبحانه وتعالى.
قال: [تفرد بالإنشاء]، والإنشاء: هو الابتداء، أي ليس أحد يزعم أنه خلق آدم عليه السلام، باعتبار أن آدم أول البشر، ولم يزعم أحد أنه خلق العرش، أو خلق الكرسي، أو خلق السماوات، أو خلق الأرض أو الجبال أو الأنهار أو تلك الأشياء المخلوقة العظيمة التي كانت في مبتدئ خلق هذا الكون، فالله تبارك وتعالى هو الذي أنشأها وهو الذي أبدعها على غير مثال سابق، فهو الذي أنشأ الجبال قبل أن تكون الجبال، وهو الذي خلق الأرض قبل أن تكون، وخلق آدم قبل أن يكون هناك إنسان على وجه الأرض، فالله تعالى هو الذي أنشاء المخلوقات ولم يكن هناك مخلوقات.
قال: [تفرد بالإنشاء، وجل عن شبه الأشياء]، أي: الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق جميعاً خلقهم على صورة فيها شيء من العجز والنقص الذي يليق بطبائع المخلوقات، ففي كل خلق عجز ونقص يليق به كمخلوق، وتنزه الله تبارك وتعالى عن كل نقص؛ لأنه الموصوف بالكمال والجلال سبحانه وتعال.
فلو نظرنا إلى طبيعة خلق النساء فربما وجدت المرأة أجمل النساء، واشتهاها القاصي والداني ولكن هذه المرأة لا تخلو من نقص أخبر عنه الوحي: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين مثلكن، قالت امرأة جزلة)، وهي أم عطية الأنصارية على أرجح الأقوال: (يا رسول الله! ولم؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير).
يعني: المرأة تغلب الرجل بنقصان عقلها، ولابد في كل امرأة من عوج، ومن عوجها: أنها تحب أن تخرج من البيت بغير إذن، أو امرأة لا ترتب البيت ولا تقوم على شئون الأولاد، وامرأة أخرى تريد الخروج إلى العلم مع غناها واستغنائها عن ذلك، فكل امرأة عندها شيء من العوج ولابد، وهذا قد أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام، والمطلوب تقويم هذا العوج، أما من رام إزاحة وإزالة هذا العوج من أصله فإنما يصادم النصوص ويصادم الفطرة، فالعوج لابد أن يكون موجوداً، لكن المطلوب كفكفته وتخفيف حدته أو تقويمه، أما إزالته بالكلية فمحال وهيهات هيهات؛ لأنك تصادم الوحي وتصادم الفطرة التي فطر الله تعالى عليها ذلك الجنس من الخلق، وأحياناً عوج المرأة في غالب أحوالها يعتبر في حقها كمال.
والله تبارك وتعالى لما خلق المرأة ناقصة عقل ودين أثبت أن هذا نقصان يليق بها، وأنها صالحة على هذا النحو للمهمة التي خلقها الله لأجلها، فهذه المرأة لا يمكن أبداً أن تصلح لتربية الأولاد إلا على هذا النحو، ولذلك الرجل أكمل منها عقلاً ولو كلف بتربية طفل فلا يمكث معه إلا ثلاث ساعات ويقتله ويستريح منه، لأنه لا يقوى عليه، فالطبيعة التي خلق عليها تتناسب مع شيء آخر لا تتناسب مع تربية الأولاد، ولذلك المرأة إذا خرجت من بيتها ترجلت واكتسبت صفة الرجولة، وتخشنت في أفعالها وأقوالها، لمخالطتها للرجال؛ لأنها خرجت عن حد الفطرة.
والرجل إذا كان يعمل في أي مؤسسة أو شركة في مكتب وفيه نسوة فبعد مضي فترة من الزمان تجده قد اكتسب صفات الأنوثة في كلامه وأفعاله وحركاته وهكذا، حتى إنه ليقلد النساء اللاتي معه في المكتب فيأتي في الصباح وقد أتى من الأسواق بالخضار وغير ذلك ووضعه تحت المكتب كما تفعل زميلاته من النساء، يقلدهن في كل شيء ويتنازل عن دينه حتى يذهب عقله ربما بالكلية، فهن لا زلن يحتفظن بنص العقل أو بربعه، وهو قد فقد عقله بالكلية؛ لأنه خرج عن حد الفطرة التي فطره الله عز وجل عليها.
ولو أنك نظرت إلى المرأة الأم وهي تدلل وليدها وتنظر إليه مع الأقوال والأفعال والحركات التي تصدر منها فلابد أنك ستقول: الحمد لله الذي كملني وخلقني رجلاً؛ لأنه يصدر منها أشياء يستحي المرء أن يقلدها.
ودور الأم في تربية الأطفال إلى سن معين ثم تأتي مهمة الأب بعد ذلك، ولذلك الأم لا تصلح مع الصبية، تربية الأم للصبية تربية عاجزة وقاصرة جداً فلابد أن يتولى أمره بعد السابعة والثامنة الأب وإلا هلك الولد وضاع وتاه؛ لأن الزمام من الأم يفلت في هذا السن فإذا لم يكن الأب هو الحازم والرقيب على تصرفات أولاده ضاع الولد في هذا السن الصغير.
قال: [خلق الخلق بقدرته، حجة لنفسه، ودلالة على ربوبيته، فإنه ليس كمثله شيء، تفرد بالإنشاء، وجل عن شبه الأشياء سبح(64/4)
دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى توحيد الله
قال: [وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، شهادة من أخلص لربه، وخلع الأنداد من دونه].
الند: هو الشريك والعدل والمثيل، فإن الله تعالى لا ند له، ولا مثيل له، ولا شريك له.
قال: [وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله على فترة من الرسل].
الفترة: هي انقطاع الوحي بين الرسولين، وكان بين عيسى عليه السلام وبين نبينا عليه الصلاة والسلام حوالي ستة قرون، ولا شك أن هذا زمان طويل كفيل بأن ينسى الناس اتباع عيسى بن مريم عليه السلام، ولذلك اختلط الحابل بالنابل في هذه الفترة، وسمي بالجاهلية لاندراس وغياب العدل بين الناس، وكان القوي يأكل الضعيف، والشريف لا يقام عليه الحد، والضعيف يقام عليه الحد، وانتشرت بدع الجاهلية وشركياتها، فلما كان الأمر كذلك أرسل الله تبارك وتعالى على حين فترة من الرسل -أي: انقطاع الوحي- رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال: [ودروس من الوحي في أعقاب المرسلين، وحجة على العالمين، والخلق في جاهلية جهلاء].
أي: أرسل الله رسوله حجة على العالمين، وكانوا في جاهلية جهلاء.
قال: [صم بكم عن الهدى].
أي: لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يفهمونه [متمسكون بعروة الضلالة والردى]، والعروة: مقبض الدلو، وهو الذي يمسك ويتحكم بالدلو من خلاله، فهم يتمسكون بالضلالة في الجاهلية تمسكهم بهذا الدلو من عروته.
قال: [متمسكون بعروة الضلالة والردى -أي: الهلاك- فدعاهم -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- إلى توحيد الله عز وجل].
تصوروا أنهم متمسكون بعروة الضلالة فيخرج من بينهم رجل يعرفونه ويعرفون أمانته وصدقه يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، ونبذ جميع هؤلاء الآلهة المزيفة والأنداد الباطلة! بلا شك أنها دعوة في قمة الغرابة، ولذلك لما كان منه عليه الصلاة والسلام ما كان من دعوتهم إلى عبادة الله وحده ونبذ جميع هذه الأنداد والآلهة المزيفة الباطلة، قالوا: عجباً لك أجعلت الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب.
يعني: هذه الدعوة منك يا محمد غير مقبولة بالمرة، أتجعل جميع هذه الآلهة إلهاً واحداً؟! إذا كان لكل واحد أربعة آلهة، واحد في الحرم وثلاثة في البيت، وإذا أراد أن يسافر أخذ أحد الثلاثة معه حتى لا يحرم من العبادة والشرك في سفره حتى يرجع إلى بلده مرة أخرى، أتجعل كل هذا باطلاً ثم تدعونا إلى إله واحد؟! نحن نؤمن بهذا الإله الواحد ونحن نعبده لكن عن طريق هذه الآلهة؛ لأنه لا يصح لنا أن نعبد الله مباشرة، فإنما نتخذ الأنداد والشركاء؛ ليقربونا إلى الله تعالى، ونحن نوقن أن الله تعالى هو الذي خلقنا ورزقنا وسوانا وغير ذلك من سائر صفات الربوبية لله عز وجل!! والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أتاهم بتوحيد الله عز وجل وحده، فهو الذي يستحق العبادة وحده سبحانه، فهؤلاء الآلهة المزعومة يقطعون الصلة بينكم وبين الإله الواحد، فدعاهم إلى توحيد الله عز وجل والإقرار له بالربوبية -وهم كانوا يقرون بالربوبية- واتباع أمره، وإفراده بالعبادة، فأبوا ذلك فصبر منهم على الأذى.
بلا شك أن هذه الدعوة لم تلق قبولاً مطلقاً، بل ولقي صاحبها عليه الصلاة والسلام منتهى الأذى من السب والضرب والشتم والجنون والسحر وغير ذلك من سائر ما رماه به المشركون، حتى ظهرت حجة الله على خلقه، وهذه هي النتيجة الحتمية! من صبر على الحق الذي معه ظفر بالنتيجة المرجوة، ولذلك أقسم الله تبارك وتعالى بالعديد من مخلوقاته، فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من الوحي إلا هذه السورة لكفى.
والله تبارك وتعالى بين فيها نوعاً من القسم، وأن لله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، فأقسم بالعصر على اختلاف بين أهل العلم فيه، فقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] أي: كل بني الإنسان في خسارة وهوان في الدنيا والآخرة، فاستثنى الله تبارك وتعالى من عموم الهلاك والخسارة أصنافاً أو صنفاً قد اتصف بصفات أربع هي: الإيمان، العمل الصالح، التواصي بالحق، التواصي بالصبر، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] لم يقل: آمنوا أو عملوا الصالحات؛ لأن الإيمان بغير عمل لا ينفع، والعمل بغير إيمان لا ينفع، فعطف هذا على ذاك لتلازمهما.
ولا شك أن الإيمان حق، والعمل الصالح حق، فلا بد من التواصي بالتمسك بهذا الحق، فأعقب الإيمان والعمل الصالح بتواصي أهل الحق فيما بينهم بهذا الإيمان وبهذا العمل، قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]، أي: الصبر على طاعة الله، وعلى التمسك بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بهذا فيما بينهم! الصبر على الأذى في هذا الحق وفي هذا الإيمان! الصبر على الأذى والتمسك بالدين! الصبر على الدعوة إلى الل(64/5)
نصيحة للمسلمين بالتمسك بالكتاب والسنة
قال: [ثم على إثر ذلك فإني أجعل أمام القول إيعاز النصيحة إلى إخواني المسلمين].
يعني: أنه أراد أن ينصح المسلمين قبل الدخول والشروع في المراد والمقصود.
قال: [فإني أجعل أمام القول -يعني: في مقدمة القول- إيعاز النصيحة -أي: تقديم النصيحة- لإخواني المسلمين: بأن يتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين] هذه النصيحة من أغلى ما نصح به ناصح منصوحاً، فأغلى نصيحة يمكن أن يقدمها الناصح للمنصوح أن ينصحه بالتمسك بالكتاب والسنة، ومنهج سلف الأمة في فهم الكتاب والسنة، أعز ما يملك المرء لأخيه من نصح أن ينصحه بهذا، وبهذا بيان أن المنهج الحق الذي يتمسك به المسلم هو أن يتمسك بالكتاب والسنة على منهاج سلف الأمة؛ لأن الكل يزعم أنه على الكتاب والسنة، وإن أتيت بأفجر فاجر على وجه الأرض وسألته: ما منهجك؟ لقال: الكتاب والسنة.
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا كل يدعي أنه يحب ليلى، ولاشك أنها تحب واحداً، ويقولون: ليست العبرة أنك تحب الله، وإنما العبرة أن يحبك الله عز وجل؛ لأن هذا هو الحب الذي ينفعك، وإن الله تعالى لا يحب الظالمين ولا المفسدين، ولا الكافرين وإنما يحب الصالحين، الصابرين، المؤمنين، الصائمين وغير ذلك من سائر صفات الطائعين لله عز وجل، فالعبرة أن يحبك الله عز وجل، ولا يحبك الله إلا إذا كنت عاملاً بالكتاب والسنة على منهاج سلف الأمة.
ولذلك لو أتيت برجل صاحب بدعة، وتصور لو أنك أتيت بجهمي وقلت له: ما هي مصادرك فيما تقول؟ سيقول: الكتاب والسنة.
ولو أتيت بجهمي أو معتزلي أو أشعري أو خارجي أو حتى أتيت بـ خميني إيران ما منهجك؟ يقول: الكتاب والسنة.
لكن العبرة ليس بالكتاب والسنة فحسب، بل العبرة وبيت والقصيد أن يفهم الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، ولذلك كثير من الناس يأتي بآية من كتاب الله ويفهمها على غير مراد الله، أو حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويفهمه على غير مراد النبي ثم هو في نهاية الأمر يزعم أنه على الكتاب والسنة.
نعم.
أنت على الكتاب والسنة لكن بفهم الخلف لا بفهم السلف، وما أظن أن واحداً من المبتدعة أو الضلال يزعم أنه لا علاقة له بالكتاب والسنة، وإنما الكل يدعي وصلاً بالكتاب والسنة، وأنه يأخذ منهما غضاً طرياً، وليس الأمر كذلك إلا أن يكون فهمه للكتاب والسنة على منهاج الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ولذلك يقولون: الدعوة السلفية امتداداً لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وسميت سلفية؛ لأن مناط البحث فيها ومناط الأخذ عنها إنما هو عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن التابعين لهم بإحسان، وعن الأئمة المتبوعين، فالسلفيون لا يفهمون الكتاب من عند أنفسهم، ومن فهم منهم آية من عند نفسه ولم يرجع فيها إلى فهم السلف لم يكن متبعاً لمنهج السلف في هذه الآية، فلابد من الرجوع في كل آية من كتاب الله، وفي كل حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لفهم علماء الأمة وسلف الأمة لهذا الكتاب ولهذه السنة، وما دون ذلك خرط القتاد، لا يصح منك أبداً ولا يقبل منك حتى يستقيم فهمك للكتاب والسنة كما استقام فهم سلف الأمة للكتاب والسنة.
قال: [ثم على إثر ذلك فإني أجعل أمام القول إيعاز النصيحة إلى إخواني المسلمين: بأن يتمسكوا بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين، الذين شرح الله بالهدى صدورهم، وأنطق بالحكمة ألسنتهم، وضرب عليهم سرادق عصمته].
السرادق: هو الذي يحيط بالشيء، وسرادق العصمة بالنسبة للأنبياء معلوم وهو العصمة في تلقي الوحي، وفي إبلاغ الوحي، والعصمة من الكبائر، أما العصمة لمن بعدهم فهي العصمة من البدع، والعصمة لعلماء الأمة من السلف، أن الله عصمهم من الوقوع في البدع، أما الكبائر فليسوا معصومين منها، بل تقع منهم الكبيرة كما تقع ممن هو دونهم.
قال: [وأعاذهم من كيد إبليس وفتنته، وجعلهم رحمة وبركة على من اتبعهم، وأنساً وحياة لمن سلك طريقهم، وحجة وعمى على من خالفهم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]].
وهذه الآية تدعو إلى التمسك بالمنهج السلفي؛ فهي من أعظم قوانين القرآن للسلفيين، والمشاقة: هي البعد والمحادة.
ومعنى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:115]، أي: تبين له الوحي والعلم والطريق المستقيم: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] هو سبيل الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعقوبة: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] أي: نمهد له السبيل للوقوع في الفتن والبدع؛ لأنه شاقق الرسول واتبع غير سب(64/6)
التحذير من مقالة جهم بن صفوان
قال: [وأحذرهم مقالة جهم بن صفوان وشيعته].
ولا تزال النصيحة دائمة مستمرة، فهو يقول: وأحذر إخواني المسلمين أن يقعوا في مقالة الجهم بن صفوان وشيعته [الذين أزاغ الله قلوبهم، وحجب عن سبل الهدى أبصارهم، حتى افتروا على الله عز وجل بما تقشعر منه الجلود، وأورث القائلين به نار الخلود]، أي: هم كافرون خارجون من الملة، مخلدون في نار جهنم أبد الآبدين، وسيأتي معنا باب إثبات كفر الجهمية، وأن القائل من علماء الأمة بكفرهم كفراً مخرجاً عن الملة أكثر من ستمائة عالم من علماء الأمة.
قال: [فزعموا أن القرآن مخلوق]، وهذا أول باطل خرجوا به [والقرآن من علم الله تعالى، وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى]، يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى خلق هذا الكلام فهذا يعني أنه لم يكن موجوداً فأوجده الله، كان عدماً فأحدثه الله، فهو محدث في ظن الجهمية والمعتزلة، مخلوق أي: حادث، ومعنى حادث أنه لم يكن موجوداً من قبل، فالقرآن في ظن الجهمية والمعتزلة وأهل البدع لم يكن موجوداً فوجد بعد ذلك، وهذا القرآن الذي هو كلام الله فيه إثبات الأسماء والصفات، وهذا يعني أن ذات الله تعالى ذاتاً بلا أسماء ولا صفات، ثم خلق الله تعالى الأسماء والصفات؛ لأن القرآن إذا كان مخلوقاً وهو الذي حوى الأسماء والصفات وكان حادثاً ومخلوقاً فإن كل ما فيه مخلوق، والذي فيه هو الأسماء والصفات.
إذاً: كلها مخلوقة لله، والله تعالى لم يكن مسمى بأسماء ولا متصفاً بصفات، فخلق الأسماء والصفات بعد ذلك، وهذا من أخطر الباطل، وأكفر الكفر.
قال: [فزعموا أن القرآن مخلوق، والقرآن من علم الله تعالى وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى، فمن زعم أن القرن مخلوق فقد زعم أن الله كان ولا علم]؛ لأن الله تعالى أثبت أنه علام الغيوب، وأثبت أنه عليم بذات الصدور، عليم بكل شيء: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]، وأثبت أنه عالم غيب السماوات والأرض، فأثبت الله تعالى العلم في القرآن، فإذا كان هذا القرآن مخلوقاً، فالله تعالى لم يكن عليماً فصار عليماً، لم يكن سميعاً فصار سميعاً، لم يكن قديراً فصار قديراً، لم يكن حليماً ولا غفوراً، وغير ذلك من سائر أسمائه وصفاته، لأنها في ظن هؤلاء وزعمهم أنها مخلوقة، ومعنى مخلوقة أنه لم يكن مسمى ولا متصفاً بهذا ولا بذاك.
قال [: ومن زعم أن أسماء الله وصفاته مخلوقة فقد زعم أن الله مخلوق محدث]، أي: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله لم يكن قد تسمى بأسماء ولا اتصف بصفات، وكل هذا حادث، ولا يتصور أن ذاتاً بغير صفات ولا أسماء، وبالتالي فمن زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله تعالى مخلوق.
قال: [وأنه لم يكن ثم كان -تعالى الله عما تقول الجهمية الملحدة علواً كبيراً- وكلما تقوله وتنتحله، فقد أكذبهم الله تعالى في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي أقوال أصحابه، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين؛ لأن الله عز وجل لم يزل عليماً سميعاً بصيراً متكلماً، تاماً بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، قبل كون الكون، وقبل خلق الأشياء، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضال الجحود الجهمي المكذب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وسنذكر من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين -أي: وهذه هي المصادر الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع- ما دل على كفر الجهمي الخبيث وكذبه، ما إذا سمعه المؤمن العاقل العالم ازداد به بصيرة وقوة وهداية، وإذا سمعه من قد داخله بعض الزيغ والريب وكان لله فيه حاجة وأحب خلاصه وهدايته نجاه ووقاه، وإن كان ممن قد كتبت عليه الشقوة زاده ذلك عتواً وكفراً وطغياناً.
ونستوفق الله لصواب القول وصالح العمل].
أي: نطلبه التوفيق في ذلك كله.
ثم يبدأ الباب الأول من القرآن الكريم في سوق الآيات التي تثبت أن الله تعالى لا يزال متصفاً بالكلام، يتكلم بأي كلام شاء، في أي وقت شاء، وفي أي زمان شاء سبحانه وتعالى، فالله تبارك وتعالى تكلم بما شاء في أي مكان شاء وفي أي وقت شاء.
أما الواقفة، فهم الذين قالوا: لا نقول: القرآن مخلوق ولا غير مخلوق.
أي: نحن نشك في أنه مخلوق أو غير مخلوق.
قال الإمام أحمد: وهؤلاء أكفر وأشر ممن قالوا بأنه مخلوق.
ثم يثلث الإمام باللفظية: وهم الذين قالوا ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
إذاً: هنا ثلاثة أبواب: الباب الأول: إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإثبات ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
الباب الثاني: الرد على الواقفة وتكفيرهم.
الباب الثالث: الرد على اللفظية وتكفيرهم كذلك، وهم الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
وهنا مسألة وهي: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال أنه مخلوق فهو كافر، إذا كان عالماً بما يقول فيكفر ابتداءً، وإذا كان جاهلاً يُعلَّم؛ فإن عُلِّم استتيب فإن تاب وإلا قتل، وسنذكر خطورة القول، ومعنى القول بأن القرآن مخلوق فيما سيأتي.(64/7)
باب ذكر ما نطق به نص التنزيل من القرآن بأنه كلام الله
قال المصنف رحمه الله في الباب الأول: [باب ذكر ما نطق به نص التنزيل من القرآن بأنه كلام الله، وأن الله عالم متكلم: قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]]، أي: أن الله متصف بالكلام، فالكلام صفة من صفات الله عز وجل.
[وقال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75].
وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف:158].
وقال عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]]، والمداد: الحبر الذي يكتب به، فلو أن البحر ومثله معه ومثله معه ومثله معه وسبعة أمثاله مداد، وهذه الأشجار التي خلقها الله عز وجل أقلام، فأخذنا تلك الأقلام ووضعناها في هذه المحابر التي هي البحار السبعة، وكتبنا كلام الله عز وجل ما نفدت كلمات الله، تنفد الأقلام وتنفد البحار ولا تنتهي كلمات الله عز وجل.
إذاً: الله تعالى متكلم عليم قدير سميع بصير سبحانه وتعالى، والذي يظن أن الله تبارك وتعالى تكلم بهذا القرآن فحسب فقد أخطأ؛ لأن هذا القرآن إنما هو جزء وشيء من علم الله عز وجل، هذا القرآن الذي بين أيدينا الذي هو كلام الله إنما هو علم من علم الله تعالى وليس هو كل علم الله تعالى، فعلم الله تعالى لا يمكن الإحاطة به، ولذلك قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ} [لقمان:27].
[وقال تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144].
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15].
وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]]، وفي الدرس الماضي قلت لكم أن الجهمية حرفوا هذه الآية، فقالوا: وكلم اللهَ موسى تكليماً، ولم يقولوا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ} [النساء:164] فجعلوا المتكلم هو موسى، حتى لا يقولون أن الله تعالى يتكلم، فجعلوا الله تعالى في هذه الآية المخاطب لا المخاطب، فإذا كان الأمر كذلك فماذا يقولون في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟ لا يستطيع أحد أن يحرف هذه الآية، إلا أن يفعلوا كما فعل الجهم، حيث أتى على هذه الآية فمحاها من مصحفه، فلما قيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: إني أكرهها؛ لأنه لا يعرف أن محرف، فلما اصطدم بهذه الآية ولم يكن بد من محوها محاها لأنها حجة عليه، ولا يمكن تحريفها.
[قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]]، والحديث هو الكلام، ولم يقل: أصدق من الله خلقاً وإنما قال حديثاً، وهذا يدل على أن حديث الله أو كلام الله ليس مخلوقاً.
[وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]]، ولم يقل: وإذ خلق ربك؛ لأن الجهمية يقولون في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة:30] أن الله تعالى خلق كلاماً في السماء فسمعته الملائكة، وليس المتكلم حقيقة هو الله، وإنما الله تعالى خلق الكلام في الأشجار أو في البحار أو في الجبال، أو في الهواء بين السماء والأرض فتكلم هذا المخلوق بكلام الله فسمعته الملائكة أو سمعه موسى أو غير ذلك ممن كلمهم الله عز وجل.
[وقال عز وجل: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115]]، الشاهد هنا: (قَالَ اللَّهُ) إذاً: الله تعالى يقول.
[وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116]]، إذاً: الله تعالى كلم عيسى.
[وقال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]]، وهو يوم القيامة.
[وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35].
وقال تعالى فيما أعلمناه في كتابه أن القرآن من علمه -وليس هو كل علم الله تعالى- فقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا} [البقرة:255].
وقال: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ(64/8)
الأسئلة(64/9)
حكم إطلاق لفظ القديم على الله عز وجل
السؤال
هل يجوز إطلاق لفظ القديم على الله عز وجل؟
الجواب
اسم القديم ليس من أسماء الله عز وجل، قال بعض أهل السنة: يجوز إطلاق لفظ القدم على الله عز وجل؛ لأنه قد ثبت في النص، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل المسجد قال: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)، هذا الحديث أخرجه أبو داود في سننه بسند صحيح ولكن المقصود بالقدم هنا سلطان الله، فالموصوف بالقدم هو السلطان وليس ذات الله عز وجل، فهذا وصف للسلطان، وليس وصفاً لله عز وجل.(64/10)
حكم حديث الترمذي في سرد أسماء الله الحسنى
السؤال
الأخ يسأل عن الحديث الذي أخرجه الترمذي وفيه إثبات أسماء الله تعالى الحسنى؟
الجواب
هو حديث ضعيف، لأنه من زيادات بقية، وبقية إذا تفرد فهو ضعيف، وللأسف الشديد أنه مشهور جداً، وكثيراً ما نجد حتى الإخوة من أهل السنة يعلقون الورقة المكتوب فيها أسماء الله عز وجل في برواز فاخر في بيوتهم أو في محلاتهم أو غير ذلك، في حين أن هذه الأسماء فيها أسماء ليست من أسماء الله عز وجل، فحديث الترمذي الذي سرد تسعة وتسعين اسماً فيها أربعة أسماء ليست من أسماء الله عز وجل، وهي: الباقي، والستار، والمنعم، والمنتقم.
وباب الإخبار باب عظيم جداً، وباب واسع وطويل، ولا بأس به، إنما باب الإثبات يحتاج إلى توقف ودليل، فإذا قلت إن الله هو المنتقم فهذا إثبات لاسم من أسمائه، ولم يذكر الله تعالى في الكتاب أنه منتقم، ولكنه أخبر عن نفسه أنه ينتقم، ولا يذكر الله الانتقام إلا في مقابلة إجرام كما قال تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، ولذلك لم يجوز أهل العلم إطلاق اسم المنتقم على الله عز وجل مطلقاً؛ لأن الله تعالى لم يتسمى بهذا ولم يسمه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما ذكرك له ذلك إلا في مقابلة إجرام المجرمين، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]، فلا يسمى الله تعالى بالكائد، ولكن الله تعالى ذكر أنه يكيد لمن كاد، وهذا إثبات لعظمة الله عز وجل، وهو في هذا السياق صفة كمال، وكذلك الانتقام من المجرم صفة كمال لله.
تصور أن الله تعالى لا ينتقم من المجرمين فهذا ليس عدلاً! لما تقابل شخصاً مجرماً، وأنت تعتقد أن الله تعالى لا ينتقم من هذا المجرم ستتحسر، لكن لو أن عندك يقين أن الله سينتقم من هذا المجرم إن لم يتب وأنه لن يفلت من قبضة الله عز وجل ومن عذابه ومن سطوته وجبروته سبحانه وتعالى، فأنت ترتاح جداً أن الله تعالى عنده من العذاب ما ليس عندك، وعنده من الانتقام ما ليس عندك، فهذا يتناسب مع عظمته وكماله سبحانه وتعالى.
وكما قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فلا يسمى الله تعالى بالماكر ابتداءً، إنما يوصف بالمكر في مقابلة مكر الماكرين.
يعني: مهما تمكرون فإن الله تعالى أشد مكراً منكم، فأين المفر من الله؟ فهذه صفة كمال لله، لا يمكن أن يشتق من هذه الأخبار أسماء، ولكنها أخبار، أو تسمى صفات المعاني، وبابها واسع جداً.
والله تعالى يقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] فلو قلنا: إن الله تعالى من أسمائه المنعم، لكان لزاماً أن نقول أن من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً المنعم؛ لأن الآية تقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، فعطف إنعام الرسول على إنعام الله، فحينئذ ليس من أسماء الله المنعم، ولكن الله تبارك وتعالى أخبر عن نفسه أنه أنعم على عباده، فهذا خبر وليس صفة ولا اسماً.
ولذلك اتفقت كلمة أهل السنة أن الاسم المجرد إذا كان ظاهره النقص فلا ينسب لله عز وجل لوحده وإنما ينسب في المقابل كما تقول: هو النافع الضار، فلا تقل: هو الضار فقط؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالضار ابتداءً، وإنما يوصف بالنفع والضر، فهو الذي يملك النفع والضر في آن واحد، فإذا ذكرت هذا، فاذكر الأول مع الثاني حتى تثبت أن النفع والضر بيد الله، فالصفات التي ظاهرها السلب والنقص لله وإن كانت ثابتة لا تذكرها إلا مع ما يقابلها.(64/11)
حكم وصف الله تعالى بالبقاء والقدم ومخالفة الحوادث
السؤال
كثير من الإخوة يسأل: هل الله تعالى موصوف بالقدم والبقاء، والمخالفة للحوادث وغير ذلك من سائر هذه التصانيف التي صنفها الأشاعرة؟ الجوابك هذا كلام الأشاعرة وليس كلام أهل السنة، ومعاني هذه الأوصاف ثابتة لله عز وجل.
والأشعري لما يبحث في الكلام لكي يثبت وجود الله عز وجل يلف الكلام فيقول: بما أن هذا الكون مخلوق لله عز وجل، وأن الله تعالى هو الذي خلقه ولم يدع أحد أنه خلق هذا الكون، إذاً: الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون، وما دام الله تعالى خلق هذا الكون فإن الله تعالى هو الذي خلق هذا الكون، وكلام ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، ولما تأتي إلى كلام السلف تجده كلاماً جميلاً مرتباً حلواً ومقنعاً موافقاً للعقل، وإن لم يوافق العقل فاعلم أن العقل هو القاصر، وتنتهي القضية هكذا.
فالله تعالى أنزل شرعه ليتفق مع العقل والفطرة وإذا اصطدمت معك آية في كتاب الله أو حديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام فاتهم نفسك فوراً، إما أن هذا النص لم يثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أو أن العقل قاصر عن إدراك حقيقة هذا النص؛ لأنه لا يتصور إنسان عاقل يحترم عقله يقول: إن الله تعالى أنزل كلاماً يصادم به الفطرة ويصادم به العقل الصحيح، ولذلك صنف ابن تيمية كتاباً جليلاً عظيماً من أعظم ما ألف وهو: (درأ تعارض العقل والنقل).
يعني: استبعاد أي تعارض ينشأ بين النص الصريح والعقل الصحيح، مستحيل أن يكون بينهما تعارض، إنما التعارض ينشأ إذا لم يكن النص ثابتاً فحينئذ يصدم بالعقل، لأنه ليس من مشكاة النبوة، وهذا لا يتهم به الشرع ولا الوحي؛ لأنه ليس من الوحي، فكيف ننسبه إلى الشرع ابتداءً، أو أنه صحيح لكن العقل عجز عن إدراك معناه، ولا يمكن أن تعجز جميع العقول، فالذي عجزت أنت عنه أفهمه أنا، والذي عجزت عنه تفهمه أنت، وهكذا الناس في العلم يكمل بعضهم بعضاً.(64/12)
أحسن نسخة لكتاب فتح الباري
السؤال
ما هي أحسن نسخة أو طبعة لكتاب فتح الباري؟
الجواب
أحسن نسخة لفتح الباري هي نسخة المطبعة السلفية، والنسخة السلفية مشهورة بذلك، وأحسن نسخة لكتاب صحيح مسلم هي نسخة قرطبة، وأنا لست بذلك تاجراً بل ناصح فقط، والريان هي نسخة سلفية أيضاً، والنسخة السلفية هي نسخة الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله، كان رجلاً من علماء السلف، والمكتبة السلفية في المنيل، لكن للأسف الشديد على عادة الناشرين السرقة إلا من رحم الله، فهناك ألف مكتبة سرقت النسخة السلفية الأصلية وصورتها، فإذا كانت هذه النسخة مصورة تباع في المكتبة هذه أو في تلك المهم أنها تكون موافقة لأصل الطبعة السلفية، إنما الذين أخذوا الطبعة السلفية وأحبوا أن يلفوا حولها فصفوها من جديد فقد وقعوا في أخطاء لا نهاية لها فلا تخلو صفحة من خطأ، وأنا لا أنصح الإخوة بشراء النسخة السلفية؛ إلا لكون نسخة المطبعة السلفية هي الأصل، وقد اعتنوا بها عناية فائقة، فيبيعونها بحوالي أربعمائة جنيه، وهي تستحق أكثر من ذلك، لكن المصورة تباع بمائة جنيه.(64/13)
حكم مقاطعة منتجات اليهود والنصارى
السؤال
أحد الشيوخ يقول: لماذا نقوم بمقاطعة بضاعة اليهود والنصارى والرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك مع الفرس والروم أثناء محاربتهم؟ فكيف نرد على مثل تلك الشبهات؟
الجواب
هذه لا يمكن أن تكون شبهة، فالنبي عليه الصلاة والسلام حاصر يهود بني النضير، أليست هذه من باب المقاطعة الاقتصادية؟ هل كان يمدهم النبي عليه الصلاة والسلام بطعام وشراب أم أنه حاصرهم للجلاء؟ (ثمامة بن أثال رضي الله عنه لما أسلم وكان يرسل من بلده الطعام والشراب إلى قريش في مكة، فلما أسلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة قال له: يا رسول الله! إني كنت قد نويت عمرة فماذا تأمرني؟ قال: اعتمر، وأرسل معه بعض أصحابه من المدينة حتى دخل مكة، فالتقى به المشركون في مكة، قالوا: يا ثمامة! أصبوت -يعني: تركت دين آبائك- قال: ما صبوت ولكني آمنت مع محمد بالله رب العالمين، ووالله لا تأتيكم حبة قمح حتى يأذن فيها رسول الله)، وهذه مقاطعة، والحديث في الصحيحين.
والذي يقول: بأن المقاطعة ليست مشروعة، لو أنه ناقش في الوجوب أو في التحريم لقلنا له ذلك، ونحن ما قلنا أبداً بوجوب المقاطعة ولا بحرمة الصلة أبداً، نحن نقول بالمقاطعة من باب النكاية في العدو كما هو يجتهد في النكاية لنا بكل ما استطاع من قوة وسلاح، فإذا كان العدو يعلم أن النكاية فينا تحصل بالطعام والشراب منعهما عنا، ألا تعلمون أن أمريكا تلقي ملايين الأطنان من القمح في المحيط ولا ترسل بها إلى جنوب أفريقيا؟ أما بلغكم أن بابا روما وشنود في مصر لما ذهبا إلى جنوب أفريقيا كانا يأخذان الإنجيل بأيديهما اليمنى، والرغيف باليد اليسرى، كانا يعرضان الإنجيل على المسلمين الجوعى هناك الذين ماتوا جوعاً فيقولان لهم: لا تأخذوا الرغيف حتى تأخذوا الإنجيل أولاً وتعتقدون ما فيه وتتنصرون، فلو قلنا في مقابل هذا وذاك مما طرحناه مراراً، والعالم كله يعلم ماذا يصنع الصليبيون واليهود في هذا الزمان وفي هذه الأرض بالمسلمين هنا وهناك، فلو قلنا بالمقاطعة فهذا أقل القليل مما نملكه، ومع هذا ما قلنا أن المقاطعة واجبة، ولا أن من اشترى سلعة من اليهود أو النصارى آثم، ما قلنا ذلك أبداً، ولكن من باب النكاية في العدو، ولكن هذا الغبي إنما يؤثر في نفسه أن نشتم اليهود أو النصارى مع أنه ما كف في ليله ولا في نهاره عن سب الموحدين، وهذا يذكرنا بما ورد في السنة من أن أهل الأهواء والزيغ والضلال يتركون أهل الأوثان ويسبون أهل الإسلام، فهذا ما كف أبداً عن سب علماء المسلمين، ولا طلاب العلم هنا وهناك، ويعز عليه جداً أن يتكلم واحد منا في اليهود والنصارى بكلمة.
أهم إخوانك؟ أهم آباؤك؟ أهم أصدقاؤك؟ أهم منك وأنت منهم أم ماذا؟ لا ندري، فالله تعالى يهدي الجميع.(64/14)
حكم قراءة الفاتحة على الأموات
السؤال
هل يجوز قراءة الفاتحة على الأموات؟
الجواب
هذه المسألة مما اختلف فيه سلف الأمة، والذي يترجح لدي: أنه لا يجوز قراءة القرآن مطلقاً على الأموات، وأن ذلك من البدع.(64/15)
أيهما أفضل الكافر أم الجهمي
السؤال
لقد ذكرتم في الدرس الماضي أن ابن تيمية قال: لأن يموت الإنسان جهمياً أو معتزلياً خير من أن يموت كافراً على سبيل أخف الشرين، فكيف يكون هذا الجهمي مخلداً في النار مع أنه أفضل من هذا الكافر الذي لم يدخل الإسلام؟ أرجو التوضيح.
الجواب
السؤال وجيه، ولكن نفرق بين دعاة الجهمية وعامة الجهمية، فأما الدعاة فتنطبق عليهم تلك النصوص التي كفرتهم وخلدتهم في النار وهذا الكلام ذكرناه مراراً، وفيه تفصيل سنذكره بإذن الله تعالى، ولكنهم على أية حال ليسوا كفاراً قولاً واحداً.
يكفينا ما ذكرنا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(64/16)
شرح كتاب الإبانة - ما جاء في السنة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق
القرآن كلام الله غير مخلوق، وبذلك جاءت الأدلة من الكتاب والسنة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستعيذ بكلمات الله التامات، ويعوذ الحسن والحسين ببعض سور القرآن، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق، فدل ذلك على أن القرآن كلام الله وصفة من صفاته غير مخلوق.(65/1)
خطورة القول بخلق القرآن
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تكلمنا في الدرس الماضي في إثبات أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن الله تعالى متكلم ولا يزال متكلماً بما شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، لا ينتهي كلامه، وبينا ذلك من آيات الكتاب المبين.
ودرسنا في هذه الليلة في إثبات أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه غير مخلوق من سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فقال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاءت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه -أي: من المرفوع والموقوف- بأن القرآن كلام الله].
في الدرس الماضي بعض الإخوة كتبوا إلي رسالة وقالوا: ما قيمة هذا الكلام؟ ما قيمة ذكر هذه الفتنة خاصة وأن الناس لا يعرفونها؟ وهذه حقيقة، وقد أتتني رسائل في الدرس الماضي بعد أن شرحت أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبينت خطر القول بخلق القرآن، لكن لا يزال الأمر غامضاً على بعض الناس، وقد سألوا عن خطورة القول بخلق القرآن، خاصة وأن بعض الوعاظ -كما ذكر بعض السائلين- يصعدون على المنابر يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، فأما الصيام فيقول: أي رب! أظمأت نهاره فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: أي رب! أسهرت ليله فشفعني فيه)، ويسأل عن صحة الحديث.
الحديث صحيح، لكن بدون لفظة: (وقال القرآن أي رب!) القرآن ما قال ذلك، ولكن الحديث: (الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، أما الصيام فيقول: أي رب!)؛ لأن الصيام مخلوق، والصيام فعل العبد، وأفعال العباد مخلوقة، (فيقول الصيام: أي رب! أظمأت نهاره فشفعني فيه، وأما القرآن فيقول: أسهرت ليله فشفعني فيه) ولم يقل القرآن: أي رب! ومن الخطأ الفادح فعلاً قول بعض الأئمة أو الخطباء في هذا الحديث: أي رب!، كما أن من الخطأ الشائع على ألسنة الناس إذا أراد أن يقسم يميناً مغلظاً أخذ القرآن بيمينه وقال: (ورب هذا القرآن) فجعل القرآن مربوباً، والمربوب مخلوق، فهذا يمين خطأ في الاعتقاد، ولا يصح؛ لأن القرآن ليس مربوباً، ولو كان مربوباً لكان حادثاً، ولو كان حادثاً للزم أن نقول: إن الله لم يكن متكلماً حتى خلق لنفسه الكلام، كما أنه لا بد أن يفنى إذا كان حادثاً؛ لأن كل حادث يطرأ عليه الفناء لا محالة.
ولذلك قامت مناظرة في زمن المعتصم في مجلسه، وكانت في فتنة خلق القرآن، وكان الذي تولى كبرها عالم من علماء السلطة في ذلك الزمان يسمى أحمد بن أبي داود أو أحمد بن أبي دؤاد، ينطق هكذا وهكذا، وهو الذي وشى بالإمام أحمد عند الخليفة في زمن العباسيين وقال: إن أحمد يقول: إن القرآن ليس مخلوقاً وهو مخلوق؛ لأن القرآن شيء، والله تعالى خلق كل شيء، فلما كانت المناظرة بين الإمام أحمد وبين إمام الضلالة أحمد بن أبي دؤاد بين يدي المعتصم قال ابن أبي دؤاد: يا أحمد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى.
قال: أوليس الله تعالى خلق كل شيء؟ قال: بلى.
قال: إذاً: القرآن مخلوق.
فقال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى.
قال: أوليس الله تعالى قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]؟ قال: بلى.
قال: هل تقول: إن القرآن يدمر؟ -أي: يفنى ويزول- إذا قلت ذلك فقد كفرت، فسكت أحمد بن أبي دؤاد ولم يعر ابن حنبل جواباً.
وانتهت المناظرة وكل مسلم ومسلمة ينتظر هذه الصولة وهذه الجولة لمن تكون: لـ أحمد بن حنبل أم لـ أحمد بن أبي دؤاد؟ فلما انهزم ابن أبي دؤاد ولم يعر أحمد بن حنبل جواباً انصرف الناس وقد كتبوا عن أحمد بن حنبل في هذه اللحظة: القرآن كلام الله غير مخلوق.
ولا زال أهل السنة إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة يعتقدون أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
والقرآن هو كلام الله عز وجل، والمخلوق منا لم يكن متكلماً، فلما خلق الله له الكلام تكلم، والمخلوق منا جاهل، فلما خلق الله له العلم صار عالماً، والمخلوق منا جهول، فلما خلق الله الحلم صار حليماً، وغير ذلك من الصفات التي يتصف بها المخلوقين لم يكونوا يتصفون بها ابتداءً، فلما خلقها الله اتصفوا بها؛ ولذلك قال النبي عليه السلام: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) فلم يكن المرء منا عالماً حتى خلق فيه(65/2)
ما جاءت به السنة عن النبي وعن أصحابه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق
في هذا الدرس نثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن كلام الله غير مخلوق.(65/3)
حديث: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي)
قال: [عن جابر بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف)] أي: يعرض نفسه على القادمين لأداء نسك الحج، وأنتم تعلمون أن أهل الجاهلية كانوا يحجون إلى بيت الله الحرام، ويعظمون شعائر البيت، ولكن على غير ما سنه لنا الله تبارك وتعالى ورسوله، فإنهم كانوا يحجون، فمنهم من كان يحج على ملة إبراهيم، ومنهم من كان يحج على غير ذلك، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على الناس بالموقف، أي: على مداخل مكة أو مشارفها أو في عرفات أو مزدلفة أو غير ذلك.
[فيقول: (هل من رجل يحملني إلى قومه؟ -أي: يأخذني إلى قبيلته وقومه- فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي)].
وهذا الشاهد: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي).
إذاً: الرب يتكلم؛ ولذلك كان من بعض حجج أهل التوحيد على أهل الشرك وعباد الأصنام: أنهم كانوا يقولون لهم: أتعبدون أصناماً لا تتكلم ولا تعي ولا تعيركم جواباً ولا ولا ولا؟ وثبت في السنة أن أم سليم لما هلك زوجها مالك بن النضر والد أنس بن مالك رضي الله عنه تقدم لها أبو طلحة، فقالت: يا أبا طلحة! مثلك لا يرد، ولكنك رجل مشرك وأنا امرأة مؤمنة، يا أبا طلحة! أتعبد أصناماً لا تسمع ولا تعقل ولا تتكلم؟ ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؟ قال: يا أم سليم! أنظريني ثلاثة أيام -أي: أعطيني مهلة ثلاثة أيام لأنظر في كلامك هذا- فأتاها بعد ثلاث وقال: يا أم سليم! جزاك الله خيراً، لقد فكرت في كلامك فوجدت أنه شرك، وأن ما أنت عليه توحيد وإيمان.
قالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بين يديه، فذهب وأعلن إسلامه، ثم أتى إليها وقال: يا أم سليم! هل لك في نكاحي؟ قالت: نعم.
ومهري إسلامك، فلم تأخذ شيئاً في صداقها غير إسلام أبي طلحة، فكانت أم سليم تفاخر النساء.
تقول: زوجكن آباؤكن على الدينار والدرهم وتزوجت على الإسلام، وهو بلا شك شرف عظيم جداً، وأثمن مهر، ويكفي أنه سبب للعتق من النار ودخول الجنة.
فقوله: (فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي) فيه إثبات أن الرب تبارك وتعالى يتكلم.(65/4)
حديث: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة)
قال: [عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي -إذاً: كلام الله تعالى وحي- سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا)] إذا تكلم الله تعالى بكلامه بالوحي سمع أهل السماء من الملائكة للسماء جرساً وأصواتاً عالية كجر السلسلة على الصفا وهو الحجر الأملس، أي: كما لو أتيت بسلسلة أو جنزير ووضعتها على حجر أملس ناعم لا يستقر عليه شيء، ولو أجريت السلسلة على هذا الحجر لا بد أنك تسمع صوتاً عالياً، فكذلك إذا تكلم الله تعالى بالوحي [(سمع الملائكة في السماء لهذا الوحي صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون)]، وهذا من شدة الوحي.
وأنتم تعلمون حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة شديدة البرد، فما ينفصم عنه الوحي إلا وهو يقطر عرقاً) عليه الصلاة والسلام من شدة الوحي.
وكذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يتغير لونه تماماً إذا نزل عليه الوحي، فكان وجه يصفر أو يحمر، وذلك من شدته عليه عليه الصلاة والسلام، فكذلك يصعق الملائكة جميعاً [(حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم -أي: كشف عنهم الفزع- فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ -وفي هذا إثبات أن الرب يتكلم- قال: يقول الحق)] قول الله تعالى هو الحق، وقوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال: [(فينادون: الحق الحق)].
أي: فيتنادون فيما بينهم: الحق الحق، أي: تكلم الله تعالى بالحق، تكلم الله تعالى بالحق.
ومصداق ذلك في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].
وله شاهد من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)، فوصفوا كلام الله تعالى بأنه قول الحق.(65/5)
حديث: (إذا تكلم الله سمع صوته أهل السماء)
قال: [عن عبد الله قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجداً، حتى إذا فزع عن قلوبهم نادى أهل السماء أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا وكذا)] ويتكلمون بما تكلم الله تبارك وتعالى به.(65/6)
حديث: (القرآن كلام الله)
قال: [عن عبد الله بن مسعود: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (القرآن كلام الله).
قال وسمعت الدغشي يقول: قال مجالد: قال عامر: قال مسروق: قال عبد الله: من قال غير ذا فقد كفر].
فهذا نص بعضه مرفوع والبعض الآخر موقوف.
أما المرفوع: (القرآن كلام الله) وأما الموقوف فقول ابن مسعود: من قال غير ذا أي: من قال غير أن القرآن كلام الله فقد كفر.(65/7)
حديث: (فأحسن الكلام كلام الله)
[عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هما اثنتان: الكلام والهدي -أي: الكلام والسنة والطريقة والهداية- فأحسن الكلام كلام الله)] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87] إذاً: الله تعالى يتكلم ويتحدث، فأحسن الكلام كلام الله، [(وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)].
وأما قوله: (إنما هما اثنتان) من قول ابن مسعود، فالكلام هو كلام الله عز وجل وهو أحسن الكلام، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: [(ألا وإياكم -أسلوب تحذير- ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].
قال البيهقي: والظاهر أن ابن مسعود أخذ هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أخذ هذا القول: (إنما هما اثنتان الكلام والهدي) من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر: هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفاً على ابن مسعود.
وقد ورد بعضه مرفوعاً من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود وأخرجه صاحب السنن، وجاء أكثره مرفوعاً من حديث جابر، وهو عند مسلم وأبي داود والنسائي وأحمد وابن ماجه، وذكر الحافظ هذا في الفتح.
ثم قال في شرحه للحديث في كتاب (الاعتصام) أن هذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن هذا الكلام لا يقال من قبل الرأي، أي: لا مدخل للرأي فيه، فلا بد أن يكون مستنده المعصوم عليه الصلاة والسلام.
ولذلك قال: لأن فيه إخباراً عن صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم، وهو أن هديه خير الهدي، وهو أحد أقسام المرفوع.
وقل من نبه على ذلك.
وأما حديث جابر المرفوع في صحيح مسلم: (إنما هي اثنتان: الكلام والهدي) فهو كذلك في باب تخفيف الصلاة والخطبة من كتاب الجمعة عند الإمام مسلم.(65/8)
وصية خباب بن الأرت لفروة بن نوفل بالتقرب إلى الله تعالى
قال: [عن فروة بن نوفل قال: قال خباب بن الأرت] وخباب بن الأرت هو ابن جندلة بن سعد التميمي صحابي جليل رضي الله عنه، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، وكان يعذب في الله عذاباً أليماً، ويصبر على ذلك، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد.
[عن فروة قال: قال خباب بن الأرت وأقبلت معه من المسجد إلى منزله فقال: إن استطعت أن تقرب إلى الله عز وجل فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه].
خباب بن الأرت ينصح فروة بن نوفل من التابعين: إذا أردت يا فروة! أن تتقرب إلى الله فليس هناك أحب إلى الله عز وجل من كلامه أن تتقرب به إليه، من تلاوته وتعظيمه وتشريفه والعمل به، والدعوة إليه، وغير ذلك.
[قال ابن أبي العوام: اشهدوا عليَّ أن ديني الذي أدين الله عز وجل به: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، وهذه كانت مقالة أبي].
فهذا قول ابن مسعود وابن أبي العوام، وكذلك قول أبي العوام نفسه.
قال: [عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: كنت جاراً لـ خباب فقال: يا هناه -أي: يا صاحبي أو يا صديقي- تقرب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه] سبحانه وتعالى.(65/9)
أثر عمر: (إن هذا القرآن إنما هو كلام الله)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غيرما طريق عنه: [إن هذا القرآن إنما هو كلام الله فضعوه مواضعه].
أي: قدروه حق تقديره.(65/10)
حديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)
قال: [عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم من تعلم القرآن وعلمه)]، يعني: من أفضلكم من تعلم القرآن لنفسه وعلمه الناس.
[قال أبو عبد الرحمن - أبو عبد الرحمن السلمي الذي روى ذلك عنه-: فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا].
أي: طلبي لأن أكون من خير خلقه هو الذي جعلني أتعلم القرآن وأعلمه إياكم مما أجلسني في هذا المكان، طلباً للخيرية والرفعة.
قال: [فذلك الذي أقعدني مقعدي هذا.
وكان يعلم القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة].
أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي كان يعلم القرآن في مسجد الكوفة الكبير أربعين سنة طلباً للخيرية.(65/11)
أحسن الحديث كلام الله
قال: [وقال ثابت بن قطبة: كان عبد الله بن مسعود يذكر كل عشية -يعني: كل يوم بعد صلاة المغرب أو العشاء يذكر الناس بكلمة يسيرة- فيحمد الله ويثني عليه ويقول: إن أحسن الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وذكر باقي الحديث]، وهو المعروف بخطبة الحاجة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبدأ بها كلامه وخطبه ودروسه وغير ذلك.(65/12)
تعويذ النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين بكلمة الله
قال: [عن ابن عباس قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعوذ حسناً وحسيناً رضي الله عنهما)] كان يعوذهما يعني: يرقيهما.
يرقي الحسن والحسين.
وفي هذا بيان استحباب أن يعوذ الرجل أولاده أو المرأة أولادها، خاصة عند الصباح وعند المساء حتى لا يمسه الشيطان لا في نهاره ولا في ليله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ حسناً وحسيناً رضي الله عنهما، ويقول: [(أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة، وشر كل عين لامة، ثم يقول: هكذا كان إبراهيم يعوذ اسماعيل وإسحاق)] يعني: كان إبراهيم يعوذ بنفس هذه الكلمات ولديه إسماعيل وإسحاق.
قال: (أعيذكما بكلمة الله التامة) الكلمة التامة هي كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله.
أما الكلمة التامة في زمن إبراهيم عليه السلام فهي: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم رسول الله عليه الصلاة والسلام)، إذ لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام قد بعث في ذلك الوقت، فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعوذ إسماعيل وإسحاق بكلمة التوحيد، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذ الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمة الله التامة من كل شيطان وهامة، وشر كل عين لامة) أي: التي تلم الفساد، من اللم: وهي التي تجمع أنواع الشرور والفساد.(65/13)
حديث: (لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله)
[عن رجل من أسلم قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل -وهذا الحديث عند مسلم - فقال: إني لدغت الليلة يا رسول الله! فلم أنم حتى أصبحت قال النبي عليه الصلاة والسلام: ما لدغك؟ قال: عقرب، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله)]، لو أنك قلت هذه الكلمة ما كان للعقرب عليك من سلطان، وما لدغك، بل ربما نام العقرب بجوارك لا يقدر على لدغك؛ لأنك تعوذت واستعذت ولجأت واعتصمت بالله تعالى وبكلماته التامة.
قال: [(أما إنك لو قلت حين أمسيت -وهذا في أذكار المساء- أعوذ بكلمات الله التامات كلها من شر ما خلق -والعقرب منها- من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله)].(65/14)
حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قرأ على نفسه المعوذات)
[عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين-: (كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات)]، أي: بالمعوذتين، وبعض أهل العلم أدخل في المعوذات: الإخلاص تجوزاً، أطلقوا عليها معوذة؛ لأن المرء عندما يقرؤها يستعيذ بالله تعالى من الشرور والآثام.
والغالب أن من تعوذ بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] يجمع معهما سورة الإخلاص وهي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، وهي السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي اشتملت كل آياتها على توحيد الله عز وجل، فكل سور القرآن ربما تجد فيها الأمر بالتوحيد وقد لا تجد، وربما تجد فيها أحكاماً حلالاً وحراماً، أخلاقاً وآداباً، لكن سورة الإخلاص هي التي تكلمت عن التوحيد من أولها إلى آخرها، وقالوا: هذه السورة هي نسب الله عز وجل.
وقد جاء في الأثر: (أن قريشاً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! انسب لنا ربك) فأخذوا على نسب آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، فلو أنهم سئلوا: انسبوا لنا اللات أو العزى لاستطاعوا نسبة آلهتهم؛ لأنها من حجر أخذوه من جبل كذا، والذي صنعه ونحته وجعله على هذه الصورة فلان بن فلان، والذي حمله من مكان كذا إلى مكان كذا هو فلان بن فلان، وتم صنعه في ساعة كذا وفي يوم كذا، وتم تنصيبه وعبادته في ساعة كذا، وأول من عبده فلان، وهكذا يستطيعون أن ينسبوا آلهتهم.
ولذلك أجروا عادتهم مع آلهتهم مع النبي عليه الصلاة والسلام: (انسب لنا ربك) فنزل قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] الذي تلجأ الخلائق كلها إليه سبحانه وتعالى رغم أنوفهم في سرائهم وضرائهم، حتى المشرك يلجأ إليه في وقت الضر، فإذا كشف عنه الضر رجع لعبادة الأصنام، وهذا دليل فطري أنه لا يكشف الضر ولا يسوق النفع إلا الله عز وجل، علم ذلك المشركون، {اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ} [الإخلاص:2 - 3]، ليس أباً لأحد، {وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، ليس ابناً لأحد، فليس له ولد ولا والد، هذا نسب الله عز وجل.
عن عائشة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات).(65/15)
التعوذ بكلمات الله
[قال الشيخ: فتفهموا رحمكم الله هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النبي صلى الله عليه وسلم بمخلوق؟] لو كان القرآن هذا مخلوقاً فهل كان يحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بالمخلوق؟ حاشا وكلا أن يتعوذ بالمخلوق، فمن تعوذ بالمخلوقين قلنا: هذا عمل عملاً شركياً، فمن تعوذ بفلان أو بقبر جده أو بتربة النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالكعبة أو غير ذلك قلنا: هذا شرك بالله عز وجل؛ لأنه قد تعوذ بمخلوق، والأصل لمن تعوذ أن يتعوذ بالخالق وأسمائه وصفاته؛ لأنها غير مخلوقة.
فإذا كان القرآن مخلوقاً فكيف يتعوذ به النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: [ويتعوذ هو عليه الصلاة والسلام بمخلوق ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟] هذا كلام عظيم جداً وافتراء عليه صلى الله عليه وسلم.
قال: [وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله؟] يعني: هل أقول: أعوذ بنفسي من شر ما نزل بي؟ هل يصح ذلك؟
الجواب
لا يصح؛ لأني مخلوق، لا يصح التعوذ بالمخلوق، ولا أقول: أتعوذ بـ البدوي أو بـ الحسين أو بالسيدة أياً كانت السيدة، أو غير ذلك من سائر وسائل الشرك التي يقع فيها كثير من الخلق، فهذا كله من الأعمال الشركية، والتوسل غير المشروع، فيقول: أعيذ نفسي بالسماء، السماء لا ترقى، بالجبال؟ بالأرض؟ بالأنهار؟ بالبحار؟ بالأنبياء؟ بالعرش؟ بالكرسي؟ كل ذلك مخلوق أم لا؟ كل ذلك مخلوق، هل سمعنا أحداً تعوذ بالسماء أو تعوذ بالأرض أو الجبال؟ ما سمعنا ذلك، أو بالكرسي والعرش؟ ما سمعنا ذلك.
قال: [وإذا جاز أن يتعوذ المخلوق بمخلوق مثله فليعوذ نفسه وغيره بنفسه فيقول: أعيذك بنفسي]، وإذا كان لأحد أن يعوذ بنفسه فليس هناك أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هناك أشرف مخلوق منه عليه الصلاة والسلام؛ ومع ذلك ما كان يعوذ أحداً بنفسه، وإنما كان يقول: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، الله يشفيك، باسم الله أرقيك)، ولم يقل: أعيذك بنفسي، وكان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، ولم يكن يعوذهما بنفسه، فلو كان التعوذ بالمخلوق جائزاً لكان من أفضل الأعمال والقربات أن يعوذ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنفسه؛ لأنه أشرف مخلوق، فلما لم يكن ذلك منه دل على حرمة التعوذ بالمخلوقات جميعاً وإن عظمت كالسماء والأرض والجبال والأنبياء والملائكة وغير ذلك، كما أن التعوذ بالقرآن تعوذ بغير مخلوق؛ وذلك لأننا نفينا مشروعية التعوذ بالمخلوقين، وثبت التعوذ بالقرآن الكريم إذاً: القرآن غير مخلوق.
هذا الذي يريد أن يذهب إليه الإمام.(65/16)
الكفارة المترتبة على من حنث في حلفه بكتاب الله دليل على أنه كلام الله
قال ابن بطة: [أوليس قد أوجب عبد الله بن مسعود رحمه الله على من حلف بالقرآن بكل آية كفارة؟ فهل يجب على من حلف بمخلوق كفارة؟] إنما كفارته أن يقول: لا إله إلا الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فليقل: لا إله إلا الله).
فقد أوجب ابن مسعود على من حلف بكتاب الله عز وجل في كل آية كفارة؛ لأنه يمين مشروع، والكفارة تترتب على اليمين المشروع دون اليمين الممنوع، إذ إن اليمين الممنوع يحتاج إلى توبة، كما لو حلف إنسان بالكعبة أو بأبيه أو بتربة جده أو بـ الحسن أو البدوي فإنما يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل؛ لأن هذا شرك، لكن لو أن إنساناً حلف بالله فحنث فعليه الكفارة: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فحينئذ الكفارة تترتب على اليمين المشروع دون اليمين الممنوع، فإن اليمين الممنوع يحتاج إلى توبة؛ ولذلك أوجب ابن مسعود على من حلف على كتاب الله عز وجل وحنث بكل آية كفارة، انظروا إلى خطورة الأمر، وفي هذا إثبات مشروعية الحلف بكتاب الله عز وجل، لا على أنه كتاب، وإنما على أنه كلام الله، وأنه صفة من صفاته؛ لأن اليمين المشروعة تكون بالله وأسمائه وصفاته، فلك أن تحلف بقدرة الله وعزة الله وجلال الله وعظمة الله، وغير ذلك من سائر صفات الله عز وجل فهو يمين عظيم منعقد، ولكن من حلف بكتاب الله عز وجل فقد أوجب ابن مسعود عليه في وقت الحنث بكل آية كفارة إما أن يطعم (10) مساكين أو يكسوهم أو يعتق رقبة، فإن لم يجد شيئاً من ذلك أطعم عن كل آية (10) مساكين.
عد كم آية في كتاب الله عز وجل؟ (6236) إذاً: (6236) × (10) مساكين، فالحانث يحتاج إلى وزارة شئون اجتماعية كاملة تقف بجواره لأداء هذه الكفارات؛ وذلك لأنه حلف يميناً منعقدة مشروعة على كتاب الله الذي هو كلام الله، والذي هو صفة من صفات الله عز وجل، وهذه اليمين مشروعة، أما لو كان صادقاً فإنه لا كفارة عليه، ولا حنث عليه؛ لأنه صادق فيما حلف عليه.
قال: [عن عبد الله بن مرة عن أبي كنف عن عبد الله بن مسعود أنه سمع رجلاً يحلف بسورة البقرة فقال: أما إن عليه بكل آية منها يميناً].
يعني: قد حلف (286) يميناً؛ لأنه حلف بسورة البقرة فقط، وهي: (286) آية، قال: عليه (286) كفارة إذا كان حانثاً في هذا اليمين، وإذا لم يكن حانثاً فلا شيء عليه.
وقد أورده كذلك الإمام اللالكائي في كتاب أصول الاعتقاد من طريق حنظلة بن خويلد العنزي قال: أخذ عبد الله بن مسعود بيدي فلما أشرفنا على السدة -أي: وصلنا إلى الباب- إذ نظر إلى السوق فقال: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل هذا السؤال إذا نزل قرية، قال: (اللهم إنا نسألك خير هذه القرية وخير ما فيها ومن فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن فيها).
وكذلك قد ثبت في السنة: أن شر البقاع الأسواق، وخير البقاع المساجد.
قال ابن مسعود لما أشرف على باب السوق: اللهم إني أسألك خيرها وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها وشر أهلها، قال: فمر برجل يحلف بسورة من القرآن، فقال ابن مسعود: أما إن عليه بكل آية منها يميناً.
قال: [عن الحسن -وهو من مراسيل الحسن - قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بسورة من القرآن فبكل آية منها يمين)]، ولا شك أن مراسيل الحسن ضعيفة، لكن عمل بمقتضى هذا النص سلف الأمة ومنهم عبد الله بن مسعود، ولم يعلم له مخالف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وروي كذلك عن مجاهد مرفوعاً كما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، ثم قال البيهقي: هذا الحديث إنما روي من وجهين جميعاً مرسلاً: عن مجاهد وعن الحسن.
وروي عن ثابت بن الضحاك موصولاً مرفوعاً، لكن في إسناده ضعف، ثم ذكر حديث ابن مسعود السابق لهذا، ثم قال: فقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مع الحديث المرسل فيه دليل على أن الحلف بالقرآن يكون يميناً في الجملة، ثم التغليظ في الكفارة متروك بالإجماع.
[عن إبراهيم وهو - النخعي - أنه كان يقول: من حلف بسورة من القرآن فبكل آية يمين].
وهذا قد سبق.
وقول إبراهيم قد رواه كذلك موقوفاً عن ابن مسعود: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع.
والحرف إما أنه بمعنى الآية من القرآن الكريم، أو بمعنى: طريقة النزول؛ لأن القرآن نزل على سبعة أحرف، فمن كفر بحرف منه فكأنما كفر بجميع الأحرف، أي: بالقرآن، وقد جاء من طرق متعددة مو(65/17)
إثبات أبي بكر رضي الله عنه أن القرآن كلام الله
قال: [عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي -وكانت له صحبة- قال: (لما نزلت {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2] قالت قريش لـ أبي بكر رحمه الله: يا ابن أبي قحافة! لعل هذا من كلام صاحبك -أي: سورة الروم هذه لعلها من كلام محمد عليه الصلاة والسلام- قال: لا ولكنه كلام الله عز وجل)] فلا زال الله تعالى متكلماً.(65/18)
قول الإمام الشافعي في الحلف بأسماء الله والحلف بالمخلوقات
قال: [كتب لي أبو محمد بن أبي حاتم الرازي أجازني الرواية عنه، قال: حدثنا الربيع بن سليمان المصري في أول لقاء لقيه في المسجد الجامع، فسألته عن هذه الحكاية، وذلك أني كتبتها عن أبي بكر بن القاسم عنه قبل خروجي من مصر، فحدثني الربيع قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة].
كما لو قلت: والعزيز والسميع والبصير، فمن حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة، وأنتم تعلمون أن الكفارة لابد أن تكون في اليمين المشروع.
قال: [لأن اسم الله غير مخلوق].
وأسماء الله تعالى قد وردت في كتابه الكريم، والكتاب كله ليس مخلوقاً وكلام الله تعالى كله ليس مخلوقاً.
إذاً: الأسماء الواردة في القرآن الكريم لكونه كلام الله ليس مخلوقاً، وكذلك بقية الأسماء الواردة في السنة.
قال: [ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة؛ لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق].
أي: أن أسماء الله غير مخلوقة، وما دون ذلك من الكعبة أو الصفا والمروة أو الأنبياء أو السماء أو الأرض أو الجبال أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها مخلوقة ولا كفارة فيها، وبالتالي يلزم الحالف بها أن يتوب إلى الله عز وجل.
تعليقاً على كلام الشافعي رحمه الله: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة -يعني: اسم الله غير مخلوق- ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه الكفارة؛ لأنه مخلوق وذاك غير مخلوق.
قال: حكى الربيع عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: من حلف بالله أو باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة، فإن قال: وحق الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله، يريد بها اليمين أو لا نية له فهو يمين، ثم ذكر باقي الكلام.
قال: ولا يجوز الحلف بغير الله تعالى لما ورد في الحديث: أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله -أي: بغير الله وأسمائه وصفاته- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
وهذا بلا شك كفر عملي، أو شرك عملي؛ لأنه لو كان كفراً اعتقادياً فهو مخرج من الملة، فأنتم تعلمون أن يمين المصريين بالنبي صلى الله عليه وسلم عن بكرة أبيهم إلا من تعلم، سواء كانوا يقصدون به اليمين أو لا يقصدون، المهم أن يمينهم يسبقه الواو أو التاء أو الباء، وهذه أحرف القسم.
قال ابن عمر: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
قال الترمذي: وفسر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله: (فقد كفر أو أشرك) على التغليظ، يعني: المراد بهذا النص ليس ظاهره وإنما هو التغليظ، والحجة في ذلك: حديث ابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وأبي وأبي -كالمنكر على من قال ذلك- فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) فمن الناس من يقول: ورحمة أبي، فيقال: ما دام قد حلف برحمة أبيه فهو صادق.
فإن قلت له: وإن حلف بالله؟ لقال: محتمل قد يكون صادقاً، وقد يكون كاذباً، وإن قلت له: فإن حلف بتربة أبيه؟ لقال لك: هي أعز من رحمة أبيه، فلا يمكن أبداً أن يكون كاذباً في هذا اليمين.
وهذا هو شأن العراقيين، فالعراقي يحلف بالله فيكون كذاباً، وإن حلف بشرف صدام وكان كاذباً فيه فمصيره الإعدام لا محالة، عجيب! كان لدينا صاحب عام (1983) م في الأردن، أخذ سيارته وسافر إلى العراق، وجلس هناك فترة من الزمن، وجاء بدولارات معه، وكان يمنع خروج الدولارات في تلك الأيام من العراق، فجاء صاحبنا بحبل من الحبال المغلفة بالبلاستيك، ووضع مكان السلسلة دولارات، فكانت الدولارات داخل الغلاف البلاستيك غير ظاهرة؛ لأن الغلاف سميك، فخرج من العراق بسيارته، فأخبر عنه من أخبر أنه قد خرج بالدولارات -طبعاً هذه جريمة لا تغتفر- فتبعه أربعة من الضباط الكبار، فأدركوه على الطريق، فقالوا: معك دولارات؟ قال لهم: لا.
ليس معي دولارات.
قالوا: جنب السيارة.
فجنب السيارة على اليمين، وأخذوا يفتشون السيارة شمالاً ويميناً، إلى أن فكوا العجلات وما وجدوا شيئاً، ونزعوا الكراسي وقطعوها قطعاً فما وجدوا شيئاً، فلما فتحوا شنطة السيارة أخذوا هذا الحبل ورموه على الأرض، واستمر التفتفيش ثلاث ساعات أو أربع ساعات وما وجدوا شيئاً.
قالوا: أمعك دولارات؟ قال لهم: لا.
قالوا: أتحلف بشرف صدام أنه ليس معك دولارات.
قال لهم: إذا حلفت بشرف صدام أنه ليس معي دولارات؟ قالوا: إذا حلفت بشرف صدام سنتركك.
فقال: وشرف صدام معي دولارات.
قالوا: أين؟ قال لهم: في الخرطوم الذي رميتموه على الأرض، فأخذوا الخرطوم ومزقوه حتى أخرجوا الدولارات كلها، ولم يجرءوا قط أن يمسوه بأدنى أذى؛ لأن الذي سيتو(65/19)
مس القرآن على طهارة دليل على أنه كلام الله
قال الشيخ ابن بطة: [ومما يحتج به على الجهمي الخبيث الملحد أن يقال له: هل تعلم شيئاً مخلوقاً لا يجوز أن يمسه إلا طاهر طهارةً تجوز له بها الصلاة؟ -أي: هل تعلم شيئاً مخلوقاً لا يجوز للمحدث مسه، ويصح بها الصلاة؟ - فلولا ما شرف الله به القرآن، وأنه كلامه وخرج منه لجاز أن يمسه الطاهر وغير الطاهر، ولكنه غير مخلوق، فمن ثم حظر الله تعالى أن يمس المصحف أو ما كان فيه مكتوب من القرآن إلا طاهر، فقال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]].
ولكن الإمام في الحقيقة يخالف جماهير العلماء الذين يقولون في هذه الآية: {لا يَمَسُّهُ -أي: اللوح المحفوظ- إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] يعني: الملائكة، والإمام بهذا يخالف، وكأنه يجمع الأدلة من هنا وهناك لإثبات صحة ما يقول، ونحن نعتقد صحة ما قال وما يقول بدون التكلف الذي تكلفه في تأويل قول الله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79].
وفي حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر -وهو ابن عمرو بن حزم - قال: [(كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لجدي -أي: أبي بكر بن عمرو بن حزم - إن القرآن كلام الله، فلا يمس القرآن إلا طاهر)]، وليس في الروايات: إن القرآن كلام الله وإنما النص الثابت في كتابه عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر بن عمرو بن حزم: أنه قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر).
وهذا الكتاب قد روي بطرق متعددة، وفي كل طريق منها ضعف، فمنهم من يثبته من جهة الإسناد ومنهم من يرده، وإن كانت الأمة أجمعت على وجوب العمل بهذا الكتاب؛ لأنه من قبيل الوجادة، والوجادة نوع من أنواع صيغ التحمل الثمانية التي منها: التحديث، والسماع، والإجازة، والعرض، وكذلك منها الوجادة، وصورة الوجادة: أن يجد الراوي كتاباً مكتوباً فيه شيء من العلم، بخط فلان يعرفه جيداً، ويثبت أن هذا من حديثه، فحينئذ لا يقول: سمعت ولا حدثنا ولا أخبرنا، وإنما يقول: وجدت في كتاب فلان قال: كذا وكذا، وهذه الوجادات موجود منها شيء ليس باليسير في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الله بن الإمام: أنه وجد كتاباً في بيت أبيه.
وهو يعرف أنه لأبيه، فقال: وجدت في كتاب أبي أنه قال: حدثنا فلان، ثم يذكر الإسناد ويذكر المتن.
فقول الراوي: وجدت في كتاب فلان؛ هذا يعبر عنه العلماء بالوجادة، فكذلك الكتاب الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمرو بن حزم كتاب وجده أبو بكر بن عمرو بن حزم، أو وجده موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم؛ فهو عند أهل العلم من باب الوجادة.
[عن نافع عن ابن عمر: أنه كان لا يأخذ المصحف إلا طاهراً].
أي: لا يمس المصحف إلا وهو على طهارة.
وفي الصحيحين من حديثه أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) وفي رواية زيد فيها: (مخافة أن يناله العدو)، والمقصود بالعدو هنا: العدو المحارب لا العدو المسالم؛ لأن العدو منه من يكون محارباً، ومنه من يكون مسالماً، فالعدو الذي لا يقاتلني عدو مسالم، والعدو الذي رفع راية الحرب عدو محارب، وكذلك هناك عدو بيني وبينه عهد وأمان، وعدو ليس بيني وبينه عهد، فالأعداء كثيرون، ولكن لكل منهم حكمه، منهم من كان معاهداً، أو بيني وبينه عهد وأمان، ومنهم من نقض العهد فصار حربياً، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) إنما قصد العدو المحارب، وأنتم تعلمون أن نقض العهد يكون لأدنى شيء، وما وجد الكفار قط أحفظ ولا أرعى للعهود والمواثيق من المسلمين على مر التاريخ، ما نقض المسلمون عهداً قط، وإنما الذي كان ينقض دائماً هو العدو وخاصة إذا كان العدو يهودياً، فإن اليهودي ما حفظ وما رعى عهداً قط، فاليهود قوم غدر، وأظن أن غدرهم لا يخفى على أحد، حتى الساسة أنفسهم يعلمون بغدر اليهود بالليل والنهار؛ لأنهم إذا نقضوا العهد مع المسلمين فإنما ينقضون العهد مع الساسة المسلمين أولاً، فهم أعرف الناس في المسلمين بغدر اليهود وبحيلهم وألاعيبهم، فالساسة أعلم بهم منا، إذ نحن نعلم أنهم أهل غدر وخيانة من القرآن والسنة، ولكن غدرهم وخيانتهم في الواقع واقعة على السياسين بالدرجة الأولى.
فقوله: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو) أي: إذا خيف وقوع المصحف بأيديهم.
[عن نافع عن ابن عمر: (أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو)]، وأنتم تعلمون أن العدو إذا نال المصحف أو استهزأ به أو سخر منه أو ضربه بقدمه أو بعصاه فقد انتقض العهد؛ لأنه لا يحت(65/20)
تنزيه القرآن من قراءته في الأماكن المستقذرة دليل على أنه كلام الله
قال ابن بطة: [ولأجل أنه كلام الله وخرج منه أمر القارئ بتنزيهه والإمساك عن قراءته عند الروائح المنتنة، وفي الأماكن المستقذرة].
[فعن ذر -وقيل: ذر بن صهيب: قال: سألت عطاءً: أقرأ فتخرج مني الريح؟ قال: أمسك عن القراءة حتى تذهب].
أي: أمسك عن القراءة حتى تذهب عنك الريح أو تخرج من الأماكن المستقذرة.
و [عن عبد العزيز بن أبي رواد عن مجاهد: أنه كان إذا صلى فوجد ريحاً أمسك عن القراءة].
قال ابن بطة: [فهذا ومثله كثير مما أمرنا به من إعظام القرآن وإجلاله، وتنزيهه وإكرامه لفضله على سائر الكلام، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79].
وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على النبي محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(65/21)
الأسئلة(65/22)
حكم الحلف بالتوراة والإنجيل
السؤال
هل يجوز الحلف بالتوراة والإنجيل على أنهما كلام الله قياساً على الحلف بالقرآن الكريم؟ وكيف يكون ذلك؟
الجواب
ما سمعنا أن أحداً من أهل العلم قال ذلك قط ولا أجازه، وإنما التوراة والإنجيل كتابان محرفان، حرفهما اليهود والنصارى؛ ولذلك لا يجوز الحلف بهما قط، وإن كان الأصل أنهما من كلام الله عز وجل، لكن بعد أن دخلهما التحريف فلا يجوز الحلف بهما، والقرآن الكريم ناسخ لهذين الكتابين، فلا يجوز الحلف بهما أبداً.(65/23)
حمل كلام ابن مسعود في كفارة الحلف بكل آية من كتاب الله على التغليظ
السؤال
ما معنى قول البيهقي: (ثم التغليظ بالكفارة متروك بالإجماع) عند كلامه على أثر ابن مسعود؟
الجواب
كلام الإمام البيهقي على قول ابن مسعود: من حلف بكتاب الله عز وجل فعليه بكل آية كفارة؛ لأن الكفارة لا تكون إلا في اليمين المشروع.
قال: (انعقد إجماع أهل العلم على جواز الحلف بكلام الله عز وجل على أنه صفة من صفاته، وقد ترك العلماء الكفارة وحملوها على التغليظ).
يعني: لا يلزم الحالف بكتاب الله حين الحلف أن يكفر عن كل آية كفارة، وإنما يكفر كفارة واحدة، فحمل كلام ابن مسعود على التغليظ والوعيد الشديد للاحتياط في الحلف بكلام الله عز وجل كذباً، وليس المقصود منه الظاهر، وإنما المقصود منه: التغليظ.(65/24)
الحكم على حديث: (يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي) وبيان معناه
السؤال
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام (يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي بغير حساب ولا سابقة عذاب -وذكر من أوصافهم أنهم- لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)، فهل هذا الحديث صحيح؟
الجواب
نعم.
الحديث في الصحيحين، ومعنى هذا الحديث: أن هؤلاء السبعين يدخلون بغير حساب ولا سابقة عذاب، وأوصافهم: أنهم لا يكتوون، والكي مشروع، لكنه آخر الدواء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث فيهن الشفاء: شرطة بمحجم -وهي الحجامة- أو شربة عسل - {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]- أو كية بنار).
وقال: (آخر الدواء الكي) قيل: هو حديث، والحقيقة أنه ما روي من طريق إلا وفيه ضعف، فمنهم من قال: ليس بحديث أصلاً، ومنهم من ضعفه، وبعض المتساهلين قد أثبته حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن من أوصاف هؤلاء السبعين الذين يدخلون الجنة ومع كل واحد سبعون ألفاً قال: (هم الذين لا يكتوون) أي: لا يكتوون لأول وهلة، أو أنهم يدعون الكي توكلاً على الله عز وجل، وأملاً في الشفاء من عنده؛ حتى يدركهم الموت بغير كي، فجمعوا بين ترك التداوي والتوكل على الله عز وجل، ولا شك أن هذه درجة عظيمة، والتداوي مشروع وجائز؛ ولذلك قال ابن القيم: ما كنا نتداوى إلا إذا مر على الداء ثلاثة أيام، وكنا نسترقي بفاتحة الكتاب وغيرها، فوالله لقد وجدنا أنها نافعة في الرقية.
ذكر هذا الكلام في بداية كتاب الداء والدواء، كما أنه ذكره في كتاب زاد المعاد، في الجزء الثالث: الطب النبوي.
قال: (هم الذين لا يسترقون ولا يرقون)، وقوله: (ولا يرقون) رواية شاذة؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام رقى، كان يرقي الحسين ويعوذ الحسن والحسين بالمعوذتين.
أما قوله: (هم الذين لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية، لكن هذا لا يمنع أن تقع عليهم الرقية بغير طلب، فالذي يطلب الرقية يسترقي؛ لأن الألف والسين والتاء للطلب، فاسترقى فلان أي: طلب الرقية، فكونه استرقى خرج من السبعين ألفاً، وبعض الناس يفهم من هذا الكلام أنه لو استرقى دخل فيهم، وهذا خطأ، إنما المفهوم أنه خرج من الفئة التي تدخل الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب.
إذاً: النص الصحيح: (يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب.
قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون).
أما الرواية القائلة: (هم الذين لا يرقون) فهي رواية شاذة، والصحيح أنهم: (الذين لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية من غيرهم.(65/25)
التوسل المشروع
السؤال
ما هو التوسل المشروع؟
الجواب
التوسل المشروع يكون بأسماء الله تعالى وصفاته، وكذلك التوسل بالعمل الصالح، والدليل على ذلك: حديث أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة.
وكذلك يشرع التوسل بدعاء الصالحين الأحياء والدليل على ذلك: حديث عمر عندما استسقى بدعاء العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بدعاء نبيك وقد مات نبيك والآن نستسقي بدعاء عم نبيك العباس.
إذاً: الاستسقاء والتوسل بدعاء الصالحين من الأحياء من التوسل المشروع، وما دون ذلك من التوسل الممنوع.(65/26)
نسبة الأشاعرة إلى أهل السنة والجماعة أم إلى أهل القبلة
السؤال
أريد أن أعرف بكل دقة: ما حكم أصحاب العقيدة الأشعرية؟ وهل هم من الفرق الضالة التي في النار التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام أم لا؟ وهل يصح القول بأنهم فاسدو العقيدة أم لا؟
الجواب
بلا شك أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة، وكوننا ننفي عنهم ذلك لا يلزم منه الحكم بتكفيرهم، لكن إذا قلنا: فلان ليس من أهل السنة لا يمنع أن يكون من أهل القبلة، فالأشاعرة من أهل القبلة مسلمون، ولكنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة.(65/27)
حكم الاتكاء على اليد اليسرى في الجلوس
السؤال
هل نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الاتكاء على اليد اليسرى في الجلوس؛ لأنها جلسة أهل النار؟
الجواب
نعم نهى عن الاتكاء على اليد اليسرى، والحديث ثابت عند أبي داود، وقال: (إنما هي جلسة أهل النار).
والحديث الذي عند أبي داود فيه النهي عن الاتكاء على اليدين: اليد اليسرى واليد اليمنى، ومن باب أولى أن يكون النهي شاملاً لليد الواحدة، فهذا النهي ثابت والحديث فيه صحيح، وهي جلسة أهل النار، وفي رواية: (أنها جلسة الشيطان).(65/28)
النهي عن تسريح الشعر كل يوم
السؤال
هل نهى النبي عن تسريح الشعر والاغتسال في كل يوم.
وما صحة ذلك؟
الجواب
نعم.
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الترجل إلا غباً، أي: نهى عن تسريح الشعر ودهنه إلا غباً، والغب: هو اليوم بعد اليوم أو الأيام بعد الأيام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (زر غباً تزدد حباً) يعني: عندما تحب أن تزور شخصاً لا ينبغي لك أن تزوره كل يوم من باب المحبة في الله إلى أن يكرهك في الله.
والمقصود: أن تزوره كل فترة من الزمن إذا تطلب الأمر ذلك، لا أن تقلقه في عائلته، كل وقت تطرق عليه الباب إلى أن تؤثمه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد عن ذلك فهو صدقة).
وكان عبد الله بن عمر إذا زار أحداً أخذ مولاه نافعاً معه، فكان إذا انتهت الثلاثة أيام قال: يا نافع! أخرج طعامنا من الكيس.
لأنه انتهى حقهم في الضيافة.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يحل لأحدكم أن يؤثم أخاه)، يعني: بعد الثلاثة أيام ترحل بنفسك، ولا توقع أخاك في الإثم بكراهة وجودك، أو بتقديم الطعام لك على غير نية صالحة، أو بأنك ثقيل على قلبه، أو توقعه في بغضك، ولا شك أن المسلم لا يتصف بهذا كله إلا لعلة وضرورة، فلا تكن أنت السبب في إيقاع أخيك في هذا الإثم، فقوله: (ولا يحل لأحد أن يؤثم أخاه) أي: يوقعه في الإثم بسبب المكث عنده أكثر من ثلاثة أيام، لكن هل هذا الحديث في البادية أم في المدينة؟ اختلف أهل العلم، والذي يغلب على ظني أن هذا في البادية؛ لأن البادية لا يتمكن المرء من مكان يقيم فيه، ولا من مطعم يطعم فيه، لكن في المدينة هناك المطاعم والفنادق وغير ذلك، فبإمكانك أن تنزل فيها.
كما أن في القاهرة والمدن الكبيرة هذه العادات مسألة في غاية العسر، خاصة إذا كان الضيف صعيدياً؛ لأن هذه أعراف، والحقيقة الإخوة الصعايدة المقيمون في القاهرة في غاية العنف والمشقة من هذا الأمر، إذ يأتيه أخوه من خارج البلد فيمكث عنده شهراً كاملاً.
وعندما يذهب للعمل يأخذ أخاه معه، فلو أنه أخذ أخاه ثلاثة أيام أو أربعة أيام معه في العمل فإن أصحاب العمل سيتحرجون جداً، فلا يقدمون طعاماً ولا شراباً، فيصبح قاعداً على الكرسي، وهكذا يثقل على أخيه؛ فلذلك ينبغي أن يكون حريصاً على خفته، فلا يجلس شهراً بلا هدف ومن غير مصلحة، إن جاء للزيارة مكث شهراً، وإن جاء لمصلحة مكث السنة كلها، وأخوه ماذا يفعل؟ هل يتركه مع امرأته في البيت؟ إذاً تقع المحاذير والانتهاكات الشرعية، وانتهاك الحرمات وغير ذلك، وإن قلت له: تعال معي العمل قال: هذا لا يأمنني، بل يعتبرني خائناً! فنقول: أفضل شيء هو تطبيق الشرع حتى وإن وجد في نفسه وغضب، فهذا دين الله سبحانه وتعالى، فلابد أن يقول المضيف: أكرمتك ثلاثة أيام وقدمت فروض الطاعة لك، وقد انتهت الثلاثة أيام.
والأنكى من ذلك أن الأسرة في البلد تتفق مع أسرة أخرى أو مع بعضها البعض أن كل ثلاثة أيام يزورون شخصاً! وصلى الله على نبينا محمد.(65/29)
شرح كتاب الإبانة - الرد على الواقفة الذين قالوا القرآن كلام الله ولم يقولوا مخلوق ولا غير مخلوق
لقد حذر العلماء من اتباع سبيل الجهمية وغيرهم من المبتدعة القائلين بخلق القرآن، وبينوا أن العقيدة السليمة في ذلك هي عقيدة أهل السنة والجماعة وهي إثبات أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، تكلم به سبحانه على الحقيقة بحرف وصوت يليق بجلاله سبحانه، وأنه غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن كلام الله، وسكت، فلا قال: هو مخلوق ولا غير مخلوق؛ فهو شر من الجهمية.(66/1)
باب الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق خلافاً للطائفة الواقفة والشاكة
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي عن إثبات أن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وبينا ذلك من الكتاب والسنة؛ إذ إنه في الأحاديث القدسية أن الله يتكلم بما شاء وكيف شاء ومتى شاء سبحانه وتعالى، فحينئذ القرآن الذي تكلم الله عز وجل ويتكلم به ولا تنفد كلماته ليس مخلوقاً؛ لأن الكلام صفة من صفات الله عز وجل، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.
ولو قلنا: إن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه لكان لزاماً أن نقول: إنه كان ليس قادراً على الكلام أولاً، فخلق في نفسه القدرة على الكلام فتكلم، وهذا القرآن إنما يحمل الأسماء والصفات، إذاً: كل الأسماء والصفات مخلوقة، فما يقوله الإنسان في صفة يلزمه أن يجري هذا الكلام في بقية الصفات؛ لأن الكلام في صفة هو كالكلام في جميع الصفات، فإذا كان الكلام مخلوقاً فجميع الأسماء والصفات مخلوقة، والذي يقول هذا مع إثبات كفره وإلحاده في أسماء الله تعالى وصفاته نقول له: إنه يلزمه أن يقول: إن الله تعالى ذات بغير صفات، وقلنا: إنه لا يتصور مطلقاً أن تكون ذات بغير صفات.
إذاً: إذا قال ذلك فإننا نقول له: كيف نتصور ذاتاً ابتداء بغير صفات؟ لابد أنه سيعجز عن الرد، ثم نقول له: لقد جعلت الله عدماً، والمعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً حتى يصير ذاتاً، وغير ذلك من هذه الفلسفات التي ينبغي أن يتنزه عنها المسلم.
كما قلنا في الدروس الماضية: إن القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق، والسلف رضي الله عنهم -أي: في زمن الصحابة وزمن التابعين- ما اضطروا إلى هذه الزيادة -غير مخلوق- لكن لما تكلم الجهمية بهذا الكلام الإلحادي الكفري اضطر السلف اضطراراً أن يقولوا: غير مخلوق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، ولم يقل لها: بذاته أم لا، فلما جاء الخلف وقالوا: الله تعالى في كل مكان، اضطر السلف أن يقولوا: الله تعالى في السماء بذاته، فهو استوى على العرش بذاته، وهو مع خلقه معية سمع وإحاطة ورعاية، وغير ذلك من بقية معاني صفاته سبحانه وتعالى.
إذاً: السلف ما قالوا: الله تعالى على العرش بذاته -وهم يعلمون أنه على العرش بذاته- ولم تكن هناك حاجة إلى أن يذكروا مصطلح: بذاته، حتى أتى من نفى أن الله تعالى استوى على العرش بذاته، فاضطر السلف أن يزيدوا في الرد على المبتدعة قول: بذاته، فقالوا: الله تعالى استوى على العرش بذاته، وكذلك السلف كانوا يقولون: القرآن كلام الله، وما كانوا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق؛ لأن الأمر مستقر عندهم أن القرآن صفة، وأن الكلام صفة من صفات الله، وهي غير مخلوقة، ولم ينازع في ذلك أحد من السلف، فما كان هناك حاجة إلى أن يقولوا: مخلوقة أو غير مخلوقة، فلما أتى من قال: القرآن كلام الله مخلوق، اضطر السلف أن يقولوا: بل القرآن كلام الله غير مخلوق، فاضطروا اضطراراً إلى ذلك، فمن الناس من قالوا: القرآن كلام الله مخلوق، ومنهم من قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من توقف، فلم يتكلم لا في مسألة القرآن ولا في مسألة اللفظ، وقالوا: لا نقول: مخلوق ولا غير مخلوق، وإنما نقول: القرآن كلام الله، وربما يتوهم السامع بهذا أن هؤلاء الواقفة أخذوا بالأصل الأصيل الذي ورد في كلام سلف الأمة من الصحابة؛ أنهم ما كانوا يقولون: لا مخلوق ولا غير مخلوق؛ لأنهم قالوا: القرآن كلام الله، وهذا كلام لا يختلف عليه أحد من أهل السنة، لكن هيهات أن يكون الأمر كذلك، إذ إنهم شر ممن صرحوا بأنه مخلوق؛ لأن بقية العلامات والأمارات لهؤلاء الواقفة تنبئ عن أنهم جهمية؛ لأنهم تبنوا أصول الجهمية فيما يتعلق بنفي رؤية الله عز وجل ونفي عذاب القبر وغير ذلك، أي: قالوا بما قالت به الجهمية، فلا يمكن حمل توقفهم في كلام الله عز وجل مخلوقاً أو غير مخلوق على بقية منهج الجهمية، ولذلك عقد الإمام ابن بطة الباب السابق والذي قبله لإثبات عقيدة أهل السنة والجماعة في كلام الله وأنه غير مخلوق، وساق الأدلة من القرآن في الباب الأول، وساق في الباب الثاني الأدلة من السنة النبوية وكلام الصحابة رضي الله عنهم على أن القرآن كلام غير مخلوق، لا يقول بغير ذلك إلا كافر.
ثم عقد الباب الذي نحن بصدده الآن للرد على الواقفة الذين توقفوا في قولهم مخلوق أو غير مخلوق، وإنما قالوا: القرآن كلام الله، ولم يقولوا: هو مخلوق أو غير مخلوق، فقال رحمه الله: [باب الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، خلافاً للطائفة الواقفة التي وقفت وشكت وقالت: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق].(66/2)
الآثار عن بعض السلف في أن القرآن كلام الله غير مخلوق
قال: [عن معاوية بن عمار سألت جعفر بن محمد -وهو ابن علي بن أبي طالب - فقلت: إنهم يسألوننا عن القرآن أمخلوق هو؟ فقال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله.
حدثنا ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28]، قال: غير مخلوق].
وهذا من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، والمعلوم أن علي بن أبي طلحة يروي التفسير عن ابن عباس، لكن روايته صحفية، أي: أن رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس صحفية يرويها علي عن ابن عباس، وابن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس ولم يره، ولذلك قال ابن كثير في هذه الآية: ((غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)): هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وهذا ربما يكون أحسن الأقوال.
قال: [حدثنا حموية بن يونس إمام مسجد جامع قزوين: بلغ أحمد بن حنبل هذا الحديث].
أي: عن ابن عباس في قول الله: ((قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)).
أي: غير مخلوق، [فكتب إلى جعفر بن محمد بن فضيل الرسعني: اكتب إلي بإجازته].
أي: أن الإمام أحمد يطلب من جعفر بن محمد أن يجيزه بهذا.
قال: [فكتب إليه بإجازته، فسر أحمد بن حنبل بهذا الحديث وقال: كيف فاتني عن عبد الله بن صالح هذا الحديث؟]؛ لأن الإمام أحمد تلميذ لـ عبد الله بن صالح، وعبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد، وكأن الإمام أحمد أخذ كل ما عند عبد الله بن صالح من حديث، فكيف فاته هذا الحديث؟ قال: [سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: الواقفة شر من الجهمية بعشرين مرة، هؤلاء شكوا في الله].
أي: الذين توقفوا وقالوا: لا نقول مخلوقاً ولا غير مخلوق، فهؤلاء شر من الجهمية الذين صرحوا وقالوا: القرآن كلام الله مخلوق بعشرين مرة؛ لأنهم شكوا في الله عز وجل.
إذاً: التوقف في إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق هو شك في صفات الله عز وجل، هل الله تعالى يتكلم أو لا يتكلم؟! هل يقدر على الكلام أو لا يقدر على الكلام؟! وبالتالي ما الفرق بين من شك في قدرة الله على الكلام ومن شك في قدرته على العلم أو الإرادة أو السمع أو البصر؟ ما الفرق بين أن يشك المرء في صفة من صفات ربه أو في كل الصفات؟ لا فرق، ولذلك فالواقفة شر من الجهمية الذين صرحوا بأن القرآن مخلوق عشرين مرة؛ لأنهم شكوا في قدرة الله عز وجل على الكلام.
وفي رواية من طريق أبي داود: هؤلاء يقولون: القرآن كلام الله عز وجل ويسكتون شر من هؤلاء، يعني: الذين قالوا: القرآن مخلوق.
وفي رواية عن السلف: من وقف في القرآن أنه كافر، وقالوا: جهمي.
لأن الشك في الصفة شك في الموصوف؛ لأن الذي يشك في صفة من صفات الله فقد شك في الله، وكانوا يستحقون بذلك أن يكونوا شراً من الجهمية؛ لأن كلامهم يتضمن نوعاً من الخداع حيث يحتمل اعتقادهم بأن القرآن مخلوق، ولكنهم أخفوا هذا الاعتقاد بستار التوقف، ولأن مجرد توقفه عن التصريح بأن القرآن غير مخلوق، يعني: أنه شاك في الأمر، فهو يشك في هذا الأمر وفي هذه الصفة.(66/3)
الآثار الواردة عن أحمد بن حنبل في إنكاره على الواقفة واعتقاده أن القرآن كلام الله غير مخلوق(66/4)
الحكم على الواقفة
قال: [وعن أبي بكر بن هانئ -وهو من أكابر تلاميذ الإمام أحمد - قال: أتينا أحمد بن حنبل أنا والعباس بن عبد العظيم العنبري -وهو كذلك من كبار تلاميذ أحمد - فسألناه عن أشياء فذكر كلاماً، فقال العباس: وقوم هاهنا قد حدثوا -أي: قد ظهر قوم في بغداد قد أحدثوا أمراً عجيباً- يقولون: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وهؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم؛ فإن تقولوا: ليس بمخلوق، فقولوا: هو مخلوق، فقال أبو عبد الله: قوم سوء هؤلاء، قوم سوء، فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: والذي أعتقده وأذهب إليه -أي: وهو معتقدي- ولا أشك فيه: أن القرآن غير مخلوق، ثم قال: سبحان الله! ومن يشك في هذا؟].
أي: ومن يشك في أن القرآن كلام الله غير مخلوق؟! [ثم تكلم أبو عبد الله بكلام مستعظماً للشك في ذلك، فقال: سبحان الله! في هذا شك؟ قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، ففرق بين الخلق وبين الأمر، وقال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، فجعل يعيدها] ولم يقل: الرحمن خلق القرآن، وإنما قال: علم، إذاً: القرآن من علم الله، وعلم الله ليس مخلوقاً، إذ إن علم الله أزلي أبدي لا أول له ولا نهاية، أما المخلوق فقال الله تعالى فيه: {خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:3]، إذاً: الإنسان مخلوق، أما القرآن فليس مخلوقاً.
قال: [فالقرآن من علم الله، وفيه أسماء الله لا نشك أنه غير مخلوق، وهو كلام الله، ولم يزل الله متكلماً].(66/5)
الواقفة أشد خداعاً للعامة من الجهمية
قال: [حدثنا أبو الحارث الصائغ قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فقلت: إن بعض الناس يقول: إن هؤلاء الواقفة شر من الجهمية؟ قال: هم أشد تربيثاً -أي: خداعاً وتمويهاً وتدليساً على العامة- من الجهمية، وهم يشككون الناس؛ وذاك أن الجهمية قد بان أمرهم].
كما أن المنافق أخطر على الإسلام وأهله من الكافر؛ لأن الكافر قد علم أمره وبان وظهر، وللناس أن يعاملوه على هذا الأساس، لكن لو أن الإنسان منافقاً ظاهره الإسلام، فليس لنا منه إلا الظاهر، أما الباطن فيحاسبه عليه الرب يوم القيامة، لكن المضرة قادمة من قبله.
قال: [وذاك أن الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء إذ قالوا: لا يتكلم؛ استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية].
أي: الذي يقول: القرآن كلام الله ثم يتوقف ولا يقول: مخلوق ولا غير مخلوق، مآلهم أن يقولوا في نهاية أمرهم إذا فضحوا: مخلوق.
[قال أبو الحارث: وسمعت أبا عبد الله سئل عمن قال: أقول: القرآن كلام الله وأسكت.
قال: هذا شاك، لا، حتى يقول: غير مخلوق].
يعني: لا نقبل منه التوقف حتى يصرح بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى لا يقول أحد من الإخوة: أنا سأعمل مثل ما عمل الصحابة، فقد كانوا يقولون: القرآن كلام الله ويسكتون، نعم سكتوا إذ لم تكن هناك فتنة، فلما قامت الفتنة كان لابد من التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل، وبالتالي لا يقبل منك حتى تصرح بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما لا يقبل منك حتى تقول: الله استوى على العرش بذاته، وينزل ويجيء؛ ينزل إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الآخر، ونزوله إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه سبحانه وتعالى، وهذه لابد أن تكون هذه عقيدة المسلمين.(66/6)
أصناف المبتدعة في القرآن
قال: [قال: حدثنا أبو طالب أحمد بن حميد قال لي أبو عبد الله: صاروا ثلاث فرق في القرآن]، أي: صار الناس المبتدعة في القرآن ثلاث فرق [قلت: نعم هم ثلاث: الجهمية والواقفة واللفظية].
الجهمية المصرحة بأن القرآن كلام الله مخلوق.
والواقفة الذين ما قالوا: مخلوق ولا غير مخلوق.
واللفظية الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
[فأما الجهمية فهم يكشفون أمرهم، يقولون: مخلوق.
قال: كلهم جهمية] أي: المصرحة والواقفة واللفظية [هؤلاء يستترون، فإذا أحرجتهم كشفوا الجهمية] أي: أن الواقفة يستترون خلف التوقف، ويتمسكون بظاهر الأمر على ما كان عليه سلف الأمة [فإذا أحرجتهم كشفوا أمرهم فكلهم جهيمة، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]]، فهل يتصور أن هذا الكلام لم يعرفه الله تبارك وتعالى ولم يعلمه قبل ذلك حتى خلقه وكلم موسى؟ أو هل يتصور أن الله تعالى خلق كلاماً في الهواء أو في الشجر أو فوق الجبل فسمعه موسى؟ لا يتصور، بل المتصور هو العقيدة السليمة الصحيحة أن الله تعالى تكلم مع موسى، فسمع موسى صوت الله عز وجل، والله تعالى تكلم بحرف وصوت.
قال: [وقال الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فيسمع مخلوقاً وجبريل جاء إلى النبي بمخلوق!].
أي: هل جبريل عليه السلام لما جاء إلى النبي بالوحي أتاه بمخلوق أم بصفة من صفات الله؟ بصفة من صفات الله عز وجل.
قال: [قال أبو طالب: وسمعته، يعني أحمد يقول: من شك فقد كفر].
وفي رواية عنه قد ذكرناها: من قال: مخلوق فقد كفر.
إذاً: الكفر يلحق كل من توقف في القرآن الكريم أو صرح بأنه كلام الله مخلوق.
قال: [قال أبو طالب: وجاء رجل إلى أبي عبد الله وأنا عنده، فقال: إني لي قرابة يقول بالشك].
أي: لي أحد الأقارب يشك في أن القرآن كلام الله أو غير كلام الله.
قال: [فقال وهو شديد الغضب: من شك فهو كافر، وقال رجل: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، قال: فقال: هذا قولنا: من شك فهو كافر، فقال له الإمام أحمد بن حنبل: جزاك الله خيراً].
وكأنه يقره على هذه العقيدة.
قال: [سمعت أحمد بن حنبل يقول: اللفظية والواقفة زنادقة عتق].
أي: قديمين في الزندقة والإلحاد.
قال: [قال عباس الدوري: كان أحمد بن حنبل يقول: الواقفة واللفظية جهمية].
أي: الذين توقفوا فلم يقولوا مخلوق أو غير مخلوق، وكذلك الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
قال: [حدثنا أبو بكر المروذي قال: سمعت الإمام أبا عبد الله يقول: من لم يقل: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو يحل محل الجهمية].
قال: [المروذي أبو بكر: قال لي أبو عبد الله: أول من سألني عن الوقف علي الأشقر].
وفي الحقيقة المحقق يقول: لم أجد له ترجمة، ولو قرأ النص في المخطوط صحيحاً لعرف ترجمته، إذ إنه علي الأشتر بالتاء لا بالقاف، فتصحف للتاء عند قارئ المخطوط قافاً، فلا شك أنه لم يتوصل إلى ترجمة علي الأشتر، وعلي الأشتر من كبار المبتدعة ومن كبار الجهمية.
قال: [فقلت له: القرآن غير مخلوق].
قال: [قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: افترقت الجهمية على ثلاث فرق: الذين يقولون مخلوق، والذين شكوا، والذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة].(66/7)
الموقف من الشاك في كون القرآن غير مخلوق
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: لا تقل هؤلاء الواقفة، هؤلاء الشاكة].
يعني: أن الاسم الصحيح لهم أنهم الشاكة، فقد شكوا في الله عز وجل.
قال: [قال المروذي: وسألت أبا عبد الله عمن وقف لا يقول غير مخلوق، وقال: أنا أقول: القرآن كلام الله، قال: يقال له: إن العلماء يقولون: غير مخلوق، فإن أبى، فهو جهمي].
أي: من أتاك وقال لك: أنا أقول: القرآن كلام الله، وهذا الذي يجب علي، فقل له: إن العلماء بعد الفتنة صرحوا بأنه غير مخلوق، فإذا توقف في ذلك ولم يقل: غير مخلوق، فقل له: إنك جهمي.
قال: [قال أبو بكر المروذي: قدم رجل من ناحية الثغر] والثغر هو آخر نقطة بين ديار الإسلام وأرض العدو، ويتوقع أن يدخل منها العدو، وتسمى أيضاً بأرض الرباط.
قال: [قال: قدم رجل من ناحية الثغر فأدخلته على الإمام أحمد، فقال: ابن عم لي يقف وقد زوجته ابنتي].
أي: ابن عم لي يتوقف فلا يقول: مخلوق ولا غير مخلوق، وقد زوجته ابنتي.
قال: [وقد أخذتها وحولتها إلي].
أي: لما بلغني أنه توقف أخذت ابنتي منه وأدخلتها في داري على أن أفرق بينهما.
قال: [فهل أنا مصيب حينئذ؟ قال الإمام: لا ترضى منه حتى يقول: غير مخلوق، فإن أبى ففرق بينهما].
إذاً: هذه المسألة ليست مسألة سهلة، فقد حكم الإمام أحمد بالكفر وأنه جهمي ومخالف ومحاد لله ورسوله وشاك في الله عز وجل وفي صفاته، وأنه لا يحل له أن يتزوج المسلمة، وإذا كان متزوجاً لها فيجب التفريق بينهما، وأنه لا يصلى عليه ولا يجهز ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومن صلى خلفه وجبت عليه إعادة الصلاة، وهذه أحكام المرتد.
قال: [قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد بن عبدة يقول: ما أبالي شككت في القرآن غير مخلوق أو شككت في الله عز وجل].
أي: أنه يقول: ما الفرق بين أن أشك في ذات الله وأن أشك في صفة من صفاته؟ قال: ما أبالي إذا كنت أشك في صفة أو في ذات الله عز وجل؟ فهذا كفر وذاك كفر.
قال: [قال أبو داود: وسمعت إسحاق بن راهويه -وهو من أئمة السلف- يقول: من قال: لا أقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق؛ فهو جهمي.
وقال قتيبة بن سعيد [قيل له: الواقفة؟ فقال: هؤلاء الواقفة شر من الجهمية] أي: من الجهمية الذين صرحوا بأنه مخلوق، [قال: هؤلاء الذين يقولون: كلام الله ويسكتون شر من هؤلاء] يعني: ممن قال: مخلوق.(66/8)
إنكار أحمد بن صالح المصري على من قال القرآن كلام الله وسكت
قال: [قال أبو داود: سألت أحمد بن صالح المصري].
وأحمد بن صالح من كبار أئمة السلف، وصاحب سنة، ثقة إمام جليل، آذى النسائي نفسه بالكلام فيه، وأين النسائي من أحمد بن صالح؟ وليس من باب العصبية؛ لأن أحمد بن صالح مصري، لكن أحمد بن صالح المصري كان في زمانه كـ الليث بن سعد، فقد كان يأتيه الناس من بلاد العالم، لكن لم يكن يأذن لأحد في مجلسه إلا بعد أن يختبر عقيدته، فقد كان شديداً في السنة وشديداً على أهل البدع، وكان إذا بلغه أن رجلاً أتى من خراسان أو الشام أو المغرب أو الأندلس أو من أي مكان اختبره وخاصة في مسائل الفتن، في مسألة القرآن، في مسألة الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم، إذ ربما يكون عدواً لـ علي بن أبي طالب، أو عدواً لـ معاوية أو غير ذلك، فإذا كان ممن يتكلم في هذه المسائل بغير ما تكلم به السلف كان يطرده عن مجلسه ولا يأذن له قط.
ولذلك الإمام النسائي كان يعرف قدر أحمد بن صالح المصري، والإمام النسائي صاحب السنن كان فيه شيء من التشيع، وقيل: إنه رجع عنه، لكن الذي ثبت عنه أولاً أنه كان فيه شيء من التشيع، فلما قدم النسائي من بغداد إلى مصر وبلغ أمره إلى أحمد بن صالح المصري قال: يا أبا عبد الرحمن! لا تجلس في مجلسي قط ولا تحدث عني، فكان يجلس الإمام النسائي خارج المسجد ويقول: قرئ على أحمد بن صالح وأنا أسمع؛ لأنه يحرم عليه أن يقول: حدثني أحمد بن صالح؛ لأنه لم يحدثه، أو سمعنا أو سمعت؛ لأن ذلك لم يحدث، وإنما كان يقرأ المستملي على الإمام أحمد بن صالح ويسمع الإمام النسائي وهو خارج المسجد، فكان يقول: قرئ على أحمد بن صالح وأنا أسمع، وما أجازه بالرواية عنه قط؛ لأنه طرده، فلما طرده أطلق الإمام النسائي لسانه في أحمد بن صالح المصري.
قال الذهبي: أحمد بن صالح المصري إمام ثقة جليل ثبت، قد أخطأ من تكلم فيه، وآذى النسائي نفسه بالكلام فيه، وهو صاحب سنة.
قال: [قال أبو داود: سألت أحمد بن صالح المصري عمن يقول: القرآن كلام الله، ولا يقول: مخلوق ولا غير مخلوق، قال: هذا شاك].(66/9)
تواطؤ أقوال السلف على تكفير الواقفة وأنهم شر من الجهمية
قال: [وعن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن مقاتل العباداني، وكان من خيار المسلمين يقول في الواقفة: هم عندي شر من الجهمية].
فانظر إلى هذا الكلام الكثير جداً من كلام السلف يدل على مسألة واحدة حتى تكاد ألفاظهم أن تكون متقاربة، إذ إن الكل متفق على أن الواقفة شر من الجهمية، والواقفة كفار، واللفظية جهمية، والجهمية كفار، وكلهم يقولون قولاً واحداً، وبإمكاننا أن نسرد ألف نص عن السلف بلفظ واحد: الواقفة شر من الجهمية، وكلهم يقولون هذا؛ لأن الحق واحد لا يتعدد، والباطل كثير.
[قال أبو بكر المروذي: سألت عباساً النرسي عن القرآن، فقال: نحن ليس نقف؛ نحن نقول: القرآن غير مخلوق].
أي: لا نتوقف في ذلك، بل نقول: هو كلام الله غير مخلوق.
قال: [وسألت عبيد الله بن عمر القواريري عن الواقفة، فقال: شر من الجهمية، وسألت يحيى بن أيوب عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية، وسألت إبراهيم بن أبي الليث عن الواقفة، فقال: هم كفار بالله العظيم، لا يزوجوا ولا يناكحوا].
أي: إذا أتاك واحد منهم لينكح ابنتك فلا تفعل.
قال: [وسألت محمد بن عبد الله بن نمير عن الواقفة فقال: هم شر من الجهمية، وقال: هذا والوقف زندقة وكفر.
وسألت أبا بكر بن أبي شيبة عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية.
وسألت عثمان بن أبي شيبة -أخو أبي بكر - عن الواقفة فقال: هم شر من الجهمية].
وهكذا كلما ننقل عن واحد من السلف نجد نفس الكلام: الواقفة شر من الجهمية.
قال: [وسألت ابن أبي معاوية الضرير عن الواقفة، فقال: هم مثل الجهمية أي: هم منهم.
قال: [وسألت هارون بن إسحاق الهمداني فقال: هم شر من الجهمية، وسألت أبا موسى الأنصاري عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية، وسألت سويد بن سعيد الأنباري فقال: هم أكفر من الحمار].
وهذا مصطلح جديد، لكننا بلا شك لا نقول بكفر الحمار، وأنا قلت لكم قبل ذلك أن رجلاً سأل وقال: أنا أريد أن أعرف هل الحمار مسلم أم كافر؟ فقال: الحمار على ملة صاحبه، وهذا كلام لا ذيل له ولا رأس، وإنما خرج مخرج الضجر الشديد، والضيق الشديد جداً، ربما لاحتدام الفتنة، ثم هل الحمار كفر من أجل أن نقول: أكفر منه؟ لا، يريد أن يقول: هؤلاء أغبى من الحمار، وإذا جاز للحمار أن ينطق ويتكلم بعقيدته ما قال قولهم ولا توقف مثل توقفهم، وهذا معنى: أنه أكفر من الحمار.
قال: [وسألت أبا عبد الله بن أبي الشوارب عن رجل من الواقفة سئل عن وجه الله].
أي: هل الوجه صفة من صفات الذات أم لا؟ [سئل رجل من الواقفة عن وجه الله عز وجل أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقال: لا أدريس].
أي: أنه كذلك شاك في وجه الله عز وجل، والذي يشك في كلام الله يشك في ذات الله، وهو طريقه لابد.
قال: [قال: لا أدري، فقال: هذا من الشاكة، أحب إلي أن يعيد الصلاة].
يعني: من صلى خلفه.
[وقال سلمة بن شبيب: دخلت على أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله! ما تقول فيمن يقول: القرآن كلام الله؟ فقال أحمد: من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق فهو كافر، ثم قال لي: لا تشكن في كفرهم، فإنه من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو يقول: مخلوق، فهو كافر].
أي: الذي يتوقف في أنه غير مخلوق لابد أنه يلزمه أن يقول: مخلوق، وإذا قال: مخلوق، فقد كفر.
ولا شك أن النصوص الواردة عن الإمام أحمد بن حنبل فيما يتعلق بفتنة القرآن الكريم كثيرة جداً، فربما تبلغ المئات أو يزيد عن ألف نص، ولك أن تتصور أنه في أيام المحنة يدخل عليه الواحد تلو الواحد، والرجل تلو الرجل، والمرأة تلو المرأة، والصبي تلو الصبي، والسلطان تلو السلطان، يسألونه ما تقول في القرآن؟ سؤال واحد والسائلون مئات وآلاف، فماذا يكون موقفه؟ وكيف تكون نفسيته عندما يسأله الآلاف سؤالاً واحداً؟ إن الواحد منا عندما يسأل سؤالاً ويجيب عنه مرة بالتفصيل، ويسأل بعده مباشرة عن نفس السؤال، فإذا به يقول: قد أجبنا عليه فلا داعي للإعادة مرة أخرى، فيضيق صدر الشخص منا لإعادته، وهذه هي طبيعة البشر وطبيعة الخلق، حتى في الكتابة، وانظر في أي جهد لأي عالم من العلماء.
وانظر إلى الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم إذ تجد فيه الكلام عن الإيمان والصلاة والوضوء والطهارة وغير ذلك، وهو كلام متين جداً وطويل، ويستوعب الإسناد بحثاً وإسناداً وترجمة وغير ذلك، وذكر مناقب الرواة، ثم بعد ذلك بدأ الإمام النووي يتساهل ويختصر، حتى تأتي إلى الحديث الذي يحتاج إلى كلام في عشرات الورقات يختصره في صفحة واحدة أو نصف صفحة؛ لأنه مل، وهذه طبيعة الخلق.
وانظر إلى جهد الحافظ ا(66/10)
بعض كلام الإمام أحمد في الواقفة
قال: [قال أبو بكر أحمد بن هارون: حدثنا عبد الله ابن الإمام أحمد، قال: سمعت أبي رحمه الله وسئل عن الواقفة، فقال: من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي].
أي: من كان منهم يعرف معنى ما يتكلم به، ويقصد حقيقة الكلام، فهو جهمي، مع أن هذه المسألة مقطوع بها عند السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر.
قال: [لما قيل لـ أبي عبد الله: ما الواقفة؟ قال: أما من كان لا يعقل فإنه يبصر].
أي: أن الإنسان الجاهل الذي لا يعلم خطورة هذا القول يعلم ويبصر بحقيقة الأمر، وقد تجد أناساً كثيرين جداً لا يفهمون، وهنا الآن أرسل شخص برسالة يقول فيها: نريد أن نعلم ما معنى لفظية؟ وقبل أن نتكلم عن مسألة خلق القرآن شخص يتكلم ويقول: ما معنى القرآن مخلوق؟ وما خطورة أنه مخلوق؟ وحينئذ ينبغي أن يعلم الجاهل، وأن يعذر حتى يعلم، فإن تعلم لم يكن له عذر بعد ذلك في التوقف أو في إثبات أن القرآن كلام الله مخلوق.
قال: [وقال مهنا بن يحيى: قلت لـ أحمد بن حنبل: أي شيء تقول بالقرآن؟ قال: كلام الله وهو غير مخلوق.
قلت: إن بعض الناس يحكي عنك أنك تقول: القرآن كلام الله وتسكت].
فانظروا إلى المفترين في زمن الإمام أحمد! ولذلك فإن أعظم فتنة تعرض لها الإمام هي مسألة الوقف واللفظ ومخلوق: وقوله: (وتسكت).
أي: أنه من الواقفة.
قال: [قال الإمام: من قال علي ذا فقد أبطل].
أي: تكلم بالباطل.
قال: [يقول الدورقي: سألت أحمد بن حنبل فقلت: فهؤلاء الذين يقولون: نقف ونقول كما في القرآن، كلام الله ونسكت، قال: هؤلاء شر من الجهمية، إنما يريدون رأي جهم].
[وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يقف، قال: هو عندي شاك مرتاب].
[قال محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية: سألت أحمد بن حنبل عن القرآن، فقال: إياك ومن أحدث -أي: ابتدع- فيه، فقال: أقول: كلام الله ولا أدري مخلوق أو غير مخلوق؟ من قال: مخلوق فهو ألحن بحجته من هذا -أي: قد أبان حجته وإن كانت باطلة، لكن على أية حال فلديه حجة- وإن كانت ليست لهما حجة ولله الحمد].
قال: [عن الحسن بن ثواب المخرمي قال: قلت لـ أبي عبد الله أحمد بن حنبل: الواقفة؟ قال: صنف من الجهمية استتروا بالوقف].
وأنتم تعلمون أن التوقف دائماً شر، وتعلمون أن جماعة من الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة اسمها: جماعة التوقف والتبين؛ وسميت بالتوقف لأنها تتوقف عن إثبات حكم الإيمان أو الكفر لأي أحد مهما كان إلا إذا تبين لها أنه مؤمن، وهذا بلاء عظيم جداً لا ندري من أين جاءوا بهذا؟! وهذا الذي يتوقف في إثبات حكم إسلامي للمسلمين لا شك أنه فرع عن التكفير، أي: أن التوقف والتبين فرع عن التكفير.
وتصور أنه يرى الناس وقت الأذان يخرجون من بيوتهم ويدخلون في بيوت الله عز وجل، ومع هذا لا يحكم لهم بالإسلام إلا أن يتبين له بعد نقاش وحجج وسوق أدلة أنهم مسلمون، ويرى الناس يصلون في بيوت الله عز وجل فلا يحكم لا للإمام ولا للمأمومين بالإسلام إلا أن يتبين له شخصياً أنهم من أهل الإسلام! بلاء عظيم جداً، والحمد لله أن هذه الفتنة كثير منكم لم يدركها، كثير من الشباب الصاعد لم يدركها، بل كان هذا في وقت من الأوقات في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات! كان بلاءً وشراً مستطيراً، ولذلك أحداث (1981م) بفضل الله عز وجل رغم ما كانت تحمل من محن شديدة جداً إلا أنها أسفرت عن معادن الناس في ذلك الزمان، والذي تربى حقيقة إنما تربى قبل هذا التاريخ، ومن تربى بعده فلا شك أنه لم يدرك تلك المعارك التي صقلت أبناءها في ذلك الوقت، ولذلك لما دارت فتنة التوقف كنا قبل (1981م) يمشي الواحد منا في طريق وعلى الجانب الآخر من الطريق أخ أو شبه أخ، فيمر الواحد إلى الناحية الأخرى ويعرض نفسه للطيارات والخطر من أجل أن يقابله ويقول: السلام عليكم يا أخي! كيف حالك؟ ما هو اسمك؟ وأين تسكن؟ وإلى أين تذهب؟ فيتعرف عليه وعلى أبيه وأمه وزوجته وأولاده وشغله، وإلى أين هو ذاهب، ومن أين أتى في الطريق، والآن الأخ ربما يصطدم رأسه برأس أخيه ولا يقول له: السلام عليكم، فهذا حاصل الآن؛ وما هذا إلا أثر طبيعي في التوقف، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، يعني: من المسلمين، إلا أن يتبين لك أو تعلم مطلقاً أن هذا كافر، أي: أن هذا الرجل ليس من المسلمين، بل هو من الكفار، فلا تبدأه بالسلام، وإن سلم عليك فقل: وعليك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في أهل الكتاب، أو في الكفار عموماً.
فالذي يقابلني وهيئته ومنظره يدل على أنه مسلم فهو أحسن مني، ثم ما الذي يمنعني أن أسلم عليه، وقد ترى أخاً ينظر إليك بمنتهى الغلظة والجفاء والخشونة حتى لو أنك ناو أن تقول له: السلام عليكم، إن الدين هو المعا(66/11)
فتوى الإمام أحمد بمقاطعة ذوي الأرحام القائلين بالوقف
قال: [حدثنا محمد بن أبي حرب الجرجرائي قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له والد واقفي -أي: عن رجل له والد ممن يتوقف في القرآن- قال: يأمره ويرفق به -أي: يأمره بكلام أهل الحق ويرفق به؛ لأنه أبوه- قلت: فإن أبى؟ قال: يقطع لسانه عنه] أي: يهجره ويخاصمه مع أنه أبوه.
قال: [وسألت أبا عبد الله عن رجل له أخت أو عمة ولها زوج واقفي؟ قال: يأتيها ويسلم عليها -أي: له أن يذهب إلى بيتها ويسلم عليها- قلت: فإن كانت في الدار له -أي: لزوج العمة أو لزوج الأخت- قال: يقف على الباب ولا يدخل].
فانظروا إلى أي درجة؟! يقف على الباب ولا يدخل! قال: [حدثنا أحمد بن أصرم المزني المغفلي، قال: سمعت أبا عبد الله وقال له رجل له أخ واقفي: فأقطع لساني عنه؟ قال: نعم، مرتين أو ثلاثاً].
أي: أنه قال: نعم مرتين أو ثلاثاً.
[قال حدثني الحسين بن حسان، سمع أبا عبد الله، سأله الطالقاني عن الواقفة فقال أحمد: لا يجالسوا ولا يكلموا].
ونحن قبل ذلك عندما كنا نتكلم عن الموقف من أهل البدع في أول الكتاب قلنا: إن أئمة الدين أبوا الجلوس مع أئمة البدع والضلالة، بل والتحادث إليهم، لكن الآن عندما يظهر شخص من أهل البدع ترى الناس يقولون: لماذا يا شيخ لا تذهب وتناقشه؟! يا أخي! لا يصح أن نناقشهم ولا أنت، ولذلك افرض أن عنده شبهات وضلالة، فماذا ستكون النتيجة؟ مع أنه ليس مطلوباً منك كل هذا، وإنما المطلوب منك أن تهرب من مواطن الفتن، وأنا قد أخذت ما هو واجب علي، فلا أتعرض له ولا أجالسه ولا أحدثه؛ لأنني أخاف على نفسي، أما أنت كطالب فما زلت مبتدئاً لا شيء عندك من الحصانة العلمية، ثم تريد أن تناقش رأساً في الضلالة؟ أنت كذلك ستقول: لا، لابد من المناظرة، ثم لماذا يا شيخ تخاف من ذلك؟ يا أخي لست خائفاً منه، لكني خائف على نفسي، هو لن يقتلني ولن يؤذيني إلا في عقيدتي، فأنا أهرب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، يقول: لا، إن الواجب عليكم أن تبينوا الحق للناس، فأقول له: وهل هذه الفلسفة التي تقولها خفيت على سلف الأمة عندما امتنعوا عن محادثة أهل البدع؟ لم تخف عنهم، لكنه الأصل الأصيل الذي هو بناء السد بينك وبين الفتن، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.(66/12)
هجر أهل العلم للواقفة وعدم السلام عليهم
قال: [قال يوسف بن موسى القطان: قيل لـ أبي عبد الله: فمن وقف ماذا نصنع معه؟ قال: يقال له في ذلك -أي: يعلم- فإن أبى هجر].
[قال أبو عبد الله لما سئل عن الواقفي إذا كان يخاصم -أي: إذا كان صاحب حجة ولسان وبيان- لا يكلم ولا يجالس].
فإذا كان صاحب حجة وبيان ومستعد لأن يناظر فهذا الذي لا يناظر ولا يكلم، بل يهجر ويخاصم.
إذاً: الذي يكلم الجاهل المغرر به، هذا الذي يقال له: أنت جاهل، وهذا الذي تسلكه إنما هو كلام أهل البدع وأهل الضلال، أما كلام أهل الحق فهو كيت وكيت، فهذا الجاهل الذي لا حجة لديه، وإنما هو من عموم رعاع أهل البدع، أما الذي يخاصم ويجادل ويماحل عند العجز فهذا لا يجالس ولا يكلم.
قال: [وقال: على كل حال من الأحوال؛ القرآن غير مخلوق، وسأله رجل عن الشاكة: هل يسلم عليهم؟ أو أيرد على الرجل منهم؟ قال: إذا كان ممن يخاصم ويجادل فلا أرى أن يسلم عليه].
قال: [قال إسحاق: وشهدت أبا عبد الله وسلم عليه رجل من الشاكة، فلم يرد عليه السلام، فأعاد عليه السلام، فدفعه أبو عبد الله ولم يسلم عليه].
أي: دفعه في صدره دفعة قوية ولم يسلم عليه.
قال: [قال داود بن رشيد: من زعم أن القرآن كلام الله وقال: لا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق، فهذا يزعم أن الله عز وجل لم يتكلم ولا يتكلم].
قال: [قال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله يقول: ولا نرضى أن يقول: كلام الله ويسكت حتى يقول: إنه غير مخلوق].
وجاء عن عبيد الله بن معاذ: [لو علم الواقفة أن ربهم غير مخلوق لما وقفوا]؛ لأن الكلام يا إخواني! في الصفة فرع عن الكلام في الذات، فالذي يقول: القرآن كلام الله مخلوق كأنه يقول: الله مخلوق، والذي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق يثبت أن الله تعالى غير مخلوق، والله تعالى هو خالق كل شيء وليس مخلوقاً: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، ((لَمْ يَلِدْ)) أي: ليس أباً لأحد، ((وَلَمْ يُولَدْ)) أي: ليس ابناً لأحد؛ لأنه الخالق سبحانه وتعالى الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجهم وحاجاتهم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(66/13)
الأسئلة(66/14)
الجمع بين الآثار الواردة عن السلف في مناظرة أهل البدع والآثار المحذرة من ذلك
السؤال
قلتم: إنه لابد من عدم مجالسة ومخاطبة المبتدعة، فما حكم المناظرات كمناظرة الشيخ أحمد في ذلك؟
الجواب
يا أخي الكريم لو أنك أدركت معنا شيئاً من مقدمة الكتاب في حكم التعامل مع أهل البدع لوجدت أن سلف الأمة أحياناً ينهون عن مجالسة أهل البدع، وأحياناً يجالسون أهل البدع ويناظرونهم، وفي الوقت نفسه يحذرون منهم، فهم لهم مواقف عدة مع أهل البدع، أحياناً يذهب الرجل إلى موطن أهل البدع فيناظرهم، كما فعل ابن عباس عندما ذهب إلى الخوارج ورجع بألفين منهم وقيل: أربعة آلاف، أيضاً عمر بن عبد العزيز ناظر أهل البدع وخاصمهم وألزمهم الحجة، والإمام الشافعي خاصم بشر المريسي وناظره وأقام عليه الحجة، والإمام الدارمي ناظر أهل البدع وصنف كتاباً في الرد على الجهمية، وغير ذلك من مواقف السلف الكثيرة جداً.
وأحياناً نجد أن ابن سيرين لا يرضى قط بسماع أهل البدع فضلاً أن يناظرهم؛ لأن ابن سيرين يعلم أن هذا ليس فرض عين عليه؛ لكثرة العلماء في زمانه، وأن الحق ظاهر دائماً، فلا يلزمه حينئذ، والأمر على الكفاية، أي: دحض حجج أهل البدع، فإذا قام به فلان وفلان وفلان فهل يلزم بقية أهل العلم؟ لا يلزمهم، وأحياناً هذه النصوص التي ترد بالنهي عن مجالسة أهل البدع محمولة على هذا المعنى؛ وذلك أن كبار أهل العلم في الزمان الفلاني والمكان الفلاني قد قاموا بهذا الواجب فلا يلزمني أن أقوم به، إذ لا يلزم الناس جميعاً أن يردوا على صاحب البدعة، فإذا ظهر هذا على لسان عالم واحد فقط كفى، وإذا لم يظهر إلا بثلاثة أو أربعة وجب على الناس أن يتكلموا في ذلك حتى يظهر الحق ويخمد الباطل.
وهذه الكلمات التي قد أتتنا تنهى عن مجالسة أهل البدع إنما هي من باب أن الرد عليهم فرض كفاية، وقد قام وسقط الحرج عن الأمة، فلا ينبغي بعد ظهور الحق وبيان الباطل أن يتصدى الناس لسماع الباطل، وهذا وجه.
الوجه الثاني: أن نهيهم لنا عن مجالسة أهل البدع والتصدي لهم إنما هو نهي للعامة دون الخاصة، ولذلك الآن جماعة التكفير أكثر جماعة تطلب المناظرة، وأكثر جماعة كانت أهل مجادلة ومخاصمة ومماحلة في الباطل؛ لأنهم يناقشون بلا دليل، بلا عقل، بلا أدب، وقد أخذوا حقهم من المناظرة وبيان الحجة ما لو كان في عالم الكلاب أو الحمير لسلمت الكلاب والحمير بأن المخاصم معه الحق، وهم إلى الآن لم يقولوا بأن أهل السنة على الحق إلا من تاب منهم ولنا منه الظاهر، فمثلاً في ناظرهم الإمام أحمد بن حنبل يقولون: نحن نقول كما قال الله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، ونحن نقول: إن القرآن هذا كلام الله فقط، ولم يأت في القرآن أنه مخلوق ولا غير مخلوق، فنحن نتوقف عند الحد الذي توقف عنده القرآن الكريم، وهذا كلام ظاهره جميل، لكن الإمام أحمد بن حنبل يفهم مغزى هذا الكلام، إذ إنه يؤدي إلى التجهم، وما كان لينطلي عليه هذا، لكن هذا ينطلي على العامة؛ لأن صاحب البدعة دائماً يزين كلامه وينمقه ويحسنه ويجمله؛ لأنه يعلم أن بضاعته أو أن وجهه القبيح لا يدخل على العامة إلا بهذا التزييف وهذا التجميل والتحسين.
أما أهل العلم فهم يعلمون الخطر بمجرد أن يسمعوا الخبر، فلا يتوقفون في إثبات أن هذا من أمور البدع والمحدثات، فيسأل العامة أهل العلم فيقولون: كيف هو من البدع؟ إنكم تسيئون الظن بأهل العلم، وغير ذلك من الكلام الفارغ، كما لو أن رجلاً من الناس كبير جداً ويشغر منصباً عظيماً ويتكلم بلباقة، فإنه لا ينطلي على أهل العلم.
وأضرب لذلك مثالاً: رجل في هذا الزمان رحمه الله مات منذ عدة سنوات، كان بليغاً حصيفاً له في تفسير وشرح كلام الله عز وجل باع طويل، لكن لا علاقة له بالحديث ألبتة، فلو أتيت له بكلام من كتاب شرشر وصدرته: بقال رسول الله، وعقبته: بصدق رسول الله، وألقيت إليه الورقة، لذهب في التلفزيون وعلى حلقتين أو ثلاث يشرح هذا الكلام على أنه من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سألك العامة عنه، ماذا تقول في فلان؟ إذا قلت: هو في الحديث حاطب ليل، سينظرون إليك على أنك عدو لأهل العلم، وإذا قلت: إنه صوفي درويش يسرج المساجد التي فيها القبور، أو لا علاقة له بالحديث، أو لا علاقة له بالفقه، أو شيء من هذا، قامت عليك الدنيا ولم تقعد؛ لأن حبهم لهذا الشيخ أعماهم عن ذكر مثالبه، فهم لا يحبون أن يسمعوا كلمة واحدة تسيء إليه، وهي في الحقيقة لا تسيء، وإنما هي شهادة: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، فأنت تسألني، وأنا شهدت بما أعلم، فيقول لك: أبداً، هذا رجل من كبار أهل العلم في الحديث والفقه والبيان والتفسير والأصول، وهو ليس له علم إلا في مجال واحد.
إذاً: السلف رضي الله عنهم لما نهونا عن مجالسة أهل البدع حفاظاً علينا ألا نقع في حبائلهم وشراكهم؛ وتعرضوا لهم لأنهم أهل لذلك، فهم أه(66/15)
وجوب صلة الأرحام ولو كانوا من أصحاب المخالفات الشرعية
السؤال
مع الفساد الموجود في الأهل والأقارب والجيران وغيرهم، لا أتمكن قط من زيارة محارمي لما عندهم من مخالفات عظيمة جداً وأن أخاف على نفسي منها، فهل لي أن امتنع عن زيارتهم؟
الجواب
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بلوهم ولو بالسلام)، أي: بروهم ولو بإلقاء السلام، فلك أيها الأخ الكريم أن تتصل بهم دائماً وتطمئن عليهم، ولا بأس أن تكون زيارتك على مسافات بعيدة؛ في كل شهرين أو ثلاثة تذهب وتطرق الباب: السلام عليكم، كيف أخباركم؟ ولا يلزم أن تذهب إليهم، وهم عندما يعلمون أنك على هذا المبدأ سيتركونك، وكلهم قد تركونا.(66/16)
واجب المسلم تجاه الجماعات المنتشرة في الساحة اليوم
السؤال
ما هو الواجب علي تجاه الجماعات المنتشرة في هذا الوقت إن كنت قد نصحت لهم ولم ينتهوا عما هم فيه، وكان أحدهم جاراً لي أو نزيلاً عندي أو قريباً مني؟
الجواب
أنت تعلم أن رجلاً قام إلى الأمير والسلطان عبد الملك بن مروان عندما خطب خطبة العيد قبل الصلاة، مع أنه كان لديه حجة فيما يرى، وذلك أنه عندما يصلي الناس قبل الخطبة فإنه ينصرف أكثر من نصفهم، فكانت هذه حجة عبد الملك بن مروان، فقام إليه رجل في حضرة أبي سعيد الخدري فقال: يا أمير المؤمنين! الصلاة قبل الخطبة، قال: اسكت لا أب لك، قال: يا أمير المؤمنين! الصلاة قبل الخطبة، قال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد أدى ما عليه.(66/17)
حكم إلقاء السلام في شوارع بلد عامة أهله مسلمون
السؤال
هل عدم معرفة المسلم من النصراني يمنع من إلقاء السلام؟
الجواب
المسلم له علامات وأمارات تميزه، وشخصية المسلم تختلف عن شخصية الكافر، لكن لو قلنا بعموم البلوى، وأنك في طريق لا تعرف الكافر من المسلم، فألق السلام مادمت في بلد أهله مسلمون، أما إذا كنت في بلد أهله كفار فلا، مثل أن تكون مثلاً ماشياً في روما أو في باريس أو في نيويورك، فالأصل في هذه البلاد الكفر، إذاً: الأصل أن كل من فيها كفار إلا من علمنا أنه مسلم، والأصل في بلاد الإسلام أن من بها على الإسلام حتى نعلم أن هذا كافر، وأنا حقيقة عندما يقابلني قسيس لا يمكن أشك أن هذا قسيس، ولا يمكن أشك أن هذا كافر، ولا يكون عندي في ذلك أدنى شك، ولا يلزم أن يكون أبوه كافراً، بل يمكن أن يكون أبوه من المسلمين، لكن الذي أمامي كافر، وإذا شكيت فأنا جاهل، ونحن قد تكلمنا الآن عن الواقفة، فهل واحد يقول: لا، يمكن أن يكون مسلماً فنظلمه! نحن لا نطالبك بباطنه، نحن طالبناك بالظاهر، هذا الرجل يضع صليباً على صدره، ويلبس السواد -على عينه وعين أهله- حتى ترجع مصر قبطية كما كانت، فيمشي محزوناً ومغموماً ومهموماً من أجل أن تعود مصر بلد قبطية، وهيهات أن ترجع إلى مرادهم، فهذا الرجل كافر بلا شك، قد تبين لي أنه كافر من منظره وعندما أقف مع رجل آخر: ما اسمك؟ قال: أنا جبريل، عزرائيل، ميخائيل، فقد ظهر لي من اسمه أنه كافر.
إذاً: هذا يستثنى من عموم الحديث: (ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، فهذا الرجل ظهر لي بأمارات وعلامات.
وانظر إلى الحيلة: من حوالي شهر أيها الإخوة -وهذا شيء عجيب جداً- في مدينة نصر، شخص من الفلاحين جاء من آخر الدنيا ويريد أن يشتري سيارة نوع مرسيدس -لكن انظر فقط إلى الدهاء الشديد والمكر الذي يتمتع به الفلاحون- فسأل عن ثمنها، قالوا له: بخمسة وستين ألف جنيه.
قال: أين صاحب هذه السيارة، قالوا له: ذاك الذي يجلس في الظل، قال: من هذا؟ قالوا له: ذاك الرجل القسيس الذي يجلس هناك.
قال: أهذه له؟ فماذا عمل هذا الرجل؟ لم يذهب إليه، بل دخل حمام المسجد وعمل صليباً بقلم معين على يده، ثم ذهب إليه تحت الظل، وقال له: يا أبانا! أأنت صاحب السيارة؟ قال له: نعم.
قال له: والله إنني رأيت في النوم هذه الليلة أن الرب راضياً عنك! فظل يتكلم ويشير بيده من أجل أن يلفت نظر القسيس إلى يده لرؤية الصليب، قال له: أتريدها؟ قال: نعم، قال له: من أين أنت؟ قال: أنا من مدينة كذا، قال له: أتعرف القديس فلان، قال: نعم، هو حبيبي وكل يوم وهو عندي، وهذا رقم تلفونه اتصل به، قال له: لا داعي، مبروك عليك بخمسة وأربعين! فجاء هذا الرجل وسألني، هل بفعله هذا قد كفر أم لا؟ قلت له: اذهب واسأل القسيس، ثم قلت له: هذه المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر.
أرأيت إلى مكر ودهاء هؤلاء الفلاحين، من أجل أن يكسب عشرين ألف جنيه؟! ربما أنه بعد أخذه للسيارة يخرج إلى السوق فيصطدم في السوق ويموت وتذهب السيارة، فلم تبيع دينك؟ أمن أجل عشرين ألف جنيه؟ ومثل هذا كمثل رجل ذهب إلى محل تجاري وهو صاحب صحة أو تموين، فيقول له صاحب المحل التجاري: باختصار أنا سأعطيك مائة جنيه كل شهر وتبعد عني نهائياً ولا تأتي إلي.
فيقول: لا.
أأدخل جهنم من أجل مائة جنيه؟! إذاً بكم تريد دخول جنهم؟ قل لي بكم؟ بمليون؟ هل تكفي؟ تدخل جهنم مقابل مليون جنيه؟ قال له: كم تريد؟ قال له: لا.
زد قليلاً، أي: أنت تعلم أن هذا يُدخل جهنم، وكأنك تقدم على جهنم وأنت تعلم أنها جهنم، فانظروا إلى الناس كيف ابتلوا ببلادة الحس، وخراب العقائد، وصاروا في حالة مزرية لم تمر بالأمة في زمن من الأزمنة، ولا في مكان من الأمكنة أبداً، نسأل الله السلامة والعافية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(66/18)