أثر كعب (من أقام الصلاة)
قال: [عن كعب قال: من أقام الصلاة وآتى الزكاة وسمع وأطاع، فقد توسط الإيمان].
وهذا يدل على أن الإيمان منه ما هو دون، ومنه ما هو وسط، ومنه ما هو في القمة والكمال والتمام، قال: [ومن أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان].(29/10)
حديث أبي رزين العقيلي (ما الإيمان)
قال: [وعن أبي رزين العقيلي]، وإن كان الإسناد فيه ضعف، لكن يشهد له ما قبله وما بعده، [قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحرق بالنار أحب إليك من أن تشرك بالله، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله)].
أي: تحب الغريب الذي لا تربطك به رابطة نسب، وهذا الحب لا يكون إلا في الله، قال: [(فإذا كنت كذلك فقد دخل حب الإيمان قلبك كما دخل حب الماء قلب الظمآن في اليوم القائظ -أي: اليوم الشديد الحر - قلت: يا رسول الله! كيف لي أن أعلم أني مؤمن؟ قال: ما من أمتي أو من هذه الأمة من عبد يعمل حسنة فيعلم أنها حسنة والله جازيه بها خيراً منها، ولا يعمل سيئة فيعلم أنها سيئة، ويستغفر الله منها، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو فهو مؤمن)].
وهذا مصداق [قوله عليه الصلاة والسلام: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)].
فمثلاً: لو أن واحداً صلى وشعر بعد الصلاة بتوفيق الله عز وجل له في هذه الصلاة، وأنه كان على قدر لا بأس به من الخشوع والخضوع والذل بين يدي العزيز الجبار سبحانه وتعالى؛ فلا شك أن هذا العبد أفضل من آخر صلى بجواره وهو غافل لاه ساه، فخرج من صلاته ولا يدري هل قرأ فيها أم لا؟ وإذا كان قد قرأ فلا يدري ما قرأ؟ بخلاف الآخر الذي استحضر الخشوع، ونظر الله تبارك وتعالى إليه، فأتى بهذه الصلاة على وجهها، فأتمها بخشوعها، وأداء أركانها، وواجباتها ومستحباتها، ففرق عظيم بين هذا وذاك، فهذا العبد الثاني لما استشعر أن هذا من رحمة الله عز وجل فرح بهذه الحسنة التي أداها، وفرحه هذا إنما منبعه الإيمان؛ لأن المؤمن إذا عمل خيراً فرح به، وإذا بدت منه سيئة استاء واغتم أشد الغم لما بدر منه؛ لما قصر في جنب الله، ولذلك المؤمن الكامل الإيمان إذا قام ورأى الشمس قد أشرقت ولم يصل الصبح فماذا يكون حاله؟ لا شك أنه يكون في غاية الضيق والهم والغم، بل والكسل طيلة النهار، وكأنه وقع في ذنب لا يغفر أبداً، مع أن هذا قد حصل من النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون حديث بلال وأنس وغيرهما: (أن النبي عليه الصلاة والسلام نام وأصحابه ورضي الله عنهم أجمعين حتى ضربت الشمس بحرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تحولوا بنا عن هذا الوادي فإن به شيطاناً، ثم أمر بلالاً فأذن فتوضئوا وصلوا الفجر، ثم صلوا الظهر بعد ذلك).
وهذا مصداق لقوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإنما ذلك وقتها).
والشاهد أن المرء الذي عنده شيء من الإيمان -لا أقول: كمال الإيمان وتمامه- لو أنه سرق أنبه إيمانه وضميره وخوفه من الله عز وجل، وربما أخفى المال المسروق بين يديه؛ لشهوة أو ضعف في إيمانه أو حاجة إلى هذا المال أو غير ذلك، لكنه على أية حال غير مطمئن البال لما بدر منه؛ لأنه ساءته سيئته، وهذا بخلاف المنافق، فإنه لا تسره حسنته ولا تسوءه سيئته، بل إنه يتظاهر بالخير ويبطن الشر، يتظاهر بالإيمان ويبطن الكفر، ويظن أنه في مأمن من مكر الله عز وجل، واطلاع الله عز وجل على سره، كاطلاعه على علانيته سواء بسواء، فهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق، فالمؤمن إذا فعل سيئة استاء بها، وإذا فعل حسنة سر بها، ومصدر السرور بالحسنة والإساءة بالسيئة إنما هو الإيمان، فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، أي: مصدر الإساءة ومصدر الإحسان هو الإيمان، فلو أنه فعل سيئة استاء منها، وهذا الاستياء دليل على إيمان العبد، وإذا فعل حسنة سر بها، وهذا السرور دليل على الإيمان، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (علامة الإيمان حب الأنصار، وعلامة النفاق بغض الأنصار)، إذاً: حب الأنصار شعبة من شعب الإيمان، وأنا لابد أن أسأل نفسي سؤالاً: لماذا أحب الأنصار؟ هناك من الأنصار مشركون، ومن أبناء الأنصار مشركون، لكنني أحببت الأنصار في الجملة؛ لأجل محبتهم لله عز وجل ولرسوله ونصرتهم لدينه، وتقديمهم الغالي والنفيس في سبيل نصر دين الله عز وجل.
لكن لو أني -عياذاً بالله- منافق، فهل أحبهم لأجل نصرتهم لدين الله؟
الجواب
لا، إذاً: علامة الإيمان حب الأنصار، أي: بسبب نصرتهم لله ورسوله، لكن لو أن اثنين من الأنصار تخاصموا مع بعضهم البعض، أليس الأوس والخزرج من الأنصار؟ بلى، فلو أن شخصاً من الأوس تخاصم مع شخص من الخزرج؛ فلا شك أن هذا سيورث شيئاً من البغض بين الأوسي والخزرجي، فهل بغض الأوسي للخزرجي بسبب نصرة الخزرجي لله ورسوله؟ فلو أن أوسياً أبغض خزرجياً هل يكون هذا مؤثراً على إيمان الأوسي؟ لا؛ لأن بغضه للخزرجي ليس بسبب نصرة الخزرجي لله، ولرسوله وكذلك العكس بالعكس، فلو أنك عقدت قلبك ونيتك على حب الأنصار لأج(29/11)
أثر يحيى بن معاذ (ما من مؤمن يعمل المعصية)
قال: [قال يحيى بن معاذ الرازي: ما من مؤمن يعمل المعصية لله تبارك وتعالى إلا ويكون معها حسنتان: خوف العقاب، ورجاء العفو].
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن المرء يطير إلى الله بجناحين: جناح الخوف، وجناح الرجاء، وهما جناحان للعبد لا تصح عبادته إلا بهما، فإذا عبد المرء الله عز وجل بالخوف فقط أدى ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل، وإذا عبد العابد الله تعالى بالرجاء فقط فلا بد أنه سيؤدي به إلى التقصير والتفريط في جنب الله عز وجل، ويوقعه في الإرجاء وترك العمل، فينبغي أن يسير السائر إلى الله عز وجل بهذين الجناحين على قدم وساق، خوف يحفزك إلى مزيد من العمل، ورجاء في أن الله عز وجل سيجازيك على عملك هذا خيراً.
وبعض أهل العلم قال: ويستحب تغليب جانب الخوف على جانب الرجاء إلا في مرض الموت، أو المرض الشديد الذي يغلب على الظن مفارقة الحياة الدنيا معه، فيغلب الرجاء حتى يلقى العبد ربه بحسن ظنه، لقول النبي الكريم كما عند مسلم وأبي داود: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، ومصدر حسن الظن الرجاء بالله عز وجل.
وقال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً)، فينبغي تغليب الخوف في حال القوة والنشاط، بخلاف حال الضعف والمرض والإشراف على الهلاك، فيستحب أن يغلب جانب الرجاء.(29/12)
أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (لا يؤمن العبد)
قال: وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لا يؤمن العبد كل الإيمان حتى لا يأكل إلا طيباً، ويتم الوضوء في المكاره، ويضع الكذب ولو في المزاحة].
أي: لا يكذب حتى وإن كان مزاحاً.
قال: [وعن سالم عن أبيه: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء - يعني: واحد يقول للثاني: يا أخي! دعك من هذا الحياء - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، فإن الحياء من الإيمان)].
قال: [وقال أبو هريرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء - أي: الفحش - من الجفاء، والجفاء في النار)].
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يقذف به في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر)].(29/13)
حديث أبي هريرة (من سره أن يجد طعم الإيمان)
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يجد طعم الإيمان فليحب العبد لا يحبه إلا لله)].(29/14)
حديث أبي هريرة (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة)
قال: [وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم)].(29/15)
أثر علي في صفة المؤمن
قال: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: صفة المؤمن قوة في دين، وجرأة في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط في هدى، وبر في استقامة، وكيس في رفق، وعلم في حلم، لا يغلبه فرحه، ولا تفضحه بطنه، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة؛ لا يغتاب ولا يتكبر].
وهذه خصال الإيمان.(29/16)
حديث ابن مسعود (ليس المؤمن بالطعان)
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)]، أي: المؤمن كامل الإيمان، ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء.(29/17)
أثر الحسن (إن من أخلاق المؤمنين)
وفي بعض كلام أهل العلم قال: [إن من أخلاق المؤمنين قوة في الدين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وقصداً في غنى، وتجملاً في فاقة -أي: فقر- ورحمة للمجهود، وعطاءً في حق، ونهياً عن شهوة، وكسباً في حلال، وتحرجاً عن طمع، ونشاطاً في هدى، وبراً في استقامة، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم في الحب، ولا يدعي ما ليس له، ولا ينابز بالألقاب، ولا يشمت بالمصائب، ولا يضر بالجار ولا يهمز، في الصلاة متخشع، وإلى الزكاة متسرع، إن صمت لم يغمه الصمت]، أي: لم يصب بغم بسبب صمته، [وإن ضحك لم يعل صوته، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، قانع بالذي له، لا يجمح به الغيظ، ولا يغلبه الشح، يخالط الناس ليعلم، ويصمت ليسلم، وينطق ليفهم، إن كان مع الذاكرين لم يكتب من الغافلين، وإن كان مع الغافلين كتب من الذاكرين، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له يوم القيامة].(29/18)
آثار ابن عمر وأبي الدرداء والعباس في أعمال الإيمان وأثرها
قال: [وقال عبيد بن عمير: الإيمان هيوب].
أي: أن المؤمن مهاب بسبب إيمانه، إذ يجعل الله تعالى هيبته في قلوب الخلق.
قال: [قال أبو الدرداء: على الحق نور، وعلى الإيمان وقار].
قال: [وقال عباس بن عبد المطلب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً)].
[قال ابن بطة: فهذه أخلاق الإيمان، وصفات المؤمنين، يزيد في العبد، ويقوى بقوتها وزيادتها، وينقص ويضعف بضعفها ونقصانها]، ثم قال: [وسأذكر الأفعال والأقوال التي تخرجه من إيمانه ويصير كافراً بها].
وهذا القول في غاية الأهمية؛ لأن بعض الناس يقولون: لا يكفر العبد إلا بالاستحلال، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن العبد يكفر بالاستحلال وبالأعمال، والاستحلال شيء قلبي، والعمل شيء ظاهري، ولذلك قال الإمام هنا: (وسأذكر الأفعال والأقوال التي تخرجه من إيمانه ويصير بها كافراً)، وهذا يدل على أن الكفر والردة تكون بالقول والعمل والاعتقاد، قال: [وكل ذلك في نص التنزيل، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول العلماء الذين هم الحجة والقدوة، وذلك خلاف مقالة المرجئة الذين حجبت عقولهم، وصرفت قلوبهم، وحرموا البصيرة، وأخطئوا طريق الصواب، أعاذنا الله وإياكم من دخول مذاهبهم].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(29/19)
شرح كتاب الإبانة - كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم
لقد وردت الأحاديث والآثار الكثيرة الدالة على كفر تارك الصلاة وحبوط عمله، وإباحة قتله وقتاله، والمتأمل فيها يجد أن تارك الصلاة يكفر كفراً مخرجاً من الملة، وهذا يدل على عظم مكانة الصلاة في الإسلام، فعلى المسلم أن يحذر من التهاون فيها، وأن يحرص على المحافظة عليها مع جماعة المسلمين في أوقاتها.(30/1)
باب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتلهم وقتالهم إذا فعلوا ذلك
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [باب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك.
عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين العبد والشرك أو الكفر إلا ترك الصلاة)]، والحديث أخرجه مسلم من حديث جابر.
ثم قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة)]، ومن حديثه [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)].
قال النووي في شرح مسلم لهذا الحديث: (وأما تارك الصلاة فإن كان منكراً لوجوبها؛ فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه) وهذا الكلام لا خلاف عليه، ليس في الصلاة فقط، بل في كل مباني الإسلام بل في الواجبات والمحرمات، فلو أن مسلماً يعيش في بلاد المسلمين، وأنكر أن الزنا حرام يكفر، مع أن الزنا كبيرة من الكبائر وليس من مباني الإسلام، بخلاف الصلاة والصيام والزكاة والحج، فإنها مباني الإسلام، فنحن نتكلم في قوله عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على كيت وكيت وكيت وعدَّ هذه المباني، أما سائر الواجبات والطاعات، وكذا سائر المحرمات؛ فإنها ليست من مباني الإسلام، بل هي واجبات أو منهيات متممات للإسلام والإيمان، فلو أن واحداً أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، والمعلوم كما عرفتم هو ما اتفق واستوى في علمه العامة مع الخاصة، فمن من الناس الآن يجهل حكم الزنا، أو حكم شرب الخمر؟ هل يتصور أن واحداً يعتقد أن شرب الخمر حلال؟ ربما يقع الخلاف في كون هذا خمراً أم لا؟ فلو أردنا معرفة حكم الإسلام في البيرة، فسنجد أقوالاً مختلفة، فمنهم من يقول: هي حرام، ومنهم من يقول: هي حلال، ومنهم من يقول: فيها شبهة، دعنا من هذا الخلاف، لكني أتكلم عن الخمر الذي يعرفه العامة والخاصة، هل يختلف اثنان على حرمته؟ لا، فلو أن مسلماً يعيش في بلاد المسلمين أتى الآن وقال: الخمر حلال، فماذا يكون بعد قيام الحجة عليه؟ يكون كافراً؛ لأنه قد أحل ما حرمه الله عز وجل في كتابه وفي سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وهذا من أصول الإيمان والثوابت في الإسلام، فلا يصح أن يهدر هذا.
وقول الإمام النووي هنا فيما يتعلق بتارك الصلاة جحداً وعناداً إنه كافر، هذا كلام لا يحتاج إلى إجماع؛ فإجماع أهل العلم على ذلك أمر يعضد أصول الإيمان في هذه القضية، لكن إذا لم يكن هناك إجماع فإن جاحد الصلاة كافر؛ لأنه لو جحد ما دون الصلاة كفر به إذا أقيمت الحجة عليه.(30/2)
حكم تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً
وقع النزاع فيما يتعلق بحكم تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً، فمنهم من قال: تارك الصلاة كسلاً أو تهاوناً ليس بكافر؛ لأنه لا يستوي مع من جحد.
والرد عليه أن الكفر أنواع، وإن شمل الجميع اسم الكفر: فالجاحد كافر، وتارك الصلاة عند جميع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بغير تفصيل كافر، وإن كان كفر الاثنين مختلفاً، لكن يجمعهم اسم الكافر.
والكافر إنما يطلق في هذه القضية عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام على كفر الخروج، أي: كفر الخروج من الملة، يقول عبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله: ما كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة.
ولا يمكن أن يُتصور أن هذا القول محمول على الكفر العملي؛ لأن الكفر العملي في كل الواجبات والمحرمات، وليس بابه الصلاة فحسب، وإنما بابه هذه المباني كلها، والواجبات الشرعية والمنهيات الشرعية.
فلا يتصور أن عبد الله بن شقيق إنما أراد أنه ليس شيء عند الصحابة يكفر به صاحبه كفراً عملياً من الإسلام إلا الصلاة، هذا الكلام غير متصور نهائياً، ولا يستقيم مع فقه الصحابة رضي الله عنهم، والعجيب أنه لم يرد عن واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام خلاف ذلك، فالصحابة مجمعون على أن تارك الصلاة يكفر بهذا الترك كفراً يخرجه عن الملة، وأنا حرصت أن أقول: كفراً يخرجه عن الملة، لا أسميه اعتقادياً ولا عملياً حتى أبينه، وإن كانت الصلاة من المسائل العملية في الدين، إلا أن الكفر كما يقع في القول والاعتقاد، يقع كذلك في الفعل، فأسباب الكفر: إما الاعتقاد؛ وهو استحلال ما حرمه الله، أو تحريم ما أحله الله.
وإما القول الذي يكفر به صاحبه، سواء كان تهاوناً بدين الله واستخفافاً واستهزاء بدين الله، أو لعباً ولهواً وهزءاً بشيء من أحكام الشرع وهو عالم مختار غير مكره، على تفصيل بين أهل العلم في هذه الفرعيات، فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر.
فأقول: إن الكفر يكون بالعمل كذلك، وكذا الصلاة قد ثبت أنها من أصول الإيمان؛ ولذلك الإمام البخاري وغيره من أهل العلم لما ذكروا حديث شعب الإيمان ذكروا بعض شعب الإيمان، فقالوا: باب الصلاة من الإيمان باب الزكاة من الإيمان باب الصيام من الإيمان.
ونقل الإمام الحميدي وغيره: أن من ترك الخمس فهو كافر بإجماع المسلمين.
أي: شعائر الإسلام الخمس.
والصحابة رضي الله عنهم مجمعون على كفر تارك الصلاة كفراً يخرجه من الملة، وإن كانت الصلاة متعلقة بعمل الجوارح، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، وبإجماع المفسرين أن الإيمان هنا هو الصلاة.
إذاً: الصلاة متعلقة بالإيمان، بل هي جزء من الإيمان، والذي يترجح لدي هذا المذهب؛ لأن الإجماع المعتبر الذي لا خلاف عليه هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ووقع نزاع في الإجماع بعد الصحابة، والراجح ثبوته، لكن الذي لا خلاف عليه هو إجماع الصحابة، فإذا أجمعوا أن تارك الصلاة كافر؛ فلا أقل من أن يكون هذا هو المنهج الحق في هذه المسألة، وهو الرأي الذي يترجح لدي.
وقال بعضهم: تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً يفسق بهذا، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا بد من التفريق بين خلل في طاعة الله عز وجل فيما يتعلق بمبادئ الإسلام، وبين سائر الذنوب والمعاصي.
قال ذلك هو يرد على من قال: لا يكفر المرء إلا بالاستحلال، فيثبت أن الكفر يكون بالعمل وبالقول دون ذكر للاستحلال، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وإن كانت الصلاة تؤدى بالجوارح فصاحبها إنما يكفر بتركها؛ لأنه ليس كل عمل لا يأتيه المكلف لا يكفر به.
فمن الأعمال ما يكفر بها صاحبها، ومن الأعمال ما لا يكفر بها صاحبها، فيضع ضابطاً لذلك ويقول: إذا كان الفعل متعلقاً بالإيمان فتركه كفر كالصلاة، وإذا كان الفعل متعلقاً بسائر المعاصي، كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها؛ فلا يكفر صاحبها بذلك، إلا إذا أتاها مستحلاً لها؛ فيفرق بين المسائل المتعلقة بأصل الإيمان وإن كانت تؤدى بالجوارح، وبين المسائل التي لا تعلق لها بأصل الإيمان.
والإمام ابن بطة إنما سار هنا على المذهب الأول، وهو تكفير تارك الصلاة.
ويقول بعضهم: إن تارك الصلاة إنما يؤخذ ويعزر ويحبس ويستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل، وأنا لا أتصور قط أن واحداً يحبس حتى يصلي، ويشهر على رقبته السيف ثلاثة أيام وهو يقول: أنا لا أصلي كسلاً، ثم يقدم للإعدام أو للمشنقة أو لضرب عنقه وهو يقول أيضاً: لا أصلي، وإن كنت أعتقد أن الله أوجب الصلاة؛ هذا لا يمكن أن يتصور قط.(30/3)
أهمية الصلاة عند سلف الأمة وحكم تاركها
قال: [عن المسور بن مخرمة أن ابن عباس دخل على عمر بعدما طعن، فقال: الصلاة، فقال أمير المؤمنين: نعم، لا حظ لامرئ في الإسلام أضاع الصلاة؛ فصلى والجرح يثعب دماً].
لو لم تكن الصلاة من أصول الإيمان، وأن تاركها تارك الإيمان؛ لما اهتم بذلك ابن عباس، فضلاً عن عمر رضي الله تعالى عنهما على هذا النحو وهذه الحال.
ثم قال: [عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة: أن عمر لما أصيب جعل يغمى عليه، فقالوا: إنكم لن تفزعوه -أي: لن تفيقوه- بشيء مثل الصلاة إن كانت به حياة] يعني: لا يمكن أن تحصلوا على إفاقة لـ عمر إلا إذا ذكرتموه بالصلاة، إذا كان فيه رمق وبقية حياة.
ثم قال: [فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين قد صُلّيت، قال: فانتبه، فقال: الصلاة! ها الله إذاً، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه ليثعب دماً].
فهذه نصوص تفيد أهمية الصلاة عند سلف الأمة.
قال: [عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بيننا وبينهم ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)] أي: بيننا وبين الكفار ترك الصلاة، فالعلامة التي تميز المسلم عن غيره إنما هي الصلاة.
وقوله: (فمن تركها فقد كفر)، لو كان هذا النص محمولاً على الكفر العملي؛ فما بالكم بمن ترك الزكاة، ومن ترك الصيام، ومن ترك الحج لا يكون كافراً كفراً عملياً؟! لو أن واحداً ترك الصيام، أو ترك الزكاة مع القدرة على إخراج الزكاة أليس هذا بإجماع المسلمين كافراً كفراً عملياً، ووقع نزاع فيما يتعلق بالزكاة.
لكن هذا النص: (ليس بيننا وبينهم إلا الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، لا يتصور قط أن قوله: (فقد كفر)، أي: كفراً عملياً، لماذا؟ لأن الصلاة حينئذ تكون شريكة لغيرها من سائر الأعمال، فدل هذا الحصر في قوله: (ليس بيننا وبينهم إلا ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر) لا يتصور أن يكون هذا الكفر متعلقاً بالكفر العملي، وإلا فالكفر العملي في الزكاة والصيام والحج وغير ذلك من سائر الواجبات والمحرمات، فلم خص الصلاة إذاً؟ إلا أن الحكم المتعلق بالصلاة غير الحكم المتعلق بغيرها من سائر الذنوب والمعاصي، فهذا كفر أكبر، وذاك كفر أصغر.(30/4)
حبوط عمل من ترك الصلاة وكفره
قال: [عن أبي المليح قال: (كنا مع بريدة في غزاة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بالصلاة؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ترك الصلاة حبط عمله).
والحبوط هو البطلان، فلو ترك الصلاة حبط عمله؛ لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] أي: ليبطلن عملك كله، إذا كنت تعمل صالحاً إنما تجازى عليه كما يجازى المشرك على عمله الصالح في الدنيا، حتى لا يكون له عند الله عز وجل جزاء ولا ثواب في الآخرة.
أما تارك الصلاة فقد ورد النص صريحاً في حديث جابر: (بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر أو أشرك)، وفي رواية: (فقد كفر وأشرك)، لا يقال كفراً عملياً، ولا يقال شركاً عملياً؛ لأنه لو كان كذلك لما ساغ تخصيص الصلاة بهذا الحكم، إذا كان ترك الصلاة يختلف مع غيره من سائر الذنوب والمعاصي في أنه كفر عملي؛ فلا يكون حينئذ لذكر ترك الصلاة وتخصيصها بهذا الحكم مزية.
ثم قال: [عن مجاهد بن جبر - المكي أبي الحجاج، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت له: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الصلاة].
يعني: مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس يسأل جابر بن عبد الله الأنصاري فيقول: ما هو العمل الذي كان يفرَّق به عندكم يا معشر الصحابة بين الكفر والإيمان من الأعمال؟ فقال جابر: الصلاة.
فهل يتصور أن معنى قول مجاهد هنا: ما هو العمل الذي كنتم تفرِّقون به بين مسائل الكفر العملي والإيمان؟ لا يتصور، وإنما ذكر الكفر في مقابلة الإيمان، فيدل على أنه الكفر المخرج من الملة، وإن كان سبب الكفر عملاً من الأعمال؛ لأن الأعمال منها ما يخرج من الملة، ومنها ما لا يخرج من الملة.
ثم قال: [عن الحسن قال: بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر].
هذا من بلاغات الحسن، وعلى أية حال ليس في الباب هذا النص فحسب، بل هذا النص يشهد له كلام عبد الله بن شقيق العقيلي السابق، وهو سيد التابعين في البصرة، والحسن البصري سيد التابعين في البصرة أيضاً.
فقول عبد الله بن شقيق: كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا يرون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة.
يوافقه الحسن بلاغاً عن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر.
ثم قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم قد حرم علي دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله تعالى)].
فهذا النص إنما أضاف إلى أصل الإيمان وكلمة التوحيد مبنيين: الصلاة، والزكاة، فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة)، فلو كان إيمان المرء وإسلامه يثبت فقط بمجرد الشهادة؛ لما كان هناك مسوغ لقتالهم على الصلاة والزكاة، ولما قاتلهم أبو بكر الصديق على منع الزكاة، مع أنهم كانوا قائمين بالصلاة، ولكن قاتلهم على الزكاة.
ولذلك احتج به عمر على أبي بكر لما أصرَّ أبو بكر رضي الله عنه على مقاتلة ومحاربة مانعي الزكاة، فقال: يا أبا بكر أما بلغك أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)؟ فقال: بلى، يعني: هذا الكلام قد بلغني، وإنهم كانوا يؤدون الزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو منعوني عقالاً.
وفي رواية: عناقاً.
وهو حبل بعير، أو ابن الناقة لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لقاتلتهم عليه، قال عمر: فلما رأيت أن شرح الله صدره لذلك؛ علمت أنه الحق.
ومن حجة أبي بكر في ذلك أنه قال عمر: لو أن هؤلاء الناس تركوا الصلاة؛ كنت تقاتلهم أم لا؟ قال: أقاتلهم، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
إذاً: لا خلاف بين الصحابة أن من ترك الصلاة كفر وقتل بتركه لها، فقاس أبو بكر الصديق ما لم يكن معلوماً عند عمر وهو حكم الزكاة، على ما هو معلوم لديه فيما يتعلق بالصلاة، فقاس المجهول لديه على المعلوم لديه؛ فانشرح صدر عمر حينئذ أنه لا يفرق بين الصلاة والزكاة، خاصة وأن(30/5)
حديث معاذ في رأس الأمر وقوامه وذروة سنامه
قال: [عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن رأس هذا الأمر: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وإن قوام هذا الأمر: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإن ذروة السنام منه: الجهاد في سبيل الله، إنما أمرت أن أقاتل حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل).
أي: إذا شهدوا الشهادتين وصلوا وزكوا، فقد عصموا دماءهم.(30/6)
بعث أبي بكر لخالد بن الوليد وأمره له أن يقاتل الناس على شعائر الإسلام الخمس
قال: [عن حنظلة بن علي بن الأسقع: أن أبا بكر بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يقاتل الناس على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
وعن سليم أبي عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان رضي الله عنه يبايعونه على الإسلام، وعلى من وراءهم، فبايعهم على ألا يشركوا بالله شيئاً، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويدعوا عيد المجوس -يعني: ألا يتشبهوا بغيرهم- فلما قالوا: نعم -أي: وافقوا على بنود هذه البيعة- بايعهم.
وعن يزيد قال: قلت لـ أنس بن مالك: (إن ناساً يشهدون علينا بالشرك، فقال: أولئك شر الخليقة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بين العبد والشرك أو الكفر ترك الصلاة.
أو: من ترك الصلاة كفر)] فهذا أنس بن مالك يرفع ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام، كما يبين التوجه العام في الحكم في هذه القضية أنه لا يحكم بالكفر ولا بالشرك في عمل من الأعمال إلا في الصلاة، وهذا إجماع الصحابة، ووقع بينهم نزاع فيما يتعلق بتكفير تارك الزكاة.(30/7)
حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن
ثم قال: [عن عامر الشعبي: أن معاذ بن جبل لما بعثه نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن اجتمع الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه]، أي: قام معاذ خطيباً ومذكراً ومعلماً لأهل اليمن، فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال: [وقال: يا أيها الناس! ألا إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً]، أي: أن تفردوه بالعبادة والوحدانية، [وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وأن تطيعوني أهدكم إلى سبيل الرشاد، ألا إنما هو الله وحده، والجنة والنار بلا ظعن خلود فلا موت أبداً].
ثم بدأ في تعليمهم.(30/8)
حديث بريدة (بكروا بالصلاة يوم الغيم)
قال: [عن بريدة الأسلمي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فقال: بكروا بالصلاة في يوم الغيم؛ فإنه من ترك صلاة العصر حبط عمله)].
يعني: بكروا بالصلاة في يوم شديد الضباب والغيم.(30/9)
حديث أبي ذر (من ترك الصلاة عامداً فقد برئت منه ذمة الله عز وجل)
قال: [عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الصلاة عامداً؛ فقد برئت منه ذمة الله عز وجل)] (من ترك الصلاة عامداً)، العامد يكون جاحداً ويكون غير جاحد، تصور أن واحداً تقول له: صل صلاة العصر، فيقول لك: لا، ما زال الوقت مبكراً، بقي للمغرب وقت طويل، فيقال له: صل يا بني! فيقول: نعم، حاضر، إلى أن سمع أذان المغرب.
هو في إجاباته السابقة هل أظهر عناداً أو كفراً؟ لم يظهر، ولكنه أظهر استجابة، وكل ما فيها أن الوقت ممتد حتى دخل الوقت الثاني، وفات وقت العصر عمداً أم نسياناً؟ عمداً؛ لأن المذكر فوق رأسه يذكره في كل بضع دقائق بحق الله تعالى في إتيان الصلاة، حتى دخل وقت المغرب، لا شك أن هذا ترك للصلاة عمداً لا كسلاًَ ولا تهاوناً ولا نسياناً، فمن فعل ذلك فقد برئت منه ذمة الله عز وجل، والذمة: هي العهد والأمان والضمان والحرمة والحق، ولذلك سمي أهل الذمة لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم.(30/10)
حديث (قيل لابن مسعود: إن الله ليكثر ذكر الصلاة)
قال: [قيل لـ عبد الله بن مسعود: إن الله عز وجل ليكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، فقال عبد الله بن مسعود: ذلك على مواقيتها، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، فقال عبد الله: تركها الكفر].
لم يقل: تركها كفر، وإنما قال: تركها الكفر، والألف واللام للعهد في هذا النص الذي سمعت؛ لأنها لو كانت للجنس لأطلقت على جنس الكفر المخرج وغير المخرج.
فهذا يدل على أن ابن مسعود صحح للتابعين خطأهم، وأنهم كانوا يتصورون أن هذا المذهب إنما ينطبق على من أتاها دون من تركها، فقال: ليس الأمر كما تظنون، وإنما ترك الصلاة هو الكفر المعهود لديكم.
والعهد: هو الشيء المعهود.
كما أقول لك: هل قابلت رجلاً؟ فتقول: نعم، قابلت رجلاً في أول الطريق، وآخر في وسط الطريق وآخر في نهايته؛ لأني سألتك عن جنس الرجال.
فتقول: نعم، أنا قابلت رجالاً، فضلاً عن رجل، بخلاف ما لو قلت لك: هل قابلت الرجل.
أي: الرجل المعهود لديك الذي أرسلتك إليه خاصة؟ مثلاً أرسلتك بجواب، وقلت لك: خذ هذا الجواب وسلمه لمحمد بن إبراهيم، عينته لك، فذهبت وسلمت الرسالة له، لكن لو سلمتها لرجل غير معين ولا معروف، فهذا لا يفيد عندي أنك أعطيتها للرجل المعهود الذي عاهدتك أن تختاره من بين الرجال فتعطيه الرسالة.
فإذاً: الألف واللام تكون للعهد، أي: لشيء معروف لدى الكل.
فقال هنا: (قيل لـ عبد الله بن مسعود: إن الله عز وجل ليكثر أن يذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]؛ فقال عبد الله: ذلك على مواقيتها).
فربنا يمدح الذي يقيم الصلاة على وقتها، (قيل: يا رسول الله! ما أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة على وقتها أو لوقتها).
(قالوا: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، فقال: تركها الكفر) يعني: الكفر المعهود، وهو الكفر المخرج من الملة.(30/11)
أثر أبي الدرداء (لا إيمان لمن لا صلاة له)
قال: [عن عبد الله بن أبي زكريا أن أم الدرداء حدثته أنها سمعت أبا الدرداء يقول: لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له].
يعني: النفي متعلق بأصل الإيمان، فمن لا يصلي لا يكون عنده أدنى إيمان ولا ذرة إيمان.
والقرينة على هذا أنه قال: (ولا صلاة لمن لا وضوء له)؛ لأنه لا يمكن أبداً حمل هذا النص على أنه لا صلاة كاملة الثواب لمن لا وضوء له، هذا الكلام غير مستقيم؛ لأن الذي ليس على وضوء لا تصح صلاته وإن صلى ألف ركعة؛ لأن الوضوء شرط صحة في الصلاة، وكذلك الصلاة شرط صحة في الإيمان، ليست شرط كمال، وإنما هي شرط صحة.
فإذا صلى المرء بغير وضوء فلا صلاة له، وكذلك إذا ترك المرء الصلاة فلا إيمان له البتة، ولذلك قرنهما في نص واحد، قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له)، فقاس المجهول لديهم على المعلوم، ألا تعلمون أن الذي يصلي بغير وضوء لا صلاة له أصلاً، وأن قوله: (لا صلاة له)، أي: نفي الصلاة من الأساس، فإذا كنتم تعلمون أنه لا صلاة لمن لا وضوء له، فكذلك لا إيمان لمن لا صلاة له.
ثم قال: [عن عبد الله بن مسعود قال: من لم يصل فلا دين له].(30/12)
حديث الباقر (لو مات هذا مات على غير دين محمد صلى الله عليه وسلم)
[وعن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: (دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى، فجعل ينقر صلاته كما ينقر الغراب، فقال: لو مت على هذا مت على غير دين محمد صلى الله عليه وسلم)]، مع أن هذا يصلي، لكنه لا يصلي الصلاة المشروعة التي تقبل عند الله عز وجل، ولذلك (لما دخل الرجل فصلى ركعتين ينقرهما نقراً، ويقعي فيهما إقعاء الكلب، ثم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: السلام عليك يا رسول الله! قال: وعليك السلام! ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، وهذا نفي للصلاة، ولو كان معنى هذا النص: إنك لم تصل صلاة كاملة تامة؛ لما أمره بالإعادة.
فقوله: (ارجع فصل) دليل على أن الصلاة كلها لم تقع صحيحة، فكأنه لم يصل صلاة صحيحة؛ لأنه أمره أن يعيدها كذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً في قدمه موضع درهم لم يمسه الماء، قال عليه الصلاة والسلام: (ويل للأعقاب من النار)؛ لأن العقب الذي فوق مؤخرة القدم وتحت الكعبين، هذا المكان في الغالب أن من لا يحرص على إتمام الوضوء يقصر في تتبع هذا الموضع، خاصة من كان عندهم نحافة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويل للأعقاب من النار)؛ وأمر الرجل بعد أن فرغ من وضوئه أن يرجع فيعيد الوضوء من أساسه.(30/13)
أثر ابن مسعود (من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة فلا صلاة له)
قال: [قال عبد الله بن مسعود: من أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة؛ فلا صلاة له].
والزكاة ليست كالصلاة، الصلاة عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من تركها كفر إجماعاً، بخلاف الزكاة، فقد وقع بينهم نزاع في تكفير تارك الزكاة.
ثم قال: [قال عبد الله: (ما تارك الزكاة بمسلم)]، فنفى عنه الإسلام.(30/14)
أثر حذيفة في الإنكار على من لا يتم الركوع والسجود
قال: [عن حذيفة أنه رأى رجلاً يصلي لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما انصرف دعاه حذيفة فقال: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: أصليها منذ كذا وكذا -أي: منذ كذا وكذا سنة- قال: ما صليت، أو ما صليت لله عز وجل.
قال أحد الرواة: وأحسبه قال: لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم]، والسنة هنا بمعنى: العقيدة والدين.(30/15)
أثر ابن المبارك في تكفير من قال أصلي غداً
ثم قال: [يقول ابن المبارك: من قال أصلي الفريضة غداً؛ فهو عندي أكفر من الحمار].
لا بد أن تحمل هذه النصوص كلها على الكفر المعهود، وهو الكفر المخرج من الملة.
أنا لا أجرؤ على تكفير من صلى وترك، أو من ترك فرضاً أو فرضين، أو تكاسل وصلاهما بعد ذلك، إنما أجرؤ على تكفير من ترك الصلاة بالكلية، فأنا لا أشك أن من ترك الصلاة بالكلية كافر كفراً يخرجه عن ملة الإسلام، فإذا كفر أخذ حكم الكافرين، وإذا كانت امرأته تصلي فيجب التفريق بينهما؛ لأن الله تعالى حرم أن يكون للكافر سبيل على المسلم، كما قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، وولاية الزواج من السبيل، فهذا لا يغسل ولا يكفن، ولا يورث ولا يدفن في مقابر المسلمين، وكل هذا مشروط بمسألة المصلحة والمفسدة، خاصة في هذا الزمان.(30/16)
حديث عبد الله بن عمرو: (من حافظ عليها كانت له نوراً)
قال رحمه الله: [عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، ويأتي يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)].
هؤلاء كانوا كفاراً كفراً حقيقياً، فهم كفار مخلدون في نار جهنم، ويأتي يوم القيامة تارك الصلاة ويخلد معهم في النار، فإذا كان تارك الصلاة كافراً كفراً عملياً، أليس من الظلم أن يأتي مع هؤلاء؟ بلى! فلما تنزه الله تبارك وتعالى عن الظلم واتصف بصفات الكمال؛ لا بد أن نقول: إن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة؛ ولذلك استوجب لنفسه أن يخلد في النار مع قارون، وفرعون، وهامان وأبي بن خلف.(30/17)
تعقيب المصنف على الأحاديث والآثار المتعلقة بترك الصلاة والتهاون بها
قال ابن بطة: [فهذه الأخبار والآثار والسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، كلها تدل العقلاء ومن كان في قلبه أدنى حياة، على تكفير تارك الصلاة، وجاحد الفرائض، وإخراجه من الملة وحسبك من ذلك ما نزل به الكتاب، قال الله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:31].
ثم وصف الحنفاء، والذين هم غير مشركين به؛ فقال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
فأخبرنا جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: أن الحنيف المسلم هو على الدين القيم، وأن الدين القيم هو بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]]؛ فلو تابوا من الشرك ولكنهم تركوا الصلاة والزكاة فهل يجب علينا أن نخلي سبيلهم؟ عطف الله تعالى الصلاة والزكاة على التوبة من الشرك، فلو تاب المرء من الشرك بغير صلاة ولا زكاة؛ فإنه لا يزال قائماً على الشرك، ولذلك لا يخلى سبيله، بل يؤخذ ويعاقب بهذا الكفر الذي قد أتاه.
ثم قال: [وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة:11]-أي: المشركين- {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]].
وهذا يدل على أنهم إن تابوا من الكفر أو الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة؛ فليسوا إخوة لنا في الدين.
ثم قال: [فأي بيان رحمكم الله! يكون أبين من هذا؟ وأي دليل على أن الإيمان قول وعمل، وأن الصلاة والزكاة من الإيمان، يكون أدل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع علماء المسلمين وفقهائهم، الذين لا تستوحش القلوب من ذكرهم]، وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم، [بل تطمئن إلى اتباعهم واقتفاء آثارهم رحمة الله عليهم وجعلنا من إخوانهم].
إذاً! هذا الباب باب تكفير تارك الصلاة وقع فيه نزاع بين فقهاء المذاهب، وبين علماء الأمة من بعد الصحابة رضي الله عنهم، أما الصحابة فإجماعهم منعقد على أن تارك الصلاة كافر، وهو الذي يترجح لدي.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(30/18)
الأسئلة(30/19)
حكم عصير الفواكه المخلوط المسمى بـ (الكوكتيل)
السؤال
أسألكم عن فتوى زعم قوم أنها صدرت عنكم، فأريد أن أتثبت من صحتها ونسبتها إليكم! زعموا أنك قلت: إن عصير الفواكه المخلوط الذي هو (الكوكتيل) في محلات العصائر حكمه كحكم النبيذ المحرم، كنبيذ التمر مع الزبيب في إناء واحد، فهل قلتم ذلك؟
الجواب
نعم، قلت ذلك، وإذا كنت تريد زيادة بيان؛ فاقرأ في أي كتاب من كتب الفقه، لكني أدلك على باب مختصر في كتاب (نيل الأوطار) الجزء الأخير، (باب ما جاء في الخليطين) وبعده (باب ما جاء في النبيذ) وبعده باب ثالث، ثلاثة أبواب متتابعة في كتاب الأطعمة والأشربة، فإن شاء الله لو قرأت فيها لوافقتني، ثم أفتيت بذلك أنت.(30/20)
حكم من لا يصلي إلا الجمعة فقط
السؤال
من صلى في الأسبوع فريضة هل نعده من الكافرين مثل: صلاة الجمعة؟
الجواب
للأسف الشديد بعض الناس يتصور أن صلاة الجمعة تنفي عنه إثم بقية صلوات الأسبوع، وهذا بلا شك خلط عظيم جداً، فمن صلى الجمعة ولم يصل غيرها؛ فإنه تارك للصلاة.(30/21)
وجه دلالة الألف واللام في كلمة (الكفر) على الكفر المخرج من الملة
السؤال
يقول سائل: قلت: إن الألف واللام في قول ابن مسعود: (تركها الكفر) هو الكفر المعهود، أي: الكفر الأكبر، فلماذا لا يكون الأصغر؟
الجواب
أقول: الكفر الأصغر في كل شيء، وليس في الصلاة فقط، فكونه خص الصلاة بأنها كفر، وذكر أنها الكفر بالألف واللام التي هي للعهد؛ فهذا يدل على تخصيص الصلاة بالحكم، ولو قال: إن تارك الصلاة كافر كفراً عملياً، فما هو الجديد في هذا؟ كذلك تارك الزكاة وتارك الصيام وتارك الحج، بل من لم يؤد الواجب الذي عليه يكون كافراً كفراً عملياً؛ لأن هذه مسائل متعلقة بسائر المعاصي والذنوب من جهة النهي، وبسائر المعاصي من جهة الأمر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إني اطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء، قالت امرأة جزلة -عاقلة-: ولم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكفرن -وسكت- فقالت المرأة: يكفرن بالله يا رسول الله؟)، يعني: الكفر الأكبر العملي المخرج من الملة أو الكفر الاعتقادي؟ قال: (لا، إنكن تكفرن العشير) يعني: تكفرن الإحسان، وهذا كفر عملي.
فالصحابة رضي الله عنهم يعتقدون أن المرأة التي تكفر عشرة زوجها قد كفرت كفراً عملياً.
فلم لم يقل عبد الله بن شقيق العقيلي: ليس شيء تركه كفر عند أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلا ترك الصلاة وترك الاعتراف بجميل وعشرة الزوج، فمسائل الكفر العملي كثيرة جداً، وأبوابها لا نهاية لها، وإنما تكلم عن نوع معين من أنواع الكفر، وهو الكفر المعهود، أي: الكفر الأكبر؟(30/22)
ضرورة إقامة الحجة على من وقع في الكفر قبل تكفيره
السؤال
ما معنى: يبين له قبل أن يُكَفّر؟
الجواب
أن تقام الحجة عليه.(30/23)
حكم تكرار صلاة الفجر بعد خروج وقتها
السؤال
من يستيقظ بعد وقت صلاة الفجر كل يوم، ولا يخاطب نفسه بالاجتهاد لصلاتها في وقتها؛ هل هذا متعمد، وهل يكفر، مع العلم أنه يصليها ولكن بعد خروج وقتها؟ وما الذي يترتب على تكفير تارك الصلاة من معاملة وغيرها؟
الجواب
قرأت فتوى للشيخ ابن باز عليه رحمة الله توزع في بلاد الحجاز، وإذا شئتم أتيت لكم بهذه الفتوى وهي عندي مكتوبة، يقول الشيخ: إن من ضبط المنبه في صلاة الصبح على ما بعد الشروق؛ فقد كفر، هذه فتوى الشيخ ابن باز، وهذه أيضاً فتوى ابن عثيمين، لكن على أية حال يمكن أن نصور لكم فتوى الشيخ ابن باز، وإن شاء الله في الدرس القادم سنأتي بها ونعلقها على الباب هنا وأنت تقرؤها.(30/24)
حكم صيام الإثنين أو الخميس مع موافقتهما لعيد من أعياد النصارى
السؤال
هل يجوز لنا صيام يوم الإثنين الذي يسمى بعيد شم النسيم؛ لكي نخالف النصارى؟
الجواب
أنا قد سألت أخاً لي، فقال: لا يجوز ذلك؛ نقلاً من كتاب الصراط المستقيم، ولعل ذلك من باب ألا نجعل لهم أهمية وقيمة، هم ليسوا أهلاً لها.
على أية حال! إذا كان من عادة المسلم أن يصوم الإثنين والخميس فليصمهما، حتى وإن وافق شم النسيم يوم الإثنين أو الخميس.
وأنتم تعلمون أن البدع كما تكون بالإتيان تكون بالترك، كيف؟ إن هذا العيد عيد شركي من أعياد الكفار، وأنا في الحقيقة خائف من نزول العقاب من السماء في هذا اليوم أو في هذه الليلة؛ وبالتالي أنا سأقوم الليل وأصوم النهار، لكن لا بد أن يثبت لدي دليل على جواز تخصيص عيد من أعياد المشركين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم نهاره ويقوم ليله، يعني: يخصه بصيام وقيام.
فلما لما لم يثبت لدي ذلك؛ دل على أن الإتيان به بدعة، وإلا فعيد شم النسيم كان موجوداً على زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما كان أيامهم النسيم، فلم يكونوا يشمون، وهم إلى الآن لا يشمون على أية حال، لكن هذا العيد كان له اسم آخر، نحن المسلمين الذي سميناه: عيد شم النسيم، لكن له تسمية ومصطلح آخر عند النصارى، فهذا العيد كان موجوداً، وأعياد النصارى واليهود كانت موجودة على أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بصيام ولا قيام.
فكذلك نحن لا نخصه لا بصيام ولا بقيام، يكفي ما نحن فيه نحن الآن في عقاب لا نشعر به، نحن أمة لا هوية لها، فهل هناك عقوبة أعظم وأقسى من هذه العقوبة؟ أمة لا هوية لها، ماذا تريدون بعد ذلك؟ ما الذي سينزل بعد هذا؟ فالخسف والمسخ قد حدث في الأمة من قبل وسيحدث، وأنا أرى أن المسخ الذي نحن فيه الآن أعظم وأشد نكاية في قلوبنا من أن يمسخنا الله تعالى قردة وخنازير، أو حتى حميراً، نحن بهذا نظل موجودين على الأرض في صورة مسلمين وموحدين، وفي حقيقة الأمر لا هوية لنا، فهي عقوبة عظيمة جداً، يشعر المرء أنه في خير عظيم وهو ليس كذلك.(30/25)
حكم صلاة من أخطأ في الفاتحة أو غيرها وفتح عليه
السؤال
يقول السائل: إنه نسي القراءة في الصلاة غير الفاتحة، فهل يجوز الرد عليه؟ وهل قراءة القرآن في الصلاة غير الفاتحة سنة أم واجب؟ وما الدليل؟
الجواب
على أية حال، إذا أخطأ الإمام في الفاتحة فصلاته باطلة، إلا أن يرد عليه فيصحح الخطأ، لكن إن استمر في صلاته مع عدم تصحيح الخطأ؛ فتبطل صلاته وصلاة المأمومين، أما إذا كان هذا الخطأ في غير الفاتحة؛ فينظر: هل يفتح عليه إذا أخطأ؟ وما سبب الخطأ الذي يفتح عليه فيه؟ نوع الخطأ إذا أبدل آية مكان آية يفتح عليه، وإذا غير المعنى يفتح عليه فيها، كما لو قال: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم نار جهنم خالدين فيها)، ما هذا؟ هذا تغيير للمعنى، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات، وليس لهم نار جهنم، فلو أنه بدل وغير في مثل هذا وجب الرد عليه، وإن أصر على الاستمرار في الصلاة على هذا النحو بدون اعتبار رد الآخرين عليه؛ تبطل صلاته وصلاة المأمومين كذلك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.(30/26)
شرح كتاب الإبانة - الأقوال والأفعال التي تُورث النفاق وعلامات المنافقين
لقد ذم الله النفاق في كتابه وذكر له أوصافاً وخصالاً وحذر المؤمنين منها، وحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من ارتكاب صفة من صفات المنافقين، والنفاق قسمان: أكبر وأصغر، وقد بين العلماء كل قسم من هذين القسمين، وما يتميز به عن قسيمه.(31/1)
باب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين].(31/2)
روايات ابن مسعود وعبد الله بن عمرو لحديث علامات المنافقين
قال: [عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً، وإن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)].
وفي رواية أبي وائل [عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علامة المنافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)]، ولم يذكر: (وإذا خاصم فجر).
وفي رواية عنه قال: [(علامة المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)].
وفي حديث [عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً)] أي: أربع خصال إذا توفرت في عبد وكانت ديدنه كان منافقاً خالصاً، [(وإن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)].
قال النووي: قوله: (كان منافقاً خالصاً) أي: شديد الشبه بالمنافقين، لا أنه خارج عن الملة.
وقال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال ظاهرة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً في معنى هذا الحديث.
[وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث من كن فيه فهو منافق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)] فهذه خمس خصال.
[وقال ابن مسعود: ثلاث من كن فيه فهو منافق: من حدث كذب، ووعد فأخلف، واؤتمن فخان، فمن كانت فيه خصلة منهن ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها].(31/3)
كلام الإمام النووي على أحاديث علامات المنافقين
يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث: وهذا الحديث مما عده جماعة من العلماء من المشكلات.
يعني: هذا الحديث ظاهره في غاية الإشكال، وهو أن علامات وخصال المنافقين توجد للمسلم المصدق الذي اطمأن قلبه بالإيمان.
وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار؛ لأن إخوة يوسف عليه السلام كانت فيهم هذه الخصال ولم يحكم بكفرهم، فلأجل هذا كان الحديث فيه إشكال.
قال: ولذلك اختلف العلماء في معناه، والذي قاله المحققون -أي: أصحاب الرأي السديد والقول الصواب والراجح وهم أكثر العلماء- أن معنى هذا الحديث: أن هذه خصال نفاق، ولكن لا يلزم من فعلها أن يكون الفاعل منافقاً مخلداً في النار؛ لأن أهل العلم يميزون بين الكفر والكافر، وبين النفاق والمنافق، وبين الفسق والفاسق، فربما يأتي المرء عملاً من أعمال الكفر وليس بكافر، وربما يأتي عملاً من أعمال الفسق وليس هو بفاسق، وكذلك النفاق.
وهذه الخصال إنما هي خصال نفاق، وهي خصال المنافقين التي وردت في الكتاب والسنة، لكن لا يلزم من وجودها وجريانها على جوارح العبد المسلم الذي اطمأن قلبه بالإيمان قولاً وعملاً أن يكون منافقاً، بمعنى: أن يكون مخلداً في النار.
قال: إن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام نفاقاً أكبر، بمعنى: أنه يظهر الإسلام ويبطن الكفر، هذا النفاق الذي يخلد صاحبه في النار، ويكون في الدرك الأسفل منها.
أما هذه الخصال والخلال والأمارات والعلامات وإن كانت من أخلاق المنافقين، إلا أنها لو أتت على جوارح المسلم أو فعلها المسلم المصدق المؤمن؛ فإنه يكون قد تشبه بالمنافقين في بعض خصالهم، لا أنه منافق خالص، أي: خارج من ملة الإسلام وداخل في الكفر.
ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في النار.
وقال القرطبي: إن اختلاف هذه الخصال في الروايات لا يقصد به الحصر، وإنما يقصد به ذكر بعض خصال المنافقين.
ولذلك جاء في رواية عند مسلم: (من خصال المنافقين: أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) فـ (من) هنا للتبعيض، يعني: هذه الخصال المذكورة إنما هي بعض خصال المنافقين، ولم يرد النبي عليه الصلاة والسلام حصر ذلك.
ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أو غيرها، أنها منبهة على ما عداها.
يعني: هناك خصال أخرى، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاثة: القول والفعل والنية، فنبه على فساد القول بالكذب؛ لأن الكذب متعلق باللسان، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف.
ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري.(31/4)
حديث (لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب) وما في معناه كلام السلف
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الصدق والكذب جميعاً في قلب مؤمن، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعاً)].
قال: [وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب].
يعني: المرء يطوي قلبه ويعزم نفسه على أن يتخلق بجميع الأخلاق، وربما تكون في المرء المسلم خلال وخصال لا ينبغي أن يتخلق بها؛ لأنها من أخلاق غير المسلمين، لكن الذي ينبغي أن يتنزه عنه المسلم هو الكذب والخيانة.
قال: [وعن عبد الله قال: المؤمن يطوى على كل خلة، إلا الخيانة والكذب].
قال: [وقال الحسن: كانوا يقولون: من النفاق اختلاف اللسان والقلب، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج].
يعني: كانوا يعدون هذه من خصال المنافقين؛ أن يختلف قوله عن مكنون قلبه، فيفصح بلسانه بضد ما استقر في قلبه، وكذلك اختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج.
قال: [وقال حذيفة: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: يا أبا عبد الله! وكيف ذلك؟ قال: لأن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء أعلنوه].
يعني: كان المنافقون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لا تزال فيهم بقية من حياء، فكانوا يخفون نفاقهم، وينبغي أن تلحظ أن حذيفة رضي الله عنه القائل لهذا الكلام، إنما تكلم به في زمن التابعين، فتصور أنه يقول: المنافقون في زمن النبوة خير من المنافقين في زمانكم، فماذا لو أن حذيفة رضي الله عنه اطلع على منافقي وملاحدة هذا الزمان؟ قال الإمام الخطابي في شرح هذا الحديث: ومعناه أن المنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا قد أسلموا، وإنما يظهرون الإسلام رياءً ونفاقاً، ويسرون الكفر عقداً وضميراً، فأما اليوم فقد شاع الإسلام وتوالد الناس عليه وتوارثوه -يعني: ولدوا في بيئة إسلامية- فمن نافق بأن يظهر الإسلام ويبطن خلافه فهو مرتد؛ لأن نفاقه نفاق كفر أحدثه بعد قبول الدين والإيمان.
[وقال شقيق بن سلمة: قال عبد الله بن مسعود: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلنا: وكيف ذاك؟ قال: لأن أولئك أسروه وهؤلاء أعلنوه].
[وقال حذيفة: إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فهو الكفر بعد الإيمان].
يعني: فهو الكفر الصريح بعد الإيمان، لأنه ردة.
[وعن حذيفة لما سئل: ما النفاق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به].
أي: الذي يصف الإسلام للغير ولا يعمل به.
فعمله مخالف لقوله، وهذا الذي بين لنا اختلاف الدخول والخروج، واختلاف اللسان مع عقد القلب، واختلاف السر والعلانية.
[وقال حذيفة: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم في المجلس عشر مرات].
وهذا دليل على أن الناس في نقصان في إيمانهم إلى قيام الساعة.
وروايات كثيرة يشهد بعضها لبعض لأن معناها واحد: [أن فلاناً وفلاناً وفلاناً كانوا جلوساً على باب حذيفة فتحدثوا بينهم بحديث، فخرج عليهم حذيفة فامتنعوا -أي: سكتوا عن الكلام- فقال حذيفة: ما كنا نعد النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا، أنكم تسرون أقوالكم أمام أهل الإيمان وتفشونها إذا انصرف عنكم أهل الإيمان.
وفي رواية أنه قال: إنكم تتكلمون كلاماً إن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق، وإنها ستكون فتن بين المؤمنين].(31/5)
كلام السلف في الدخول على الأمراء والثناء بغير حق وأنه من النفاق العملي
وفي رواية [عن أبي الشعثاء: قال: قيل لـ ابن عمر: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره.
فقال: كنا نعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق].
وأنتم تعلمون أن كثيراً من العلماء والمشايخ إنما يدخلون على الأمراء والسلاطين، فيقولون لهم أقوالاً يعلمون أنها خلاف شرع الله عز وجل، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ومن اقترب من السلطان افتتن)، فأعظم فتنة في دين المرء ودنياه أن يطرق باب السلطان، إلا أن يكون سلطان ديانة، أي: صاحب دين يحتاج إلى مؤازرة ومساندة أهل العلم من الصالحين والأتقياء الذين يبذلون له النصيحة في الليل والنهار كما كان الأمر في زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
[وعن عروة قال: قلت لـ عبد الله بن عمر: إنا لندخل على الأمراء يقضي أحدهم بالقضاء نراه زوراً فنقول: وفقك الله].
أي: يدعون له مع أنهم يعلمون أنه ما نطق إلا بالزور، وهم مع ذلك يدعون له.
[وننظر إلى الرجل منا فنثني عليه، قال: أما نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نعد هذا نفاقاً، فما أدري ما تعدونه أنتم؟!] وهذا كلام يخرج مخرج التقريع والتوبيخ والذم لهذا الفعل؛ لأن هذا كان هو النفاق على عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
[وعن إبراهيم النخعي قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: إنا ندخل على أمرائنا فنزكيهم ونثني عليهم، ثم نخرج من عندهم فنسبهم، قال: كنا نعد ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم النفاق].
[وعن عبد الله قال: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه ويخرج وما معه من دينه شيء].
يعني: يحل له الحرام، ويحرم عليه الحلال، يرضيه بسخط الله عز وجل، فيخرج وقد تأثر دينه جداً، ولذلك دخل أحد الصالحين في حلقة رجل من أهل العلم، فدخل عليه رسول السلطان فناوله صرة، فأنفقها العالم في الطلاب قبل أن يقوم من مقامه، فقال له ذاك الرجل الصالح: أقبلت هدية السلطان؟ قال: يا فلان! أما رأيت ما قد تصرفت فيها، إني أنفقتها في أهل العلم وطلابه.
قال: أبالله عليك أقلبك على السلطان بعدها كقلبك عليه قبلها؟ قال: لا والله، وأشهدكم أني حمار! هذا كلام العالم، حتى وإن لم يكن صاحب منفعة أو وجاهة، المهم أنه اقترب من السلطان بنوع اقتراب.
أنا أقول: إن الاقتراب كذلك من الأغنياء باب من أبواب الاقتراب من السلاطين، الغني لا يقبل منك إلا ما يوافق هواه وغناه، ويعلم الله عز وجل أن ظفر الأخ الفقير الذي لا يملك ثمن المواصلات إلى حضور مجلس العلم؛ لهو خير عندي من مائة غني، وإني لعلى يقين أن جل الأغنياء لا خير فيهم، إنما الخير كل الخير في الفقراء والمساكين، ولذلك هم أتباع الأنبياء، ليسوا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام فقط، فأتباع الأنبياء هم الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات، والواحد منهم يبذل روحه قبل أن يبذل ماله في سبيل نصرة دين الله عز وجل، وليس معنى ذلك أن كل الأغنياء لا خير فيهم، بل جلهم لا خير فيهم، وإن الغني إنما يأخذ منك الفتاوى المفصلة على هواه وعلى شهوته، أما أن يقبل دين الله عز وجل كله ويطبقه على نفسه ويذل نفسه للمؤمنين، فهذا لا يكون من الأغنياء إلا في النزر اليسير جداً، إذا كان هذا في الأغنياء الذين لا سلطان لهم ولا وجاهة، ولا يملكون مقدرات الأمور كما يملك السلاطين بإذن الله تعالى، فما بالك بالسلطان الذي يؤذيه أن يسمع أمراً أو نهياً، حلالاً أو حراماً، فهذا بلا شك أمر خطير جداً أن يقترب العالم من السلطان، لابد للعالم -قبل أن يأخذ شيئاً من السلطان ينتفع به في دنياه- أن يعلم أن السلطان يأخذ من دينه أضعاف ما أعطاه من دنياه.
قال: [إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه ويخرج وما معه من دينه شيء.
قيل: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنه يرضيه بما يسخط الله].(31/6)
حديث حذيفة (القلوب أربعة)
قال: [وعن حذيفة قال: القلوب أربعة: قلب أغلق].
أي: عليه غشاوة لا يقبل ولا يسمع الحق، [فذاك قلب الكافر، وقلب مصفح اجتمع فيه النفاق والإيمان]، ومعنى المصفح الذي له وجهان، يأتي أهل الكفر بوجه الكفر، ويأتي أهل الإيمان بوجه الإيمان.
قال: [فذاك قلب المنافق.
وقلب فيه إيمان ونفاق؛ فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل المنافق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيها غلب عليه غلب].
يعني: إذا مده الماء الطيب غلب إيمانه على نفاقه، وإذا كان المدد قيحاً وصديداً غلب عليه نفاقه.
وفي رواية عند ابن أبي شيبة في جزء الإيمان قال: وقلب فيه سراج يزهر فذاك قلب المؤمن.
وهذا السراج إنما هو سراج الإيمان والتوحيد.(31/7)
حديث ابن عمر (مثل المنافق في أمتي مثل الشاة العائرة بين الغنمين)
قال: [وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المنافق في أمتي مثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، لا تدري أيتها تتبع)]، الشاة العائرة هي المتحيرة التي لا تميل إلى هذه الشياه ولا إلى تلك الشياه، ليست تابعة لهذه الغنم ولا لتلك، إنما تذهب إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة، فهي مذبذبة لا تستقر هنا ولا تستقر هناك، وكذلك المنافق يدور أمره بين إظهار وجه الكفر للكفار، وإظهار وجه الإيمان لأهل الإيمان، فلا هو يستقر مع الكفار ويكون صريحاً واضحاً، ولا هو يستقر مع أهل الإيمان فيكون صريحاً واضحاً.
والحديث أخرجه مسلم.(31/8)
حديث أبي هريرة (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى)
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)].(31/9)
حديث ابن المسيب (كيف سمعت رسول الله يقول في المنافق)
قال: [وعن أبي طوالة قال: كنت جالساً عند سعيد بن المسيب بالسوق، فمر به رجل فدعاه فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المنافق]، سعيد بن المسيب يسأل هذا الرجل وهو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
[قال: سمعته يقول: (إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف.
فمر به آخر من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فدعاه سعيد فقال مثل ذلك، ثم مر به آخر فسأله فقال مثل ذلك)].(31/10)
آثار السلف في كثرة النفاق العملي وانتشاره
قال: [وعن أبي البختري قال: قال رجل: اللهم أهلك المنافقين.
قال حذيفة: لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم].
يعني: أن نفاق العمل الذي لا يخرج به المرء من الإسلام قد كثر جداً، ولو أن هؤلاء المنافقين هلكوا -لأن الدعوة عامة، حيث قال: اللهم أهلك المنافقين- لبقي قلة قليلة جداً من أهل الإيمان الذين لم يتخلقوا بأخلاق المنافقين ولم يقعوا في خصال النفاق، وحينئذ يستوحشون جداً؛ لأنهم قلة.
وأنا متصور لو أن الله تعالى يستجيب دعوة الإمام مثلاً وهو في المنبر عند أن يقول: اللهم أهلك المنافقين، وهو يشمل منافق العمل وغيره؛ فإن أول من يهلك هو الإمام ومن وراءه، ولن يبقى في المسجد أحد.
ومع وجود هذا النفاق العملي لو قلنا: حي على الجهاد، كل هؤلاء الناس سيجاهدون، ففي هذه الحالة نكون انتصفنا من العدو وإن كان فينا من لا يستحق النصر، لكنها شعب وأخلاق، فهو هنا يتكلم عن النفاق العملي.
ومرة من المرات قال لي شخص: أنا أتمنى أن يرسل الله عز وجل لي علامة إذا وقعت في معصية أن يحرق ثوبي على بدني.
قلت له: إذاً ستمشي عرياناً دائماً؛ لأن المرء لا يخلو من معصية، إما باطنة وإما ظاهرة، فقلت له: هذا ستر الله عز وجل عليك.
فقال: لو أن المنافقين هلكوا لما انتصرتم في القتال.
أي: فلن تجدوا أحداً يجاهد معكم، فاجعلوا الأمر مستوراً.
قال: [وقال الحسن: لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرق].
يعني: سيكون أهل الإيمان ثلة قليلة جداً فقلَّ أن تجد من كل حارة أو شارع أو حي مؤمناً.
وحديث حذيفة بن اليمان لما تكلم عن الأمانة -والحديث طويل- وفي نهايته قال: وأما اليوم فلا أتعامل إلا مع فلان وفلان.
يريد أن يقول: إن الأمانة خرجت من قلوب الرجال، حتى لم تبق أمانة بالمرة، ولو أني أردت أن أتعامل مع أحد لتعاملت مع فلان وفلان من بني فلان وبني فلان.
وهذا أمر عظيم وشديد على النفس أن حذيفة لا يختار لدنياه ولدينه من أمة بأسرها إلا شخصين اثنين أو ثلاثة يعاملهم ويتعامل معهم، أما الباقون فقد ضاعت منهم الأمانة، ومعلوم أن ضياع الأمانة خصلة من خصال النفاق، فحينئذ بقاء الأمر على ما هو عليه -ما دام أن الأمر لا يخرج به صاحبه من دائرة الإسلام- فيه مصلحة المجموعة الإسلامية أو الإيمانية.
قال: [وعن الشعبي قال: لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات].
قال: [وعن مالك بن دينار قال: أقسم لو نبت للمنافقين أذناب ما وجد المؤمنون أرضاً يمشون عليها].
يعني: لو أن الله عز وجل جعل علامة للمنافق، أو عاقب كل من كانت فيه خصلة من خصال النفاق العملي الذي لا يخرج به المرء من الملة، بأن جعل له ذيلاً وذنباً يظهر في بدنه؛ لاطلع كل منا على ذنب صاحبه، فإنه كلما ينظر في وجه صاحبه وأنه كان يظنه من الطيبين أو من الصالحين ويجد له ذنباً؛ يصب بإحباط ويستوحش، فيقول: ما الذي حدث، لم يبق في الناس خير؟ وعندما ينظر يجد نفسه في وسط أمة هو الوحيد الذي ليس له ذنب، فهذا مع من سيجلس؟ ويتكلم مع من؟ ويجاهد مع من؟ ويؤدي فروض العين مع من؟ وفروض الكفاية مع من؟ وهذا أمر عجيب جداً، وفيه وحشة شديدة جداً.
فالمراد من هذه النصوص أن النفاق كثر في الأمة، وأن صاحبه لا يخرج به من الملة، إنما يخرج صاحب النفاق الأكبر -أي: نفاق الاعتقاد والجحود والعناد وغير ذلك- من ملة الإسلام، ويدخل في حظيرة الكفر.
قال: [وعن الشعبي: ما أدري ما تقولون! من كان كذاباً فهو منافق].
الشعبي يوبخ قومه فيقول: الكذاب منافق، أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (علامة المنافق: إذا حدث كذب)، فها هو النص يثبت النفاق للكذاب، لكن الشعبي يُبَكِّتُ من ظن أن هذا النفاق نفاق أكبر، وقال: أتظنون أن الكاذب منافق؟ يعني: هل يخرج بهذا الكذب عن دائرة الإسلام؟
الجواب
لا.(31/11)
أقسام النفاق
قال: [وعن الحسن قال: النفاق نفاقان].
يعني: أكبر وأصغر.
قال: [نفاق بالتكذيب ونفاق بالعمل]، فمن نافق بتكذيب الله ورسوله وتكذيب الشرع، فلا شك أنه خارج عن ملة الإسلام، ونفاق العمل كأن يكذب إذا حدث، ويخلف إذا وعد، ويخاصم إذا فجر، فكل هذا بلا شك لا يخرج به صاحبه من الملة.
والفجور في الخصومة مثل أن نفترض أننا نقع في بعض ونختلف مع بعض، والذي سيحصل أنني أتكلم بكل المخازي التي عندك وأنت تقول كل المخازي التي عندي، وهذا نسميه فجوراً في الخصومة.
أما أهل الإيمان فهم الذين يسترون على بعضهم البعض حتى إذا وقعت بينهم الخصومة، أما المنافقون فإن كل واحد منهم يتغاضى عن كل الأخطاء، حتى إذا وقعت بينك وبينه خصومة فإنه يخرج عيوبك كلها والفضائح، وهذا بلا شك خصلة من خصال المنافقين، لا أقول: إن من فعل ذلك يكفر، وإنما أقول: هذا خلق من أخلاق المنافقين ينبغي أن يتنزه عنه أهل الإيمان.
قسم علماء السلف النفاق إلى قسمين: نفاق قلب، ونفاق عمل.
فنفاق القلب هو نفاق التكذيب الذي يتصل بالمعتقد، أما نفاق العمل فهو معصية كسائر المعاصي، وخلق مشين يتصف به المنافقون، ولا يلزم من ذلك إخراجه من الملة.
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على ترجمة الإمام البخاري لهذا الحديث: (باب علامة المنافق)، قال: لما تقدم من إثبات أن مراتب الكفر متفاوتة.
فهناك للكفر مراتب ودرجات، وكذلك الظلم.
فالكفر كفران، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فالذي يحلف بغير الله عز وجل وأسمائه وصفاته لا يخرج من الملة، وهذا كفر العمل، فكما أن الكفر كفران، فكذلك الفسق فسقان، وكذلك النفاق نفاقان.
قال: وكذلك الظلم.
فقد تكلم الإمام البخاري عن أقسام الظلم ثم تكلم عن أقسام النفاق، قال: والنفاق نفاقان.
قال الكرماني: مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن النفاق علامة عدم الإيمان، أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون كفر، وبعض النفاق يخرج صاحبه من الملة.
والنفاق لغة هو: مخالفة الظاهر للباطن، يعني: يتكلم المرء بكلام ويبطن خلافه.
فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإذا كان متعلقاً بالعمل، فهو نفاق العمل الذي لا يخرج به صاحبه من الملة، وهذا هو الضابط.
قال: ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه.
قال الإمام البغوي: والنفاق ضربان، يعني: أنه قسمان ونوعان.
أحدهما: أن يظهر صاحبه الإيمان وهو مسر للكفر، كالمنافقين الذين كانوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
والثاني: ترك المحافظة على حدود وأمور الدين سراً ومراعاتها علناً، فهذا يسمى منافقاً، ولكنه نفاق دون نفاق، لا يكفر به صاحبه ويخرج من الملة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالإسلام يتناول من أظهر الإسلام وليس معه شيء من الإيمان.
والإسلام يشمل من نطق به وإن لم يكن في قلبه ذرة من إيمان، وهذا إسلام المنافقين، فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، لكنهم عند الله كفاراً وعند الخلق مسلمين.
قال: وهو النفاق المحض، كما أن الإسلام يتناول من أظهر الإسلام مع التصديق المجمل في الباطن، ولكن لم يفعل الواجب كله، لا من هذا ولا في هذا، وهم الفساق، يعني: هو فعلاً محب لله ورسوله، بخلاف المنافق فإنه مبغض لله ورسوله، فهذا كالمنافق تماماً بتمام في إعلان كل واحد منهما للإسلام والنطق بالشهادتين، أما المنافق فقد أبطن خلاف ما أظهر، وأما هذا فإن باطنه كظاهره يحب الله تعالى ورسوله ولا يرضى بالإسلام بديلاً، لكنه فرط في الواجبات فارتكب المحرمات وترك المأمورات، فهذا فاسق.
ويكون في أحدهم شعبة نفاق، ويتناول من أتى بالإسلام الواجب وما يلزمه من الإيمان، ولم يأت بتمام الإيمان الواجب، وهؤلاء ليسوا فساقاً تاركين فريضة ظاهرة، ولا مرتكبين محرماً ظاهراً، لكن تركوا من حقائق الإيمان الواجبة علماً وعملاً ما كانوا به مذمومين.
وهذا هو النفاق الذي كان يخافه السلف رضي الله عنهم على أنفسهم، وهو نفاق العمل، فإن صاحبه قد يكون فيه شعبة نفاق.
ويتعرض ابن القيم لهذا الموضوع قائلاً: وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن، فأوجب لهم الدرك الأسفل من النار, ونفاق العمل كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أربع من كن فيه كان منافقاً) وذكر الأدلة التي بين أيدينا.
قال: فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان، وعلاماته: إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وهذه العلامات المذكورة لا تجتمع على جوارح العبد الذي قد اطمأن قلبه بالإيمان، فهو قد يأتي بجوارحه أفعالاً تخالف مكنون قلبه المطمئن بالإيمان، وهي خصال وأفعال المنافقين.
فيقول: أصل الإيمان في قلبه وإن خالفت أفعاله ما كان في قلبه، لكن هذه الأفعال لا تبلغ به درجة الكفر، وهذا نفي للكمال الواجب.
قال: لكن إذا استحكم وكمل فقد ينسل(31/12)
الأحاديث الواردة في نفاق الرياء والمنافقين من القراء
قال: [قال عمر: (عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أخوف ما أخاف عليكم منافق عالم اللسان، وفي رواية: (منافق عليم اللسان)] يعني: أنه فصيح وبليغ، يتكلم بكلام أحلى من العسل حتى يأخذ تلابيب القلوب.
قال: (يجاء بالرجل يوم القيامة يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه) أي: تنزل أمعاؤه في النار أمامه.
(فيدور به كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه الناس فيقولون: يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)، فهذا جزاؤه يوم القيامة.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان) يعني: إنساناً فصيحاً وبليغاً.
[وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثر منافقي أمتي قراؤها)]، يقصد بالنفاق هنا شعبة الرياء؛ لأن الرياء شرك أصغر، وهو باب من أبواب النفاق العملي.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أكثر منافقي أمتي قراؤها)؛ لأن القراء هم أصحاب الفضل، وإنما يزينون بعلمهم وقراءتهم ما عندهم من علم يستعطفون بذلك الناس ويستدرون مدحهم وأموالهم، لكنهم في حقيقة الأمر لا يبتغون بهذه القراءة ولا بهذا العلم وجه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: مجاهد، وعالم، وجواد)، وقد ذكر هؤلاء الثلاثة لأنهم أصحاب الفضل، والناس يتطلعون إليهم، بل هم الذين يحرصون على حسن الثناء والذكر الجميل بين الناس، بخلاف غيرهم فإنهم لا يحرصون على ذلك أصلاً.
فعامة الناس لا يحرصون على الثناء، وإنما الذي يحرص على الثناء رياءً وسمعة هو صاحب الفضل، ولذلك يجاء بهم يوم القيامة فيكونون أول الداخلين في النار حتى تسعر بهم، ويكونون هم وقود النار.
فيجاء بهم يوم القيامة، حتى يقف هذا المجاهد بين يدي الله عز وجل وبعد أن يعرفه الله تعالى نعمته عليه يقول: ماذا فعلت فيها؟ يقول: يا رب! جاهدت فيك.
فيقول: كذبت، بل جاهدت ليقال مجاهد، بل أنفقت ليقال جواد، بل تعلمت العلم ليقال عالم، فيؤمر بهم فيسحبون على وجوههم، حتى يلقوا في النار ولا كرامة، نسأل الله السلامة.
قال الشيخ عبيد الله بن محمد وهو المعروف بـ ابن بطة: [فإن سأل سائل عن معنى هذا الحديث: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) وقال: لم خص القراء بالنفاق دون غيرهم؟ فالجواب عن ذلك: إن الرياء لا يكاد يوجد إلا فيمن نسب إلى التقوى]، يعني: الرياء دائماً ينسب لأهل التقوى؛ لأنهم في حاجة إليه.
قال: [ولأن العامة والسوقة قد جهلوه]، أي: لا يعرفون التقوى.
[والمتحلين بحلية القراء قد حذقوه]، أي: صاروا فيه مهرة.
[والرياء هو النفاق، لأن المنافق هو الذي يسر خلاف ما يظهر، ويسر ضد ما يبطن، ويصف المحاسن بلسانه ويخالفها بفعله، ويقول ما يعرف، ويأتي ما ينكر، ويترصد الغفلات لانتهاز الهفوات.
وقال ابن المبارك رحمه الله: هم الزنادقة؛ لأن النفاق على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام هي الزندقة فيمن كان بعده].(31/13)
الأحاديث الواردة في أن الغناء والفواحش تنبت النفاق في القلب
قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب].
[وعن أبي وائل: أنه دعي إلى وليمة فرأى لعابين -أي: لهايين- فخرج وقال: سمعت ابن مسعود يقول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل].
قال الشيخ ابن بطة: [فهذا عبد الله بن مسعود رحمه الله يعلمك أن استماع الغناء ينبت النفاق في القلب، يعني: مجرد استماع الغناء ينبت النفاق في القلب]؛ لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا.
فلو كان قلب المسلم نقياً صافياً، ما شبع من كلام الله عز وجل.
قال: [فما ظنك بارتكاب الفواحش، والإصرار على الكبائر، والاستهانة بالموبقات التي تسخط الرب تعالى، فكم بقاء الإيمان المنزه معها سوءة لمن زعم أن الإيمان قول لا يضر قائله ترك الفرائض، ولا ينقصه ارتكاب الكبائر]؟ وهذا رد على المرجئة الذين يقولون: المؤمن هو المصدق، فمن صدق بالإيمان استوى إيمانه مع إيمان جبريل وميكائيل.
ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا الكلام في غاية السقوط والبطلان.
ونفاق العمل لابد وأنه واقع في الأمة، وليس يعني ذلك الإذن للأمة والرخصة بالبقاء على هذه الخصال المذمومة، وإنما هذا تحذير لهذه الأمة أن تتخلق بأخلاق المنافقين أو أن تتصف بصفاتهم.(31/14)
داء النفاق وصفات المنافقين من كتاب مدارج السالكين
وفي كتاب تهذيب مدارج السالكين يقول تحت عنوان داء النفاق، في المجلد الأول: وأما النفاق فهو الداء العضال الباطل الذي يكون الرجل ممتلئاً منه وهو لا يشعر، فإنه أمر خفي على الناس، وكثيراً ما يخفى على من تلبس به، فيزعم أنه مصلح، وهو في حقيقة الأمر مفسد، وهو نوعان: أكبر وأصغر، فالنفاق الأكبر يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل، وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به، لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولاً للناس، يهديهم بإذنه وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه.(31/15)
ضرر المنافقين واتصافهم بالفساد والإفساد
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن، وجلّى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائف العالم الثلاث في أول سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آية في أول ربع من سورة البقرة، وذلك لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإن بلية الإسلام بهم شديدة جداً؛ لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد.
والمنافق في هذه الأيام يتكلم من باب الدفاع عن الإسلام في كتاب الله، وفي أحاديث اتفقت كلمة الأمة على صحتها وقبولها بالتواتر، ومع هذا فإنه يقول: هذا كلام لا يتناسب مع العقل والتكنولوجيا والتمدن وغير ذلك، ومعظم ما تتناقله كتب السنة لا يتناسب مع روح العقل، ويجملون وجوههم القبيحة بأنهم يدافعون عن الإسلام لا يدفعون الإسلام، هكذا يقولون! فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوه، وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإٍسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، اتفقوا على مفارقة الوحي.
أي: كلمة المنافقين وعلامتهم أنهم اتفقوا فيما بينهم على مفارقة الوحي.
فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون، كما قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].
وقال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، ولأجل ذلك: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها -يعني: ليسوا يعرفون علامات الإيمان- ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وأفلتت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها، لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله، ولم يرفعوا به رأساً، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأساً، خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فقالوا: ما لنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئاً من اليقين، حسبنا ما وجد عليه خلفنا من المتأخرين، فإنهم أعلم بها من السلف الماضين، وأقوم بطرائق الحجج والبراهين، وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور، ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر، ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحذور، فطريقة المتأخرين أعلم وأحكم، وطريقة السلف الماضين أجهل لكنها أسلم هكذا يقولون.
والأشاعرة إذا تكلموا في الصفات يقولون: طريقة السلف أحسن وأسلم، وطريقة الخلف أعلم؛ يعنون: طريقة الخلف الذين يؤولون ويفوضون العلم والمعنى، أما طريقة السلف فهي أسلم وأحكم.
وهذا كلام في غاية السقوط والبطلان، لا يمكن أن يكون هذا أبداً، فطريقة السلف أسلم وأحكم وأعلم، أما طريقة الخلف فهي طريقة مردودة باطلة لا حاجة لنا بها.
قال: قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون، كما قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].(31/16)
صفات المنافقين عند سماع القرآن وحضور العبادات البدنية والتربص بالمؤمنين
قال: أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن، وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون، كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].
لهم علامات يعرفون بها مبينة في السنة والقرآن، بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان، قام بهم والله الرياء وهو أقبح مقام قامه الإنسان، وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن، فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلاً -يعني: من علامات المنافقين أنهم ليسوا مخلصين- كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، فهذه ثلاث علامات: إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراءون بهذه العبادة الناس، كما أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً.
أحدهم -أي: هؤلاء المنافقين- كالشاة العائرة بين الغنمين، أي: المتحيرة بين مجموعتين من الغنم.
تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، ولا تستقر مع إحدى الفئتين، فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وأعز قبيلاً، كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143].
كما أن من علاماتهم: أنهم يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن، يعني: يتربصون الدوائر وينتظرون السقطات والهفوات لأهل السنة والقرآن.
فإن كان لهم فتح من الله قالوا: ألم نكن معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كانت الدائرة لأعداء الكتاب والسنة ولهم نصرة ونصيب قال المنافقون: ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم -يعني: يميلون إلى الكفار إذا كانت الدائرة لهم- وأن النسب بيننا قريب، فيا من يريد معرفتهم! خذ صفاتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلاً، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].
يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه.
وهذه أيضاً من علامات المنافقين، وهي أنهم يتكلمون بكلام جميل جداً جداً، ولكن هذا على الجاهل، أما العالم فلا.
قال: وكذلك يشهد الله على ما في قلبه من كذبه وتمويهه، فتراه عند الحق نائماً وفي الباطل على الأقدام واقفاً، فخذ وصفهم من قول القدوس السلام: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد.
يعني: لا يأمرون بالمعروف، إنما يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
يقول: وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد.
يعني: هم كذلك يصلون ويصومون ويحجون، بل ويجاهدون في صفوف الموحدين، ومع هذا قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، أي: كلما تقول لهم: ألسنا مأمورين عند الخلاف والنزاع أن نحكم الكتاب والسنة؟ فيقولون: معذرة، اترك هذا الكتاب على جنب، واترك السنة على جنب، واترك ربنا على جنب والرسول على جنب ولنحتكم إلى العقل! فحقيقة أن هذه النصوص كانت في الزمن الماضي، نزلت في مشركي مكة أو في يهود المدينة أو في نصارى الشام فهذا كفر يا إخوان وردة صريحة جداً لا تحتاج إلى اجتهاد، لو أتى جاهل وقال: هذا ردة والقائل بها مرتد لا نطالبه قط بثبوت الاجتهاد لديه أو العلم؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة.
قال: إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسوله رأيتهم عنه معرضين، فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمداً بعيداً، ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضاً شديداً، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61]، فيقول القائل منهم: لا أريد ديناً، ليس كلما أكلمك تقول: إن ربنا قال والرسول قال! وهذه علامة المنافق، نحن كلنا نقول ذلك، وآباؤنا وأمهاتنا وبلادنا وأمتنا كلها تقول هذا الكلام، إذاً: فعلاً لو خرج للمنافق ذنب سيستوحش المؤمن، بل إنه لن يجد أحداً، كلما تقع عينه على شخص يجد له ذنباً، وسيموت كمداً، والله عز وجل ساتر لنا.(31/17)
صفات المنافقين في أجسامهم وكلامهم
قال: تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه.
يعني: يحلف لك أيماناً مغلظة على صحة قوله من غير أن تطالبه باليمين، بل هو يتبرع به ابتداء.
لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه، فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه، وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2]، يعني: وقاية وستراً.
{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2] يعني: تباً لهم، برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا، وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم، فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا، فكيف حالهم عند اللقاء -أي: لقاء الله عز وجل- وقد عرفوا ثم أنكروا، وعموا بعدما عاينوا، وأبصروا الحق وأنكروه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3].
وهم كذلك أحسن الناس أجساماً، وأخلبهم لساناً، وألطفهم بياناً، وأخبثهم قلوباً، وأضعفهم جناناً، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها، قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
ومن علاماتهم: أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول، فالصبح عند طلوع الشمس، والعصر عند الغروب، وينقرونها نقر الغراب، إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب، إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب، ولا يشهدون الجماعة، بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان.
إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم، لا يفرحون بذلك.
وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم، ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، كما قال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120] كره الله طاعتهم، يعني: الله تعالى لا يحب منهم الطاعة؛ بل يكرهها لخبث قلوبهم وفساد نياتهم، فثبطهم عنها وأقعدهم، وأبغض قربهم منه وجواره؛ لميلهم إلى أعدائه، فطردهم عنه وأبعدهم، وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم، وأشقاهم وما أسعدهم، وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين، فقال تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم، وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم، فقال وهو أحكم الحاكمين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
ثقلت عليهم النصوص فكرهوها، وأعياهم حملها فألقوها، وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها، وصالت عليهم نصوص الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها، ولقد هتك الله أستارهم، وكشف أسرارهم، وضرب لعباده أمثالهم، واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، يعني: أن المنافقين باقون إلى قيام الساعة.(31/18)
بيان الله لصفات المنافقين وأن المؤمنين يعرفونهم من فلتات ألسنتهم وتقاسيم وجوههم
قال: فذكر الله تعالى لذلك أوصافهم لأوليائه ليكونوا منهم على حذر، وبينها لهم فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان.
أيها الإخوة! إن الشخص مهما كتم شيئاً لابد أن يظهر إما على وجهه أو لسانه، ولابد أن يفضح؛ لأن هذا حكم الله تعالى فيه.
قال: ووسمهم لأجلها بسيم لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان، وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد.
الصيارف والنقاد يعرفون العملات المزيفة من الصحيحة، لأنهم متخصصون، فهم يفهمونها مباشرة، كذلك أهل العلم والبصيرة والإيمان يجلسون مع المنافق جلسة واحدة فيقولون: هذا منافق، فهم مثل الصيارفة بالضبط، ولذلك قال بعض الطلاب لرجل من المحدثين: كيف تعرف أن الحديث معلول؟ قال: أن تأتيني به فأقول لك إنه معلول، فتذهب به إلى محمد بن وارة فيقول لك: معلول، فتذهب به إلى فلان فيقول لك: معلول، فإذا اجتمعت كلمتنا فاعلم أن الحديث معلول.
وهذا لكثرة عناية أهل العلم بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فشخص مثل الدارقطني مجرد أن ينظر في الحديث يقول: هذا ثابت أو ليس بثابت، فإن الدارقطني إمام الدنيا في زمانه، ليله ونهاره مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى صارت عنده ملكة، كمثل من يجد نصرانياً في الشارع، فالذي عنده بصيرة يعرفه من مظهره أنه نصراني.
فالله سبحانه وتعالى وضع في قلبك نوراً اسمه نور الإيمان والبصيرة، تعرف به أعداء الله عز وجل من المنافقين والكذابين والدجالين والنصارى واليهود.
قال: كيف ذلك والناقد البصير قد كشفها لكم، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:29 - 30]، أي: مجرد ما تنظر في وجه الواحد منهم تعرف أنه منافق من غير أن يقول الله عز وجل لك: يا محمد! هذا منافق، فبمجرد العلامات والأمارات وتقسيمات الوجه تعرف أنه منافق، قال تعالى: {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] فسماه لحناً، وطراوة وجمالاً في العبارة واللفظ، ودقة وأداء وحسن تعبير، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان)، يعني: كما يقال: معلم كبير جداً، يتكلم بكلام يأخذ قلبك ويسحبه معه، تقول: سبحان الله! ما هذا الجمال، أيعقل أن في هذا الزمن شخصاً يتكلم بالبلاغة والفصاحة هذه؟ وتجده عند الله لا يساوي تعريفة، لأنه منافق أو مراءٍ.(31/19)
صفات المنافقين وجزاؤهم يوم القيامة
قال: فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق -أي: يوم لقاء الله عز وجل- وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق، أي: ساق المولى عز وجل.
ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون، قال تعالى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43].
أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام، وهو دحض مزلة مظلم، لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطئ الأقدام، فقسمت بين الناس الأنوار، وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب، وأعطوا نوراً ظاهراً مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام، فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق.
يعني: سيأتي المنافقون ومعهم بعض النور؛ لأنهم كانوا يصلون، ويصومون، ويزكون، ويحجون، ويجاهدون مع المؤمنين، فهم كذلك نورهم يسعى بين أيدهم مثل المؤمنين، لكن المؤمن يجوز الصراط كله بإيمان مستقر في قلبه، أما هؤلاء فإنهم يرزقون نوراً وإن كان ضعيفاً، لكن هذا النور لا يخدمهم إذا توسطوا الصراط، فتأتي عاصفة تذهب بنورهم، هذه العاصفة هي عاصفة النفاق، فسقطوا جميعاً في نار جهنم، والعياذ بالله.
قال: فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح، فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور، فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب، ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح، باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة، ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان، ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13].
يعني: أهل النفاق عندما تنطفئ عاصفة الإيمان أو عاصفة النور ينادون أهل الإيمان من بعيد: ((انْظُرُونَا)) أي: انتظروا، ((نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) فينادي عليهم أهل الإيمان أو ينادي عليهم الملائكة: ((ارْجِعُوا)) أي: انظروا وراءكم، ((فَالْتَمِسُوا نُورًا)) وهذا على سبيل التقريع.
قال: لنتمكن في هذا المضيق من العبور، فقد أطفئت أنوارنا، ولا جواز اليوم إلا بمصابيح من النور: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13].
فهذه والله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل! قبل أن تنزل بك القاضية؛ إذا عاهدوا لم يفوا، وإن وعدوا أخلفوا، وإن قالوا لم ينصفوا، وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أعراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا.
فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران، فلا تثق بعهودهم، ولا تطمئن إلى وعودهم؛ فإنهم فيها كاذبون، وهم لما سواها مخالفون.
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(31/20)
شرح كتاب الإبانة - ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه الإيمان
وردت كثير من الآيات والأحاديث متوعدة بالعذاب على بعض المعاصي، وقد استدل أهل البدع بهذه الآيات والأحاديث على كفر مرتكب هذه الذنوب، أما أهل السنة والجماعة فقد أولوا هذه النصوص ولم يحملوها على ظاهرها، ليجمعوا بينها وبين بقية النصوص.(32/1)
باب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان وإن تاب راجعه] أي: رجع إليه الإيمان.
هذا الباب متعلق بذكر الذنوب التي إذا وقع فيها المرء ذهب عنه الإيمان، فإذا تاب إلى الله عز وجل رجع إليه الإيمان مرة أخرى.(32/2)
روايات حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]، أي: في الوقت الذي يزني فيه لا يكون مؤمناً، أو ينزع عنه الإيمان، كما لو كان لابساً ثوباً فنزعه، ثم لبسه مرة أخرى، فهو حين ارتكابه لهذا الذنب ينزع عنه الإيمان كما يخلع ثوبه، فإذا تاب إلى المولى عز وجل عاد إليه الإيمان كما لو عاد هو للبس ثوبه.
[(ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ولا ينتهب نهبة يرفع الناس أبصارهم إليه فيها وهو مؤمن حين ينتهبها].
وقد صحت هذه اللفظة مرفوعة من قوله عليه الصلاة والسلام.
والنهبة هي أخذ الأموال غلولاً أو أخذ الأموال ظلماً أو غير ذلك، فيقال للشيء اليسير: نهبة إذا انتهبها، ويقال كذلك للشيء العظيم: نهبة إذا انتهبها، ولكن لما كان الشيء اليسير حقيراً لدى أهله ومجتمعه لم يكن داخلاً في هذا الوعيد.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا قطع في أقل من ربع دينار).
فمن سرق أقل من ربع دينار فما دون ذلك لم يقطع، وإنما القطع في ربع دينار فما فوقه، وإن كان الكل يطلق عليه سرقة، ولكن ليس من سرق جنيهاً كمن سرق ألفاً، ولا من سرق ألفاً كمن سرق ملايين، وإن كانت كلها يطلق عليها سرقة، ولكن لا يقام على السارق الحد إلا إذا توفرت فيه شروط السرقة، ومنها: أن يبلغ المسروق بلغ ربع دينار فصاعداً، والدينار تقريباً حوالي مائة وثلاثين جنيهاً؛ لأن الدينار هو الدينار الذهبي، وأن يكون المسروق من حرز، يعني: في مكان محفوظ ومغلق عليه، وأتى هذا السارق وقطع هذا الحرز وأخذ منه ما بداخله.
وأما لو وجده ملقى في الشارع فالتقطه فلا يقال لمثله: سارق، وإنما يقال له: ملتقط؛ لأنه التقط شيئاً من الأرض وهذا يدخل في حكم اللقطة.
قوله: (ولا يشرب الخمر حين يشربها)، أي: حين يشربها عامداً عالماً بأنها خمر.
(ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم)، أي: يقولون: إن فلاناً ينهب مال فلان، أو يأخذ مال فلان، وهذا شيء عظيم، بدليل أن الناس فزعوا لما وقع منه هذا، وجلسوا ينظرون إليه ويتطلعون إلى فعله.
فهذا لا يكون مؤمناً في وقت فعله لهذا.
ومن نفس طريق [أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن)].
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الحدود يعني الخمر)، أي: لا يشرب ما يستوجب الحد.
[(حين يشربها وهو مؤمن، والذي نفس محمد بيده لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن، ولا يغل حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم).
والغلول مهما قل فهو غلول، وهو يختلف عن النهبة وعن السرقة، وإن كان الكل أخذاً لمال الغير، فالنهبة أخذ مال الغير، والسرقة أخذ مال الغير، والغلول أخذ مال الغير، ولكن كل واحد منها له مصطلح يخصه، وأحكام تحدد معالمه.
فالغلول هو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها، وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام مولى مجاهد، فلما قتل في المعركة قال الصحابة: (هنيئاً له؛ إنه مولى رسول الله، وإنه شهيد، وإنه في الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده إني لأراه الآن في نار جهنم، قيل: ولم يا رسول الله ألم يمت شهيداً؟! قال: إنما حجزه بردة غلها)، أي: كساء أو ثوب أو عباءة غلها وأخذها من الغنيمة، قال: (وإني لأراها الآن عليه تشتعل ناراً).
مع أن ثمنها قليل جداً، فالمرء يعذب بكل شيء مهما دق، حتى وإن كان عوداً من أراك، أي: ليس عوداً كاملاً من أراك، وإنما العود الصغير يعذب به المرء؛ لأنه نهبة أو سرقة أو غلول، قال: (فإياكم وإياكم)، يعني: احذورا هذه المعاصي.
وفي رواية قال: (والتوبة معروضة بعد)، يعني: من وقع منه ذنب من هذه الذنوب أو من غيرها، فإن باب التوبة مفتوح أمامه، إما باب التوبة العامة أو الخاصة، فباب التوبة العامة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها على غير عادتها، وهذا من أواخر علامات الساعة الكبرى.
وأما باب التوبة الخاصة فهو مالم تبلغ الروح الحلقوم وما لم يغرغر المرء، و (إن الله يقبل التوبة عن عبده ما لم يغرغر)، أي: فحينئذ لا تقبل توبته.(32/3)
كلام السلف في معنى حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن طاوس في هذا الحديث عن أبيه: إذا فعل ذلك زال عنه الإيمان]، يعني: قال طاوس اليماني: إذا وقع في هذه الذنوب زال عنه الإيمان، [وقال: الإيمان كالظل]، يعني: يذهب شيئاً فشيئاً، ولا يذهب دفعة واحدة، وإنما يذهب شيئاً فشيئاً، وهكذا الإيمان، فإذا أذنب العبد ذنباً ذهب عنه نور الإيمان شيئاً فشيئاً.
[وعن الأوزاعي قال: قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، قلت له: إنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمناً فما هو؟ أي: إن المعتزلة والخوارج يقولون: إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]، فإذا نفى عنه النبي الإيمان لم يبق له إلا الكفر، فهنا الأوزاعي ينقل إلى الزهري قول الخوارج الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة كافر، والخوارج يقولون: هذا حكمه في الدنيا والآخرة، وهو من المخلدين في النار، والمعتزلة يقولون: هو في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، فلا يثبتون له الإيمان ولا الكفر، وأما في الآخرة فإنهم يقولون بتخليده في نار جهنم.
وهذا يناقض ما عليه أهل السنة والجماعة، لأن المرء لا يمكن أن يحكم عليه بهذا، بل لابد أن يكون مؤمناً أو كافراً، يعني: إما أن يكون مؤمناً بإيمانه، أو فاسقاً بذنوبه التي أهلته لدرجة الفسق.
ولذلك فأهل السنة والجماعة يقولون: إن المرء قد يجمع لنفسه إيماناً وفسقاً، فالطاعات مصدرها الإيمان، والذنوب تؤدي إلى الفسوق، والمؤمن يفعل الطاعة وقد يفعل المعصية، فيكون مؤمناً بطاعته فاسقاً بكبيرته، ولا يكفر.
فلما [قال الأوزاعي للزهري: فإن لم يكن مؤمناً فما هو؟ أنكر ذلك وكره مسألته].
والإمام الأوزاعي من عظماء أئمة السنة، وهو بيروتي لبناني، وكان دائماً متصدياً للملاحدة والمنحرفين في تلك البقعة الطيبة من الأرض، ولم يكن في زمن الأوزاعي من يدانيه، فضلاً عن أن يساويه في العلم والعمل والورع، فلما سمع بـ الزهري وهو أكبر منه، قال: إنهم يقولون إذا لم يكن مؤمناً في حال وقوعه في الذنب، فماذا يكون؟ وكأنه يعرض بكلام الخوارج، كما قالوا لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا كنت رفضت أن تكون أمير المؤمنين فلا بد أن تكون أمير الكافرين.
وجعلوا الكلام في مسائل الإيمان والكفر كالكلام في الرياضيات والحسابات، مثل 1+1=2، ولا يمكن إثبات أنهما أكثر من اثنين أو أقل من اثنين أحياناً، فالمسائل الإيمانية والفطرية لا تقاس بالطريقة الحسابية.
وقوله: (حين ينتهبها) ظرف زمان، فيقولون: إن الإيمان يزول عنه في وقت ارتكابه لهذه الذنوب، فإذا خرج من ذنبه عاد إليه الإيمان وراجعه.
[وعن الحسن قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه الإيمان)] أي: يزول عنه الإيمان ما دام على الذنب.
وإذا قال الحسن عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو مرسل، ومراسيل الحسن البصري من أضعف المراسيل.
عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: ينزع منه الإيمان فإن تاب أعيد إليه الإيمان.
[وعن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قال عبد الله بن الزبير: (بينما أنا عندها إذ مر برجل قد ضرب في الخمر على بابها)]، يعني: ضرب الحد في شرب الخمر.
[(فسمعت حس الناس، فقالت: أي شيء هذا؟)]، أي: علام هذا الصياح؟ [(قلت: رجل أخذ سكراب من خمر فضرب، فقالت: سبحان الله! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يشرب الشارب حين يشرب وهو مؤمن -تعني: الخمر- ولا يزني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب منتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها رءوسهم وهو مؤمن، فإياكم وإياكم)].
[وعن ابن عباس موقوفاً عليه قال: (لا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن)].(32/4)
دائرة الإيمان ودائرة الإسلام
[وعن محمد بن علي -وهو المعروف بـ ابن الحنفية - قال في قوله عليه الصلاة والسلام: لا يزني ولا يسرق ولا يشرب قال: إذا أتى شيئاً من ذلك]، يعني: إذا قارف المؤمن ذنباً من هذه الذنوب، [نزع منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عز وجل عليه].
فهذه كبيرة من الكبائر، والكبيرة إذا تاب صاحبها تاب الله عز وجل عليه، وإذا لم يتب منها فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن أقيم عليه الحد فالحدود كفارات لأهلها.
[قال ابن الحنفية: هذا الإسلام، وأدار إدارة واسعة.
وأدار في جوفها إدارة صغيرة وقال: هذا الإيمان]، يعني: في داخل هذه الدائرة الكبيرة التي سماها الإسلام، وقال: هذا الإيمان، فإذا قارف العبد ذنباً خرج من هذا، أي: خرج من هذه الدائرة أو من هذا الإيمان إلى الدائرة الكبيرة وهي الإسلام.
وهذا كلام جميل جداً.
وكلام محمد بن الحنفية والزهري وغيرهما من أهل العلم هو الذي يحل إشكالية الأحاديث التي ظاهرها الكفر؛ لأنه ليس مؤمناً، وإذا لم يكن مؤمناً لا بد أن يكون كافراً، وهذا فهم الخوارج، وأما فهم أهل السنة ففيه معادلة، فهم يقولون: كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً.
فهناك إيمان عام وإيمان خاص، فالإيمان العام هو أصل الإيمان الذي لا يدخل المرء الإسلام إلا به.
والإيمان درجتان: الأولى: أصل الإيمان.
والثانية: كمال الإيمان، ومنه الكمال الواجب والكمال المستحب.
فنفي الإيمان المتعلق بالذنوب والمعاصي متعلق بالكمال، إما الكمال الواجب أو الكمال المستحب.
وأما نفي الإيمان المتعلق بأصل الإيمان الذي هو الإيمان الضروري الذي لا يثبت إسلام المرء إلا به؛ فلا بد أن يكون كفراً؛ لأنه نزع لأصل الإيمان، وأما هذه الذنوب والمعاصي هنا فإنها متعلقة بكمال الإيمان وتمامه الذي يأثم المرء بتركه.
ولما أدار في وسطها أخرى وقال: هذا الإيمان، فالإيمان أخص من الإسلام، قال: فقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا يزني حين يزني وهو مؤمن)، إذا أتى شيئاً من ذلك خرج من الإيمان إلى الإسلام، يعني: أنه يخرج من الإيمان الخاص إلى الإسلام العام، ويبقى معه أصل الإيمان.
قال: فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه ورجع إلى الإيمان.
والمقصود من قوله: (رجع إلى الإيمان) أي: الإيمان الثاني.(32/5)
حديث أنس (لا إيمان لمن لا أمانة له)
قال: [وقال أنس: (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)].
واللام هنا نافية.
وقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، يعني: من خان الأمانة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك).
وهذا عهد، وإذا خنت الأمانة ولم تراعها أو تحافظ عليها فإنك لا تخرج بذلك من الإيمان إلى الكفر، ولكنك تخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يبقى معك من الإسلام إلا الأصل الذي لا يسعك أن تأتي إلى الله عز وجل بدونه.(32/6)
ما ورد عن السلف في أن الإيمان ينزع كما ينزع القميص
قال: [قال ابن عباس: إذا زنا العبد نزع منه الإيمان، وقال لغلمانه: من أراد منكم الباءة زوجناه]، يعني: الذي يريد منكم أن يتزوج فسنزوجه، يعني: حتى لا يزني، فهو يضع أمامهم العلاج قبل الوقوع في الذنب، ثم قال: [لا يزني منكم زان إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده، وإن شاء أن يمنعه منعه]، أي: فاحذروا.
[وقال الحسن: قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام -وهذا تعضده روايات كثيرة ستأتي بعد هذا، وتعضده كذلك روايات سابقة-: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ينزع منه الإيمان كما يخلع أحدكم قميصه، فإن تاب تاب الله عز وجل عليه)].
[وقال عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: إن الرجل ليتفصل الإيمان كما يتفصل ثوب المرأة]، يعني: أن الإيمان يفصل على المرء كما أن المرأة تفصل ثوبها.
[وعن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما الإيمان بمنزلة القميص يتقمصه مرة وينزعه أخرى)].
[وعن عمر رضي الله عنه: إنما الإيمان بمنزلة القميص، يتقمصه مرة وينزعه أخرى].
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه: إنما الإيمان كثوب أحدكم، يلبسه مرة ويخلعه أخرى].(32/7)
حديث أبي هريرة (إن العبد إذا أخطأ خطيئة)
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة)]، يعني: إذا وقع في ذنب كبير، والخطيئة لا تقال لصغار الذنوب وإنما تقال للكبار، [(نكت في قلبه نكتة سوداء)].
والنكتة السوداء لا يمكن أن تجتمع مع الإيمان؛ لأن الإيمان نور في القلب يبصر به العبد طريقه، فإذا خالف هذا الطريق وخالف الطاعة وارتكب الذنب، نكت في قلبه نكتة سوداء، ولا بد أن هذه النكتة السوداء ينزع من مكانها نور الإيمان الذي كان آنفاً.
قال: [(فإن هو نزع واستغفر وتاب صقلت)]، يعني: أن هذه الذنوب وهذه النقطة السوداء تمحى.
[(وإن عاد زيد فيها)]، يعني: بعد أن كانت نكتة صغيرة تصبح نكتة كبيرة.
[(وإن عاد زيد فيها، وإن عاد زيد فيها، حتى يعلو قلبه الران الذي ذكر الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14])]، أي: بسبب ما كانوا يكسبون من ذنوب ومعاص اسودت قلوبهم ونزع منهم الإيمان.(32/8)
خوف أبي الدرداء على إيمانه أن ينزع منه
قال: [عن معاوية بن قرة: أن أبا الدرداء كان يقول: نسأل الله إيماناً دائماً، ويقيناً صادقاً، وعلماً نافعاً، فقال معاوية بن قرة: كأن من الإيمان ليس بدائم]، أي: كان الإيمان يذهب ويجيء، ولذلك كان من دعائه: اللهم إنا نسألك إيماناً دائماً، أي: مستقراً أكيداً لا يتزعزع ولا يزول، فكأن من الإيمان ما يزول ولا يزول إلا بالمعاصي.
قال: [وكأن من اليقين ليس بصادق]؛ لأنه قال: ويقيناً صادقاً.
قال: [وكأن من العلم علماً ليس بنافع]، يعني: ليس كل علم نافعاً، وإنما بعضه نافع والبعض الآخر غير نافع.(32/9)
حديث أبي هريرة (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان)
[قال أبو هريرة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا انقطع -أي: عن ذنبه- رجع إليه الإيمان)].
قال ابن بطة: [فهذه الأخبار وما يضاهيها]، يعني: الأخبار التي في نفس هذه المعاني، [وما قد تركت ذكره]؛ لأن الأخبار طويلة جداً، سواء في كتاب الله أو في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، [مما هو في معانيها؛ لئلا يطول الكتاب بها؛ كلها تدل على نقص الإيمان]، وإذا كان الإيمان يقبل النقصان فلا بد أنه يقبل الزيادة؛ لأن كل شيء يقبل الزيادة يقبل النقصان، والعكس بالعكس، فهذه الأدلة كلها تدل على نقص الإيمان، [وعلى خروج المرء منه عند مواقعة الذنوب والخطايا التي جاءت بذكرها السنة، وكل ذلك مخالف لمذاهب المرجئة التي قالت بعدم زيادة الإيمان، وقالت: إن أعظم الناس جرماً وأكثرهم ظلماً وإثماً إذا قال لا إله إلا الله فهو وجبريل وميكائيل وإسرافيل في الإيمان سواء]؛ لأنهم لا يقولون بأن الأعمال من الإيمان، فالمرجئة يصرحون ويتبجحون بأن الأعمال لا علاقة لها بالإيمان، [تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً].
يقول: وليس معنى مفارقة الإيمان لمرتكب هذه الذنوب هو الانتقال إلى الكفر، فنفي الإيمان عن مرتكب هذه الذنوب لا تعني الانتقال إلى الكفر؛ ولهذا استنكر الزهري سؤال الأوزاعي: إذا لم يكن المذنب مؤمناً فما يكون؟ فكأنه حكم عليه بالكفر، فاستنكر ذلك منه، وهذا أيضاً ما صرح به ابن الحنفية عندما ذهب إلى أن المذنب يخرج حال اقترافه للذنب من دائرة الإيمان الخاص إلى دائرة الإسلام، أي: أنه لا يكون كافراً.(32/10)
كلام علماء أهل السنة في عدم تكفير مرتكب الكبيرة
إن التابعين رضي الله عنهم لم يأخذوا لفظ هذه الأحاديث على ظاهرها، ولم يأخذوا الحكم فيها على الإطلاق، فلم يحكموا بالكفر على مرتكب الكبيرة بمقتضى ما ورد في هذه الأحاديث من نزع الإيمان، ولم يفهم أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة المتبوعين هذا الذي فهمه الخوارج والمرجئة والمعتزلة، ولم يفهم أحد من علماء الأمة ما فهمه أهل البدعة.
وقد توارد علماء السلف على هذا، وقدموا الأدلة على ذلك.(32/11)
كلام الإمام النووي في عدم كفر مرتكب الكبيرة
قال النووي عند شرحه لحديث (لا يزني الزاني حين يزني): القول الصحيح الذي قاله المحققون إن المؤمن لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وإنما يفعلها وهو ناقص الإيمان، ويبلغ به النقص إلى أصل الإيمان.
قال: وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي شيء ويراد نفي كماله، وهذا معروف في كلام العرب، أي: أن ينفى الشيء ويقصد نفي البعض، وهذا كما لو أكلت عند أحد إخوانك فقال: لم لم تأكل؟ فتقول: قد أكلت الطعام كله، وأنت في حقيقة الأمر لم تأكل الطعام كله، وإنما أكلت بعضه، ولكنك تعبر عن أنك قد أكلت حتى لم يبق في بطنك موضع.
قال: وإنما أولناه على هذا -أي: نقص الإيمان- لأنه قد جاء في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق).
وهذا قد جاء في حديث أبي ذر في الصحيح، فنفي الإيمان عن الزاني والسارق لا يجتمع مع هذا الحديث الذي يقول: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق)، وإنما المعنى أنه في مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه أولاً ثم خرج من النار ودخل الجنة، فمن قال لا إله إلا الله، أي: من كان موحداً لله عز وجل فمآله إلى الجنة إما أولاً مع المؤمنين، وإما بعد أن يدخل النار ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، فهو لا محالة لا بد أن يدخل الجنة، إما مع الداخلين أولاً بغير عذاب ولا سابقة حساب، وإما أن يدخل النار فيتطهر من ذنوبه ثم يخرج منها ويدخل الجنة.
وأما الجنة فمن دخلها فإنه لا يخرج منها.
قال: وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا، كما قال عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على أن لا نسرق ولا نزني ولا نشرب الخمر).
فيدل على أن هذه المعاصي التي بايعوا على عدم اقترافها مؤثرة تأثيراً مباشراً في الإيمان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام مبيناً لهم بعد أن بايعوه على هذه الشروط: (فمن وفى منكم فأجره على الله)، يعني: الذي يفي ببنود هذه البيعة أجره على الله عز وجل، وهو سبحانه يوفيه حقه؛ لأنه قد وفى ببنود البيعة.
قال: (ومن فعل شيئاً من ذلك)، أي: ومن قارف سرقة أو زناً أو شرب خمر أو غير ذلك، (فعوقب في الدنيا فهو كفارة له)، يعني: إن أقيم عليه الحد فهو كفارة له، ولا يؤاخذه الله عز وجل به في الآخرة.
(ومن فعل ولم يعاقب)، أي: ومن فعل منكم وتاب إلى الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، فإن تاب وبلغ الأمر السلطان وجب إقامة الحد ولو بعد التوبة؛ لأن الحد إذا بلغ السلطان وجب إقامته، ولا مجال لاختيار السلطان في مثل هذا، فإن لقي العبد ربه مصراً على ذنبه مقراً بحرمته فهو تحت مشيئتة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، يعني: أن الكفر والشرك لا يغفران قط حتى وإن تلبس صاحبهما بالطاعة بالليل والنهار، فلا يقبل منه هذا قط حتى يكون موحداً، وإذا لم يكن موحداً فإن جاء بكل الطاعات التي أمر بها الله عز وجل وأمر بها رسوله، فسيجد هذا العمل كله هباءً منثوراً؛ لأن الله تعالى لا يقبل عملاً صالحاً إلا إذا كان مصدره الإيمان، فإذا كان مشركاً فلا يقبل منه ذلك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48].
والذي دون الشرك هو الذنوب كبيرها وصغيرها، من السرقة والزنا وشرب الخمر وغير ذلك من الكبائر، ولما سئل ابن عباس: هل الكبائر سبع كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات وعد سبعاً من الذنوب الكبائر؟ فقال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، ولكن هذا الحديث عد أعظم الذنوب، وهذا لا ينفي أن تكون هناك ذنوب عظيمة أخرى لم يعدها الحديث.
قال: وقد أجمع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير المشرك لا يكفرون بذلك، مستدلين بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48].
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق).
مع إجماع أهل العلم أن القاتل والسارق والزاني وغيرهم من أصحاب الكبائر لا يكفرون بهذه الكبائر؛ فهم يستدلون على عدم كفر مرتكب الكبيرة بالكتاب والسنة والإجماع.
قال: بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر فهم في المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة.(32/12)
كلام شيخ الإسلام في عدم كفر مرتكب الكبيرة
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم كفر مرتكب الكبيرة بدليل عقلي في غاية الروعة والجمال، فقال: الدليل على أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً أنه لا زال بعد ارتكابه لكبيرته مخاطباً بأصول وفروع الشريعة التي يخاطب بها المؤمنون.
قال: والتحقيق -يعني: الكلام الحق في تأويل هذه النصوص- أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
وقوله: (مؤمن بإيمانه) أي: بما عنده من طاعة وإيمان، فاسق بسبب معصيته؛ لأن الذي يرتكب كبائر الذنوب يفسق بذلك حتى وإن كان ذنباً واحداً.
وقد قلت سابقاً: إنه يجتمع في العبد إيمان وفسق، أما الإيمان فمصدره الطاعة، وأما الفسق فمصدره المعصية، والعبد المؤمن يكون بين هذا وذاك، والصحابة رضي الله عنهم منهم من زنا، ومنهم من سرق، ومنهم من قتل، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لأحد منهم: أنت مرتد أو كافر، ولو كفر أحدهم بذلك لأقام عليه حد الردة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ماتت الغامدية التي زنت صلى عليها، ولو كانت مرتدة كافرة بهذا الزنا لما صلى عليها؛ لأنه لا تصح الصلاة على الكافر.
وماعز الإسلمي لما زنا وأقيم عليه الحد سبه أحد الصحابة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعل، فوالله إني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة).
والكافر لا يسبح في أنهار الجنة، والمسلمون اليوم يكفر بعضهم بعضاً بالمعاصي.
قال: والتحقيق أن يقال: إنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: فاسق بكبيرته.
ولا يعطى اسم الإيمان المطلق، وإنما يعطى اسم مطلق الإيمان.
الفرق كبير جداً بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان هو أصل الإيمان، وهو اليسير الذي يلزم من ثبوته الإسلام لمدعيه، فإذا قال أحد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإنه يلزم مع هذه الشهادة التي يثبت له بها الإسلام أن يكون معه أصل الإيمان الذي استقر في القلب بصحة هذه الشهادة التي شهد بها، وأن يعتقد حقيقة أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وأما كمال الإيمان فلا يكون إلا بالصلاة والصوم والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر الطاعات.
والإنسان إذا دخل في الإيمان أو في الإسلام ومات قبل أن يتمكن من العمل فهو كامل الإيمان، فإذا أسلم شخص ونطق بالشهادتين، ثم فاضت روحه، فقد مات على كمال الإيمان وتمامه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ولا ينسب إليه اسم الإيمان المطلق -أي: السارق والزاني والقاتل وشارب الخمر- إنما ينسب إليه أصل الإيمان.
فالإيمان الكامل لا يكون إلا بالعمل، وأما مطلق الإيمان فهو في أصل الإيمان، وهو يثبت للمرء بدخوله في الإسلام وإن لم يعمل.
وعندما ننفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة فإنما نقصد به الإيمان الكامل، أو الإيمان الوافي، ولو قصدنا بنفي الإيمان نفي أصله فإنه يلزمنا أن نخرجه من الإسلام.
قال: فإن الكتاب والسنة نفيا عنه الاسم المطلق، واسم الإيمان يتناوله فيما أمر الله به ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه وتحريم عليه.(32/13)
كلام ابن كثير في التفريق بين الإيمان والإسلام والإحسان
قال ابن كثير عند قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]؛ قال: في هذه الآية دليل على أن الإيمان خير من الإسلام، يعني: الإيمان مرتبة أعلى من مرتبة الإسلام، كما أن الإحسان مرتبة أعلى من مرتبة الإيمان، كما في حديث جبريل في بيان مراتب الدين.
فكل محسن مؤمن، ولا يلزم أن يكون كل مؤمن محسناً، وهكذا.
قال: والدليل على ذلك قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فنفي الإيمان عنهم هنا إنما هو نفي لكماله، ولو قلت: إنها نفي للأصل فتكون الآية على هذا خطأ، ومن قال بذلك كفر.
{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14] أي: الإيمان الكامل، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أي: معكم أصل الإيمان، وأما كماله وتمامه وواجبه فلا؛ لأنكم لا تبلغون ذلك إلا إذا دخل الإيمان في قلوبكم، قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، ولا يدخل الإيمان في القلب إلا بالعمل.
وكونه لا يعمل لا يزال من أهل الإسلام، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، وهذا دليل على أن الإيمان أخص من الإسلام.(32/14)
كلام ابن حجر في عدم كفر مرتكب الكبيرة
استدل الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري في الجزء الثاني عشر على عدم كفر مرتكبي الكبائر بدليل عقلي، فقال: اختلاف مقادير الحد.
يعني: أن حد الشارب غير حد الزاني وغير حد السارق وغير حد القاتل، فليست الحدود واحدة، بل مختلفة.
يقول: واختلاف مقادير الحد في الزنا مثلاً باختلاف أحوال الزاني ككونه حراً وعبداً، وكونه محصناً أو غير محصن، فلو كان الذين يرتكبون هذه المعصية كفاراً لتساوت في حقهم إقامة الحدود، أي: لو كفر بارتكابه الذنب فيستوي أن يكون حراً أو عبداً، رجلاً أو امرأة، محصناً أو غير محصن، لأن الكفر شيء واحد، فلا يختلف الحد، فاختلاف الحد دليل على أنه ليس بكافر، كما أن اختلاف الشهود في العقوبات يدل على أن الكبائر كلها ليست مخرجة من الإيمان.
قال: فلو كان من يرتكبون هذه المعصية كفاراً لما اختلفت مقادير الحد عليهم؛ حيث يتساوى المكلفون جميعاً في حد الكفر، وهو القتل، كما قال عليه السلام: (من بدل دينه فاقتلوه).
وإذا كان السارق يكفر بسرقته، والقاتل يكفر بردته، والزاني يكفر بزناه، فكيف جعل الإسلام لهؤلاء الكفار جميعاً حدوداً مختلفة؟ والأصل أن من وقع في ردة أو كفر كان عقابه واحداً مهما اختلف العصاة واختلفت أوصافهم وأعدادهم.
وأصحاب البدع أكثرهم يقول بكفرهم، مع أن الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38].
ولو كانوا كفاراً لقال تعالى: اقطعوا رقابهما؛ لأنهما كافران.
والله تعالى يقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، فسماه أخاً رغم أنه قاتل.
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، وهذا الكلام لا يمكن أن يكون مع كافر، ولا أدري كيف يرد هؤلاء على هذه الآيات أو الأحاديث الصحيحة.
قال الحافظ: ومن أقوى ما يحمل على ترك ظاهره إيجاب الحد بالزنا على أنحاء مختلفة في حق الحر المحصن والحر البكر وفي حق العبد، أي: فلو كان المراد بنفي الإيمان الكفر لاستووا في العقوبة؛ لأن المكلفين فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء، فلما كانت العقوبة مختلفة دل ذلك على أن مرتكب ذلك ليس بكافر حقيقة.(32/15)
كلام ابن أبي العز في عدم كفر مرتكب الكبيرة
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: وأهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قال الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص.
فلو أنك قتلت فلاناً من الناس فأتى أولياء القتيل فعفوا فإنه يقبل منهم العفو، ولو كان القتل كفراً فلا يقبل منه الإيمان؛ لأنه يصبح من مسائل الإيمان والكفر التي لا متعلق لها بالمكلفين، وإنما هي حق الله عز وجل، ولما وجبت الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر؛ فهذا القول معلوم البطلان، وفساده في الضرورة معلوم.(32/16)
تأويل علماء السنة للأحاديث التي تنفي الإيمان عن مرتكبي بعض المعاصي
الأحاديث التي تكلمت في هذه الكبائر ونفت الإيمان عن أصحابها لأهل العلم فيها أقوال كثيرة جداً، يعني: حتى أهل السنة ليسوا على اتفاق في تأويل ظواهر هذه النصوص.
وهذه الأقوال هي: القول الأول: يكون بذلك منافقاً نفاق معصية لا نفاق كفر، وأن نفي الإيمان هنا يثبت به النفاق، ولكن ليس النفاق العقدي الذي يخرج به صاحبه من الملة.
وهذا مذهب في الحقيقة غير سليم؛ لأن الزاني ليس منافقاً، والسارق كذلك، والقاتل كذلك، فحمل نفي الإيمان على ثبوت النفاق العملي ليس سديداً.
القول الثاني: أنه ليس بمستحضر في حالة تلبسه بالكبيرة جلال من آمن به، ولم يستحضر مراقبة الله تعالى ولا إجلاله، وإلا لم يفعل الذنب.
يعني: كأنه أصابته غفلة عن مراقبة الله عز وجل، ولو كان متيقظاً لما أقدم على معصيته.
ولكن هذا الكلام يقال في الورع، ولا يقال في تفسير هذا الحديث أو هذه النقطة.
ويقول هذا المذهب: إن هذا كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة.
القول الثالث: أنه شابه الكافر في عمله، ولا بأس باعتبار هذا الفعل؛ لأنه لا يزني حين يزني وهو مؤمن، يعني: يمكن أن يقال: إن عمله عمل الكافر ولكنه لا يكفر، ولكنه تخلق بأخلاق الكفار، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها).
ومعنى (خبب): أفسد، كأن يتقرب إلى امرأة جاره إلى أن تحبه، ثم تبدأ تتقلب على زوجها وتطلب منه الطلاق، وفي النهاية يتزوجها ذاك الرجل.
وهذا بلا شك من كبائر الذنوب، ولكن لا يكفر بهذا الذنب.
والرأي الأول والثاني ليس لهما أدنى علاقة بالعلم الشرعي والتأصيل العلمي.
ولو علم العبد أنه في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا يكفيه أن لا ينام بقية عمره، ولو أنك فعلت ذنباً استوجب اللوم أو العتاب أو الضرب أو الطرد من البيت، أو إيقاع الإيلام والعذاب على بدنك، من والدك أو من أستاذك أو ممن له الولاية عليك؛ فلا بد أنك ستبيت واقفاً تفكر ماذا سينزل بك من العذاب من صاحب هذا الحق، فما بالك بالله عز وجل؟ ولله المثل الأعلى، فلو أنك انتهكت حرمة من حرماته فتوعدك أنك صرت بين مشيئتين، يعني: دخولك النار أو الجنة، وليس هناك وعد وإنما هو وعيد، تدخل أو لا تدخل، يعذبك أو لا يعذبك، ولا شفيع يشفع لك ابتداء، وإنما الشفاعة تنفعك إذا دخلت النار، وشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لا تنفعك إلا في المحشر، وشفاعة من دونه تنفع بعد ذلك في نار جهنم؛ فإنك ستبيت فرقاً ومرعوباً وخائفاً أن تكون من أصحاب هذا الوعيد، وأن تدخل النار.
ولو كان أحد يتعامل بمنتهى الوحشية والقسوة، ويحرق بالنار أو يضرب بالجريد والنعال، فإنه إذا فعل أحد به ذنباً واستوجب عقاب ذنبه؛ فإنه لا يبيت هانئاً حتى ينزل به العقاب، ثم يعيش بعد هذا العقاب معيشة ذل وهوان.
والله تعالى إنما يعذب بعدل ويرحم بفضل، فإذا كان ذلك منه سبحانه، فينبغي على المرء أن يحرص كل الحرص على أن تكون أحواله وأفعاله وحركاته وسكناته، بل وأنفاسه كلها طاعة لله ورسوله.
القول الرابع: أن المراد به -أي: المراد ينفي الإيمان- الزجر والتنفير.
القول الخامس: أنه يسلب منه الإيمان حال تلبسه بالكبيرة فقط.
يعني: في وقت ارتكابه الكبيرة.
القول السادس: أن المراد منه النهي وإن ورد على صيغة الخبر.
القول السابع: أنه على ظاهره، ويحمل على من فعل ذلك مستحلاً، ولا بأس بهذا إذا قامت عليه الحجة وعلم الحكم في هذا ولكنه استحل ذلك، فكل مستحل لما حرم الله كافر.
القول الثامن: أن الكفر اللازم عن نفي الإيمان عن مرتكب المعاصي المذكورة إنما هو كفر النعمة.
القول التاسع: وهو أرجح المذاهب، وهو مذهب جماهير علماء الحديث وعلماء السنة؛ أن المراد منه نفي الكمال.
وقد رجحه النووي وتبعه ابن حجر وقبلهما ابن قتيبة وغيرهما من علماء السلف، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية قيداً على ما ذكره هؤلاء، وهو أن المراد نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه.
فقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أي: وهو مؤمن الإيمان الواجب الذي إذا تخلى عنه صاحبه استحق الذم واللوم والعذاب.
ولعل أولى التأويلات بالقبول هو القول الأخير، وهو كذلك، وإنما ذهب هؤلاء العلماء إلى القول بنزع كمال الإيمان فقط وليس بنزعه كلية لبقاء أصل التصديق في القلب، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أجمل بيان فقال: ومن أتى الكبائر مثل الزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو غير ذلك؛ فلا بد أن يذهب ما في قلبه من الخشية والخضوع والنور وإن بقي أصل التصديق في قلبه.
والعلماء لما قسموا الإيمان إلى مراتب استراحوا ولم يعد في الحديث أي إشكال، فإذا قلنا: إن الإيمان عبارة عن أصل وإيمان واجب وإيمان مستحب، فإن الآيات والأحاديث التي قالت بنفي الإيمان عن مرتكبي الذنوب والتي توعدت بالنار والكفر البواح؛ إنما تعني الإيمان الأصلي.
قال: وهذا في الإيمان الذي ينزع منه عند فعل الكبيرة، كما قال النبي ع(32/17)
الأسئلة(32/18)
حكم الأناشيد
السؤال
ما حكم الأناشيد؟
الجواب
الأناشيد قبيحها قبيح وحسنها حسن، وليس منها الأناشيد التي ينشدها الإخوة في الأفراح، بل هذه فيها الموسيقى، وأما التي لا بأس بها فهي التي لا إثارة فيها، وأنا لا أعلم دليلاً قط بجوازها للرجال من سنته عليه الصلاة والسلام، وهذه فتوى الشيخ الألباني، وأما ما يفعل من تحويل المقاطع الشعرية فهذا غير مرغوب، وإنشاد الشعر في الأعراس وغيرها إنما يكون للنساء، وأما الرجال فلا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(32/19)
شرح كتاب الإبانة - ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير مخرج من الملة
تختلف الذنوب التي يقترفها العبد وتتفاوت، ومنهج أهل السنة في مرتكب الذنب أنه مؤمن عاص، وأن الذنوب التي ورد النص بكفر فاعلها إنما يقصد به الكفر غير المخرج من الملة إن لم يستحلها، وهذا المنهج خلاف منهج بعض فرق الضلال الذين يكفرون مرتكب المعصية.(33/1)
ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
أما بعد: فقد ذكرنا في الدرس الماضي حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) إلى آخر الحديث، وقلنا: إن أهل العلم اختلفوا في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهل يسلب عنه الإيمان بالكلية أم يسلب منه كمال الإيمان وتمامه؟ وذكرنا تسعة آراء وتأويلات لأهل العلم، وأرجحها: أن المنفي في هذه النصوص هو كمال الإيمان وتمامه؛ لأنه لو كان المعنى أن الإيمان يرتفع عن الزاني حين يزني ويزول عنه لدخل في الكفر، ثم لابد أن نقول بأن مرتكب الكبيرة كافر، والقائلون بذلك هم الخوارج، وأما المعتزلة فقالوا: ليس كافراً ولا مؤمناً، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وهذا حكمه في الدنيا، وأما في الآخرة فإنهم جعلوه من المخلدين في النار، وهذا الكلام في غاية السقوط والتهافت.
وذكرنا في الدرس الماضي كلام غير واحد من أهل العلم بأن الإسلام دائرة عامة كبيرة، وأن الإيمان دائرة في وسطها أخص.
وقلنا: إن المرء حتى يدخل هذه الدائرة العظيمة وهي دائرة الإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان.
وقلنا: إن الإيمان درجات، فمنه أصل الإيمان الذي يعبر عنه أهل العلم بمطلق الإيمان.
والنصوص التي تنفي الإيمان عن فاعل الكبائر أو المعاصي إنما تنفي عنه كمال الإيمان أو الإيمان المطلق، وأما مطلق الإيمان الذي هو الأصل والجزء الذي لا يتم إسلام المرء إلا به فلم تتعرض له النصوص التي ذكرناها، وأما النصوص الأخرى التي تحكم على الشخص بالردة مثلاً أو الكفر أو الجحود أو غير ذلك فإنها تخلع عن المرء الإيمان والإسلام بالكلية، وأما النصوص التي ذكرناها في الدرس الماضي فهي تخرج الفاعل لهذه المعصية من دائرة الإيمان الخاصة إلى دائرة الإسلام العامة، وهذا لا ينفي أن يكون معه أصل الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به.
الباب الثاني -وهو أول الجزء السادس من هذا الكتاب- يقول الشيخ ابن بطة رحمه الله تعالى: باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به عن الملة.
وذكر فيه الذنوب والمعاصي التي إذا ارتكبها المرء فإنه يكفر بها، وهي من باب الكفر العملي لا الاعتقادي.(33/2)
الكفر كفران
الكفر كفران: كفر أكبر وأصغر، والشرك شركان: شرك أكبر وأصغر، والنفاق نفاقان: نفاق أكبر وأصغر، والفسق فسقان: أكبر وأصغر.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وفي رواية: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، (أو) ليست للشك من الراوي، بدليل أن رواية أخرى قالت: (من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك)، فهل هذا الكفر كفر أكبر اعتقادي وليس كفراً عملياً أصغر؟ والفارق بين الكفرين أن الكفر الاعتقادي يخرج المرء من الملة، فالكفر الأكبر هو الكفر الاعتقادي أو الكفر العملي الذي يأتي به المرء عملاً أو يقول قولاً يستلزم خروجه من الملة.
والإيمان قول وعمل، والكفر كذلك قول وعمل فضلاً عن الاعتقاد؛ لأنه لا خلاف في أن من اعتقد أن لهذا الكون إلهين فقد كفر وخرج من الملة؛ لأنه جعل نداً وشريكاً لله عز وجل في ملكه وخلقه، فمن اعتقد ذلك خرج من الملة عند جميع أهل الأرض.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك) من الكفر الأصغر الذي لا يخرج به من الملة، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فليقل كفارة ذلك: لا إله إلا الله).
وأيضاً ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (واللات والعزى، فقال: لا تقل: واللات والعزى، من كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
ولو كان الحلف على هذا النحو كفراً مخرجاً من الملة لأقام عليه النبي عليه الصلاة والسلام حد الردة أو استتابه، فإن تاب وإلا قتله.
ولما لم ينقل إلينا هذا ولا ذاك علمنا أن هذا مثال الكفر العملي أو الأصغر.(33/3)
حديث أبي بكر (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل)
وقد ذكر الإمام هنا طائفة من النصوص التي تدل على أن بعض الذنوب التي يرتكبها العبد يكفر بها، وأثبت أن الكفر الثابت فيها ليس كفراً اعتقادياً، وإنما هو كفر عملي أصغر، كما في حديث [أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل)]، يعني: أن الشرك يسرع إلى قلوبكم؛ لأنه شرك خفي، وهو الرياء، فسمى النبي عليه الصلاة والسلام الرياء هنا شركاً.
ومفاد النصوص التي وردت في هذا الباب أن من راءى بعمله فقد حبط عمله، ولكن لم تقض النصوص بكفره.
وقد ذكر ابن الجوزي في باب التحذير من الرياء أن رجلاً كان يصلي، فدخل عليه إنسان آخر فبعد أن كان يسرع في صلاته ولا يعبأ بها ولا يقيم صلبه ولا يخشع أطالها، وأطال فيها الركوع والسجود وغير ذلك، فقال الداخل: ما أحسن صلاة فلان! فالتفت إليه هذا المصلي وقال له: ومع هذا فإني صائم، يعني: أضاف عبادة أخرى إلى عبادته التي راءى بها؛ ليثبت أنه من أهل الصلاح لمن نظر إليه.
وقد اختلف العلماء في صحة عمل المرائي إذا بدأه بالرياء أو ختمه به، كأن تكون عادته أنه لا يصلي الليل، فإذا زاره إنسان أو صديق أو عزيز عليه نهض لقيام الليل وقراءة القرآن، وأطال ذلك وحسنه حتى يقول الزائر: إن هذا الإنسان من قوام الليل، مع أن الباعث له على العمل الرياء، أو أنه يصلي قيام الليل وهذا من عادته، ولكنه يصلي على نحو معين وكيفية معينة غير هذه الكيفية، فإذا زاره أحد غير الكيفية إلى الأحسن؛ رجاء المدح والثناء، ولكن هذا كان في أثناء الصلاة أو في آخرها، فمن اعتبر أن الأعمال بالخواتيم أبطل هذه الصلاة، ومن اعتبر أن الأعمال بمقاصدها الأولى قال: لا تبطل العبادة إلا إذا دخل فيها لغير الله ابتداء، والمسألة محل بحث طويل، وقد تعرض لها الحافظ ابن رجب في شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، في كتاب جامع العلوم والحكم، فمن شاء فليرجع إليه؛ ليقف على كثير من النصوص التي تحذر من الرياء في القول والعمل.
قال: [قال عليه الصلاة والسلام: (الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل أو دبيب الذر)].
والذر: هو النمل، [(قال أبو بكر: يا رسول الله! أيكون شركاً لا يجعل مع الله إلهاً يعبد من دونه؟)]، يعني: هل هناك شرك غير الشرك الذي هو إشراك إله آخر الله تعالى في العبادة؟ [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا أبا بكر!)].
وهذه كلمة كانت تقولها العرب لا يقصدون بها الدعاء، وإلا لو قصد النبي صلى الله عليه وسلم بها الدعاء لمات أبو بكر فوراً، لكنه لم يقصد الدعاء، وهذا كما قال لـ أبي ذر: (ثكلتك أمك يا أبا ذر!)، فهذا من الكلام الدائر على ألسنة العرب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق).
فهو لا يقصد به اليمين، أو أنه قبل ورود النهي في ذلك.
قال: [(وقال يا صديق! الشرك أخفى من دبيب النمل أو دبيب الذر، ولكني سأدلك على ما يذهب صغار الشرك وكباره -أو قال: صغير الشرك وكبيره- تقول عند الصبح: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)]، أي: أن يستعيذ بالله مما وقع منه من شرك وهو يعلم، ومما وقع منه من شرك وهو لا يعلم.(33/4)
حديث أبي بكر (كفر بالله عز وجل ادعاء نسب)
قال: [قال أبو بكر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كفر بالله عز وجل ادعاء نسب لا يعرف، وكفر بالله تعالى تبرؤ من نسب وإن دق)].
فلو أن شخصاً سئل عن اسمه فقال: اسمي كذا، فقيل: من أبوك؟ فقال: فلان وذكر رجلاً آخر غير أبيه، كأن يكون اسمه محمد بن أحمد فقال: محمد بن إبراهيم، فهو ملعون، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لعن الله من انتسب لغير أبيه).
واللعن في حق المسلم يدل على الكبيرة، فالله تعالى لعن الكافرين في كتابه، ولعن من ارتكب ذنوباً معينة من المسلمين في كتابه، ولعن المذنب لا يخرجه عن الإسلام، وإنما هو علامة من علامات الكبائر، فمن علامات الكبائر أن يأتي فيها الوعيد الشديد، وللكبائر علامات تعرف بها، ويكفي ورود علامة واحدة ليكون هذا الذنب من الكبائر.
ومن هذه العلامات هي: العلامة الأولى: أن يأتي فيه التهديد والوعيد الشديد بالنار أو العذاب أو السخط أو اللعن أو غير ذلك.
العلامة الثانية: أن يقام عليه الحد في الدنيا؛ لأنه لا حد إلا في كبائر الذنوب.
فاللعن دليل على أن هذا العمل من الكبائر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من غير منار الأرض).
فلو أن الحكومة وضعت على مفترق طرق علامة مكتوباً عليها: المنصورة على بعد (50) كيلو نحو اليمين، فجاء شخص وغير هذه العلامة إلى مفرق طريق المنفية، وقال: المنصورة على بعد (50) كيلو من هنا، فإذا بالمار يجد نفسه في المنفية، فهذا بلاء عظيم جداً على من يقصد المنصورة أن يذهب المنفية، فمن فعل هذا فقد دخل في لعنة الله تعالى ولعنة رسوله والملائكة والمؤمنين، (لعن الله من غير منار الأرض)، وفي رواية: (من غير منار الأرض فليس منا).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، يعني: أفسدها على زوجها، إلى غير ذلك من هذه الأحاديث أو النصوص التي حملت وعيداً شديداً فيما يتعلق ببعض الذنوب.
وهذا الذي غير العلامة من مفرق المنصورة إلى مفرق المنفية لا يكفر بذلك، ولا يقول هذا إلا من كان من الخوارج.
فهذه النصوص خرجت مخرج التهديد والوعيد الشديد لمن فعل ذلك في الحياة، فهو ذنب عظيم جداً يلزمه أن يتوب منه.(33/5)
الكبيرة لا تستلزم الحد
ولا يلزم أن الكبيرة تستلزم الحد، والدليل على ذلك أن عقوق الوالدين كبيرة باتفاق أهل العلم، ولم يخالف في ذلك أحد، ولا يجب على الحاكم أن يقيم عليه الحد، وليس هناك نص يأمر بهذا، بل قد ورد الوعيد والتهديد الشديد لمن عق والديه بالنار، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما صعد درجات المنبر، فقال في كل مرة: (آمين آمين آمين، فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تقول قولاً ما سمعناك تقوله من قبل، فقال: أتاني جبريل وقال: يا محمد! رغم أنف امرئ أدرك والديه أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنة).
فقوله: (رغم أنف) للتهديد، وهذا دليل على الخسران والهوان والذل في الدنيا والآخرة.
وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، فأخبر سبحانه وتعالى في هذا الكلام أن قطيعة الرحم متعلقة بالفساد في الأرض أو هي من الفساد في الأرض، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد من الله عز وجل.
فالكبيرة لا تستلزم أن يكفر صاحبها كفراً أكبر، بل هذا مذهب الخوارج، كما أنه لا يلزم منها إقامة الحد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (كفر بالله عز وجل ادعاء نسب لا يعرف) هذا من الكفر العملي الذي لا يخرج به صاحبه من الملة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لبيان عظم وهول هذا الأمر.(33/6)
حكم التبني
وهناك سؤال يطرح كثيراً، وربما لا يمر أسبوع أو أسبوعان إلا وهناك من يسأله، وهو أنه يقول: أنا لم أرزق بأولاد، فذهبت امرأتي إلى الملجأ الفلاني وأتت بولد، أو ذهبت إلى الملجأ فوجدت ولداً على باب الملجأ في خرقته، وكان جميلاً، فعز عليها أن تتركه فأتت به، وأنا قد سميته باسمه ونسبته لنفسي، فهل هذا العمل حلال؟
و
الجواب
هذا العمل حرام، وفيه من المحاذير الشيء الكثير، المحذور الأول: أنه نسبة إلى غير الأب الشرعي، وهذا باطل، فقد أبطل الإسلام التبني، وقد كان زيد يدعى زيد بن محمد ثم صار يدعى زيد بن حارثة، قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، يعني: انسبوهم لآبائهم؛ لأن هذا هو العدل الذي فرضه الله عز وجل.
المحذور الثاني: أن هذا الولد سيتعامل مع هذا الرجل على اعتبار أنه أبوه باستمرار، وبالتالي ستكون امرأة هذا الرجل هي أمه باستمرار، فيتعامل معها ويدخل عليها بعد أن يبلغ السن التي يكلف فيها بغض النظر إلى النساء، وهو سيتعامل مع هذه المرأة الأجنبية عنه باعتبار أنها أمه، وربما قبلها أو حضنها أو نام بجوارها أو سافر معها أو غير ذلك.
المحذور الثالث: ربما يرزق الأب بأولاد آخرين، فيدعون أخوة أو أخوات لهذا الأجنبي، وليس الأمر كذلك، وإنما هذا الولد حلال له أن يتزوج بهذه البنت التي رزق بها هذا الأب الدعي، ولكن الوضع القائم يحرم عليه أن يتزوج منها؛ لأنها أخته في الأوراق الرسمية وغير ذلك.
المحذور الرابع: إذا مات الأب الدعي النسيب أو ماتت الأم فإن هذا الولد المتبنى هو الذي يرثهما، وحينئذ يأخذ هذا الولد مالاً ليس له، ويأخذه بغير حق، وكذلك إذا مات هذا الولد وكان له مال ورثه أمه وأبوه المزعومان، فيأخذان مالاً ليس لهما.
وهذه كلها مخالفات وظلمات بعضها فوق بعض، وهذه المخالفات هي الإعراض عن شرع الله عز وجل أو الوقوع فيما نهى الله عز وجل عنه، وهذا من الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة، ولكنه كبيرة من الكبائر.
قال: (وكفر بالله تعالى تبرؤ من نسب وإن دق)، أي: وإن كان صغيراً أو حقيراً يراه الإنسان.
وإذا قال الأب لابنه: أنت لست ابني وأنا لا أعرفك، وقال هذا الكلام زجراً للولد أو تهديداً له، أو طرده من البيت أو غير ذلك فلا بأس به، ولا يترتب عليه أحكام، وأما لو أنكر في مجلس القضاء أنه ولده أو نفاه عن نفسه تماماً؛ فلا شك أن هذا نفي لنسب صحيح، فلا يحل له أن ينفيه عن نفسه، كما أنه قذف لأم الولد.
وهذه المسألة خطيرة جداً.(33/7)
حديث أبي هريرة (لا ترغبوا عن آبائكم)
قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ترغبوا عن آبائكم)، أي: لا تزهدوا في النسبة إلى آبائكم الشرعيين.
[(فإنه من رغب عن أبيه فإنه كفر به).
والحديث رواه الشيخان، يعني: كفر بذلك، وهذا كفر عملي، والكفر العملي إن استحله المرء بعد قيام الحجة عليه وبلوغ العلم إليه خرج عن ملة الإسلام.
والمهاجرون إلى أوروبا وأمريكا في أيامنا هذه يسعدهم ويشرفهم جداً أن يتخلصوا من نسبهم تماماً، فبعد أن كان اسمه محمد بن أحمد بن إبراهيم بن زيد يصبح اسمه هناك كذا ابن كذا، ويتسمى باسم إنجليزي أو أمريكي يشتهر في البلاد التي نزل فيها، وهذا يكون عند أخذ ما يسمى عندهم الكرت الأخضر أو التأشيرة النهائية أو الرخصة أو الجنسية، فيحلو له أن يغير اسمه تماماً، ثم إذا نزل في مطار القاهرة وسئل عن اسمه قال: اسمي ماركو بن شارون.
وهذا دمه خفيف، ويعرف في أي مكان.
فالتسمي بغير الأسماء الحقيقية في النسب هي رغبة عن النسبة للآباء الشرعيين، وفاعل هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه قد قامت عليه الحجة، فيكون كفراً أكبر.
قال الحافظ في شرح هذا الحديث: المراد من استحل ذلك، يعني: المراد أنه كافر كفراً مخرجاً من الملة إذا استحل ذلك مع علمه بالتحريم، أي: أنه إذا استحل ذلك مع قيام الحجة عليه وأصر عليه فإنه يكفر به ويقتل.
قال: أو المراد كفر النعمة، وظاهر اللفظ غير مراد، وإنما ورد على سبيل التغليظ والزجر لفاعل ذلك، أو المراد بإطلاق الكفر أن فاعله فعل فعلاً هو شبيه بأفعال الكفار فنسب إليهم ولم يكن منهم.
وقال النووي في شرح هذا الحديث: له تأويلان: أحدهما: أنه في حق المستحل، يعني: يكفر به ويخرج من دائرة الإسلام، والثاني: أنه كفر النعمة والإحسان وحق الله تعالى وحق أبيه، وليس المراد الكفر الذي يخرج به من الملة.
وإذا كان مستحلاً مع قيام الحجة عليه وبلوغ العلم إليه كفر كفراً أكبر.
وإذا كان هذا النص على ظاهره ليس مراداً فيحمل على أنه كفر النعمة والإحسان، ويعني: الكفر بحق الله تعالى وحق الأب.(33/8)
حديث ابن مسعود (سباب المسلم فسوق)
قال: [عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)].
والسباب فوق الشتم، فالإنسان السباب طويل اللسان، بخلاف من سب مرة أو مرتين، وسباب المسلم فسوق، ولكن هذا الفسق لا يخرجه من الملة.
وأما قوله: (وقتاله كفر) أي: إذا كان مستحلاً لذلك.
وقتل المؤمن ليس كفراً، ولا يكفر القاتل، وقال ابن عباس: لا توبة لقاتل المؤمن، وهذا القول انفرد به ابن عباس ولم يوافقه عليه أحد من الصحابة، وقيل: إن ابن عباس رجع عنه.
والدليل على أن قاتل المؤمن ليس كافراً قول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].
فسماه أخاً.
وقال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات:9]، أي: بغت إحدى هاتين الطائفتين المؤمنتين على أختها، فسمى هذه مؤمنة وهذه مؤمنة مع أن بينهما قتالاً أو مقتلة، وهذا أمر لا ينجو فيه من قتل بعض الأفراد من الطائفتين أو قتل الطائفتين جميعاً، ومع هذا سماهم الله تعالى مؤمنين، وهذا يدل على أن قاتل المؤمن لا ينفى عنه الإيمان بالكلية، وإنما ينفى عنه كمال الإيمان وتمامه، ويبقى له أصل الإيمان.
ولو أن أحداً ذهب إلى مؤمن ليقتله فقيل له: قتلك لهذا المؤمن ذنب عظيم جداً، فقال: ليس بذنب أصلاً، فقيل له: هل فعل ما يستوجب القتل؟ قال: لا، ولكني سوف أقتله، فقيل له: لقد حرم الله تعالى القتل بدليل قوله سبحانه كذا وقول رسوله كذا وإجماع أهل العلم وغير ذلك، فقال: ومع هذا فأنا سأقتله وذهب فقتله؛ فهذا مستحل، وقد قامت عليه الحجة بحرمة هذا الدم ولكنه لم يعبأ بهذه النصوص، فقتل من غير تأويل سائغ ولا اجتهاد مقبول، بل رأى أن قتل هذا الرجل ليس حراماً وإنما هو حلال.
قال: [وقال ابن مسعود: سباب المؤمن فسوق وأخذ برأسه كفر].
وقوله: (أخذ برأسه) يعني: قطع رقبته.(33/9)
حديث (من أتى عرافاً أو كاهناً)
قال: [وعن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)].
وهذا يشمل العراف والكاهن والساحر وغير ذلك، فلو أن إنساناً أتى أحداً منهم وصدقه بما يقول، فهذا منه ما يكون كفراً أكبر ومنه ما يكون كفراً أصغر، فأما الأصغر فمثل إنسان عز عليه ما ضاع منه فدله عليه هذا الساحر أو الكاهن أو العراف أو الدجال، فذهب إلى هناك وهو يعلم في نفسه أن هذا حرام، فهذا لا يدل على الاستحلال، وإنما ذهب رجاء الحصول على الشيء الذي ضاع منه فقط، وهو يكره ذلك جداً، وهذا من الغيب الذي أطلع الله عز وجل عليه بعض خلقه.
وأهل العلم يقولون: حد الساحر ضربة بالسيف، وجماهير أهل العلم على أن الساحر لا يكفر، والبعض على أنه يكفر؛ لأنه لا يتعلم السحر إلا إذا كفر بالله عز وجل حتى يكون له من الأقران والجن والشياطين من يطيعونه في أمره ونهيه.
والذهاب إلى الساحر أو العراف أو الدجال أو من يضرب الودع أو في الرمل وغير ذلك في حد ذاته كفر، وأما الذاهب إليه فإنه يكفر كفراً عملياً، فإن اعتقد أن هذا الساحر يعلم الغيب فقد كفر كفراً أكبر؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل.
قال: [وعن صفية رضي الله عنها عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)].(33/10)
حديث (ثلاث من الكفر بالله: النياحة وشق الجيب والطعن في النسب)
قال: [عن كريمة بنت الحسحاس المزنية قالت: سمعت أبا هريرة في بيت أم الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث هن من الكفر بالله: النياحة، وشق الجيب، والطعن في النسب)].
ولو أن كل من ناح خرج من الملة فربما لا يبقى في الأمة أحد، فالبلدة كلها تنوح على الميت، فمنهم من ينوح ليؤدي واجباً، ومنهم من ينوح ليرجع الجميل؛ لأنه قد نيح له من قبل، ومنهم من ينوح بإخلاص، يعني: أنه قد مسه ألم الموت ونزلت به المصيبة.
والعرب تقول: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وكان العرب إذا مات لهم ميت يستأجرون نساء يلطمن وجوههن ويشققن جيوبهن، ويقفن على الباب ينحن؛ حتى يعرف الذي في الخارج أن هذا البيت فيه ميت، وكانوا يعتبرون أن النياحة على الأبواب هي النعي، ولذلك جاء في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، أي: نعي الجاهلية.
وقال هنا: (ثلاث هن من الكفر بالله)، أي: الكفر العملي، فواحدة تقول: يا جملي! يا سبعي! يا الذي كنت مالي في البيت! وهكذا، وهذا نوع من أنواع النياحة.
والقائلة بهذا لا شك أنها واقعة في كبائر الذنوب، لكنها لا تكفر بذلك.
وكذلك الشاقة لجيبها أو الشاق لجيبه يعني: الذي يدخل يده في الثوب أو تدخل يدها في الثوب وتشقه كله، وهذا عمل من أعمال الجاهلية، والمرء لا يكفر بهذا كفراً يخرجه عن الملة.
وكذلك الطعن في النسب، مثل من يقول: فلان ليس ابن فلان، وإنما فلان هذا زنى بأمه وقد أخبرني بذلك، وحتى لو كان الأمر كذلك فلا يحل التكلم بهذا، وإقرار الزاني عندك لا قيمة له؛ لأن العبرة بإقرار المذنب أمام القاضي أو الحاكم والسلطان، وأما أمامك فلا عبرة به، بل لو تكلمت به لكنت قاذفاً، ووجب إقامة حد القذف في ظهرك.
والشهادة بالزنا لا يقبل فيها إلا أربعة شهود، ويشهدون أنهم قد رأوا الإيلاج حقيقة، يعني: رأوا الذكر في فرج المرأة، وإلا لم يحل لهم أن يتكلموا بكلمة واحدة، وإذا تكلم ثلاثة وجب على الحاكم أن يقيم عليهم الحد.
وقد رمي رجل في زمن عمر بن الخطاب باللواط بطفل، فشهد الأول عند عمر أنه رأى، وشهد الثاني أنه رأى، وشهد الثالث أنه رأى، فجاء الرابع فقال عمر: اتق الله عز وجل في أخيك هل رأيت؟ قال: يا أمير المؤمنين! رأيت شراً، قال: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن فلاناً وفلاناً قد التحفا بلحاف واحد يرتفع وينخفض، فقال عمر: الله أكبر، ثم أقام حد القذف على الثلاثة.
والحدود تدرأ بالشبهات، وليس لازماً من كون الرجل مع المرأة في لحاف واحد، أو رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة؛ أنه قد تم بذلك الزنا أو اللواط أو السحاق.
ولما كانت هذه من الأمور العظائم في الأمة وضع لها الشرع ضوابط دقيقة وسديدة، حتى لا تتهم الأعراض أو الأشخاص الذين هم في أصل أمرهم برآء من هذه الذنوب، وهذه الدساتير الواقية من انتشار الفواحش في المجتمع المسلم كفيلة بنقاء وصفاء هذا المجتمع، وأما نشر الأخبار هكذا بأن فلاناً زنا بأمه، وفلاناً يعمل كذا، والرجل مع بنته، والبنت مع أبيها، وغير ذلك على صفحات الجرائد، بل وتخصيص مجلات لنشر هذه الأخبار؛ فهذا باب عظيم من أبواب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
ولذلك تجد الإنسان لا يعرف شيئاً عن هذه الحوادث، لكنه إذا قرأ جريدة الحوادث حصل عنده حب واستطلاع لممارسة هذه الحوادث بنفسه، وأنا أنكر على مثل هذه المواقف، ولا أريد الاستفاضة في هذا الباب؛ حتى لا أقع فيما أحذر منه.(33/11)
حديث ابن عمر (من قال لأخيه يا كافر)
قال: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما)]، يعني: إما أن يكون كذلك وإما أن ترجع إليه، فإذا قال فلان عن فلان: إنه كافر، وقصد الكفر العملي لارتكابه ما قد يؤدي به حقاً إلى الكفر العملي فهو أولى بذلك، وإذا استوجب فاعل من اتهم بالكفر الكفر الأكبر كان أحرى وأولى أن يلحق ذلك به، ومثال ذلك: لو قال رجل الآن: نوال السعداوي كافرة ومرتدة فهذا اتهام، ولا بد أن ننظر في حيثياته، وما الذي جعل القائل يقول: نوال السعداوي مرتدة وكافرة؟ فيقول: نوال السعداوي تقول: الحج وثنية، مع نصوص الكتاب والسنة الآمرة به، وقد زعمت هذه المجرمة الملحدة المرتدة أنها قرأت القرآن أربعين مرة ودرسته على يد أبيها، ولا نعلم من أبوها هذا، ثم تقول: وأنا طلقت قبل زوجي هذا اثنين، وفي رواية لها تقول: وأنا خلعت قبل زوجي هذا اثنين، لو أنها اختلعت من زوجها فهذا قد أقره الشرع، ولكنها تقول: وأنا طلقت قبل هذا، والطلاق بيد الرجل لا بيد المرأة.
وثالثاً: أنها أنكرت الختان، واتهمت الشريعة، ورابعاً: أنها تكلمت على الفقهاء والعلماء وقالت: إن عندهم لوثة جنسية، وأنا لا أدري ما مصدر هذا القول، وهل فجر بها أحد مشايخ الدين أو علماء الشريعة؟ أو أن أحداً منهم طلب أن يجامعها أو يزني بها، أنا لا أظن أن كلباً أو خنزيراً تتوق نفسه ويشتاق إلى مواقعتها، فضلاً عن آدمي حتى وإن كان كافراً أو مرتداً، فضلاً عن أن يكون شيخاً من شيوخ الدين.
وهذا بلا شك إهدار لكرامة الإسلام والمسلمين، وهو باب عظيم جداً من أبواب الكفر والردة، وقالت غير ذلك الشيء الكثير جداً الذي يهدم ثوابت وأصولاً في الدين.
إذاً: قول القائل: إنها مرتدة وكافرة وخارجة عن الملة لا ينكر عليه، بل هي أولى به؛ لأنها قد أتت ما استوجب لحوق الكفر ونسبته إليها، وأما إذا لم تقل شيئاً من ذلك ولم تأت ما يستوجب الخروج من الملة ونسبها إلى الردة والكفر، فهو بلا شك أولى بهذا الحكم.
وهذا واق من الوقيعة في أعراض آخرين إلا بحقها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله عصم بها دمه وماله وعرضه إلا بحقها وحسابه على الله).
قال: [وعن ابن عمر قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كفر أخاه فقد باء بها أحدهما)].
قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا قال الرجل للرجل: أنت عدوي فقد كفر أو فقد كفر أحدهما بالإسلام]، يعني: إما أن يكون المقول له هذا القول أولى بذلك أو أنها ترجع إلى القائل.(33/12)
حديث ابن مسعود (أنه سئل عن الرشوة)
قال: [عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال: هي من السحت، أي: من الحرام، قال: فقال: أفي الحكم؟ يعني: هذا من السحت في الحكم؟ قال: ذلك الكفر]، أي: أن الرشوة في الحكم أو السحت في الحكم من الكفر وليس من السحت فقط، ولكنه كفر عملي، وهذا كما لو كان شخص له شيك على أحد من الناس لا يقدر على أخذه، فلما عرف الدائرة التي ستعرض فيها قضيته وعرف القاضي الذي سوف ينظر في القضية -والقضاة معظمهم ذممهم خربة- ذهب إليه في بيته وقال له: أنا لي شيك بخمسة آلاف جنيه، فخذ منها ألفاً واحكم لي بسرعة وخلصني، فقال: نعم، وهو لما حكم بهذا حكم حكماً شرعياً، ولكنه يأثم لأخذه الرشوة، ولو أن الخصم هو الذي ذهب إليه وقال له: صحيح أن علي الخمسة آلاف جنيه هذه، وأنا لا أريد أن أدفعها، وسأعطيك نصفها لو أنهيت القضية وأخرجتني منها، والقاضي في حقيقة أمره يعلم أن هذا قضاء زور، وأن الله حرم هذا، وأن القضية من أولها إلى آخرها حرام في حرام، وأنها ظلمات بعضها فوق بعض، وهو لما حكم بهذا يعلم في حقيقة أمره أن حكمه باطل ومخالف للشرع، ويقول: أنا حكمت لأجل أن آخذ المال، أو لأنه من الجيران، فحكمت له لكي أتخلص من أبيه وعمه وخاله وجدته وأمه وأخته والذي يأتي والذي يذهب.
وهناك من يجلس على كرسي في أي منصب ويقول: أنا أعرف أن هذا الكرسي كله ظلم وأني ظالم، وأن عملي الذي أعمله غلط مخالف للشرع، وسيحاسبني الله عز وجل عليه يوم القيامة، فإذا قلت له: فلماذا تجلس عليه قال: أنا أحب الكرسي، ولو وقفوني عن العمل فيمكن أن أموت، ولتعلق قلبي بالكرسي أنا جالس عليه، والمهم أن لا أتركه.
فأنت تقول له: هذا ظلم، وهو يقول لك: أنا أعلم منك، فأنا أعمل كذا من البلاء، فهذا لا يكفر ولا يخرج من الملة، بل هذا كفر عملي.
وهناك من غير كون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد أو المصدر الأول من مصادر التشريع، وقال: هذا كلام ليس له أساس، بل القانون الفرنسي هو المصدر الأوحد للقضاء في مصر، يعني: زحزح الشريعة جانباً وأحل محلها تشريعاً يتصف بالتبديل والتغيير المطلق، وقال: هذا هو دين ربنا، وخمسة وتسعون في المائة منه يتطابق تمام المطابقة مع الشرع، والذي يقول هذا القول هو شيخ من أهل العلم، ويقول هذا، وإذا كان هذا كلامه هو فسيقول الآخرون: مائتين في المائة، مع أننا نرى الفرق بين أحكام الشريعة وهذه القوانين في قضايا الزنا والسرقة وشرب الخمر والعري والبلايا وغيرها، فهذه القوانين لا توافق شرع الله ولا حتى في خمسة في المائة أبداً، وما وافق من هذه القوانين شرع الله فلا نأخذ به، وإنما نأخذ بشرعنا.
والتغيير العام لحكم الله عز وجل وشرعه كفر أكبر، وأما التغيير في بعض المسائل بناء على الشهوة أو حب المال أو المنصب أو مخافة عدو أو غير ذلك لا يكفر به الفاعل.
ولكن الفاعل يكفر إذا غير وجه الأرض في مكان يستطيع هو بكلمة واحدة أن يطبق شرع الله فيه، ولكنه عدل عن ذلك إلى شريعة بني صهيون، ولذلك قال مسروق: قلنا لـ عبد الله: ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم، قال عبد الله: ذاك الكفر، أي: الكفر العملي.(33/13)
حديث ابن عباس (أنه سئل عن الذي يأتي امرأته في دبرها)
قال: [عن ابن طاوس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها؟ فقال: هذا يسألني عن الكفر]، وهذا من الكفر العملي لا من الكفر الاعتقادي، الذي يخرج به المرء من الملة.
ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، كما أنه ليس كل من وقع في البدعة يكون مبتدعاً، وذلك مثل شخص رأى أناساً يعملون عملاً معيناً، فدخل معهم في هذا الشيء ظناً منه أن هذه طاعة لله عز وجل، ثم بعد ردح من الزمن وسنوات طويلة اكتشف أن هذه بدعة فانتهى عنها، فهذا ليس مبتدعاً عندما كان يفعل البدعة، ولكنه لا يكون بذلك متبعاً لظنه أن هذه طاعة، وهو لم يأتها ظناً منه أنها بدعة، ولم يخبر بأنها بدعة، فلما أخبر بأنها بدعة انتهى عنها.
وأما هؤلاء المبتدعة فإنهم وإن ظنوا أنهم على صواب وحق إلا أنهم نوقشوا مراراً أنهم على الباطل، وأن ما هم عليه هو باب من أبواب البدع، ومع هذا لم ينتهوا، بل كان منهم الصدود عن قبول النصيحة، (الدين النصيحة)، كما قال عليه الصلاة والسلام.
فليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، كما أنه ليس كل من وقع في البدعة يكون مبتدعاً.
وهناك من يسأل: بأن هناك شخصاً مبتدعاً، فهل تجوز الصلاة خلفه؟ فهو يحكم عليه أنه مبتدع مع أنه لم يجالسه ويبين له أن ما هو عليه أمر مبتدع وليس من دين الله، وأن دين الله في هذه المسألة كيت وكيت، وكان الأولى أن يشغل نفسه بذلك بدلاً من أن يشغل نفسه بفلان كافر وفلان مؤمن وفلان فاسق، فالأولى به أن يشغل نفسه بنفي الكفر عن الناس وإحلال الإيمان محله، وهذا واجب، خاصة والسؤال يدل على أن صاحبه من طلاب العلم.(33/14)
حديث أبي الدرداء (سئل عن الرجل يأتي المرأة في دبرها)
[قال أبو الدرداء لما سئل عن الرجل يأتي المرأة في دبرها: لا يفعل ذلك إلا الكافر]، أي: الكافر كفراً عملياً وليس اعتقادياً.
وقد سألتني امرأة في هذا اليوم بعد صلاة العصر وقالت: زوجي يأتيني في دبري وأنا لم أوافقه إلى لحظتي هذه، فسألتها هل يريد أن يأتيها من دبرها في قبلها أو من دبرها في دبرها؟ فقالت: يأتيني من دبري في دبري، قلت: هذا حرام، قالت: يهددني بالطلاق، قلت: حتى وإن وقع الطلاق، فينبغي أن تتوكلي على الله عز وجل وألا تمكنيه من ذلك وإن وقع الطلاق، فإنك باختيارك طاعة الله عز وجل لا بد أن يبدلك الله خيراً منه، وهذا اعتقاد، وإذا لم تكوني على يقين من هذا فانتظري عقوبة أخرى، يعني: إذا لم يتعقد المرء أنه إذا ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه فلينتظر عقوبة أخرى، وهي عقوبة ترك التوكل على الله عز وجل، فعلى المرء أن يفعل ما أمره الله به وينتهي عما نهاه عنه، ثم يحسن الظن بربه.
وهذا هو منتهى الرجاء الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم.
وهناك من تقول: أنا مضطرة لأن أبقى متبرجة؛ حتى يراني الشباب ويتقدموا لي، وبعدها سوف أتغير، وهي لا تعرف أنها ما دامت متبرجة فلن يتقدم لها إلا من كان على شاكلتها، ثم ربما إذا صارحته بنيتها هذه بعد العقد أو بعد الزواج قال: لا، أنا لن أتزوج واحدة تلبس خيمة.
وهذا مثل الشخص الذي كان من قبل يسمي الحجاب الذي أنزله الله من السماء خيمة؛ استهزاء بشرع الله عز وجل.
فيجب على كل امرأة أن تلتزم منذ بلوغها شرع الله من أوامر ونواه، وحلال وحرام، وعقائد وأحكام، وسلوك وأخلاق، ثم تحسن الظن بربها بأنه سوف يأتيها برزقها.
وهذه المرأة المتبرجة تتصور أنها سوف تتزوج رجلاً غير الذي كتب لها في اللوح المحفوظ، وكذلك الرجل الذي يحلق لحيته حتى إذا تقدم لامرأة يقولون له: نعم، أنت شكلك جميل، فنقبلك يا رجل! فهو يتصور أنه يمكن أن يقبل في بيته إلا في البيت الذي كتب له في اللوح المحفوظ.
وعلي بن أبي طالب لما قيل له: ما القدر؟ وضع إبهامه على لسانه هكذا، وأطبقه في كفه وقال: القدر أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، أي: أن الذي عملته مكتوب في اللوح المحفوظ أن علي بن أبي طالب سوف يعمله في وقت كذا في لحظة كذا.
وقال أحمد بن حنبل لما سئل: ما القدر؟ قال: إن الله على كل شيء قدير، وفي رواية عنه قال: القدر هو قدرة الله عز وجل.
وقدرة الله لا منتهى لها، وأعمال العباد واقعة تحت مشيئة الله وقدرته، سواء المشيئة الشرعية الدينية أو الكونية القدرية، وأنت لا تتزود ولا تعمل ولا تذهب ولا تجيء ولا تروح إلا بقدرة الله، والله تبارك وتعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وقد جفت به الأقلام وطويت عليه الصحف، فلا يخاف المرء على رزقه أو على عمره أو على مستقبله، فكل ذلك مكتوب، وما هي إلا أسباب أمر أن يلتمسها.
ولا بد أن يعلم أن السبب يجب أن يكون مشروعاً.
والقول بأن الغاية تبرر الوسيلة ليس كلام المسلمين، بل هذا كلام الصهاينة واليهود، وأما عند المسلمين فلا بد أن تكون الغاية والوسيلة مشروعتين، فإذا أردت أن أصل إلى غرض نبيل معين لكني سوف انتهك الحرمات في سبيل الوصول إلى هذا الغرض، فهذا الطريق غير مشروع، ولا أطالب بسلوكه أبداً، فمثلاً الصدقة على الأيتام مشروعة، وهي عمل حسن، ولكن هذا العمل الحسن لا يحل له أن يسرق أموال الناس، بل لابد أن يكون الغرض مشروعاً والسبيل إليه كذلك مشروعاً، وكلام اليهود لا علاقة لنا به.
فهذه المرأة التي يحملها زوجها على إتيانها من الدبر يحرم عليها تمكينه من ذلك، وهذا كفر عملي.
وبعض البلاد الإسلامية ابتليت بهذا البلاء العظيم جداً، حتى صار إتيان النساء من أدبارهن سجية عندهم، وقد ذهبت أخت من أخواتنا -جزاها الله خيراً- طبيبة إلى أحد المستشفيات في تلك البلاد، وجلست عشرين يوماً ورجعت فارة بسرعة، وأنا في الحقيقة كنت قد أدخلت أناساً إلى تلك البلاد، ولا أعرف هذا البلاء، فسألتها: لماذا رجعت؟ قالت لي: الله يسامحك، كيف أدخلتني إلى هناك وأنا لا أعرف شيئاً؟ قلت لها: ماذا هناك؟ هل تعاملوا معك معاملة ليست طيبة؟ قالت: عاملوني معاملة طيبة، وكنت أظل طول النهار واقفة في غرفة العمليات ولابسة القفاز ويدي في أدبار النساء، فما دخلت امرأة المستشفى إلا وزوجها يأتيها من دبرها، والبلد كلها هكذا، وهذا بلاء عظيم جداً.
وهذا كفر عملي بالله عز وجل، وقد انتشر هذا البلاء في البلد حتى صار وضعاً عادياً جداً.(33/15)
حديث أبي بكرة (لا ترجعوا بعدي كفاراً)
قال: [عن الحسن وابن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً -قال أحدهما: أو ضلالاً- يضرب بعضكم رقاب بعض)]، فقوله: (كفاراً) يعني: الكفر العملي وليس الكفر الاعتقادي.(33/16)
حديث جرير (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة)
قال: [عن عمر السعدي قال: كان جرير يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة، وإن مات مات كافراً)]، لكن يجب أن نفرق بين العبد والأجير، فمرة كان هناك شخص يبني بيتاً ثم هرب منه الصانع، فجاء الرجل وهو غضبان إلى المسجد يقول: أريد فلاناً، وهو في المسجد موجود معنا، فقلت له: لماذا أنت غاضب؟ قال: إنه عبد آبق، تركني منذ خمسة وعشرين يوماً، ولم يأت لينهي عمله، وتركني وذهب يعمل عند هذا يومين وهذا يومين وهذا يومين، قلت: صحيح هو مقصر في العمل، ويحتاج إلى ضرب على رأسه، لكن التوصيف الفقهي الذي تقوله ليس صحيحاً، فالأجير يأخذ أجرة، والعبد لا يأخذ أجراً، وهذا هو الفارق بين العبد وبين الأجير، فلو قال السيد لعبده: ابن لي هذا الحائط فهو ملزم ببنائه، والسيد ليس ملزماً بأن يعطيه أجراً، فقال الرجل: أحد المشايخ قال لي لما أخبرته القصة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أبق العبد من سيده فمات على ذلك مات كافراً)، وأنا والله -يا شيخ- لا أخفي عنك أني جئت لأقتله على اعتبار أنه كافر، وهذا والله ما حدث، لتعلموا ماذا في الأمة، قلت له: وأنت جئت لتقتله بيدك؟ هذا رجل صنائعي وأنت رجل لست قوياً، قال: من الذي قال لك ذلك؟ وأخرج لي شيئاً كأنه سيقتل به جملاً وليس شخصاً، قلت له: أنت أتيت بقوة، قال: ومعي كذا كذا، ثم جلس حتى هدأ، وكان الصنائعي يسمع هذا الكلام كله، فقال لي: كثر الله خيرك يا شيخ! هل أنت متأكد أنني لست آبقاً؟ فحتى هو أيضاً متشكك هل هو آبق أم لا؟ فالعبد الآبق هو الهارب، والأبوق أو الإباق: هو الهروب.
وهذا يدلنا على حكمة الإسلام، وأن الإسلام خاطب القلوب والعقول، ولو لم يكن هناك أي عقوبة دنيوية أو أخروية على الإباق والهروب؛ لكان كل عبد قد هرب من سيده وذهب إلى أي بلد آخر وجلس فيه، ولكن الإسلام خاطبه وقال له: لو أبقت فيوم القيامة سوف تدخل النار.
فالعبد يجلس مع سيده مراقبة لله عز وجل، والإسلام يريد قلوباً وعقولاً نظيفة تتعامل معه، ليس مثل عقل مصطفى محمود وغيره، فهذه العقول لا تصلح مع الإسلام أبداً، فالإسلام يحتاج إلى قلوب وعقول تقول لأوامر الله: سمعنا وأطعنا، وإن خفيت حكمة الأمر والنهي على هذه العقول والقلوب؛ لأن الإسلام هو الاستسلام والإذعان لأوامر الله تعالى، كإذعان العبد لسيده والمريض بين يدي الطبيب، والطفل بين يدي أمه.
واليوم يخرج علينا كل يوم إناء ينضح بما فيه، ويقول: هذا الحديث لا يعجبني شكله وإن كان في الصحيحين، ويقول: لازم نعرض كل حديث على العقل، مع أن عقله ليس نظيفاً، ولن يفهم هذا قط.
ونحن لما كانت عقولنا نيرة بنور الإيمان فهمنا هذا وعلمنا أنه حق، ويكفي في كونه حقاً أننا نعتقد أن النبي قد قاله عليه الصلاة والسلام قد قاله، حتى وإن خفيت علينا العلة.
قال: [وعن جرير البجلي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أبق العبد إلى العدو برئت منه الذمة).
وقال -أي جرير -: مع كل أبقة كفرة، يعني: لو أن العبد أبق مرة كفر مرة، وإن أبق الثانية كفر الثانية، وهكذا، فمع كل مرة يأبق فيها العبد يكفر بها كفراً عملياً يلزم منه التوبة واسترضاء سيده.(33/17)
حديث ابن مسعود (أنه دخل على امرأته فلمس صدرها، فإذا في عنقها خيط مثل التميمة)
قال: [عن أبي عبيدة قال: دخل عبد الله -أي: عبد الله بن مسعود - على امرأته فلمس صدرها، فإذا في عنقها خيط مثل التميمة قد علقته في صدرها أو في عنقها، فقال: ما هذا؟ قالت: شيء رقي له فيه من الحمى] تعني: فيه رقية مكتوبة أعلقها على رقبتي لكي تذهب الحمى، [فنزعه وقال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك].
والذي يعلق هذه التميمة على صدره ويعتقد أن هذه التميمة تنفع وتضر بنفسها من دون الله عز وجل مع قيام الحجة عليه يكفر ويخرج من الملة، ومن اعتقد أن النفع والضر بيد الله عز وجل، وأنه الشافي، وأنه المحيي المميت، وأنه لا ينفع ولا يضر غيره سبحانه وتعالى، ولكنه ظن أن هذه التميمة سبب من الأسباب فعلقها، فهو كافر كفراً عملياً لا يخرج به من الملة، ولذلك [قال علي بن أبي طالب: إن كثيراً من هذه التمائم والرقى شرك بالله عز وجل، فاجتنبوها].
قال: [وعن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الرقى والتمائم والتولة شرك)]، والمقصود بالرقى التي هي شرك الرقية الغير شرعية، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام قد رقى ورقاه الناس، ولكنها رقية شرعية بلسان عربي مبين، وبكلمات الله عز وجل وآياته وأسمائه وصفاته، فهذه رقية مشروعة، وأما الرقية بغير العربية كالسريانية وغيرها وبتمتمات وكلام غير مفهوم، وغير ذلك من ضرب الودع والرمل وغير هذا؛ فهذا بلا شك شرك بالله عز وجل.
والتميمة: هي التي يعلقها المرء.
والتولة: ضرب من ضروب السحر، وهي خاصة بعمل تعمله المرأة لأجل أن تتحبب إلى زوجها ويتحبب إليها زوجها.
يعني: إذا رأت المرأة أن زوجها بدأ يفكر في الزواج ثانية تقول: سأعمل له عملاً حتى أجعله يحبني ولا يتزوج امرأة أخرى، فتذهب إلى ساحر يعمل لها ما يحببها إلى زوجها، وهذا العمل يسمى تولة إذا كان خاصاً بمحبة الزوج لامرأته أو محبة رجل لامرأة، ولا يسمى رقى ولا تمائم ولا شيئاً من هذا، وهو من الشرك بالله عز وجل.(33/18)
حديث أبي ذر (ليس من رجل ادعى لغير أبيه)
قال: [عن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ معقده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر]، أي: ومن نسب رجلاً إلى الكفر، [أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه)]، أي: رجع إليه مرة أخرى.(33/19)
حديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر)
قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أمطرت السماء: (قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال مطرنا بفضل الله، فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو مؤمن بالكوكب كافر بي، أو كافر بي مؤمن بالكواكب)].
فمن زعم أن المطر إنما ينزل بفعل الكواكب، وأن الكواكب مؤثرة في نزول الأمطار ورفعها بغير فضل الله عز وجل ولا إذنه وأمره، فلا شك أنه قد كفر كفراً اعتقادياً، وأما من زعم أن الكواكب لها تأثير في المطر بفضل الله عز وجل فهو كلام غير صحيح، والقائل بذلك يكفر كفراً عملياً لا كفراً اعتقادياً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والأثر من ألف وثلاثة وأربعين إلى آخر الباب يضاف إلى باب الخوف والرجاء، وهو الباب التالي بإذن الله تعالى؛ لأنه منه، ولكن سر جعله في هذا المكان أنه وقع للراوي في هذا الكتاب عن ابن بطة وجادة، بخلاف غيره فوقع سماعاً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(33/20)
شرح كتاب الإبانة - الإيمان خوف ورجاء
الإيمان خوف ورجاء، والخوف والرجاء بمثابة الجناحين للسائر إلى الله عز وجل، فلا يصح أن يعبد الله بالخوف فحسب؛ لأنه يؤدي إلى القنوط واليأس من رحمة الله عز وجل، كما لا يصح أن يعبد بالرجاء فحسب؛ لأنه يؤدي إلى الاتكال وترك العمل.(34/1)
باب الإيمان خوف ورجاء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع باب جديد من أبواب الإيمان، وهو باب: الجمع بين الخوف والرجاء، إذ إن الخوف والرجاء بمثابة الجناحين للسائر إلى الله عز وجل، بل لا يصح للمؤمن أن يعبد الله تعالى بالخوف فحسب، كما أنه لا يصح منه أن يعبد الله تعالى بالرجاء فحسب.
فالخوف من الله بغير رجاء يؤدي إلى اليأس من رحمة الله عز وجل، كما أن الرجاء دون الخوف من الله يؤدي إلى التفريط والتقصير في جنب الله عز وجل.
ولذا عقد الإمام هنا باباً في أن الإيمان خوف ورجاء، إذ إن الخوف من شعب الإيمان، كما أن الرجاء من شعب الإيمان، فلا يستكمل إيمان العبد إلا بالخوف والرجاء معاً.(34/2)
الآيات القرآنية الدالة على أن الإيمان خوف ورجاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وتخوف العقلاء من المؤمنين على أنفسهم سلب الإيمان].
أي: هكذا أهل الإيمان يتخوفون على أنفسهم من أن يسلبوا الإيمان.
قال: [وخوفهم النفاق على من أمن ذلك على نفسه].
أي: خافوا أن يكون الذي أمن مكر الله عز وجل، وأمن عذاب الله عز وجل، أن يؤدي به ذلك إلى النفاق.
قال: [وبذلك نزل القرآن وجاءت به السنة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]]، (يرجون رحمته) يمثل جانب الرجاء، (ويخافون عذابه) يمثل جانب الخوف، ومحل ذلك كله إنما ظهر في أنهم يدعون ربهم، ولذلك قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، ولهذا فالسنة شاهد فيما أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني قبلتك على ما كان منك ولا أبالي).
قال العلماء: الدعاء بسبب الخوف، وهذا النص في الحديث شمل الخوف والرجاء، (إنك ما دعوتني ورجوتني قبلتك على ما كان منك ولا أبالي)؛ لأن الله عز وجل إليه عاقبة الأمور فلا يحاسبه أحد، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
[وقال الله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]]، أي: خوفاً من عذابه ومن ناره وعقابه، وطعماً في جنته ومغفرته ورضوانه.
[وقال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ} [الزمر:9]]، وهذا الخوف، والرجاء: [{وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]]، فهذه الآيات وغيرها كثير جداً إنما تحمل هذين الجناحين: الخوف والرجاء معاً، كما أن أحاديث كثيرة ذكرت الخوف فقط، أو ذكرت الرجاء فقط، فالذي يقف على آيات وأحاديث الخوف دون أن يقف على آيات وأحاديث الرجاء، ربما هلك من فرط خوفه وفزعه من عذاب الله عز وجل، والذي يقف على آيات وأحاديث الرجاء فقط، ربما اتكل على رحمة الله عز وجل فترك الصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر الطاعات، ووقع في سائر المحرمات اتكالاً على رحمة الله عز وجل، فلا هذا قد حقق الإيمان، ولا ذاك قد حقق الإيمان، وإنما يحقق الإيمان من حقق الخوف والرجاء معاً، وإنما يحقق الرجاء من حقق الخوف، ويحقق الخوف من حقق الرجاء، أما إذا اقتصر على أحدهما فليس بمؤمن على الحقيقة.(34/3)
ذكر بعض الأحاديث في أن الإيمان خوف ورجاء
قال: [وعن أنس بن مالك قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في مرض الموت فقال: كيف تجدك؟]، أي: ما هي أخبارك؟ [قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي)]، (أرجو الله) جانب الرجاء، (وأخاف ذنوبي) جانب الخوف، وحتى في هذا الموطن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً)؛ لأن الله تعالى عند حسن ظن العبد، قال: [(فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يجتمع هذا في قلب عبد في مثل هذا الموطن)]،أي: موطن القدوم على الله عز وجل، وترك الدنيا والإقبال على الآخرة، [(إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي يخاف)؛ لأنه حقق جانبي الإيمان: الخوف والرجاء.(34/4)
آثار في خوف السلف من ذهاب إيمانهم وخوفهم النفاق على من أمن ذلك على نفسه
قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: ما على ظهرها من بشر لا يخاف على إيمانه إلا ذهب].
وكأنه أراد أن يقول: ليس من أحد إلا ويجب عليه أن يحذر فوات إيمانه، وأن من أمن فوات الإيمان فلا بد أن يفوته حقيقة، إذ المرء إنما يعمل على تحصيل الإيمان وزيادته وكماله وتمامه، أما من أهمل إيمانه فهو كمن أهمل في زرعه أو في صناعته أو حرفته، فلا بد أنها إلى زوال، والإيمان من باب أولى.
إذ إن الإيمان كالشجرة التي تنبت في القلب، والمعلوم أن الشجرة ما لم تحطها برعاية ولطف لا بد أنها إلى زوال، وكذلك الإيمان ينبغي أن يراعيه صاحبه في قلبه.
قال: [وعن الحسن البصري قال: والله ما مضى من مضى، ولا بقي من بقي إلا يخاف النفاق].
حتى المبشرون بالجنة كانوا يخافون على أنفسهم من النفاق، فهذا عمر رضي الله عنه المبشر بالجنة يلقى حذيفة، وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر حذيفة بأعلام وأعيان وأسماء المنافقين، فيقول له: أنشدك الله يا حذيفة! أعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟! عمر يخاف على نفسه من النفاق، فمن باب أولى أن يخاف أحدنا من ذلك، أو أن يقف الواحد منا مع نفسه وقفة جادة لمعرفة ما إذا كان منافقاً أو فيه شعبة أو خصلة من خصال النفاق، فيراجع نفسه ويتخلص منها، ويعمل على كمال وتمام وزيادة الإيمان في قلبه بإتيان الطاعات واجتناب المنهيات.
فقال حذيفة لـ عمر رضي الله عنهما: لا يا عمر! ولا أزكي أحداً بعدك، أي: لم يذكرك النبي عليه الصلاة والسلام في المنافقين، ولكني أرجوك ألا تفتح هذا الباب حتى لا يسألني أحد غيرك فيكون منهم، فاضطر اضطراراً إلى إخباره بأنه من المنافقين، فتكون الفتنة بعد ذلك بيني وبين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وما أمنه إلا منافق].
أي: ما أمن النفاق على إيمانه إلا إنسان قد استهتر بهذا الإيمان.
وقد ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.
وهذا يدل على وجود الإيمان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو كذلك حقاً، ولذلك قال غير واحد: ما سبق أبو بكر الأمة بكثير صلاة ولا صيام، وإنما سبقها بشيء وقر في قلبه، ألا وهو الإيمان.
قال: [وقال طريف بن شهاب: قلت للحسن البصري: إن أقواماً يزعمون ألا نفاق]، أي: أنه ليس هناك شيء اسمه نفاق، قال: [ولا يخافون النفاق! قال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً].
أي: يرد عليه فيثبت النفاق، بدليل أن الحسن يتمنى لو أنه أخبر أنه ليس فيه شعبة من النفاق، وأن ذلك أحب إليه من أن تنبت الأرض ذهباً، فيقول الحسن: فيشتري الخبر بطلاع الأرض كلها ذهباً، على أن يخبر أنه ليس من المنافقين، أو أنه ليس على شعبة من النفاق.
قال: [وعن الحارث بن معاوية قال: إني لجالس في حلقة وفيها أبو الدرداء وهو يومئذ يحذرنا الدجال].
وكما تعلمون أن الدجال أعظم فتنة إلى قيام الساعة، وما من نبي إلا حذر أمته الدجال، فـ أبو الدرداء رضي الله عنه في حلقته يحذر الأمة الدجال.
قال: [فقال له الحارث بن معاوية: والله لغير الدجال أخوف على نفسي من الدجال]، أي: أنا أخاف على نفسي شيئاً هو أعظم من الدجال.
[فقال أبو الدرداء: وما الذي أخوف في نفسك من الدجال؟ قلت: إني أخاف أن يسلب مني إيماني ولا أدري].
أي: أخاف أن يذهب إيماني دون أن أدري.
[قال: لله أمك يا ابن الكندية!] أي: كأنك أتيت بشيء عظيم حقاً، وجدير بالاهتمام، فقال: [لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس مائة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس خمسين يتخوفون مثل الذي تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس عشرة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية! أترى في الناس ثلاثة يتخوفون ما تتخوف؟ والله ما أمن رجل قط أن يسلب إيمانه إلا سلبه، وما سلبه فوجد فقده].
أي: إذا سلب الإيمان فإنه يصعب جداً أن يعود إلى صاحبه مرة أخرى، وكأن أبا الدرداء أقر الحارث بن معاوية على أن رعاية الإيمان أعظم بكثير جداً من الانشغال بفتنة المسيح الدجال.
قال: [وعن أم الدرداء قالت: كان أبو الدرداء كثيراً ما يقول: إذا هلك الرجل على الحال الصالحة هنيئاً له، ليت أني بدله]! أي: إذا مات المرء على حال صالحة مرضية فهنيئاً له.
[فقالت أم الدرداء -وهي ا(34/5)
ذكر الآثار عن السلف في الخوف والرجاء(34/6)
أثر أبي بكر الصديق: (والله لو قيل: لا يدخل الجنة)
وهذا الباب يكمله بعض النصوص التي سبقت هذا التبويب مباشرة.
قال: [وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لو قيل لا يدخل الجنة إلا رجل واحد لرجوت أن أكون أنا هو].
في هذا الموقف الرهيب يحقق جانب الرجاء، قال: [ولو قيل: لا يدخل النار إلا رجل واحد لخفت أن أكون أنا هو].
أيضاً في هذا الموقف الرهيب يحقق جانب الخوف، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.(34/7)
أثر عون بن عبد الله: (قال لقمان لابنه: (يا بني أرج الله)
قال: [وعن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني ارج الله رجاءً لا تأمن فيه مكره].
أي: أرجه؛ لكن لا تأمنه أن يمكر بك، إذ إن الله عز وجل يمكر بالعبد إذا رجاه بغير عمل، لكن إن حقق العمل أولاً ثم رجا الله تعالى كان رجاؤه رجاءً شرعياً صحيحاً، فرجاء بغير عمل إنما هو تمن، أما عمل يعقبه رجاء فهو الرجاء الشرعي الممدوح عند أهل السنة.
قال: [يا بني ارج الله رجاءً لا تأمن فيه مكره، وخف الله خوفاً لا تيأس فيه من رحمته].
أي: لا بد أن يحقق العبد جانب الرجاء، لكن رجاءً لا يعطله عن العمل، كما أنه يجب عليه أن يخاف الله تعالى، لكن خوفاً منضبطاً بضوابط الشرع لا يؤدي به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل، فالأول شكر، والثاني كفر.
[فقال ابن لقمان لوالده: كيف أستطيع ذلك يا أبت! وإنما لي قلب واحد؟ قال: يا بني! إن المؤمن هكذا له قلبان: قلب يرجو به، وقلب يخاف به].
وهو في الحقيقة قلب واحد، لكنه يقوم بالوظيفتين: وظيفة الرجاء، ووظيفة الخوف.(34/8)
أثر بكر المزني: (لو انتهيت إلى هذا المسجد)
قال: [وعن بكر بن عبد الله المزني قال: لو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال]، أي: قد امتلأ بالرجال، [فقيل لي: أي هؤلاء خير؟ لقلت لسائلي: أتعرف أنصحهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه خيرهم، ولو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله، مفعم من الرجال، فقيل لي: أي هؤلاء شر؟ لقلت لسائلي: أتعرف أغشهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه شرهم، وما كنت لأشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان، ولو شهدت له بذلك شهدت أنه في الجنة، وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان، ولو شهدت عليه بذلك شهدت أنه في النار]، ثم قال: وهذا الموقف الثاني: [ولكني أخاف على خيرهم، فكم عسى خوفي على شرهم، فإذا رجوت لشرهم فكم رجائي لخيرهم؛ هكذا السنة]! فهذا الإمام يقعد قاعدة إيمانية عظيمة جداً كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، هذه القاعدة هي: أن أهل السنة لا يشهدون لأحد بالجنة إلا من شهد له القرآن والسنة بذلك، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من الصحابة الكرام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد شهد لهؤلاء جميعاً بالجنة، فلا أتوقف أنا قط في دخول هؤلاء الجنة، ولو شهد القرآن والسنة بأن فلاناً في النار فلا أتوقف في اعتقادي أن فلاناً في النار، مثال ذلك: أبو طالب في النار، مع أنه عم النبي عليه الصلاة والسلام، وعبد المطلب في النار، وأبو لهب في النار؛ لأن القرآن والسنة قد شهدا بأن هؤلاء في النار، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبر عن بعض من كان يجاهد معه أنه في النار بسبب بعض المعاصي التي وقع فيها وارتكبها، فأشهد أنه دخل النار لكنه لا يخلد فيها؛ لأن المؤمن أو المسلم العاصي إنما يدخل النار فيأخذ جزاءه أو يعفو الله عز وجل عنه، بخلاف المنافق فإنه في الدرك الأسفل من النار، ونحن نعتقد أن هذه الثلة المنافقة الذين كانوا في زمن النبوة خمسة عشر أو ستة عشر رجلاً كانوا من المنافقين، وهم في الدرك الأسفل من النار، وقد عدهم الإمام مسلم عدداً مجملاً ستة عشر شخصاً، وهؤلاء هم رءوس النفاق في زمانه عليه الصلاة والسلام.
لكن يبقى بعد ذلك أنني أرى أن هذا الرجل من أهل الصلاح؛ فهل ذلك يستوجب له القطع بالجنة؟ ولذلك أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يحل لنا أن نزكي على الله أحداً، لكن نقول: فلان نحسبه على الخير والله حسيبه، أي: إلى الله تعالى سره، فظاهره يحتمل الصلاح، وأعماله أعمال الخائفين، لكن هل هو محق في هذا؟ والأعمال القلبية كما قال عليه الصلاة والسلام: (وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، والعكس بالعكس، ففيما يبدو لي أن فلاناً من أهل الصلاح، لكن هل هو كذلك عند الله؟ أنا أرجو ذلك، ولا أقطع بهذا؛ لأني لو قطعت بأنه من الصالحين فلا بد أن أقطع له بالجنة؛ لأنه صالح، والجنة يدخلها الصالحون، فأقول: هو صالح، لكن الله حسيبه، وأما إن كان فاسداً فهل يحكم له بالفساد، وبالتالي يحكم له بالنار؟ لا أدري، فأنا أخاف عليه ذلك، ومعتقد أهل السنة والجماعة أنهم لا يزكون على الله عز وجل أحداً، وإنما يرجون الثواب للطائع ويخافون على العاصي، يرجون رحمة الله عز وجل للطائع، ويخافون على العاصي، أقول لك: يخافون على العاصي، ولا يتهمونه ولا يسبونه ولا يدعون عليه، وإنما يخافون عليه العذاب، ويتمنون لو أنه انتقل من حال الفساد إلى حال الصلاح والطاعة، أما الحكم له بجنة أو نار فهذا ليس لأحد.
ولذلك لما رأى أحد الصالحين رجلاً من أصحاب المعاصي على معصية فقال: والله لا يغفر الله لفلان، غضب الله تعالى من هذا القول غضباً شديداً وقال: (من ذا الذي يتألى عليَّ؟)، والتألي هو: الحلف والقسم، أي: من ذا الذي يحلف على الله أنه لا يغفر لفلان؟ وقال الله تعالى: (أشهدكم أني قد غفرت لفلان وأحبطت عمله)، أي: أن الله تعالى غفر لهذا المذنب، وأحبط عمل هذا الصالح؛ لأنه خالف منهج أهل السنة والجماعة في أنهم يتمنون الرأفة بالصالح، ويخافون على العاصي، ولا يقطعون عليه بحكم؛ لأن هذا القطع ليس لأحد إلا لله عز وجل، فمن باب التألي على الله عز وجل أن يقال: إن فلاناً من أهل النار، وإن فلاناً من أهل الجنة، كما أن منهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يقطعون لأحد بعينه بمثل هذا، وإنما يرجون أن يكون شهيداً، وهذا لا يمنع إطلاق الشهادة العامة لا الخاصة، فنقول: شهداء بدر، شهداء أحد، شهداء الثورة؛ لأنه ليس في هذا قطع لفلان بعينه أنه من أهل الجنة، لكن لو قلت: فلان شهيد، فبهذا أكون قد قطعت له بالجنة، وبالتالي فلا بأس بإطلاق الحكم العام الذي لا يخص به أحد من بين هذه العموم، دون بقية من شاركه في ذلك.
ولذلك فهذا باب عظيم جداً من معتقد أهل السنة والجماعة، أنهم لا(34/9)
أثر معاوية بن حرمل: (لو نادى منادٍ من السماء)
قال: [وقال معاوية بن حرمل: لو نادى مناد من السماء: لا يدخل الجنة غير رجل واحد لرجوت أن أكون أنا هو، ولو نادى مناد من السماء: لا يدخل النار إلا رجل واحد لم أزل أخاف أن أكون أنا هو، حتى أعلم أأنجو أم لا]، أي: حتى يأتيني الخبر اليقين المتعلق بي أنا، قال: [ولو نادى مناد من السماء أن معاوية بن حرمل من أهل النار لم أزل أعمل حتى تعذرني نفسي].
وهذا كلام عظيم جداً يرد به على الذي يتكلون على المكتوب والمقدر ويتركون العمل، فالنبي عليه الصلاة والسلام أجاب عن هذا السؤال فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، أي: أنت مهدي إلى طريقك الذي كتبه الله عز وجل لك في اللوح المحفوظ، إذ كل يعمل بهذا الأجل المحفوظ، وبهذا القدر المكتوب، والله عز وجل ما كتبه عليك ظلماً، فحاشاه سبحانه أن يظلم عباده ذرة أو أقل من ذلك، ولكن الله تعالى أعذر العباد من أنفسهم بأن جعلهم عقلاء، ولما مدحهم مدحة العقل كلفهم، ولم يكلفهم إلا بعد أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، فقامت الحجج على الخلق، وليس للمرء إلا أن يجتهد في الطاعة بإتيان الأمر وترك النهي، ولازم عليه بعد ذلك أن يرجو رحمة الله تعالى وأن يخاف عذابه.(34/10)
أثر وهب بن منبه: (الرجاء قائد)
قال: [وعن وهب بن منبه أنه كان يقول: الرجاء قائدك]، أي: يقودك إلى الله، [والخوف سائق]، أي: يسوقك من الخلف، [والنفس حرون]، أي: تحرن عليك وتمتنع عن العمل، كما يقال: هذا الحمار حرن مني، أي امتنع عن السير والعمل، وهكذا النفس، فالرجاء يقودها إلى الله، والخوف يسوقها من الخلف، إذاً النفس في الوسط، أمامها الرجاء وخلفها الخوف.
قال: [إن فتر قائدها]، وهو الرجاء، [صدت عن الطريق فلم تستقم لسائقها، وإن فتر سائقها لم تتبع قائدها، فإذا اجتمعا استقامت طوعاً وكرهاً].
وكأنه قال: الخوف والرجاء لا بد منهما للنفس التي ترغب أن تصل إلى الله عز وجل؛ خوفاً من عذابه وناره، وطمعاً في جنته ورحمته.(34/11)
أثر علي بن أبي طالب: (ألا أخبركم بالفقيه)
قال: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بالفقيه كل الفقيه؟] أي: ألا أخبركم بالفقيه حقاً؟ قال: [من لم يقنط الناس من رحمة الله]، وهذا كلام الدعاة والوعاظ، [ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله.
وذكر الحديث].
فالذي يكون كل كلامه في الجنة حتى يوقن الرجل أنه ليس هناك شيء اسمه: عذاب ولا عقاب ولا نار، وأن الله غفور رحيم، وبالتالي فلماذا نصلي ونصوم ورحمة الله قد وسعت كل شيء حتى اليهود والنصارى؟ هكذا يقول! بل هكذا اعتقد أحد المسلمين وقال لي: أتظن أن رحمة الله تعالى لا تشمل اليهود والنصارى؟ قلت: والله لا تشملهم، قال: يلزمك التكفير عن هذه اليمين! فقلت: الذي لا يكفر اليهود والنصارى فهو كافر، وإن كان يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويزعم أنه مسلم؛ لأنه قد كذب الله تعالى في آياته، وكذب النبي صلى الله في حديثه، والقرآن والسنة قد ملئا بالآيات والأحاديث التي تدل على أن كل من لم يؤمن بالله رباً، وبمحمد عليه الصلاة والسلام نبياً ورسولاً، ويعمل بمقتضى هذا الإيمان؛ فإنه كافر، ولعل الوقت يسمح بسرد ذلك بإذن الله إذا تكلمنا عن الإيمان.
فالفقيه الحق هو الذي يعطي الناس جرعة خوف مع جرعة رجاء، فيخرج المرء من مجلس الوعظ بين الخوف الذي يحمله على العمل، وبين الرجاء الذي لم يقنطه من رحمة الله عز وجل، النبي صلى الله عليه وسلم وهو أول من تنشق عنه الأرض، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو سيد الأولين والآخرين، ومع هذا كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فلما قالت عائشة: (يا رسول الله! أليس الله تعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً)، والشكر باب من أبواب الرجاء لله عز وجل، كما أنه باب من أبواب الخوف لله عز وجل.(34/12)
دخول الجنة لا يكون إلا برحمة الله
قال: [وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل، ووضع يده على رأسه عليه الصلاة والسلام)].
يا إخواني! مهما عمل العاملون، فإنهم لا يكافئون الله تعالى في أدنى نعمة أبداً.
وعند الحاكم من حديث أنس بسند لا بأس به أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كان رجل فيمن كان قبلكم عبد الله ستمائة عام)، فهل هناك أحسن من هذا؟ ستمائة عام وهو في عبادة مستمرة، ما بين قائم وراكع وساجد وداع وتال وغير ذلك.
قال: (فقال الله له: تمن، فتمنى أن يموت وهو ساجد، فمات وهو ساجد، ثم أمر به فجاء بين يدي الله عز وجل، فقال الله: أدخلوا عبدي الجنة بفضلي، فقال العبد: لا يا رب! بعملي، فأمر الله تعالى الملائكة أن يزنوا عبادة ستمائة سنة في مقابل نعمة البصر فقط، فلما وضعوا البصر في كفة والعمل في كفة طاشت عبادة ستمائة عام، فقال الله عز وجل: أدخلوا عبدي النار، فقال: يا رب! أدخل الجنة بفضلك، فدخل الجنة بفضل الله عز وجل).
فلا بد أن يحاسب الواحد منا نفسه، وأن يرد الفضل إلى الله، إذ إنه الذي قواه على العبادة، وإذا استمر هذا العبد في عبادة الله ستمائة سنة فمن الذي قواه عليها؟ ومن الذي هداه إليها؟ إنه الله تعالى مصدر كل خير، فلا يغتر المرء بعمله؛ لأن المرء لا يدخل الجنة بعمله، إنما العمل سبب لدخول الجنة أو دخول النار، أما دخول الجنة فهو بفضل الله عز وجل، ودخول النار بعدل الله عز وجل.(34/13)
موقف السلف من المرجئة وتخويفهم من معتقدهم
قال: [وعن ابن أبي مطيع قال: شهدت أيوب وعنده رجل من المرجئة].
وأيوب هو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري الإمام الكبير، والمرجئة يقولون في الإيمان إنه تصديق القلب، والعمل ليس من الإيمان، ولذلك دفعهم هذا إلى أن يقولوا لزاماً بهذا النص: إن إيمان أفسق الخلق كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن العمل لا علاقة له بالإيمان عندهم، فيستوي مع جبريل عندهم من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصدق بهذه الكلمة بقلبه، ولو ترك كل الأوامر وارتكب كل النواهي؛ فهذا إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا كلام دعاة الفساد والمجلات، فالعمل عندهم لا علاقة له بالإيمان البتة.
قال: [فجعل يقول: إنما هو الكفر والإيمان]، أي: أن هذا المرجئ يقول لـ أيوب إمام السنة في زمانه: الإنسان إما كافر! وإما مسلم، وليس هناك غير هذا.
قال: [وأيوب ساكت، فأقبل عليه أيوب فقال: أرأيت قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]]، فهذه الآية هل يمكن أن تكون نزلت في الكافرين؟ أليست المسألة كلها عند المرجئة إيماناً أو كفر؟ أيضاً هل هذه الآية موافقة للقواعد التي قعدها المرجئة لأصل مذهبهم، أم أن هذه الآية تشهد لمذهب أهل السنة والجماعة؟ ((وَآخَرُونَ))، أي: من الخلق ((مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ))، أي: يوم القيامة ((إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)).
ثم مستحيل أن هذه الآية في صفات الكفار؛ لأن الكفار في عذاب الله يقيناً، وأنه لا تلحقهم التوبة أبداً إذا ماتوا على الكفر، فهذه الآية وردت للعقوبة أو العفو عنهم يوم القيامة، وهل يكون عن الكافر عفو يوم القيامة؟ لا يمكن العفو عن الكافر يوم القيامة، وقد يأتي من يقول: أليس الله على كل شيء قديراً؟ بلى، ونحن مؤمنون بهذا؛ لكن الله عز وجل الذي هو على كل شيء قدير خلق الجنة وخلق النار، وجعل لكل منهما قسماً، وقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت! والله عز وجل أخبرنا أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فإذا جاء شخص وقال: هل يمكن أن الله لا يجعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار؟ نقول: نعم؛ الله عز وجل قادر على كل شيء، لكنه لما كان قادراً أخبرنا أنه بقدرته سيجعل المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
إذاً: هناك أمور تدل على المستويات الأخرى أبداً؛ لأن القرآن والوحي انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن تستقر مسائل الإيمان والكفر في قلب العبد وذهنه.
فهذا النص: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ)) معناه: مؤخرون بمشيئة الله عز وجل يوم القيامة، ((إما يعذبهم وإما يتوب عليهم)) أي: فإما أن يعذبهم بعدله، وإما أن يتوب عليهم ويغفر لهم ويدخلهم الجنة بفضله.
وهذه مسألة متعلقة بالعمل، ولذلك أرجأهم الله تعالى، وأخرهم إلى يوم القيامة، وهم في مشيئته، إن شاء عذب وإن شاء غفر، وهذا بسبب أعمالهم المخالفة لأوامر الشرع، وارتكابهم لما نهى عنه الشرع.
فهم في مشيئة الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، وإنما كان ذلك بسبب أعمالهم، إذاً: هذا العمل متعلق بالإيمان.
[قال أيوب: أمؤمنون أم كفار؟] أي: هل هذه الآية أنزلت في المؤمنين أم في الكفار؟ [فسكت الرجل.
فقال له أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي].
أي: أنه يخاف أن يكون من أهلها، لكن ليس صحيحاً أن يعتقد أنه من أهل النفاق.
يأتي أخ يقول لك: والله العظيم أنا منافق، طيب هذا النفاق هل هو أكبر أم أصغر؟ يقول لك: أكبر.
إذاً: لماذا لا تتوب إلى الله عز وجل؟ يقول لك: أنا يئست! أقول: فماذا ستعمل؟ يقول: أنا من أهل النار فلن أعمل إذاً! فهو يوطن نفسه على أن يترك طاعة الله عز وجل ثم يقع في معاصيه، وهذا على أية حال خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة.
قال: [وقال ابن أبي مليكة: قد أتى علي برهة من الدهر وما أراني أدركت رجلاً يقول: أنا مؤمن].
أي: أن ابن أبي مليكة قد أدرك عدة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يجد أحداً منهم يقول: أنا مؤمن، وإنما رجل يخاف على نفسه من النفاق.
قال: [وما أراني أدركت رجلاً يقول: أنا مؤمن، فما رضي بذلك حتى قال: إيماني مثل إيمان جبريل].
وهذا يخوف المرجئة، إذ يقول: حينما لقيت الصحابة كلهم لم أجد فيهم أحداً قال: أنا مؤمن، وإنما كان كلهم خائف على نفسه من النفاق، وأنت غارق في المعاصي وتقول: أنا مؤمن وتتبجح بذلك، كما تترك الأوامر وتقع في النواهي وتزعم أنك مؤمن! هذا شيء عجيب جداً، وليس عليه مذهب السنة.
قال: [وما كان محمد صلى الله عليه وسلم يتفوه بذلك، وما زال الشيطان يتقلب بهم حتى قال: مؤمن وإن نكح أمه وأخته وابنته!] أي: أن نكاح الأم والبنت والأخت عندهم معاص، وعندهم أن صاح(34/14)
كلام علماء أهل السنة في الخوف والرجاء(34/15)
كلام الطحاوي في الأمن والإياس
قال الإمام الطحاوي في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام.
والأمن مصدره الرجاء فقط، والإياس مصدره الخوف فقط، والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، واعلم أن هذا ليس كفراً أصغر، بل هو كفر أكبر.
يعني: لو أن المرء أمن مكر الله عز وجل لابد أنه يوقن أنه من أهل الجنة وإن ترك العمل، كما أن المرء لو خاف الله عز وجل بغير رجاء في رحمته وطمع في ثوابه وجنته، فلا شك أن سييأس ويقنط من رحمة الله عز وجل.
قال: وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة.
أي: وسبيل الحق بين الخوف والرجاء، فلا الرجاء فقط مذهب أهل السنة، ولا الخوف فقط مذهب أهل السنة، وإنما مذهب أهل السنة الجمع بين الخوف والرجاء.(34/16)
كلام ابن أبي العز الحنفي في الخوف والرجاء
قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية: يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً -وهذا أمر واجب ليس مندوباً ولا مستحباً- فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله.
فهذا هو الخوف الحقيقي، وليس الخوف أنك تخاف ثم تترك الصلاة، إنما الخوف الحق هو الذي يحملك على طاعة الله عز وجل.
قال: فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط.
أي: الخوف الحقيقي هو الذي يحول بينك وبين معاصي الله عز وجل، فمثلاً: لو أن امرأة اعترضتك ذات منصب وجمال، فقلت: إني أخاف الله، فهل هذا هو الخوف الحقيقي أم أنه كذب؟ هذا هو الخوف الحقيقي.
وخوف يوسف عليه السلام لما اعترضته امرأة العزيز كان خوفاً حقيقياً.
قال: والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله.
أي: أنه عمل أولاً بطاعة الله، ولم يقل: والله أنا أملي في الله أن يغفر لي كبير جداً، فإذا سألته عن العمل يقول لك: والله أنا لا أصلي، وفي شهر رمضان أدخن في النهار! فإذا قيل له: يا فلان! اتق الله، يقول لك: أنت ليس لك علم بمقدار رحمة الله، يا سلام! وهل رحمة الله قالت لك: أن تترك الفرائض والأركان؟ قال: والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:218]، أي: أول شيء حققوه هو الإيمان، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، فهم لم يؤمنوا فقط، بل بعد أن آمنوا هاجروا وجاهدوا، والهجرة عمل، والجهاد عمل، إذاً هم ضموا إلى الإيمان العمل الذي هو مقتضى الإيمان، وأجازوا الإيمان، أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا والذنوب والمعاصي، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
إذاً الواحد لا يقول: أنا راج إلا بعد تقديم العمل أولاً.
قال أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه.
أي: أن الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا، كأن يكون جانب الرجاء مثلاً (70 %)، والخوف (70 %)، وإذا حقق جانب الرجاء على أعلى درجاته (100 %)، وحقق جانب الخوف (100 %)، فهذه منزلة الأنبياء والمرسلين، وقل أن يصل عبد من العباد إلى هذه المنزلة، لكن المرء يتعبد بالخوف والرجاء، فيغفل ويسهو عن عذاب الله أحياناً، وعن رحمة الله أحياناً، ولذلك أنتم تعلمون حديث حنظلة لما قال لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: نافق حنظلة، فقال له: وما ذاك؟ قال: نكون بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام كأننا نرى الجنة والنار رأي العين، فإذا رجعنا إلى دورنا وعافسنا الأزواج والضيعات، نسينا ذلك.
فظن أن غفلته عن ذكر الجنة والنار في انشغاله المباح بأعراض الدنيا شعبة من شعب النفاق، فقال أبو بكر: وأنا مثل ذلك.
وتعال بنا نذهب إلى المعلم الكبير النبي عليه الصلاة والسلام لنقص عليه هذه القصة، فلما ذهبا إليه وأخبراه بما كان من الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام: (لو دمتم على ذلك لصافحتكم الملائكة)، وهذا شيء جميل جداً، لكن هل غفل النبي عليه الصلاة والسلام عن الجنة والنار للحظة واحدة؟
الجواب
لا.
ولذلك كان كثيراً ما يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)، فمصدر الضحك رحمة الله عز وجل، ومصدر البكاء عذاب الله عز وجل، وهذا تأصيل علمي لقاعدة استواء الرجاء والخوف، وأنهما يمثلان الجناحين للطائر أو السائر إلى ربه، ولا يصح من العبد أن يعبد الله بجناح واحد، وهو جناح الرجاء، أو بجناح الخوف.
قال: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.
أي: إذا ذهب الخوف والرجاء من قلب العبد فإنه هو والموت سواء.
قال: وقد مدح الله عز وجل أهل الخوف والرجاء فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه.
لأن الواحد إذا أراد أن يهرب من ظالم يذهب إلى رئيسه، ثم إلى الرئيس الأعلى، ثم الأعلى، ثم الأعلى، حتى إذا انتهت أسباب اللجوء إلى من يمكن أن يدافع عن حقه لا بد أن يلجأ المرء إلى الذي لا يخاف وهو سبحانه وتعالى، فكل إنسان يهرب من الظالم(34/17)
كلام ابن القيم في الرجاء
وقال صاحب المنازل وعقب عليه كذلك ابن القيم عليه رحمة الله: الرجاء أضعف منازل المريد.
وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد.
أي: السائر إلى الله عز وجل.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
وعند مسلم من حديث جابر قال: سمعته عليه الصلاة والسلام يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه).
ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، لأنه مودع، ولأن العبد في المرض لا يرجى منه العمل، إذ إن عمله في هذه الحال قليل جداً، ولذلك ينبغي أن يزداد رجاءً.
والعلماء يقولون: في حال الصحة ينبغي أن يزيد جانب الخوف على جانب الرجاء زيادة طفيفة تحمله على العمل، أما إذا كان مريضاً فيستحب أن يزيد رجاؤه على خوفه؛ لأن العمل منه غير مرجو والحالة هذه، وأنه قادم على الله عز وجل، فينبغي أن يحسن الظن بربه.
وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق.
أي: يقول لك أنا لا أصلي ولا أصوم ولا أزكي ولا أحج، ولكن قلبي مفعم بالإيمان! وأنت إذا كنت تصلي فأنا أحب الله أكثر منك، ما هذا الحب؟! الحب الحقيقي هو الذي يحملنا على العمل، وأنت لو أحببت عبداً عملت كل ما يمكن القيام به مما يحبه المحبوب، والله عز وجل فوق كل محبوب، فيجب أن يتقرب إليه من أحبه بكل ما يحبه سبحانه وتعالى.
والله تعالى إنما أخبرنا بما يحب في كتابه وفي سنة نبيه، كما أخبرنا بما يكره في كتابه وفي سنة نبيه، فمراد الله تعالى من العباد محدود، أي: مراد العباد من العباد لا حدود له، أما مراد الله تعالى منا فمحدود بالأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة، فإذا فعلت الأمر واجتنبت النهي فقد حققت المراد لله عز وجل، وأتيت بالعبادة على أكلمها وأتمها.(34/18)
كلام الإمام الهروي في الخوف والرجاء
ويقول كذلك الإمام الهروي في كتابه منازل السائرين: إن القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل طائر وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف، وهذه طريقة أبي سليمان وغيره.
قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد.
وقال أيضاً: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف.
أي: أكمل أحوال العبد أن يكون الخوف والرجاء عنده معتدلين؛ لأن تغليب جانب الرجاء يؤدي إلى التفريط في حق الله، وتغليب جانب الخوف يؤدي إلى اليأس من رحمة الله عز وجل.
قال: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف، وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه سبحانه وتعالى.
وهناك كلام كثير جداً في الخوف والرجاء بإمكانك أن تطلع في أي كتاب من كتب الاعتقاد المشروحة أو غير المشروحة، والنصوص كثيرة في هذا الباب، وإنما أردنا التنبيه على أصل أصيل من أصول أهل السنة والجماعة، وهذا هو منهج أهل السنة، أن الإيمان فلا يصلح أن يكون خوفاً فقط، كما لا يصلح أن يكون رجاءً فقط، بل الإيمان خوف ورجاء، ولا بأس أن يزداد الخوف في حالة الصحة شيئاً يسيراً على الرجاء ليحمل المرء على العمل، ولا بأس أن يزداد الرجاء في حال المرض والقدوم على الله، حتى يلقى العبد ربه وهو حسن الظن به، لكن على أية حال أكمل أحوال السائر إلى الله عز وجل اعتدال جناحي الخوف والرجاء، خوف يؤدي به إلى العمل أو يحمله على مزيد العمل، ورجاء لا يقنطه من رحمة الله عز وجل.
إذاً: خوف لا يقنطه ولا يجعله يترك العمل، ويقول: علام العمل إذاً؟ إذا كان الله تعالى قد أعد ناراً فيها كيت وكيت من أنواع العذاب، إذاً فلم العمل؟! أنا من أهل النار، وداخل النار لا محالة! نقول: من الذي أخبرك بأنك من أهل النار ابتداء؟ فربما تكون من أهل الجنة، ثم من الذي أخبرك بأنك من أهل الجنة؟ فربما تكون من أهل النار، فإذا اختار المرء بين المنزلتين عمل لأفضلهما وأشرفهما، وهي جنة عرضها السماوات والأرض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(34/19)
الأسئلة(34/20)
خلاف أهل العلم في خلود الثنتين والسبعين فرقة في النار
السؤال
هل الاثنتان والسبعون فرقة في النار مخلدون فيها؟
الجواب
هذا محل نزاع عظيم بين أهل العلم، مع أن هناك فرقاً كاملة في نار جهنم خالدة فيها، وهؤلاء الذين خالفوا الأصول والفروع لأهل السنة والجماعة، أما بقية الفرق التي شاركت أهل السنة في كثير من المسائل فإن المنظرين لهؤلاء أو أصول هذه الفرق بلا شك من أهل النار، ويغلب عليهم الكفر، أو هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، بخلاف عامة الناس.(34/21)
حكم مقولة: (فلان رحمه الله)
السؤال
ما الحكم في قولنا: إن فلاناً رحمه الله، أو يرحمه الله؟
الجواب
هذا الكلام -يا أخي- من باب الدعاء وليس من باب القطع، فإذا قلت: فلان رحمه الله أو فلان يرحمه الله فليس هذا قطعاً بأنه قد أدركته رحمة الله عز وجل، وإنما هذا من باب الدعاء فقط، فقولك: فلان رحمه الله، أي: أرجو أن يرحمه الله عز وجل.(34/22)
حكم قراءة الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأول
السؤال
ما هو الراجح لديكم في التشهد الأول هل تقرأ فيه الصلاة الإبراهيمية؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام علم أصحابه التشهد أولاً إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فلما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، (قالوا: يا رسول الله! هذا السلام عليك فما بال الصلاة عليك؟ أي: كيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إلى آخر الدعاء، وقال: واجعلوها في صلاتكم).
فذهب الجمهور إلى أن التشهد يقرأ إلى حده الأول في التشهد الأول، وإلى قوله: إنك حميد مجيد في التشهد الثاني في الصلاة الرباعية.
وذهب الظاهرية والشافعية: إلى وجوب قراءة التشهد كاملاً إلى قولك: إنك حميد مجيد في التشهد الأول، أي: في الصلاة التي فيها تشهدان.
وفي الحقيقة هذا هو المذهب الراجح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام علم أصحابه أن يسموا الصلاة الإبراهيمية تشهداً، فمن قال: إنما ذلك في التشهد الثاني، فنقول له: ائتنا بالدليل الذي يفرق بين التشهدين، فإنهم كانوا يقرءون أولاً التشهد الأول فقط دون الصلاة الإبراهيمية قبل أن يعلمها إياهم في التشهدين الأول والثاني.
فينبغي أن يلحق الصلاة الإبراهيمية بالتشهد الأول والثاني كذلك، ومن فرق بين الاثنين فليأتنا بالدليل.(34/23)
حكم زواج الرجل من زوجة أخيه بعد طلاقها
السؤال
هل يجوز زواج الرجل من زوجة أخيه بعد طلاقها من أخيه، سواء كان لها أبناء من أخيه أم لا؟
الجواب
نعم يجوز، وذلك إذا انقضت عدتها من زوجها الأول.(34/24)
بيان معنى حديث: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، وحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
السؤال
ما معنى هذين الحديثين: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، ثم يسأل عن حديث: (لا ضرر ولا ضرار)؟
الجواب
الحديثان صحيحان ابتداءً، ومعنى (اللحد لنا): اللحد هو شق الأرض شقاً رأسياً ثم حفره أفقياً، وأن يكون الدفن باتجاه القبلة على الجانب الأيمن، ويهال التراب في هذا الشق، ويبقى هذا اللحد بجانبه الذي حفر باتجاه القبلة, ووضع الميت على جنبه الأيمن باتجاه القبلة.
أما الشق الذي هو لغير المسلمين فإنما هو شق الأرض شقاً رأسياً دون اللحد الأفقي الذي هو إلى جهة القبلة، فالميت يرمى فيه إلقاءً ويهال عليه التراب.
أما معنى (لا ضرر ولا ضرار)، أي: يحرم الضرر والضرار في الإسلام، فالضرر الذي يوقعه الإنسان على نفسه حرام؛ لأنه ليس ملكاً لنفسه، كما أنه يحرم عليه أن يلحق الضرر بالغير، وهو الضرار، فلا ضرر يوقعه الإنسان على نفسه، كما أنه يحرم عليه أن يوقع الضرر على غيره.
وإذا أردت مزيد بيان وتفصيل فعليك بكتاب جامع العلوم والحكم.(34/25)
حكم لعن المعين وإن كان كافراً
السؤال
هل يجوز لعن المعين وإن كان كافراً؟
الجواب
لا يجوز لعن المعين حتى وإن كان كافراً، وقد ذكر الإمام النووي اختلاف أهل العلم في المسألة وقال: لا يدعى عليه إلا إذا مات على الكفر، أي: لا نلعنه إلا إذا مات على الكفر.
وعلى أية حال أليس اللعن هو الطرد من رحمة الله، أو الحكم بالطرد من رحمة الله؟ تصور لو أن شارون دخل علينا في هذا الوقت المسجد وقال: أنا أريد أن أسلم، فماذا نعمل؟ أما نفرح جميعاً بهذا؟ إذ إنها ضربة قاصمة للكفر وأهله، وأعظم منها قصماً أن يدخل علينا مثلاً بابا الفاتيكان ويقول: يا إخواني! أنا أريد أن أسلم، فماذا نعمل؟ أما نفرح بذلك جميعاً؟ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح إذا دخل في الإسلام صنديد من صناديد الكفر، وهو الذي أرسل رسالة إلى هرقل ملك الروم وقال له: (أسلم تسلم)؛ لكن لماذا لم يوجه الرسالة إلى أي جندي من الجنود؟ لأن هذا كبيرهم، ولو أسلم لأسلم من وراءه، والنبي لم يلعنه ولم يسبه، وإنما قال له كما في البخاري: (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)، أجرك أنت وأجر الأريسيين، أي: الفلاحين الذين يمشون خلفه، والرهبان الذين يمشون معه، والجند الذين حوله، فأنت لو أسلمت أسلم الكل، وكاد أن يسلم إلى أن جمع البطارقة وقوات الجيش، ووضعهم في بيت في الشام وقال لهم: إن محمداً قد بعث إلي برسالة وقال فيها: كيت وكيت، فما رأيكم في هذا الرجل؟ أنا أرى أنه صادق.
ولذلك العلماء اختلفوا: هل أسلم هرقل أم لم يسلم؟ لأن كلامه هذا يدل على أنه أسلم، لكن هناك كلاماً آخر ناقضاً لهذا الإسلام وهذا الإيمان.
وانظر إلى المكر والخداع، وكيف أن هذه السلطة بلاء ومحنة؟! فقال لهم: ما هو رأيكم في الذي يقوله محمد؟ أما أنا فأرى أن الرجل صادق، وقال لهم: على أية حال هو يضرنا! فلما رأى البطارقة أن هرقل يميل إلى جهة محمد قاموا عليه، قال لهم: كفى كفى، إنما أنا أردت أن أختبركم، يريد أن يخرج من المأزق، أنا أريد أن أختبركم، وهو في الحقيقة لو أنهم شجعوه على الإسلام لأسلم، لكن لما قاموا عليه قومة رجل واحد قال: لا.
فأنا في الحقيقة أريد أن أتأكد من موقفكم، وبقي على الكفر حتى مات عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(34/26)
شرح كتاب الإبانة - بيان أن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح ولا يكون العبد مؤمنًا إلا بهذه الثلاث
مذهب عامة السلف الصالح أن الإيمان قول وعمل، فهو إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ولا يكون العبد مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث، والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، وكلها تدل على أن العمل من الإيمان، وأنه لا بد فيه من الإخلاص، وبذلك يتبين المؤمن من المنافق والكافر.(35/1)
بيان أن الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والأركان، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بهذه الثلاث
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
هذا بداية الكلام عن الإيمان، والكلام في الإيمان ومسائله كلام خطير وشائك، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، ومنهج أهل السنة والجماعة في بيان مسائل الإيمان، والفرق بينها وبين مسائل الكفر أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن يعمى على بعض الدعاة وطلاب العلم -ومن ينتسبون إليه بل هم من أهله حقيقة- بعض هذه المسائل، وإن شئت فقل: أصول الإيمان أحياناً مما أوقع شباب الصحوة في حيرة شديدة جداً.
فالإمام ابن بطة -كغيره من أئمة السلف- عقد أبواباً متعددة في بيان ماهية الإيمان، وبيان مسائله، وأعظم مسألة فيه: هل العمل من الإيمان أو ليس من الإيمان؟ وهل هو شرط فيه؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل هو شرط كمال أو شرط صحة؟ وإذا كان شرط كمال فهل الكمال هنا المقصود به الكمال الواجب، أم الكمال المستحب؟ وإذا كان الإيمان شرط صحة، فهل يكفر من ترك هذا العمل؟ هذه بعض مسائل الإيمان، وهي أخطر المسائل التي تثار إذا ذكرنا مسائل الإيمان والكفر.
والإمام قد عقد باباً عظيماً جداً في كتاب الإبانة فقال: [باب بيان الإيمان وفضله، وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمناً إلا بهذه الثلاث]، فقد بوب الإمام بهذا التبويب؛ ليثبت بداءة أن الإيمان قول وعمل، هو قول القلب واللسان، فاللسان ينطق بالشهادتين، والقلب يحب هذه الكلمة ويرضاها ويصدق بها ويذعن لها وينقاد، فهذا قول القلب.
فالإيمان قول، أي: قول باللسان والقلب.
وعمل، أي: عمل القلب والجوارح.
ومنهم من زاد فقال: الإيمان قول وعمل ونية، أي: وإخلاص لله عز وجل، ولا تعارض بين هذا التعريف وبين التعريف السابق: أن الإيمان قول وعمل، والمقصود بكونه قولاً وعملاً، أي: وإخلاصاً؛ لأن القول إذا لم يكن صاحبه مخلصاً لله عز وجل، وكذا العمل؛ فإنه لا يقبل منه، بل يرد عليه، ولكن زيادة (ونية) للدلالة على أن الإخلاص أمر لازم في الإيمان، وأن العبد لا يقبل منه العمل ولا القول إلا إذا كان مخلصاً لله عز وجل.
فقال: (باب بيان الإيمان وفضله)، أي: وفضائل الإيمان، ثم قال: (وأنه تصديق بالقلب) هذه واحدة، (وإقرار باللسان) هذه الثانية، (وعمل بالجوارح والحركات)، أي: الأبدان، وهذه هي الثالثة.
ثم قال: (ولا يكون العبد مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث).
أما قوله: (لا يكون العبد مؤمناً)، فهل يستلزم نفي الإيمان عنه بالكلية، أو أنه أراد بذلك نفي الكمال؟ على تفصيل سيرد معنا بإذن الله تعالى.
قال المحشي: ما ذهب إليه المصنف -وهو ابن بطة - من أن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان هو مذهب عامة السلف في الحقيقة، فلم يقل: هو إجماع السلف؛ لأن الأحناف خالفوا في هذا، فكان محقاً أن قال: وهذا التعريف والتبويب أطبق عليه عامة السلف، وخالف بعضهم، وليس في خلافه لعامة السلف حجة، بل كل من خالف السلف في أصل الإيمان ومسائله فقوله مردود عليه.
قال: وهو من شعائر أهل السنة، بل وقع الإجماع عليه، أي: وقع الإجماع على أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال: بل وقع الإجماع عليه، وحكاه غير واحد، كما في كتاب الأم للإمام الشافعي، قال: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركنا يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، ولا تجزئ واحدة من الثلاث إلا بالأخرى.
فلو قال قائل: قول وعمل، أي: بغير نية؛ فقوله مردود عليه، ولو قال: قول ونية بغير عمل؛ فمردود عليه، ولو قال: عمل ونية بغير قول؛ فقوله مردود عليه، وهذا معنى قوله: لا يكون مؤمناً إلا إذا حقق هذه الثلاث.
وفي كتاب الإيمان لـ ابن تيمية نقلاً عن الإمام البخاري أنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والمعلوم أن الإيمان لو قبل الزيادة فلا بد أن يقبل النقصان، بل هو قبل أن يكون زائداً كان ناقصاً.
وكذلك الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة قال بعنوان: سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإيمان تلفظ باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.
وقد جمع الثلاث، وأثبت أن العمل من الإيمان، ثم أورد عشرات الأدلة على ذلك من الآيات والأحاديث، وذكر ابن جرير في عقيدته بسنده إلى الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز رحمهم الله ينكرون قول من يقول: إن الإيمان إقرار بلا عمل، ويقولون: ل(35/2)
الدليل على أن الإيمان إقرار بالقلب
قال: [فأما فرض المعرفة على القلب فما قاله الله عز وجل في سورة المائدة].
أي: دليل أن الله تعالى فرض على القلب وظيفة معينة متعلقة بالإيمان، قول الله تعالى: [{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]].
فإيمان القلب هو التصديق والإذعان، وكفر القلب عدم التصديق وعدم الإذعان، فالله عز وجل يسلي رسوله عن كلام هؤلاء المنافقين الذين شهدوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم: [((قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ))]، وهذا يدل على أن الإيمان طهارة في القلب، [{لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]].
[وقال الله تعالى في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]]، فهذا يدل على أن القلب له علاقة وثيقة جداً بالإيمان، وهو أنه مقر ومذعن ومصدق بكلام الله عز وجل.
[وقال الله عز وجل: ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ))]، والفؤاد: أصل القلب.
قال: [{كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، أي: عن الإيمان وعن العلم.
فالقلب يسأل عما فرض الله عز وجل عليه من الإيمان، آمنت؟ صدقت؟ أذعنت أم لا؟ قال: [فهذا بيان ما لزم القلوب من فرض الإيمان، لا يرده ولا يخالفه ولا يجحده إلا ضال مضل].(35/3)
الدليل على أن الإيمان إقرار باللسان
قال: [وأما بيان ما فرض على اللسان من الإيمان]، أي: من النطق والكلام، [فهو ما قاله الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]]، فعل أمر يدل على الوجوب.
و ((قُولُوا))، أي: بألسنتكم.
[{آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:136 - 137].
وقال الله تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [آل عمران:84]].
(قُلْ آمَنَّا)، والقول هو قول اللسان.
[وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا)]، لم يقل: حتى يصدقوا أو يذعنوا، وإنما قال: (حتى يقولوا)، وهذا القول يستلزم الاعتقاد، والاعتقاد يستلزم التصديق والإذعان والذل والامتثال لله عز وجل، فقال هنا: [(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله)].
[وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)] أي: وأني رسول الله؛ لأن هذا من اللازم.
قال: [(فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)]، أي: إذا نطقوا بشهادة التوحيد؛ كانت هي العاصمة لهم من إراقة دمائهم وسلب أموالهم وذراريهم.
قال: [(إلا بحقها)]، أي: إلا إذا أتى واحد منهم بعد أن نطق بهذه الكلمة بما يستوجب قتله، كأن يكون زانياً محصناً، أو تاركاً لدينه مخالفاً للجماعة، أو قاتلاً لنفس بغير حق، أو غير ذلك مما يستوجب قتله.
قال: [(وحسابهم على الله عز وجل)]، أوكل سرائرهم إلى الله، والتقدير: إذا قالوها نفاقاً يتعوذون بها من القتل فحسابهم على الله عز وجل؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم المنافقين في زمانه بأسمائهم وأعيانهم وذواتهم، ولم يقتلهم وهم أكفر الخلق؛ حتى لا يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه.
أما حسابهم فقد أنزل الله عز وجل الوعيد الشديد والتهديد الأكيد في كفر هؤلاء، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وهذا جزاؤهم في الآخرة.
أما في الدنيا فهم مسلمون في الظاهر، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولا سبيل لأحد عليهم حتى وإن عرف نفاقهم، ما لم يتحيزوا ويتميزوا وتعظم فتنتهم ويطر شررهم وشرهم، ويحاربوا الإسلام؛ فحينئذ يجب على الإمام أن يحاربهم.(35/4)
الدليل على أن الإيمان عمل بالجوارح
قال: [وأما الإيمان بما فرضه الله عز وجل من العمل على الجوارح؛ تصديقاً بما أيقن به القلب ونطق به اللسان، وذلك في كتاب الله تعالى كثير جداً، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]]، فرتب الله تعالى الفلاح على العمل، ولكنه خاطب المؤمنين أولاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ما المطلوب منا؟ {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج:77]، أربعة أوامر تدل على أن الإيمان عمل بالجوارح.
فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:77]، نداء لأهل الإيمان بما كلفهم الله عز وجل به، وبما لا يصح إيمانهم إلا به، ما هو ذاك؟ قال: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، فرتب الفلاح المتعلق بالإيمان على العمل، وضرب لذلك أمثلة بالركوع والسجود وسائر العبادة، مع أن الركوع والسجود من العبادة، فبعد أن ذكر الخاص ذكر العام، مع أن الخاص أحد أفراده.
ثم قال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج:77]، أي: وافعلوا الخير بنية العبادة والطاعة، وهو كذلك ذكر للخاص بعد ذكر العام؛ ليدل على أهميته.
[وقال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]]، وهذا في أكثر من سبعين موطناً في كتاب الله عز وجل يأمر الله تعالى بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
في مواضع كثيرة من القرآن أمر الله تعالى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان والجهاد في سبيله، وإنفاق الأموال وبذل الأنفس في ذلك، والحج بحركة الأبدان ونفقة الأموال؛ فهذا كله من الإيمان، والعمل به فرض لا يكون المؤمن مؤمناً إلا بتأديته.(35/5)
الأحكام المترتبة على أن الإيمان قول وعمل
وكل من تكلم بالإيمان وأظهر الإقرار بالتوحيد، وأقر أنه مؤمن بجميع الفرائض غير أنه لا يضره تركها، ولا يكون خارجاً من إيمانه إذا هو ترك العمل بها في وقتها، مثل الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت مع الاستطاعة، وترك الغسل من الجنابة، ويرى أن صلاة النهار إن صلاها في الليل أجزأه ذلك، وصلاة الليل إن صلاها في النهار أجزأه ذلك، وأنه إن صام في شوال أجزأه ذلك، وإن حج في المحرم أو صفر أجزأه ذلك، وأنه متى اغتسل من الجنابة لم يضره تأخيره، ويزعم أنه مع هذا مؤمن مستكمل الإيمان عند الله عز وجل على مثل إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين؛ فهذا مكذب بالقرآن، مخالف لله ولكتابه ولرسله ولشريعة الإسلام، ليس بينه وبين المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في كتابه فرق، قد نُزع الإيمان من قلوبهم، بل لم يدخل الإيمان في قلوبهم أصلاً، كما قال الله تعالى فيهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
[فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه، أو أكدها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته -على سبيل الجحود لها والتكذيب بها- فهو كافر بيِّن الكفر، لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر].
هذا كلام جميل، من فرض الله عز وجل عليه شيئاً فجحده جاحد؛ إلا كفر بهذا الجحود إلا كفر بجحده لما فرض الله عز وجل، بل من أحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله عالماً بأدلة الحرمة والحل، وبعد قيام الحجة عليه، وهذا فيما يتعلق بهذه الثوابت الإيمانية لمن كان مؤمناً في ديار الإيمان والإسلام، بل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، ومن أنكر شيئاً ثابتاً في دين الإسلام؛ فإنه يكفر بذلك وإن لم تقم عليه الحجة، ما دام أنه في دار الإسلام، كما لو قال أحد: أنا لا أعرف ما هذه الصلاة التي يصليها الناس؟ وهو في هذه البلاد -مثلاً- التي ينتشر فيها العلم، ويكثر فيها قال الله وقال رسوله، هذا الإنسان لا بد أنه يكفر بالله، وكمن أدرك شهر رمضان وقال: أنا لا أصوم رمضان، ولا أعرف هذا الصوم الذي يصومه الناس، أو يقول: أنتم تصومون في رمضان بالنهار، وأنا سأخالفكم وأصوم بالليل، فأنا أصوم من أول غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهل هذا يقال له: إن الله تعالى فرض علينا الصيام في نهار رمضان، وهو في بلاد المسلمين؟ لا يقال له، بل هو بهذه المعاندة وهذا الجحود لأصل مواقيت هذا الفرض يكفر ويخرج من الإسلام، وأنا أقول هذا في ثوابت الإسلام ومبادئه ومؤكداته التي علمها الأطفال قبل الكبار، أما المسائل التي تحتاج إلى نوع اجتهاد؛ فإن المرء لا يكفر إلا إذا أقيمت عليه فيها الحجة، ومن أقر بذلك وقاله بلسانه ثم تركه تهاوناً فإنه يكفر بالإجماع، أما من أقر بذلك وقاله بلسانه، ثم تركه تهاوناً أو معتقداً لرأي المرجئة ومتبعاً لمذاهبهم؛ فهو تارك الإيمان، ليس في قلبه منه قليل ولا كثير، وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم، وأنهم في الدرك الأسفل من النار، نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة.
[سئل حذيفة رضي الله عنه: من المنافق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به.
وعن حذيفة قال: المنافقون فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: يا أبا عبد الله! وكيف ذاك؟ قال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء أعلنوه]، يعني: كان عندهم شيء من الحياء رغم نفاقهم، لكن النفاق في هذا الزمان لا يستحي أهله ولا أصحابه.
الدكتورة منى أبو سنة هذه -أم ناب أزرق- عدوة للإسلام، عقدت مؤتمراً بالأمس من بعد صلاة العصر واستمر إلى ما بعد العشاء في بيت محمد مشهور بالزمالك، واستدعت فيه إمام الضلال الكبير الدكتور أحمد عبد المعطي حجازي، هذا الرجل الذي زعزع ثوابت الإسلام من قلوب الحاضرين، وجلُّ من حضر لديهم كانوا من حزب العمل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد وجهت دعوات سرية جداً للحاضرين، مكتوب على كل مظروف: (دعوة سرية جداً لمؤتمر هام جداً) ويسمونه المنتدى الفلسفي، والهدف منه هو زعزعة الإيمان في قلوب المسلمين، فكما كان النبي صلى الله عليه وسلم له هدف، وتبعه على ذلك الصحابة وأتباع الصحابة، وغيرهم إلى قيام الساعة؛ فكذلك عبد الله بن أبي ابن سلول كان رأس النفاق في زمان النبوة، فهؤلاء هم أتباع عبد الله بن أبي ابن سلول.
أما الذي قيل وأثير في هذا المؤتمر فله وضع خاص، وهو مطبوع في شريط، والشريط موجود معي الآن، فـ أحمد عبد المعطي حجازي هذا ترجمته سوداء كلحاء، لا خير فيه أبداً.(35/6)
فرض الإيمان على جوارح ابن آدم
قال ابن بطة رحمه الله: [وفرض الإيمان على جوارح ابن آدم].
كيف فرض الله الإيمان على الجوارح؟ بالعمل.
قال: [وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها، فمنها قلبه الذي يعقل به ويتقي به ويفهم به، وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، فهذا فرض الله تعالى الإيمان في القلب.
ومنها: اللسان الذي ينطق به، ومنها عيناه التي ينظر بهما، ومنها سمعه الذي يسمع به، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يخطو بهما، وفرجه الذي يصدق هذا كله أو يكذبه، فليس من هذه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها بفرض من الله تعالى ينطق به الكتاب وتشهد به السنة].
ففرض الله عز وجل على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين؛ وهكذا.
ثم يقول: [وأما ما فرض على القلب فالإقرار]، أي: إيمان القلب يتعلق بالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق، والعقل عن الله والفهم والرضا والتسليم، وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى من رسول أو كتاب؛ كل هذا عمل القلب.
[فأما ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرنا أدلته ونعيدها الآن: كقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].
وقال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41].
فذلك ما فرضه الله عز وجل على القلب من الإقرار والمعرفة والتصديق، فهو رأس الإيمان، بل هو عمل القلب.
وأما ما فرضه الله عز وجل على اللسان فهو القول والتعبير عما كمن واستقر في القلب، كما قال الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة:136]]، إذا كان الإيمان محله القلب من جهة التصديق والإقرار والإذعان؛ فإن الإيمان لا بد أن يعبر عما في مكنون القلب بالتلفظ، لما كان قادراً على التلفظ.
[{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [البقرة:136].
وقال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].
وأما ما فرض على السمع: فهو أن يتنزه السمع عن الاستماع إلى الخنا والزنا، وإلى ما حرم الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140]]، فأنت مطالب ألا تسمع شركاً، وألا تسمع معصية، وهذا هو الإيمان؛ ولذلك تصور أن رجلاً يغتاب وآخر يشجعه على الغيبة، أليس هذا قادحاً في إيمانهما، منقصاً للكمال الواجب عندهما؟
الجواب
نعم، بخلاف ما لو قال رجل لجليسه: إن لم تكف عن الغيبة تركتك وانصرفت، فهذا قد نهى عن المنكر وأمر بالمعروف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعب الإيمان.
فلا شك أن المرء كلما عمل عملاً بجارحة من جوارحه يزدد به إيمانه، وكلما قصر في عمل بجوارحه كان من الواجب عليه أن يأتي به نقص إيمانه.
وقال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، أي: فيستجيبون لأحسن الأقوال.
[وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، أي: عن اللهو والزور من القول.
[وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]]، أي: مروراً سريعاً لا يقفون عنده.
فهذا ما فرض الله على السمع: التنزه عن الاستماع إلى ما لا يحل له، وهو عمل السمع، وذلك من الإيمان.
وكذلك فرض الله على البصر ألا ينظر إلى محارم الله عز وجل وإلى حرماته، وأوجب عليه أن يغض بصره عما لا يحل مما نهى الله تعالى عنه، كما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، فإن لم يفعلوا نقص إيمانهم، هذا هو التقدير.
فنظرك إلى امرأة تسير في الطرقات أو في الشوارع لا شك أن له تأثيراً مباشراً على القلب، وكلنا نشعر بذلك، إذا علق الإنسان نظره على مفاتن امرأة جميلة؛ فإنه يهواها ويشتهيها، وكذلك المرأة تشتهي الرجل وتهواه، فلو أن كل امرأة وكل رجل علم أن هذا مما حرم ال(35/7)
تبيين الله لعباده وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن الإيمان قول وعمل
قال: [فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه: أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبيَّن ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرحه في سنته، وعلمه أمته، وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل، وأن العمل من الإيمان ما قال في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177]]، وهذا عمل، فقوله: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ))، حتى قال: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ))، يعني: تصدق به رغم محبته إياه.
قال: [{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]].
فهذه الآية انتظمت أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص، وهي أصول الإيمان وشرائطه.
ولقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؛ فتلا عليه هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال رجل لـ أبي ذر يسأله نفس المسألة التي سألها أبو ذر للنبي عليه الصلاة والسلام، فأجاب أبو ذر بنفس الإجابة فقال له: (ليس عن البر سألت)، أنا لست أسألك عن البر، فقال أبو ذر: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله كما سألتني، فقرأ عليه كما قرأت عليك، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال: ادن مني، فدنا منه، فقال: المؤمن الذي يعمل حسنته فتسره؛ فيرجو بها -أي: وجه الله- ومن عمل سيئة فتسوءه ويخاف عاقبتها)، أي: أن المؤمن هو من سرته حسنته وساءته سيئته؛ لأنه يلقى جزاءها عند الله عز وجل يوم القيامة.
وأنتم تذكرون قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه لما تخلف عن غزوة تبوك، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأغلقت الدنيا تماماً في وجهه؛ وذلك لأن سيئته ساءته، فهذا دليل عظيم على الإيمان، والصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم الشيطان في ذات الله عز وجل قالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا لتحدثه نفسه بالشيء، لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك صريح الإيمان)، على أنهم ساءتهم هذه الوساوس، فهذا دليل على إيمانهم.
أما الذي يأتي المعاصي، وينكر المعروف، ويعرف المنكر، ويستهزئ ويستهتر، ولا يتعامل مع الله ولا مع رسوله ولا كتابه وسنته وشرعه إلا بكل استهزاء وسخرية، فكيف يكون هذا في قلبه ذرة من إيمان؟ ليس هناك فرق، فهذا مسلم وذاك كافر أبداً.
قال الشيخ: [وقد أنبأنا الله عز وجل في كتابه عن معرفة الإيمان بدلالات القرآن أنه قول وعمل وتصديق ويقين].
وهذا تعريف راجع لمعنى الإيمان، أو لماهية الإيمان، ومرد ذلك كله: إلى أن الإيمان قول وعمل: قول اللسان والقلب، وعمل بالقلب والجوارح، فقال هنا: دلت آيات القرآن على أن الإيمان قول وعمل وتصديق ويقين، وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة؛ لأن البلاء كله الذي يمكن أن يقع فيه المرء يدور بين أمرين: شبهة أو شك.
أما علاج الشبهة فهو العلم، ولا سبيل إلى علاج الشبهات إلا بالعلم، ولا مصدر صحيح للعلم إلا قال الله وقال رسوله كما قال ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه قال الله وقال رسوله وأجمع العلماء؛ هذه هي مصادر العلم، ولا مصدر رابع لهذه المصادر الثلاث، إلا أن يكون القياس صحيحاً، وإذا كان العلم هو علاج الشبهات، فإن علاج الشهوات تقوى الله.
فعندي الآن مرضان وعلاجان: المرض الأول: هو الشبهة، وعلاجها العلم، فبالعلم تنزاح الشبهات عن القلوب.
والمرض الثاني: هو الشهوة، وعلاجها تقوى الله عز وجل، واستحضار مراقبة المولى عز وجل، ومخافة الله عز وجل، وكل ما يمكن أن تجمعه كلمة تقوى الله هي علاج الشهوات، أما علاج الشبهات فهو طلب العلم المستمد من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.
قال: [وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة والريبة؛ لما فيه من البيان والبرهان والحق المبين]، ولكن الله عز وجل جعله شفاءً ورحمة للمؤمنين لا لغيرهم، الله عز وجل يهدي بهذا الكتاب أقواماً، ويض(35/8)
التصور العقلي للواقع إذا لم يكن العمل من الإيمان
إن الذين يقولون: العمل لا علاقة له بالإيمان، إذا كان هذا الكلام هو الحق، فهل يتصور غياب ذلك عن الصحابة؟
الجواب
لا يتصور، فإذا كان هذا هو الحق -وعياذاً بالله أن يكون حقاً، أو قريباً من الحق، بل هو عين الباطل- فلنا أن نتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام لما علَّم أصحابه الإيمان كما قال جرير بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر: كنا نتعلم الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن استزدنا به إيماناً، وكان الواحد منا يقرأ العشر الآيات فلا يتجاوزها حتى يتعلم ما فيها من إيمان وزواجر وأوامر ونواهٍ؛ فيزداد بذلك إيماناً.
لنا أن نتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب هؤلاء الأصحاب الذين يقولون إن العمل ليس من الإيمان: هيا بنا نجاهد المشركين يا إخواننا! قالوا: اذهب لوحدك، لن نأتي معك، فسيقول لهم: لماذا؟ أليس الجهاد هذا عملاً؟ فيقولون: نعم.
هو كذلك، والعمل ليس من الإيمان.
وإن قيل لهم: أنتم مأمورون بالصيام.
لا يقبلون، بل يقولون: لأن الصيام عمل، والعمل ليس من الإيمان.
كذلك نفعل الخير نأمر بالمعروف ننهى عن المنكر ندعو إلى الله؛ كل هذه أعمال، فلو أن الصحابة رضي الله عنهم امتنعوا عن هذا هل يكون ديناً؟
الجواب
لا، بل لك أن تختار شيئاً أعظم من ذلك، وهو: إذا كان العمل ليس من الدين هل هذا يخفى على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا يخفى عليه، وإذا لم يكن العمل من الإيمان فلم أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، بل لم أمر به اللطيف الخبير في كتابه؟ فلا بد أن نوقن أن العمل من الإيمان، وأن المفرط فيه ينظر إلى أصل العمل، فإذا قام النص على أنه من أصل الإيمان كفر بتركه، وإذا قام النص أو الإجماع في كل عمل على أنه من واجبات الإيمان؛ كان المفرط في هذا العمل قد فرط في الإيمان الواجب، وإذا كان العمل مستحباً بالكتاب والسنة؛ فمن فرط فيه فقد فرط في كمال الإيمان والكمال المستحب، والله تعالى أعلم.
ولذلك استحق الصحابة رضي الله عنهم اسم الرشاد بإكمال الدين، وذلك أنهم كانوا في فسحة وسعة، ليس يجب عليهم صلاة ولا زكاة ولا صيام، ولا كان حرم عليهم كثير مما هو محرم، وكان اسم الإيمان واقعاً عليهم؛ لأن التكاليف نزلت في المدينة، وهم استحقوا اسم الإيمان لما كانوا في مكة وقبل أن تنزل معظم التكاليف، لكن الله تبارك وتعالى امتدحهم بكمال إيمانهم، وتمام انصياعهم بإيمانهم الذي آمنوا به في مكة، ثم استقبلوا التكاليف الشرعية أحسن استقبال؛ وكان اسم الإيمان واقعاً عليهم بالتصديق ترفقاً بهم؛ لقرب عهدهم بالجاهلية وجفائها، فجعل الإقرار بالألسن والمعرفة بالقلوب هي الإيمان المفترض يومئذ؛ لأنه لم يكن هناك تكليف بعد، حتى إذا حلت مذاقة الإيمان على ألسنتهم، وحسنت زينته في أعينهم، وتمكنت محبته من قلوبهم، وأشرقت أنوار لبسته عليهم، وحسن استبصارهم فيه، وعظمت فيه رغبتهم؛ تواترت أوامره فيهم، أي: نزلت أوامر الله تعالى بالحلال والحرام والتكليف والأحكام.
قال: [وتوكدت فرائضه عليهم، واشتدت زواجره ونواهيه، فكلما أحدث لهم فريضة -عبادة- أو زاجرة عن معصية؛ ازدادوا إليه مسارعة وله طاعة، دعاهم باسم الإيمان، وزادهم فيه بصيرة، فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، فخاطبهم بالإيمان، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9].
وكل الخطاب في الفرائض موجه لأهل الإيمان، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38]، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
وقال في النهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:130]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90].
فعلى هذا كل مخاطبة كانت منه لهم سبحانه وتعالى فيما أمر ونهى، وأباح وحظر، وكان اسم الإيمان واقعاً بالإقرار الأول قبل هذا، إذا لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد -أي: بعد هذا- وجب عليهم التزام فرضها، والمسارعة إليها كوجوب الأول سواء بسواء]، الله عز وجل سماهم(35/9)
شرح كتاب الإبانة - الاستثناء في الإيمان
الاستثناء في الإيمان من المسائل العويصة التي حصل فيها الخلاف بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة، فأهل السنة يقولون بالاستثناء في الإيمان على خلاف بينهم، فإذا كان القصد من الاستثناء أصل الإيمان الذي يخالف فيه المؤمن الكافر فلا يجوز؛ لأن أصل الإيمان إذا زال لا يبقى إلا الكفر، أما إذا كان الاستثناء متعلقاً بحقيقة وكمال وتمام الإيمان المبني على العمل فإنه يجوز، فيكون الاستثناء في الأعمال إذ فيها يكون التقصير.(36/1)
الاستثناء في الإيمان بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد.
فموضوعنا عن جواز الاستثناء في الإيمان، ومعنى الاستثناء في الإيمان هل للرجل إذا سئل: أأنت مؤمن؟ أن يقول: نعم على القطع واليقين، أم يقول: نعم إن شاء الله؟ فتعليق الإيمان على المشيئة يعبر عنه أئمة السلف بالاستثناء في الإيمان.
الجهمية والمرجئة قالوا: لا يكون الاستثناء في الإيمان، فمنعوه منعاً باتاً.
وحجتهم في ذلك ترجع إلى أصل كلامهم في معنى الإيمان، فهم يقولون: الإيمان هو التصديق، ويعدون أنفسهم أنهم مصدقون، فلِمَ يعلقون هذا الأمر على المشيئة إذا صدقوا؟ وإذا سئلوا: أأنتم مؤمنون؟ يقولون: نعم، دون أن يعلقوا ذلك على المشيئة؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم مصدقون، إذاً ما فائدة التعليق أو ما قيمة الاستثناء حينئذ؟! والجهمية كذلك يمنعون الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو المعرفة، فإذا عرفوا الله تعالى فهم مؤمنون كاملو الإيمان، فإذا سئل الواحد منهم: أأنت مؤمن؟ يقول: نعم، ولا يقول: إن شاء الله.
فهذه أولاً حجة الإرجاء.
إذاً: الإيمان عندهم إما تصديق وإما معرفة، والتصديق والمعرفة إما أن يكون بالقلب أو بالقول فيقولون: نحن نوقن تمام اليقين بما وقر في قلوبنا، ونعرف ذلك من أنفسنا، وإذا كان بالقول فالقائل يعلم ذلك من نفسه.
ولذلك ينكرون تماماً أن يعلق المرء إيمانه على المشيئة، أو يستثني في إيمانه إذا سئل: أأنت مؤمن؟ الحجة الثانية لهم: أن تعليق الإيمان على المشيئة من باب الشك، فإذا قلت: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا يعني أنك شاك في إيمانك، والإيمان عندهم لا يتصور نقصانه، كما يقولون: نحن نعرف الله تعالى، وهذا قول الجهمية، إذ إن الإيمان عندهم هو المعرفة، والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، فإذا شك المرء في معرفته بالله، أو في تصديقه بالله، فلا يخرج المرء عندهم من التصديق إلا إلى الكفر، ومن المعرفة إلى الجهالة التامة بالله عز وجل، وهذا كفر، ولذلك يقولون: لا يجوز لمسلم أن يستثني في إيمانه أبداً، بل لا بد أن يجزم بأنه مؤمن.
أما أهل السنة والجماعة فيقولون بمشروعية الاستثناء في الإيمان، وأنتم تعلمون أن الأمر المشروع ينقسم إلى: واجب ومندوب، كما أن الأمر الممنوع ينقسم إلى: محرم ومكروه.
ولذلك أهل السنة والجماعة مجمعون على جواز ومشروعية الاستثناء في الإيمان، لكن منهم من أوجب الاستثناء، وبالتالي لا يحل لمسلم أو لمؤمن أن يقول: أنا مؤمن، بل يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فلا بد أن يعلق إيمانه على المشيئة أو أن يستثني في إيمانه بالمشيئة.
ومنهم من يقول: الاستثناء جائز وليس بواجب.
إذاً: مدار كلام أهل السنة والجماعة في الاستثناء على المشروعية، لكنهم اختلفوا في الاستثناء: هل هو واجب أو جائز؟ فبعض أهل السنة -كما ذكرنا- قالوا بوجوبه، ومنهم الإمام اللالكائي، وصرح بهذا الرأي هناك، بل بوب في كتابه أصول الاعتقاد: باب وجوب الاستثناء في الإيمان.
أما الإمام ابن بطة فقال: [باب الاستثناء في الإيمان]، ولم يذكر وجوباً ولا جوازاً ولا استحباباً، وإنما سار كما سار الإمام البخاري في صحيحه، إذ لم يكن قاطعاً بحكم المسألة التي بوب لها في الصحيح، حيث قال: باب كذا.
وذكر المسألة، أي: باب خلاف أهل العلم أو باب حكم المسألة التالية، ثم يذكر الإمام الحافظ ابن حجر خلاف أهل العلم في هذه المسألة.
وجمهور أهل السنة والجماعة على جواز الاستثناء في الإيمان، ومرد هذا الجواز إلى أمرين: الأمر الأول: إذا كان القصد من الاستثناء أصل الإيمان الذي يخالف فيه المؤمن الكفار، فلا يجوز حينئذ الاستثناء، أي: إذا كان الجواب بالمشيئة متوجهاً إلى قصد الإيمان بالله عز وجل ورسوله وكتبه وملائكته واليوم الآخر وبالقدر، فلا يجوز فيها الاستثناء؛ لأن أصل الإيمان إذا زال لا يبقى إلا الكفر.
الأمر الثاني: إذا كان الجواب متعلقاً بحقيقة الإيمان وكماله وتمامه المبني على العمل، فحينئذ يجوز، إذ إن كل مسلم ينبغي عليه أن يتهم نفسه أنه ما أدى حق الله تعالى عليه، فيكون الاستثناء بالأعمال إذ فيها يكون التقصير، أي: أنه يستثني في كونه مؤمناً ولا يستثني في صحة إيمانه.(36/2)
شأن المؤمن الخوف من أن يسلب إيمانه
قال: [اعلموا رحمنا الله وإياكم أن من شأن المؤمنين وصفاتهم وجود الإيمان فيهم، ودوام الإشفاق على إيمانهم، وشدة الحذر على أديانهم، فقلوبهم وجلة من خوف السلب]، أي: أن قلوب المؤمنين العابدين خائفة دائماً من أن يسلبهم الله عز وجل هذا الإيمان؛ لأن قلب العبد بين يدي الله عز وجل يصرفه كيف شاء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلبي على ديني، ويا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك)، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حقق كمال الإيمان وتمامه، ومع هذا ما كان يأمن على نفسه، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا في قمة الإيمان، ومع هذا كانوا يخافون على أنفسهم النفاق، ولا يأمنون مكر الله عز وجل، مع ثبوت البشرى بالجنة في حقهم وخاصة العشرة المبشرين.
قال: [قد أحاط بهم الوجل لا يدرون ما الله صانع بهم في بقية أعمالهم، حذرين من التزكية، متبعين لما أمرهم به مولاهم الكريم حين يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
خائفين من حلول مكر الله بهم في سوء الخاتمة، لا يدرون على ما يصبحون ويمسون، قد أورثهم ما حذرهم تبارك وتعالى الوجل في كل قدم حين يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34]]، أي: هل تكسب في إيمانها إيماناً أو كفراً، [فهم بالحال التي وصفهم بها عز وجل حيث يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]]، فهل هذا الإتيان الذي أتوه من خير أو شر؟ ولذلك لما تلت [عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية قالت: (يا رسول الله! هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق وهو يخاف ألا يقبل منه)]؛ لأن العبرة في العمل بالقبول لا بمجرد الإسلام أو الاستسلام المجرد.
حتى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل).(36/3)
وجود الإشفاق في قلوب المؤمنين حملهم على الاستثناء في كلامهم
قال: [فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق لزموا الاستثناء في كلامهم، وفي مستقبل أعمالهم، فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله].
وهذه المشيئة في الإيمان متعلقة بكماله وتمامه، وهذا الكمال لا يتحقق للعبد إلا بالعمل، إذاً الاستثناء في الإيمان مرده إلى عدم التزكية على الله تعالى في تحقق كمال الإيمان وتمامه.
فحين أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا يعني أنني قد عملت العمل، لكني لا أدري أقبله الله عز وجل مني أم لا؟ كما أنني لا أدري هل هذا العمل في قمة الكمال والتمام أو في وسطه أو في أول مراحله؟ إذاً إذا كان الكلام موجهاً إلى أصل الإيمان فنعم أنا مؤمن؛ لأنني آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا أكفر بشيء من ذلك، بل أعادي من يعادي ذلك، وأحب من يحب ذلك، وأنا موقن تمام اليقين من نفسي بما أقول؛ لأن هذا هو الأصل الذي لا ينزل إلا إلى الكفر البواح.
وأما إذا كان السؤال متوجهاً إلى كمال الإيمان وتمامه فأنا لا أعرفها؛ لأن ذلك لا يكون إلا بالعمل، وأنا قد عملت، لكني لا أدري أقبل مني أم لا؟ وإذا قبل هل قبل كله أم بعضه؟ لأنه ربما يصلي المرء الصلاة فيعجب بصلاته، وقد أداها كاملة بقيامها وركوعها وسجودها وخشوعها، وربما ظن أن هذا هو عين المراد من تشريع الصلاة، لكن لو نظر المرء إلى صلاته وإلى صلاة أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي فهل يستويان؟ بل لو نظر المرء بين عبادته وعبادة من سلفه من سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم، إذ لا يمكن أبداً أن يزعم المرء بأن صلاته كصلاة أحمد بن حنبل، ولا أن صيامه كصيام أحمد بن حنبل، نعم، نصوم لأننا نؤمن بأن الله تعالى فرض علينا الصيام، لكن في هذه العبادة من لغو وغيبة ونميمة الشيء الكثير، وبالتالي فلا يمكن أن يكون صيامي كصيام أحمد بن حنبل، وإن صدق على كل واحد منا أنه قد صام رمضان، لكن هيهات أن يكون عملي كعمل أحمد، أو تكون عبادتي كعبادة أحمد رحمه الله تعالى.
ولذلك نحن نقول: المرء يعمل، لكن هل العمل الذي أتى به العبد قد توفرت فيه قمة المطلوب والمراد من هذا العمل؟ لا يستطيع المرء أن يزعم أنه صلى صلاة ما بعدها صلاة، ولا صام صياماً ما بعده صوم، ولا حج حجاً ما بعده حج، ولذلك المرء يقول: أنا عملت، ومع عملي كنت مقصراً، وحجم العمل أين يكون في الميزان؟ هذا أمر لا يعرفه العبد، وحجم التقصير في ميزان العمل أين يكون؟ هذا أمر لا يعلمه كذلك إلا الله عز وجل.
فإذا كانت طاعتي من جهة الكمال والتمام فإنه لا يعلمها يقيناً إلا الله، وتقصيري في جنب الله عز وجل لا يعلمه يقيناً إلا الله عز وجل.
إذاً: فحينئذ ينبغي الاستثناء في الإيمان إذا كان المراد منه الكمال والتمام، وأن المرء إذا قال: أنا مؤمن جزماً، وانصرفت نيته إلى كمال الإيمان وتمامه، فإنه قد زكى نفسه، والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
قال الشيخ: [فلما أن لزم قلوبهم هذا الإشفاق لزموا الاستثناء في كلامهم، وفي مستقبل أعمالهم، فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على جهة الشك، ونعوذ بالله من الشك في الإيمان؛ لأن الإيمان إقرار لله بربوبيته، وخضوع له في العبودية، وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى].
وكما نقول وقلناه مراراً: الإيمان ينقسم إلى أصل وفرع، والإيمان كالشجرة لها أصل ثابت وفروع تتفرع في السماء، فإذا كان الاستثناء في أصل الإيمان، فهذا خلع له من جذوره، وإذا كان الاستثناء في هذه الفروع المتعلقة بالعمل، فهذا جائز أو واجب في نفسه.
قال: [فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة].
أي: لو أنه قال: أنا مؤمن بالملائكة، لكن لا أعلم هل جبريل من الملائكة أم لا؟ فهذا شك، وآخر يقول: أنا مؤمن بأن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، لكني لا أدري أهذه الكعبة في مكة أم في اليمن أم في الهند؟ فإنه يكفر بذلك، إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام، أي: لا يعرف عن الإسلام ولا عن ثوابته شيئاً، فحينئذ يُعلَّم ويُعرَّف، فإن أنكر وأصر كفر.(36/4)
توجيه الاستثناء في الإيمان
قال: [ولكن الاستثناء يصح من العبد من وجهين: الأول: نفي التزكية]، أي: يصح الاستثناء بشرط ألا يزكي نفسه؛ [لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة وبالرضاء وبالرضوان، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقاً بضدها، أرأيت لو أن رجلاً شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر، فقال له الحاكم: لست أعرفك، ولكني أسأل عنك ثم أسمع شهادتك، فقال له الرجل: إنك لن تسأل عني أعلم بي مني، فأنا رجل زكي مأمون رضي جائز الشهادة ثابت العدالة].
فهذا الرجل شهد لنفسه، وكأنه أعرف بنفسه من الحاكم، ولله المثل الأعلى، فهذا الرجل لم يستثن في الإيمان، بل قال: أنا مؤمن، ولم يقل: إن شاء الله.
وهذا كما حصل مع جحا حينما ذهب يريد أن يشتري حماراً من السوق، فقالت له زوجته: إلى أين يا جحا؟ قال: أنا ذاهب إلى السوق لأشتري حماراً، قالت له: قل: إن شاء الله، قال: لماذا أقول إن شاء الله؟ هذه فلوسي معي، فلما ذهب إلى السوق سرق منه المال، ثم رجع إلى زوجته فسألته: أين الحمار يا جحا؟ قال: ضاعت مني الأموال إن شاء الله! قال: [أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته وقلة عقله بما دل الحاكم على رد شهادته وأغناه عن المسألة عنه، فما ظنك بمن قطع لنفسه بحقائق الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحكم لنفسه بالخلود في جنات النعيم].
ولو أنك قلت: أنا مؤمن وقصدت كمال الإيمان وتمامه -الذي هو البر والتقوى- فكأنك قلت: أنا من أهل الجنة؛ لأن الله تعالى وعد المؤمنين الصادقين الأبرار المتقين بالجنة، وأن الله تعالى يتقبل عمل المتقين، فكان لزاماً على الله أن يدخلني الجنة؛ لأنني محقق لحقيقة الإيمان وكماله.
قال: [ويصح الاستثناء أيضاً من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال، وعلى الخاتمة وبقية الأعمار].
الثاني: أن الاستثناء يصح على مستقبل الأعمال؛ إذ تعلمون أن الأعمال بالخواتيم، ولا يدري الإنسان بماذا سيختم له؟ بل لا أحد منا على يقين أنه سيخرج من باب هذا المسجد مؤمناً كامل الإيمان، فربما خرج الواحد منا مبغضاً لله ورسوله قبل أن نقوم من مقامنا، وربما يقوم الواحد منا مؤمناً كامل الإيمان، فهل نملك قلوبنا؟! ولا ندري ما الله تعالى صانع بنا؟ فإذا كنا لا ندري ما الله صانع بنا في الأفعال والأعمال، فينبغي أن نعلق فيما يتعلق بمستقبل الأعمال على التصديق بالله عز وجل.
قال: [ويريد إني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأمسي على إيماني أم لا؟ وبذلك أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده، فقال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله، وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء، أن تقول قولاً جزماً حتماً: إني أصبح غداً مؤمناً، ولا تقول: إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً إلا أن تصل كلامك بالاستثناء، فتقول: إن شاء الله.
فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين].(36/5)
بعض الأحاديث والآثار الواردة في الاستثناء في الإيمان(36/6)
أثر أبي هريرة: (ما أحب أن أحلف)
قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما أحب أن أحلف لا أصبح كافراً ولا أمسي كافراً.
قال الشيخ: والاستثناء يكون على الشيء اليقيني كما قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]]، مع أن الله تعالى علم يقيناً أنهم سيدخلونه، ومع هذا علق ذلك على المشيئة.
[وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله)، مع أنه على يقين أنه أتقاهم لله عز وجل].(36/7)
دعاء زيارة المقابر
قال: [ومر صلى الله عليه وسلم بأهل القبور فقال: (وإنا بكم إن شاء الله لاحقون)، مع أنه يعلم أنه سيموت لا محالة]، وأن كل من عليها فان لا محالة: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، فعلق الموت على مشيئة الله عز وجل مع أنه أمر يقيني.
[ولكن الله تعالى بذلك أدب أنبياءه وأولياءه ألا يقولوا قولاً أملوه وخافوه وأحبوه أو كرهوه إلا شرطوا مشيئة الله تعالى فيه، قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام:80]، مع أن إبراهيم على يقين أنه إمام الحنيفية، لكنه يعلم أن قلبه بيد الله عز وجل.
وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89].
فهذا طريق الأنبياء والعلماء والعقلاء، وجميع من مضى من السلف والخلف والمؤمنين من الخلف، الذين جعل الله عز وجل الاقتداء بهم هداية وسلامة واستقامة وعافية من الندامة].
قال: [وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)].(36/8)
حديث عامر بن سعد: (أن النبي أعطى رجالاً)
وعن عامر بن سعد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً، فقال أبوه سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً -أي: من الغنائم- فلم تعطه وهو مؤمن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أو مسلم؟ فسكت سعد، ثم قال: وحزبني -أي: دفعني- ما أعرف من الرجل فقلت: يا رسول الله -مرة أخرى- أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، قال عندها: أو مسلم؟ فحزبني ما أعرف من الرجل أن أقول للنبي مرة ثالثة: يا رسول الله! أنت أعطيت فلاناً وفلاناً وفلاناً، ولم تعط فلاناً وهو مؤمن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا سعد هل لك في أن تقول: مؤمن؟).
فنحن نعرف من قبل يا إخواني! أن المسلم لا يصح له الإسلام إذا كان معه أصل الإيمان، فلو قال رجل: أنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لكني لا أؤمن بالملائكة ولا بالنبيين ولا باليوم الآخر ولا بالقدر خيره وشره، ولا بعذاب القبر ونعيمه، ولا بالبعث، ولا بالحساب، ولا بالجزاء، ولا بالصراط، ولا بالجنة، ولا بالنار، فهذا الرجل ليس مسلماً؛ لأنه ليس معه أصل الإيمان.
وفي هذه الحالة حينما رد النبي عليه الصلاة والسلام على سعد في عدم إعطاء هذا الرجل من الغنائم، كان قصد سعد بكلمة: (مؤمن) كمال الإيمان لا أصله، فلما أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على سعد أنكر شهادته له بكمال الإيمان.
[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم مخافة أن يكبهم الله في النار على مناخرهم)].
أرأيتم العلم والحكمة؟! يقول له: يا سعد! ما معنى أني أعطيت فلاناً وطردت فلاناً؟ هل أنه مؤمن أو غير مؤمن؟ لا، فأنا قد أعطي فلاناً ولا أعطي فلاناً آخر، والذي لم أعطه أحب إلي، وإيمانه أعدل إلي من إيمان من أعطيته، ولذلك شرع الله عز وجل سهماً من الزكاة للمؤلفة قلوبهم، مع أن هناك ناساً في كمال الإيمان، والمؤلفة قلوبهم أحب إلى الله أم أبي بكر وعمر؟ أبو بكر وعمر، فالنبي عليه الصلاة والسلام حينما يعطي المؤلفة قلوبهم ولا يعطي أبا بكر وعمر، فهل يدل على أن المؤلفة أحسن من أبي بكر وعمر؟ أبداً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى هؤلاء مخافة أن يبغضوا رسول الله، أو أن يبغضوا الدين، فهم حينما يعالجوا بالمال يكون هذا عوناً لهم على الثبات، فيقول: لماذا لم تعطني؟ فيقول لك: أنت ليس وراءك خير! لكن النبي عليه الصلاة والسلام بحكمة الداعية وبحكمة الأنبياء إنما دعاهم لشيء يعجبهم ويسرهم، وكان السائل يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسأله فيعطيه غنماً بين جبلين برعاتها وكلابها ومرعاها، فيذهب الرجل إلى قومه ويقول: أتيتكم من عند من لا يخشى الفقر أبداً، محمد عبد الله ورسوله، فيأتي بعد برهة من الزمن مع قومه قد آمنوا بالله ورسوله، بسبب قليل من الأغنام زائلة فانية، والنبي عليه الصلاة والسلام كانت الدنيا في يده لا في قلبه، وما كانت به حاجة أن يكون رجلاً من أهل الدنيا؛ لأنه غني بالله تعالى، وغني بالإيمان بالله، فحينئذ النبي عليه الصلاة والسلام أنكر على سعد أن يتكلم في حقيقة وكمال وتمام إيمانه لأحد، حتى وإن كان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا إنما يعلمه الله عز وجل، ولو قال سعد: إنه مؤمن إن شاء الله يا رسول الله! ما أنكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أنكر على سعد أنه جزم بذلك.(36/9)
إنكار ابن مسعود على من يقول عن نفسه: إنه مؤمن
قال: [وجاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن لقيت ركباً فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن المؤمنون، قال عبد الله بن مسعود: أفلا قالوا: نحن أهل الجنة].
أي: أن عبد الله بن مسعود يريد أن يقول: إذا كنتم أنتم المؤمنون حقاً فينبغي أن تقولوا: نحن أهل الجنة حقاً، وبذلك تلزمون الله تبارك وتعالى بدخولكم الجنة، ولذلك أهل السنة لا يقولون عن فلان بعينه شهيد إلا من شهد له الشرع بأنه شهيد، وإنما يقولون على العموم: شهداء بدر، شهداء أحد، شهداء الخندق، شهداء غزوة كذا، وغزوة كذا؛ لأن الشهداء يقيناً في الجنة، فلو قلنا: بأن فلاناً على جهة اليقين شهيد، لكان لزاماً على الله أن يدخله الجنة، ولا يلزم الله تبارك وتعالى أحكام العباد.
ولذلك ينبغي أن نقول: فلان نحسبه شهيداً والله تعالى حسيبه، ونقول: فلان رجل صادق لا نزكيه على الله، والله تعالى يتولى أمره، لكن الذي يبدو لنا منه الصلاح والتقوى والعمل الصالح وغير ذلك، ما يدرينا أن الله تعالى يقبل هذا؟ ما يدرينا أنه يفعل ذلك رياء وسمعة؟ ما يدرينا أنه يفعل ذلك شهرة وتصدراً في المجالس؟ ما يدرينا أن الله تعالى قبل عمله؟ ما يدرينا أن هذا العمل قد حقق كمال الإيمان وتمامه؟ كل ذلك نحن لا نعلمه، الله تعالى يعلمه.
قال: [وعن الحسن أن رجلاً قال عند عبد الله بن مسعود: إني مؤمن، فقيل لـ ابن مسعود: إن هذا يزعم أنه مؤمن، قال: فاسألوه أفي الجنة هو أم في النار؟ فسألوه فقال: الله أعلم].
أي: سألوه: هل أنت يا أخي! مؤمن أم لا؟ قال: مؤمن، إذاً هل أنت في الجنة أم في النار؟ قال: الله أعلم، فلم لم تقل في الأولى: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: تعلق الأولى كما علقت الثانية.
قال: [فسألوه فقال: الله أعلم، فقال له عبد الله: فهل وكلت الأولى كما وكلت الآخرة؟].
أي: هلا قلت في الأولى: أنا مؤمن إن شاء الله، كما قلت: الله أعلم، حينما سئلت: أأنت في الجنة أم في النار؟ قال: [وعن علقمة أنه كان بينه وبين رجل من الخوارج كلام فقال له علقمة: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
فقال الرجل: ومؤمن أنت؟ قال: أرجو، أي: أرجو أن أكون عند الله مؤمناً.
قال: وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في خطبته: من يتأل على الله يكذبه]، أي: من يحلف على الله عز وجل بأنه مؤمن فهو كذاب؛ لأن علم ذلك راجع إلى الله عز وجل.(36/10)
أسماء بعض السلف الذين يعيبون على من لا يستثني
قال: [وعن جرير بن عبد الحميد الضبي قال: كان الأعمش ومنصور ومغيرة والليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لا يستثني].
فهؤلاء من السلف ذهبوا إلى وجود الاستثناء في الإيمان، والسبب أن بعض أهل السنة يقول: يجب الاستثناء في الإيمان، والبعض يقول: يجوز، والبعض يقول: يستحب، وهؤلاء جمهور أهل العلم.(36/11)
كلام ابن مهدي وأحمد والثوري في الاستثناء في الإيمان
قال: [قال المروذي: وسمعت بعض مشايخنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا تُرك الاستثناء فهو أصل الإرجاء].
قال: [وعن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: ما أدركت أحداً من أصحابنا إلا على الاستثناء.
قال يحيى: وكان سفيان يكره أن يقول: أنا مؤمن]، أي: أنه إذا سئل: أأنت مؤمن؟ يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله.
قال: [وقال سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث]، أي: في الأحكام التي هي الأوامر والنواهي، الحلال والحرام وغير ذلك، والمواريث، فيورثون العبد ويرثون من العبد؛ لأنه مات على الإسلام الذي نعلمه منه يقيناً، ومع هذا الإسلام أصل الإيمان.
قال: [الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ونرجو أن يكون ذلك ولا ندري ما حالنا عند الله؟] أي: من كمال الإيمان وتمامه.(36/12)
سبيل المؤمنين الاستثناء والخوف والرجاء
قال: [فهذه سبيل المؤمنين وطريق العقلاء من العلماء لزوم الاستثناء والخوف والرجاء، لا يدرون كيف أحوالهم عند الله، ولا كيف أعمالهم، أمقبولة هي أم مردودة؟ قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وأخبر عن عبده الصالح سليمان عليه الصلاة والسلام في مسألته إياه: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19].
أفلا تراه كيف يسأل الله الرضا منه بالعمل الصالح؛ لأنه قد علم أن الأعمال ليست بنافعة وإن كانت في منظر العين صالحة، إلا أن يكون الله عز وجل قد رضيها وقبلها]، أي: ممكن أن يكون العمل في أعين الناظرين إليه عمل صالح، لكن الله تعالى لم يتقبله، فكيف ينتفع به العامل؟ ولذلك قال سليمان: ((وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا)) أي: يا رب! ارزقني أن أعمل عملاً صالحاً.
قال: [وهذا لا يقدر على حتمه وجزمه] بالقبول [إلا جاهل مغتر] كالمرجئة، [نعوذ بالله من الغرة بالله والإصرار على معصية الله، أما ترون رحمكم الله عز وجل إلى الرجل من المسلمين قد صلى الصلاة فأتمها وأكملها، وربما كانت في جماعة وفي وقتها، وعلى تمام طهارتها، فيقال له: صليت؟ فيقول: نعم إن قبلها الله].
مع أنه بإمكانه أن يقول: نعم صليت، فيذكر بأنه قد صلى، لكنه حينما قال: صليت إن قبلها الله؛ لأنه يعلم أن حقيقة الصلاة هي المقبولة.
قال: [وكذلك القوم يصومون شهر رمضان فيقولون في آخره: صمنا إن كان الله قد تقبله منا]، وإلا فلا ينفعنا وإن كنا قد صمنا.
قال: [وكذلك يقول من قدم من حجه بعد فراغه من حجه وعمرته وأداء جميع مناسكه إذا سئل عن حجه إنما يقول: قد حججنا ما بقي غير القبول، وكذلك دعاء الناس لأنفسهم عند انقضاء شهر رمضان وفي الأعياد وغير ذلك، وبهذا مضت سنة المسلمين، وعليه جرت عاداتهم، وأخذه خلفهم عن سلفهم، فليس يخالف الاستثناء في الإيمان ويأبى قبوله إلا رجل خبيث مرجئ ضال قد استحوذ الشيطان على قلبه، نعوذ بالله منه].
قال: [وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: كان سليمان بن حرب يحمل الاستثناء على التقبل]، أي: إذا سئل: أأنت مؤمن؟ يقول: نعم إن شاء الله، يقصد بالمشيئة القبول لا التمام والكمال، [ويقولون: نحن نعمل ولا ندري أيتقبل منا أم لا].
قال: [وقال الوليد: سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز لا ينكرون أن يقولوا: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله].
فالذي جزم من السلف بأنه مؤمن بغير استثناء إنما تكلم عن أصل الإيمان، وجماهير أهل السنة على الاستثناء.
قال: [قال جرير بن عبد الحميد: الإيمان قول وعمل].
يزيد وينقص، وزيادته ونقصانه تتعلق بالعمل.
وكما قلنا من قبل: الرجل يعمل العمل ولما يدري أقبله الله تعالى منه أم لا، فينبغي أن يعلق زيادة الإيمان ونقصانه على مشيئة الله عز وجل.
قال: [وكان الأعمش ومنصور ومغيرة والليث وعطاء وإسماعيل بن السائب وابن أبي خالد وعمارة والعلاء وغير واحد يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لا يستثني].
قال: [وقال أحمد بن حنبل: إذا قال الرجل: إني مؤمن إن شاء الله فليس هو بشاك]، خلافاً لقول المرجئة الذين يقولون: إذا قال الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله فهو يشك.
قال: [فقيل له: إن شاء الله ليس هو شكا.
قال: معاذ الله، أليس الله تعالى يقول: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27]]؟ أي: هل الله تعالى شك في دخوله؟
الجواب
لا.
قال: [وصاحب القبر إذا قال عليه: أبعث إن شاء الله، فأي شك هاهنا.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)]، فلا يمكن أن يكون هذا شكاً.
قال: [وعن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا كانت ليلة عائشة، إذا ذهب الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم وما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)].
والنبي صلى الله عليه وسلم على يقين من كلامه.
قال: [وعن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)].
قال: [وقال أحمد بن حنبل لما سئل عن الاستثناء: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فاستثني مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، إنما يستثني للعمل].
أي: أنه يستثني(36/13)
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حول الاستثناء في الإيمان
فـ ابن تيمية في كتاب الإيمان في الجزء السابع من مجموع الفتاوى يقول: وأن الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: فمنهم من أوجبه حتى لا يزكي نفسه؛ لأنه لا يقول ذلك على جهة الشك، والذين أوجبوا الاستثناء قالوا: دفعاً للتزكية، وأنهم يقولونها لا على سبيل الشك بل على سبيل تفويض كمال الإيمان وتمامه لله عز وجل.
ومنهم من يحرمه، وهم المرجئة والجهمية، وذلك على أصلهم في تعريف الإيمان بأنه التصديق أو المعرفة، وأنه لا يتصور الاستثناء؛ لأن الاستثناء عندهم شك في أصل الإيمان، ومن شك في أصل الإيمان لا يتصور إلا إلى الكفر.
ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين، أي: باعتبار كمال الإيمان وتمامه لا بد أن يستثني، وباعتبار أصل الإيمان فلا يستثني.
قال: وهذا أصح الأقوال، أي: المذهب الذي يقول: إنه أحياناً يكون الجزم بالإيمان واجباً، وأحياناً يكون الاستثناء في الإيمان واجباً أو جائزاً.
والذين يحرمونه هم المرجئة والجهمية ونحوهم، ممن يجعل الإيمان شيئاً واحداً يعلمه الإنسان من نفسه، كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه.
فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة، وكما أعلم أني أحب الله ورسوله، وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم، وكقولي: تكلمت بالشهادتين، وقرأت الفاتحة، وأنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها من نفسي يقيناً وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، لا يجوز: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموهم الشاكة.
والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان، واعلم أن هناك بعض الناس من أهل البدع أوجبوا الاستثناء، لكن ذهبوا في الوجوب إلى علة أخرى غير التي عند أهل السنة والجماعة، أي: أن فريقاً من أهل البدع قالوا بأن الاستثناء في الإيمان واجب، وذلك لعلة تسمى الموافاة، وهي: أن يفي الرجل إلى الله عز وجل يوم القيامة بالأعمال، أي: العمل الذي يقدم به العبد على ربه.
كما قالوا كلاماً هو شراً من ذلك، فقالوا: الله عز وجل سبق في علمه أن فلاناً سيموت على الكفر، ولا خلاف عندنا أن الله تعالى يعلم ذلك من عبده، فهو مؤمن الآن يعمل الصالحات، لكنه يختم له بالكفر والردة، أي: أن عمله هذا كله لا قيمة له، وأنه لا يثاب عليه؛ لأنه قد سبق في علم الله أنه سيوافيه يوم القيامة مرتداً وكافراً.
وكذلك الصورة العكسية أن هذا العبد كافر عابد للأصنام والأوثان.
قال: فلا يزال الله تبارك وتعالى يحبه حتى وإن كان عابد وثن؛ لأن الله تعالى سبق في علمه أن هذا العبد سيموت على الإيمان أو سيوافيه بالإيمان.
ولذلك يقولون: لا بد من الاستثناء في الإيمان، وذلك لعلة الموافاة التي لا يعلمها العبد من نفسه، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: باعتبار قدومه على الله، هل يقدم عليه كافراً أو يقدم عليه مؤمناً؟ وعلة الموافاة هذه لم يقل بها إلا المبتدعة.
ولذلك يقولون: محبة الله تبارك وتعالى لعبده لا تتغير، وسخط الله تبارك وتعالى على عبده لا يتغير، فلا يزال الله تبارك وتعالى ساخطاً على عبد من عباده أبداً، عمل صالحاً أو سيئاً؛ لعلم الله تعالى أنه سيختم له بالكفر والردة.
كذلك فالله تعالى يرضى عن عبده وإن كان عابد وثن؛ لعلمه أن هذا العبد سيوافيه على الإيمان.
فهذه عند المبتدعة اسمها: علة الموافاة، ونحن قلنا: إن فريقاً من أهل السنة قالوا بوجوب الاستثناء في الإيمان، فهل لعلة الموافاة؟ لا، وإنما عدم تزكية، وأنهم لا يقولون ذلك على سبيل الشك، بل على سبيل إيكال حقيقة الإيمان لله عز وجل، أما الاستثناء في الإيمان فينبغي أن يكون في كمال الإيمان وتمامه وحقيقته، أما أصل الإيمان الذي هو محل الردة ومحل الكفر، فلا استثناء فيه.
وهذا الوجه الأول من الأوجه التي أوجب الله تبارك وتعالى لها الاستثناء، وهذا الوجه عند أهل البدع.
الوجه الثاني كذلك في الاستثناء في الإيمان: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله تبارك وتعالى به وترك المحرمات، إذ إن الإيمان المطلق أو الإيمان الكامل متعلق بالعمل، والعمل عبارة عن أمر ونهي.(36/14)
كلام الإمام أحمد في الاستثناء
فإذا كان كمال الإيمان وتمامه مرتبطاً بالعمل الذي هو الأمر والنهي، وأنا غير متأكد من قيامي بواجب الأمر والنهي، ففي هذه الحالة إذا سئلت عن كمال الإيمان وتمامه أكل الأمر إلى الله عز وجل وأقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولذلك قال رجل لـ أحمد بن حنبل: قيل لي: أمؤمن أنت؟ فقلت له: نعم، وهل الناس إلا مؤمن وكافر؟ فغضب أحمد بن حنبل غضباً شديداً وقال: هذا كلام الإرجاء؛ لأن الله تعالى قال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106]، وذلك لما ذكر الله تعالى أهل الإيمان وأهل الكفر ذكر فئة ثالثة فقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} أي: يوم القيامة يفصل بينهم.
فإذا كان الناس مؤمناً وكافراً فليس هناك داع لهذا الفريق الثالث الذي يرجئ أمره إلى الله عز وجل يوم القيامة، وهم أصحاب الكبائر، فليس بمؤمن كامل الإيمان، وليس بكافر بكبيرته، ولذلك أصحاب الكبائر مؤمنون بإيمانهم فساق بكبائرهم، وفي يوم القيامة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم.
إذاً مشيئة الله تبارك وتعالى في أهل الكبائر في الآخرة، ومعنى (مرجون): مؤخرون.
وبالتالي ليس الناس مؤمناً وكافراً فحسب، بل مؤمن وفاسق وكافر.
قال: إن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه، فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم.
أما قول أحمد قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] من هؤلاء؟ ثم قال أحمد: أليس الإيمان قولاً وعملاً؟ قال الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل؟ قال: الأمر لله، أي: ومن يجرؤ أن يأتي يوم القيامة ويقول: أنت أمرتني بالقول والعمل، ووعدتني على القول والعمل بالجنة، وأنا قد آمنت بالله، وما كنت أمل ولا أكل من قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكنت أصوم وأصلي وأزكي، فهيا أدخلني الجنة الآن! هل أحد يستطيع أن يقول هذا لله؟ مع أن الله وعد بأن من قال وعمل دخل الجنة، لكن هل هذا يلزم الله تعالى؟ لا يلزمه؛ لأن العبد لا يزعم أنه قد عمل، وإن زعم أنه قد قال؛ فلأن القول محقق ولا يقبل منه إلا إذا كان معه أصل الإيمان، أما العمل فلا يسع إنساناً أن يزعم أنه قد حقق كمال الإيمان وتمامه بتمام العمل وكماله.
قال: فهل جئنا بالعمل؟ قال الرجل: لا، قال: فكيف نعيب أن يقول: إن شاء الله ويستثني؟ وقال أبو داود: أخبرني أحمد بن أبي شريح أن أحمد بن حنبل كتب إليه في هذه المسألة: أن الإيمان قول وعمل، فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، فنحن نستثني في العمل.
إذاً أنا حينما أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فإني أستثني في العمل.
قال: والقبول متعلق بفعله كما أمر، فكل من اتقى الله في عمله ففعله كما أمر، فقد تقبله الله منه، لكن هل العمل يجزم بالقبول؟
الجواب
لا.
وعن أبي طالب قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: لا نجد بداً من الاستثناء؛ لأنهم إذا قالوا: مؤمن، فقد جاء بالقول، وإنما الاستثناء بالعمل لا بالقول.
وعن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان: أن الإيمان قول وعمل، فقد جئنا بالقول ونخشى أن نكون فرطنا في العمل، فيعجبني أن يستثنى العبد في الإيمان فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
وسمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، الاستثناء هاهنا على أي شيء يقع؟ قال: على البقاع، لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليه أم في غيره، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لأهل البقيع: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، ولم يدفن في البقيع، وإنما دفن في الموضع الذي مات فيه، فعلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائداً إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا يشك فيه، وهذا وإن كنا لا نشك فيما في قلوبنا من الإيمان، فالاستثناء فيما يعلم وجوده قد جاءت به السنة؛ لما فيه من الحكمة.
قال: وعن محمد بن الحسن بن هارون قال: سألت أبا عبد الله عن الاستثناء في الإيمان؟ فقال: نعم، الاستثناء على غير معنى الشك، مخافة واحتياطاً للعمل، وقد استثنى ابن مسعود وغيره، وهذا مذهب الثوري، قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَا(36/15)
باب سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت، وكيف الجواب له، وكراهية العلماء هذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك
وبقيت مسألة متممة لهذا الأمر وهي: هل يجوز توجيه هذا السؤال أم لا؟ أي: هل لك أن تسأل الآخر فتقول له: هل أنت مؤمن؟
الجواب
لا، قولاً واحداً عند السلف، وبالتالي فجوابنا أو كلامنا في المسألة السابقة جواز الاستثناء أو وجوب الاستثناء فيما إذا وجه السؤال، مع الحكم على السؤال بأنه بدعة؛ لأن السلف لم يتوجهوا بهذا السؤال قط بل ذموه، وقد [سأل رجل ميمون بن مهران فقال: قال لي: أمؤمن أنت؟ قال: قل: آمنت بالله وملائكته وكتبه.
قال: لا يرضى مني بذلك، قال: فردها عليه.
فقال: لا يرضى، فردها عليه ثم ذره في غيظه يتردد].
أي: أن واحداً يقول لـ ميمون بن مهران: واحد سألني فقال لي: أمؤمن أنت؟ ماذا أقول له؟ قال: قل له آمنت بالله وملائكته وكتبه، قال: لا يرضى مني بذلك، فهو يريد جواباً محدداً، فقال: أعدها عليه، يعني: قل له: آمنت بالله وملائكته وكتبه، قال: لا يرضى مني بذلك، قال: ردها عليه، قال: إذا رددتها لا يرضاها مني، قال: ردها عليه ثم ذره في غيظه يتردد، أي: حينما يسألك: أنت مؤمن؟ قل له: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
[وكان طاوس إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته ورسله وكتبه، لا يزيد على ذلك].
[وقيل لـ إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله].
[وقال ابن سيرين: إذا قيل لك: أنت مؤمن؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق].
[وقال إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا أنت].
[وقال إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: أرجو]، أي: أن أكون كذلك.
[وقال إبراهيم النخعي: سؤال الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة].
[وقال: إذا سئلت: أنت مؤمن؟ فقل: لا إله إلا الله، فإنهم سيدعونك]، أي: لو قلت لهم: لا إله إلا الله سيتركوك.
[وقال إبراهيم: سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة].
[وقال عبد الله بن أحمد: حدثني أبي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا سئلت أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه وسؤالك إياي بدعة]، أي: إن شاء أن يجيبه بالاستثناء، وإن شاء أن يدع الجواب، بل يتهمه في سؤاله ويقول: وسؤالك إياي بدعة، [ولا أشك في إيماني]، الذي هو أصل الإيمان، [ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص أو قال: مؤمن إن شاء الله وليس يكره، وليس بداخل في الشك].
[وقال روح بن عبادة: كتب رجل إلى الأوزاعي: أمؤمن أنت حقاً؟] وكلمة (حقاً) هذه تفهم بأن السؤال متوجه لكمال الإيمان.
قال: أمؤمن أنت حقاً؟ أي: أن هذا الغبي لم يجد غير الأوزاعي إمام الدنيا في زمانه في ديار الإسلام، ووالله لو كان الأوزاعي يعيش لما كان أحد من اليهود يجرؤ أن يقرب جهة لبنان أو سوريا أبداً، لكن الأوزاعي قد مات، [قال: فكتب إليه: كتبت تسألني أمؤمن أنت حقاً؟ والمسألة في هذا بدعة، والكلام فيه جدل، ولم يشرحه لنا سلفنا، ولم نكلفه في ديننا].
أي: نحن لسنا بمكلفين شرعاً أن نسأل هذا السؤال.
قال: [سألت أمؤمن حقاً؟ فعلمري لئن كنت على الإيمان فما تركي شهادتي لها بضائري].
أي: لو أنك حققت كمال الإيمان وتمامه حقاً، فلو أني تركت الجواب عليك فهذا لا يضرني؛ لأني عند الله مؤمن إذا كان الله يعلم ذلك مني.
قال: [وإن لم أكن عليه]، أي: على الإيمان الكامل التام عند الله، ويعلم الله ذلك مني، [فما شهادتي لها عندك بنافعتي، فقف حيث وقفت بك السنة].
وهذه كلمة جميلة جداً، وقد كان سفيان الثوري يقول: قف حيث وقفت بك السنة، ولا تحكن جلدك بظفرك إلا بدليل، أي: إن شئت ألا تحك جلدك بظفرك إلا بدليل فافعل؛ لأن هذا دين، وهذا إيمان.
قال: [فقف حيث وقفت بك السنة، وإياك والتعمق في الدين، فإن التعمق ليس من الرسوخ في العلم؛ إن الراسخين في العلم قالوا حيث تناهى علمهم: آمنا به كل من عند ربنا].
ولم يزيدوا ولم يتكلفوا ولم يتنطعوا في العلم.
[وقال أبو إسحاق الفزاري: قال الأوزاعي في الرجل يسأل الرجل: أمؤمن أنت؟ فقال: إن المسألة عما تسأل عنه بدعة، والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل، والمنازعة فيه حدث]، أي: أمر محدث، [ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم تكن كذلك عند الله، وتركك الشهادة لنفسك بها بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك عند الله، وإن الذي يسألك عن إيمانك ليس يشك في ذلك منك، ولكنه يريد لينازع الله عز وجل علمه في ذلك حتى تزعم أن علمه وعلم الله في ذلك سواء، فاصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذ(36/16)
شرح كتاب الإبانة - القول في المرجئة وإنكار العلماء مذاهبهم
بدعة المرجئة من شر ما ابتدع في الإسلام، فقد عطلوا أحكام الشريعة وجعلوا الأعمال لا علاقة لها بالإيمان، وقد ورد في ذمهم والإنكار عليهم الكثير من النصوص والآثار، وقد أنكر عليهم الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب وعلماء الأمصار.(37/1)
ما ورد في ذم المرجئة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [القول في المرجئة وما روي فيه، وإنكار العلماء لسوء مذاهبهم].
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأحاديث ولم يصح في ذم المرجئة مرفوعاً عنه عليه الصلاة والسلام شيء.
منها حديث [أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بعث الله عز وجل نبياً قط قبلي اجتمعت له أمته، إلا كان فيهم مرجئة وقدرية يشوشون عليه أمر أمته من بعده، ألا وإن الله لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً أنا آخرهم)].
ومن طريق [أنس رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي أو لا يدخلون في شفاعتي: المرجئة والقدرية)].
وكلا الحديثين ليس بصحيح.(37/2)
فتنة المرجئة أشد على الأمة من فتنة بعض فرق الخوارج
قال: [وجاء عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: لفتنتهم عندي -أي: فتنة المرجئة عندي- أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة]، والأزارقة هم قوم من الخوارج، وهم أتباع نافع بن الأزرق الذي قُتل في زمن عبد الله بن الزبير وقد خرج عليه.
[وقال الزهري: ما ابتدع في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه، أي: الإرجاء.
وعن الأوزاعي قال: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم]، أي: عند أهل السنة، [على هذه الأمة من الإرجاء].
[وعن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة].
[وقال حجاج سمعت شريكاً وذكر المرجئة، فقال: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثاً، ولكن المرجئة يكذبون على الله عز وجل].
[وقال عبد الله بن حبيب يروي عن أمه قالت: سمعت سعيد بن جبير: وذكر عنده المرجئة فقال: مرجئة هذه الأمة كاليهود]؛ لأن اليهود ضالون كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، قال: (المغضوب عليهم هم اليهود، والنصارى ضالون).
قال: والله تعالى غضب على اليهود؛ لأنهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عملوا بغير ما علموا، وهذا نوع من أنواع الضلال، بل هو أعظم أنواع الضلال أن يتقرب المرء إلى الله عز وجل بهواه بغير نص أو أثر.
فالله تعالى غضب على اليهود؛ لأنهم علموا الحق فلم يتبعوه، وكذلك المرجئة علموا أن دين الله تعالى بعد القول مبني على العمل، وهم يزعمون أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وليس من الإيمان في شيء، فإيمان من قال: لا إله إلا الله وإن ترك جميع الأوامر وارتكب جميع النواهي كإيمان جبريل وميكائيل، فهذا من حيث الضلال ضلال عظيم جداً؛ ولذلك شبههم علماء السنة باليهود.
[وقال المغيرة بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود القبلة]، يعني: هم كاليهود في صفاتهم، غير أنهم لا يزالون من أهل القبلة.
والعلماء يفرقون بين مصطلح أهل السنة وأهل القبلة، فالرجل من أهل السنة أي: أنه عامل بأصول الإيمان وفروعه، معتقد لذلك، داع إليه.
أما من كان من أهل القبلة وليس من أهل السنة فهذا الذي هو قائم على بدعة غير مكفرة، فهو لا يزال من أهل الإسلام ومن أهل القبلة؛ لكن هيهات أن يكون من أهل السنة.
[وقال سعيد بن جبير: المرجئة مثل الصابئين]، الصابئون في زمان نبي من الأنبياء، هم الذين زاغوا ومالوا عن طريق الحق، وسلكوا طريق الزيغ والضلال.
[وعن حذيفة قال: إني لأعلم أهل ذينك الدينين في النار]، أي: أصحاب بدعتين في النار، كما قال عليه الصلاة والسلام، قال: [قوم يقولون: إن الإيمان كلام]، يعني: لو قال المرء: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذا هو منتهى وكمال وتمام الإيمان.
قال: [وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟] يعني: من أين أتيتم بأن الصلوات خمس؟ [إنما هما صلاتان]، صلاة في أول النهار وصلاة في آخر النهار، وهاتان الصلاتان كل صلاة منهما ركعتان فحسب، كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فاستدل بالقرآن على أن الصلاة صلاة في أول النهار وفي آخره.
[وعن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد بن جبير المرجئة فضرب لهم مثلاً، فقال: مثلهم كمثل الصابئين أتوا اليهود فقالوا لليهود: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، ثم أتوا النصارى فقالوا: من أنتم، وما دينكم؟ قالوا: نحن النصارى وديننا النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قال: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن بين ذين]، يعني: لا نحن يهود ولا نحن نصارى، نحن بينكما.
كيف يدخل الجنة رجل لا يرضى قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما اختار لنفسه ديناً وسطاً بين هذين الدينين؟ هذا الدين وسط بين الملتين وبين الدينين، ليس هو دين السماء ولا شريعة السماء ولا تابعاً لنبي، ولا عنده عهد موثق وميثاق غليظ بدخول الجنة، فكيف لرجل يختار لنفسه ديناً وهوى ومذهباً لم يكن به أدلة من السماء؟ [وقال إبراهيم: لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة].(37/3)
عيب أئمة الإسلام على المرجئة كثرة التحول في الدين
[وقال وكيع: حدثني القاسم بن حبيب عن رجل يقال له: نزار عن عكرمة عن ابن عباس، قال: صنفان من هذه الأمة ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية].
[وقال أيوب بن أبي تميمة السختياني: قال لي سعيد بن جبير: ألم أرك مع طلق؟] وهو طلق بن حبيب المرجئ الكبير المعروف، وهو من رواة السنة، [قلت: بلى فما له؟] يعني: ما عيبه؟ [قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب: وما شاورته في ذلك، ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه].
يعني: ولم أكن قد استشرته في ذلك، وإنما يجب على المسلم إذا رأى أخاه على معصية أو على خطر أو على ضلالة أن يحسن به الظن، وربما أنه لا يعرف أن هذا ضلال، وليأمره ولينهه ولو بغير طلب منه.
[وقال قتادة: إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث].
[وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك]، يعني: أنا لا يمكن أقول بهذا القول، وهذا القول عندي فاسد بين الفساد، لا أقول به وأنا أكبر من ذلك.
[وقال العلاء بن عبد الله بن رافع: إن ذراً أتى أبا عمرو وسعيد بن جبير في حاجة له فقالا: لا] أي: لا نقضي لك حاجتك [حتى تخبرنا على أي دين أنت اليوم].
ولذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: من لم يتخذ السنة ديناً أكثر التحول، يعني: يكون كل يوم على مذهب، اليوم خارجي، غداً معتزلي، بعد غدٍ مرجئي، قدري، إباضي، شيعي وهكذا؛ لأن كل هذه الفرق فرق ضلال، وضلالها سواء، فهو متى أعجبته فكرة ينتقل إليها.
وقد رأينا رجلاً أكاديمياً صنف كتاباً في الفلسفة الإسلامية، أي: الاعتقاد، خلط فيه بين جميع ملل الإسلام غير مذهب أهل السنة والجماعة، إذا تكلم في قضية من القضايا أتى فيها بأقوال أهل البدع كلهم ولم يذكر مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، رجل يأخذ بما يناسب عقله، فالذي يعجبه من أي ملة من الملل يقصه ويلصقه أو يخطه في هذا الكتاب، فهذا كلام عجيب جداً! أن يعمى المرء عن الحق ثم يتخبط في غياهب الظلام بالليل والنهار.
قال: [لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم أو رأي أنت اليوم؟ فإنك لا تزال تلتمس ديناً قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه؟].
[وقال محمد بن ذكوان لـ حماد: كان إبراهيم يقول بقولكم في الإرجاء، فقال: لا، كان شاكاً مثلك.
[وقال جعفر الأحمر عن أبي جحاف قال سعيد بن جبير لـ ذر: يا ذر! مالي أراك في كل يوم تجدد ديناً؟] يعني: تنتقل من دين إلى دين، ومن ملة إلى ملة، ومن مذهب إلى مذهب، ومن فرقة إلى فرقة، غير أنك بعد لم تلتمس طريق الحق، وهو طريق أهل السنة والجماعة.
[وقال أبو المختار: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي فقال: مررت فسلمت عليه فلم يرد علي]، أي: فلم يرد علي السلام، مع أن رد السلام أمر واجب، ومع هذا أجمع العلماء على أنه إذا كان الرجل المُسَلِّمُ صاحب بدعة وخطره محقق فالمقاطعة أولى حتى وإن كان في الواجبات، مثل رد السلام.
[فقال أبو البختري لـ سعيد بن جبير فقال سعيد: إن هذا يجدد في كل يوم ديناً، لا والله لا كلمته أبداً].
[ومر إبراهيم التيمي بـ إبراهيم النخعي فسلم عليه فلم يرد عليه]، أي: لأنه مرجئ.
[وقال رجل: رآني أبو قلابة وأنا مع عبد الكريم]، وهو ابن عجرد زعيم العجاردة، كان إمام مذهب من مذاهب الضلال.
[فقال: مالك ولهذا الهزء]، يعني: هذا الإنسان السخيف المبتدع، كأنه يحذره المشي معه.
[وقال أبو حمزة التمار الأعور: قلت لـ إبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ قال: أوه]، كأنه يستعظم ذلك، وهي كلمة تقولها العرب، ثم قال: [لفقوا قولاً فأنا أخافهم على الأمة والشر من أمرهم، فإياك وإياهم]، فهو يحذره، ويبين له أنهم شر طائفة على الإسلام.
[وصف ذر الإرجاء وهو أول من تكلم فيهم، ثم قال: إني أخاف أن يتخذ ديناً، فلما أتته الكتب من الآفاق قال: فسمعته بعد يقول: فهل أمر غير هذا!].
يعني: لما دعا ذر إلى مذهب الإرجاء، ونشر أمره هنا وهناك، فأتى عليه الرد من هنا وهناك، فلما وقف على الردود المكتوبة بأقلام العلماء، قال: لو كان غير ذلك، أي: لنجحنا وأفلحنا، كأنه يظهر استياءه الشديد لرد العلماء عليه وأنهم عطلوا عليه نشر دعوته.
قال: أو شيء غير ذلك؟ يعني: كان يتمنى أن(37/4)
ما لم يكن ديناً في عهد الصحابة فليس ديناً لمن بعدهم
قال: [وقال إبراهيم: إن القوم لم يدخر الله عنهم شيئاً خبئ لكم لفضل عندكم].
ولذلك نحن دائماً نقول: إن المقياس في ميزان الحق والباطل ما كان عليه السلف، وما وسع السلف يسعنا، وما لم يسع السلف لا يسعنا، وهذه أصول لأهل السنة والجماعة.
ولذلك لو نظرنا إلى أي فرقة من فرق الإسلام لا نجد عليها أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، فـ أبو بكر رضي الله عنه لم يكن معتزلياً، ولا قدرياً، ولا شيعياً، ولا مرجئاً، ولا خارجياً، ولا إباضياً، ولا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: لا يمكن أبداً، وهذه حجة عقلية وإذا كان الإرجاء خيراً فلماذا يخفيه الله على نبيه وعلى أصحاب نبيه ثم يظهره لنا، أنحن أكرم على الله من هؤلاء؟! ولذلك قال مالك: وما لم يكن يومئذ ديناً فليس اليوم ديناً، وهذا مالك الذي مات سنة (174) أو (185) هجرية، يقول: وما لم يكن يومئذ -يعني: عند الصحابة- ديناً فليس اليوم ديناً، يعني: لا يصلح أن يكون ديناً أبداً، وهذا في القرن الثاني الهجري، فما بالكم بالقرن الخامس عشر الهجري، من باب أولى ألا يكون ديناً.
ما رأيكم فيمن صنف النبي عليه الصلاة والسلام أول صوفي في الإسلام، أيصح هذا؟ وأبو بكر الصديق ثاني صوفي في الإسلام، وعمر بن الخطاب ثالثهما وهكذا، هذا يخلط في الموازين التي هي عندنا، ألا تعلمون بهذه الكتب؟ هذه سلسلة من الكتب.
وكذا تكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك تكلم عن الخلفاء الراشدين، ثم العشرة المبشرين بالجنة، فأصابته المنية فمات، الحمد لله الذي أراحنا منه.(37/5)
التحذير من مجالسة المرجئة والتأثر بأقوالهم في الإيمان
قال: [فاحذروا رحمكم الله مجالسة قوم مرقوا من الدين، فإنهم جحدوا التنزيل وخالفوا الرسول، وخرجوا عن إجماع علماء المسلمين، وهم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل]، يعني: فإن هذا هو أس البلاء عند المرجئة؛ وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، وهذا كلام متين جداً، الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
عند المرجئة الإيمان قول بغير عمل، والأحمق فيهم ينص على أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وخطورة هذا الكلام أن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة لزاماً، وإن ارتكب جميع الموبقات وترك جميع الأوامر؛ لأن الأوامر والنواهي أعمال تحتاج إلى امتثال.
إذاً: ليستا بواجب؛ سيستوي عندهم من امتثل مع من عصى.
قال: [ويقولون: إن الله عز وجل فرض على العباد الفرائض ولم يرد منهم أن يعملوها]، أتتصور أن هذا كلام عاقل؟ وهو أن الله عز وجل لم يرد منا الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة، ولا الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، أي: أن الله أمرنا بأوامر ونهانا عن أشياء، لكن لم يرد حقيقة الأمر ولا حقيقة النهي! هذا الكلام تخريف، هذا الكلام لا يقبله صاحب العقل المريض، فما بالك بالعقل السليم؟! قال: [وليس بضائر لهم]، أي: لا يضرهم، [أن يتركوها، وحرم عليهم المحارم فهم مؤمنون وإن ارتكبوها].
يعني: الواحد يقول: ربنا حرم علي إتيان المحارم، والجمع بين الأختين، وأنا سأجمع بين الأختين، أمرني ألا أنكح ابنتي أو أمي، وأنا سأنكح ابنتي وأمي، هل هذا ممكن؟! أو يقول: أنا أعلم يقيناً أن الله تعالى حرم علي نكاح الأم من النسب أو من الرضاعة، وهذه أمي من النسب وأنا أشهدكم أني سأتزوجها، مع علمي بالتحريم، لأن الله ما أراد مني حقيقة هذا التحريم، هل يكون هذا مسلماً؟ لا يمكن.
كمن يطأ المصحف بقدمه وهو يقول: أنا أؤمن أن الله تعالى أنزل هذا الكتاب، وهو كلامه الذي نزل من اللوح المحفوظ بواسطة جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، لا يكون هذا مسلماً، وهو ما زاد على كونه عمل عملاً.
ئإذاً: من الأعمال ما يكفر بها العامل، ومن الأعمال ما يفسق بها العامل.
قال: [وإنما الإيمان عندهم أن يعترفوا بوجوب الفرائض وإن يتركوها، ويعرفوا المحارم وإن استحلوها، ويقولون: إن المعرفة بالله إيمان يغني عن الطاعة]، وهؤلاء هم الجهمية، يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط.
والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، وهو قول بلا عمل.
والنطق بالشهادتين عند الجهمية لا يلزم في ثبوت الإسلام والإيمان، بل يكفي أن يكون عارفاً بقلبه، وفرعون عارف بقلبه، وإبليس شيخ العصاة كان عارفاً بقلبه، وقد أقر بربوبية الله عز وجل، فهل يكون إبليس على هذا المذهب مؤمناً كامل الإيمان، أو فرعون مؤمناً كامل الإيمان؟ قال: [وإن من عرف الله تعالى بقلبه فهو مؤمن، وإن المؤمن بلسانه والعارف بقلبه مؤمن كامل الإيمان، كإيمان جبريل، وإن الإيمان لا يتفاضل ولا يزيد ولا ينقص، وليس لأحد على أحد فضل، وإن المجتهد والمقصر والمطيع والعاصي جميعاً سيان].
يعني: الذي يصلي مثل الذي لا يصلي، والذي يصوم مثل الذي لا يصوم، والذي يقوم الليل مثل الذي لا يقوم الليل، والطائع كالعاصي؛ لأن الإيمان ليس له تفاضل.
التفاضل في الإيمان باعتبار العمل، فلما لم يكن العمل عندهم من الإيمان دل على نفي التفاضل في الإيمان، وبالتالي فهو لا يزيد ولا ينقص، وليس لأحد على أحد فضل، وإن المجتهد والمقصر والمطيع والعاصي جميعاً سواء عند المرجئة وعند الجهمية.
قال الشيخ: [وهذا كله كفر وضلال، وخارج بأهله عن شريعة الإسلام، وقد أكفر الله القائل بهذه المقالات في كتابه، والرسول عليه الصلاة والسلام كفره في سنته، كما كفره جماعة العلماء باتفاقهم، وكل ذلك فقد تقدم القول فيه مفصلاً في أبوابه.
وللقائل إن المعرفة إيمان فقد افترى على الله عز وجل، وفضل الباطل على الحق، وجعل إبليس وإبراهيم خليل الرحمن وموسى الكليم في الإيمان سواء]، يعني: جبريل مثل إبراهيم ومثل موسى ومثل محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم جميعاً يعرفون أن الله تعالى حق.
قال: [لأن إبليس قد عرف الله فقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]]، فهو يعترف لله بربوبيته، [وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} [الحجر:36]، وكذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260]]، فالذي قاله إبليس قاله إبراهيم، والذي قاله إبراهيم قاله إبليس، وهو الاعتراف بالربوبية.
[وقال موسى: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص:17]]، أي: فكل هذا إقرار بربوبية الله عز وجل، اشترك فيه الأنبياء وإبليس كذلك.
[ويلزمه على أصل مذهبه الخبيث أن يكون من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه وأهل بيته ومن جاهد معه، وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وهاجروا إليه، والذين كذبوه وحاربوه في الإيمان عندهم سواء].
أي: لأن هؤلاء أطاعوا محمداً، وهؤلاء عصوا(37/6)
الرد على استدلال المرجئة بمثل حديث (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)
قال: [هذا أبو جهل قد عرف بقلبه وعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلزم صاحب هذه المقالة]، وهي: الإيمان قول بلا عمل، أو الإيمان معرفة بلا قول، [أن يلحقه في الإيمان بأهل بدر والحديبية وأصحاب الشجرة من أهل بيعة الرضوان، غضب الله على صاحب هذه المقالة، وأصلاه ناراً خالداً فيها، فإنه لم يفرق بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الصالح والطالح].
[وعن الزهري قال: قال لي هشام] لعله هشام بن سالم الجواليقي أو هشام بن سالم بن الحكم وهما من أصحاب البدع، [أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منادياً فنادى: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)]، أي: يا من تظن أنك إمام من أئمة أهل السنة، ألم تسمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه أمر منادياً في الناس ينادي: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة).
فـ هشام الجواليقي يحتج عليه بأنه على حق؛ بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، ولم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عملاً من الأعمال.
قال الزهري: [فقلت: نعم وذاك قبل نزول الفرائض]، أي: هذا الكلام كان بمكة قبل نزول الفرائض، [ثم نزلت الفرائض، فينبغي للناس أن يعملوا بما افترض الله عز وجل عليهم].
[وعن الضحاك بن مزاحم قال: ذكروا عنده: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، فقال الضحاك: هذا قبل أن تحد الحدود، وتنزل الفرائض]، أي: فلابد من التزام ما أمر وترك ما نهى.
[وقال الحسن البصري: لو شاء الله عز وجل لجعل الدين قولاً لا عمل فيه، أو عملاً لا قول فيه، ولكن جعل دينه قولاً وعملاً، وعملاً وقولاً، فمن قال قولاً حسناً، وعمل سيئاً رد قوله على عمله، ومن قال قولاً حسناً وعمل عملاً صالحاً رفع قوله عمله، يا ابن آدم، قولك أحق بك].
[وعن مبارك بن حسان: قال: قلت لـ سالم الأفطس]، وهو صاحب بدعة الإرجاء، [رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا، فذكرت ذلك لـ عطاء فقال: سلهم، الإيمان طيب أم خبيث؟ فإن الله تعالى قال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، قال: فسألتهم فلم يجيبوني].
يعني: الإيمان شيء طيب أم شيء خبيث؟ فإن قالوا: خبيث، فصاحب الخبيث من الخاسرين، ويحتج عليهم بالآية، وللعلم أن هؤلاء كانوا علماء، ولم يكونوا جهلة، كان الواحد منهم ينظر في وجه العالم من أهل السنة فربما يعرف حجة صاحب السنة قبل أن يقولها، فيعد لها جواباً ملتوياً بعيداً عن الحق.
عند أن تقرأ لشخص مثل أبي إسحاق النظام الذي هو إبراهيم بن سيار المعتزلي صاحب البدعة، يحتار عقلك وتحتاج أن تقف عند كل جملة، وتترحم على شيخ الإسلام ابن تيمية الذي فضحه وعراه وأظهر فساد قوله، وكان ابن تيمية يصطدم معه بمواقف ويناظره فيها فغلبه، فتقول: أكان إبراهيم النظام يقصد هذا الكلام؟ وكيف فهم ابن تيمية هذا الفهم؟ فتدرك حقيقة ما كان عليه ابن تيمية من إيمان وتقوى وعلم وعمل، ابن تيمية فضح جميع الفرق، ما ترك فرقة من فرق الضلال إلا وعراها، وبين فسادها وعوارها، وأن بضاعة جميع الفرق مزجاة كاسدة لا قيمة لها؛ لأنها مخالفة للكتاب والسنة.
قال: [فقال سالم: إنما الإيمان منطق ليس معه عمل]، يعني: الإيمان هذا طيب أم خبيث؟ لا تقل لي: الإيمان منطق، أنا أريدك أن تقول: إما طيب وإما خبيث.
فلو قال طيباً فالناس يتفاضلون في الطيب، ولو قال خبيثاً لكفر؛ لأن الإيمان لا يكون خبيثاً، فقال هروباً من الإجابة: إن الإيمان منطق ليس معه عمل، يريد أن يقول: الإيمان قول ليس معه عمل.
قال: [فذكرت ذلك لـ عطاء فقال: سبحان الله! أما تقرءون الآية التي في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177].
فالآية الأولى حجة للمرجئة، وهي أن البر هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه وغير ذلك، فهذا هو كلام المرجئة، لكن الله عطف على ما ذكر: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177]، ليس البر أن تولوا، ولكن البر أن تؤم(37/7)
التحذير من مقولة المرجئة بكمال إيمان عصاة المسلمين
قال: [فاحذروا -رحمكم الله- من يقول: أنا مؤمن عند الله وأنا مؤمن كامل الإيمان، ومن يقول: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل فإن هؤلاء مرجئة، أهل ضلال وزيغ وعدول عن الملة].
إن الصحابة رضي الله عنهم، مع أنهم بشروا بالجنة، فالذي بشر بالجنة بالاسم والعين كان يخشى على نفسه النفاق، ولا يأمن عاقبة الأمور.
قال: [قال الأوزاعي: ثلاث كلهن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان]، أي: من قال ذلك فهو مبتدع؛ ومذهب أهل السنة والجماعة الاستثناء في الإيمان، يعني: إذا سئلت: هل أنت مؤمن؟ فقل: أرجو أن أكون مؤمناً، أو قل: نعم إن شاء الله، ليس على سبيل الشك.
قال: [وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله عز وجل].
[وقال شريح بن النعمان سألت يحيى بن سليم الطائفي ونحن خلف المقام: أي شيء تقول المرجئة؟ قال: يقولون: ليس الطواف بهذا البيت من الإيمان]؛ يعني: لأنهم يخرجون العمل عن مسمى الإيمان وحقيقته.
قال: [وعن نافع بن عمر بن جميل القرشي قال: كنت عند عبد الله بن أبي مليكة، فقال له بعض جلسائه: يا أبا محمد! إن ناساً يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل.
قال: فغضب ابن أبي مليكة وقال: والله ما رضي الله لجبريل حين فضله بالثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19 - 22] يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان؟].
أي: وفهدان رجل ممن أدرك ابن أبي مليكة وكان يعيش في زمانه، وكان رجلاً ماجناً يشرب الخمر ولا يكاد يفيق من السكر، فهو يقول لهم: أتتصورون أن إيمان فهدان مثل إيمان جبريل وميكائيل؟ أي: أترضون لي أن أقول أن إيمان شخص لا يكاد يفيق من السكر كإيمان جبريل وميكائيل؟ [وقال نافع: وقد رأيت فهدان رجلاً لا يصحو من الشراب]، يعني: لا يكاد يفيق من السكر، والمرجئة يزعمون أن فهدان كجبريل وميكائيل! ليس بينهما أي تقارب في الإيمان.
[وقال نصر بن المثنى الأشجعي كنت مع ميمون بن مهران فمر بجويرية]، أي: ببنت صغيرة، [وهي تضرب بالدف وتقول: وهل علي من قول قلته من كنود؟] أي: اللوم والتوبيخ: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]، يعني: متنكراً لحكم الله عز وجل، ومع هذا هو لحب الخير الذي يأتي من عند الله لشديد، فإذا وصلته النعمة تنكر لها، وظن أن ذلك باجتهاده وعمله.
فهذه الجويرية عند أن ضربت بالدف تقول: وهل علي من قول قلته من كنود؟ أي: هل يستطيع أحد منكم أن يقول: هذا القول فيه عتاب أو ملامة؟ [فقال ميمون: أترون إيمان هذه كإيمان مريم بنت عمران]، يعني: هل إيمان هذه الجويرية التي تغني وتضرب بالدف كإيمان مريم ابنة عمران [قال: والخيبة لمن يقول: إيمانه كإيمان جبريل].
[وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى، هو في زيادة أبداً، ويقولون على من يقول: إنه مستكمل الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل، قال: قال الوليد: قال سعيد بن عبد العزيز: هو أن يكون إذا أقدم على هذه المقالة إيمانه كإيمان إبليس؛ لأنه أقر بالربوبية وكفر بالعمل، فهو أقرب إلى ذلك من أن يكون إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام].
[وعن حذيفة أنه قال: تفترق هذه الأمة حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا؟] يعني: فرق الضلال تأتي وتقول: ما هذه الصلوات الخمس؟ إنما هما صلاتان فقط! قال: [وتقول الأخرى: إنا مؤمنون كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق، حقاً على الله تعالى أن يحشرهم مع الدجال]، يعني: هؤلاء دجاجلة وهم يستحقون أن يكونوا أتباعاً للدجال، لا للنبي محمدٌ عليه الصلاة والسلام.
[وقال ابن مسعود رضي الله عنه: يقولون: ما فينا كافر ولا منافق؟! جذ الله أقدامهم]، يعني: قطع الله أقدامهم.
[وقال وكيع: القدرية يقولون: الأمر مستقبل، إن الله لم يقدر المصائب والأعمال].
أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يكتب أعمال العباد إلا بعد أن وقعت، أليست القدرية هم الذين يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف؟ أي: مستأنف، والله تعالى لا يعلمه إلا بعد أن يقع، هكذا تقول القدرية، يقولون: الله تعالى لا يعلم الأعمال إلا بعد وقوعها، أما قب(37/8)
موقف السلف من المرجئة
قال: [وقال سفيان عندما ذكروا له المرجئة: رأي محدث أدركنا الناس على غيره]، يعني: الكلام المرجئي الذي أسمعه منكم؛ وهو أن العمل لا علاقة له بالإيمان ولا بأصل الإيمان ولا حقيقته ولا تمامه وكماله، هذا قول محدث أدركنا الناس على خلاف ذلك، وإن ذكر الناس فالمقصود بهم العلماء أهل السنة.
[وقال أيوب: أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء من أهل المدينة رجل من بني هاشم يقال له: الحسن]، أي: ابن محمد.
[وقال أبو مليح: سمعت ميمون بن مهران يقول: أنا أكبر من الإرجاء].
[وعن زاذان وميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد الهاشمي فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟] أي: الحسن بن محمد الهاشمي أول من تكلم في الإرجاء، وكذلك ذر.
فصنف كتاباً يؤصل فيه الإرجاء، ووضع القواعد ومنهج الإرجاء في هذا الكتاب، فلما قرأه زادان وميسرة أتيا إليه فقالا له: [ما هذا الكتاب الذي وضعت.
قال: وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة، قال زاذان قال لي: يا أبا عمر! لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو قبل أن أضع هذا الكتاب]، يعني: هو قد وضع أصول البدع وتاب، لكن هذه السنة عمل بها من أتى بعده، فإذا تاب وصحت توبته وتقبلها الله عز وجل، فلا عبرة بمن أتى بعده.
وأنتم تعلمون أن الذي وضع أصول الأشعرية هو أبو الحسن الأشعري وتاب، والأشاعرة إلى الآن متمسكون جداً بمذهب أبي الحسن الأشعري السابق، ويزعمون أن أبا الحسن لم يتب، ويعتبرون أن ما هم عليه من أشعرية وتأويل وصرف للنصوص عن ظاهرها هو المنهج الحق الذي ينزه البارئ تبارك وتعالى.
فهم يتصورون أنهم على الحق فيقولون: إذا كان أبو الحسن قد تاب فمن أي شيء تاب؟ من الحق الذي كان عليه، فبعضهم يقول: هو تاب إلى الضلال، وهو التشبيه والتجسيم، يعني: انتقل من التأويل إلى التشبيه والتجسيم، وهذا عندهم ضلال؛ ولذلك صنف ابن الجوزي رحمه الله كتاباً لعله أشأم كتاب في الإسلام سماه: دفع شبه التشبيه، أشأم كتاب متعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته.
فهو يرد فيه على الحنابلة رغم أنه حنبلي في الفروع، إلا أنه لا يرضى مذهب أحمد بن حنبل في العقيدة، وكان مؤولاً أشعرياً، وكان يرد على الحنابلة ويقول: إثباتكم للصفات يعني التمثيل والتشبيه، إذا أثبتم لله اليد والعين والوجه وغير ذلك، فأنتم تجعلون الله تبارك وتعالى في صورة رجل، فلما تصور ذلك وعجز أن يدرك حقيقة معتقد أهل السنة والجماعة، والحنابلة على جهة الخصوص؛ ذهب ليرد عليهم بزعمه درءاً ونفياً للتشبيه والتمثيل، فسمى الكتاب دفع شبه التشبيه.
وقد نصح مراراً من أهل السنة والجماعة في زمانه فلم يرجع عن ذلك، ولكنه صنف بعد ذلك رسالة لا تزال في حيز المخطوطات، وهي عندي، وقد بدأت العمل فيها، ويذهب فيها الإمام ابن الجوزي مذهباً عظيماً جداً هو مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات، فالذي أبحث عنه الآن بصورة جدية هل هذه الرسالة التي معي صحيحة النسبة إليه بعد كتابته دفع شبه التشبيه أو قبلها؟ فلو صح أنه صنف هذه الرسالة التي بين يدي بعد شبه التشبيه لكان رجلاً من أهل السنة والجماعة، ومات على ذلك.
ولو أن دفع شبه التشبيه بعد هذه الرسالة لقلنا: إنه كان متأثراً أولاً بمذهب أهل السنة والجماعة، حتى ضحك عليه القوم فترك مذهب أهل السنة اعتقاداً منه أنه يدل على التشبيه والتمثيل، وذهب إلى مذهب التأويل أو مذهب الأشاعرة.
[وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: الولاية بدعة، والشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة].
وأما البراءة من أهل الإيمان فهي بدعة، والمقصود بالبراءة أن يبرأ من قوم هم على دين الإسلام والسنة، يقول لك: هؤلاء أهل سنة، لا أريد أن أقرب منهم ولا هم يقربون مني، إن هؤلاء السنيين متعصبون ومتشددون، يقول: أول ما نظرت بعيني الصباح بعد أن قمت من النوم على شخص لحيته ربع متر أعوذ بالله! فمن عند أن وضعت عيني عليه علمت أن هذا اليوم من أوله غم وهم.
هذه براءة من أهل السنة، وهذا القول في غاية الخطورة، بل أنت مأمور بموالاة الموحدين ومعاداة الكافرين، فأنت الآن توالي الكفار وتعادي أهل الإيمان.
شخص يقول: أقوم من النوم الصبح فلا أغسل وجهي ولا أصلي الصبح ويكون يوماً مثل الفل، بينما اليوم الذي أصلي فيه الصبح لا أحصل فيه على شيء من المال، ويكون يوم غم علي وعلى عائلتي بالكامل.
وإذا سألته وقلت له: أتصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟ يقول لك: نعم، أصليهن عند أن أنام، لأنني أخاف إن صليتهن أثناء النهار أن الرزق ينقطع.
ما هذا الخذلان يا إخوة!! والله العظيم لا يصلح أن يكون هذا معتقد يهود، اليهود ل(37/9)
شرح كتاب الإبانة - الكلام في الإيمان من واقع الصحوة الإسلامية
تعتبر مسائل الإيمان والكفر من أهم مسائل العقيدة، وقد ضلت فيها أفهام وزلت فيها أقدام، وقد أوضح العلماء رحمهم الله تعالى مسائل الإيمان والكفر، ومنها: دخول العمل في مسمى الإيمان وماهيته، وتأثر الإيمان بالعمل وجوداً وعدماً، وأن العمل وحده كاف للتكفير، وغيرها من المسائل المتعلقة بهذا الباب.(38/1)
خطأ بعض أهل العلم في فهمه لمسائل الإيمان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فقد فرغنا من الكلام عن مسائل الإيمان فيما يتعلق بهذا الجزء الخاص بالإيمان من كتاب الإبانة للإمام ابن بطة، ويبقى موضوعان خطيران جداً وهما: موضوع القدرية، وموضوع الجهمية، ولكل موضوع من هذين الموضوعين مجلدان تقريباً من هذا الكتاب، لكن يحسن بنا قبل أن نفتح واحداً من هذين الموضوعين أن نتم الكلام عن مسائل الإيمان خاصة فيما يتعلق بواقع الصحوة الإسلامية على الأقل في مصر.
ولو أردت أن أدخل في الموضوع مباشرة سأقول: إن بعض أهل العلم وضع تصوراً لمسائل الإيمان والكفر، وهذا التصور لم يوافقه عليه أحد من السلف، وإن شئت فقل: هذا التصور مخالف لتعريف السلف للإيمان أو لحد الإيمان، مما حدا به أن ينسب قولاً للسلف لم يقولوه، وأن يتهم الآخرين بأنهم حادوا عن منهج السلف، وفي حقيقة الأمر أنهم ليسوا كذلك، كما أنني لا أقول: إنه بهذا المعتقد صار من أهل البدع، وإنما أقول: لما جهل المسألة أتى بالطامات، وهو يظن أنه على الحق.
وليس ظن الشخص أنه على الحق لازم لإصابة الحق، فالمرء أحياناً يظن أنه على الحق، أو يتيقن على الأقل عند نفسه أنه على الحق المبين، وهذا لا يلزم منه أن يكون ما هو عليه هو الحق، بل ربما يكون الباطل الذي ليس بعده بطلان، والأمر كذلك في بعض مسائل الإيمان التي أخذت جدلاً عظيماً جداً في هذه البلاد وفي غيرها بين منهج المرجئة ومنهج السلف، والعجيب أننا نجد أن من تبنى مذهباً في مسائل الإيمان يوافق مذهب المرجئة يزعم أن المخالف له من الخوارج، وهذا الكلام ليس بصحيح، وإنما الصحيح أن من تبنى تعريف الإيمان يقول فيه: الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا الكلام هو تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
أما عند ذاك القائل به فإنما حفظ ذلك حفظاً ولم يقدر أن يطبق ذلك عملاً، ولذلك يقول: العمل ليس من الإيمان، وأحسن أحواله أن يقول: العمل من الإيمان، لكنه شرط كمال فحسب، وهو جاهل بهذه المقولة وبأصل هذه المقولة.(38/2)
تجلية بعض الحقائق في بعض مسائل الإيمان
وعلى أية حال لنا أن نجلي بعض الحقائق في بعض مسائل الإيمان، فنقول:(38/3)
المسألة الأولى: دخول العمل في مسمى الإيمان وماهيته
المسألة الأولى: وقوع سوء الفهم في هذا الأمر من منطلق تعريف الإيمان، فالإيمان: قول وعمل؛ قول باللسان وبالقلب، وعمل بالقلب والجوارح.
ومن أهل العلم من يطلق أن القول باللسان والقلب، والعمل باللسان والقلب والجوارح؛ لأن نطق اللسان بالشهادتين ما هو إلا كلام وعمل، وهذه حركة اللسان، فهي من حيث كونها حركة هي عمل، فالشاهد من ذلك أن هذا التعريف هو التعريف الحق، وهو تعريف أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان قول وعمل؛ قول اللسان وقول القلب، وعمل القلب والجوارح، وهذا التعريف يدلنا على أن العمل داخل في مسمى الإيمان وماهيته، وأن العمل ركن من أركان الإيمان.(38/4)
المسألة الثانية: تأثر الإيمان بالعمل وجوداً وعدماً
المسألة الثانية -وهي مترتبة على المسألة الأولى-: إذا كان العمل داخلاً في ماهية الإيمان وفي مسمى الإيمان فلابد أن يتأثر الإيمان بالعمل وجوداً وعدماً.
لماذا؛ لأنكم تعلمون أن الركن هو ما كان داخلاً في ماهية الشيء، والشيء مكون منه، فإذا انعدم الركن انعدم الشيء، وإذا وجد الركن وجد هذا الشيء، فإذا اتفقنا في المسألة الأولى على أن العمل داخل في ماهية الإيمان، فلابد أن نقول بأن العمل ركن من أركان الإيمان، وإذا كان العمل ركناً من أركان الإيمان فلا بد أن الإيمان يتأثر به وجوداً وعدماً.
ولذلك تقرأ لأهل العلم -وسيأتي معنا كلام هؤلاء الأعلام-: أن من ترك العمل كله وأتى المنكرات كلها خرج من الملة بالإجماع، وإذا كان الإيمان لا يتأثر بالعمل -وهو مذهب المرجئة- فكيف يكفر من ترك العمل؟ لابد أنه لا يتأثر بذلك، وهذا الذي حدا بالمرجئة أن يقولوا: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن الفاسق هو الذي ترك الأمر وارتكب النهي، أي: ترك الأمر الذي يفسق به، وارتكب النهي الذي يفسق به، فإذا كان الأمر كذلك فلابد أن الإيمان لا علاقة له بالعمل.
وعند أهل السنة والجماعة: أن العمل داخل في ماهية الإيمان، وأن الإيمان مكون منه ومن القول والاعتقاد.
إذاً عندنا مكونات الإيمان: قول وعمل واعتقاد، وأضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً قادر على النطق، فهل يقبل منه الدخول في الإسلام والإيمان دون أن ينطق بالشهادتين، أو يقبل منه أن ينطق بهما في سره؟ لا يقبل؛ لأنه قادر على النطق، أيضاً: لو أن إنساناً نطق بالشهادتين وأتى بكل الأعمال الصالحة وتجنب كل الأعمال السيئة، لكنه لا يعتقد ذلك، فهل يقبل منه ذلك؟ لا يقبل، إذاً كما يكون الكفر بالقول فكذلك يكون الكفر بالاعتقاد.
كذلك: إنسان يشك في الله عز وجل، أو في رسالة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، أو في خلق الله للسماوات والأرض، فهل يقبل منه إيمان أو إسلام؟
الجواب
لا يقبل منه ذلك؛ لأن هذا مناف لأصل الاعتقاد، فإذا كنا نكفر هذا بأنه لم يعتقد أو نكفر سابقه بأنه لم ينطق مع القدرة على النطق؛ فكذلك نكفر تارك العمل.(38/5)
المسألة الثالثة: بيان ما يكفر به المرء من الأعمال
المسألة الثالثة: أي عمل يكفر به المرء؟ هل يكفر المرء بمجرد المعصية؟
الجواب
لا، لكن من مسائل الإجماع أن من ترك العمل بالكلية، أي: لم يصم، ولم يصل، ولم يزك، ولم يحج، ولم يفعل شيئاً من أوامر الإسلام، ويعبر عنه الإمام الحميدي في رسالة الاعتقاد: ومن ترك الخمس كفر، أي: أركان الإسلام الخمسة.
لكن لابد أن نفرق بين مسألتين في العمل: هل الكلام على جنس العمل أم أفراده وآحاده؟ فالصيام من أفراد العمل، الصلاة من أفراد العمل، الزكاة من أفراد العمل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفراد العمل، الإتيان ببعض المأمورات من أفراد العمل، الوقوع في بعض المحظورات من أفراد العمل، فهل إذا قلنا: إن العمل من الإيمان، أو هو أصل في الإيمان بمعنى: أن الإيمان يزول بزواله ويوجد بوجوده؟ هل نقصد بذلك عملاً من الأعمال بعينه، أو نقصد بذلك جنس الأعمال؟ نقصد جنس العمل، أي: مجموع الأعمال، فإذا أتى إنسان بعمل يخالف الإيمان فلينظر إلى هذا العمل بعينه، هل هذا العمل داخل في أصل الإيمان، أو في الإيمان الواجب، أو الإيمان المستحب؟ فمثلاً: رجل سب الله تعالى، هل هذا العمل من أصل الإيمان، أو من الإيمان الواجب، أو من الإيمان المستحب؟ من أصل الإيمان، إذاً: إذا سقط فيه المرء لابد أن يخلع الإيمان من جذوره.
وبالتالي أنا عندما أقول: هل العمل شرط كمال أو شرط صحة؟ أتصح الإجابة بكلمة نعم أو لا؟ لا تصح، بل لابد من التفصيل؛ لأنه إذا كنت تسأل عن عموم العمل وعن جنس العمل فنقول: نعم جنس العمل شرط صحة في الإيمان، أما إذا كنت تسأل عن عمل بعينه -أي: من أفراد وآحاد الأعمال- فينظر إلى كل عمل على حدة، كما ضربت لك مثلاً بهذا الرجل الذي سب الله تعالى، إذ إنه بعد أن تحققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع يكفر؛ لأن هذا العمل الفرد من أعمال الإيمان الذي نقضه كان تعلقه بأصل الإيمان.
أيضاً: رجل وقع فيما حرم الله عز وجل، أو ترك أمراً واجباً من أوامر الله أو أوامر رسوله عليه الصلاة والسلام، فأقول: بالنظر إلى هذا العمل إتياناً أو تركاً، هل هو من أصل الإيمان أو الإيمان الواجب أو المستحب؟ فإذا كان من الإيمان الواجب فأقول: إن نفي الإيمان في النصوص إنما هو متعلق بنفي الإيمان الواجب عنه، لا نفي لأصل الإيمان، فيكون المقصود بحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) إلى آخر الحديث: نفي الإيمان الواجب.
بخلاف من سب الله، أو سب الرسول، أو سب الشريعة، فهذا يأتي على أصل الإيمان من القلب فيجعله هباء منثوراً، فيحتاج إلى دخول في الإسلام من جديد.
ولذلك لو أن واحداً أخل بعمل من الأعمال المستحبة أو المندوبة وغيرها من أعمال العبادات أو الطاعات، فنقول: قد أخل بالإيمان المستحب الذي يعبر عنه العلماء بأنه الإيمان الكامل، ونفي الإيمان في الأعمال المستحبة إنما هو نفي للكمال لا نفي لأصل الإيمان.
والشاهد من هذا الكلام أنه لا يصح أن نقول: هل العمل شرط كمال أو شرط صحة في الإيمان؟ لأن هذا سؤال يحتاج إلى تفصيل.
وأكثر منه خطأً أن يجيب المفتي أو المسئول إجابة واحدة فيقول: العمل شرط صحة، أو العمل شرط كمال، هذه إجابة غير سديدة، بل السديد أن يقول للسائل: أتقصد بهذا السؤال جنس العمل أم آحاده؟ فإن كنت تقصد جنس العمل فجنس العمل أصل في الإيمان وركن من أركانه، وإذا ترك المرء العمل في الجملة كفر بذلك، أما إذا كنت تقصد آحاد العمل فلا شك أن آحاد العمل من الإيمان، لكن من آحاد العمل ما يكفر به صاحبه ومنه ما لا يكفر به صاحبه، بل يفسق أو يترك الكمال المستحب، يعني: يفوت على نفسه مرتبة الصديقين وغير ذلك.(38/6)
العمل وحده كاف للتكفير عند أهل السنة والجماعة
فهذه بعض المسائل التي لها تعلق بالإيمان، ونلخص من ذلك إلى أن الكفر كما يكون بالقول وبالاعتقاد يكون بالعمل، وهذا بيت القصيد في الخلاف الدائر على الساحة، هل الردة تكون بالعمل أم لا؟ السلف رضي الله عنهم أجمعوا على أن من الأعمال ما يكفر بها فاعلها، ومنها ما لا يكفر بها فاعلها، خلافاً لمن يزعم أن العمل شرط كمال، وأن العامل لا يكفر بعمله إلا إذا استحل، كيف ذلك؟ أنا رجل -عياذاً بالله- أسب الله تعالى، أو أسب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع هذا أنا أقر دائماً أني أحب الله، وأحب الرسول عليه الصلاة والسلام وأحب الشرع، وأحب الإسلام، كما أقر أن هذا الكتاب هو كتاب الله عز وجل، وهو كلامه المنزل من السماء المتلو الذي نزل بواسطة جبريل على قلب محمد عليه الصلاة والسلام؛ وفي الوقت الذي أقر فيه بهذا الكلام آخذ المصحف بيميني فأمزق أوراقه وأبصق عليه وأرميه في الأرض وأطؤه بقدمي، لكن هذا الشخص لم يستحل ذلك، بل هو مثبت لتبجيله وتعظيمه بلسانه وقوله، لكنه عملاً قد أهان القرآن، فهل هذه الإهانة لكتاب الله عز وجل تؤهله للكفر؟
الجواب
نعم، فيكفر بهذه الإهانة لكتاب الله حتى وإن قرر في الظاهر بلسانه أنه غير ذلك.
وبعض أهل العلم يقولون: لا يكفر بمجرد الفعل، أي: بإهانته للقرآن أو سبه لله أو للرسول أو للشريعة أو غير ذلك، ويقولون: هو ما فعل ذلك إلا لأنه مبغض للقرآن لا لمجرد الفعل، وهذا استنتاج المرجئة والجهمية، وهو كلام فاسد لا يعرفه السلف، وجاء على ألسنة متأخري الأحناف، إذ إنهم يقولون: إذا ارتكب الإنسان ما يكفر به أو ما يؤدي به إلى الكفر فليس العمل وحده كافياً في الحكم عليه بالكفر، وإنما نحكم عليه بالكفر لأن عنده من الضغينة ما يؤهله للكفر، كيف ذلك؟ قالوا: لو أن شخصاً الآن يهين القرآن الكريم، فمجرد الإهانة لا يكفر بها، قالوا: بل إن علامة كفره أنه مبغض للقرآن ولذلك أهانه، وأوردوا هذا الكلام أو الاستنتاج الباطل لكي يقولون: لا يكفر المرء بالعمل، وإنما يكفر بالاستحلال، من أين أتيتم بالاستحلال؟ قالوا: هو ما أهان القرآن إلا لأنه مبغض له، فنكفره لأجل بغضه القرآن، لا لأنه أهان القرآن، أما أهل السنة والجماعة فقد أجمعوا أن العمل بمفرده يكفر به العامل.
هذه بعض المسائل التي أردت أن أنبه عليها قبل الشروع في شرح هذه الأصول، ثم ذكر أقوال العلماء سلفاً وخلفاً في إثبات أن الكفر يقع بالقول والاعتقاد والعمل، وهذا الذي أريد أن أؤكد عليه من أن الكفر كما يقع بالقول يقع بالعمل.
يعني: لو قام رجل الآن في المسجد وقال: أيها الناس! اشهدوا أنني كفرت وخرجت من الملة، وهو في حقيقة الأمر لم يعتقد ذلك، بل هو في قلبه محب للإسلام والمسلمين، هل لنا أن نكفره؟ نعم، بل يجب علينا جميعاً أن نكفره؛ لأنه نطق بكلمة الكفر مختاراً لها غير مكره عليها، وقد انتفت عنه الموانع كالجنون والسفه والسكر وغير ذلك، أما من نطق بكلمة التوحيد وعمل بمقتضاها، لكنه في نفسه يكره هذه الكلمة، فهل يكون هذا مؤمناً؟
الجواب
هو عند الله ليس مؤمناً وإنما هو مسلم؛ لأن أحكام الإسلام تجري على الظاهر.
فإذا كانت هذه قاعدة أصيلة عند أهل الإسلام، أي: أن أحكام الإسلام تجري على الظاهر، فإن من أتى عملاً ينقض به إسلامه وإيمانه أجريناه كذلك على الظاهر، ومن المقطوع به عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلمة (ينقص بالمعصية) إشعار بأنه لا ينقض بالمعصية، وهناك فرق بين كلمة: ينقص بالمعصية، وينقض بالمعصية، فينقض يعني: من أصله، فلا يبقى منه شيء، ولعلكم تذكرون نص إبراهيم بن عيينة أخي سفيان لما قال سفيان: الإيمان يزيد وينقص، قال: قل: يزيد، قال: اسكت يا غبي! فإنه ينقص حتى لا يبقى منه شيء، أي: أنه ينتهي تماماً، إما بالقول أو بالاعتقاد أو بالعمل؛ لأن هذه مكونات الإيمان وأركان الإيمان.
وتارة يقول السلف: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان -الجوارح- واعتقاد بالجنان -القلب- وتارة يقولون: قول وعمل ونية، ولهم عبارات لا تختلف عن هذه في معناها.(38/7)
الإجماع على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل
قد حكى غير واحد إجماع الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين على ذلك، ومن هؤلاء الإمام الشافعي، فقد حكى الإجماع على أن الإيمان قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وكذلك البغوي، قال ابن تيمية في كتاب الإيمان من مجموع الفتاوى نقلاً عن الإمام الشافعي رحمه الله: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعده ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر، أي: إلا مع الآخر، فكيف يقال لمن ترك العمل بالكلية أو ترك عملاً أثبت النص أن تاركه كافر أو انعقد الإجماع عليه إنه مؤمن؛ لأن الضابط لمسائل الإيمان والكفر هو النص أو الإجماع.
وقال البغوي في شرح السنة: اتفقت الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لكن منها ما هو أصل في الإيمان، ومنها ما هو في الإيمان الواجب، ومنها ما هو في الإيمان المستحب.
قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، وكذلك نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، فقال في التمهيد: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، بل أصبح هذا مما يميز أهل السنة والجماعة عن أهل البدع، فإذا كان هذا من الأمور المقطوع بها وهي محل إجماع السلف، فكذلك من المقطوع به عندهم أن من الأقوال والأعمال ما هو كفر أكبر؛ لأنه في الحقيقة محفوظ عند الإخوة أن الكفر كفران: كفر أكبر وكفر أصغر، أما الكفر الأكبر فهو المتعلق بمسائل الاعتقاد، وأما الكفر الأصغر فهو المتعلق بمسائل العمل، وهذا الإطلاق يحتاج إلى نظر، بل من مسائل الاعتقاد الصغيرة ما لا يكفر بها قائلها، ومن مسائل العمل الكبيرة ما يكفر بها فاعلها.(38/8)
خطأ مقولة: كل خير في اتباع من سلف وكل شر في اتباع من خلف
كما يطلق الناس شعارات أخرى تحتاج إلى نظر، ومنها أنهم يقولون: (كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف) وهذا كلام محفوظ لدينا جميعاً، لذا لابد أن أقف عند هذا النص فأقول: ماذا تقصد بكلمة السلف؟ إذا كنت تقصد بهذه الكلمة أهل تلك الحقبة الزمنية والقرون الخيرية الأولى فهذا كلام فاسد؛ لأن من هذه القرون: المرجئة والخوارج والمعتزلة والأشاعرة وغير ذلك من الفرق الضالة، إذ إنهم ظهروا في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
فالقدرية ظهرت في أواخر عهد الصحابة، والمعتزلة ظهرت سنة (110هـ)، وكانت لها جذور قبل ذلك، والخوارج والشيعة ظهروا في زمن الخلافة الراشدة، فإطلاق لفظة: (السلف) على أصحاب القرون الثلاثة إطلاق يحتاج إلى تقييد.
والسلف هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان، أي: المحسنون في اتباعهم لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وللخلفاء الراشدين خاصة من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
أما أهل البدع الذين عاصروهم فليس اتباعهم خيراً، ولذلك هذا الكلام المطلق: (كل خير في اتباع من سلف) يحتاج إلى تقييد، إذ إن كل من سبقك هو سلفك، فالذي مات منذ عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً من أهل العلم هم لنا سلف، ونحن لهم خلف، فنحن يطلق علينا: الخلف، وسلفنا المباشرين بالنسبة إلى سلفهم هم خلف لهم، ولذلك هذا الإطلاق: (كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف) يحتاج إلى ضبط، وضبطه أن يقال: الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، سواء كان هذا الاتباع في أسلافنا أو فينا أو فيمن يأتي بعدنا إلى قيام الساعة.
والابتداع مذموم مردود على كل من أتى به حتى وإن كان ذلك في زمن الصحابة، لا أقول: إنه جاء من الصحابة مثل هذا، وإنما أقول: ظهرت البدع في زمن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهل يعني ذلك أن هذا الابتداع الذي حصل في زمن السلف أمر محمود وممدوح؟
الجواب
لا، فيكون الذي هو أوثق -على الأقل عندي- أن الخير كل الخير في الاتباع، وأن الشر كل الشر في الابتداع، سواء جاء هذا الخير عن السلف رضي الله عنهم أو عنا أو عمن أتى بعدنا.
وكذلك هذا الابتداع مردود على كل من جاء به، سواء من الأزمنة المتقدمة أو المعاصرة، أو التي ستأتي بعد ذلك إلى قيام الساعة.(38/9)
الإجماع على كفر من سب الله أو رسوله
ومن المقطوع به أيضاً عند أهل السنة: أن من الأقوال والأعمال ما هو كفر أكبر يخرج من الملة، وقد حكى غير واحد الإجماع على أن سب الله ورسوله كفر مخرج من الملة، ومن هؤلاء الإمام إسحاق بن راهويه، ومحمد بن سحنون وغيرهما، وقد ظن بعض الناس أن الكفر العملي لا يخرج صاحبه من الإسلام، وأن سب الله ورسوله مستثنى من ذلك، ولا دليل على هذا الاستثناء.
فلو قلت: سب الله يعتبر عملاً، وسب الرسول عمل، قالوا: الكفر العملي لا يخرج به صاحبه من الملة، وسب الله؟ قالوا: إلا سب الله ورسوله فهذا مستثنى.
إذاً: ما تقولون في سب الشريعة أكفر أم إيمان؟ كفر، فسيضطرون أن يزيدوا هذا في الاستثناء؛ لأنه لا ضابط لهذا الاستثناء، ومنهم من يقول: الضابط في تكفير العامل بعمله أن يتعلق أو تتعلق المسألة التي خالف فيها بمسائل الإيمان.
لكن ذكرنا لهم أن بعض مسائل الإيمان لو خالف فيها العامد لا يكفر بذلك، فلابد أن تضطرب هذه القاعدة، إذاً فما هو الضابط؟ لابد أن يكون هناك ضابط جامع مانع حتى يستقيم الأمر؟ الضابط: نص أو إجماع؛ لأن الأمر لا يستقيم إلا بهذا، فإما أن يأتي النص فيقول: هذا العمل من الإيمان، وأن تارك هذا العمل كافر بالله، وإما أن ينعقد إجماع العلماء على أن من فعل كذا كفر، فإذا كان عندي نص أو إجماع حلت القضية، لكن شخص يجتهد ويقول: إذا كانت المسألة من مسائل الإيمان وفرط فيها العامل فإنه يكفر بذلك! فيرد عليه: هناك من مسائل الإيمان ما إذا فرط فيها العامل لا يكفر، ومن مسائل العمل ما إذا فرط فيها العامل كفر بذلك.
إذاً: تقسيم الكفر إلى: كفر اعتقادي وكفر عملي، وأن العملي لا يكفر به العامل لأنه من مسائل العمل، كلام غير سليم؛ لأن من الأعمال ما يكفر بها العامل.
قال: فظن بعض الناس أن الكفر العملي لا يخرج صاحبه من الإسلام، وأن سب الله ورسوله مستثنى من ذلك، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، بل حكى غير واحد الإجماع على أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ومن هؤلاء: ابن حزم، والشيخ سليمان آل الشيخ، وعبد الله أبا بطين، والشيخ محمد بن إبراهيم مفتي السعودية، فسقطت دعوى الاستثناء.
ومن فرق بين سب الله أو رسوله وبين أي قول أو عمل أجمع المسلمون على أنه كفر كالذبح لغير الله، فقد أخطأ.
والذبح لغير الله عمل، فهل هذا العمل في ذاته كفر أم لا؟ كفر؛ لأنه قربة لغير الله عز وجل، وأن هذا العمل لا يجوز صرفه إلى الناس، كذلك: الطواف حول الكعبة عبادة وطاعة وقربة، لكن حول القبر شرك وكفر، لكن هل هذا الطواف قول أم عمل؟ عمل، فلو طاف إنسان حول غير بيت الله، وقصد بذلك الطواف القربة، فإنه يكفر بذلك، لكن لو أن رجلاً طاف بعمود يبحث عن حذائه، فهل تقول له: أنت طفت بغير بيت الله فتكفر بذلك؟! لا، فالطواف حول غير بيت الله لابد أن يكون بقصد القربة، والذي يطوف حول البدوي والحسين والسيدة وغيرهم، إنما يفعل ذلك قربة وطاعة، ولذلك الطواف حول غير بيت الله كفر مع أنه من الأعمال.
والنذر لغير الله تعالى كفر، كأن يقول أحدهم: يا حسين لو نجَّحت ابني فسيكون لك في ذمتي مائة جنيه! وكذلك السجود لصنم، إذ إن السجود عبادة لا يجوز صرفها إلا لله تعالى، فلو أن إنساناً سجد لصنم فإنه يكفر بذلك، بشرط أن يكون عارفاً وعالماً بما يفعل، فلو أنني الآن سجدت وجاء شخص وأنا ساجد وواضع أمامي صنماً، فهل أكفر بذلك؟ لا أكفر بذلك، إلا إذا ذهبت راضياً مختاراً مع علمي أن هذا صنم وسجدت له، فهنا يكفر به الفاعل في هذه الحالة.
فإن كان هناك صنم قائم، وأردت أن أصلي لله تعالى، فوافق سجودي محاذاة هذا الصنم وأنا لا أعلم أنه صنم، وربما ما علمت ذلك بعد الفراغ من الصلاة، فهل يكفر بهذا العمل؟
الجواب
لا يكفر؛ لأن هناك مانعاً من موانع الكفر وهو الجهل، إذ إنه لما صلى إلى هذا الصنم لم يكن يعلم أنه صنم.
قال: فلا يظن ظان أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، إذ لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من علماء أهل السنة والجماعة خلاف ذلك، وزعم بعض الناس أنه لا يكفر إلا من اعتقد الكفر، أما من تلفظ به أو عمل ما هو كفر صراحة فلا يكفر، إذ الكفر عنده هو الاعتقاد فقط، وهذا مذهب المرجئة كما تعلمون، إذ إنهم يستدلون بتقسيم بعض العلماء للكفر إلى: كفر عملي واعتقادي، وأن الأول كفر أصغر، والثاني كفر أكبر، دون تفريق بين الكفر العملي الذي يعنيه العلماء، والكفر بالعمل أو الأعمال المكفرة.(38/10)
موانع التكفير
مما تقدم نشأت شبهة عند بعض الناس وهي: أن المرء لو عمل عملاً كفرياً كالسجود لصنم أو صليب أو قال قولاً كفرياً كسب الله ورسوله، أو استهزأ بآيات الله لشهوة أو غرض دنيوي فإنه لا يكفر ما لم يعتقد، أي: ما لم يستحل ذلك -وهذا كلام في غاية الفساد- وعدوا ذلك مانعاً من موانع التكفير؛ لأنه ما فعل ذلك معتقداً ولا مستحلاً ولا جاحداً، إنما فعل ذلك لغرض دنيوي كشهوة أو غير ذلك، مع أن علماء السنة أجمعوا أن موانع التكفير أربعة: المانع الأول: الجهل، أي: الجهل بأن هذا القول كفر أو أن هذا العمل كفر، فلو قال القائل قولاً وهو لا يعلم أنه كفر، أو عمل عملاً وهو لا يعلم أنه كفر فلا يكفر.
المانع الثاني: الخطأ، كأن يقول المرء قولاً خطأً لم يقصده ولم يتعمد النطق به أو العمل، لكن بادر إلى النطق به أو إلى عمله على سبيل الخطأ، لا على سبيل العمد والإصرار والتأويل أو الشبهة؛ لكن لو انتفت عنه الشبهة وذهب عنه التأويل لا يقول هذا ولا يفعله، فإذا قاله متأولاً أو بشبهة فإنه لا يكفر بذلك، ولا زالت الشبهات كلها رافعة للإثم، ولذلك عند الأحناف أن للمرأة أن تزوج نفسها إذا كانت بالغة رشيدة مختارة للكفء، فيجوز الزواج بهذه الشروط بغير ولي، وهذا الرأي مصادم مخالف للنصوص الشرعية في وجوب وفرضية الولاية في النكاح.
لكن لو أن امرأة نكحت بغير إذن وليها، فهل نحكم على هذا الزواج بالبطلان، وأن نتاج هذا الزواج أو هذا النكاح الزنا؟ لا نقول بذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنحاكها باطل باطل باطل)، تأكيد ثلاث مرات، فلا نبطله نحن لوجود شبهة الأحناف؟! خاصة وأن هذه الدساتير والقوانين في باب المعاملات الشرعية أو الأحوال الشخصية أخذت بمذهب الأحناف في هذا، وليس كل الناس يذهبون إلى المساجد لكي يتعلموا العلم، كما أن هذه الوسائل المرئية والمقروءة والمسموعة تضلل الناس في الليل والنهار في أمر دينهم، فربما سمعوا كلمة من إمام مضل في باب الولاية في النكاح فظنوا أن هذا هو دين الله تعالى، وذهبوا إلى المأذون فقالوا: هل يلزم الولي؟ فيقول المأذون متبرعاً ومتفضلاً: لا يلزم؛ لأن عنده القانون الذي يعمل من خلاله والذي يقول: لا يلزم الولي.
فهل إذا تزوجت المرأة على اعتبار هذه الشبهة -شبهة الأحناف- نقول: نكاحها باطل وأنها زانية، وإذا قلنا: زانية، فهل يقام عليها الحد، أم يدرأ بالشبهة؟ أنتم تعملون أن هذه كلها مسائل فرعية، ولو قلنا ببطلان هذا النكاح لكان لزاماً علينا أن نقول: إن ثلث نكاح الأمة باطل، أو أكثر من ذلك.
إن منطقة شرق آسيا بأكملها على مذهب الأحناف، وتصور أنك تذهب إلى ملايين مملينة من الناس وتبطل أنكحتهم، وتثبت أن هذا النكاح ما هو إلا زنا، هل هذا يتصور؟
الجواب
هذا النكاح صحيح، وإن كنا لا نعتقد ذلك، لكن هو صحيح على أصل شبهة الأحناف، وتبني هذه الحكومات لمذهب الأحناف، فلا نبطل أنكحة الناس والحالة هذه، وإن كنا نأمر كل واحد ألا يتزوج إلا بولي وشاهدي عدل وإشهار وإيجاب وقبول، وغير ذلك من أركان النكاح الصحيح على مذهب جماهير العلماء.
لكن دائماً أقول: الشبهة دارئة للإثم، ولذلك لو وقع إنسان في الكفر قولاً أو عملاً بشبهة أو بتأويل هل يكفر بذلك؟ لا، إذاً: من موانع التكفير: الجهل والخطأ والشبهة أو التأويل.
المانع الرابع: الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فإن أكره على النطق بكلمة الكفر، فهل يكفر بذلك؟ لا يكفر بذلك، وأنتم تعلمون أن صناديد الكفر والشرك كانوا يعذبون بلالاً، وصهيباً، وعماراً وغيرهم رضي الله عنهم حتى ينطقوا بكلمة الكفر، لكنهم لم يفعلوها، هل لأن فعلها والنطق بها غير جائز لهم أو أخذاً بالعزيمة؟ أخذاً بالعزيمة.(38/11)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الإيمان
وهنا باب عظيم من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من غلب على ظنه أن نهيه عن المنكر يسبب له مضرة عظيمة تذهب بماله أو بنفسه، والمصلحة في التغيير راجحة وعامة، كانت العزيمة أن يضحي بنفسه، لكن لو كانت المضرة ستلحق العامة فلا يفعل، فمثلاً: لو أنني ذهبت لكسر صنم بوذا، فهل هذه المصلحة العائدة عامة أو خاصة؟ عامة، لكني على يقين أن حراس هذا الصنم سيقتلونني وحدي، فهل يجوز لي والحالة هذه أن أذهب وأنا على يقين أو غلبة الظن بالهلكة؟ يجوز؛ لأنني سأضحي بنفسي في مقابل نفع العامة، لكن لو أنني عملت عملاً سيجر علي وعلى من كان على شاكلتي من شرق البلاد وغربها، ويرميهم في السجون أو غير ذلك من المضرة العامة؛ ففي هذه الحالة لا يجوز لي أن أغير هذا المنكر، مع اعترافي وإقراري واعتقادي بأنه منكر، لكن ربما لا يتغير هذا المنكر، ولا تتصور أنك بمجرد ما تذهب لتكسير ملهى ليلي أنك بذلك تكون قد غيرت المنكر.
ولذلك نحن نقول: من أصول الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهي عن المنكر يقتضي تغييره، أي: تغييره حتى يصير معروفاً، أما إن ذهبت وكسرت الملهى الليلي الفلاني فأنا بذلك لم أغير المنكر، بل إنه سيبنى على أحدث طراز، فكانت هذه بركة أتت منك؛ لأنهم كانوا من زمن يريدون هدمه ولم يستطيعوا، فعندما ذهبت وعملت الذي عملته، قاموا هم وأكملوا بقية الملهى، يعني: كأني لم أكسره وأفجره، إذ إنهم بأنفسهم أصحاب الملهى فجروه؛ حيث أنه عندما يأتي بعد ذلك التعيين، أي: تعيين المكان، فالإرهابيون هم الذين كسروا الملهى الفلاني، إذاً فهذا يبنى على نفقة الدولة، على نفقتي أنا وأنت، ألم أقل: إننا نكون الدولة؟ ألسنا بمجموعنا نمثل الدولة؟ إذاً: فالملهى الفلاني بني على نفقة الدولة، يعني: على نفقتي ونفقتك، والسؤال الآن: هل زال المنكر؟ لم يزال، بل أدى إلى منكر أعظم، وهو إرجاع هذا المنكر على أحدث طراز، والمنكر الثاني أنهم لما قبضوا علي قبضوا على من كان على شاكلتي من شرق البلاد وغربها، فالمصلحة هنا ليست متحققة أبداً، ولا حتى مظنونة، إذاً فما المتحقق؟ الضرر العام.
ففي هذه الحالة هل أنا مكلف شرعاً أن أغير هذا المنكر؟
الجواب
لا، إذ إنني مكلف أن أغيره بقلبي أو بلساني، فأقول: أيها الناس! حرام عليكم، أيها الناس! لا يجوز هذا، أيها الناس! ربنا قال كيت والرسول قال كيت، فإن سمعوا فخير وبركة، وإن لم يسمعوا فقد أديت الذي عليًّ.
ويبقى بعد ذلك أن أغير بقلبي، ولذلك العلماء يقولون: إذا جلست في مجلس فيه منكر، فإما أن تأمر وتنهى، أي: تزيل هذا المنكر، وإما أن تزول أنت عنه، فمثلاً: أنا عندما أجلس على مائدة، وبعد ذلك يأتي أناس يوزعون على الجالسين قوارير من خمر، فأنا لو كنت أعلم أنه سيكون كذلك لم أذهب، ثم سألت: ما هذا؟ قالوا: هذا خمر، لكن خمر على مستوى رفيع، فأقول: هذا حرام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، والله عز وجل قال كذا وكذا، فيقولون لك: ساعة لقلبك وساعة لربك! كيف هذا الكلام؟ النبي عليه الصلاة والسلام لعن قوماً جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر، سواء من شرب أو لم يشرب، فقبل أن أقوم قلت لهم: حرام عليكم، وأقمت عليهم الدليل من القرآن والسنة وقول العلماء، وخوفتهم فلم يرتدعوا، فما المطلوب إذاً؟ أخرج من عندهم، فإما أن تزيل المنكر وإما أن تزول أنت عنه.(38/12)
فهم العبد للنصوص شرط في قيام الحجة عليه
وعلى أية حال أنا أريد أن أقول: إن موانع الكفر أربعة: الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه، فمن وقع في كفر عملاً أو قولاً، ثم أقيمت عليه الحجة، وبين له أن هذا كفر يخرج من الملة، فأصر على فعله طائعاً غير مكره، متعمداً غير مخطئ ولا متأول؛ فإنه يكفر بذلك، ولو كان الدافع إليه غرضاً دنيوياً؛ لأنه قد علم أن هذا العمل كفر، أو هذا القول كفر، وقد قاله مختاراً غير مكره، راضياً به غير محمول عليه، وغير مخطئ في الإتيان به، وغير متأول ولا شبهة له، بل قامت عليه الحجة وفهمها؛ لأن الحجة لا تقوم على العبد إلا بالفهم؛ لأن بعض الناس يتصور أن مجرد سرد النصوص حجة، وهذا خطأ، بل الحجة هي فهم هذا المحجوج لهذه النصوص، فأنا الآن أقول لك: هذا الذي تعمله حرام، بدليل أن الله قال كذا وكذا، والرسول قال كذا وكذا، ولكن هذا الشخص لا يفهم آية ولا حديثاً، فهل بمجرد سرد هذه النصوص والأدلة تكون الحجة قد قامت عليه؟
الجواب
لا، إذ إن الحجة لا تقوم على العبد إلا بعد أن يفهم هذه الحجة وهذا النص.
كذلك: لو قال الولد لأبيه: يا أبت تعليق هذه الصور حرام، ولابد أن تنزل صورتك أنت وأمي من على الجدار، وإلا فسوف أنزلها وأكسرها على رأسك أنت وهي! والرسول قال كيت وكيت، والأب سيقول: لم أفهم شيئاً، فهل تعتقد أنك بهذا السرد للأدلة قد أقمت الحجة؟ لا، بل لابد أن يفهم كلامك الذي نسميه (الحجة)، كلامك هذا نقلاً عن كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأقوال العلماء وفهمهم لهذه النصوص، عندما تبلغ هذا كله لأبيك سرداً لا تقوم الحجة بذلك حتى يفهم.
فإن فهم وأصر على العمل، أو أصر على القول، فننظر إلى هذا العمل وإلى هذا القول، هل هو من الأقوال أو الأعمال المكفرة؟ إذا كان الأمر كذلك فيكفر به.
أنا أتكلم على قيام الحجة العامة والمعتبرة، وليس مجرد أن هذا بينك وبين أبيك وكفى؛ لأن قيام الحجة لها شروط وضوابط ليس هذا محلها؛ لكني أقول: لا يكفر المرء إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه -حتى ينتفي عنه مانع من موانع التكفير وهو الجهل- والحجة الرسالية: قال الله وقال الرسول وأجمع أهل العلم، وأن يفهم ما يتلى عليه شرحاً وبياناً وإيضاحاً؛ حتى لا يكون له يوم القيامة عذر بين يدي الله عز وجل، إلا إصراره على ما هو عليه من قول أو عمل، وإذا كان هذا العمل ليس من الأعمال المكفرة فينظر: هل هو من الأعمال التي يأثم بها في باب الواجبات أو المحرمات، أو أن هذا العمل في باب الكمال والاستحباب أو في المباحات، وأنه فوت على نفسه -وإن لم يأثم- فضلاً عظيماً وثواباً عميماً.
يحتاج إلى معرفة أن هذا صنم، وقد سجد رجل أمامي لصنم في أمريكا، وهذا الصنم على عمود من الأعمدة، والذي لا ينظر إلى قمة العمود يتصور أنه عمود قائم؛ لأن رأس الصنم فوق، فالذي لا ينظر إلى فوق لا يعلم أن هذا صنم.
إذاً: هذا الباب باب واسع، بل أوسع من باب الفقه، إذ إن باب الفقه عندما نتكلم فيه عن مسألة من مسائل الفقه؛ كل واحد منا يدور في ذهنه فرعية من الفرعيات.
بينما مسائل الإيمان والكفر أوسع من ذلك بكثير، وأنا قلت في أول المحاضرة: اعتبروا أن هذا أول درس في مسائل الإيمان والكفر، ويبقى معنا بعد ذلك دروس عديدة، فأرجو ألا يتسرع الإخوة بتوجيه الأسئلة، وربما يأتي الجواب عن سؤالك دون أن تسأل.
ونخلص مما ذكرناه إلى أن مجمل أقوال العلماء تنحصر في عبارات أو في كلمات وتعريفات: أن الكفر يكون بالقول أو الفعل كما يكون بالاعتقاد، ولذلك لم يقيده عامة السلف بالاعتقاد، وأن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، وأن الكفر يكون بالقول أو الفعل وإن لم يعتقد، وهذا كفر المنافقين، أي: أن هذا هو النفاق لأول وهلة.
فلو أن رجلاً قد أتى بكلمة الإسلام وعمل في الظاهر بمقتضى هذه الكلمة، لكنه لم يعتقد صحة هذه الكلمة، فهل ينتفي تمام الإيمان بذلك؟
الجواب
لا؛ لأن العلماء هنا قد نصوا على عدم شرطية الاعتقاد؛ لأن المرء يكفر بمجرد العمل إذا كان متعلقاً بأصل الإيمان، وأن الكفر بالقول والعمل يثبت للمرء، ولو أنه قال ذلك أو عمل ذلك لغرض من أغراض الدنيا.
نكتفي بهذا القدر، وإن شاء الله تعالى لنا لقاءات كثيرة في مسائل الإيمان والكفر.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(38/13)
شرح كتاب الإبانة - قواعد وأصول في مسائل الإيمان والكفر
منهج أهل السنة والجماعة في مسائل الإيمان والكفر ينبني على أصول وقواعد، هذه الأصول والقواعد تمنع من إطلاق الكفر على المسلمين، إلا إذا أتى المسلم ناقضاً من نواقض الإسلام، أو عملاً نص الكتاب أو السنة على أنه كفر، مع تحقق الشروط وانتفاء موانع التكفير.(39/1)
سبب اختلاف الناس في مسائل الإيمان والكفر اختلافهم في تعريف الإيمان
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
في الدرس الماضي تكلمنا عن قواعد ومسائل، قلنا إنه ينبغي أن نقف عليها قبل أن ندخل في سرد أقوال السلف فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر، وقد اتفقنا تقريباً على بعض القواعد والأصول، ونكمل في هذه المحاضرة بقية هذه القواعد التي ينبغي أن نتفق عليها، وإلا فإننا إذا اختلفنا في الأصول فلابد أن نختلف في الفروع.
من هذه القواعد: أن علة الاختلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً فيما يتعلق بمسألة الإيمان والكفر اختلافهم في حقيقة الإيمان ومعناه، فلو أنهم جميعاً اتفقوا على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص لما كان هناك خلاف، ولكنهم اختلفوا في تعريف الإيمان.
فمنهم من قال: الإيمان هو التصديق، وهذا قول المرجئة.
ومنهم من قال: الإيمان هو الإقرار.
ومنهم من قال: الإيمان هو المعرفة، يعني: معرفة الإنسان لله عز وجل بقلبه، ولاشك أنه على هذا التعريف يكون إبليس مؤمناً، وفرعون مؤمناً؛ وذلك لأنهم مقرون داخلاً بالله عز وجل.
ومنهم من قال: الإيمان هو العلم، أي: العلم المجرد بعيداً عن النطق، وبعيداً عن الاعتقاد، فهم يعلمون في أنفسهم أن الله إله واحد، ولكنهم لم ينطقوا ولم يعملوا بذلك، فهم عند الجهمية مؤمنون.
فلما اختلف تصور الناس، واختلف تصور العلماء حول حقيقة الإيمان فلابد أن يقع الاختلاف فيما يتعلق في المسائل المتعلقة بالإيمان سلباً وإيجاباً، فعلة الاختلاف: هي الخلل الواقع في تعريف الإيمان.(39/2)
معرفة الإيمان وحقيقته عند أهل السنة والجماعة
الذي يعنينا من هذا كله هو معرفة الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
إن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة)، الصحابة رضي الله عنهم لما علموا سلفاً أن هذه الفرق لا تعنيهم وإنما الذي يعنيهم هو معرفة الحق سألوا عنه؛ ولذلك لما قال: (كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟!)، ولم يقولوا: من هم؟ فلم يسألوا عن الضلال وإنما سألوا عن الحق؛ لأنه هو الذي يلزمهم، وإذا عرف الإنسان الحق عرف أن ما عدا هذا الحق هو الباطل الذي يجب عليه أن يتجنبه وأن يحذره، ولذلك من المناهج الفاسدة الخاطئة في هذا الزمان وعلى الساحة الدعوية أن يعلم الشيخ تلاميذه ومدرسته أصول الفرق الضالة قبل أن يعلمهم أصول أهل السنة والجماعة، فمن الأصول التي ينبغي على طالب العلم أو على المسلم عموماً أن يتعلمها وأن يعتقدها اعتقاداً جزماً: معرفة الإيمان وحقيقته.
فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل.
ومنهم من قال: قول وعمل ونية.
ومنهم من قال: قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان.
وهذه التعاريف مؤداها واحد، وهو أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان، وعمل بالقلب والجوارح.
هذا تعريف الإيمان.(39/3)
دخول العمل في الإيمان واختلاف الأعمال في تأثيرها على الإيمان
والإيمان على هذا النحو يشمل العمل، وإذا كان الإيمان يشمل العمل فلابد أن يزداد وينقص على حسب عمل العامل، فإذا كان عاملاً بالطاعة ازداد إيمانه، وإذا كان عاملاً بالمعصية نقص إيمانه، فينقص ثم ينقص حتى لا يبقى منه شيء، وكما قلنا من قبل: إن دائرة الإيمان ضيقة في وسط دائرة عظيمة واسعة اسمها دائرة الإسلام، وإذا انتفى الإيمان عن العبد فلا يعني ذلك أنه قد خرج من الملة، وإنما يعني ذلك: أنه سقط من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام.
وإذا قرأنا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)، علمنا أن نفي الإيمان هنا هو نفي للإيمان الواجب، فعندي أن الإيمان ثلاثة كما أن الأعمال ثلاثة، فارتباط الأعمال بالإيمان وارتباط الإيمان بالأعمال ارتباط وثيق، فإذا كان العمل متعلقاً بأصل الدين الذي إذا انتفى هذا العمل انتفى معه الدين، فهذا يدل على ردة من أتى هذا العمل، كمن سب الله تعالى، أو سب الشريعة، أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام، أو استهزأ بآيات الله عز وجل، هذا كله عمل، فمن فعل ذلك خرج من الملة وارتد عن دين الإسلام بالكلية.
إذاً: نفي الإيمان هنا إنما هو نفي لما هو أصل الإيمان لا للإيمان الواجب، أما الإيمان المستحب أو المندوب فهو المتعلق بالسنن والنوافل وغيرها، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وقال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به -أي: لا يسمع إلا بي، ولا يحب أن يسمع إلا ما يرضيني- وكنت بصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) إلى آخر الحديث.
فلو أن واحداً قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فبلا شك أن هذا في الظاهر يثبت له الإسلام، فله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، لكن إن قال هذه الكلمة وهو يبغضها، أو لا ينقاد لها ولا يذعن لها، أو يشك فيها ويرتاب؛ فلا شك أنه عند الله منافق وإن ثبت له الإسلام ظاهراً، حتى وإن عمل ظاهراً بمقتضى هذه الكلمة ولكنه يشك فيها، أو لا يؤمن بها، أو قالها تعوذاً، فهذا شأن المنافقين.
إذاًَ: عندي تفريق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان هو أصل الإيمان الذي إذا جاء ذكر النفي له فهو نفي لحقيقة الإسلام، أما الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل التام، وإذا جاء ذكر لنفي هذا الإيمان فإنما هو نفي الكمال والتمام، ونفي الإيمان الكامل لا ينفي أصل الإيمان.
شخص يقتل، أو يزني، أو يسرق، أو ينتهب نهبة أو غير ذلك من المعاصي، فنقول له: أنت لست مؤمناً.
نعني: لست مؤمناً كامل الإيمان، أما قولنا: لست مؤمناً بمعنى أنه كافر فهذا لا يكون إلا فيما يتعلق بأصل الديانة، أو ارتكاب ما يخل بأصل الدين، أو عمل عملاً أثبت النص أن من عمله فقد خرج من الملة، أو انعقد الإجماع على ذلك، فإننا كما قلنا من قبل: إن هذه المسائل لابد أن يكون فيها نص أو إجماع، فإذا قال لي شخص: ما هو الفارق والضابط بين اعتباري لهذا العمل أنه من أصل الإيمان أو من الإيمان الواجب؟ سأقول له: الضابط لذلك أن يأتيني نص يثبت هذا أو إجماع انعقد على أن من فعل ذلك فقد ارتد.(39/4)
إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة على أن العمل من الإيمان
القاعدة الثانية: إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن العمل من الإيمان.
هذا الإجماع نرد به على المرجئة الذين يقولون: لا علاقة للعمل بالإيمان، ويقولون: إن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا كلام في غاية البطلان والتهافت والسقوط؛ وذلك لأن الإيمان عندهم هو التصديق، فإن قيل: لماذا وقع المرجئة في هذا؟ أقول: للخلل في معرفة حقيقة الإيمان، فإذا بالمرجئة يقولون: هذا الإيمان ليس قولاً ولا عملاً ولا يزيد ولا ينقص، إنما هو التصديق، فإذا صدق المرء بقلبه، ويا حبذا لو نطق ذلك بلسانه؛ فقد ثبت له الإيمان الكامل وإن لم يعمل شيئاً، أي: وإن ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج، وارتكب جميع الموبقات، قالوا: لأن العمل خيره وشره ليس من الإيمان، ولا علاقة له بالإيمان، فأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان وعن حقيقة الإيمان، فسواء عمل هذا المصدق الطاعة أو ارتكب المعصية فسيان، وعند المرجئة لو أن العامل أو المؤمن عمل صالحاً وانتهى عن السيئات فهذا فضل منه، يعني: يثاب على ذلك فوق الكمال والتمام، وهذا بلا شك تجن وتأل على الله عز وجل.
نحن قلنا من قبل: إن الإجماع من مصادر التشريع، ويا حبذا لو كان هذا الإجماع هو إجماع الصحابة، فلا يجرؤ أحد أن يطعن في الإجماع، خاصة إجماع الصحابة؛ لأن إجماع الصحابة محل اتفاق، فإذا أجمع الصحابة والتابعون على أن العمل من الإيمان كان هذا دليلاً في وجه الجهمية وفي وجه المرجئة في آن واحد؛ لأنهم أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان.(39/5)
الكفر منه ما هو اعتقادي ومنه ما هو عملي، ولكل منهما ضوابط
القاعدة الثالثة: الكفر منه ما هو اعتقادي ومنه ما هو عملي، وضابط الكفر العملي والاعتقادي كذلك النص والإجماع؛ لأن بعض الناس تصور أن الضابط لمعرفة الناقض للإيمان -كفرياً أو عملياً- أن يكون هذا المنقوض متعلقاً بالإيمان، أو متعلقاً بالعمل؛ فهكذا اجتهد، وهذا كلام لم يقله أحد من أهل العلم، وإنما هذا من بنات أفكاره، والصواب: أن الضابط لمعرفة ما إذا كان هذا كفراً اعتقادياً أو عملياً، هو ورود النص أو وجود الإجماع المنعقد على أن هذا كفر عملي أو كفر اعتقادي.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (قتال المسلم كفر، وسبابه فسوق) هذا نص، فإذا قلت: هل هذا الكفر اعتقادي أم عملي؟ لابد أن أقول: إن هذا الكفر كفر عملي ليس مخرجاً من الملة، وذلك لوجود النص ووجود الإجماع، أما النص فقال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فسمى الله تعالى القاتل أخاً: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ)، وقال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فأثبت أن القتال يكون بين طائفتين من أهل الإيمان، فالقتال لم ينف عنهما صفة الإيمان، كذلك إجماع الأمة على أن المسلم إذا قتل صاحبه فلا يكفر بهذا القتل، وإلا لو كان كافراً للزم قيام الحد عليه ردة، لكن قيام الحد يكون قصاصاً، فالذي يقام عليه الحد قصاصاً هل يكون مرتداً أو كافراً؟ لا يكون كذلك، وانعقد الإجماع على أن قاتل المسلم لا يكفر بذلك.(39/6)
التفريق بين الكفر العملي المخرج من الملة والكفر العملي غير المخرج منها
عند هذه النصوص: (قتال المسلم كفر)، أريد أن أعرف: هل هذا الكفر اعتقادي؟ إذا كان اعتقادياً كفر به صاحبه وخرج من الملة والإسلام، أما إذا كان عملياً فينظر: إذا كان من العمل الذي إذا ارتكبه العامل أخرجه من الإسلام، أم أنه من الأعمال التي لها مكفرات وحدود حدها الشرع كحد الزنا والسرقة والقتل وشرب الخمر وغير ذلك من الحدود لم يخرج من الإسلام؛ لأن بعض الناس انطبع في ذهنه أن الكفر الاعتقادي مخرج من الملة، وهذا كلام سديد، أما الذي ليس كذلك فهو ما انطبع في أذهانهم أن الكفر العملي مطلقاً لا يخرج به صاحبه من الملة، وهذا هو الخطر، بل هذا بيت القصيد بين أهل السنة ومن عداهم، فغير أهل السنة يعتبرون أن الكفر العملي مطلقاً لا يخرج به صاحبه من الملة، ويقولون: هو كفر عمل -أي: كفر دون كفر- ليس هو الكفر الذين تذهبون إليه المخرج من الملة.
والحقيقة أن الكفر العملي لابد أن ننظر فيه إلى نوع العمل الذي انتهشه وارتكبه العامل، فإن كان متعلقاً بالدين نصاً أو إجماعاً فإن الكفر العملي حينئذ معناه بالخروج من الملة، وإذا كان متعلقاً بالإيمان الواجب، بالحلال والحرام والواجبات في الإسلام وغير ذلك، فلاشك أن نفي الإيمان هنا إنما هو نفي للإيمان الواجب وليس الكامل، أما الكامل فهو المستحبات والمندوبات وغير ذلك، وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السابع، فقد خصص هذا المجلد كله من أوله إلى آخره فيما يتعلق بقضايا الإيمان والكفر، وهذا الكتاب لا يشبع منه القارئ، وهو مجلد متعلق بالإيمان ومسائل الإيمان، لا يمل منه طالب العلم أبداً؛ لأنه كلام أحلى من العسل، كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فضلاً عن تلميذه البار ابن القيم عليه رحمة الله في غالب كتبه، إذا تكلم عن مسائل الاعتقاد فإنه يقرر ما سمعتموه الآن، وهو ما تلقاه عن شيخ الإسلام ابن تيمية.
إذاً: الذي يعنيني في هذا الأصل: أن تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي لا يلزم منه أن العملي لا يكفر به صاحبه، بل لابد من النظر إلى أصل هذا العمل، فإذا كان متعلقاً بأصل الدين فلابد أننا سنحمل نفي الإيمان هنا على نفي الإيمان الأصلي، وإذا كنا نقول: إن العمل عملان: عمل يكفر به صاحبه؛ وعمل لا يكفر به صاحبه، فلا شك أن العمل الذي لا يكفر به صاحبه ليس متعلقاً بأصل الديانة، وإنما هو متعلق بأصل الإيمان.
مثال: الذبح لغير الله عمل، فإذا كان الكفر العملي لا يخرج به صاحبه مطلقاً من الملة، إذاً: الذبح لغير الله ليس كفراً مخرجاً من الملة، وكذلك السجود لغير الله، فإذا قلنا: إن الكفر العملي مطلقاً لا يخرج به صاحبه من الملة يلزمنا أن نقول: إن من سجد لغير الله لا يكون كافراً، وأنتم تعلمون يقيناً أن من سجد لغير الله كفر وخرج من الملة مع أنه عمل، وكذلك من سب الله أو سب الرسول أو سب الشرع أو سب الدين، أو استهزأ بآيات الله أو غير ذلك؛ كل هذا من الأعمال أو الأقوال، ومع هذا فقد أجمعت الأمة أن من ارتكب شيئاً من ذلك خرج من دائرة الإسلام ودخل في حظيرة الكفر.
إذاً: الذي يعنيني في هذا الأمر أن تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي تقسيم سديد وقال به كثير من السلف، أما اعتقاد أن الكفر العملي هو الذي لا يخرج به صاحبه من الملة فلا، فمن العمل ما يكفر به صاحبه -وقد ذكرت لكم أمثلة- ومن العمل من لا يكفر به صاحبه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ليس منا من فعل كذا وكذا وكذا، ولفظ (ليس منا) قد ورد في أحاديث كثيرة: قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها) (خبب) بمعنى: أفسد.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض)، أي: علامات وإشارات الأرض والدلالات على قوارع الطرق أو غير ذلك، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا) المقصود به العملي أم الاعتقادي؟ العملي، وهذا العمل لا يخرج صاحبه من الملة.
عندما يقف شخص عند كبري (المنصورة) ويجد لافتة فيها سهم إلى جهة الغرب يؤدي إلى المنصورة، وسهم إلى الجنوب يؤدي إلى الإسكندرية فقام هذا الشخص بتغيير هذه اللافتة؛ فأصبح طريق الإسكندرية هو طريق المنصورة والعكس، هذا الذي قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض)، فهل قوله: (ليس منا) يعني أن من عمل ذلك كفر وخرج من الملة؟ هل (ليس منا) نفي للإسلام والإيمان، أو نفي لأخلاق النبوة وآدابها، وأخلاق المسلمين وما هم عليه من التزام أوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه وغير ذلك؟ فهذا بلا شك من العمل الذي لا يكفر به صاحبه، خلافاً للأعمال السابقة التي ذكرتها، وقد انعقد الإجماع فضلاً عن هذا النص على أن من ارتكب شيئاً منها خرج من الملة.
ونقل غير واحد الإجماع كـ ابن حزم على أن الكفر يكون بالقول والفعل كما يكون بالاعتقاد، لا خلاف بين أحد من الناس أن الكفر يكون بالاعتقاد، كما أنه لو قال كفراً متعمداً غير جاهل ولا متأول ولا مكره كفر بالله.
يعني(39/7)
ضوابط الكفر بالقول ومذهب الفرق الضالة فيه
والكفر الثاني: وهو كفر القول، لو أن قائلاً قال قولاً كفراً مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع كفر بالإجماع؛ لكن الخلاف وقع في الكفر بالعمل على النحو السابق الذي ذكرت في تقسيم الكفر العملي إلى مخرج وغير مخرج، ومنهم من يقول -وهم المرجئة والجهمية على جهة الخصوص- لا يكفر العامل بعمله البتة حتى وإن كان العمل في ذاته كفراً؛ وذلك لأنهم يقولون إن العمل لا علاقة له بالإيمان، ولذلك سواء تعلق هذا العمل بالكفر أو لم يتعلق بالكفر؛ فإنه لا يؤثر على إيمان العبد بل على كمال إيمانه وتمامه، وهذا ضلال مبين، إذا رجعنا شيئاً إلى الوراء وقلنا: الإيمان عند أهل السنة قول وعمل، فلا شك أننا نقول: إن القول جزء من الإيمان لا يكون إلا به، وكذلك العمل جزء من الإيمان لا يكون إلا به، فإذا اختل العمل لابد أن يختل الإيمان، واختلال الإيمان المتعلق باختلال العمل يتوقف على نوع العمل.
الشاهد من ذلك أنني أقول: الإيمان قول وعمل، فإذا كان يتكون الإيمان من هذين فلابد لي أن أقول: وجود الإيمان مرتبط بوجود أمرين إذا انعدم أحدهما انعدم الإيمان، وأحياناً يكون القول ليس شرطاً في حق أحد الناس، فقد يكون شخصاً أخرس غير قادر على النطق، فالنطق ليس شرطاً في حقه، فإشارته إلى السماء بسبابته كافٍ، أو حتى مجرد إعرابه عن فهمه للكلام أو الإشارات الموجهة إليه كافية في إثبات ذلك؛ لأن عجزه عن الكلام والنطق وصممه أدى به إلى عدم النطق، فمن عجز عن القول كمن عجز عن بعض الأعمال، فالذي أخرج به من هذه القاعدة: إذا كان الإجماع قد انعقد على أن الكفر يكون بالاستحلال، والاعتقاد، والتكذيب، والجحود، فكذلك يكون الكفر بالقول ويكون الكفر بالعمل؛ لأن بعض الناس يقولون: العمل لا يكفر به العامل إلا إذا استحل، وهذا كلام المرجئة وكلام الجهمية، يقولون: مهما عمل العامل من عمل وإن كان ظاهره الكفر إلا أن الفاعل لا يكفر إلا إذا استحل، فمن أين يعرف أنه استحل؛ لأن الاستحلال شيء قلبي؟ ننظر لمتأخري الأحناف وبعض أهل العلم، قالوا: نعم.
سب الله كفر.
نقول: سب الله عمل، إذاً: أنتم تناقضتم مع أنفسكم؛ لأنكم قلتم: إن العامل لا يكفر بعمله إلا إذا استحل، فإن قالوا: لا، خالفوا الإجماع، كما خالفوا النص: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66] وغيره من النصوص، فالإجماع انعقد على أن من سب الله أو الرسول أو الشرع أو وطئ المصحف بقدمه أو سجد لصنم أو لغير الله كافر خارج من الملة، هذه مسائل من مسائل الإجماع لم يختلف عليها أحد.
فإذا قالوا: من سب الله لم يكفر؛ لأن هذا عمل، قلنا: خالفتم النص والإجماع، ومن خالف النص والإجماع فقوله غير معتبر، وإذا قالوا: نعم.
قلنا: هذا عمل، ومن أصول مذهبكم أنكم لا تكفرون بالعمل إلا إذا استحل العامل هذا العمل.
قال القائل منهم: نعم.
من أصولي أن العامل إذا عمل عملاً ظاهره الكفر لا يكفر بذلك إلا إذا استحل.
نقول: لم كفرته هنا؟ قال: لقرينة، فانظر إلى الكلام الفاسد.
قال: لقرينة.
فأنا لم أكفره بمجرد العمل، وإنما سبه لله تعالى يدل على بغضه الداخلي لله، وهكذا رد المسألة للاستحلال والاعتقاد؛ وذلك لأن العامل عندهم لا يكفر إلا إذا اعتقد، أي: استحل، وهذا كلام في قمة الفساد، ولم يقل به واحد من أهل العلم من سلف الأمة.(39/8)
يسر الإسلام باعتبار موانع التكفير
من موانع التكفير الجهل، وأنتم تعرفون أنه لو لم يكن الجهل من موانع التكفير لوقع معظمنا في هذا المحظور، فنحن نخطئ كثيراً في المسائل العملية، بل نخطئ في المسائل الاعتقادية، بل نخطئ في الأسماء والصفات وبما يتعلق بالذات العلية، فإذا لم نكن معذورين بهذا الخطأ أو بهذا الجهل، فإن الله تعالى كان ينبغي أن يكون له معنا شأن آخر، فمن رحمة الله عز وجل ويسر هذه الشريعة أن جعل الجهل مانعاً من موانع التكفير.
وكذلك الخطأ أو الشبهة: شخص يعمل عملاً خطأً أو متأولاً، عنده شبهة يعتقد أنه على الحق، فإذا به على الخطأ المبين؛ لذلك هو يقول قولاً ويرجع عنه غداً، يقول قولاً اليوم، فإذا تعلم وبانت له الحقائق رجع عن قوله وذم التعصب.
وكذلك الإكراه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وهذه طبعاً الرخصة، أما العزيمة فهي أن يثبت المرء على إيمانه وإن قتل؛ وذلك لأنه يضحي بأمر عام، خاصة إذا كان من أصحاب الوجاهة، وممن يشار إليه بالبنان.
ابتُلي أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بفتنة خلق القرآن، فـ أحمد بن حنبل طيلة عمره كان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فقد كفر، وإذا بالخليفة يحبسه ويضربه ويركبه على دابة، ويجعل ظهره في مكان وجهه، ووجهه في مكان ظهره، فيكون وجهه في دبر الدابة، ويطوف به بغداد، ويقول له: يا أحمد! قل للناس: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أحمد بن حنبل، فلا يزيد أحمد إلا أن يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك كفر.
إصرار منه إلى آخر لحظة، فطافوا به على بغداد، وجيء به فأدخل السجن، ودخل عليه رجل يشفق عليه.
قال: يا إمام! كلمة قلها تنج بها من الأسر؛ فنظر أحمد إلى ثلاثين ألفاً قد وقفوا بمحابرهم وأقلامهم، وقال: أقول كلمة يكتبها هؤلاء فتكون ديناً إلى قيام الساعة، لا والله لا أقولها، فخرج وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق.
وجاء أحمد بن أبي دؤاد عالم السلطة في ذلك الزمان، فقال: يا أحمد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى.
قال: أليس الله عز وجل خالق كل شيء؟ قال: بلى.
قال: إذاً: الله تعالى خالق لهذا القرآن.
قال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أليس القرآن شيئاً؟ قال: بلى.
قال: أليس الله تعالى قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] أتقول: أن هذا القرآن يدمر؟ فسكت أحمد بن أبي دؤاد؛ لأنه لو قال: نعم.
كفر وهو يعلم ذلك، وإن قال: لا.
أقيمت عليه الحجة، وانصرف الناس جميعاً وقد أخذوا قول أحمد، ولا يزال أهل السنة والجماعة يعتقدون صحة قول أحمد إلى أن تقوم الساعة، فإمام الفتنة في ذلك الزمان هو أحمد بن أبي دؤاد، وإمام الهدى والتقى والعلم هو أحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه، رجل علم أن مدار كلمة الأمة وصحة اعتقادها على قوله، فلابد أن يثبت وإن كان ثمن ذلك ذهاب روحه وخروج نفسه، فهذه من العزيمة في حقه، إذ لا يحل لـ أحمد بن حنبل أن يأخذ بالرخصة حينئذ، أما إنسان آخر من غثاء الناس لا يؤبه بقوله ولا يعبأ به، فلا بأس أن يقول كلمة الكفر حين الإكراه.
إن يحيى بن معين إمام من أئمة العلم في زمن أحمد بن حنبل، بل هو شيخ أحمد بن حنبل في الرجال، سقط هذه السقطة.
قال: القرآن كلام الله مخلوق، فخاصمه أحمد ولم يكفره، وهذا أمر سنتعرض له بعد قليل، فلما دخل يحيى بن معين لزيارة أحمد أشاح عنه أحمد بوجهه، فقال يحيى: يا إمام! والله إنك لتعلم أني لا أعتقد ذلك، وأنت تعلم أني أعتقد أنه غير مخلوق؛ ولكني قلت ذلك مخافة السوط.
اقرأ ترجمة يحيى بن معين تجده رجلاً نحيف البدن، هزيل الجسم، فضربة بسوط أو سوطين تنهي أمره ويكون ميتاً، ما قال ذلك إلا هروباً من الضرب، فهو معذور في هذا، والإكراه له شروط ليس هذا أوان سردها.
فموانع التكفير: الجهل، والخطأ، والتأويل أو الشبهة، والإكراه، حيث إن التكفير حكم شرعي له ضوابطه، وأحكامه وحدوده يجب مراعاتها، فلابد من قيام الحجة وفهمها، وفي الدرس الماضي قلنا: ليست العبرة في قيام الحجة على الشخص، بل العبرة في أنه يفهم هذه الحجة.
مثال ذلك: لو أنك قلت لشخص: الذي تعمله هذا حرام؛ لأن ربنا قال كيت وكيت وكيت، والرسول قال كيت وكيت، وهو لم يفهم نصاً واحداً، هل أقمت عليه الحجة بهذا؟ فهو لم يفهم معنى كلام الله ولا معنى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يفهم ما معنى إجماع الأمة، فلابد أن يفهم الرجل الحجة، كما يجب أن تتوفر الشروط المؤدية إلى إلحاق الكفر به، وتنتفي عنه الموانع المانعة من إلحا(39/9)
الفرق بين القول: العمل الفلاني كفر، والعامل كافر
إثبات الفارق بين قولنا: العمل الفلاني كفر، وقولنا: العامل كافر، هناك فرق بين القولين، وهذا أدى بكثير من الناس إلى إطلاق أحكام التكفير، فلو قلنا: إن سب الدين كفر، فلا شك أن هذا من مسائل الإجماع، لكن بشرط أن تتوجه إرادة الساب إلى قصد سب الدين، أما إذا كان هذا الساب عاملاً بأحكام الشرع ظاهراً وباطناً في الليل والنهار، وسبق لسانه في غير قصد منه إلى سب الدين فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد هذا السباب، ولم تتوجه إليه إرادته.
ولو أن شخصاً قصد بالدين الخلق كخلق المسبوب، إذ لم تتوجه إرادته قط إلى الدين الذي نزل من السماء، وإنما قصد بالدين خلق هذا المسبوب، فإن هذا لا يكفر حتى وإن كان سب الدين في ذاته كفراً، فنقول: القول الذي قلته كفر، لكن هل تكفر به؟ هذا موطن النزاع، القول قول كفر بلا نزاع، والنزاع: هل يكفر القائل أو العامل أو لا؟ ولذلك ليس كل من وقع في الكفر كافراً، كما أنه ليس من وقع أو تلبس ببدعة مبتدعاً.
ولذلك جاء عن بعض السلف أنهم كانوا متلبسين ببعض البدع ظناً منهم أنها السنن، فلما علموا أنها بدع انتهوا عنها، وذموا ما كانوا عليه سلفاً، وعملوا بالسنن عملاً مستأنفاً، وتحسروا وندموا أشد الندم على ما كان منهم، لكنهم يعلمون يقيناً أنهم غير آثمين بذلك؛ لأنهم ظنوا أن ما كانوا عليه قربة إلى الله عز وجل.
إذاً: عندما أرى شخصاً على بدعة لا أبادر إلى تبديعه أو تفسيقه أو الحكم عليه حتى تقام عليه الحجة الرسالية، فربما وقع فيه بجهل أو بخطأ أو بتأويل أو بشبهة أو إكراه، وهذه هي الموانع، فلا أبادر بإلحاق الكفر عليه إلا بعد قيام الحجة عليه وفهمه لهذه الحجج، إذاً: هذا الأصل الذي نذهب إليه ونقرره دائماً: أن الفارق قائم بين كفر العمل وكفر العامل، والعمل البدعي وبدعية العامل، فليس كل من ارتكب الكفر كافراً، كما أنه ليس كل من تلبس ببدعة مبتدعاً.
الأصل الذي يلحق بهذا، لو أن قائلاً قال بمقولة قال بها بعض أهل الفرق الضالة متأولاً أو مجتهداً يظن أن هذا هو الحق، ولو علم أن الحق في خلافه لانتهى عنه، يا إخواني كم من عالم من علماء السنة عميت عليه مسائل اعتقادية على طور التاريخ وعرضه، ولك أن تنظر في كتب التراجم كسير أعلام النبلاء، أو تهذيب الكمال، أو غير ذلك من الكتب التي ترجمت لعلماء السلف والخلف معاً، ستجد أن الرجل كانت إليه الرحلة من أقطار الأرض، ومع هذا له زلة، وهذه الزلة في العلم أو العمل أو العبادة أو العقيدة، وأياً كانت لكن السؤال الآن: هل يخرج هذا الرجل بهذه الزلة عن حظيرة أهل السنة والجماعة؟
الجواب
لا، لماذا؟ لأنه لابد من صناعة الموازنة في حق هذا الرجل بين إصابته وخطئه، فمن غلبت إصابته على خطئه كان الأصل فيه الاستقامة، ويُرَدُّ شره لخيره.
فلو ضربنا مثلاً لذاك لوجدنا أن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله ذاك العلم الذي يشار إليه بالبنان، ولا يفهم أحد كلام النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري إلا من طريق الحافظ ابن حجر، ولا يقول بغير ذلك إلا متكبر بطر الحق وغمط الناس، هذا الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله إمام من أئمة الهدى، وداعية من دعاة السنة أخطأ في مسائل من أقوال الأشاعرة؛ فقال بقول الأشاعرة، فهل يعد بهذا أشعرياً؟
الجواب
لا؛ قولاً واحداً؛ لأننا إذا نظرنا إلى الرجل وجدنا أن الأصل فيه الاستقامة على منهج السلف، والدعوة إلى منهج السلف وعقيدة الصحابة رضي الله عنهم علماً وعملاً، وهذا موجود في كل كتابات الحافظ ابن حجر فنقول: عميت عليه هذه المسائل بعينها، والقول فيها على غير عقيدة السلف لا يخرج الحافظ من دائرة أهل السنة؛ لأن الأصل فيه الاستقامة.
كما أنه لا يصلح أبداً أن نقول في رجل معروف بالبدعة، والأصل فيه الانحراف والزيغ عن عقيدة أهل السنة: إن هذا رجل من أهل السنة، فلو أن محيي الدين بن عربي -إمام من أئمة الضلال- قال قولاً وافق فيه أهل السنة، فهل هذا القول يخرجه عن حد البدعة؟ لا يخرجه؛ لأن الأصل فيه الانحراف عن عقيدة أهل السنة، ولو أن ابن تيمية عليه رحمة الله الآن وقفنا له على قول يخالف فيه أهل السنة، ويوافق فيه قول بعض أهل البدع، فهل يكون مبتدعاً بهذا القول؟ لا يكون مبتدعاً بهذا القول؛ لأن النظر إلى أصله هو الاستقامة، فلابد من صناعة موازنة في حق كل إنسان على حدة، إذا كان خطؤه عظيماً كان الأصل فيه الانحراف، وإن أصاب فإن إصابته لا تخرجه عن طريق الانحراف، والعكس بالعكس، إذاً: لا يلزم من الوقوع في الكفر أن يكون الشخص كافراً، كما لا يلزم من الوقوع في البدعة أن يكون صاحباً مبتدعاً.
إن الحافظ ابن حجر شن حملة شعواء في المجلد الأول والثالث عشر على الأشاعرة، وبين فساد معتقدهم، وانحرافهم عن الجادة والصواب، ثم وقع فيما وقعوا فيه؛ لكن بالنظر إلى ما أصاب فيه لا يساوي شيئاً، فيبقى أن الأصل فيه الاستقامة، وأن هذا الانحراف مغفور له بإذن(39/10)
الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان كافراً
الأصل الثاني الذي هو محل اتفاق: أن الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان كافراً، والباطل يرد على كل من جاء به وإن كان شيخ الإسلام، فهذا الأصل لا علاقة له بالأشخاص؛ لأن الحب يعمي ويصم، وكما يقال: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط) فهذا يا إخواني! ليس فيه أدنى موضوعية ولا تجرد لله عز وجل، فأنا حبي لله عز وجل وحبي للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة ينبغي أن يفوق كل محبوب؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، إذاً: تحب الله وتحب رسوله، وإذا كنت صادقاً في هذه المحبة فاعلم أن حبهما اتباع واقتداء وعمل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [آل عمران:31].
الشاهد من هذا: أنني أحب فلاناً ولا أحب فلاناً آخر، فهل عدم حبي لفلان يحملني على رد قوله وإن كان حقاً، فمن كان هذا شأنه فإن هذا باب من أبواب الزندقة والإلحاد، وكما يقولون: الطالب الذي له شيخ واحد كالرجل الذي له امرأة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها.
يقول ابن المعتز: لا تعلم الحق إلا إذا سمعته من غير شيخك، فلو دخل علينا الآن رجل وأخبرنا بخبر وكان ثقة عندنا صدقناه، فإن دخل الثاني وأخبرنا بنفس الخبر ازددنا به تصديقاً، وكذلك الثالث والرابع؛ حتى نستطيع أن نقسم على صحة هذا الخبر، لماذا؟ لأن هذا الخبر قد بلغنا بالتواتر والعلم اليقيني الذي يضطر الإنسان إلى تصديقه بغير نظر ولا بحث، بخلاف خبر الآحاد.
إذاً: في هذه الحالة يا إخواني! نتفق على ترك التعصب؛ لأنه لا يصلح أن يكون التعصب خلقاً لمسلم فضلاً عن أن يكون خلقاً لطالب العلم، والحق يؤخذ من كل من أتى به لأنه الحق، وأنا محاسب عليه سلباً وإيجاباً -إيجاباً أثاب فيه، وسلباً أعاقب عليه لتركه- تصور لو أن شنوده أو شارون وجد مسلماً يزني أو يسرق أو يقتل وقال: يا فلان! اتق الله أليس الله قد حرم عليك هذا؟ فقال المسلم: من أجل أنك شارون لن آخذ بنصحك، وسأستمر في معصيتي.
هل يقول بهذا عاقل يا إخواني؟ لا؛ لأن الحق يؤخذ من كل من جاء به حتى وإن كان شارون، طبعاً هو لا يأتي بالحق مطلقاً، لكن على فرض أنه أخطأ مرة وجاء بالحق.
فهل يقبل منه؟ نعم، لأن هذه قواعد مقررة لا خلاف عليها.
إذاً: التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام، والتعصب للكتاب والسنة، والتعصب لسلف الأمة، أما ما دون ذلك فعار أن تتعصب له أياً كان هذا الشخص؛ لأنه يخطئ ويصيب.
كما أن المسلم يتعصب للإجماع؛ لأن الأمة معصومة من الوقوع في الضلال، وإذا قلت: إن هذه المسألة من مسائل الإجماع، فمعناه إجماع علماء الأمة المعصوم في الجملة، فالتعصب لا يكون إلا لأمثال هؤلاء.
فنفرق بين فعل الكفر أو البدعة وبين من وقع فيها، فلا يلزم من إثبات كفر الفعل إثبات كفر الفاعل، ولا يلزم من إثبات بدعية الفعل بدعية الفاعل، فربما قام بينه وبين الكفر والبدعة مانع من موانع التكفير أو التفسيق أو التبديع.
وهذا أصل من أصول أهل السنة، أنهم يفرقون دائماً بين إطلاق القول بالكفر وكفر المعين، فالإمام أحمد بن حنبل كان دائماً يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، والذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق في زمان أحمد بن حنبل هم المعتزلة ومن خاف من بطشهم من علماء السنة، كـ يحيى وغيره، ومع هذا لم يكفر أحمد بن حنبل الحكام في زمانه بأعيانهم، ولم يكفر العلماء ومنهم يحيى بن معين كما سبق؛ وذلك لأن هناك فارقاً عظيماً بين كفر العمل وكفر العامل أو كفر المعين، وقد سئل أحمد بن حنبل: ألست تقول يا أحمد إن من قال القرآن مخلوق فقد كفر؟ قال: بلى.
قيل له: فلم لم تكفر فلاناً وفلاناً من حكام المعتزلة وأمراء المؤمنين؟ قال: أليسوا قالوا ذلك ابتغاء وجه الله وإقامة دينه؟ يعني: هم ما فعلوا ذلك إلا جهلاً منهم، وهم يتصورون أنهم يقيمون بذلك الدين، فالمعتزلة في ذلك الزمان كانوا يحاربون أحمد بن حنبل من باب أن أحمد بن حنبل يقول: القرآن غير مخلوق؛ ظناً منهم أنه يخرب عقيدة المسلمين، فهم كانوا يتهمون أحمد بن حنبل بأنه خرب عقيدة المسلمين، وما قاموا عليه قومة رجل واحد إلا من باب حماية الدين وحراسته، فما فعلوه مع الإمام أحمد بن حنبل كان مصدره ومنشؤه الجهل، وما كان حرصهم على ذلك إلا لتثبيت مسائل الاعتقاد لدى المسلمين، فعملوا كل ذلك لأنهم يحبون الله ورسوله والقرآن، فعندما يأتي عالم كـ أحمد بن حنبل ويقول: القرآن ليس مخلوقاً فإنه سيقلب الموازين ر(39/11)
أحكام الدنيا تجري على الظاهر بخلاف أحكام الآخرة فإن مردها إلى الله
الأصل الأخير في المحاضرة: هو أن أحكام الدنيا تجري على الظاهر بخلاف أحكام الآخرة فإن مردها إلى الله عز وجل.
لو قال رجل الآن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإنه قد أسلم ما لم يأت بناقض من نواقض الإسلام، وهذا يعني أن كل من ثبت له الإسلام باليقين فإنه لا يزول عنه بالشك أو الظن المحتمل؛ وذلك لأن الشك لا يزيل اليقين قط، ولا يزول اليقين إلا بيقين مثله، ما لم يتلبس بناقض من نواقض الإسلام القولية أو العملية، كأن يقول: أنا كافر بالله، مع تحقق الشروط وانتفاء الموانع، أو يعمل عملاً نص الشارع على أن من عمله خرج من الإسلام، أو أجمعت الأمة أن هذا العمل ردة وكفر.
نكتفي بهذا القدر.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(39/12)
شرح كتاب الإبانة - سرد أقوال السلف في أن العمل ركن في الإيمان
الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، ولم يخرج العمل عن مسمى الإيمان إلا الفرق الضالة كالمرجئة والمعتزلة وغيرهم، وبناء على منهج السلف فإن العمل المجرد بقول أو فعل يمكن أن يخرج بصاحبه من الإيمان إلى الكفر حتى لو لم يصاحب ذلك الاستحلال القلبي.(40/1)
أركان الإيمان بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيما يتعلق بالكلام عن مسائل الإيمان فقد تكلمنا عن مسائل وأصول قد اتفقنا عليها ولم نختلف فيها، والحمد لله تعالى.
وقلنا: إن الإيمان عند السلف بالإجماع قول وعمل، أو هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، أو هو قول وعمل ونية، أو هو قول وعمل ونية واتباع للسنة، وكل هذه مصبها في نهاية الأمر إلى أن العمل ركن من أركان الإيمان، ولم يخرج العمل عن مسمى الإيمان إلا المرجئة، بينما المعتزلة جعلوا العمل كله شرطاً في الإيمان، ولذلك يكفرون من لا يأتي به كالخوارج تماماً بتمام، لكن جعلوا له حكماً في الدنيا وحكماً في الآخرة، فجعلوه في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة خلدوه في النار، والخوارج الذين جعلوا العمل كله ولم يفرقوا بين جنس العمل وآحاد العمل، خلافاً لما كان عليه السلف رضي الله عنهم، إذ إنهم فرقوا بين جنس العمل، وأنه ركن من أركان الإيمان لا يقوم الإيمان إلا به، وبين آحاد العمل، فينظر إلى آحاد العمل كل على حسبه، فإن كان العمل في أصل الإيمان فيبطل الإيمان بنقض هذا العمل، أو بترك هذا العمل، أو بمخالفة هذا العمل، وإذا كان من العمل الواجب كان من الإيمان الواجب، وإذا كان من العمل المستحب كان من الإيمان المستحب، وكلاهما يسمى بكمال الإيمان، أي: الإيمان الواجب والإيمان المستحب كلاهما يسمى بكمال الإيمان، فمنه الكمال الواجب ومنه الكمال المستحب، خلافاً لأصل الإيمان وهو جنس العمل، وأظننا قد اتفقنا على ذلك.
والليلة بإذن الله تعالى موعدنا مع سرد نصوص لكثير من علماء السلف يبينون في هذه النصوص أن العمل ركن من أركان الإيمان، وعليه فيمكن أن تكون الردة بمجرد ترك هذا العمل، أو الوقوع في مخالفة العمل.
يعني: السلف عندما يقولون: إن الإيمان قول وعمل، فهل يمكن أن يكون الإيمان عملاً دون أن يكون قولاً؟ إذا كان الإيمان لا يمكن أن يكون عملاً بغير قول محل اتفاق فكيف يكون قولاً بغير عمل؟! لأن هذا ركن وذاك ركن، وأنتم تعلمون أن الركن ما كان داخلاً في ماهية الشيء، ولا يكون الشيء إلا به، فإذا كان العمل من أركان الإيمان فلا بد من الإتيان به، كما أن القول لابد من الإتيان به، كما أن الاعتقاد القلبي لابد من الإتيان به، فهذه أركان الإيمان عند السلف، فلا يمكن أن يثبت الإيمان لأحد إلا بثبوت هذه الثلاث: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح.
ويمكن أن ينقض الإيمان من أصله ويرتد المرء عن دين الإسلام بالقول؛ لأن القول ركن، فثبت القول، أو التقول بما يكفّر يكفر به صاحبه، وكذلك الاعتقاد، وكذلك العمل، لكن مناط البحث كله والإشكالية الدعوية المطروحة على الساحة: هل يمكن ثبوت الردة بالعمل المجرد أم لا بد من الاستحلال القلبي؟ يعني: هل يمكن أن يعمل الإنسان عملاً يكفر به من غير استحلال، أو من غير نظر وسؤال هل هو مستحل أم لا؟ هذه هي القضية كلها.
الجواب
نعم، إذ إنه عند السلف من الأعمال ما يكفر بها العامل دون نظر واشتراط للاستحلال، والمرجئة قالوا: لا بد من الاستحلال، وهذا القول بلا شك قول مخالف لما كان عليه سلف الأمة رضي الله تعالى عن الجميع، لكني أذكر بما قلت آنفاً في الدرس الماضي: أنه لا يلزم من القول ببعض ما كانت تقول به بعض الفرق الضالة النسبة إلى هذه الفرقة، أي: ليس كل من وقع في البدعة مبتدع، كما أنه ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً، ولذلك إذا قال بعض من ينسب إلى العلم مقولة وافق فيها الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة أو الخوارج فلا يكون مرجئاً ولا معتزلاً ولا خارجياً إلا أن يتبنى أصول الخوارج، أو يتبنى أصول المعتزلة؛ لأن المرء لا ينسب إلى الفرقة التي يقول هو بأحد أقوالها إلا إذا كانت أصوله هي أصول هذه الفرقة، يعني: أنا الآن يمكن أن أقول قولاً ثم أفاجأ بعد ذلك بأن هذا هو قول المرجئة، أو هو قول المعتزلة، فهل يلزم من هذا القول أو من قولي بقول المعتزلة أن أكون كذلك؟ لا يلزم؛ لأنه يمكن أن يكون هذا الكلام خرج مني مخرج الجهل وأنا لا أدري، وظني أنه معتقد أهل السنة والجماعة، فلا بد أن ينظر إلى أصل استقامة هذا الرجل، هل هو مستقيم على السنة فخالف في هذا؟ فإن خالف فلا تعد هذه المخالفة هي السبب في نسبته لهذه البدعة، أو أن الأصل فيه الابتداع والانحراف حتى وإن وافق أهل السنة لا يكون منهم.
كما في الدرس الماضي ضربت مثلاً بإمامين عظيمين: أحدهما في البدعة، والآخر في السنة، وهما: أبو حامد الغزالي وابن تيمية، إذ إن الأصل في ابن تيمية الاستقامة على منهج السلف، فإذا قال ابن تيمية قولاً وافق فيه الجهمية أو المرجئة أو المعتزلة -حاشاه أن يكون كذلك- فهل هذا يسوغ أن يكون هو من أهل هذه الفرق أو منسوباً إليها؟ لا يمكن أبداً، لكننا نحمل هذا الكلام على الخطأ البشري الذي لابد وأن لكل إنسان نصيباً فيه.
أما أبو حامد الغزالي فالأ(40/2)
سرد أقوال السلف في أن العمل المجرد ربما أدى بصاحبه إلى الردة أو الكفر
ويبقى في هذه الليلة أن نسرد كلاماً لبعض أهل العلم لبيان مسألة واحدة وحقيقة واحدة وهي: أن العمل المجرد ربما أدى بصاحبه إلى الردة والكفر، حتى وإن لم يصحب ذلك استحلال قلبي.(40/3)
قول نافع رحمه الله تعالى
قال التابعي الجليل نافع الفقيه مولى ابن عمر رضي الله عنه كما روى ذلك عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: إن معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء -وكان إماماً في الإرجاء فعلاً- فعرضه على الناس، قال: فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً -أي: أنهم قالوا: هذا الكلام غريب علينا وعلى عقيدتنا فلم يقبلوه منه- قال: فجلست إلى نافع فقلت له: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، ونقر بأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام وننكحها، يعني: أن الأمر فيه صراحة لفظيه بما هو مكنون في القلب، فإذا كان الأمر على الاستحلال فنحن لا نستحل ترك الصلاة؛ لأننا نقر بأن الصلاة مفروضة لكننا لا نصلي، ونعلم يقيناً من قلوبنا أن الخمر حرام لكننا نشربها، ونعلم أن الله حرم نكاح المحارم ونحن ننكح المحارم، قال: فنفر يده من يدي ثم قال: من فعل هذا فهو كافر.
ولم يعلق الكفر على الاستحلال، وإنما أوقع الكفر على مجرد الفعل، أو على الفعل المجرد من غير استحلال، وإلا فهو قد قال: نحن نقر بكيت وكيت وكيت لكننا نخالف ولا نعمل، ومع هذا قال نافع الفقيه: من قال هذا فهو كافر.(40/4)
قول سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى
قال الهروي: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مقراً بقلبه على ترك الفرائض، أي: أنه يقول لهم: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الجنة واجبة لمن نطق بكلمة التوحيد وإن كان مصراً في قلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض كلها ومباني الإسلام مجرد ذنوب كمن نكح المحارم، أي: كمن تزوج المحارم وليس بسواء، يعني: يريد أن يقول لهم: لكن هذا ليس صحيحاً بأن نكاح المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر كفر.(40/5)
قول الشافعي رحمه الله تعالى
وعن الإمام الشافعي: سئل عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى، أي: يقول ذلك من باب اللعب وعدم الاعتقاد بشيء من آيات الله عز وجل، وأذكر أني كنت ذات مرة في باص، فأتى أحدهم بنكتة سخيفة جداً فضلاً عن سابقتها من النكت التي تقدم بها وأعانه عليها شيطانه، فإذا به ينكت على الأنبياء فقال: وكذلك في سورة الأعلى: صحف إبراهيم وموسى وعلي، فقلت: ومن أين أتيت بـ علي؟ فقال: هكذا، فضحك كل من في الباص عن بكرة أبيهم، ضحكوا علي لاعتراضي على هذا الظريف الذي أضحك كل من في الباص حوالي ساعتين مسافة الطريق؟! فقلت له: أما تعلم أنك تكفر بذلك وتخرج من الملة؛ لأنك تستهزئ بآيات الله عز وجل؟! قال: وما أدراك بالكفر؟ قلت: وما أدراك أنت بالإيمان؟ فبهت، ولا بد أن يبهت لأنه ليس عنده جواب، فالذي ينكت مستخدماً آيات الله تعالى لا بد وأنه سيدخل في باب الاستهزاء، سواء استحل ذلك في قلبه أو لم يستحل، فإنه يكفر ويخرج من الملة؛ لأن كلام الله تعالى وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي صح عنه لا بد أن يصان عن العبث واللهو واللعب.
سئل الشافعي عمن هزل بشيء من آيات الله تعالى؟ فقال: هو كافر، واستدل بقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66]، ولم يقل: قد أذنبتم، أو أخطأتم، أو جهلتهم، وإنما قال: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، وهذا يسوغ وقوع الكفر بعد الإيمان كما يسوغ وقوع الإيمان بعد الكفر، وهكذا فالمرء يتردد بين الإيمان والكفر.(40/6)
قول الحميدي رحمه الله تعالى
والإمام الحميدي أبو بكر عبد الله بن الزبير قال: أخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً، قال: فقلت: هذا هو الكفر الصراح.
مع أنه معتقد ومقر بذلك كله، لكنه ترك ذلك كله متعمداً غير مستحل ولا جاحد ولا مكذب، ومع هذا فمجرد إقراره بهذه الفرائض ومباني الإسلام قال: هذا هو الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل المسلمين.
وقال في كتاب له -أي: الإمام الحميدي - اسمه: مسند الحميدي تحت عنوان: أصول السنة والجماعة: وألا نقول كما قالت الخوارج: من أصاب كبيرة فقد كفر.
والإمام الحميدي هو الذي نقل الإجماع على أن تارك مباني الإسلام الخمسة كافر، ومع هذا يقول: ولا نقول كما قالت الخوارج: من ارتكب كبيرة كفر، وهذه إشارة من الإمام الحميدي إلى التفريق بين جنس العمل وآحاد العمل، أما جنس العمل فهو أصل وركن من أركان الإيمان، وأما آحاده كارتكاب بعض الكبائر، فهو يذهب كما يذهب أهل السنة جميعاً إلى أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بذلك، قال: ولا تكفير بشيء من الذنوب، إنما الكفر في ترك الخمس التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).(40/7)
قول إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى
وقال الإمام العظيم إسحاق بن راهويه المروزي: ومما أجمعوا على تكفيره -يعني: ومما أجمع أهل السنة على أنه كافر- من قتل نبياً.
فقد حكموا عليه كما حكموا على الجاحد سواء بسواء، فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وآمن بما جاء من عند الله تعالى، ثم قتل نبياً فإنه كافر، مع أنه جاء عن الله تحريم قتل المسلم عموماً، والأنبياء أشد حرمة من عامة المسلمين، إذ إن حرمة الأنبياء ليست كغيرهم، كما أن للعلماء حرمة ليست كعامة الناس، فمن باب أولى تكون حرمة الأنبياء أعظم من حرمة العلماء؛ لأنهم أفضل الخلق، ولذلك قال: لو أقر بكل ما جاء من عند الله، لكنه قتل نبياً، أو أعان على قتله وإن كان مقراً بأن هذا نبي أرسله الله عز وجل، يعني: تصور شخصاً الآن يذهب إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ويقول له: ألست مؤمناً بك، ومقراً بنبوتك؟ فيقول له: نعم، ثم يخرج السيف من غمده ويقول له: أشهد أن الله تعالى أرسلك، وأنك نبي ورسول، ثم يرفع سيفه فيقتل النبي محمداً عليه الصلاة والسلام، فهل تتصورون أن الصحابة رضي الله عنهم يتوقفون في تكفير ذلك الرجل؟ هل تتوقعون ذلك؟ ومع هذا قبل أن يقتله بل في اللحظة التي قتل فيها النبي قال: أنا مقر بما جاء من عند الله، وأنك من عند الله، يعني: أنه عبر عن مكنون صدره أنه ليس جاحداً بالرسالة ولا بالنبوة، وإنما ارتكب مجرد فعل يكفر به، ولو أن واحداً قال للنبي: لو أن معي سيفاً لقتلتك، فسمعه أحد الحاضرين وقال: خذ هذا السيف وناوله إياه، فكلاهما يكفر؛ لأنه أعان على قتل نبي، وإن تأذى وحزن صاحب السيف وقال: والله ما حزنت أكثر من حزني لوفاة هذا النبي أو لقتله، وأنا كنت أحبه وكنت متبعاً ومقتدياً به، وأنا مقر بنبوته ورسالته، فهل هذا ينفعه بين يدي الله؟ لا ينفعه، مع أنه لم يرتكب إلا مجرد فعل، إذاً الردة والخروج عن الإسلام يمكن أن يكون بالفعل المجرد، وليس كل الأفعال المجردة تخرج الفاعل من الإسلام إلى الردة، فهناك من الأعمال ما تتناقض مع الإيمان، فإذا وقع فيها المرء خرج من الإيمان، ومن الأعمال ما هو ذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً، كما أن من الأعمال ما هو واجب ومنها ما هو مستحب.
قال: قتل نبياً، أو أعان على قتله وإن كان مقراً بنبوته ورسالته، ومع هذا قال إسحاق بن راهويه: هو كافر، وكذلك من شتم نبياً أو رد عليه قوله من غير تقية ولا خوف، ثم قال: أجمع المسلمون.
وانظروا إلى نتائج الإجماع، فعندما تسمع إماماً عظيماً مثل ابن تيمية وإسحاق وغيرهم ينقل الإجماع على قضية من القضايا فلا بد أن تنتبه جداً، إذ الإجماع مصدر من مصادر التشريع، قال: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً من ما أنزل الله عز وجل فما بالك بمن دفع الشرع كله، والدين كله، والأحكام كلها، واستغنى عنها واستبدل مكانها بكيت وكيت؟! أو قاتل نبياً من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله.
فانظر إلى هذا الكلام الجميل لـ إسحاق بن راهويه.(40/8)
قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى
وقال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل في الرد على الجهم بن صفوان إمام الجهمية الذي يقول: العمل ليس من الإيمان؛ لأن الإيمان عند الجهم هو عبارة عن المعرفة، فإذا كان يعرف الله تعالى فهو مؤمن كامل الإيمان، ولا علاقة أبداً للعمل بالإيمان، ولذلك الإمام أحمد بن حنبل يقول له: يا جهم! إذا كنت تقول: إن الإيمان هو المعرفة، وأن العمل لا علاقة له بالإيمان، وليس داخلاً في مسماه، فيلزمك أن تقول: لو أن رجلاً أقر بالشهادتين، وشد على وسطه بالزنار، أو سجد للصليب، وأتى الكنائس والبيع وعمل الكبائر كلها، إلا أنه في ذلك مقر بالله، فيلزمه أن يكون مؤمناً؛ لأن كل هذه أعمال، وهو في حقيقة الأمر مقر بأن هذا باطل، قال: وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم، أي: من أشنع ما يمكن أن يرد به عليهم.
وفي كتاب السنة لـ لخلال كلام كثير ربما نقلناه قبل ذلك، لكن الإمام أحمد بن حنبل قال: من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول ما جاء به.
وقال الإمام عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: سألت أبي عن رجل قال لرجل: يا ابن كذا وكذا أنت ومن خلقك، يعني: أنه يسب المخلوق وخالقه، فقال: هذا مرتد عن الإسلام، مع أن هذا قول، إذاً الردة تدخل في القول وإن لم يصحبه استحلال، والردة تدخل في العمل وإن لم يصحبه استحلال كمن سجد للصليب، أو ألقى المصحف في القاذورات، أو شد على وسطه بالزنار، أو دخل الكنائس من باب تأييد أهلها ومودتهم وموالاتهم وغير ذلك، فهذا كله كفر بالله تعالى، قال: فقلت لأبي: تضرب عنقه؟ قال: نعم تضرب عنقه، من باب الردة؛ لأنه قال له: هو مرتد.(40/9)
قول محمد بن سحنون رحمه الله تعالى
وقال محمد بن سحنون المالكي فقيه المغرب: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر؛ لأن هذه ردة صريحة عن دين الإسلام بسب النبي أو قتله أو تنقصه أو غير ذلك، ومن كفر بذلك فهو كافر كما قال ابن سحنون المالكي.(40/10)
قول أبي بكر الجصاص رحمه الله تعالى
وقال أبو بكر الجصاص إمام من أئمة الحنفية: قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، فيه دلالة على اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه، يعني: لو قالها وهو غير مكره من باب اللعب أو الاستهزاء وغير ذلك فيكفر؛ لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم إنما قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله عن كفرهم بهذا اللعب.(40/11)
قول محمد بن الوليد السمرقندي رحمه الله تعالى
وقال محمد بن الوليد السمرقندي -إمام من أئمة الحنفية- في كتابه: (الجامع الأصغر): إذا أطلق الرجل كلمة الكفر عمداً لكنه لم يعتقد الكفر، أي: إذا أطلق الرجل كلمة الكفر متعمداً غير مكره، قال: قال بعض أصحابنا: لا يكفر؛ لأن الكفر يتعلق بالضمير، وهو لم يعقد الضمير على الكفر، وقال بعضهم: يكفر، وهو الصحيح عندي؛ لأنه استخف بدينه، واستغرب ممن لم يقل بكفره.
فإذا قال شخص: أنا كافر.
فهل نعذره بجهله؟ لا.
إذ إن الجهل والتأويل مسائل أصولية كلية لا يمكن أن تدخل تحت باب العذر، حتى الذين يعذرون بالجهل يعلمون هذه المسائل الكلية؛ لأنها معلومة من الدين بالضرورة.(40/12)
قول ابن حزم رحمه الله تعالى
قال الإمام ابن حزم في كتاب الفصل: وأما قولهم -أي: المرجئة-: إن شتم الله تعالى ليس كفراً، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فهذا مجرد دعوى، يعني: لا دليل عليها؛ لأن الله تعالى قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74]، فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر، فيخرج الإنسان من الإيمان بمجرد الكلمة وإن لم يستحل، باستثناء المكلف؛ لأن الأصل أنه يعرف ماذا يقول.
أما الغضب فله مراتب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فمنه الإغلاق، أي: الذي لا يدري معه المرء ماذا يقول، ولا ماذا يفعل، حتى مثل بعض أهل العلم على ذلك: بأنه إذا ألقى ولده من مكان شاهق، أو نزل إلى الوادي فقتله، فلما أفاق من غضبه قيل له: لم قتلت ولدك؟ قال: والله ما قتلته، فكذلك لو أن واحداً بلغ به الغضب هذا المبلغ بحيث لا يدري ما يقول؟ فإنه لو قال كلمة كفر فلا يكفر بها؛ لأنه غير مكلف؛ ولأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق)، وهذا الذي بلغ به الغضب هذا المبلغ هو كالمجنون سواء بسواء، ولذلك لو نكح لا ينعقد نكاحه، ولو طلق لا يقع طلاقه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق)، أي: شدة الغضب.
وهناك غضب بسيط يستطيع الإنسان فيه أن يكبح جماح نفسه، وهذا الغضب يسميه ابن تيمية: الغضب البسيط، وهذا النوع من الغضب تترتب عليه الأحكام، فإذا طلق رجل امرأته في هذا الغضب فإنه يقع.
وهناك غضب بين هاتين المرحلتين، أو بين هذين الغضبين: الإغلاق والبسيط، وهو غضب شديد يدرك معه المرء ما يقوله، ويستطيع أن يكبح جماح نفسه، فالجمهور على أن هذا الرجل إذا نطق بكلمة الكفر كفر، وإذا طلق وقع طلاقه، والأحناف بخلاف ذلك، ولذلك عندما تذهب إلى الأزهر وتقول: طلقت امرأتي وأنا غاضب؟ فيقولون لك: لم يقع الطلاق؛ لأنهم يأخذون بالأنفع لحياة الناس، والأزهر عندهم مذهب الأحناف، وهذا الذي تتبناه لجنة الفتوى بالأزهر، بينما بعض أهل العلم في الأزهر يقولون بمذهب الجمهور، وبهذا التقسيم الذي قسمه ابن تيمية في الغضب، لكن تجد العوام الذين عرفوا توجه الأزهر من أمكر خلق الله! فتجد أحدهم يدخل على العالم فيقول: يا شيخ أنا كنت غضبان.
من غير أن يقول له: أنا طلقت، أو لم يطلق، أو أي شيء آخر، ثم يقول له العالم: أنت كنت غضباناً إلى درجة أنك ممكن تقتل ابنك؟ فيقول له: لا، أنا كنت غضباناً وغير مرتاح، وكنت أصيح وغير ذلك، فيقول له: ومن الذي أغضبك؟ فيقول له: فلان وفلان، يعني: أنت كنت في أتم عقلك وإدراكك أن فلاناً وفلاناً كانوا موجودين؟ فيقول: نعم، إذاً طلاقك قد وقع، فيقول له: يا شيخ هم يقولون لي: إن الأزهر يقول: إن الغضبان لا يقع طلاقه، يعني: هو أتى ومعه فتواه، فيفاجأ بأن الأزهري يقول له: إن طلاقه قد وقع، ويقول له: اذهب وتزوج واحدة أخرى، ويذهب فيتزوج واحدة أخرى وهكذا، والشيخ إذا قلت لهم أي شيء يقول لك: ما دام هكذا خيرنا في مذهب الأحناف.
وقال تعالى: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، فنص تعالى على أن الكلام في آيات الله تعالى منه ما هو كفر بعينه، يعني: بمجرده هو كفر، وأمرنا بترك مجالستهم.
وقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:65 - 66]، فنص الله تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى، أو بآياته، أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفراً، يعني: لم يعلق الكفر على معرفته بما في قلوبهم، وإنما على مجرد الاستهزاء، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قول الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى.
ثم قال: الجحد لشيء مما صح البرهان أنه لا إيمان إلا بتصديقه كفر، وهذا باتفاق، فالصلاة من الإيمان وجحودها كفر، والنطق بشيء مما قام البرهان بأن النطق به كفر كفر، إذاً ترك العمل المتفق على أنه من الإيمان جحوداً كفر، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والحج من الإيمان، فمن جحد شيئاً من ذلك فقد كفر.
وبالتالي فيكون هذا كفر بالعمل والاعتقاد أننا نقول: جحد، لكن هل يمكن أن يقع الكفر بالقول؟ نعم، وهذا القول جاء بالنص أو انعقد الإجماع على أن قائله كافر، قوله: والعمل بشيء مما قام البرهان بأنه كفر كفر كذلك، يعني: يريد أن يقول لك: عندي الآن ثلاثة إجماعات: إجماع أن من اعتقد شيئاً هو كفر(40/13)
تفسير الهراسي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)
وقال عماد الدين الهراسي الشافعي في أحكام القرآن عند تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] فيه دلالة على أنه اللاعب والخائض سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه؛ لأن المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله تعالى عن كفرهم باللعب بذلك، ودل أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر، فلو أتى شخص الآن يستهزئ بآية من آيات الله عز وجل، فنقول له: أنت كافر بذات الاستهزاء لا بعلامة قلبية تدل على كفرك، يعني: الاستهزاء وحده الذي هو إما عمل جوارح أو قول لسان يكفر به القائل أو العامل، وإن لم يكن مستحلاً لذلك اعتقاداً.(40/14)
تفسير أبي بكر بن العربي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)
وقال أبو بكر بن العربي إمام المالكية في تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً، يعني: إذا استهزءوا بآيات الله، وخاضوا ولعبوا فيها، إما أن يكون هذا الخوض واللعب على سبيل الجد أو على سبيل المزح، وليس هناك أمر ثالث غيرها.
قال: وهو كيف ما كان كفراً، سواء كان جداً أو هزلاً، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، يعني: أن هذه من مسائل الإجماع عند الأمة، فإذا حصل الاستهزاء بآيات الله تعالى وأحكامه، وشرعه، ورسله، وأنبيائه، فإن ذلك كفر بالإجماع، سواء قالها أو فعلها جاداً أو هازلاً، {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65 - 66]، أي: لا تنفعكم المعذرة، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، هل يمكن أن يطلق الكفر هنا على الكفر العملي الذي لا يخرج به صاحبه من الملة؟ إذا كان كذلك فما معنى قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، فذكر الكفر في مقابل الإيمان الذي يدل على زوال الإيمان بالكلية.(40/15)
قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى
وقال ابن عبد البر بعد أن نقل كلام إسحاق بن راهويه -الإجماع السابق- أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر، أي: أن ابن عبد البر أيضاً ينقل الإجماع على أن من وقع في شيء من ذلك حتى وإن كان مقراً به فهو كافر.(40/16)
قول الجويني رحمه الله تعالى
وقال الإمام الجويني إمام الحرمين نقلاً عن الأصوليين: إن من نطق بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهراً وباطناً إذا كان هذا بغير إكراه، أي: أن من نطق بكلمة الكفر أو الردة فهو كافر مرتد، وإن زعم أنه ورى في كلامه، أي: استخدم التورية.(40/17)
تفسير الرازي لقوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)
وقال فخر الدين الرازي في كتاب مفاتيح الغيب عند تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، الآية دالة على أحكام: الحكم الأول: أن الاستهزاء بالدين أياً كان كفر بالله تعالى، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف بدين الله تعالى، أو بشيء منه.
الحكم الثاني: أنه يدل على بطلان قول من يقول: الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب، يعني: أن هذا رد على من يزعم أن الكفر لا يكون إلا بالاستحلال أو التكذيب أو الجحود، مع أن هذا هو مذهب المرجئة، فهم يقولون: لا كفر إلا بالجحود والاستحلال والتكذيب! وليس كذلك، بل يكفر المرء بالقول المجرد إذا كان كفراً، وبالفعل المجرد إذا كان من أفعال الكفر.
الحكم الثالث: أن قولهم هذا الذي صدر منهم كفر في الحقيقة، وإن كانوا منافقين من قبل، إذ إن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالاً فحال.
الحكم الرابع: أن كفر هؤلاء إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين، أي: أنهم قد خرجوا من الملة بعد إيمانهم.(40/18)
قول الكاساني رحمه الله تعالى
أما الإمام الكاساني إمام من أئمة الحنفية فقال: وأما بيان أحكام المرتدين فالكلام فيه في مواضع: في بيان ركن الردة، وفي بيان شرائط صحة الركن، وفي بيان حكم الردة، فقال: أما ركنها -أي: ركن الردة الذي تتكون منه الردة-: فهو إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإيمان، أي: إجراء كلمة الكفر على جارحة اللسان، وهذا عمل من الأعمال، أو قول من الأقوال، وإن لم يصحب ذلك استحلال قلبي أو عقدي، إذ الردة عبارة عن الرجوع عن الإيمان، فالرجوع عن الإيمان يسمى ردة في عرف الشرع.(40/19)
قول فخر الدين الفرغاني رحمه الله تعالى
وقال فخر الدين الفرغاني الحنفي في فتاويه: رجل كفر بلسانه طائعاً وقلبه على الإيمان يكون كافراً ولا يكون عند الله مؤمناً.
يقول له: رجل تكلم بكلمة الكفر فهل يكفر بذلك؟ قال: هو كافر ظاهراً وباطناً، أي: كافر عند الناس وعند الله، وإن لم يعتقد كلمة الكفر بقلبه؛ لأن الأحكام في الدنيا تجري على الظاهر، والرجل ليس مجنوناً ولا سكران، وإنما أتى إلي وقال: أنا مرتد، أنا كافر، أو أنه سب الله، أو سب رسوله، أو سب الدين، أو سب الشرع، أو سجد لصنم، أو رمى المصحف في القاذورات، أو وطئه بقدمه، فهذه كلها أفعال مسلم، ومع أنها أفعال فهو يفعل ذلك ويقول: أنا مقر بأن هذا هو كتاب الله، وأنا أحب كلام الله، مع أنه مستمر في أثناء مدحه لكلام الله في وطء المصحف! والحقيقة في الامتحان العام الماضي في جامعة الأزهر أنا أعجبت بشهامة أحد الأساتذة، فقد حكم على طالب بالردة، وذلك أن هذا الطالب عندما ذهب إلى الحمام من أجل أن يخرج الربع الذي جاءه في الامتحان من المصحف، ويضعه في جيبه ويذهب يغش منه على عادة كثير من طلبة الأزهر، ثم لما شعر بأن المراقب يراقبه ألقى المصحف في الحمام وشغل السيفون من أجل أن يذهب المصحف مع المياه إلى المجاري، ومع هذا ضبط وانتزع المصحف من عين الحمام، ولا شك أن إدارة الأزهر إنما نظرت إلى القضية قضية غش في الامتحان، لكن أحد الأساتذة -فتح الله عليه- نظر إليها من منظور إيماني آخر وقال: هذه من مسائل الإجماع التي انعقد الإجماع على كفر فاعلها، وحكم على الطالب بالردة، وأثارت هذه القضية جدلاً عظيماً جداً حتى على صفحات الصحف في شهر خمسة الماضي، وانتصر هذا الأستاذ على بقية أساتذة الأزهر الذين نظروا نظرة إدارية إلى هذه المقولة التي ذكرناها: أن هذه من مسائل الإجماع، وقال لهم: أنا أين أذهب بالإجماع؟! وقال لهم: هذا استهزاء بكتاب الله، وهذا الإجماع على كفر من فعل ذلك.(40/20)
قول أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى
وقال أبو الفرج بن الجوزي: إن عبد الله بن أبي -زعيم المنافقين- ورهطاً معه كانوا يقولون في رسول الله وأصحابه ما لا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، يعني: يا محمد سامحنا نحن لم نكن نقصدك، نحن كنا نلعب مع بعضنا، فقال الله تعالى: قل لهم يا محمد: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [التوبة:65]، أي: عما كانوا فيه من الاستهزاء، {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] أي: نلهو بالحديث، فقل لهم يا محمد: {قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:66]، أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان، وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.(40/21)
قول جلال الدين بن نجم رحمه الله تعالى
وقال جلال الدين بن نجم المالكي: وظهور الردة إما أن يكون بالتصريح بالكفر، أو بلفظ يقتضيه، أو بفعل يتضمنه.
وانظر إلى هذا الكلام الجميل، يعني: لو ذهبت إلى كتب الفقه في باب الردة، أو إلى أي كتاب من الكتب التي صنفت في الردة فستجد هذه النصوص وهذه الإجماعات، والواحد منا إذا وقف أمام هذه الإجماعات كلها فيجد الأمة مجمعة على كفر من قال قولاً هو ردة من غير عذر، أو تلفظ بلفظ يقتضي الكفر، أو عمل عملاً يتضمن الكفر.
قوله: وظهور الردة، أي: كيف تظهر الردة؟ قال: إما أن يكون بالتصريح بالكفر، كأن يقول الرجل: أنا كافر، وقد تحققت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، فهل ستقول: لا عليك أنت مؤمن؟! لا، بل لو صرح بالكفر وإن كان في عقيدة نفسه ليس يعتقد الكفر فقد كفر بذلك، كذلك لو أتى الآن شخص وقال: يا شيخ! أنا مرتد عن دين الإسلام، فهل أقول له: تعال، كيف ارتديت؟ وما هي القصة والرواية؟ لا، فهذا ليس من شأني، أنا ما علي إلا أن أتحقق من الشروط وانتفاء الموانع فقط، فإذا تحققت فيه الشروط من التكليف، والعقل، والتمييز، والإدراك وغير ذلك أنظر بعد ذلك في الموانع، هل هو مكره؟ هل هو مجنون؟ ثم تنتهي القضية على هذا، مع بقية البحث في الشروط والموانع، فإذا تحققنا من هذا وذاك حكمنا عليه بالردة.
بل الذي حكم على نفسه بالردة، أو أنه تلفظ بلفظ يقتضي الكفر، أو بفعل يتضمنه، فقد انعقد الإجماع على أنه يكفر بذلك.(40/22)
قول برهان الدين محمد بن أحمد رحمه الله تعالى
وقال برهان الدين محمد بن أحمد الحنفي في كتابه المحيط: من أتى بلفظة الكفر مع علمه بأنها لفظة كفر -انظر الكلام الجميل- عن اعتقاده فقد كفر ولو لم يعتقد.
أي: لو أن رجلاً قال: أنا كافر، وهو يعتقد أن من قال هذه الكلمة كفر بها وإن لم يعتقد هو، إذاً كيف تجري الأحكام في الدنيا على الظاهر؟! الرجل هذا يعلم أن من نطق بكلمة الكفر كفر بها، وهو قد نطق بها وإن لم يعتقدها فهو مع ذلك كافر؛ لأن الأصل الظاهر.
قوله: ولو لم يعتقد، أي: لم يعلم أنها لفظة الكفر، لكن أتى بها عن اختيار، فقد كفر عند عامة العلماء، وهذه المسألة التي سألني عنها الأخ في الدرس الماضي: لو أن واحداً سب الله تعالى وهو لا يعلم أن سب الله كفر، فهل يكفر بذلك؟ قلنا: نعم يكفر بذلك، قال: يا شيخ! أنت قلت: من موانع التكفير: الجهل فكيف ذلك؟
الجواب
أن سب الله ليس من المسائل الخاضعة للعذر بالجهل، وإنما يكفي أن يعلم أن هذا اللفظ وهذا السب حرام، وهذا عند عامة العلماء، وبعضهم قال: لا يكفر إلا إذا علم أن هذا كفر.
قال: أو لم يعلم أنها لفظة الكفر، ولكن أتى بها عن اختيار فقد كفر عند عامة العلماء، ولا يعذر بالجهل، ومن كفر بلسانه طائعاً، أي: غير مكره، وقلبه مطمئن بالإيمان فهو كافر، ولا ينفعه ما في قلبه، يعني: لو كفر بالقول وهو معتقد بالإيمان لا ينفعه ما كان في اعتقاده، وإنما يكفر بالقول الصريح.(40/23)
قول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى
وقال ابن قدامة المقدسي الإمام الحنبلي عن المرتد: يفسد صومه، وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام، سواء أسلم في أثناء اليوم أو بعد انقضائه، وسواء كانت -وهذا الشاهد- ردته في اعتقاده ما يكفر به أو بشكه فيما يكفر بالشك فيه.
أي: أن الرجل إذا ارتد في أثناء النهار وهو صائم، فعليه أن يعيد صيام هذا اليوم، وهذه ليست قضيتنا، وإنما قضيتنا هي قوله: والردة تحصل باعتقاده ما يكفر به.
أي: أنا رجل من أهل العلم وأعتقد أن من سب الله كفر، أو أنا رجل أطلب العلم وسمعت علماء يقولون: إن من سب الله كفر، إذاً تكونت لدي العقيدة أن سب الله كفر، ومع هذا لو سببت الله تعالى فإنني أكفر بذلك؛ لأنني اعتقدت آنفاً أن من سب الله كفر.
قال: ويكفر بشكه فيما يكفر بالشك فيه، أي: لو أن واحداً الآن قلت له: كم إلهاً للكون؟ يقول: والله أناس يقولون: إله، وأناس يقولون: اثنان، وأنا في الحقيقة أمشي مع الناس وخلاص، ولا أعرف هو له إله أو اثنان، فإننا في مثل هذا نقول: إنه كافر؛ لأن هذه من مسائل الإجماع.
قال: وتكون الردة باعتقاد ما يكفر به، أو بالشك فيما يكفر بالشك فيه، أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئاً أو غير مستهزئ، أي: العالم والجاهل كلاهما سواء في ذلك.
وقال ابن الحاجب المالكي: الردة هي الكفر بعد الإسلام -هذا تعريف الردة- وتكون بصريح وبلفظ يقتضيه، وبفعل يتضمنه، يعني: إما أن يتلفظ بقول صريح في الكفر، أو يفعل فعلاً يتضمن الكفر.(40/24)
قول النووي رحمه الله تعالى
وقال الإمام النووي في كتابه العظيم وعمدة فقه الشافعية (روضة الطالبين): الردة هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول المجرد الذي هو كفر، وتارة بالفعل المجرد الذي لا علاقة له بالاستحلال القلبي ولا الجحود.
قال: والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء -الجد واللعب- كالسجود للصنم، أو الشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، وذكر كلاماً طويلاً.(40/25)
قول شهاب الدين القرافي رحمه الله تعالى
وقال الإمام شهاب الدين القرافي المالكي: الكفر قسمان: متفق عليه، ومختلف فيه، فالمتفق عليه نحو الشرك بالله، وجحد ما علم من الدين بالضرورة، كجحد وجوب الصلاة والصوم ونحوهما، والكفر الفعلي: نحو إلقاء المصحف في القاذورات، وجحد البعث أو النبوات، أو وصفه تعالى بكونه لا يعلم ولا يريد أو ليس بحي ونحو ذلك، فهذا الكفر المتفق عليه صوره على نوعين: منه ما هو متفق عليه، ومنه ما هو مختلف فيه.
قال: وأما المتفق عليه فمنه ما هو اعتقادي، ومنه ما هو عملي يكفر، ونحن قبل هذا قد قلنا في الدرس الماضي: من الأخطاء الشنيعة الشائعة بين الناس تقسيم الكفر إلى نوعين: اعتقادي وعملي، أما الاعتقادي فلا يخرج المرء من الملة إلا به، وأما العملي فكله ليس مخرجاً من الملة، وهذا خطأ عظيم جداً في الاعتقاد؛ لأن الكفر الاعتقادي كله مخرج من الملة مع انتفاء الموانع وتحقق الشروط.
والكفر العملي منه ما هو مخرج من الملة، ومنه ما ليس بمخرج من الملة.
قال هنا: الكفر قسمان: متفق عليه اعتقادي وعملي، وذكر أمثلة للعملي، فقال: إنكار النبوات، وإنكار البعث، أو إلقاء المصحف في القاذورات، ووصفه تعالى بأنه لا يعلم ولا يريد، وغير ذلك من إنكار صفات الله تعالى.
أما المختلف فيه فقد توقف عند هذا الحد في أنواع الفروق كأنه باب طويل.
قال: وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العلى، ويكون الكفر بفعل كرمي المصحف في القاذورات، أي: يقع الكفر بمجرد الفعل أو بالفعل المجرد، مثل: إلقاء المصحف في القاذورات، أو السجود لصنم، أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ومباشرة أحوالهم.
قال: الردة عبارة عن قطع الإسلام من مكلف -وفي غير البالغ خلاف- إما باللفظ، أي: الردة إما أن تكون باللفظ أو بالفعل كإلقاء المصحف في القاذورات، ولكليهما مراتب في الظهور والخفاء.(40/26)
قول ابن تيمية رحمه الله تعالى
أما شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله فقد تكلم في كلام طويل اجتزئ منه قوله: أن من سب الله، أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرماً، أو كان مستحلاً له، أو كان جاهلاً عن اعتقاده، ثم قال: وهذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين: بأن الإيمان قول وعمل.
وقال: إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء: أنه إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا، ليس لها أصل، وهذا كلام المرجئة، وإنما نقله القاضي من كتاب بعض المتكلمين الذين نقلوه عن الفقهاء، وهؤلاء نقلوا قول الفقهاء بما ظنوه جارياً على أصولهم، أو بما قد سمعوه من بعض المنتسبين إلى الفقه ممن لا يعد قوله قولاً، وقد حكينا نصوص أئمة الفقهاء، وحكاية إجماعهم عمن هو من أعلم الناس بمذاهبهم، فلا يظن ظان أن في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، وإنما ذلك غلط لا يستطيع أحد أن يحكي عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى هذا التفصيل ألبتة.
وأنا أرى أننا قد قرأنا كل النصوص، وبالتالي لا نخرج إلا بالنتيجة التي خرجنا بها الآن وهي: أن الكفر كما يكون بالاعتقاد يكون بالقول وإن لم يستحل أو يجحد أو يكذب، وكذلك بالفعل وإن لم يصحبه استحلال ولا تكذيب ولا جحود، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد رأيتم على ذلك نصوصاً من إجماعاتهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(40/27)
شرح كتاب الإبانة - كتاب القدر - مراتب القدر وبيان أن الله خالق الخير والشر
القدر سر من أسرار الله في خلقه، فالله عز وجل خلق الخلق وقدر أعمالهم وأعمارهم، وكتب في اللوح المحفوظ مآل كل واحد من خلقه ومصيره، فجعل الهداية طريق بعضهم إلى جنته برحمته، وجعل الضلالة طريق البعض الآخر إلى النار بعلمه وحكمته.(41/1)
نشأة القدرية وما أنكروه من مراتب القدر
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: ففي أول شرحنا لكتاب ابن بطة عليه رحمة الله قلنا: إن الكتاب مكون من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: الكلام عن الإيمان وما يتعلق به من مسائل، وهو يقع في مجلدين، وقد فرغنا منهما والحمد لله تعالى، ثم لخصنا الكلام فيما يتعلق بالإيمان ومسائل الكفر في محاضرتين أو ثلاث تلخيصاً بإذن الله تعالى لا يكون مخلاً بالمقصود.
الجزء الثاني من الكتاب وهو الذي يبدأ في الجزء الثامن: ما هو القدر؟ وما هي مسائله ومراتبه؟ ثم معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر، ثم الرد على من أنكر القدر، أو الرد على من قال: إن الإنسان مخير مطلقاً أو مسير مطلقاً.
وهذا الكلام كله يقع في مجلدين كذلك.
الجزء الثالث من الكتاب: الرد على الجهمية، ويقع في مجلدين كذلك.
وبالتالي فيكون مجموع الكتاب ستة مجلدات، اثنان منهم في الإيمان، واثنان في القدر، واثنان في الرد على الجهمية.
وموعدنا بإذن الله تعالى الليلة في الكلام عن القدر، وكل مسألة من هذه المسائل الثلاث أخذها طالب كرسالة دكتوراه أو ماجستير وبحثها، وكمنهج أكاديمي في الجامعة وفي الدراسة، إذ إنه لا بد من صناعة مقدمة لكل رسالة، فنجد -مثلاً- في هذا المجلد الثالث -وهو الأول من كتاب القدر- أكثر من مائتين وخمسين صفحة مقدمة، أظن أننا نكتفي بالدخول على المراد مباشرة من كلام المصنف، ولا حاجة بنا أن نعرج على كلام هذا الدارس أو هذا الطالب الذي صار دكتوراً أو أستاذاً كبيراً الآن، لكن على أية حال إنما يكفينا أن ندخل في القدر مباشرة.
والقدر تعلمون أنه سر من أسرار الله تعالى في خلقه، فقد ضلت فيه طوائف كثيرة خاصة في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن ذلك من الصحابة، لكن هذه البدعة أول ما ظهرت في البصرة على يد الجعد بن درهم، وذلك لما قال: لا قدر وأن الأمر أنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فأتى حميد بن عبد الرحمن وغير واحد إلى المدينة فقالوا: لعلنا نوفق إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أن وفقهم الله تعالى لـ أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.
قال حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر: فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فقلت: لعل صاحبي يكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم.
أي: يطلبون دقائقه ومسائله العويصة.
يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف.
وكأن أبا عبد الرحمن قال: أوقد فعلوها؟ أوقد ظهروا؟ وكأن النبي عليه الصلاة والسلام قد حذرهم من ذلك، فقال: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، أي: لست منهم وليسوا مني، وقد أخبرني أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (اطلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً -هذا هو الإسلام- قال: صدقت.
قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) وأعجب من ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن القدر وعن الكتابة والعلم السابق أخرج إبهامه فوضعه على لسانه ثم طبع به في كفه وقال: إن هذه لمكتوبة في اللوح المحفوظ، وإن الله تعالى علم أن علياً سيفعل ذلك في الأزل.
ولذلك ذهب الإمام النووي إلى نقل الإجماع على أن من أنكر علم الله تعالى فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة.(41/2)
مراتب القدر
أما قوله: (إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني) فهذا يعني: أنهم كفار وليسوا بمسلمين ألبتة؛ لأنهم أنكروا المرتبة الأولى والعظمى من مراتب القدر، وهي: إثبات علم الله عز وجل لأفعال المخلوقين، فالله تبارك وتعالى علم ما الخلق عاملون، وما هم إليه صائرون قبل أن يخلقهم، فلما علم الله تعالى أن عباده سيفعلون الخير قدر لهم ذلك ويسره لهم، وعلم أن من عباده من سيختار طريق الشر ويعمل له، فقدر له الشر ويسر له طريق الشر، وفي المقابل جعل للفريق الأول الجنة وللثاني النار، فخلق الجنة وخلق النار، وجعل لكلٍ أهلاً وسكاناً، وقال: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).
فالله تعالى علم ذلك في الأزل، فلما علم ذلك كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض، كتبه في اللوح المحفوظ فهو عنده تحت العرش، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
فهل يكتب الله تعالى ما لا يعلمه؟ وهل يخفى على الله تعالى شيء؟ إن الله تعالى يعلم السر وأخفى، فلما علم الله تعالى ذلك في الأزل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كتبه كتابة لا تقبل المحو في اللوح المحفوظ، بخلاف الكتابة التي في أيدي الملائكة وفي أيدي الحفظة وفي أيدي الكتبة، فإنها تقبل المحو والإثبات، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
فقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، أي: بأيدي الملائكة في هذه الكتب التي معهم، أما الكتاب الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما أثبته الله تعالى فيه بقلم القدرة: (أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان وسيكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما أمر)، أي: كتب القلم ما أمره الله عز وجل، وهذا الكتاب الذي كتبه الله عز وجل بقلم القدرة عنده تحت العرش لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما فيه، وهو الذي يستقر عليه الأمر.
أما الكتب التي بأيدي الملائكة فإنها تقبل المحو والإثبات على حسب أعمالهم أو أعمال العباد، فهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر.
المرتبة الثانية: مرتبة علم الله عز وجل، وأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد الذين لم يخلقهم بعد، فكيف بمن خلقهم سبحانه وتعالى، فهو العليم وهو البصير وهو الخبير، علم ما العباد عاملون قبل أن يخلق العباد فكتب ذلك، والعلم ثم الكتابة مرتبتان من مراتب القدر من أنكرهما كفر باتفاق.
المرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة أو المشيئة على خلاف ونزاع بين العلماء فيما يتعلق بحقيقة المشيئة وحقيقة الإرادة، والإرادة إرادتان: إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، أمرك الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد وغير ذلك من الأوامر، فإذا فعلت ذلك فأنت محبوب عند الله عز وجل؛ لأنك عملت بفضل الله وقدرته ما أمرك به شرعاً، فإذا فعلت ذلك وامتثلت الأمر واجتنبت النهي فإنك حينئذ تدخل في محبة الله عز وجل، فهذه هي الإرادة الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، من وفق لها فقد وفق للخير ودخل في مرضاة الله عز وجل.
الإرادة الثانية: إرادة كونية قدرية، لا أقول: مبناها على المحبة والرضا، فمنها ما يحبه الله، ومنها ما يغضب الله ويسخط على فاعله، لكن هل هذا الفاعل للشر يمكن أن يفعل الشر بغير إرادة الله؟ لا، إذ لا يمكن لأحد قط من المخلوقين أن يفعل فعلاً إلا وقد أذن الله به إما إذناً شرعياً دينياً -كما هو المرتبة الأولى من مراتب الإرادة- أو إذناً كونياً قدرياً، وكونياً أي: وقع في الكون، وقدرياً أي: بقدرة الله عز وجل وإرادته، لأن العبد لا يستطيع أن يفعل شيئاً رغماً عن الله، أو بغير إرادة الله، فكل ما يقع في الكون من خير أو شر يكون بإرادة الله، أما الله تعالى فيثيب من فعل خيراً ويعاقب من فعل شراً، ويعاقبه وقد قدره عليه لأنه أفرغ له العذر ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، والعقل الذي هو مناط التكليف، فلو أنك الآن أردت أن تذهب إلى بلد ما من البلدان، ويؤدي إلى هذا البلد طريقان: أحدهما معبد ممهد، والآخر مليء بالحجارة والتكسير وغير ذلك مما يعرقل حركة السير، فأي الطريقين تسلك حينئذ؟ لا شك أنك ستسلك الطريق المعبد، وهو طريق الأنبياء إلى الله عز وجل.
ثم من منا لا يعلم أن الزنا حرام؟ ومع هذا يختار لنفسه الزنا، من منا لا يعلم أن القتل حرام؟ ومع هذا يقترفه، ومن منا لا يعلم أن شرب الخمر حرام؟ ومع هذا يقع فيه باختياره، فلما علم الله تعالى سلفاً أن هذا العبد يخالف طريق الأنبياء، وكان عاقلاً مكلفاً مميزاً وقت ارتكابه للفعل الحرام، ومع هذا قد اختاره على الحلال وجعل الحلال خلف ظهره، كتب الله عز وجل ذلك عليه، فكيف يكون الإنسان حينئذ مسيراً؟ لا بد أن العبد قد اختار هذا الفعل بمحض إرادته؛ لأنه يعلم أ(41/3)
مقدمة المؤلف في أول جزء في القدر(41/4)
هداية البشر وضلالهم بإرادة الله عز وجل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله، أهل الحمد ووليه، المنان الجواد، الذي ثوابه جزل -أي: كثير- وعطاؤه فضل، وأياديه متتابعة، ونعماؤه سابغة، وإحسانه متواتر، وحكمه عدل، وقوله فصل، حصر الأشياء في قدرته]، أي: جعل كل شيء في قدرته ومشيئته، فلا يكون في الكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته، وهكذا السلف رضي الله عنهم إذا أراد أحد منهم أن يكتب رسالة أو يصنف كتاباً جعل مقدمة الكتاب دليلاً للموضوع، فإذا أراد أن يتكلم عن الإيمان جعل لهذا الكتاب مقدمة طويلة جداً في الإيمان ومسائل الإيمان واختلاف أهل العلم في بعض قضايا الإيمان وغير ذلك، ومثله إذا تكلم في القدر، أو في الملائكة، أو في الإنس، أو في الجن جعل المقدمة مناسبة للموضوع ودليلاً عليه ومدخلاً له.
قال: [حصر الأشياء في قدرته، وأحاط بها علمه] إذاً: تكلم هنا عن مرتبة العلم، وأيضاً مرتبة الإرادة.
قال: [ونفذت فيها مشيئته] وهذه مرتبة من المراتب.
قال: [وصلى الله على خير خلقه محمد النبي وآله وسلم.
أما بعد: يا إخواني! وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها]، وأقصد الطريق بمعنى: أقصرها وأقربها، ولذلك أنت دائماً تقول لآخر: أنت تكلمني كثيراً، أنا أريد أن تعطيني الموضوع مباشرة، أي: تدخل في الموضوع مباشرة من أقصر وأقرب طريق.
قال: [وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها، وأرشد السبل وأسواها، فهي طريق الحق التي اختارها وارتضاها، واعلموا أن طريق الحق أقصد الطرق]، أي: أن طريق الحق أقصر وأقرب الطرق في الوصول إلى الله عز وجل.
قال: [ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله في كتابه وجاءت به رسله]، انظر مراد الله تعالى يتحقق في العباد بأمرين اثنين لا ثالث لهما: بالكتاب والسنة، فهل يمكن لأحد أن يزعم أو يدعي أن الله تعالى أراد منا غير ما طلبه في كتابه وفي سنة رسوله؟ وهل يزعم أحد أن مراد الله تعالى من عباده خارج عن نطاق الكتاب والسنة؟ إذاً: أنت عندما تريد أن ترضي إنساناً مستحيل أن ترضيه أبداً؛ لأنه يتلوى ويتلون ويتلطف في مراداته ولا يكاد يفرغ منها، فكلما أرضيته بشيء طلب المزيد، وكلما أرضيته بالمزيد طلب أكثر من المزيد، بحيث تعجز أنت في النهاية عن تحقيق مراده ومرضاته، وإذا رضي عنك اليوم سخط عليك غداً، والعكس بالعكس.
أما الله عز وجل -ولله المثل الأعلى- ورسوله عليه الصلاة والسلام فمرادهما في الكتاب والسنة، والله تعالى لا يطالبنا بشيء ليس في الكتاب، وكذا الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطالبنا بشيء ليس في السنة، وأريد أن أقول: إن مراد الله تعالى من العباد مذكور بغير زيادة ولا نقص في الكتاب والسنة، ويمكن بلوغ المرضاة وبلوغ الرضا لله عز وجل بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.
قال: [ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله تعالى في كتابه وجاءت به رسله، ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً]، أي: الدين ليس رأياً متبعاً من آراء الرجال، أو هوىً مبتدعاً، فدين الله تبارك وتعالى كله حق وصدق، والذي جاء في الكتاب وصحت به السنة ليس هو من الأهواء ولا البدع، وكل ما دون الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لا شك أنه إما قول لا دليل عليه، وإما هوىً مبتدعاً يأثم به صاحبه، كما قال ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فبين ابن القيم -عليه رحمة الله- أن العلم في الكتاب والسنة والإجماع، خاصة إجماع الصحابة الذي لا خلاف عليه.
قال: [ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً، ولا إفكاً مخترعاً، وهو الإقرار لله بالملك والقدرة والسلطان، وأنه هو المستولي على الأمور]، أي: ليس أمراً من الأمور يكون في الكون إلا بإرادة الله عز وجل.
قال: [سابق العلم بكل كائن] إثبات لمرتبة العلم، أي: أن الأشياء لا تقع إلا بعلم الله عز وجل، وأن الله لما علم ذلك كتبه في اللوح المحفوظ.
قال: [ونافذ المشيئة فيما يريد سبحانه وتعالى، كان الخلق كله وكل ما هو فيه بقضاء وقدر وتدبير، ليس معه شريك ولا دونه مدبر ولا له مضاد سبحانه وتعالى، بيده تصاريف الأمور، وهو الآخذ بعقد النواصي، والعالم بخفيات القلوب ومستورات الغيوب، فمن هداه بفضل منه]، أي: من هداه الله فذلك بفضله سبحانه وتعالى.
قال: [فمن هداه بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر] أي: ومن خذله الله تعالى فهو الضلال بعينه بلا حجة ولا عذر، وأثبت الله تعالى أن أهل الهداية إنما كانت هدايتهم بفضله ورحمته وطوله، وأثبت أن أهل الضلال لا عذر لهم بين يدي الله؛ لأن الله تعالى أفرغ لهم العذر ببعثة الرسل وإنزال الكتب، وميزهم بالعقل على غيرهم، فقامت عليهم حجة الله تعالى، وحينئذ فليحيا من حي عن بينة، وليهلك من هلك عن بينة، لأن الله تعالى أفرغ عذرهم فلا عذر لهم بين يديه يوم القيامة، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
فمن لم ي(41/5)
خلق الله ذرية آدم وإحصائه لأعمارهم وأعمالهم ومنتهى كل واحد منهم
قال: [فمن هداه الله بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر، خلق الجنة والنار] والجنة والنار مخلوقتان الآن، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة فوجد أكثر أهلها المساكين والفقراء، واطلع في النار فوجد أكثر أهلها النساء.
قال: [وخلق لكل واحدة منهما أهلا هم ساكنوها، أحصاهم عدداً، وعلم أعمالهم وأفعالهم، وجعلهم شقياً وسعيداً، وغوياً ورشيداً، وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة]، وهذا معروف في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] وهذه الآية معروفة بآية الميثاق، وهو الميثاق الغليظ الذي أخذه الله عز وجل من ذرية آدم، وذلك لما خلقه أخرج ذريته من صلبه، وما ترك في ظهره أحداً إلا وقد أخرجه مؤمنهم وكافرهم، ثم أخذ الله تعالى عليهم العهد: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، فهم قد شهدوا على أنفسهم بربوبية الله عز وجل وإلهيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه الإله الحق وما دونه آلهة مزعومة باطلة لا تستحق العبادة، ولذلك أخرج الله ذرية آدم من ظهره كالذر وأخذ عليهم العهد وهم على هذه الصورة، أي: على صورة الذر، وفي ذلك أحاديث كثيرة جداً.
قال: [وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة، وقدر أعمالهم، وقسم أرزاقهم، وأحصى آجالهم، وعلم أعمالهم، فكل أحد يسعى في رزق مقسوم]، أي: أن كل واحد يسعى في رزق مقسوم من قبل، ومقدر ومعلوم لله عز وجل، ولذلك سأل غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! فيم العمل، في أمر قد قدر وفرغ منه، أم في أمر سيكون؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: في أمر فرغ منه.
فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، لكن قد يقول قائل: أنا من أهل النار! فما عرفك أنك مكتوب في اللوح المحفوظ من أهل النار؟! وحتى وإن كنت شقياً فالأعمال بالخواتيم، ولذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار)، أي: في حياته كلها.
(حتى ما يكون بينه وبينها)، أي: النار.
(إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وحينئذ قال عليه الصلاة والسلام: (والأعمال بالخواتيم) فالإنسان لا يدري ماذا سيختم له، أو فيم يختم له، وإذا كان الإنسان لا يعلم أهو شقي أم سعيد، فالصحابة رضي الله عنهم -بل المبشرون منهم بالجنة- ما كانوا يأمنون من مكر الله.
فهذا عمر يقول: لو أن الناس نودوا يوم القيامة: ادخلوا الجنة إلا واحداً لظننت أني ذلك الواحد.
مع أنه مقطوع له بدخول الجنة.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.
مع أن أبا بكر يعلم أن إيمانه يساوي إيمان الأمة وزيادة، لكن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، وهذا عنوان المؤمن: يعبد الله تعالى بالخوف والرجاء، الخوف من ناره وعذابه، والرجاء في رحمته والطمع في جنته.
أما الذي يعبده بالخوف فقط فإنه يذهب في آخر أمره إلى اليأس من رحمة الله، وربما ينتحر؛ لأنه آيس من رحمة الله، والذي يعبد الله تعالى بالرجاء فقط لا بد أن يفرط في فرائض الله تعالى وأوامره، فإذا قيل له: صل أو صم أو زك أو حج أو افعل ما أمر الله أو انته عن ما نهاك الله عنه، قال: رحمة ربك وسعت كل شيء! الله تعالى سيرحمنا! فيترك كل شيء ويفرط في كل شيء؛ اتكالاً على رحمة الله وعلى عفو الله، ولا شك أن هذا عبد هالك، وربما أدى به ذلك إلى الكفر بالله عز وجل، ويدخل في إجماع أهل العلم: أن من نطق بالشهادتين ولكنه ترك العمل كله، وارتكب النهي كله فهو كافر بالإجماع؛ لأنه ترك جنس العمل وقارف جنس النهي.
قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم]، أي: معلوم لله تعالى، وعلم الله ذلك في الأزل، وفي الحديث الطويل في الصحيحين: (إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك -ملك الأرحام- ويؤمر بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فانظر الملك يكتب الرزق والأجل والعمل وإذا كنت من أهل الشقاء أو من أهل السعادة، وبالتالي إذا كان الأمر كذلك فيجب علينا أمران: الأول: ألا نتكل على ذلك؛ لأن الذي كتب ذلك أمرنا بالسعي في تحصيل أسباب السعادة والهروب من أسباب الشقاء، وإلا لكان بإمكان النبي -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- أن يمكث في مكة ويدعو على أهل مكة، وأنتم تعلمون أن دعاء النبي مستجاب، وكان بإمكانه عليه(41/6)
السعي والعمل بين الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها
قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم، وعمل محتوم إلى أجل معلوم]، أي: أن كل أحد يسعى إلى رزق مقسوم الله تعالى قسمه وعلم ذلك، لكن لا بد أن تسعى، وقديماً قال السلف: الاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد، فلو مرض أحدنا ثم ذهب إلى الطبيب، واعتقد أن هذا العلاج هو الشافي، فهذا شرك مع الله عز وجل، إذ إن العلاج سبب لحصول الشفاء وليس هو الشفاء، أو ليس هو الشافي، لأن الشافي هو الله عز وجل.
أيضاً: واحد يظن أن هذا الطعام الذي يأكله هو الشبع بعينه، لا، إذ الطعام سبب للشبع، والشراب سبب للري، ولذلك اثنان أحدهما يأكل أكثر من الآخر، أو يأكل أضعافه ولا يشبع، كأن يقعد على المائدة فيأكل عشر دجاجات ويقوم وهو مقهور، والآخر يأكل في أول الطعام نصف رغيف فيشبع، بل ولا يجد له مسلكاً أو موضعاً.
إذاً: الطعام سبب، أما أنه يحصل به الشبع مجرداً فلا، إذ إن هذا بقدرة الله عز وجل، ولذلك المريض يقعد أسبوعاً وأسبوعين لا رغبة له للطعام والشراب، ولا يريد أحداً أن يرغمه على الأكل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإنما يطعمهم الله تعالى ويسقيهم).
وقول السلف: وترك الأسباب قدح في التوحيد.
فلو أن مريضاً ذهب إلى الدكتور وصرف له علاجاً، ثم قال: هذا العلاج هو الشافي، فقلت له: أنت بهذا تكون مشركاً، لكن لو أن المريض لم يذهب إلى الدكتور أبداً، وأقعد في المرض حتى مات، فإن هذا قدح في التوحيد، إذاً ما المطلوب مني؟ مطلوب مني أن أقول: الخير كله من عند الله عز وجل، والذي بيده الخير والشر هو الذي أمرني بالسعي والبحث.
كذلك: آخر يقول: الله ربنا قادر على كل شيء، قادر من جهة القدرة أن يرزقني ولداً بغير زوجة، إذ إنه خلق عيسى عليه السلام بغير أب، وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهذا دليل القدرة، ونحن لسنا في حاجة إلى دليل لقدرة الله عز وجل؛ لأننا نعتقد أن الله على كل شيء قدير بغير نماذج ولا أمثلة، لكن الله تعالى أعطانا نماذج حتى تكون نبراساً لنا، لكن هذا الرجل قاعد ومعه فلوس ولا يعمل شيئاً، فإذا قلت له: تزوج يا فلان، قال: لا، وبعد الصلاة قعد في البيت يقول: يا رب! ارزقني الولد الصالح! كيف يرزقه الولد الصالح وهو لم يتزوج بعد؟! يقول: الله قادر على كل شيء! إذاً: ترك الأسباب قدح في التوحيد، أي: من توحيد الله عز وجل أن تسعى لتحصيل أسباب الحياة، فمن أجل الولد لا بد أن تسعى في الحصول على زوجة، ومن أجل الشبع والري لابد أن تسعى في الحصول على الطعام والشراب، ولا تقول: يا رب! أشبعني! وأنت لم تتناول الشراب أو الطعام، وتقول: أنا لا آكل ولا أشرب؛ لأن ربنا قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79]! وقد يقولون: العمل شرك بالله! مع أن الأنبياء كانوا يعملون، وربنا أمر المؤمنين بالعمل، وليس هناك آية في كتاب الله عز وجل إلا وجمعت بين الإيمان والعمل، آمنوا وعملوا، فالعمل من الإيمان.
لذا فلا يصح لأحد أن يقول: أنا أترك العمل لأنه شرك! إن ترك العمل وترك الأسباب قدح في التوحيد، أنا ممكن أن أشتغل كل النهار، ثم يأتي إلي رب العمل فيضحك علي، وما أكثر الذين يضحكون على الناس، ثم في الأخير يعطيك خروجاً نهائياً من بلده، لكن على أية حال أنت قد شرعت في الأخذ بالأسباب، والله تعالى حينئذ لا يضيعك، بل يفتح لك أبواباً أخرى أفضل من الأبواب التي أغلقت؛ لأن كل الأبواب بإذن الله تعالى وبيديه سبحانه وتعالى، فربما فتح لك وأغلق على من أغلق عليك حقك، لأن كل هذا بيد الله سبحانه وتعالى، فحينئذ يجب على العبد أن يسعى في تحصيل أسباب الحياة وأسباب الطاعة، لكن أنت تقول: أنا لا آكل ولا أشرب ولا أتزوج ولا ولا ولا، فربما يصل بك الأمر إلى أن تقول: أنا لن أصلي ولن أصوم ولن أزكي ولن أحج، وربنا قادر أن يدخلني الجنة! بل ربنا قادر على أن يدخل شارون الجنة! لكن القادر هو الذي أخبر وبين في كتابه وعلى لسان رسوله أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، إذاً شارون لن يدخل الجنة إذا مات على ما هو عليه، وهو ممكن أن يموت على الإسلام والتوحيد ويصير أحسن مني ومنك؛ لأن ذلك بيد الله عز وجل.
والعجيب أن رجلاً من جنوب أفريقيا كان قد بلغ في التنصير أشده، فمكافأة له عينوه رئيس مكتب البابا الفاتيكان في روما، وقد أسلم منذ أكثر من خمسة وعشرين يوماً تقريباً، فتصور هذا الرجل وقد عين رئيساً للمكتب مكافأة له على مجهوده في التنصير في جنوب أفريقيا وشرق آسيا، وكانت له طائرة معدة خاصة تنقله من مكان إلى مكان، ومن دولة إلى دولة؛ لفرط نشاطه ومجهوده الخارق الذي يبلغ مجهود أمة، وفي يوم أن أسلم أسلم معه ثلاثون ألفاً من جنوب أفريقيا، وقد اطلعت على دعوته القساوسة والعمد الذين هم رءوساء القرى في جنوب أفريقيا، فإذا بها دعوة بسيطة جداً يستطيع أن يدعو بها أي مسلم حتى وإن لم يكن له كثير حظ من علم، فقد كان يذهب للملك أو العمدة أو شيخ القبيلة أو الق(41/7)
خلق الله للخير والشر وإيجاده للعاملين بكل واحد منهما
قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم وعمل محتوم إلى أجل معلوم، قد علم الله ما تكسب كل نفس قبل أن يخلقها]، إثبات مرتبة العلم.
قال: [فلا محيص لها عما علمه منها، وقدر حركات العباد وهممهم]، أي: الهم بالأعمال.
قال: [وهواجس القلوب وخطرات النفوس، فليس أحد يتحرك حركة ولا يهم همة إلا بإذنه، وخلق الخير والشر]، أي: أن ربنا خلق الشر، وأنت لا تذوق حلاوة الخير إلا إذا رأيت الشر، كما أنك لا تشعر بحلاوة التوبة إلا بوجود الذنب، ولكن الشر المحض ليس من أفعال الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك والشر ليس إليك)، أي: الشر المحض ليس من أفعال الله، لكن ما هو الشر؟ الشر الذي يحمل معه الخير، فالقتل شر، فلو أن قاتلاً قتل وأقيم عليه الحد على ملأ من الناس، وما أعظم الملأ في هذا الزمان، ملأ الإنترنت وملأ الدش وملأ التلفزيون وملأ الراديو، فتصور لو أن العالم كله -كما يجتمعون على المباريات والمغنيات وغير ذلك- يجتمعون لإقامة الحد في فلان؛ لأنه قتل بغير حق، فهل سيفكر أحد رأى هذا المشهد أن يقتل؟ لا يمكن، ولذلك يكون من الخير أن يقتل هذا ويراه طائفة من المؤمنين، وهذه الطائفة ربما سولت لها نفسها أن تقتل، لكن المرء سيفكر مليون مرة قبل أن يقتل أنه سيعرض في نفس المكان ويقام عليه الحد ويتفرج عليه الخلق، ولذلك يحجم فوراً.
كذلك: النار شر وفيها الخير، فنقضي بها مصالحنا ويعذب بها من استحق العذاب وغير ذلك.
أيضاً: خلق إبليس هل هو خير أم شر؟ إنه لا خالق إلا الله، فله الخلق والأمر سبحانه وتعالى، وحينئذ نقول: الله تعالى لما خلق إبليس يكون قد خلق الشر، فيكون الشر والخير من خلق الله عز وجل، ولذلك قال هنا: [وخلق الخير والشر، وخلق لكل واحد منهما عاملاً يعمل به، فلا يقدر أحد أن يعمل إلا لما خلق له، وأراد قوماً للهدى]، انظر مرتبة الإرادة.
قال: [وأراد قوماً للهدى، فشرح صدورهم للإيمان وحببه إليهم وزينه في قلوبهم، وأراد آخرين للضلال]، قوله: وأراد آخرين للضلال، إرادة كونية قدرية.
قال: [وأراد آخرين للضلال فجعل صدورهم ضيقة حرجة، وجعل الرجاسة -أي: الرجس والنجس- عليهم، وأمر عباده بأوامر وفرض عليهم فرائض، فلن يؤدوها إليه إلا بتوفيقه ومعونته]، حتى تعرف لما تصلي أو تصوم أو تزكي أو تحج أو تطلب العلم أن ذلك بفضل الله وتوفيقه لك.
قال: [وحرم محارم وحد حدوداً، فلن يكفوا عنها إلا بعصمته]، من الذي يعصمك من الشر؟ الله عز وجل.
قال: [فالحول والصول والقوة له سبحانه، وواقعة عليهم حجته، غير معذورين فيما بينهم وبينه]، أي: أنهم غير معذورين بإرسال الرسل وإنزال الكتب.(41/8)
سلامة الصدر الأول من المسلمين من استعمال الآراء والميل للأهواء ووقوع من بعدهم في ذلك
قال: [يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلم يزل الصدر الأول]، أي: القرون الأولى، خاصة قرن الصحابة رضي الله عنهم.
قال: [على هذا]، أي: على هذا المعتقد جميعاً.
قال: [على ألفة القلوب واتفاق المذاهب، كتاب الله تعالى عصمتهم وسنة المصطفى إمامهم، لا يستعملون الآراء، ولا يفزعون إلى الأهواء، فلم يزل الناس على ذلك والقلوب بعصمة مولاها محروسة، والنفوس عن أهوائها بعنايته محبوسة، حتى حان حين من سبقت له الشقوة]، أي: حتى جاء وقت البدعة والأهواء.
قال: [وحلت عليه السخطة، وظهر الذين كانوا في علمه مخذولين]، أي: الذين سبق في علم الله أنهم مخذولون من أصحاب البدع والأهواء.
قال: [وفي كتابه السابق]، أي: اللوح المحفوظ.
قال: [أنهم إلى أعدائهم من الشياطين مسلمون، ومن الشياطين عليهم مسلطون، فحينئذ دب الشيطان بوسوسته فوجد مساغاً لبغيته، ومركبا وطياً إلى ظفره بحاجته، فسكن إليه المنقاد إلى الشبهات، والسالك في بليات الطرقات، فاتخذها دليلاً وقائداً، وعن الواضحة حائداً]، أي: عن الملة والشريعة حائلاً.
قال: [طالب رياسة وباغي فتنة] أي: أن الذي يحيد عن الشريعة تجده إما أن يكون طالب رياسة أو زعامة، أو باغي فتنة، وأهل البدع والشرور أكثر من ذلك، فإما أن تحمله الرياسة على تنكب الطريق، أو يحمله حبه للفتن على تنكب الطريق.
قال: [معجب برأيه وعابد لهواه، عليه يرد وعنه يصدر، قد نبذ الكتاب وراء ظهره، فلم يستشهده ولم يستشره، ففي آذانهم وقر وهو عليهم عمى]، يقول لك: رأيي صحيح ولن أتراجع عنه! وكأن رأيه قرآن أو سنة؛ لأنه تعود أن رأيه لا يرد ولا ينتقد.
قال: [كأنهم إلى كتاب الله لم يندبوا، وعن طاعة الشيطان لم يزجروا، فهم عن سبيل من أرشده الله متباعدون، ولأهوائهم في كل ما يأتون ويذرون متبعون، واستحوذ الشيطان على من لم يشرح الله صدره للإسلام، وأورده بحار العمى، فهم في حيرة يترددون، فجاروا عن سواء السبيل، فقالوا: بيد الشيطان من أمر الخلق ما لا يجوز أن يكون بيد الله ومشيئته]، أي: أنهم قالوا: إن الشيطان يملك ما لا يملك الله تعالى! قال: [ومشيئته فيهم حائلة تدون مشيئة الله لهم] أي: مشيئة الشيطان في العباد نافذة أكثر من مشيئة الله عز وجل -هكذا يقولون- وهذا كفر بواح.
قال: [فضعفوا أمر الله ووهنوه، وردوا كتاب الله وكذبوه، وقووا من أمر الشيطان ما ضعفه الله حين قال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، وقد كان سلفنا وأئمتنا رحمة الله عليهم يكرهون الكلام في القدر]، أي: قد كان السلف رضي الله تعالى عنهم يكرهون الكلام في القدر، ولهذا الموضوع أدلة ونصوص كثيرة أظن لو اكتفينا بهذا القدر لكان فيه كفاية حتى نبدأ الموضوع في الدرس القادم من أوله بإذن الله تعالى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(41/9)
الأسئلة(41/10)
حكم سب الدين
السؤال
هل سب الدين كفر مخرج من الملة؟
الجواب
الإجماع على أن سب الدين كفر مخرج من الملة، أما الساب فهل يخرج من الملة أو لا يخرج؟ هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فجمهور السلف على أن ساب الدين يكفر بذلك، وابن تيمية له تفصيل في ذلك، قال: إن أراد بالدين: شرع الله الذي نزل من السماء، فيكفر بالإجماع، وإن أراد به أخلاق المسبوب فلا يكفر، لكن ينبغي أن يعزر ويؤدب حتى لا يتعود أن يسب الدين.(41/11)
شرح كتاب الإبانة - ما جاء من الآثار في كراهة الخوض والكلام في القدر
ورد في الأحاديث النبوية وآثار الصحابة كراهة الخوض في القدر والكلام فيه؛ وذلك لأن القدر من أسرار الله عز وجل، نمره كما جاء عنه سبحانه من غير خوض فيه؛ لأن الخوض فيه هو سبيل إلى الشك والكفر بالله عز وجل.(42/1)
الأحاديث والآثار في كراهة الخوض والكلام في القدر
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: ففي الدرس الماضي تكلمنا عن القدر وكان هو بداية الكلام عن القدر، وبينا هناك أن الله تعالى خالق الخير والشر بدليل أنه خلق إبليس الذي هو رأس الشر.
وأن للقدر مراتب أربعاً: المرتبة الأولى: مرتبة العلم.
والمرتبة الثانية: مرتبة الكتابة ومن أنكرهما كفر بالإجماع.
والمرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة، وقيل: المشيئة على خلاف بين أهل العلم فيما يتعلق بمعنى الإرادة والمشيئة.
والمرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، والمقصود بها: أن الله تعالى خالق الخير والشر، وأن العبد مكتسب الخير والشر.
إذاً: الأفعال والأعمال في حق العبد اكتساب، وفي حق الرب تبارك وتعالى خلق وإيجاد، الله تعالى خلق وأوجد الخير والشر، ولكن الذي باشر ومارس الخير والشر بنفسه هو العبد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد كان سلفنا وأئمتنا رحمة الله تعالى عليهم يكرهون الكلام في القدر، وينهون عن خصومة أهله ومواضعتهم القول في ذلك أشد النهي، ويتبعون في ذلك السنة وآثار المصطفى].
هناك أحاديث جاءت في القدر، لكن بعضها ضعيف والآخر صحيح أو حسن، فمن الضعيف قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه عنه [عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)]، وهو حديث ضعيف، والحسن: هو حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يتذاكرون شيئاً من القدر -أي: يتباحثون في بعض مسائل القدر- فخرج عليهم مغضباً صلى الله عليه وسلم، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان) أي: من شدة الغضب احمر وجهه عليه الصلاة والسلام، فقال: (أبهذا أمرتم؟) أي: أنا أمرتكم أو أن الله أمركم أن تخوضوا في مسائل القدر؟ (أوما نهيتم عن هذا؟ إنما هلكت الأمم من قبلكم في هذا، إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا).
نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوض في هذه المسائل الثلاث؛ لأن الخوض فيها يؤدي إلى الهلكة، (إذا ذكر القدر فأمسكوا) أي: لا تتحدثوا فيه ولا تقولوا: لم؟ وكيف؟ لم فعل الله هذا؟ وكيف فعل الله هذا؟ ولم لم يفعل الله هذا؟ قال: (فإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي) أي: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام (فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا) هذه الثلاثة أشياء نحن مطالبون ومأمورون ألا نخوض فيها أبداً، وإنما نؤمن بها كما جاءت.
قال: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ -أبهذا وكلتم؟ - انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه)]، كأنه عليه الصلاة والسلام قال: لقد نهيتهم عن الكلام في القدر، فما بالكم تخالفون هذا النهي؟ قال: [وعن ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع ناساً يتذاكرون القدر، فقال: إنكم قد دخلتم في شعبتين بعيدتي الغور -يعني: قعرهما بعيد ومهلك- فيهما هلك أهل الكتاب)] كأنه يذكر القدر والنجوم.
قال: [وعن مسلم بن يسار رحمه الله تعالى لما سئل عن القدر فقال: واد عميق لا يدرك غوره -أي: قعره وبعده- قف عند أدناه.
واعمل عمل رجل يعلم أنه يجزى بعمله، وتوكل توكل رجل يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وعن محمد بن إبراهيم القرشي عن أبيه قال: كنت جالساً عند ابن عمر فسئل عن القدر فقال: شيء أراد الله ألا يطلعكم عليه].
كأن القدر هذا هو سر الله تعالى، وهذا قد جاء صريحاً عن علي بن أبي طالب: القدر سر الله تعالى في خلقه.
فلما سئل ابن عمر عن القدر قال: [شيء أراد الله ألا يطلعكم عليه.
فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم.
وعن ميمون بن مهران قال: ثلاث ارفضوهن -أي: ارفضوا الكلام فيهن- ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجوم، والنظر في القدر]، فكأن هذه من مسائل الإجماع عند السلف؛ لأن الكل أجمع على النهي عن الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، والإمساك عن النجوم وأن لها عملاً وتأثيراً في الخلق، وكذلك الكلام عن القدر.
قال: [وسئل يحيى بن معاذ الرازي عن القدر فقال: من أحب أن يفرح بالله ويتمتع بعبادة الله فلا يسألن عن سر الله، يعني: القدر].(42/2)
الكتاب والسنة يخرجان من مشكاة واحدة
قال الشيخ ابن بطة رحمه الله يشرح موقف السلف القديم الذي ذكرناه هذا: [فإن قال قائل: قد رويت أحاديث في الإمساك عن الكلام في القدر والنظر فيه، ومع هذا فقد روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام وعن جماعة من التابعين وفقهاء المسلمين أنهم تكلموا فيه]، فكأن الإمام ابن بطة عليه رحمة الله يقول: ظاهر النصوص في باب القدر فيها تضارب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن القدر ونهى عن الكلام في القدر، والصحابة نهوا عن القدر وتكلموا في القدر، وكذلك التابعون وأتباع التابعين وفقهاء المسلمين نهوا عن الكلام في القدر ومع هذا تكلموا فيه، بل صنفت كتب كثيرة جداً في القدر، منها ما كان بأيدي سلفنا رضي الله عنهم، ومنها ما هو بيد المعاصرين لـ ابن بطة أو حتى ممن جاء بعد ابن بطة، فظاهر الكلام التضارب والتعارض، وأنتم تعلمون إذا كان الله تعالى نهانا عن الكلام في القدر وتكلم فيه، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان قد نهانا عن القدر وتكلم فيه فلا شك أن مشكاة الوحي واحدة، وإذا كانت مشكاة الوحي واحدة ومصدرها السماء، والكلام كلام الله عز وجل فلا يمكن أن يكون فيه تضارب ولا تعارض: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
فلما لم يكن فيه أدنى اختلاف كان ذلك يقيناً أن هذا الكلام من عند الله عز وجل، أما هذا الكلام الذي ظاهره التعارض فمآله إلى ما يسمى عند أهل العلم بتأويل مختلف الحديث، وتأويل ما ظاهره الاختلاف وليس الائتلاف، فإذا كان الأمر كذلك فقد قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى وهو سيد المسلمين وشيخ المحدثين في زمانه: أشهد أنه ما بين نصين وردا عن الله ولا عن رسوله عليه الصلاة والسلام أدنى تعارض، ومن وجد شيئاً من ذلك فليأتني به لأؤلف له بينهما.
فلا تعارض قط بين نصوص الوحي خاصة إذا كانت صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان قد ورد في القدر إباحة الكلام فيه والنهي عن الكلام فيه، وكذلك الصحابة وكذلك النجوم فمآل ذلك إلى التأويل.(42/3)
بيان ما يجوز فيه ذكر النجوم وما لا يجوز فيه ذكر النجوم
قال: [أما النجوم فقد ورد فيها كلام بالإباحة وكلام بالمنع فأحدهما واجب علمه والعمل به، فأما ما يجب علمه والعمل به فهو أن نتعلم نحن من النجوم ما نهتدي به في ظلمات البر والبحر كما أمر الله عز وجل، ونعرف به القبلة والصلاة والطرقات، فبهذا العلم من النجوم نطق الكتاب ومضت السنة.
إذا نظرنا إلى الآيات المتعلقة بالنجوم في الكتاب والسنة لكان مدار هذه الآيات وهذه الأحاديث بأن نتعلم من النجوم ما نستنير به في طرقاتنا في البر والبحر، ونعرف به القبلة، ونعرف به مواقيت الصلوات وغير ذلك، فلا يجوز لنا بعد ذلك أن نتعلم من النجوم شيئاً غير الذي أمرنا الله تعالى به، وأمرنا به رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن ما لا يجوز النظر فيه -أي: في النجوم والتصديق به- ويجب علينا الإمساك عنه من علم النجوم فهو ألا نحكم للنجوم بعمل، لا نقول: إن النجوم لها تأثير في الأعمال؛ لأن النجوم لا تعمل شيئاً.
أفل نجم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لأصحابه: ما كنتم تقولون في مثل هذا؟ قالوا: والله يا رسول الله! كنا نقول: لا يكون ذلك إلا لموت عظيم أو لميلاد عظيم، فبين النبي عليه الصلاة والسلام فساد هذه العقيدة، وقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا تنخسف لموت أحد ولا لميلاده) فالخسوف والكسوف آيتان من آيات الله تتم بقدر الله عز وجل، فلا تسأل: لماذا وكيف؛ لأن هذا مما نهيت عنه أيضاً، ولا يقضى لها بالحدود في أمره كما يدعي الجاهلون من علم الغيوب بعلم النجوم ولا قوة إلا بالله، فهذا الذي نهينا عن الكلام فيه].(42/4)
بيان ما يجوز فيه أن يقال عن الصحابة إذا ذكروا وما يجب الإمساك عنه عند ذكرهم
قال: [وكذلك أمر الصحابة رضي الله عنهم، فكذلك أمرهم على وجهين.
الأول: فرضي علينا علمه والعمل به، والثاني: يحرم علينا الخوض فيه.
فأما الواجب علينا علمه والعمل به فهو ما أنزله الله في كتابه من وصفهم وما ذكره من عظيم أقدارهم وعلو شرفهم ومحل رتبتهم، وما أمرنا به من الاتباع لهم بإحسان مع الاستغفار لهم، وعلم ما جاءت به السنة من فضائلهم ومناقبهم، وعلم ما يجب علينا حبهم لأجله من فضلهم وعلمهم ونشر ذلك عنهم؛ لتنحاش القلوب إلى طاعتهم]، أي: لتنحاز وتميل القلوب إلى طاعتهم.
قال: [وتتألف على محبتهم، فهذا كله واجب علينا علمه والعمل به.
ومن كمال ديننا طلب ذلك]، كما أنه من كمال ديننا معرفة فضائل الصحابة رضي الله عنهم ونشر هذه الفضائل والمناقب في الناس؛ حتى يتحلوا بهذه الأخلاق الكريمة التي هي أخلاق سلفنا رضي الله عنهم خاصة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وأما الذي يجب علينا تركه ويحرم علينا الخوض فيه وفرض علينا الإمساك عنه هو النظر فيما شجر بين الصحابة] النظر فيما اختلف فيه الصحابة خلافاً أدى إلى النزال والوقاع والحروب بينهم لا أن ذلك في الفروع، فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في فروع المسائل العملية التي هي مسائل الأحكام الفقهية، فهذا لم ننه عن النظر فيه بل نحن مستفيدون من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المسائل العملية هذه.
أما ما شجر بينهم من خلاف ونزاع وحروب فنحن قد أمرنا أن نمسك عن هذا؛ ولذلك لما سئل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه عن الفتنة التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما فقال: فتنة نزه الله منها سيوفنا، فلم لا ننزه منها ألسنتنا؟ فهذا كلام الإنسان الفقيه البصير بما وجب عليه وما نهي عنه، فيحرم علينا النظر فيما شجر بينهم.
قال: [والخلف الذي كان جرى منهم؛ لأنه أمر مشتبه، ونرجئ الشبهة إلى الله عز وجل، ولا نميل مع بعضهم على بعض، ولا نظلم أحداً منهم، ولا نخرج أحداً منهم من الإيمان، ولا نجعل بعضهم على بعض حجة في سب بعضهم لبعض، فرضي الله عنهم].
فإذا وقع بينهم السباب والشتائم فهل هذا حجة لنا أن نسب أحد الفريقين؟ ليس في ذلك حجة، ولذلك كلام الأقران يطوى ولا يروى، فضلاً عن أن هذا السب فيما يبدو للقائل أو الناظر أنه سب، لكن لو أخذنا مثالاً لقول عائشة رضي الله عنها في أبي هريرة رضي الله عنه.
تقول: كذب أبو هريرة لم يكن رسول الله عليه الصلاة والسلام يسرد الحديث كسرده هذا؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يجلس تحت جدار غرفة عائشة رضي الله عنها في المسجد، ويسأله الصحابة والتابعون، فيسرد لهم الحديث سرداً، وكان مكثراً وأمة في العلم كما تعلمون.
فقالت عائشة رضي الله عنها: (كذب أبو هريرة.
والله ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسرد كسرده، وإنما كان إذا أراد العاد أن يعد كلامه لأحصاه؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً لتفهم عنه) وفي رواية: (لتعقل عنه)، ولما سئلت عائشة عما قال عبد الله بن عمر في شأن تعذيب الميت ببكاء أهله وأنه قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)، قالت: كذب أبو عبد الرحمن، إنما ذلك الكافر هو الذي يعذب ببكاء أهله عليه.
فالشاهد هنا: أنها قالت: كذب أبو عبد الرحمن، وفي الحقيقة لو نظرنا إلى معنى الكذب في اللغة والاصطلاح لوجدنا أن الكذب: هو إخراج الكلام على غير الحقيقة، وأرادت عائشة رضي الله عنها بإطلاق لفظ الكذب أن أبا عبد الرحمن تكلم بكلام على غير جهة الحقيقة، كأنها قالت: أخطأ أبو عبد الرحمن، فالكذب بمعنى: الخطأ.
أخطأ أو ظن ظناً لا يوافق الواقع أو الحقيقة.
فالصحابة رضي الله عنهم إذا وقع منهم شيء من ذلك فلا يحل لنا نحن أن نقول: كذب أبو عبد الرحمن أو كذبت عائشة، وإنما يجب علينا تركه كما قلنا.
قال: [ولا نجعل بعضهم على بعض حجة في سب بعضهم لبعض، ولا نسب أحداً منهم بسبه صاحبه، ولا نقتدي بأحد منهم في شيء جرى منه على صاحبه، ونشهد أنهم كلهم على هدى وتقوى وخالص إيمان؛ لأنا على يقين من نص التنزيل وقول الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم أفضل الخلق، وخير الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولأن أحداً ممن أتى بعدهم ولو جاء بأعمال الثقلين الإنس والجن من أعمال البر، ولو لقي الله تعالى ولا ذنب له ولا خطيئة عليه؛ لما بلغ ذلك أصغر صغيرة من حسنات أدناهم، وما فيهم دني، ولا شيء من حسناتهم صغير.
والحمد لله].(42/5)
ما يجوز الكلام فيه في القدر وما لا يجوز الكلام فيه
قال: [وأما الكلام عن القدر فعلى وجهين كذلك]، فقد بينا الوجهين في النجوم والوجهين في الصحابة، يبقى أن نبين الوجهين في القدر.
قال: [فالقدر الواجب علينا علمه والتصديق به والإقرار بجميعه أن نعلم أن الخير والشر من الله -هذا الذي يجب علينا علمه في باب القدر الذي قد ورد به النص في الكتاب والسنة- وأن الطاعة والمعصية بقضاء الله وقدره، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً، علمهم بأسمائهم وأسماء آبائهم قبل أن يخلقهم، ووفقهم لأعمال صالحة رضيها سبحانه، وأمرهم بها؛ فوفقهم لها وأعانهم عليها وشكرهم بها، وأثابهم الجنة عليها].
يعني: الأعمال سبب، لكن دخول الجنة بفضل الله عز وجل منه ورحمة.
قال: [وخلق النار وخلق لها أهلاً أحصاهم عدداً، وعلم ما يكون منهم، وقدر عليهم ما كرهه لهم، خذلهم بها وعذبهم لأجلها غير ظالم لهم، ولا هم معذورون فيما حكم عليهم به].
يعني: ليس لهم عذر؛ لأن الله تعالى أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وجعلهم مكلفين مميزين عاقلين.
قال: [فكل هذا وأشباهه من علم القدر الذي لزم الخلق علمه، والإيمان به والتسليم لأمر الله وحكمه وقضائه وقدره: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]]، هذا الذي يجب علينا الإيمان به في باب القدر.
قال: [وأما الذي يحرم علينا الخوض فيه في باب القدر هو أن نقول في باب القدر: كيف ولم]، كأن نقول: لم خلق الله إبليس؟ والله تعالى قبل أن يخلقه يعلم أنه رأس الشر فلم خلقه إذاً؟ هذا لا يحل لنا أن نتوجه إلى الله تعالى بالسؤال عنه.
قال: [كيف ولم وما السبب؛ لأن القدر هو سر الله تعالى المخزون وعلمه المكتوم، الذي لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وحجب العقول عن تخيل كنه علمه، والناظر فيه كالناظر في عين الشمس -الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس- كل ما ازداد فيه نظراً ازداد فيه تحيراً، ومن العلم بكيفيتها بعداً، فهو التفكر في الرب عز وجل: كيف فعل كذا وكذا؟ ثم يقيس فعل الله عز وجل بفعل عباده، فما رآه من فعل العباد جوراً يظن أن ما كان من فعل مثله جور، فينفي ذلك الفعل عن الله، فيصير بين أمرين: إما أن يعترف لله عز وجل بقضائه وقدره، ويرى أنه جور من فعله، وإما أن يرى أنه ممن ينزه الله عن الجور فينفي عنه قضاءه وقدره].
فينفي ذلك الفعل عن الله يقول: ليس ممكناً أن الله يعمل هكذا؛ لأن هذا ظلم؛ لأنه لو كان من عند خلقه لكان ظلماً.
يعني: يقول مثلاً: الله تعالى يلقي الكافر في النار وهو الذي قدر عليه الكفر أولاً فكيف يعذبه آخراً؟ قال: ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا هو الذي استدرج عبيده إلى الوقوع في الخطأ والبعد عن الصواب ثم عاقبهم على ذلك لكان هذا منه ظلماً، يقيسون فعل العبد على أفعال الله عز وجل.
يقولون: الله تعالى خلق إبليس وهو يعلم أنه رأس الشر ثم يعذبه بعد ذلك، هذا من الظلم؛ لماذا وقعوا في هذا؟ لأنهم قاسوا أفعال الله على أفعال العبيد.
والمعلوم أن الله تعالى واحد في أفعاله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، هذا الذي حدا بالقدرية إلى الكفر بالله عز وجل: قياس أفعال الخالق على أفعال المخلوق.(42/6)
حكم من قال: (لم خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيعصيه)
قال: [فيصير القدري بين أمرين: إما أن يعترف لله عز وجل بقضائه وقدره، ويرى أنه جور من فعله -أي: يرى أن فعل الله تعالى فيه ظلم وتعد على العباد- وإما أن يرى أنه ممن ينزه الله عن الجور؛ فينفي عنه قضاءه وقدره -وكلاهما شر- فيجعل مع الله آلهة كثيرة يحولون بين الله وبين مشيئته، فبالفكر في هذا وشبهه، والتفكر فيه والبحث والتنقير عنه هلكت القدرية؛ حتى صاروا زنادقة وملاحدة ومجوساً، حيث قاسوا فعل الرب بأفعال العباد، وشبهوا الله تعالى بخلقه، ولم يعوا عنه ما خاطبهم به، حيث يقول تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]]، ولما كانت هذه الجزئية من الجزئيات العظيمة أراد ابن بطة أن يضرب مثلاً.
قال: [فمما لا يحل لأحد أن يتفكر فيه ولا يسأل عنه ولا يقول فيه: لم لا ينبغي لأحد أن يتفكر؟ لم خلق الله إبليس؟] وأنتم تعلمون أن كثيراً من الناس يسأل هذا السؤال.
قال: [لم خلق الله إبليس وهو قد علم قبل أن يخلقه أنه سيعصيه، وأنه سيكون عدواً له ولأوليائه؟ ولو كان هذا من فعل المخلوقين إذا علم أحدهم أنه إذا اشترى عبداً يكون عدواً له ولأوليائه ومضاداً له في محابه، وعاصياً له في أمره، ولو فعل ذلك لقال أولياؤه وأحباؤه: إن هذا خطأ وضعف رأي وفساد نظام الحكمة، فمن تفكر في نفسه وظن أن الله لم يصب في فعله حيث خلق إبليس فقد كفر].
يعني: لو أن واحداً قال: لم خلق الله إبليس وهو يعلم أنه سيعصيه وسيكون عدواً له ولأوليائه؟ وقاسوا ذلك على رجل عظيم أو ملك من ملوك الدنيا اشترى عبداً وهو يعلم أن هذا العبد سيئ الخلق وسيكون عدواً له ولبقية العبيد عنده.
قالوا: هذا الملك لابد أنه سيكون سفيهاً حينئذ، فقارنوا فعل الملك بفعل الله عز وجل.
قال الإمام: من قاس أفعال المخلوقين بأفعال الخالق فنتج عن ذلك السفه والغفلة فقد كفر، وهذا كلام في غاية الثبات؛ لأن الله تعالى واحد في أفعاله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] سبحانه وتعالى.
قال: [ومن قال: إن الله لم يعلم قبل أن يخلق إبليس أنه يخلق إبليس عدواً له ولأوليائه فقد كفر، ومن قال: إن الله لم يخلق إبليس أصلاً فقد كفر].
لأنه لابد أن يقول: إن مع الله آلهة أخرى خلقت إبليس، والله تعالى واحد في خلقه فهو الخالق أو يقول: إن إبليس خلق نفسه، وكل هذا كفر وضلال.
قال: [وهذا قول الزنادقة والملاحدة.
فالذي يلزم المسلمين من هذا أن يعلموا أن الله خلق إبليس وقد علم منه جميع أفعاله؛ ولذلك خلقه].
يعني: لما علم الله تعالى ما سيكون عليه إبليس من الفساد في الأرض وإفساد العباد على الله عز وجل خلقه.
قال: [ويعلم أن فعل الله ذلك عدل وصواب] يعني: لابد أن تعلم أن الله تعالى علم ماذا سيصنع به ومع هذا خلقه، وما خلقه الله تعالى إلا من باب الحكمة والعدل.
قال: [وأن الله تعالى في جميع أفعاله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
ومما يجب على العباد علمه وحرام عليهم أن يتفكروا فيه ويعارضوه في آرائهم، ويقيسوه بعقولهم وأفعالهم، لا ينبغي لأحد أن يتفكر: لم جعل الله لإبليس سلطاناً على عباده وهو عدوه وعدوهم مخالف له في دينه، ثم جعل له الخلد والبقاء في الدنيا إلى النفخة الأولى؟].
أي: لم جعل الله كل هذا السلطان لإبليس وأعوانه وهو قادر على ألا يجعل له ذلك؟ لو شاء الله تعالى أن يهلكه من ساعته لفعل؛ فلم لم يفعل؟ ولو كان هذا من فعل العباد لكان خطأً؛ لأن الملك إذا أخطأ عبد مرة أو اثنتين أو ثلاثة -وربما لا يتحمل خطأه من أول وهلة- لقتله ليستريح منه.
فمن قال: فلم لم يقتل الله تعالى إبليس ويريح منه العباد؟ فقد كفر؛ لأن هذا اعتراض على الله تعالى في أفعاله وفي عدله وحكمته.
قال: [ولو كان هذا من فعل العباد لكان خطأً، وكان يجب في أحكام العدل من العباد أن إذا كان لأحدهم عبد وهو عدو له ولأحبائه ومخالف لدينه ومضاد له في محبته أن يهلكه من ساعته، وإذا علم أنه يضل عبيده ويفسدهم؛ ففي حكم العقل والعدل من العبادات ألا يسلطه على شيء من الأشياء، ولا يجعل له سلطاناً ولا مقدرة، ولو سلطه عليهم كان ذلك من فعله عند الباقين من عباده ظلماً وجوراً؛ حيث سلط عليهم من يفسدهم عليه ويضادهم فيه وهو عالم بذلك من فعله] إلى آخر هذا الكلام.(42/7)
حكم مقولة: لم جعل الله لإبليس وذريته سلطاناً أن يأتوا بني آدم
قال: [ومن ذلك نوع آخر أن الله عز وجل جعل لإبليس وذريته أن يأتوا بني آدم في جميع أطراف الأرض].
ليس في مكان بعينه، بل مهما ذهبت في باطن البحر أو في قعر الصحراء فإن إبليس معك، جعل الله تعالى لإبليس سلطاناً على بني آدم في جميع أطراف الأرض، كما أنه جعل له سلطاناً أن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم كما ذكر الله تعالى.
قال: [وجعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، ولم يجعل للرسل من بني آدم ذلك السلطان].
يعني: تصور أن الله تعالى كان قادراً أن يجعل للرسل سلطاناً، ويجرون في عروق ودماء بني آدم كما جعل ذلك لإبليس؛ فلم جعل الله تعالى ذلك لإبليس ولم يجعله لعباده الصالحين من الأنبياء والمرسلين؟ قال: [ولو كان هذا في أحكام العباد لكان من العدل بينهم أن يكون مع إبليس وذريته علامة كعلامة السلطان، أو يكون عليهم أجراس يعرفونهم بها].
يعني: يقولون: لماذا لم يجعل الله لبني آدم علامة وأمارة يعرفون بها إبليس، أو يجعل مع العبد جرساً يكون نذيراً له عندما يقترب منه إبليس؟ لو حصل ذلك فإن الجرس لن يتوقف ولا يكاد ينتهي، بل يضرب باستمرار؛ فيكون في ذلك إزعاج، فيكفيك يا أخي المسلم! أن يبين الله تبارك وتعالى لك في القرآن أن معك قريناً من الشياطين وقريناً من الملائكة، حتى النبي عليه الصلاة والسلام كان معه قرين، إلا أن الله تعالى أعانه عليه فأسلم، فأكبر علامة لوجود إبليس أنه جاثم على صدرك بالليل والنهار لا يبرحك أبداً، وكلما فرغ من وسوسة ذهب إلى وسوسة أخرى، وهذا الذي بينه القرآن وبينته السنة.
ومن الناس من يقول: لو كان الله عز وجل جعل لنا علامة القبول والرد في الأعمال والأقوال لعلمنا ما هو المقبول من أعمالنا وما هو المردود، ولو وقع ذلك لعنت عنتاً شديداً، وواجه مشقة شديدة جداً.
فهذا من رحمة الله عز وجل بك أنه لم يخبرك بهذا، وإلا لكان كل واحد منا الآن إلا من رحم الله في ضيق وعنت شديدين جداً، كلما عمل العبد عملاً رد عليه.
لو وقعت أنا في ضائقة، وأحببت أن أتوسل إلى الله بصالح عملي؛ فإني أقسم بالله العظيم أنني لا أجد لي عملاً صالحاً واحداً، وهذا بلاء عظيم جداً، فمن رحمة الله عز وجل أن أرجع ذلك للآخرة، وبين لك علامات قبول الأعمال وعلامات رد الأعمال في الكتاب والسنة، فشرط قبول العمل الإخلاص لله عز وجل وعدم الشرك والرياء، ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك البدع في الدين.
لو أنك تعمل عند رجل صاحب عمل، وكلما اجتهدت في تحسين العمل رده وقال لك: العمل هذا لا يعجبني.
أعد العمل مرة أخرى، لو أنه فعل بك ذلك مرتين أو ثلاث مرات في عمل واحد وقد بذلت الوسع في إرضائه ولم يرض؛ ليئست من العمل معه وتركته.
فلو أنك يئست من رحمة الله ماذا ستفعل؟ وإلى أين تذهب؟ لابد أنك ستذهب إلى الجحيم باليأس من رحمة الله عز وجل، فمن رحمة الله عز وجل أن ترك ذلك لنا إلى الآخرة، أما أن تطالب الله تبارك وتعالى أن يجعل لك علامات من الآن تعرف بها الخير من الشر، وتعرف بها القبول من الرد فهذا من العنت الذي نهينا عنه كذلك؛ ولذلك هؤلاء لو طالبوا أن يكون لهم علامة كعلامة السلطان، أو يكون عليهم أجراس يعرفونهم بها، ويسمعون حسهم، فيأخذون حذرهم منهم؛ حتى إذا جاءوا من بعيد علم العباد أنهم هم الذين يضلون الناس فيأخذون حذرهم، حينئذ سيكون هذا كلاماً مردوداً، أو يجعل الرسل يصلون إلى صدور الناس، ويزينون طاعة الله لهم، كما يوسوس الشيطان وذريته لهم، ويزين لهم المعصية، وهذا أيضاً من العنت.
كذلك لا ينبغي لأحد أن يقول: لم سلط الله الكفار على الرسل في الدنيا؟ أليس الله قادراً على أن يجعل مع النبي ملكاً من أول لحظة، حتى إذا آذى شخص النبي قتله الملك؟ أليس الله قادراً على هذا؟ لو أن أهل مكة أطبقوا على مخالفة أمره عليه الصلاة والسلام فقام ملك الجبال وأطبق عليهم الأخشبين.
أليس هذا ممكناً؟
الجواب
نعم.
لكن هذا مخالف للسنن يا إخواني! كذلك الله قادر على أن ينجحك من غير أن تذاكر، لكن هذا مخالف للسنن، والله قادر على أن يوفقك في الامتحان دون أن تنظر في الكتاب ولا أن تحضر المحاضرات؛ لأنه على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، قادر على أن يجعل المرأة رجلاً والرجل امرأة، قادر على أن يجعل السماوات والأرض في بيضة، لكن كل هذا مخالف للسنن؛ فلم يفعله الله عز وجل، وحذرنا أن نسأل مثل هذه الأسئلة؛ لأن هذا هو الضلال بعينه.(42/8)
حكم من قال: لم سلط الله الكفار على الرسل والمؤمنين وهو قادر على إبادتهم؟
ومن الناس من يقول: لماذا ربنا سبحانه وتعالى سلط الكافرين في البوسنة والهرسك وفي الشيشان وفي روسيا وفي أمريكا وفي فلسطين وغيرها على المسلمين؟
الجواب
هذا لحكمة عظيمة جداً لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، فهو يسلط الكافرين على المؤمنين؛ فيموتون شهداء، فهل أجر الشهيد الذي قتل كأجر الذي قتله في الدنيا؟ هذا في الجنة وذاك في النار، فالله تبارك وتعالى علم أن هذا العبد له من الذنوب ما لا يغفره إلا الشهادة في سبيل الله، فجعله عرضة لذلك، وسلط عليه الكافر حتى يموت شهيداً، وهذه حكمة لا يعلمها إلا الله عز وجل.
قال: [ومما لا ينبغي لأحد أن يتفكر فيه لم سلط الله الكفار على الرسل في الدنيا، وسلط الكافرين على المؤمنين حتى قتلوهم وعذبوهم، وقتلوا الذين يقومون بالقسط من الناس، وإنما سلط الله أعداءه على أوليائه ليكرم أولياءه في الآخرة بهوان أعدائه، وهو قادر على أن يمنع الكافرين من المؤمنين، ويهلك الكفار من ساعته، ولكن الله تعالى لم يفعل ذلك لحكمة، ولو كان هذا من أفعال بعض ملوك العباد كان جوراً عند أهل مملكته؛ حيث سلط أعداءه على أنصاره وأوليائه وهو قادر على هلكتهم].
لو أن حاكماً من حكام المسلمين الآن أذن للكفار بدخول بلاده ومملكته وتسلطوا على من كانوا تحت يده من رعيته؛ فلابد أننا سنقول: إن هذا ظلم وجور وخيانة.
وعندما يكون الحاكم جالساً على كرسي ويقول لليهود مثلاً: تعالوا ادخلوا البلاد واقتلوا من شئتم واسبوا من شئتم؛ لابد أن هذا ظلم بين وجور وعمالة، لا يختلف على ذلك أحد، والله تبارك وتعالى سلط إبليس وأعوانه على أوليائه، وسلط أعداءه على أوليائه.
فهل يستوي فعل الله مع فعل ذلك الحاكم أو الملك؟ لا يستويان، الأول جور وظلم وعمالة، والثاني: حكمة وعدل من الله عز وجل.(42/9)
حكم من قال: لم مكن الله لأعدائه في البلاد بالقوة والعتاد وأمر أولياءه أن يقاتلوهم
قال: [وخصلة أخرى من الخصال التي نهينا عنها: أنه لا ينبغي لأحد منا أن يتفكر لم مكن الله لأعدائه في البلاد؟] هذه من المسائل التي أمرنا بالإمساك عنها.
قال: [لم مكن الله تعالى لأعدائه في البلاد وأعانهم بقوة الأبدان ورشاقة الأجسام وأيدهم بالسلاح والدواب، ثم أمر أنبياءه وأولياءه أن يعدوا لهم السلاح والقوة، وأن يحاربوهم ويقاتلوهم، ووعدهم أن يمدهم بالملائكة، ثم قال هو لنفسه: إني معكم على قتال عدوكم، وهو قادر على أن يهلك أعداءه من وقته بأي أنواع الهلاك شاء من غير حرب ولا قتال، وبغير أنصار ولا سلاح].
هذا الكلام وارد، بل هو من عقيدتنا، فالله تعالى قادر على أن يهلك من في الأرض، ويجعلها ملساء جرداء بفعل منه سبحانه وتعالى، فلم يمكن الله تعالى لهؤلاء الكفار، ويمدهم بالسلاح والعتاد والقوة ورشاقة الأجسام وغير ذلك، ويجعل المؤمنين ضعفه أذلة قلة ويأمرهم بإعداد ما استطاعوا؟ هذه المسألة في قمة الأهمية، فهي مسألة اعتقادية.
إن الله تبارك وتعالى مكن للكفار في البلاد، ومكن لهم عن طريق السلاح والعدد والعدة وغير ذلك، ولم يأمرنا الله تبارك وتعالى أن نعد للقتال مع الكفار بنفس ما هم عليه من إعداد، وإنما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، فإعداد العدة سبب لابد منه، وأنتم تعلمون أن الاعتماد على السبب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب مخل بتوحيد الله عز وجل.
فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نعد لأعدائنا ما استطعنا، ولم يأمرنا أن نعد لهم كما أعدوا هم، وإنما جعل ذلك على قدر استطاعتنا، والله تبارك وتعالى لا يحاسبنا على ما هو فوق قدراتنا وطاقاتنا، وإنما يحاسبنا على ما أمرنا به من توخي الحذر وإعداد ما في استطاعتنا ومقدورنا، وبعد ذلك الله تعالى معنا ونصيرنا، وإذا كنت تريد أن توجه هذا السؤال الآن في مواجهة اليهود في فلسطين أو في غيرها من سائر البلدان الإسلامية في العالم كله فلابد أن نرد عليك بنفس
السؤال
لم لم يمكن الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في مكة؟ ولم لم يمكن له في غزوة أحد أو في غيرها من الغزوات التي أوذي فيها النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
لأن هذه سنن ربانية في الكون لابد من إتمامها لحكمة عظيمة جداً.
علمها من علمها وجهلها من جهلها.
قال: [فلو كان هذا من أفعال العباد وأحكامهم لكان جوراً وفساداً أن يقوي أعداءه على أوليائه، ويمدهم بالعدة، ويؤيدهم بالخيل والسلاح والقوة، ثم يندب أولياءه لمحاربتهم]؛ أي: ثم يدعو أولياءه لمحاربتهم، تصور لو أن دولة اليمن أو عُمان أو غيرها من البلدان الصغيرة جداً التي لا جيش لها، أمر الحاكم فيها أهل بلده أن يدخلوا في حرب ضروس مع إيران؛ فهل الكفة متعادلة؟
الجواب
ليست متعادلة نهائياً، ويغلب على الظن أن النصر لإيران، فلما أدخل أنا الآن في حرب وأنا على يقين أنني خسران فأنا إنسان مجنون لست عاقلاً ألبتة، هذا في أفعال العباد.
أما في أفعال الله عز وجل فالأمر يختلف والموازين تختلف تماماً؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أمرك أن تقاتل عدوك وهو أكثر منك عدداً وعدة، وقد جعل الله تبارك وتعالى لك ملائكة مؤيدين، كما أن الله تعالى معك يسددك ويؤيدك وينصرك ويقويك، وهو تبارك وتعالى في الوقت نفسه ضد أعدائه وخصم لهم، والحرب بين الله تعالى وبينهم، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:15 - 16].
إذاً: الحرب معلنة ومنشورة بين الله تعالى وبين أعدائه، ومن كان الله معه لا يغلب قط، حتى وإن هزم في نظر الناس فإنه ليس عند الله مهزوماً؛ لأن المؤمن يدور أمره في القتال بين أمرين: إما النصر وإما الشهادة، وكلاهما خير، وكلاهما مراد العبد من هذا القتال، فإذا كان الأمر هكذا في أفعال العباد فلا شك أن هذا ظلم وجور، أما في أفعال الله عز وجل فهو عدل وحكمة.(42/10)
الحكمة من خلق الله سبحانه للحيات والأفاعي والعقارب والهوام والسباع
قال: [ومما لا ينبغي كذلك لأحد أن يتفكر فيه أنه لا ينبغي أن يضمر في نفسه فيقول: لم خلق الله الحيات والعقارب والهوام والسباع التي تضر بني آدم ولا تنفعهم وسلطها عليهم؟]، الحية أو الثعبان قد ملئت سماً، لكن الله خلقها، مع أن الله قبل أن يخلقها يعلم أن سمها يضر بني آدم، وأنها عدو من أعدائه، لكن العبد حين يذكر جهنم يقول: لو لم يكن في جهنم إلا الحيات والعقارب لكفى! ومعلوم أن نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة، فلو لم يكن في النار إلا ثعبان واحد يدور على أهل النار لكفى، فيقول هذا السائل: لم خلق الله الحيات والعقارب والهوام والسباع التي تضر بني آدم ولا تنفعهم، وسلطها على بني آدم، ولو شاء ألا يخلقها ما خلقها؟ ولا يجوز أن يوجه هذا السؤال لله عز وجل.
قال: [ولو كان هذا من فعل ملوك العباد لقال أهل مملكته: هذا غش لنا ومضرة علينا بغير حق؛ حيث جعل معنا ما يضر بنا، ولا ننتفع نحن ولا هو به، فمن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل حيث خلق الحيات والعقارب والسباع، وكل ما يؤذي بني آدم ولا ينفعه؛ فقد كفر، ومن قال: إن لهذه الأشياء خالقاً غير الله فقد كفر.
وهذا قول الزنادقة والمجوس وطائفة من القدرية، فهذا مما يجب على المسلمين الإيمان به، وأن يعلم أن الله خلق هذه الأشياء كلها، وعلم أنها تضر بعباده وتؤذيهم هو عدل من فعله، وهو أعلم بما خلق: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]].(42/11)
حكم من قال: لم ترك الله العباد يشركون ويجحدون وهو قادر على هدايتهم
قال: [وكذلك يسأل السائل يقول: لم ترك الله العباد حتى يجحدوا ويشركوا به ويعصوه؟] لم جعل الله تعالى العباد يقعون في الشرك والجحود، وبيد الله تعالى أن يجعلهم مؤمنين، أليس ذلك في مقدور الله؟ بلى، لكن لم جعل الله تعالى الشرك والكفر في العباد مع أنه قادر على أن يجعل كل الخلق به مؤمنين، ولم خلق الله تعالى الشرك أصلاً وجعل له أهلاً وهو قادر على أن يمنع قلوبهم أن تدخلها شهوة شيء من معصيته أو محبة شيء من مخالفته، وهو القادر على أن يبغض للخلق أجمعين معصيته ومخالفته، وقادر على أن يهلك من هم بمعصيته مع همته، وهو قادر على أن يجعلهم كلهم على أفضل عمل عبد من أوليائه فلم لم يفعل الله ذلك؟ قال: [فمن تفكر في نفسه فظن أن الله لم يعدل؛ حيث لم يمنع المشركين من أن يشركوا به، ولم يمنع القلوب أن يدخلهم حب شيء من معصيته، ولم يهد العباد كلهم؛ فقد كفر، ومن قال: إن الله أراد هداية الخلق وطاعتهم له، وأراد ألا يعصيه أحد ولا يكفر أحد فلم يقدر على ذلك؛ فقد كفر، ومن قال: إن الله قدر على هداية الخلق وعصمتهم من معصيته ومخالفته فلم يفعل ذلك وهو جور من فعله؛ فقد كفر، وهذا مما يجب الإيمان به والتسليم له، وترك الخوض فيه والمسألة عنه، وهو أن يعلم العبد أن الله عز وجل خلق الكفار، وأمرهم بالإيمان، وحال بينهم وبين الإيمان، وخلق العصاة، وأمرهم بالطاعة، وجعل حب المعاصي في قلوبهم، فعصوه بنعمته وخالفوه بما أطاعهم من قوته، وحال بينهم وبين ما أمرهم به، وهو يعذبهم على ذلك، وهم مع ذلك ملومون غير معذورين، والله عز وجل عدل في فعله ذلك بهم وغير ظالم لهم، ولله الحجة على الناس جميعاً، له الخلق والأمر تبارك وتعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
فهذا من علم القدر الذي لا يحل البحث عنه ولا الكلام فيه ولا التفكر فيه، وبكل ذلك مما قد ذكرته وما أنا ذاكره إن شاء الله نزل القرآن وجاءت السنة، وأجمع المسلمون من أهل التوحيد عليه، لا يرد ذلك ولا ينكره إلا قدري خبيث مشئوم، قد زاغ قلبه وألحد في دين الله وكفر بالله، وسأذكر الآيات في ذلك من كتاب الله عز وجل الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]]، وكذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا موعدنا في الدرس القادم بمشيئة الله.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(42/12)
الأسئلة(42/13)
حكم الاستثناء في الإيمان
السؤال
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أهل السنة والجماعة أجازوا قول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً ولا على سبيل الاستثناء؟
الجواب
هذا النقل عن ابن تيمية نقل خطأ، ومسألة الاستثناء في الإيمان نحن قد ذكرناها من قبل وقلنا: إن بعض أهل العلم قالوا: إذا كان المراد الشك في الإيمان فحينئذ يقول المؤمن: أنا مؤمن جزماً لا تعليقاً، يعني: لا يعلق ذلك على مشيئة الله، فلا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الإيمان هو عبارة عن إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأنت مؤمن بذلك تحقيقاً، فإذا كان المجال مجال شك في الإيمان لا تعليقاً فأنت مؤمن.
أما إذا كان من باب التزكية أو غير ذلك أو من باب معرفة المآل فكل ذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل، والأعمال بالخواتيم كما قلنا من قبل، فيستحب للمسلم أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.(42/14)
الفرق بين الشيطان والعفريت
السؤال
ما الفرق بين الشيطان والعفريت؟
الجواب
الشيطان والعفريت والمارد كلهم من جنس الجن، وما هم إلا درجات في الشيطنة والعفرتة، تكلمنا سابقاً في مسجد خولة أن الجن درجات، فمن الجن من إذا زادت شقوته فكان شيطاناً، فإذا زادت شيطنته صار عفريتاً، فإذا زاد في شيطنته صار مارداً، فإذا زاد كان كما قال الحافظ ابن حجر: كان عفريتاً نفريتاً، جمع الوصفين.
يقال: هذا فلان عفريت نفريت، يعني: بلغت الشيطنة والأذى والفساد فيه مبلغاً عظيماً جداً ليس بعدهن شيء، وهذه هي الدرجات.(42/15)
حكم زواج الإنسان من الجن
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يتزوج من الجن أم لا؟
الجواب
لا يحل للإنسي أن يتزوج من الجنية، وكذلك الجني لا يتزوج من الإنسية، وهذا يقع، لكنه ليس مشروعاً، فالزنا ممكن حدوثه، والقتل ممكن حدوثه، كل هذه المعاصي ممكنة الوقوع لكنها غير مشروعة.
ومذهب الإمام مالك عليه رحمة الله وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: أن التزاوج مع الجن ممكن مع عدم مشروعيته، ففهم بعض من يعالج بالقرآن أن كلمة (ممكن) في كلام مالك وابن تيمية أنه ممكن شرعاً، وكان هذا في عام (1987) م وظل يدعو الناس في مسجد الرحمة في شارع الهرم: سنزوج إن شاء الله فلاناً من واحدة من أخواتنا من الجن، وفي كل أسبوع يقول: الجنية اعتذرت، أو أن الأخ لم يأت، وكان يجمع الحمقى وما أكثرهم، والناس لا تجتمع إلا لمثل هذه الأشياء التي لا فائدة منها، وذات مرة قلت له: يا سيدنا! إما أن تزوجه الليلة وإلا فقد أعددت رسالة عن منهجك كله سميتها: دليل المحتار في الرد على الشيخ فلان، وسأقرؤها الآن على الجمهور.
قال لي: أرجوك.
قلت له: قل للناس: إن هذا العمل غير مشروع وأنا ما قلت ذلك إلا لجمعكم، فقال ذلك للناس لكن بطريقة لف ودوران، فقلت: لا مشكلة في ذلك.
وقلت له: الشرط الثاني: ألا تدخل هذا المسجد مرة أخرى، فانطلق لا يلوي على شيء، ثم بدأت الدعوة السلفية في هذا المسجد وامتدت بعد ذلك؛ لأن هذا المسجد كان يعج بالتصوف والرقص والطبل في كل ليلة، وأسأل الله أن يحفظ الحاج شعبان صاحب المسجد، الحقيقة أنه رجل فاضل جداً، وأحسبه من الصالحين، ولا أزكيه على الله.
ويذكر أن الشيخ الألباني رحمه الله جاءه أحد الإخوة ونحن في الأردن سنة 1983م فقال له: يا شيخ! لقد اتفقت مع واحدة من الجن أن أتزوجها، وأرجو منك أن تعقد الزواج، فقال الألباني: هذا الزواج لا يمكن أن يتم.
قال: لماذا لا يتم، وقد ذكرتك بالاسم أن تعقد لها؟ قال له: متى العقد؟ قال: لقد تركت ذلك لك من باب احترام أهل العلم، قال: لا مشكلة في ذلك، يوم الخميس القادم في مسجد فلان إن شاء الله، ولا أدري كيف سمع الناس بالخبر وجاءوا من كل حدب وصوب حتى بلغوا الآلاف، فقال الشيخ للرجل: مخطوبتك وصلت يا ولدي؟! قال: لم تصل.
قال: اذهب وادعها، فدخل غرفة الإمام ثم خرج وقال: وصلت يا شيخ! فقال الشيخ: اجعلها تظهر لنا.
قال: لا، سامحني يا شيخ! هذا أمر لا أرضاه لنفسي.
قال: هل تحب هي القرآن؟ قال: كلما قابلتني قالت لي: اقرأ علي القرآن، فقال الشيخ الألباني رحمه الله: ليست العبرة في أن تسمع القرآن، إنما العبرة في أن تقرأ هي القرآن، فإن قرأت عليك القرآن زوجتك وإلا فلا، فدخل الرجل يترجاها ساعتين أن تقرأ آية واحدة أو تقرأ البسملة فأبت.
قال الشيخ: ألم أخبرك أن هذا لن يتم وأنها كافرة وليست مؤمنة، فانظر إلى هذا الموقف، وإلى المواقف التي كانت في مسجد الرحمة، والفرق بينها شاسع، فالشيخ الألباني رجل فتح الله عليه وعلمه، فالعلم نور السماء، أما الذي في مسجد الرحمة فهو إنسان مهرج يجمع الأمة على الغثاء والبدع والضلالات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(42/16)
شرح كتاب الإبانة - ذكر ما أخبرنا به الله أنه ختم على قلوب من شاء من خلقه
لقد أخبرنا الله تعالى في كتابه العزيز بأن خلقاً من خلقه لا يهتدون للحق ولا يسمعونه ولا يبصرونه، بل يختارون الكفر على الإيمان، والضلال على الهدى، وهذا داخل في إرادة الله الكونية، فهو قد كتب قبل أن يخلق خلقه أن من عباده من هو من أهل الإيمان والسعادة، ومنهم من هو من أهل الكفر والشقاوة.(43/1)
ذكر ما أخبرنا الله تعالى به في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فالباب الأول من كتاب القدر في ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده.
إذاً: الختم بإرادة الله عز وجل، فهم لا يهتدون للحق ولا يسمعونه ولا يبصرونه، فقد طبع على قلوبهم؛ لأن هناك ختماً، وقفلاً، وإغلاقاً، وطبعاً، وكل ذلك بإرادة الله عز وجل.
وهنا إن أراد الله تعالى أن يطبع على قلب العبد، ويختم على سمعه وغير ذلك فعل سبحانه وتعالى، إذ إن الله تعالى يعلم أن عبده فلاناً لن يسمع كلام الله، بل لن يطيع الله تعالى، ولن يكون متبعاً لأنبيائه ورسله، فختم الله تبارك وتعالى على قلبه وسمعه بناءً على علمه الأزلي السابق سبحانه وتعالى، وأن هذا العبد إذا بلغه العلم فإنه لا يقبله، وهذا من عدل الله عز وجل.(43/2)
ذكر بعض الآيات الدالة على ختم الله على قلوب من أراد من عباده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6]، الله تعالى يتكلم عن الكافرين، وسواء عليك يا محمد! أأنذرتهم أم لم تنذرهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أنذرهم؛ لأن البلاغ واجب: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، لماذا؟ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7].
فالله عز وجل هو الذي ختم على قلوبهم، وطبع على أعينهم حتى إنهم لا يسمعون الحق: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فالناظر إليهم يجد أنهم بكامل حواسهم، لكن هذه الحواس في حقيقة الأمر غير عاملة، وغير منقادة لله عز وجل.
وقال الله عز وجل: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]، الباء هنا سببية، أي: بل طبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم.
إذاً: هم اختاروا الكفر أولاً، وذلك أن الله عز وجل قد علم أزلاً أنهم سيختارون الكفر على الإيمان، وأنهم سيختارون عصيان الرسل على الانقياد والإذعان والتسليم لهم، فطبع الله تعالى على قلوبهم فهم لا يؤمنون إلا قليلاً.
وقال عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]، فهذه إرادة كونية قدرية، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].
وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25]، والأكنة جمع كنان وهو الغطاء، {أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام:25]، يعني: هم لا يفقهونه، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25].
وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، هذه إرادة شرعية دينية؛ لأن الإرادة الشرعية الدينية مبنية على المحبة والرضا، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، وهذه الأخرى إرادة كونية قدرية.
وقال عز وجل: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:93].
وقال أيضاً: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87].
وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل:108].
وقال عز وجل: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45].
أي: ساتراً، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46].
وقال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57].
وقال عز وجل: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:198 - 201].
وقال عز وجل: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُم(43/3)
هل الإنسان مخير أم مسير؟
قال: [فهذا ونحوه من كتاب الله عز وجل مما يستدل به العقلاء من عباد الله عز وجل المؤمنين على أن الله عز وجل خلق خلقاً من عباده أراد بهم الشقاء].
قوله: (أراد بهم الشقاء)، الإرادة هنا إرادة كونية قدرية، لكن قد يتوجه سؤال وهو: إذا كان الله تعالى قبل أن يخلق العبد كتبه من أهل الشقاء، وأراد به الشقاء، ولأجله خلق النار، فلم يعذبه على ذلك؟! على أية حال الإرادة إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبر الوالدين والإحسان إلى الجيران وغير ذلك، ومع هذا فإنها إرادة كونية، بمعنى: أنها تقع في الكون، وعليه فكل إرادة شرعية دينية هي كذلك قدرية كونية، وليس العكس.
وكأن السؤال المطلوب على ألسنة العامة: هل الإنسان مسير أم مخير؟ هو في حقيقة الأمر مخير بعد البلاغ، فلما علم الله تعالى أزلاً أن عبده بعد البلاغ سيختار الضلال كتبه مع الأشقياء، وهذا منتهى العدل، فالله تعالى قبل أن يخلقك وهو العليم الخبير يعلم كل شيء في الأزل، بلا أول ولا آخر؛ لأن علمه يختلف عن كل مخلوق من المخلوقين.
فالله تعالى علم أن عبده فلاناً بعد بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا يختار طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يختار طريق الضلالة والغواية والكفر، مع أن الشرع قد بلغه، لكنه اختار غيره، كأن اختار طريق النصرانية أو اليهودية أو البوذية أو غيرها من الديانات، فلما علم الله تعالى أزلاً أن عبده فلاناً لا يكون منصاعاً ومنقاداً للنبي عليه الصلاة والسلام كتبه من الكافرين الأشقياء، ولأجله خلق النار سبحانه وتعالى.
والله تعالى لما عذبه بإرادته سبحانه وتعالى لم يظلمه، وإنما ذلك قمة ومنتهى العدل؛ لأنه سبحانه علم أزلاً أن هذا العبد لا يؤمن فكتبه أنه من الكفار، كتبه من أول ذنب شقياً، إذ إن الله علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلا إشكال حينئذ، لكن قد يقول قائل: أنا أعمل هذه المعصية، ثم أنا ذاهب إلى النار! ما أدراك أنك ذاهب إلى النار؟ من الذي قال لك هذا؟ إذ إن الأعمال بالخواتيم، وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس بالعكس، فالعبد لا يدري بماذا يختم له، فكيف يقطع لنفسه بالجنة أو بالنار؟ إذاً: كل ميسر لما خلق له، وكل إنسان يجتهد في طاعة الله عز وجل، ولا يقول: أنا من الأشقياء! قد قضي الأمر.
لا، بل لابد أن يسلك طريق الخير والفلاح.
فلو أن طريقاً معبداً وطريقاً غير معبد، يعني: طريق سهل والآخر عسير جداً، وقلنا: كلا الطريقين يؤدي إلى الهدف الذي تريد أن تصل إليه، فحيئذ أي الطريقين ستختار؟ بلا شك المعبد، وهذا موقف العقلاء.
أما الطريق المكسر والمليء بالشوك والحجارة وغير ذلك فإنها لا يختارها أحد.
فكذلك طريق النار وطريق الجنة، فطريق الجنة محفوف بالمكاره، وطريق النار محفوف بالشهوات، والله تبارك وتعالى بين لك هذا في كتابه، وبينه لك رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته.
فقال: لا تدخل الجنة إلا إذا صليت وصمت وزكيت وحججت وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وأتيت بسائر الطاعات، ونهاك عن المعاصي، فإن وقعت فيها فأنت من أهل النار، فالذي يزني أو الذي يعصي وهو يعلم أن غاية المعصية تؤدي به إلى النار ثم هو لا يتوب فهو على خطر عظيم، وإن كانت المعصية شركاً بالله أو كفراً فهو مخلد في النار.
وإن كانت معصية كبيرة أو صغيرة وهو قائم على الإسلام وتوحيده، أو يقصر بالأوامر، فإنه بمشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(43/4)
نفوذ علم الله السابق الأزلي
قال الإمام: [فهذه الآيات ونحوها من القرآن الكريم مما يستدل به العقلاء من عباد الله المؤمنين على أن الله عز وجل خلق خلقاً من عباده أراد بهم الشقاء، فكتب ذلك عليهم في أم الكتاب].
وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ، فعلم الله تعالى أن عبده فلاناً بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤمن به، بل يبقى على اليهودية، فكتبه في الأشقياء في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل النفي ولا الإثبات إلا ما أثبته هو سبحانه، فقال {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، أي: في الكتب التي بأيدي الملائكة والحفظة الكرام، أما اللوح المحفوظ فإنه لا يمحى منه شيء كما لا يثبت فيه شيء.
فلما علم الله تعالى أن عبده فلاناً يكفر ويموت كافراً كتبه في اللوح المحفوظ، وهذه مرتبة من مراتب القدر وهي الكتاب، والمرتبة الأولى: مرتبة العلم الأزلي لله عز وجل، وأن الله تعالى كتب هذا العلم في اللوح المحفوظ، فهو لا يتبدل ولا يتغير، والعبد لا يدري ماذا كتب له، إذاً فماذا عليه؟ عليه أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، ثم يتقرب إلى ربه بجناحي الخوف والرجاء، الخوف من الله تعالى ومن عذابه وناره، والرجاء في رحمته وجنته، وأن يقبض العبد على الإيمان والإسلام.
قال: [فختم على قلوبهم، فحال بينهم وبين الحق أن يقبلوه، وغشى أبصارهم عنه فلم يبصروه، وجعل في آذانهم الوقر فلم يسمعوه، وجعل قلوبهم ضيقة حرجة، وجعل عليها أكنة ومنعها الطهارة، فصارت نجسة؛ لأنه خلقهم للنار، فحال بينهم وبين قبول ما ينجيهم منها، فإن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].
وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]]، أي: نفذ علم ربك السابق الأزلي، ففي فلان أنه مسلم، وفي فلان أنه كافر.
وانظر لحديث ابن مسعود الطويل في الصحيحين: (إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك -ملك الأرحام- ويؤمر بكتب أربع: رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد)، كيف يكتب عليه الشقاء وهو لم يفعل ما يستوجب هذا الشقاء؟ الله تعالى علم أن هذا العبد إذا ولد وعاش فإنه لا يكون طائعاً ولا منقاداً، وإنما يكون شارداً عنيداً زنديقاً ملحداً كافراً، فلما علم الله تعالى ذلك أزلاً كتب هذا، بمعنى: سجله عليه بأن عبده سيفعل ذلك، وفي نهاية الأمر سيكون مآله إلى جهنم.
والله تعالى ليس بظالم لعبده مع هذا؛ لأن الله تعالى أفرغ عذره بإرسال الأنبياء، وإنزال الكتب التي فيها هدى ونور، ثم جعله محلاً للتكليف؛ لأن الصبي ليس محلاً للتكليف، والمجنون ليس محلاً للتكليف، والناسي ليس محلاً للتكليف.
لكن على أية حال هذه الموانع تجعل الله تعالى لا يحاسب العبد، فتصور طفلاً نشأ نصرانياً ومات، أو طفلاً مات قبل أن يبلغ، فأين هو في الآخرة؟ في الجنة، لذلك فأطفال المشركين قد اختلف فيهم أهل العلم، و (النبي عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أطفال المشركين قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)، ولما سئل بعد ذلك قال: (هم في الجنة)؛ لأنه لم يبلغ سن التكليف حتى يعاقب ويحاسب.
وكذلك لو أن طفلاً نصرانياً مصاب بالجنون، ومات في سن الخمسين، فهل يحاسبه الله عز وجل؟ لا يحاسبه؛ لأن مناط التكليف قد ذهب عنه وهو العقل، فإذا كان الله تعالى أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب وجعلك عاقلاً بالغاً مميزاً مكلفاً فلا بد أن يحاسبك حينئذ، وهذا من تمام عدل الله عز وجل ورحمته بعباده.(43/5)
الشر المحض ليس في أفعال الله تعالى
قال: [فهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به -أي: هذا الذي قلناه وذكرناه فرض على أهل الإيمان أن يؤمنوا به- وأن يردوا علم ذلك ومراد الله تعالى فيه إلى الله، ولا ينبغي للمخلوقين أن يتفكروا فيه ولا يقولوا: لم فعل الله ذلك؟ ولا كيف صنع ذلك؟ وفرض على المؤمن أن يعلم أن ذلك عدل من فعل الله].
لأنك لو لم تثبت العدل في أفعال الله تعالى فلا بد أن تثبت الجور والظلم، والله تعالى منزه عن كل صفات النقص ومنها الظلم والجور.
قال: [لأن الخلق كله لله عز وجل، والملك ملكه والعبيد عبيده، يفعل بهم ما يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويشقي من يشاء، ويذمه على الشقاء]، أي: أن الله تعالى يشقي من يشاء، ومع هذا يذمه على الشقاء، فيريد الله تعالى به الشقاء إرادة كونية قدرية، الله تعالى يكره الكفر، ومع هذا خلقه، فالله تعالى يكره إبليس ويلعنه ومع هذا خلقه، فلا نقول: لم خلق الله إبليس؟ وكيف خلق الله إبليس؟ وما الحكمة من خلق الله لإبليس؟ الحكمة عظيمة جداً من خلق هذه الأشياء التي تضر ولا تنفع في نظر العبد، لكن نفعها كامن في حكمة الله عز وجل؛ ولذلك ليس من أفعاله تبارك وتعالى خلق الشر المحض، بل الشر الذي معه الخير.
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك)، أي: والشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، لكن الشر الذي معه الخير من أفعاله سبحانه، فلو أن قاتلاً قتل، ثم أقمنا الحد على القاتل بالقصاص، فأزهقنا روح الرجل، فكان في ذلك العبرة العظمى لكل من سولت له نفسه أن يقتل، فإنه سيفكر مليون مرة أنه سيقتل في مقابل قتلته.
إذاً: لو رفعت هذه الحدود من حياة الناس فإن الجرائم سترتكب بصورة فظيعة جداً؛ لأن القاتل يعلم أنه لا يقتل، والزاني يعلم أنه لا يرجم، والسارق يعلم أنه لا يقطع، ولو كان ذلك قائماً في الأمة لفكر كل إنسان في جريمته قبل أن يرتكبها، وبالتالي تراجع عنها قبل الإقدام عليها.
فهذا في حد ذاته خير عام للأمة كلها، وإن كان شراً بالنسبة للفرد.
ولو قلنا: إن أولياء القتيل قد تنازلوا عن القصاص، فالذي يتنازل عن القصاص يرجع إلى الدية، والدية مائة ناقة، ولو قلنا الآن أن الناقة بثلاثة آلاف جنيه، إذاً تكون دية هذا المقتول ثلاثمائة ألف جنيه.
فلو أن أهل القتيل فقراء، فإن ثلاثمائة ألف جنيه تغنيهم، وهذا في حد ذاته خير، وكان من العرب من يختار الدية في القتل العمد؛ لأن المسلم مخير بين ثلاث: القصاص أو الدية أو العفو، {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، يعني: العفو أفضل، والقصاص والدية كلام الله عز وجل، والدية هذه يسميها العامة: العوض، إذاً هذا الشر الذي قدره الله تعالى في الكون فيه جانب من جوانب الخير، حتى بالنسبة للقاتل، فهو دفع ثلاثمائة ألف جنيه، وهذا يعتبر خراب بيوت، لكن فيه أنه سيرتدع ولا يفكر فيها ألبتة؛ لأنه ربما قتل في المرة القادمة.
المهم هناك فوائد كثيرة جداً، وأنه ليس في أفعال الله تبارك وتعالى الشر المحض، بل فيه الخير، ومن أعظم الخير للقاتل إذا دفع الدية أن يمشي آمناً على الأرض، مع أنه قد ارتكب كبيرة من الكبائر، فهذه فائدة عظيمة جداً، وخير عظيم جداً، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، والقصاص دم مقابل دم، ونفس مقابل نفس، ورقبة مقابل رقبة، بينما لو ترك القاتل دون قصاص فانظر ما يحدث، يقول لك: فلان قتل من بني فلان أو من أسرة فلان، ونحن والله لا نرضى أن نقتل منهم فلاناً، بل لا بد أن نقتل منهم عشرة، والعشرة هؤلاء هم فلان وفلان وفلان، ويعدون أشراف العائلة التي منها القاتل، ويقولون: هذا الذي قتل ليس إنساناً معروفاً، ولا قيمة له، وإنما نختار زينة العائلة، وأكثر من هذا من يقول لك: والله لن ندع رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً في العائلة إلا قتلناه؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]! نعم النفس بالنفس لا النفس بالأنفس، أو الأنفس بالنفس، فهي نفس واحدة وهي القاتلة، فلو أن القاتل قتل لانتهت القضية، وطهرت ساحة أهل القتيل، فيمشون على الأرض مطمئنين آمنين، إذاً فما قيمة الاعتداء بعد ذلك على الآخرين الأبرياء؟ هذا مما حرمه الله عز وجل، وحرمه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فليس من أفعال الله تعالى الشر المحض، بل فيه خير وفيه شر.
أما الشر فإن الله تعالى قدره تقديراً كونياً قدرياً، ولم يرض عنه شرعاً ولا ديناً، وإن كان الله تعالى أذن في وجوده من جهة الخلق، أما من جهة الكسب فإن المكتسب لذلك هو العبد.(43/6)
اختصاص الله برحمته من يشاء من عباده
قال: [واختص برحمته من يشاء من عباده، فشرح صدورهم للإيمان به، وحببه إليهم، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وسماهم راشدين، وأثنى عليهم بإحسانه إليهم].
يعني: هو الذي أحسن إليهم، ومع هذا أثنى عليهم بعد ذلك، كما أن الله تعالى كتب الشقاء على الأشقياء كتابة قدرية كونية، وذمهم على ذلك؛ لأن الله تعالى علم أنهم سيختارون طريق الغواية والضلال.
ثم الطريق المقابل -نسأل الله أن يجعلنا منهم- أهل الإيمان الذين حبب الله تعالى إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأحسن إليهم، ثم مدحهم وأثنى عليهم، مع أن ذلك من فضل الله عز وجل، ولو أراد الله تعالى أن يضيق صدورنا لفعل، ولكن الله تعالى رحمة منه وفضلاً جعلنا مؤمنين.
قال: [لأنه خصهم بالنعمة قبل أن يعرفوه، وبدأهم بالهداية قبل أن يسألوه، ودلهم بنفسه من نفسه على نفسه رحمة منه لهم، وعناية بهم من غير أن يستحقوه، وصنع بهم ما وجب عليهم شكره، فشكرهم هو على إحسانه إليهم قبل أن يشكروه، وابتاع منهم ملكه الذي هو له وهم لا يملكونه، وجعل ثمن ذلك ما لا يحسنون أن يطلبوه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]].
مع أنه في حقيقة الأمر هم لا يقدرون على أن يدفعوا ثمن الجنة، فربنا سبحانه وتعالى جعل الجنة دار نعيم يجزي بها أولياءه، وأنا لو عملت كيت وكيت وكيت فلن أستحق أدنى نعيم في الجنة، يعني: ليس على قدر ما تأخذ على قدر ما تعطي، فإن الجنة أحسن من ذلك بكثير، ويكفي فيها النظر إلى وجه الله الكريم، ولو أعطى ربنا أحدنا مليون سنة فعبد الله تعالى فيها بالليل والنهار، فهل يبلغ في المكافأة رؤية المولى عز وجل؟ أبداً، بل لا يزال المهر بسيطاً، بل والله إن الواحد منا لا يستحق الحور العين التي هي مخلوقة من المخلوقات، الحور العين التي ترى مخ ساقها من تحت سبعين ثوباً، وإذا نظرت في خدها رأيت صورتك فيها، فضلاً عن الجنة وما فيها، إذ فيها غرف يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، (أقل أهل الجنة نعيماً: رجل أخرجه الله تعالى من النار، وجعله يسلك الطريق المؤدي إلى الجنة، فلما رأى شجرة من بعيد قال: رب أدنني من هذه الشجرة، قال: لعلك لو دنوت منها سألتني شيئاً غيرها، قال: لا وعزتك وجلالك لا أسألك غير ذلك، فلما أدناه منها رأى شجرة أخرى على باب الجنة فقال: يا رب! أدنني من هذه الشجرة التي عند باب الجنة، قال: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم أقل كذا وقلت: كذا؟ فقال: يا رب! إن أدنيتني منها لا أسألك شيئاً بعدها، فلما أدناه من الشجرة التي على باب الجنة نظر إلى الجنة ونعيمها فقال: رب! أسألك برحمتك أن تدخلني الجنة؟ قال: ما أغدرك يا ابن آدم!)، وفي نهاية الحديث: فأدخله الله الجنة فقال له: (تمن)، فتمنى العبد كيت وكيت وكيت وكيت، (فإذا خلصت أمنياته ذكره الله تعالى، قال: تمن كذا وتمن كذا وتمن كذا وتمن كذا)، والله تعالى يذكره أن يتمنى، فلما تمنى كل شيء من عند نفسه ومما ذكره الله تعالى به قال النبي عليه الصلاة والسلام: قال الله تعالى: (فلك مثل الدنيا وعشرة أمثالها)، وفي رواية: (لك مثل الدنيا ومثلها ومثلها ومثلها ومثلها) حتى عد عشرة أمثالها، ليس مصر ولا القاهرة ولا الجيزة ولا الإسكندرية، بل الدنيا بأسرها، وهذا نعيم آخر رجل يدخل الجنة، فكيف بأعلى نعيم لأهل الجنة؟! أولئك الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون وحسن أولئك رفيقاً، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
قال: [وأثنى عليهم بإحسانه إليهم؛ لأنه خصهم بالنعمة قبل أن يعرفوه، وبدأهم بالهداية قبل أن يسألوه، ودلهم بنفسه من نفسه على نفسه رحمة منه لهم وعناية بهم من غير أن يستحقوه، وصنع بهم ما وجب عليهم شكره، فشكرهم هو على إحسانه إليهم قبل أن يشكروه، وابتاع منهم ملكه الذي هو له وهم لا يملكونه، وجعل ثمن ذلك ما لا يحسنون أن يطلبوه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، فقالوا حين قبضوا ثمن ابتياعه منهم ووصلوا إلى ربح تجارتهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43].
فيسأل الجاهل الملحد المعترض على الله تعالى في أمره والمنازع له في ملكه، الذي يقول: كيف قضى الله علي المعصية؟].
أي: لماذا كتب الله علي المعصية؟! إذا قلنا: إن العبرة بالخواتيم، ساعتها يا إخواني! الواحد منا دائماً بعد الذنب وبعد التوبة منه يكون أحسن حالاً من قبل الذنب؛ ولذلك العلماء يقولون: رب معصية أدخلت صاح(43/7)
الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة
لكن السؤال هنا: هل يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية؟ فلو أن واحداً زنا، ثم سئل: لماذا زنيت يا فلان؟ يقول: كان ذلك مقدر علي! فهو يحتج بالقدر على المعصية، مع أنه لا يكون شيء في الكون إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ففعل الزنا مكتوب في اللوح المحفوظ، وإقامة الحد كذلك من تقدير الله ومكتوب في اللوح المحفوظ.
ولذلك عمر رضي الله عنه لما أراد أن يدخل الشام وكان قد بلغه أن بها طاعوناً جلس يستشير أصحابه: ماذا نعمل؟ فقال بعضهم: لا ندخل، وبعضهم قال: ندخل، فرجع عمر رضي الله عنه ولم يدخل القرية، فقال له أحدهم: يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله؟ يعني: توكل على الله وادخل القرية، فقال: أفر من قدر الله إلى قدر الله، يعني: هذا الذي نحن فيه كذلك مكتوب علينا.
وسئل علي بن أبي طالب عن القدر فقال: هو سر الله تعالى المكنون، أي: المكتوب فلا يسأل عنه أحد، كما سئل رضي الله عنه عن القدر والكتابة في اللوح المحفوظ فبل إبهامه وطبع به في باطن كفه الأخرى وقال: هذا والله مكتوب في اللوح المحفوظ، أن علي بن أبي طالب سيفعل هذا في المكان الفلاني، في اللحظة الفلانية، بالطريقة الفلانية.
فإيمان علي بن أبي طالب إيمان الأثبات الأولياء، يعلم أنه ما من شيء في الكون إلا ويكون في قدرة الله عز وجل، لكن هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية؟
الجواب
لا، وبعض الناس يظن أن الاحتجاج بالقدر على المعصية أمر لا حرج فيه.
ويحتج بما ورد عن آدم أبي البشر الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأدخله الجنة، إذ قال عليه السلام لموسى: أنت موسى بن عمران الذي كلمك الله تكليماً، وكتب لك التوراة بيده، أترى أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ؟ أي: المعصية التي عملتها -الأكل من ورق الشجر- كانت مكتوبة علي في اللوح المحفوظ، فحج آدم موسى، أي: انتصر آدم على موسى.
فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر قبل أكل الشجرة، وإنما احتج بالقدر بعد أكله من الشجرة، وهذا نهج أهل السنة والجماعة، فإنهم لا يحتجون بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة، أما قبلها فهذا مسلك أهل البدع، فالواحد إذا وقع في زلة أو معصية أو حتى في كبيرة من الكبائر فإن الواجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يمتلئ قلبه من الهم والغم والبكاء والحزن، وإذا كان هناك حد بادر إلى إقامة الحد عليه، ويقدم الاستغفار والتسبيح والتهليل والذكر والصدقة وغير ذلك مما يمحو هذا الذنب، ثم هو لا يتمادى في التأثر بهذا الذنب حتى يكون هذا التأثر سبباً في هلاكه، لأن هذا ليس مطلوباً منه، وإنما المطلوب منه التوبة والرجوع إلى الله، لا أنه يجلس في غم وهم ونكد طيلة حياته الباقية مما يعجزه عن القيام بأدنى مهامه التي خلق لها، أو أنه يمتنع عن الطعام والشراب، أو يمتنع عن الجهاد إذا نودي إلى الجهاد، وإنما يجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن يستغفر من ذنبه الله تعالى وغير ذلك.
ويقدم من الطاعات والأعمال ما يكون سبباً لكفارة ذنبه الذي ارتكبه.
وعلى أي حال ما وقع ذنب إلا بقدر، وإذا كان الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة فهو أمر مشروع، أما إذا كان قبل التوبة فهي طريقة أهل البدع.
قال: [قال الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ} [الحجرات:17]]، من الذي يهدي؟ من الذي يضل؟ يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، يهدي من يشاء مشيئة وإرادة شرعية دينية، ويذل من يشاء إرادة ومشيئة كونية قدرية.
قال: [قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، فهذه طريقة من أحب الله تعالى هدايته إن شاء الله، ومن استنقذه من حبائل الشياطين، وخلصه من فخوخ الأئمة المضلين].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(43/8)
الأسئلة(43/9)
التوفيق بين كفر من ألقى المصحف إلى الأرض استهزاءً وبين إلقاء موسى للألواح
السؤال
ذكرت إجماع أهل العلم على كفر من ألقى المصحف في النجاسة أو وطئه بقدميه، فكيف نرد على من حكى نفس القصة التي ذكرت فيها عالم الأزهر، لكنه قال: إنه قطع المصحف ووضعه في دورة المياه، ثم عندما لاحظه المراقب ألقى به ووطئه بقدميه، وقال هذا الشيخ: إنه لا يكفر، واستدل بإلقاء موسى للألواح، فكيف نرد على هذا؟
الجواب
هذا الذي فعله الطالب إنما فعله من باب الخوف على مستقبله، وما كان ينبغي قط أن يفعل ذلك.
أما هل هناك وجه للمقارنة بين هذا الفعل وبين فعل موسى عليه السلام؟
الجواب
لا؛ لأن موسى ألقى الألواح من شدة الغضب، وفي نسختها هدىً ونور، فموسى عليه السلام غضب غضباً أخرجه في هذه اللحظة عن إدراك ما يفعله، فألقى الألواح وهو غضبان.
ثم لما هدأ ورجع إلى رشده أخذ الألواح بيده، فموسى عليه السلام معذور لفرط غضبه، والمرء لو بلغ درجة الإغماء من الغضب لا يترتب على أفعاله وأقواله أحكاماً، فلو أنه ألقى ولده من أعلى، أو ألقى أحداً من الناس من أعلى، فإنه لا يحاسب على ذلك، أي: لا يقتص منه، ولو أنه أغلق إغلاقاً وقال لامرأته في الإغلاق: أنت طالق، فإن الطلاق لا يقع منه، وغير ذلك من الأحداث.(43/10)
الإمساك عن الكلام في القدر أمر واجب
السؤال
بما أن المولى عز وجل يعلم الغيب، وكله مكتوب في اللوح المحفوظ، فلماذا يغضب الله من ذنب أو معصية يفعلها عبد من عباده، على الرغم من علمه المسبق لوقوع هذا الذنب أو المعصية، أيكون غضب الله تعالى عند اقتراف العبد لهذا الذنب وما يعقبه من عذاب هو أيضاً قدر مكتوب؟
الجواب
إذا ذكر القدر فأمسكوا، والإمساك عن الكلام في القدر هو من مثل هذه الأسئلة، فلا يحل لمسلم أن يسأل هذا السؤال.(43/11)
من السنة تصويب النظر إلى محل السجود في الصلاة
السؤال
أرى كثيراً من الإخوة الفاضلين يتهاونون في أمور كثيرة في الصلاة وبالأخص تصويب النظر، فما نصيحتكم لهم؟
الجواب
على أية حال النبي عليه الصلاة والسلام في سنته العملية بين أن موضع السجود هو محل النظر، وهذا مذهب جماهير العلماء.
وبعض العلماء قال: لا مانع أبداً أن ينظر المصلي أمامه، واحتجوا بظاهر قول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، أي: اتجاه أو مقابل.(43/12)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)
السؤال
قرأ الإمام قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، فهل هذه الآية من المتشابهات أم المحكمات؟
الجواب
هذه الآية من المحكمات، والذي نريد أن نصححه إجمالاً أن آيات الصفات ليس فيها متشابهات، والذي يقول بذلك هو في الحقيقة معتقد أهل البدع.
أما معنى الآية: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أي: أن عيسى عليه السلام يقول: إذا كنتم تزعمون أني ولد الله وأني ابن لله عز وجل فأنا أبرأ إلى الله من هذه التهمة وهذه الفرية، وعلى فرض ثبوت كلامكم فأنا أول العابدين لله، وليس في الآية إثبات الولد لله، بل هي من أقوال المشركين الكفار، وعيسى عليه السلام الذي هو نبي الله تعالى في ذلك الزمن تبرأ من هذه المقولة، وقال: إذا كنتم تزعمون أن لله ولداً، فأنا أبرأ إلى الله تعالى من ذلك، بل أنا أقر بأني أول العابدين، ولست ولداً كما تزعمون.(43/13)
حكم إتيان الزوجة في حال حيضها
السؤال
ما حكم من أتى زوجته وهي حائض وهو يعلم وهي تعلم؟
الجواب
كلاهما آثم، ويجب في حقهما التوبة والكفارة، والكفارة أن يتصدق كل منهما بنصف دينار، ونصف الدينار حوالي ثمانين جنيهاً تقريباً.(43/14)
كيفية التوفيق بين ما كتب في أم الكتاب وبين أن الدعاء يرد القدر
السؤال
كيف نوفق بين ما كتب في أم الكتاب وبين أن الدعاء يرد القدر؟
الجواب
على أية حال أنا قلت: ما كتب في اللوح المحفوظ لا يقبل المحو ولا الإثبات.
والإمام ابن القيم في الداء والدواء يقول: الدعاء مع البلاء على ثلاثة أنواع: فإذا كان الدعاء أقوى من البلاء رفعه، وإذا كان البلاء أقوى من الدعاء نزل البلاء على العبد، وإذا كان الدعاء والبلاء في قوة واحدة فهما يعتلجان في السماء، هذا كلام ابن القيم عليه رحمة الله.
وكون الله تعالى قدر البلاء ثم رفعه الدعاء، يعني: كان الدعاء أقوى من البلاء، وقرب العبد لمولاه كان قريباً، فهذا قد علمه الله تعالى أزلاً فكتب في اللوح المحفوظ أن هذا البلاء لا يصيب العبد، فإنه أحياناً تأتي الأوامر الشرعية ولا يكون المراد منها حقيقة الابتلاء والاختبار فقط، أي: لما أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم أن يذبح ولده، هل أراد الله لهذا الأمر أن ينفذ أم هو للابتلاء والاختبار؟ لو أراد إنفاذه فكان لا بد أن ينفذ، حتى ولو أن الله تعالى أنزل ألف كبش فداء، فلا بد أن ينفذ؛ لأن الله تعالى أراد إنفاذه، ولو أراد الله تعالى إنفاذه لما أنزل كبشاً.
إذاً: أمر الله تعالى أمراً مفاده الابتلاء والاختبار، مع أن الله يعلم أن هذا موقف إبراهيم، والله يختبر إبراهيم عليه السلام، وموقف إبراهيم عليه السلام معلوم لله عز وجل منذ الأزل، وإبراهيم عمل ذلك حتى يكون سنة للأمة إلى قيام الساعة، فيقال: هذا سيد الأنبياء قد فعل به كيت وكيت وصبر، وقدم ولده فداء.(43/15)
استئناف ثلاث طلقات لرجل طلق امرأته ثم تزوجها بعد زوج آخر
السؤال
إذا تزوجت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر، فهل يكون بذلك قد هدمت الطلقات الثلاث، بحيث لو طلقها الثاني أو مات عنها وتزوجها الأول كان له ثلاث طلقات؟
الجواب
لو أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فتزوجت من بعده رجلاً آخر ثم طلقها فتزوجها الأول، فإن له عليها ثلاث طلقات، وهذا إجماع، وكذلك لو أن رجلاً طلق امرأته طلقة واحدة وتزوجها الثاني، ثم طلقها طلقة واحدة فتزوجها الأول، فكذلك له عليها ثلاث طلقات، وهذه أيضاً من مسائل الإجماع.(43/16)
حكم من قال: لا تجعلوني أكفر
السؤال
ما حكم امرأة قالت في حالة غضب: لا تجعلوني أكفر، تعني بذلك أن تشق ثيابها أو أن تلطم وجهها، وماذا تفعل كي تتوب؟
الجواب
على أية حال إذا بلغ منها الغضب مبلغاً عظيماً جداً فلا حرج عليها، وهذا أمر لا تكفر به إذا كان في حالة الغضب، أما إذا لم تكن في حالة غضب فإن ذلك قد يكون حرجاً، لكنها لا تكفر به أيضاً؛ لأنها قالت: لا تجعلني أكفر؛ يعني: أنا لم أقل قولاً ولم أفعل فعلاً حتى أكفر به، فهي تنهاه أن يكون سبباً في كفرها مستقبلاً، كما لو قال رجل لامرأته: سأطلقك، فهل كلمة (سأطلقك) يقع بها الطلاق؟ لا يقع بها؛ لأنه يقول لها: سأطلقك، أي: في المستقبل.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(43/17)
شرح كتاب الإبانة - ذكر ما أعلمنا به الله في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء
الله عز وجل هو الهادي المضل، كتب لمن شاء من عباده الهداية والسعادة، وقدر على من شاء منهم الغواية والشقاوة، والرسل الذين يرسلهم الله بالتوحيد ليسوا مكلفين إلا بالبلاغ، أما الهداية فهي أمر اختص الله عز وجل به، وجعل أمره إليه، وهذا من إحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر أو يخوض فيه بالجهل والهوى.(44/1)
مراتب القدر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا يمكن لأحد أن يفهم سر القدر إلا بمعرفة مراتب القدر، ومراتب القدر: العلم، والكتابة، والإرادة، والخلق.
فالمرتبة الأولى: العلم، وهو علم الله تعالى الأزلي السابق بما كان وبما سيكون.
المرتبة الثانية: الكتابة، وأن الله عز وجل كتب كل ما سيكون في اللوح المحفوظ.
ومرتبة العلم أدلتها من الكتاب والسنة كثيرة جداً، ومنها اسم الله تعالى العليم.
وأما الكتابة فمن الأدلة عليها قول الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39].
والمحو والإثبات يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة، وأما اللوح المحفوظ فلا يقبل المحو، كما قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))، أي: الذي لا يقبل بعد ذلك محواً ولا إثباتاً.
وجاء في مسلم: (إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
والمرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة، والإرادة إرادتان، شرعية دينية، ومبناها على المحبة والرضا، مثل قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43].
فمن صلى حقق محبة الله عز وجل ووافق إرادة الله تعالى الشرعية.
وإرادة كونية قدرية، وهي كل ما يقع في الكون من خير وشر، فإذا كان خيراً فقد وافق مراد الله عز وجل كوناً وشرعاً، وإذا كان شراً فقد وافق مراد الله تعالى القدري الكوني، وخالف الإرادة الشرعية، فالزنا والسرقة والقتل وفعل المعاصي كل ذلك يقع بإرادة الله عز وجل ومشيئته تعالى؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله تعالى وقدر، فلا يستطيع أحد أن يعمل شيئاً رغماًَ عن الله عز وجل، فكل ما يكون في الكون من خير وشر هو بإرادة الله تعالى ومشيئته، ولا يعني ذلك أن الله تعالى يحب هذا، بل إنه تعالى يحب الخير ويبغض الشر، كما قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7].
ومع هذا أذن الله تعالى في وجود الكفر والمعاصي، الكبائر منها والصغائر، ونهى عنها، فمن امتثل النهي فقد وافق الإرادة الشرعية، ومن خالف النهي ووقع في المحذور فقد خالف الإرادة الشرعية ووقع في الإرادة الكونية القدرية.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]؟ فلا خالق إلا الله، فهو تعالى الذي خلق إبليس وهو رأس الشر، ولا يصح أن نقول: لم خلق الله إبليس؟ ومرتبة الخلق تعني: أن أفعال العباد من خلق الله عز وجل، وكتب الأفعال بأيدي الملائكة، فالسارق الذي ينطلق من مكانه إلى موضع السرقة ثم يكسر الحرز ويأخذ المال المسروق لو أن الله تعالى أراد ألا يسرق لما مكنه من ذلك، فنقول: الله تعالى مكن هذا السارق من إيقاع السرقة، ولكن الذي باشر السرقة هو العبد.
فأفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وقوع السرقة من باب الخلق والإيجاد، وأما من باب الكسب والمباشرة فالذي اكتسب السرقة هو العبد.
والله عز وجل هو خالق الخير والشر، والهدى والضلال، وبعض الناس استشكل ذلك، وسأل: كيف خلق الله تعالى الشر؟ ونقول: الشر ليس شراً محضاً، فما من شر إلا ومعه خير، إما للعبد وإما لغير العبد، وهذا الخير الذي مع الشر إما أن ينتفع به الشرير أو ينتفع به المجتمع بأسره، فمثلاً الزنا والسرقة والقتل شرور، بل كبائر تتلو بعضها بعضاً، ولكن لو أن سارقاً سرق فأقيم عليه الحد بقطع اليد ورأى ذلك طائفة من الناس، فكل واحد ممن رأى أو سمع لابد أنه سيفكر مليون مرة إذا سولت له نفسه السرقة، وبالتالي يكف عن السرقة، ولذلك لما رفعت الحدود تجرأ القاصي والداني على السرقة وعلى القتل والزنا؛ لأنه يعلم أنه لن يقام عليه حد.
وفي ظل هذه المدنية والتقنية العظيمة جداً نقول: إن الحدود خيرها ونفعها متعد إلى أقصى حد، فلو أقيم على الهواء حد على الزاني أو السارق لفكر العالم بأسره فيما لو أراد أن يسرق أو يزني أنه سيفعل به مثلما فعل بفلان من الناس في البلد الفلاني، فالأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك)، أي: الشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، ولكن الشر الذي يبدو للناس أنه شر وفيه وجه من وجوه الخير فهذا مما أذن الله تعالى في وقوعه ووجوبه وخلقه، والذي باشر ذلك وكسبه هو العبد.(44/2)
تابع ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الأول: ذكر ما أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه ختم على قلوب من أراد من عباده] أي: أن الله تعالى أراد أن يختم على قلوب فريق من عباده ففعل.
قال: [فهم لا يهتدون إلى الحق ولا يسمعونه ولا يبصرونه]، وأنه طبع على قلوبهم، أي: ختم عليها وطبع عليها، فهم لا يسمعون الحق، ولا يبصرونه ولا يهتدون إليه؛ لأن الله تعالى بعلمه السابق الأزلي علم أن هذا العبد الذي طبع على قلبه بعد ذلك عبد شقي وليس عبداً سعيداً، فعلم الله تعالى ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، وطبع على قلب العبد حتى لا يسمع ولا يهتدي إليه، وهذا من أفعال الله عز وجل، ولذلك من المسائل المهمة جداً في باب القدر نفي القياس بين أفعال الله وأفعال الخلق؛ لأن أفعال المخلوقين فيها عدل وفيها ظلم، مثلما لو قلنا لشخص: لن نعقد الاختبار في الأسبوع القادم، ثم فاجأناه بالاختبار فهذا ظلم؛ لأننا وعدناه بعدم الاختبار، ثم فاجأناه بذلك وطالبناه به، وهو غير مستعد له، فهذا نوع ظلم وقع من الإنسان على بني جنسه.
في حين أن الله عز وجل قد أخبرنا أنه سيبتلي وسيختبر العباد في الدنيا والآخرة، فمن آب وتاب دخل الجنة وإلا فلا.(44/3)
الأدلة من القرآن على أن الله يختم على قلب من أراد من عباده ويجعله من أهل الشقاء
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6].
وهذا الخطاب موجه لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فهو يقول: يا محمد! هؤلاء الكفار ((سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ))، أي: عندهم، {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، والسبب {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7].
فإذاً: الختم على القلب والسمع، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7].
والشخص إذا كان أعمش فإنه لا يرى الشيء رؤية واضحة، فضلاً عن أن يكون أعمى فإنه لا يرى شيئاً أصلاً، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7].
والله عز وجل هو الذي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، ومع هذا أعد لهم يوم القيامة عذاباً أليماً؛ لأنهم اختاروا الكفر على الإيمان، فالآية في أولها تقول: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ))، يعني: عندهم ((أَأَنذَرْتَهُمْ)) يا محمد! ((أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))، وذلك بسبب تمكن الكفر من قلوبهم، واختيارهم للكفر على الإيمان، وعلامة ذلك: ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)).
هذا في الدنيا، وفي الآخرة أعد لهم عذاباً أليماً.
ولو أن هذا وقع من العبد على العبد لقلنا أن فيه نوع ظلم، بل هو الظلم بعينه، ولكن لا نقول: إن هذا فعل من أفعال الله مبني على ظلم العباد؛ لأن الظلم صفة نقص، والله تبارك وتعالى منزه عن صفات النقص ومتصف بصفات الكمال، فلا يجوز توجيه السؤال ابتداء؛ لأن هذا من أفعال الله، وأفعال الله تبارك وتعالى كلها مبنية على الحكمة والعدل والفضل، فالله تبارك وتعالى يجازي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف بعد ذلك لمن يشاء، مع أن العقل يقول: الحسنة تقابل الحسنة، والسيئة تقابل السيئة، ولكن هذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء.
وقال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155].
والباء للسببية، والضمير في عليها يعود على القلوب، ((بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ))، أي: بسبب كفرهم، {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155].
وقال عز وجل: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41].
والإرادة هنا إرادة كونية قدرية؛ لأنها متعلقة بالفتنة، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].
وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25]، أي: أغلفة وأغطية، {أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، أي: ثقلاً في آذانهم، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25].
وهذه إرادة كونية قدرية كذلك؛ لأنهم يسمعون، لكن ليس سماع المجيب، والسماع أنواع، فهناك من يسمع ولا يلقي بالاً لما يسمعه، وهناك من يسمع ويستجيب وينفذ فوراً، وأنت تقول في صلاتك: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله تبارك وتعالى حمد من حمده، فالثناء في قوله: سمع الله لمن حمده سماع إجابة، ولو أنك فتحت الراديو أو المذياع على أغنية وسمعتها بمحض إرادتك فإنك تأثم بذلك، ولو فتحها أحد بجوارك وليس في إمكانك أن تنهاه عن ذلك، أو نهيته فلم يستجب، وهو قريب منك أو جار لك، بحيث لا يمكنك أن تقول: أنا ما سمعت الأغاني أو الموسيقى؛ لأنك قد سمعتها بالفعل، فهذا سمع غير إرادي وقع على أذنك، والأول سمع إرادي أنت قد اقترفته.
فأنت في الحالين قد سمعت، فمرة سمعت بإرادتك وأنت آثم، ومرة سمعت بغير إرادتك ولا تأثم بذلك.
فهناك فرق بين سماع الإجابة وسماع الإعراض.
وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
وهذه إرادة شرعية دينية؛ لأن مبناها على المحبة والرضا، فالله تعالى يحب الإسلام والإيمان، فمنهم من سمع واستجاب، ومنهم من سمع وأعرض، فأما من سمع واستجاب فهذا قد شرح الله تعالى صدره للإسلام.
وهذا الشرح من إرادة الله تعالى الشرعية الدينية.
قال: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125].
والناس هم الذين اختاروا طريق الضلال، ولا عذر لهم في ذلك؛ لأن الله تعالى أراد ابتداء هداية الخلق جميعاً، ولذلك جعلهم عقلاء، ولم يكلف المجنون ولا الصبي الصغير، ثم أرسل إليهم الأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، وأقام عليهم الحجة، فمن أعرض عن دعوة الأنبياء والمرسل(44/4)
علم الله مطلق وعلم الخلق محدود
أنت الآن لا تعلم إلا بعض ما مضى عليك، وأما المستقبل فلا تعلمه، فربما تنزل علينا صاعقة من السماء فلا يقوم منا أحد، فلا تقل: بعد خمس دقائق سأقوم وأتوضأ أو أنطلق إلى المسجد، فهل ضمنت أن تحيا خمس دقائق؟ وما مضى من أحداث لا تذكر منها إلا اليسير.
وأما علم الله عز وجل فهو مطلق، وهو على الكمال التام في كل أسمائه تعالى وصفاته، فالله تعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون، وما لو كان كيف يكون، ويعلم الفعل وكيف يكون الفعل، ويعلم القول وكيف يكون بالقول، فهو علم مطلق شامل لا يحده حد.
وعلم العباد لا يتساوى مع علم الله عز وجل، وكذلك بقية الأسماء والصفات، فالله تبارك وتعالى مالك الملك، فهو المالك سبحانه وتعالى، وهو المتصرف فيما يملك بكل أنواع التصرف، وهذا هو الأصل في الملك، والإنسان ليس مالكاً حقيقياً؛ لأن مالك الملك يملكك وما تملك، ولذلك أمرك أن تصنع في مالك المعروف، ونهاك أن تصنع فيه المنكر، فلا تقل: سأشرب بمالي الخمر؛ لأنك تأثم بذلك وهو محرم عليك، فلا تتصرف في مالك إلا على وفق الشرع الذي شرعه مالك الملوك سبحانه وتعالى، وأما الله تبارك وتعالى فيتصرف في ملكه كيف شاء، فهو يهدي فلاناً ويضل فلاناً، ويسعد فلاناً ويشقي آخر.
وإذا أسعد فلاناً فهذا فضل الله عز وجل، وإذا أشقى فلاناً فهذا عدل من الله عز وجل؛ لأن أفعال الله تعالى تدور بين الفضل والعدل، وكلها متصفة بالحكمة.(44/5)
ختم الله على قلوب الكفار
قال: [فختم على قلوبهم -أي: الأشقياء- فحال بينهم وبين الحق أن يقبلوه، وغشى أبصارهم عنه فلم يبصروه، وجعل في آذانهم الوقر فلم يسمعوه، وجعل قلوبهم ضيقة حرجة، وجعل عليها أكنة، ومنعهم الطهارة فصارت رجسة؛ لأنه خلقهم للنار، فحال بينهم وبين قبول ما ينجيهم منها، فإنه قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]]، أي: أضل من الأنعام، والأنعام أشرف منهم.
وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119].
وهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به]، أن يؤمنوا أن الهداية بيد الله ومن عنده، وأن الشقاء بيد الله ومن عنده، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، وكل ذلك داخل في مشيئته عز وجل، فهدايته للخلق محض فضل الله تعالى على من هداه، وإضلاله وإتعاسه وإشقاؤه لبعض خلقه عدل من الله عز وجل.
قال: [فهذا وما أشبهه فرض على المؤمنين الإيمان به، ويرد علم ذلك ومراد ذلك إلى الله تعالى، ولا ينبغي للمخلوقين أن يتفكروا فيه].
يعني: أنت لا يحق لك أن تقول: لماذا أضل الله فلاناً؟ والله قادر على أن يجعل شارون مسلماً؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، وهو قادر على ذلك، ولو أراد الله عز وجل لقذف الإيمان في قلب شارون، وسيكون هذا حدث من الأحداث التي يتكلم عنها القاصي والداني، والتي ستغير وجه الأرض ووجه العالم، وهذا فيما يتعلق بنظري ونظرك، ولكن علم الله عز وجل مقدم على ذلك، وقد علم أن الحكمة في بقاء شارون على الكفر، ومعلوم أن اليهود والنصارى كفار، وهذا معلوم بالضرورة، وقد نوقشت.
رسالة في جامعة القاهرة منذ عدة أيام، ولما قال الطالب: وقد قال فلان من الكفار، قالوا له: إنه ليس من الكفار، فقال: أليس هذا كاتب إنجليزي؟ قالوا: نعم كاتب إنجليزي، وهو نصراني، فكيف يكون كافراً؟ فقال: الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فقال له المناقش: هؤلاء إخواننا في الإنسانية، ولا داعي لأن نسميهم كفاراً.
والأمر بيننا وبين اليهود والنصارى إيمان وكفر، وليس هناك وسط بيننا وبينهم، وهو إما أن يكون مؤمناً أو كافراً، فلما نفى الله عز وجل عنهم الإيمان وأثبت لهم الكفر بسبب إعراضهم عن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام كفروا قولاً واحداً، ومن قال غير ذلك فهو جاهل غبي أحمق، لا علم له بالكتاب ولا بالسنة كذلك.(44/6)
حكم الزواج من اليهودية أو النصرانية
لا يحل للمسلم أن يتزوج إلا امرأة مؤمنة أو امرأة نصرانية أو يهودية، والمرأة المؤمنة خير من ملء الأرض من اليهوديات والنصرانيات، والشرع أجاز لنا أن نتزوج الكتابية، ولا تقل: إن كتب اليهود والنصارى قد حرفت، فقد حرفت من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فالنصرانية إذا زعمت أن عيسى هو الله أو ابن الله لا يحل الزواج منها، وإنما النصرانية التي تؤمن أن عيسى رسول الله هي التي يحل الزواج منها، وأما التي تزعم أن عيسى ابن الله أو هو الله فهذه امرأة مشركة ولا يحل لنا أن نتزوج المشركات.(44/7)
أفعال الله تعالى مبنية على الحكمة
لا ينبغي للمخلوقين أن يسألوا: لم فعل الله ذلك؟ ولا كيف فعل الله ذلك؟ فالله يفعل هذا بعلم وحكمة، ولست مطالباً بالكيفية أبداً، بل إنك منهي عن الخوض فيها، وقد فرض الله تعالى على المؤمن أن يعلم أن ذلك الفعل عدل من الله، يعني: إذا فعل الله تعالى فعلاً ولم تعلم حكمته فعليك التسليم، سواء علمت الحكمة من ورائه أو لم تعلم، لأن عندك أصلاً أصيلاً، وهو أن أفعال الله تعالى كلها مبنية على الحكمة.
فإذا جاء شخص معتزلي عقلاني من المدرسة العقلية يقول: إن ربنا سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر والتعقل، فقال: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ))، ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ))، ((أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ))، فنقول له: نعم أمرك بهذا، ولكنه جعل لعقلك حداً لا تتعداه، فإذا شرع الله تبارك وتعالى شرعاً وأعلمك وأطلعك على الحكمة منه فهذا خير وبركة، ولا يلزم من ذلك أن تعلم الحكمة من كل فعل من أفعال العباد، ولا من كل تشريع من تشريعات الله عز وجل.(44/8)
فضل الله سبحانه على عباده
قال: [قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7].
فأخبر أنه حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وسماهم راشدين، وأثنى عليهم بإحسانه إليهم].
يعني: أنه سبحانه وتعالى أحسن إليهم وهداهم وأرشدهم إلى الحق، ومع هذا يمدحهم؛ لأنه خصهم بالنعمة قبل أن يعرفوه، وبدأهم بالهداية قبل أن يسألوه، ودلهم بنفسه من نفسه على نفسه؛ رحمة منه لهم وعناية بهم من غير أن يستحقوه، وصنع بهم ما وجب عليهم شكره، فشكرهم هو على الإحسان إليهم قبل أن يشكروه، وابتاع منهم ملكه الذي هو له وهم لا يملكونه، وجعل ثمن ذلك ما لا يحسنون أن يطلبوه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
والجنة: مخلوقة لله عز وجل.
ثم قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
فثمن الجنة أن أبيع نفسي ومالي لله عز وجل، فالله عز وجل هو الذي رزقك هذا المال، وهو الذي هدى نفسك للإيمان وحببه إليها، فهو تبارك وتعالى يمن عليك ثم يشكرك على ذلك، ويجزيك داراً عرضها السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
ولو أن العبد عمر مليون عام في عبادة الله عز وجل فإنه لا يستحق الجنة على ذلك، لأن هذه العبادة الله عز وجل هو الذي قواه عليها، وقد كان من الأول قادراً أن يسلبه القدرة عليها.
ولو أن العباد عمروا ملايين الأعوام فقضوها في عبادة الله لما استحقوا جزاء أفعالهم وعبادتهم هذه الدار، ولكن الله تبارك وتعالى حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ثم جازاهم على إحسانه إليهم الجنة.
فلا يمكن أبداً أن تساوي عبادتهم فضل الله عز وجل، ولكنه فضل الله تعالى، وهم لما قبضوا ثمن ابتياعه منهم ووصلوا إلى ربح تجارتهم لابد أن يشكروا الله حق الشكر، فقالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
فالهداية بيد الله عز وجل، والذي يملك الهداية لابد أنه يملك الشقاء، لأنه لا يوجد إله يملك الهداية وإله آخر يملك الشقاء، وإنما الذي بيده الهداية هو الذي بيده الضلال، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو إله واحد، يملك هذا وذاك، ويملك العالمين سبحانه وتعالى.(44/9)
بعض اعتراضات الملحدين على قدر الله والجواب عليها
الجاهل الملحد المعترض على الله عز وجل في أمره والمنازع له في ملكه يقول: كيف قضى الله علي بالمعصية ثم يعذبني عليها؟ وأحياناً يورد الواحد منا في ذهنه هذا
السؤال
لم لم يهد الله فلاناً وهو قادر على هدايته؟ وإذا كان ربنا سبحانه وتعالى هو الذي يملك الضلال وهو الذي أوجبه على هذا العبد فلم يعذبه مادام أنه هو الذي فرضه عليه؟ وهذا السؤال من أعظم أوجه الإلحاد، والذي يسأل هذا السؤال لا علم له بالإيمان بالقضاء والقدر أبداً؛ لأنه لو علم مراتب القدر أو بعضاً مما ذكرناه فلا يمكن أن يخطر بباله هذا السؤال.
ويقول: وكيف حال بين قوم وبين الإيمان؟ وكيف يصليهم على ذلك في النيران؟ ثم يعترض عليه في هدايته لأنبيائه وأصفيائه وأوليائه، فيقول: لم خلق الله آدم بيده، وأسجد له الملائكة؟ ولم اتخذ إبراهيم خليلاً وآتاه رشده من قبل؟ ولم كلم الله موسى تكليماً؟ ولم خلق عيسى من غير أب وجعله آية للعالمين وخصه بإحياء الأموات، وجعل فيه الآيات والمعجزات؛ من إبراء الأكمه والأبرص وأن يخلق من الطين طيراً؟ تعالى الله عن اعتراض الملحدين علواً كبيراً.
ونحن نقول: إن لله المنة والشكر فيما هدى وأعطى، وهو الحكم العدل فيما منع وأضل وأشقى، يعني: بحكمة الله عز وجل وعدله أشقى فلاناً ولم يظلمه؛ لأن الله تعالى منزه عن الظلم، فله الحمد والمنة على من تفضل عليه وهداه، وله الحجة البالغة على من أضله وأشقاه.
قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]، فالهداية بيد الله عز وجل.
فقوله: ((يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا))، أي: الإسلام أنت لا تملكه، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
فالذي شرح صدرك للإسلام هو الله، فهو الذي هداك إليه، فلا تمن على الله بأنك مسلم، بل هو الذي يمن عليك بهذا الإسلام والإيمان؛ لأنه هو الذي شرح صدرك إليه ووفقك لاتباع الإسلام وقبول الإيمان، فهو من عند الله، والله تعالى هو الذي وفقك إليه وإلى الإيمان.
وقال أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فحتى أهل النار يوم القيامة سيعترفون أن هذا الشقاء بسبب أفعالهم هم، فلن يقولوا: ربنا غلبت علينا شقوتك لنا وإضلالك لنا؛ لأنهم نسبوا الشقاء إلى أنفسهم بسبب أفعالهم الكفرية واعتراضهم على الله عز وجل {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، يعني: بسبب الضلال أوجب الله تبارك وتعالى عليهم في الآخرة الشقاء في النار.
وكما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
وهم قد سمعوا وعقلوا، ولكنهم سمعوا سماع إعراض، بل كانوا يجلسون ويسمعون القرآن والنبي يقرؤه في الكعبة عليه الصلاة والسلام، فيضحكون ويتمايلون ويتبخترون ويستهزئون بكلام الله عز وجل وبدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فاستحقوا بذلك أن يكونوا في أصحاب السعير.
والكفر له أئمة، كما قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12].
وكما أن للهداية أئمة فكذلك للضلال أئمة.(44/10)
باب في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء
قال: [الباب الثاني: في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء]، أي: يهدي من يشاء مشيئة دينية شرعية، ويضل من يشاء إرادة كونية قدرية، وأنه لا يهتدي بالمرسلين والكتب والآيات والبراهين إلا من سبق في علم الله أنه يهديه، ولذلك بين الله تعالى لنبيه أنه لا يهدي من يحب، ولكن الله يهدي من يشاء، ومهما حرص الناس على ذلك فإنه لا يكون إلا ما يريده الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على إيمان أبي لهب، وكان حريصاً كل الحرص أن يسلم جميع الخلق، وقد علمه ربه من فوق سبع سماوات أن الخلق جميعاً لن يكونوا مؤمنين، وإلا فلم خلق الله تعالى النار؟ والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (اطلعت في النار فرأيت فيها فلاناً وفلاناً وفلاناً، وذكر أشياء، وقال: ووجدت أكثر أهلها النساء، فقالت امرأة جزلة -عاقلة-: يا رسول الله! ولم؟ قال: لأنهن يكفرن، قالت: يكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن الإحسان ويكفرن العشير؛ يحسن الرجل إليهن الدهر كله، فإذا بدا منه شيء قالت: ما رأيت منك خيراً قط).
وهذا شأن النساء.(44/11)
بعض الآيات الدالة على هداية الله لمن يشاء من عباده وإضلاله لمن يشاء
قال الله عز وجل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88]، أي: يا محمد! أتريد أن تهدي من كتب الله تعالى وقدر عليه الضلال؟ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].
فلا يمكن أبداً أن تسلك إلى قلبه مسلكاً، فالقلوب لها أقفال ومفاتيح أعظم من أقفال ومفاتيح أي باب، فإذا كان الله تعالى طبع على قلب فلان فلا يمكن لجميع الأنبياء والمرسلين مجتمعين أن يفتحوا هذا القلب، ومهمة الأديان والأنبياء والمرسلين هي تبليغ دعوة الحق إلى الخلق فقط، أي: إرشادهم إلى الله، والذي يملك الهداية والضلال هو الله عز وجل.
وقال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ} [النساء:143]، أي: المنافقين مترددين، {بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]، أي: لا هم مع أهل الإيمان قولاً واحداً، قلباً وقالباً، ولا مع الكافرين قولاً واحداً، وإنما هم مع الكافرين بقلوبهم ومع المؤمنين بأبدانهم، فهم يصومون ويصلون ويزكون ويحجون ويجاهدون ويقتلون في الحروب في معسكر الإيمان، ولكنهم ليسوا مؤمنين؛ لأن قلوبهم لم يدخلها الإيمان، بل الكفر لازال مستقراً فيها، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39].
اللهم اجعلنا منهم.
وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111].
وتصور شخصاً يخرج من تحت الأرض، إن هذا لشيء مرعب، وينزل إليك ملك من السماء، وكل شيء بجوارك يحشر إليك من الشجر والدواب والطير والحشرات والهوام وغير ذلك من آيات الله عز وجل، فإنك يقيناً لابد أن تقول: آمنت بالله، وإذا كان الواحد من الكفار إذا وقع في ساحة القتال بيد مجاهد من المجاهدين قال: أسلمت؛ بسبب خوفه من السيف، فكيف يكون الحال إذا حشر كل شيء في السماء والأرض، إنه أمر مرعب، فلابد أن يسلم في هذه الحالة، ويخرج من الكفر إلى الإيمان، وهو في هذه الحال لن يخرج من الكفر إلى الإيمان إلا بمشيئة الله.
وقال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35]، أي: لا تغضب يا محمد! إن كانوا معرضين، فقد كتب الله تعالى عليهم الضلال، فاعلم هذا ولا تأخذ نفسك بشيء، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35].
فهدايتهم بيد الله، وليس عليك يا محمد! إلا البلاغ المبين، هذه مهمة المرسلين.
وقال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف:186].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد:27].
وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، أي: أنت المنذر يا محمد! ولكن الهادي هو الله تعالى.
وقال: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31].
وقال: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} [الرعد:33].
فقال: ((وَصُدُّوا))، وليس وصَدّوا، وإنما ((وَصُدُّوا)) بالبناء للمجهول، والذي صدهم عن السبيل هو الله؛ لأن هذا نوع ضلال والله تعالى يملكه، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33].
وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراه(44/12)
الهداية والضلال بيد الله وحده
قال الإمام ابن بطة: [ففي كل هذه الآيات التي مضت يعلم الله عز وجل عباده المؤمنين أنه هو الهادي المضل الذي يملك الهداية والضلال، وأن الرسل لا يهتدي بهم إلا من هداه الله]، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يملك أن يهدي أحداً من الناس، وإنما الذي يملكه هو الله، والنبي عليه الصلاة والسلام سبب موصل لهداية الله، فالرسل لا يهتدي بهم إلا من هداه الله، ولا يأبى الهداية إلا من أضله الله، ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هدايته لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين؛ لأن العبرة بمجيء الرسول إليهم، والرسول جاء إلى أبي بكر وإلى أبي لهب، ونفس الذي بلغه رسول الله لـ أبي بكر بلغه لـ أبي لهب، فيقال حتى من جهة اللغة: جاء الرسول إلى أبي بكر وجاء الرسول إلى أبي لهب، فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ الاثنين، لكن الله تعالى أراد الهداية لـ أبي بكر وأراد الضلال والشقاء لـ أبي لهب.
إذاً: الهداية والشقاء بيد الله عز وجل، يريدها لعبد ويمنعها من عبد، ولو كان الرسل هم الهادون لكان كل من أرسل إليهم المرسلون مهتدين، سواء تبعوه أو لم يتبعوه.
ولذلك قال: [ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هداية الله لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين؛ لأن الرسل بعثوا رحمة للعالمين، ونصيحة لمن أطاعهم من الخليقة أجمعين، فلو كانت الهداية إليهم لما ضل أحد جاءوه]، يعني: لو كانت الهداية بيد الرسل لما أفلت من أيديهم أحد، لكن الهداية بيد الله.
أما سمعت ما أخبرنا مولانا الكريم من نصيحة نبينا صلى الله عليه وسلم وحرصه على إيماننا حين يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]، وفي قراءة: (من أنفَسكم)، يعني: من أحسنكم نسباً وأعظمكم شرفاً، {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128]، يعني: يعز عليه عنتكم ومشقتكم، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وبالذي أخبرنا به عن خطاب نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] يعني: يقول لهم: أنا ما علي إلا البلاغ، ((وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ)) قد سبق في علمه أنه يضلكم، وأنكم ضُلال، وكتب عليكم الشقاء، فإنكم لا تقبلون نصيحتي مطلقاً، يعني: أنه هو لا يملك الهداية للخلق ولا الشقاء، وإنما الذي يملكهما هو الله عز وجل.
وهذا من عدل الله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه، ولا يظن في ربه غير العدل، فلا يحل لك أن تظن بربك غير العدل، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء).
والله عز وجل لا يقول هذا من باب التخيير، وإنما من باب التهديد، كما قال عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
فهذا صيغة أمر، والأمر يفيد الوجوب إلا أن يصرفه صارف، والأمر في اللغة على نحو اثنين وعشرين وجهاً، فقوله عز وجل: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] كلمة (فليؤمن) فعل أمر يدل على الوجوب، وهو على ظاهره؛ لأن المطلوب من العباد أن يؤمنوا بالله؛ لأن هذا أمر الله تعالى إليهم، وقوله: ((وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))، يعني: الذي يريد أن يؤمن يؤمن، والذي يريد أن يكفر يكفر، فالآية ظاهرها التخيير، ولكنه غير مراد هنا، وإنما هو تخيير تهديد، وهذا كما تقول لابنك: إذا أردت أن تذاكر فذاكر، وإذا لم ترد أن تذاكر فلا تذاكر، وقد نويت ضربه إن لم يذاكر، فأنت هنا لا تخيره في هذا، وإنما تهدده، بدليل أنك ستضربه إن لم يذاكر.
وكذلك قوله تعالى: ((وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))، فللكفار نار لا تهدأ ولا تنطفئ أبداً.
قال: [هذا من أحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه، ولا يظن بربه غير العدل، وأن يحمل ما جهله من ذلك على نفسه، ولا يقول: كيف بعث الله عز وجل نوحاً إلى قومه، وأمره بنصيحتهم ودلالتهم على عبادته، والإيمان به وبطاعته، والله يغويهم ويحول بينهم وبين قبول ما جاء به نوح إليهم عن ربه حتى كذبوه وردوا ما جاء به؟ ولقد حرص نوح على هداية الضال من ولده، ودعا الله أن ينجيه مع أهله، فما أجيب، وعاتبه الله في ذلك بأغلظ العتاب حين قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، أي: إنه ليس من أهل الإيمان، وهو وإن كان من أهلك -أي: من ولدك ومن نسلك- إلا أنه ليس في معسكر الإيمان، فهؤلاء هم الأهل الحقيقيون، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَ(44/13)
شرح كتاب الإبانة - بيان أن الله أرسل المرسلين لدعوة الناس لعبادته وحده
لقد أحصى الله عز وجل كل ما هو كائن قبل أن يكون، وأرسل المرسلين إلى الناس يدعونهم إلى توحيد الله وطاعته، وينهونهم عن الشرك به ومعصيته، ثم أرسل الشياطين على الكافرين تحرضهم وتؤزهم على تكذيب المرسلين، والمقام على الكفر والمعاصي، وكل ذلك لا يكون منه شيء إلا بقدر الله تعالى وتحت مشيئته.(45/1)
باب بيان أن الله أرسل المرسلين لدعوة الناس لعبادته وحده
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن القدر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثالث: ذكر ما أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه أرسل المرسلين إلى الناس يدعونهم إلى عبادة رب العالمين، ثم أرسل الشياطين على الكافرين تحرضهم وتؤزهم على تكذيب المرسلين].
إذاً: فالأمر أن الله تعالى أرسل الأنبياء والمرسلين وأرسل الشياطين، أرسل الأنبياء والمرسلين إلى الناس كافة يدعونهم إلى عبادة الله، وأرسل الله تعالى الشياطين على الكافرين ليمنعوهم من الدخول في شريعة المرسلين، كما أن مهمة الشياطين أنهم يدعون الكافرين إلى تكذيب المرسلين، وكل ذلك يتم بقدر الله عز وجل ومشيئته، فمنه ما يتم بمشيئته الشرعية الدينية والكونية القدرية في آن واحد، ومنه ما يتم بمشيئته الكونية القدرية دون الشرعية، ومن أنكر ذلك فهو من الفرق الهالكة، أي: من أنكر أن الله تعالى خلق الخير والشر، وجعل لأهل الخير جنة عرضها السماوات والأرض، (وقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت)، وأن الله خلق النار وجعل لها قسماً ألقاهم فيها غير مبال بهم، وقال: (يا أهل النار خلود بلا موت)، من أنكر ذلك فهو من الفرق الهالكة، وأن كل ذلك إنما تم بعلم الله السابق الأزلي.(45/2)
وجوب الإيمان والتصديق بأن علم الله قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم
قال: [وفرض على المسلمين أن يؤمنوا ويصدقوا بأن علم الله عز وجل قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم].
أي: قد سبق أن الله تعالى عليم بما كان وما سيكون، وكل شيء يكون إلى أبد الآبدين، فالله تبارك وتعالى قد علمه أزلاً وقبل أن يخلقه.
قال: [كيف خلقهم، وماذا هم عاملون]، الله يعلم كيف يخلق عبده فلاناً، وماذا هو عامل، هل هو عامل بأسباب النجاة، أم بأسباب الهلكة، هل هو شقي أم سعيد، ذكر أم أنثى، من أهل الجنة أم من أهل النار، كل ذلك يعلمه الله تعالى في جميع خلقه قبل أن يخلقهم.
قال: [وإلى ماذا هم صائرون، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب].
إذاً المرحلة الأولى: مرحلة العلم الأزلي، المرحلة الثانية: مرحلة كتابة علم الله عز وجل في اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب.
قال: [ويصدق ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70]-أي: اللوح المحفوظ- {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]].(45/3)
إحصاء الله تعالى لما هو كائن قبل أن يكون
قال: [أحصى الله تعالى ما هو كائن قبل أن يكون -علم الله عز وجل ما سيكون قبل أن يكون- فخلقهم على ذلك العلم الأزلي السابق فيهم -أي: على مقتضى علمه خلق الخلق- ثم أرسل بعد العلم بهم والكتاب الرسل -أرسل الرسل بعد العلم وبعد الكتاب- إلى بني آدم يدعونهم إلى توحيد الله وطاعته، وينهونهم عن الشرك بالله ومعصيته، يدلك على تصديق ذلك قول الله عز وجل لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
فهذه دعوة الرسل جميعاً: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، أي: فاعبدوني ولا تعبدوا أحداً سواي]، دعوة كل نبي إلى أمته: أن يعبدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئاً، أن يفردوه بالوحدانية ولا يشركوا معه إلهاً آخر.(45/4)
إرسال الله للرسل لدعوة الناس إلى عبادته، وإرسال الشياطين على الكافرين تحرضهم على المعاصي
قال: [فالرسل في الظاهر تدعوهم إلى الله وتأمرهم بعبادته وطاعته، ثم أرسل الشياطين على الكافرين يدعونهم إلى الشرك والمقام على الكفر والمعاصي -أي: البقاء والاستمرار على الكفر والمعاصي- كل ذلك ليتم ما علم، ولا يكون إلا ما أمر].
إذ إن الله تعالى لا يأمر بالشر، وإنما يأمر بالخير والطاعة، وهذا المقصود منه أمر التكوين وليس التفريق.
قال: [ولا يكون إلا ما أمر -أي: أمراً كونياً قدرياًَ لا شرعياً دينياً- فسبحان من جعل هذا هكذا، وحجب قلوب الخلق ومنعهم على مرادهم في ذلك وجعله سره المخزون -أي: القدر هو سر الله تعالى المخزون- وعلمه المكتوم، ويصدق ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]].
أي: أن الله عز وجل هو الذي أرسل الشياطين على الكافرين تحرضهم على المعصية، وتأمرهم بأن يقيموا عليها ولا يتركوها.
قال: [وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، أي: أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]-أي: أن الشياطين يعلمون أن هذا السحر كفر- {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]].(45/5)
التعليق على قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)
قال: [أما ترى كيف أعلمنا أن السحر كفر، وأنه أنزله على هاروت وماروت]؟ إذاً: من الذي أذن في وجود الكفر في الكون؟ الله عز وجل، وهل يكون في الكون شيء على غير مراد الله؟ أي: هل ممكن أن يكون هناك شيء في الكون رغماً عن الله عز وجل؟ لا يمكن حاشى لله عز وجل.
قال: [وجعلهما فتنة ليكفر من كتبه كافراً بفتنتهما، وأن السحر الذي يعلمانه الناس كفر، وأنه لا يضر أحداً إلا من قد أذن الله أن يضره السحر].
أي: ممكن أن يسحر ساحر امرأ فلا يضره ولا يأتي مفعوله؛ لأن العبد قد تحصن بالأذكار والأوراد والقرآن والذكر وغير ذلك، ويمكن أن يكون المرء من أذكر الناس لله عز وجل، ومع هذا يصاب بالسحر ويصاب بشتى أنواع البلاء؛ لأن السحر نوع من أنواع البلاء ينزل بالعبد، كيف لا وقد سحر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أذكر الخلق لله عز وجل، وأكثرهم تسبيحاً وتهليلاً وتحميداً صلوات ربي وسلامه عليه، ليرفع الله به درجاته، ثم ليجعله أسوة وقدوة للخلق.
نعم قد سحر النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أثر فيه السحر، حتى أنه كان يهيأ إليه أنه قد أتى امرأته ولم يأتها، وغير ذلك مما أصاب النبي عليه الصلاة والسلام، مما ينكره أتباع المدرسة العقلية في هذا الزمان، وهم أذناب العقلانيين أو المعتزلة في القديم، ولكن هذا الحديث ثابت في الصحيحين فلا نرده بالعقل، فالسحر لا يضر أحداً إلا إذا أذن الله عز وجل في وقوع الضرر بالمسحور.
قال: [وذلك عدل منه سبحانه وتعالى.
وقال الله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:163]].
أي: إلا من كتب عليه أن يدخل فيها، وأن يصلى بنارها، وأن يتقلب فيها، نسأل الله العافية لنا ولكم.
قال: [قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف:36].
والذي يقيض هو الله عز وجل، {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37].(45/6)
إخبار الله في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول
قال: [فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول، ومن سبقت عليه الشقوة].
أي: ومن سبق في علم الله أنه شقي، فلابد أن يهيئ له الأسباب، ومنها: إرسال الشياطين عليه حتى يؤزوهم أزاً، ويحرضوهم على الكفر تحريضاً، ويزينوا لهم سوء أعمالهم، وكذلك أخبرنا أنه تعالى فتن قوم موسى حتى عبدوا العجل وضلوا عن سواء السبيل.
قال الله عز وجل: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85].
والمتكلم هو الله عز وجل، إذاً الله تعالى هو الذي فتن بني إسرائيل؛ لأنه قد سبق في علمه الأزلي أنهم سيختارون الضلال فكتبه عليهم، رغم وضوح الحجة وقيام المحجة عليهم على لسان موسى عليه السلام، لكنه لما تخلف عنهم في طور سيناء عبدوا العجل من دون الله عز وجل، وكانت هذه أعظم فتنة لقيها موسى عليه السلام مع بني إسرائيل.
وقال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
فالخير من المال والدنيا والولد والزوجة والصحة والعافية، كل ذلك فتن عظيمة جداً؛ لينظر الله عز وجل أيصبر المرء فيشكر أم يكفر ويجزع.
قال عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168]، أي: يتوبون إلى الله عز وجل، ((وَبَلَوْنَاهُمْ))، أي: ابتليناهم واختبرناهم بالحسنات والسيئات، فأحياناً يغتر المرء بطاعته، فإذا وقع منه ذلك كان الغرور سبباً إلى زوال النعمة عنه ودخوله النار، ولذلك نظر رجل من العباد في عمله فرأى أنه طائع لله عز وجل، ثم نظر إلى عمل رجل من أهل المعاصي فقال: والله لا يغفر الله تعالى لفلان -أي لصاحب المعصية- فقال الله عز وجل: (من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، قد غفرت له وأحبطت عملك)، كما تجد في بعض الكتب قول كثير من أهل العلم: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة.
فقولهم: (رب طاعة أدخلت صاحبها النار)، أي: بسبب أنه اغتر بذلك وركن إليها، ولعله قطع على الله عز وجل حقاً أن يدخله الجنة بسبب هذه الطاعة، وأنتم تعلمون أن الطاعات كلها لا تساوي نعمة واحدة من نعم الله عز وجل على العبد، فلا يغتر العبد بحسن عمله؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فربما يعمل المرء عملاً طيلة حياته هو من عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس بالعكس.
لذا فالمرء ينبغي أن يكون خائفاً من قدومه على الله عز وجل، ولا يأمن أن يلقيه في الجنة أم في النار، يكلمه أم يشقيه ويبعده، فإذا كانت هذه عقيدة المرء أو عقيدة المسلمين فينبغي ألا يغتر طائع بطاعته؛ لأن طاعته لله عز وجل هي أيضاً من نعم الله عز وجل، فلا فضل له في هذه الطاعة قط، وإنما الله تعالى هو الذي وفقه، ولذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة: أننا نرجو الله تعالى لأهل الطاعة أن يدخلهم الجنة، ونحسن الظن بالله تعالى أن يلقى أهل طاعته بقبول حسن، وأما أهل المعاصي فإننا لا نقطع لهم بجنة ولا نار، كما لا نقطع كذلك بالجنة لأهل الطاعة وإنما نرجو الله، وكذلك أهل المعاصي لا نقطع لهم بالنار؛ لأنهم لا زالوا في دائرة الإسلام ما دامت هذه المعصية لا تخرجهم عن حد الإسلام، وإنما نرجو الله تعالى لأهل المعاصي أن يغفر لهم، وأن يستر عليهم في الدنيا والآخرة، وكلنا أصحاب معاص، من منا ليس ملوثاً ملطخاً بالكبائر والصغائر؟ كلنا أصحاب ذنوب، ولكنا ذلك الرجل الذي نرجو له جميعاً أن يعفو الله تعالى عنه في الدنيا والآخرة وأن يستره، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقولهم: (ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة)، أي: لانكساره وذله وندمه وتوبته بعد فعلها.
قال: [وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر:37]]، هذه بلية عظيمة جداً، إذ إن المرء يعمل عملاً سيئاً ويعلم أن هذا العمل سيئ وبلية، والأعظم منه أن تعمل السيئات ثم تزين وتجمل لك، وتلمع لك حتى تصدق أنك عملت عملاً حسناً لا سيئاً.
إذاً: عمل السيئات بلاء عظيم، والأعظم منه بلاء أن يهيأ لك أن هذا العمل عمل حسن، إنه عمى يتلوه عمى، وضلال يعقبه ضلال.(45/7)
إخبار الله عن فعله في خلقه
قال: [فهذا كلام الله عز وجل، وإخباره عن فعله في خلقه، يعلمهم أن المفتون من فتنه -أي: أن المفتون في دينه ودنياه هو الذي فتنه الله عز وجل- والهادي من هداه، والضال من أضله وحال بينه وبين الهدى، وأن الشياطين هو خلقها وسلطها، والسحر هو الذي أنزله على السحرة، وأنه لا يضر أحداً إلا بإذنه، فتعس عبد وانتكس سمع هذا الكلام الفصيح الذي جاء به الرسول الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم من كتاب ربه الناطق فيتصامم عنه ويتغافل، ويتمحل لآرائه وأهوائه المقاييس بالكلام المزخرف والقول المحرف؛ ابتغاء الفتنة وحب الأتباع والأشياع، كما قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]].(45/8)
كلام بعض الصحابة والتابعين في قوله تعالى: (ما أنتم عليه بفاتنين)
قال: [وعن إبراهيم النخعي في قول الله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] قال: بمضلين، إلا من قدر له أن يصلى الجحيم].
أي: إلا من كتب الله له أزلاً أنه من أهل الشقوة، وأنه من أهل النار.
قال: [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] قال: لا تفتنون إلا من قدر له أن يصلى الجحيم].
إذاً الهداية بيد الله عز وجل، والفتنة والضلال بيد الله عز وجل، وما عليك إلا أن تدعو الله تعالى بالهداية.
قال: [وعن الحسن في نفس الآية قال: إلا من قدر له أن يصلى الجحيم.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله عز وجل لو أراد ألا يعصى ما خلق إبليس].
أي: أن رأس المعصية، والذي يحض عليها، ويؤزك عليها أزاً، هو إبليس، والله عز وجل أراد أن يعصى فخلق إبليس، وإرادة الله هنا إرادة كونية قدرية، لا شرعية دينية؛ لأن الله تعالى خلق الكفر ونهى الناس عن الوقوع فيه.(45/9)
باب ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته
قال: [الباب الرابع: ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل].
ومعنى ذلك: أن الله أذن أن يكون للعبد مشيئة، وله تعالى مشيئة، لكن شتان بين مشيئة العبد ومشيئة المعبود سبحانه وتعالى، والشاهد: أن الله تعالى أثبت أن لعبده مشيئة، وأن لعبده إرادة: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فكلمة (تريدون) فيها إثبات الإرادة للعبد، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، أثبت الله للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله، بمعنى: أن العبد لا يشاء شيئاً إلا إذا قدره الله تعالى وشاءه للكون، فإذا كان خيراً فمشيئة شرعية، وإذا كان شراً فمشيئة كونية، على خلاف بين أهل العلم، هل المشيئة هي الإرادة، أم أنهما متباينان مختلفان؟ وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل.(45/10)
آيات من القرآن في بيان أن مشيئة الخلق تبع لمشيئة الله
قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] إلى قوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، والقتل أو القتال قد نهى الله عنه، ومع هذا أذن الله تعالى في وقوعه، ومعنى: أذن الله في وقوعه.
أي: خلقه وأوجده، وهذا في باب الإرادة الكونية القدرية.
وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]، أي: ولو شاء الله لجمع الناس جميعاً على الهداية والإيمان، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35].
وقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]، فقوله تعالى: (مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ)، أي: يجعله ضالاً، والضلال لا يكون إلا بقدر الله ومشيئته، وكذلك الهداية، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فالهدية والضلال بيد الله عز وجل.
وقال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:106 - 107]، أي: لو أراد الله عز وجل أن يؤمن هؤلاء لآمنوا، ولكن الله تعالى أراد غير ذلك، فقد أراد لهؤلاء بالذات -لسابق علمه فيهم- الشرك، فهيأ أسباب الشرك، وأراد الله عز وجل للفريق الآخر الإيمان، فهيأ أسباب الإيمان لهم، {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107].
وقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]، أي: لو أن هؤلاء اتخذوا جميع الأسباب للإيمان فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله لهم الإيمان، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يرى الله تعالى من عباده تضرعاً وذلاً وخشوعاً وإقبالاً وتوبة وإنابة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111].
وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]، أي: أمة واحدة مؤمنة، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119]، فقوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119] جملة اعتراضية، ولكن الناس في أصل الخلق مختلفون في الإيمان والكفر، في الشقوة والسعادة، في الجنة النار، ولذلك وردت تفاسير أهل العلم على هذه الآية.(45/11)
كلام أهل العلم في تفسير قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك)
قال: [وعن منصور بن عبد الرحمن قال: قلت للحسن البصري: قول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]؟ قال: من رحم ربك غير مختلف].
وانتبهوا، أتظنون أن خلاف الإخوان مع السلفيين، والسلفيين مع التبليغ هو المعني والمقصود في هذه الآية؟ لا، فكما أن الإخوة ينزلون أحاديث الفرق على الجماعات الموجودة على الساحة فكلام غير سليم، وفهم غير سليم، إنما ذلك في الفرق الضالة، أما هذه الآية فمتعلقة بالإيمان والكفر، بالمؤمنين والكافرين، بأهل الشقاء وأهل السعادة، بأهل الجنة وأهل النار، والله عز وجل من رحمته لم يجعل في أهل الإيمان اختلاف، أما أهل الكفر فإنهم خالفوا أهل الإيمان، قلت: ولذلك خلقهم، أي: خلق هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار.
إذاً: الكلام على المؤمنين والكافرين لا على الجماعات الإسلامية الموجودة في الساحة.
قال: [وعن خالد الحذاء قال: قدم علينا رجل من الكوفة، فكان مجانباً للحسن لما كان يبلغه عنه في القدر].
أي: أن واحداً جاء من الكوفة إلى البصرة، وكان قد بلغه كلاماً على سبيل الوشاية: أن الحسن البصري إمام السنة في زمانه يتكلم في القدر! فلما أتى هذا الكوفي جانب الحسن، أي: تباعد عنه ولم يسمع منه شيئاً؛ لأنه بلغه أن الحسن يتكلم في القدر، قال: حتى لقيه وسأله الرجل أو سئل عن هذه الآية: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]؟ قال الحسن: خلق أهل الجنة للجنة، وأهل النار للنار، قال: فكان الرجل بعد ذلك يذب عن الحسن]، أي: بعد أن علم الكذب والافتراء على الحسن، وأن الحسن لو كان من القدرية لا يقول في تفسير هذه الآية أنه خلق هؤلاء للجنة، وخلق هؤلاء للنار؛ لأن القدرية يقولون في هذه الآية كلاماً في قمة القبح.
قال: [وعن الحسن {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119]، قال: للاختلاف].
أي: بين الإيمان والكفر، بين الشقوة والسعادة.(45/12)
مشيئة الله تعالى غالبة في نصوص القرآن
قال: [وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4]]، فهذا هو الشاهد: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4]، إذاً الهداية والضلال بيد الله، وبمشيئة الله العزيز الحكيم.
قال: [وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]]، لو شاء الله عز وجل يا أخي الكريم! ألا يجلسك في هذا المجلس ما جلست، ولجعلك في أهل الشقوة والتعاسة، ولو شاء الله عز وجل الآن أن يجعلنا جميعاً كفاراً لما قمنا من مقامنا إلا ونحن كفار عياذاً بالله، ولو شاء الله أن تعالى أن يأتي بالكفار الآن فيدخلهم علينا أفواجاً وجماعات لفعل سبحانه وتعالى، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
فهذه باختصار عقيدة السلف في الإيمان بالقدر كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، وهو سر الله تعالى المكتوم الذي يحرم على المسلم أن يماحل وأن يجادل فيه.
قال: [قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]]، أي: يا محمد! لا يمكن أن يهتدي على يديك أحد مهما حاولت إلا أن يشاء الله ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحب شيء له أن يهتدي أبوه، وعبد المطلب، وأبو طالب، أهله وأقرب الناس إليه، لكن الله تعالى أراد غير ذلك، فما تم لمحمد عليه الصلاة والسلام ما أحب؛ لأن مشيئة الله تعالى أنهم من أهل الشقاء، ولذلك قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، أي: وقد سبق في علمه الأزلي من يهتدي.
قال: [وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:22 - 23]]، أي: يا محمد مهمتك: النذارة والبشارة، {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [الأعراف:188] فقط لا غير، نذير من النار، وبشير بالجنة.
قال: [وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى:8].
وقال عز وجل: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56].
وقال عز وجل حين دعا إلى الجنة وشوق إليها، وحذر من النار وخوف منها: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19]]، (فمن شاء) أثبت لك مشيئة، وأثبت لك إرادة، لكن مشيئتك وإرادتك داخلة تحت مشيئة الله، بمعنى: ألا تشاء شيئاً إلا أن يشاءه الله، ولا تريد شيئاً إلا أن يريده الله عز وجل، ولذلك رد الله تعالى مشيئة الخلق إلى نفسه وإلى مشيئته فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:30 - 31]]، أي: المرء لا يستطيع أن يدخل نفسه في رحمة الله إلا أن يشاء الله تعالى ذلك، {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31]، ثم قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29].(45/13)
قول ابن عباس وأبي العالية في تفسير قوله تعالى: (كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة)
قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29 - 30] ولذلك خلقهم حين خلقهم، فجعلهم مؤمناً وكافراً -أي: جعل الخلق مؤمناً وكافراً- وسعيداً وشقياً، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتدياً وضالاً].
أي: كما كانوا في الدنيا بين مهتد وضال، وشقي وسعيد، فكذلك الله تعالى يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم، بدأهم أتقياء يعيدهم أتقياء، بدأهم سعداء يعيدهم يوم القيامة سعداء، وهكذا.
قال: [وعن أبي العالية في قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] قال: عادوا إلى علمه فيهم].
أي: أنه علم أنهم أشقياء أو سعداء، فعادوا إلى علمه الأزلي السابق، ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ} [الأعراف:30] و (حَقَّ): بمعنى: كتب وأوجب.(45/14)
رد ابن عباس على من يزعم أن الشر ليس بقدر
قال: [وعن ابن طاوس عبد الله عن أبيه طاوس بن كيسان اليماني أن رجلاً قال لـ ابن عباس: أن أناساً يقولون: إن الشر ليس بقدر].
أي: ما أراد الله تعالى وقوع الشر، إنما الشر هذا من عندنا، فلا علاقة له بقدرة الله، ولا بقدر الله.
قال: [فقال ابن عباس: فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]]، حتى المشركين أنفسهم أنظف وأحسن عقيدة من القدرية؛ لأنهم يعتقدون أن الشرك وقع فيهم بمشيئة الله عز وجل، فقولوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، أي: كل هذا الذي نعمله بمشيئة الله عز وجل، لكن هل المشركون معذورون بشركهم أم لا؟ وهل أقيمت عليهم الحجة أم لا؟ أقيمت عليهم الحجة، كما أنهم لا يحتجون بالقدر على المعصية، وإنما يحتج بالقدر بعد التوبة منها، كما في حديث: (احتج آدم وموسى) والحديث طويل.(45/15)
تفسير أبي حازم لقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)
قال: [وقال أبو حازم في قول الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس:8]]، أي: النفس، {فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]]، إذاً الفجور والتقوى بقدر الله عز وجل وبمشيئته، وهذه النفس إن كان سبق في علم الله أنها نفس تقية ألهمها تقوها، وإن كان سبق في علم الله أنها نفس فاجرة ألهمها فجورها.
قال: [الفاجرة ألهمهما الفجور، والتقية ألهمها التقوى]، أي: رزقها التقوى.(45/16)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه)
قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، أي: يجعل حائلاً بين المرء وبين قلبه، وبين ما يشتهي ويهوى]، قال: يحول بين المؤمن والمعصية، وبين الكافر والطاعة، ولذلك في هذا الوقت أنت رجل مؤمن عندك تقوى، وعندك دين، فإذا خرجت من هذا المسجد الطيب المبارك ورأيت معصية في الشارع، ماذا تعمل؟ هل ستصوب نظرك إلى الأرض أم تأذن لنظرك بالانطلاق؟ بلا شك أن ضميرك والوازع الديني الذي في قلبك يقول لك: هذا عيب، فأنت قبل ساعتين وعظت، فلا يصح أن تنظر إلى الحرام، في الحقيقة قلبك يهوى النظر، لكن ما الذي حال بينك وبين النظر؟ ألهم الله نفسك تقواها، وإذا اخترت الفجور عياذاً بالله، فإن الله تعالى يهيئ أسبابه لك، فيبعث لك امرأة متبرجة، وأول ما تجاوز عينيك يبعث لك واحدة أخرى، وهكذا ثالثة ورابعة وخامسة حتى تدخل بيتك، فتبدأ في بيتك بغض بصرك عن امرأتك، فتمشي بالعكس ما دمت تمشي في الشارع وعينك شمال ويمين شمال ويمين وتقع في المعصية، وأول ما تدخل البيت فتنظر إلى امرأتك فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتنظر إلى الأرض، هذه التقوى التي عندك أن تغض بصرك عن الحلال وأن تطلقه في الحرام! وهذا شغل أهل الفجور.(45/17)
تفسير الحسن لقوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون)
قال: [وعن الحسن في قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين الإيمان]، أي: جعل الله تعالى حائلاً بينهم وبين أن يكونوا في الإيمان؛ لأنه قد سبقت لهم من الله الشقوة والتعاسة والنار والعياذ بالله.(45/18)
تفسير الحسن لبعض الآيات المتعلقة بمشيئة الله وغلبتها لكل مشيئة
قال: [وعن حميد قال: قرأت القرآن كله على الحسن البصري في بيت أبي خليفة ففسره لي أجمع على الإثبات، فسألته عن قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200]، قال: الشرك سلكه في قلوبهم].
أي: أن ربنا هو الذي دب الشرك في قلوب المشركين.
قال: [وسألته عن قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، قال: أعمال سيعملونها، وسألته عن قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]، قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من هو صال الجحيم].
وتصور أن واحداً يسرد تفسير الكلمات هذه ربما يكون بنفس الكلمات، لكن أنا أعتبر أن هذا هو التفسير المبارك للقرآن الكريم، وفي هذا الوقت ممكن خطيب يصعد المنبر فيمكث يفسر هذه الآية ساعتين وثلاث وهو على المنبر، وكلام كثير ينسي بعضه بعضاً، والسلف كانوا أقل الناس تكلفاً، وأقل الناس كلاماً، وأكثرهم عملاً وعبادة.(45/19)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه)
قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] قال: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان بالله، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]]، في الحقيقة القلب لا يضيق ولا يتسع، إنما هذا ضيق الكفر واتساع الإيمان.
قال: [يقول: شاكاً كأنما يصعد في السماء]، يقول: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يقدر أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله عز وجل في قلبه.
إذاً الله عز وجل بيده الإيمان والكفر.(45/20)
كلام مالك وزيد بن أسلم في القدرية
قال: [وقال مالك: ما أضل من كذب بالقدر].
أي: ليس هناك ضلال من التكذيب بقدرة الله عز وجل، ولذلك الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: عن القدر ما هو؟ قال: القدر هو قدرة الله عز وجل، وكل شيء في قدرة الله حتى الإيمان والكفر.
قال: [لو لم تكن عليهم فيه حجة إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]].
أي: جعل منكم مؤمناً وجعل منكم كافراً.
قال: [وعن زيد بن أسلم قال: والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس.
إذ إن إبليس أخو القدرية]، والدليل على أنهم لم يقولوا كما قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، فما من إنسان يشاء إيماناً إلا لابد أن يكون الله تبارك وتعالى قد شاء له الإيمان، وما من إنسان يريد كفراً إلا قد سبق علم الله في إرادة الكفر لهذا الإنسان.
وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]، أي: ننزهك يا رب! عن كل نقص، ونصفك بكل كمال، ومنه العلم، فالله تبارك وتعالى عليم، وعلام الغيوب سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]، أي: نسبوا العلم إلى الله عز وجل.
بينما القدرية قالوا: لا قدر وأن الأمر أنف، وهناك حديث في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، قال معبد الجهني: لا قدر وأن الأمر أنف، أي: لا يوجد شيء اسمه قدر؛ لأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، أما قبل وقوعها فلا يعلم شيئاً، وهذا معنى قول القدرية: وأن الأمر أنف، أي: مستأنف، وهذا كفر بواح، ولذلك قال عبد الله بن عمر لـ حميد بن عبد الرحمن، ويحيى بن يعمر البصريان: فإذا لقيتموهم فأخبروهم أني بريء منهم، وهم برآء مني، قال النووي عليه رحمة الله: وكلام عبد الله بن عمر ظاهر في تكفيرهم، وأجمع أهل السنة والجماعة على أن منكر مرتبة العلم ومرتبة الكتابة كافر بلا نزاع.
وقال شعيب عليه السلام، وهو قول الأنبياء: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا} [الأعراف:89]، أي: لا يمكن أن نرجع إلى ما كنا عليه قبل النبوة والرسالة من ضلال إلا أن يشاء الله ربنا.
وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، فنسبوا الهداية لله عز وجل.
وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106].
وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]، أي: اعترف بربوبية الله عز وجل، كما اعترف أن هذا الرب يملك القدر، والإغواء، والضلال، وأن الله تعالى أراد ذلك لإبليس، وأن إبليس مهما أراد الضلال فإنه لا يملكه إلا أن يأذن الله تعالى بوقوعه.(45/21)
انحراف القدرية في القدر رغم سماعهم للآيات الدالة عليه
قال: [فالقدرية المخذولة يسمعون هذا وأضعافه، ويتلونه ويتلى عليهم، فتأبى قلوبهم قبوله، ويردونه كله، ويجحدونه بغياً وعلواً، وأنفة من الحق وتكبراً على الله عز وجل وعلى كتابه، وعلى رسوله، وعلى سنته، وللشقوة المكتوبة عليهم، فهم لا يسمعون إلا ما وافق أهواءهم، ولا يصدقون من كتاب الله ولا من سنة نبيه إلا ما استحسنته آراؤهم، فهم كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]، هم كما قال الله عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
وهكذا القدري الخبيث الذي قد سلط الله عليه الشياطين يمدونهم في الغي مداً ثم لا يقصرون، تزجره بكتاب الله تعالى فلا ينزجر، وبسنة النبي رسول الله فلا يدّكر، ويقول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فلا ينحسر -أي: تذكره بأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام فلا ينحسر- وتضرب له الأمثال فلا يعتبر، مصر على مذهبه الخبيث النجس الذي خالف فيه رب العالمين، والملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وجميع فقهاء المسلمين، وضارع فيه اليهود -فالقدري شبيه باليهود والنصارى- والنصارى والمجوس والصابئين، فلم يجد أنيساً في طريقته، ولا مصاحباً على مذهبه غير هؤلاء، أعاذنا الله وإياكم من مذاهب القدرية، والأهواء الرديئة، والبدع المهلكة المردية، وجعلنا وإياكم للحق مصدقين، وعن الباطل حائدين، وثبتنا وإياكم على الدين الذي رضيه لنفسه واختص به من أحبه من عباده، الذين علموا أن قلوبهم بيده، وهممهم وحركاتهم في قبضته، فلا يهمون ولا يتنفسون إلا بمشيئته، فهم فقراء إليه في سلامة ما خولهم من نعمه، يدعونه تضرعاً وخفية كما أمرهم به من مسألته: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]].(45/22)
إكثار النبي في قوله: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)
قال: [وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)]، ومن منا يعتقد أن قلب النبي يزيغ؟! لا أحد يعتقد ذلك، لكن القدرية يقولون بإمكان وقوع الكفر على الأنبياء، وهذا مكتوب في كتبهم، بل وفي كتب الملل والنحل، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لاعتقاده: (أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وقلبه إنما هو قلب من القلوب، فكان دائماً يدعو ربه، إذ إن الدعاء هو العبادة كما قال عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ثم قرأ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
قال: [وعن أم المؤمنين قالت: (كانت دعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلت: يا رسول الله هل تخاف؟ -أي: نخاف نحن، أما أنت فهل تخاف؟! - قال: وما يؤمنني وليس من أحد إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل -أي: ما هو الداعي لأن آمن من مكر الله؟ وكيف لي بذلك؟! - إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، يقلب أصبعيه عليه الصلاة والسلام)، فتأمل هذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام.(45/23)
كلام أبي شامة في حكم من شبه شيئاً من صفات الله بما يقابله من جوارحه
قال: [وقال: أبو شامة رحمه الله تعالى: من ذكر شيئاً من أوصاف الله عز وجل، وأشار إلى ما يقابل ذلك من جوارحه عوقب ببتره، قال ذلك في كتاب: الحوادث والبدع، وأبو شامة من أئمة أهل السنة، ومعنى كلامه هذا: أن من ذكر شيئاً من أوصاف الله عز وجل كالعين مثلاً، فإذا ذكر المؤمن قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وأشار إلى عينه، قال: فحكمي فيه أن تفقأ عينه]، وهذا لما أراد بهذه الإشارة تشبيه الخالق بالمخلوق، وإذا أراد بالتمثيل التقريب، أي: تقريب المعنى إلى أذن السامع مع استقرار الفارق بين أوصاف الخالق والمخلوق فلا بأس بذلك، ولذلك (دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يهودي أو حبر من أحبار اليهود فقال: يا محمد! إنا لنعلم أن الله عز وجل خلق الخلق فجعل الأرض على ذه، والسماء على ذه، والجبال على ذه، والبحار على ذه وأشار إلى أصابعه، ثم ضحك النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ألم تسمعوا إلى ما يقول هذا اليهودي؟! فقال رجل من المسلمين: ماذا قال يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه أتاني وقال: إنا لنعلم يا محمد -عليه الصلاة والسلام- أن الله تعالى خلق الخلق فجعل السماء على ذه، والأرض على ذه، والجبال على ذه، والبحار على ذه، ثم قبض اليهودي قبضته، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67])، وتلا آيات من صفات الله عز وجل، والشاهد أن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى أصابعه، كأن الله تعالى جعل السماء على أصبع، والأرض على أصبع، والبحار على أصبع، وغير ذلك من سائر مخلوقاته، وكل ذلك مطوي في يمين الله عز وجل: {وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] سبحانه وتعالى، فما أنكر عليه الصلاة والسلام على اليهودي، بل تبسم لما سمع قوله؛ لأنه قد استقر في أذهان الصحابة والسامعين أن أصابع الخالق تختلف عن أصابع المخلوقين، ولكنه ما أشار إلا لتقريب المعنى وإظهار مكانه فحسب، أما من أشار إلى أصبعه ليبين أن أصابع الخالق سبحانه وتعالى كأصابعه فهذا حكمه كما قال أبو شامة: أن تقطع أصابعه.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، قلت: يا رسول الله هل تخاف؟ قال: وما يؤمنني وليس من أحد إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، يقلب أصبعيه عليه الصلاة والسلام) فهذا التشبيه لتقريب المعنى، لا لأن التقليب هو التقليب.(45/24)
عمل العباد من طاعة أو معصية لا يخرج عن إرادة الله وقدره
قال: [وعن محمد بن كعب القرظي قال: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد].
أي: أن هؤلاء الخلق لو اجتمعوا في صعيد واحد مؤمنهم وكافرهم، وأرادوا أن يعصوا الله تعالى بمعصية ما أرادها أن تقع في الكون فلا يقدرون على المعصية، وقوله: (الخلق أدق شأناً)، أي: أهون على الله عز وجل من أن يعصوا الله طرفة عين فيما لا يريد، إذاً المعصية والطاعة ما وقعتا في الكون إلا بمشيئة الله تعالى وإرادته.
قال: [قال ابن عباس: كلام القدرية، وكلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هلكة، وقال: ولا أعرف الحق، أو لا أعلم الحق إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله -وهذا الحق أنك ترد علم الغيب إلى الله عز وجل- ولم يقطعوا بالذنوب العصمة من الله، وفوضوا أمرهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقدر الله].
وهذا كلام أهل الحق.(45/25)
اقتصار دعوة الرسل على البلاغ واختصاص الله بالهداية والتوفيق
قال: [فاعلموا رحمكم الله تعالى أن هذه طريقة الأنبياء عليهم الصلاة السلام، وبذلك تعبدهم الله -هذا الذي أمرك الله عز وجل أن تعبده به- وأخبر به عنهم في كتابه أن المشيئة لله عز وجل وحده، ليس أحد يشاء لنفسه شيئاً من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية، إلا أن يشاءها الله، وبالتبري إليه من مشيئتهم، ومن حولهم، وقوتهم، ومن استطاعتهم، بذلك أخبر عن نوح عليه السلام حين قال له قومه: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} [هود:32 - 33]].
لأنهم قالوا له: (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، فقال لهم: ليس في يدي أن آتيكم بما وعدكم، وإنما الذي يأتيكم به هو {اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:33 - 34]، (وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي) أي: دعوتي، (إِنْ أَرَدْتُ) أي: ذلك، ومعنى الآية: وما ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد شيئاً غير ذلك، فمهما نصحتكم إذا كان الله يريد شيئاً غير هذا فإنه لا يتم إلا ما أراد الله عز وجل، {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34].
قال: [فلو كان الأمر كما تزعم القدرية كانت الحجة تظهر على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه، وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده، فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:89].
ثم قال شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]]، أي: ما أنا بموفق ومسدد إلا بمشيئة الله، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
قال: [وقال إبراهيم في محاجته لقومه: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، إذاً الله تعالى هو الذي بيده الهداية، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80].
وقال أيضا فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه، وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]]، فإبراهيم عليه السلام صاحب الملة الحنيفية السمحاء يخاف أن يتحول قلبه! فدعا الله عز وجل أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام.
قال: [وقال فيما أخبر عن يوسف، ولجئه إلى ربه، وخوفه الفتنة على نفسه إن لم يكن هو المتولي لعصمته، {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي} [يوسف:33]، إذاً الذي يصرف الشر هو الله عز وجل، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34].
ثم أخبر تعالى أن العصمة في البداية وإلهامه إياه الدعوة كانت بالعناية الإلهية من مولاه الكريم به، فقال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
وقال عز وجل فيما أخبر عن موسى حين دعا على فرعون وقومه بألا يؤمنوا، وعن استجابته له وإعطائه ما سأل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، قال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} [يونس:89].
وقال فيما أعلمه لنوح بكفر قومه وتكذيبهم له: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْ(45/26)
قول بعض السلف في تفسير بعض آيات القدر
قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] قال: وما أورثوا من الضلالة، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] قال: في أم الكتاب.
وعن جابر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الآية: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، قال: تقضي على القرآن كله، أي: كافية وحاكمة بأن الله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء].
قال: [وعن سفيان عن عبد العزيز بن رفيع عمن سمع عبيد بن عمير يقول: (قال آدم عليه السلام: يا رب! أفرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: لا، بل شيء قدرته عليك من قبل أن أخلقك، قال: أي رب! فكما قدرته علي فاغفر لي، فلذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]).
وعن مجاهد: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم إبليس المعصية وخلقه لها].
قال: [فاعلموا رحمكم الله أن من كان على ملة إبراهيم، وشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن كان دينه دين الإسلام، ومحمد نبيه، والقرآن إمامه وحجته، وسنة المصطفى نوره وبصيرته، والصحابة والتابعون أئمته وقادته، وهذا مذهبه وطريقته، وقد ذكرنا الحجة من كتاب الله عز وجل، ففيه شفاء ورحمة للمؤمنين وغيظ للجاحدين].
ثم يذكر الإمام مقدمة بعد ذلك نرجئها للدرس القادم بمشيئة الله تعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(45/27)
دعاء للمجاهدين الأفغان في قتالهم مع الروس
في أفغانستان أظن أن الحرب قد بدأت منذ ساعة، ولذلك جاءت الأخبار سواء في الصحافة المقروءة أو المرئية أو المسموعة بأن الحرب ضروس وقد حمي الوطيس.
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينصر إخواننا.
اللهم انصر إخواننا في أفغانستان، اللهم انصر إخواننا في أفغانستان، اللهم انصر إخواننا في أفغانستان.
اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، مهزومون فانصرهم.
اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم اغلب الكفر والكافرين، اللهم اغلب الكفر والكافرين.
اللهم عليك بالروس، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم جميعاً فإنهم لا يعجزونك، اللهم خذهم جميعاً فإنهم لا يعجزونك.
اللهم أرجعهم إلى ديارهم حسرى وندامى مخذولين مهزومين.
اللهم كن لإخواننا ولا تكن عليهم.
اللهم قو إيمانهم، اللهم ثبتهم يا رب العالمين، اللهم ثبتهم في أوطانهم، اللهم ثبت الإيمان في قلوبهم.
اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم قو إيمانهم، اللهم سدد رميهم، اللهم سدد رميهم ووحد كلمتهم، وائت بقلوب الموحدين، اللهم ائت بقلوب الموحدين إليهم.
اللهم مدهم بمدد من عندك، اللهم أنزل عليهم ملائكتك، اللهم أنزل عليهم ملائكتك، اللهم أنزل عليهم سكينتك، اللهم أنزل عليهم سكينتك.
اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم، اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم، اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم، اللهم ألق الرعب والفزع في قلوب أعدائهم حتى يخافوا كل شيء.
اللهم أنزلن سكينة على عبادك الموحدين حتى يأمنوا من كل شيء.
اللهم أنزلن سكينة على عبادك الموحدين حتى يأمنوا من كل شيء، ويكون الكفار في أعينهم كالجرذان، والجعلان، والقطط، والفئران.
اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(45/28)
مشروعية الدعاء في النوازل وآدابه
عبادتكم يا إخواني! في هذه الليالي الدعاء لإخوانكم فلا تنسوا، والدعاء سلاح فتاك، وخير ما يتقرب به العبد الضعيف إلى الله عز وجل أن يدعو في الأوقات المستجابة خاصة ثلث الليل الآخر حين ينزل الرب تبارك وتعالى فيقول: (ألا هل من داع فأستجيب له؟ ألا هل من مستغفر فأغفر له؟ ولا يزال كذلك حتى يطلع الفجر)، وفي رواية: (حتى تطلع الشمس)، فالدعاء سلاح عظيم جداً، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه عين العبادة، فقال: (الدعاء هو العبادة)، أي: هو عين العبادة، والله تعالى قد وعد بالاستجابة فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وكثير من الناس يظن أن الدعاء هو لغة المتكلين أو لغة الضعفاء المخذولين وغير ذلك، ونسوا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وهل ترزقون وتنصرون إلا بدعاء ضعفائكم وصلاتهم وصيامهم)، أي: إنما يرزق المرء بطاعته ودعوته، وكذلك ينصر بدعاء الشيوخ والنساء والأطفال، وكان عمر رضي الله عنه إذا لقي طفلاً في الطريق طلب منه أن يدعو له بالمغفرة، فإذا قيل له: يا أمير المؤمنين! طفل يدعو لك؟ قال: إنه مجاب الدعوة خاصة وأنه لم يبلغ الحلم ولم يجر عليه القلم.
كما لا ننسى القنوت في الصلوات الخمس في الركعة الأخيرة قبل الركوع لا بعد الركوع، وذلك لمن كان منكم إماماً، أو مصلياً في الليل، أو حتى في صلاة النافلة أو الرواتب، فالقنوت من أقرب القربات إلى الله عز وجل، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا في كل مكان من بقاع الأرض، فإن الخطب جلل، ولكن النصر بإذن الله تعالى لعباده الصالحين، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وقال الله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، فهذا وعد الله عز وجل الذي لا يتخلف، وهذه عقيدتنا في الله.(45/29)
الحكم على حديث: (يا علي! لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء)
وأما حديث: (يا علي! لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء: قراءة القرآن، والتصدق بأربعة آلاف درهم، وزيارة الكعبة، وحفظ مكانك في الجنة، وإرضاء الخصوم) فهو حديث موضوع لا أساس له من الصحة.(45/30)
شرح كتاب الإبانة - ذكر أن مشيئة الخلق تبع لمشيئة الله وأنهم لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، فما من طاعة طائع إلا وهي بقدر الله، وما من معصية عاصٍ إلا وهي بإرادة الله، فالله عز وجل مالك الملك، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، شهد بذلك لنفسه سبحانه وتعالى، وشهد به ملائكته المقربون، وأنبياؤه والمرسلون، وعباده المؤمنون.(46/1)
مجمل الكلام في مراتب القدر ونشأة القدرية
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
كنا توقفنا عند الباب الرابع من المجلد الثالث من كتاب الإبانة لـ ابن بطة عليه رحمة الله، وهذا المجلد والذي يليه هو في مسألة القدر، وكيف أن القدرية خالفوا أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمراتب القدر وأحكامه، وفي الحقيقة كنا وصلنا إلى الباب الرابع: وهو في علم ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل.
وتكلمنا من قبل أن الله تعالى هو خالق الخير والشر، وهو الذي خلق إبليس، ولا خالق غيره، ولا يكون في الكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر من خير وشر، فالله عز وجل خلق الخير وأمر به وأحبه وارتضاه لعباده، وخلق الشر فتنة لعباده ونهى العباد عنه، ولكنهم خالفوا ذلك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل وأنزل معهم الكتب، وركب فيك العقل الذي هو مناط التكليف، وبين لك الطريق، ووعدك الجنة على الطاعة، وتوعدك بالنار على المعصية، ففرغت حجتك.
وقلنا: إن مراتب القدر أربعاً، أول مرتبة: مرتبة العلم، أي: أن الله تعالى علم كل شيء كان ويكون وسيكون إلى قيام الساعة، وعلم ما قبل ذلك وما بعد ذلك، وعلم ذلك فكتبه في اللوح المحفوظ، فهو عنده مكتوب في اللوح المحفوظ والرق المنشور، لم يغادر هذا اللوح كبيرة ولا صغيرة.
والمرتبة الثانية: هي مرتبة المشيئة.
فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ما شاء الله كان شرعاً أو كوناً، فإذا كان شرعاً فهذا ما أحبه واصطفاه وأمر به، أما ما وقع في الكون مخالفاً للمشيئة الشرعية فقد أراده الله تعالى بمعنى: أنه أذن في وقوعه في الكون؛ لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد وشاء.
وأثبت الله تعالى لنفسه المشيئة، وأثبت لعبده المشيئة، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين أن للعبد إرادة وله مشيئة، لكنها مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، وتحت إرادة الله عز وجل، فلا يعمل العبد عملاً، ولا يفعل فعلاً، ولا يقول قولاً، ولا يحرك ساكناً إلا بإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى.
المرتبة الثالثة: كانت فيصلاً بين من يفهم القدر ومن لا يفهمه، بين من يوجه الأسئلة التي لا يجوز له ولا يحل له أن يوجهها، وبين إنسان آمن بكل ما أخفاه الله عز وجل عنه، وعلم أن القدر هو سر الله تعالى في خلقه كما قال علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم.
أما المرتبة الرابعة: وهي مرتبة الخلق، أنه ما من شيء إلا وخالقه الله عز وجل، فالله تعالى خلق أفعال العباد: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يدبر الكون، وهو مالك الكون سبحانه وتعالى.
هذا إجمال لما سبق من تفصيل في بيان مراتب القدر الأربعة، والتي ضل كثير من الناس فيها؛ لأنهم لم يقسموا القدر إلى هذه المراتب، بل نظروا إلى القدر بعين العلل، لابد أن يعلموا العلة من هذا، والعلة من ذاك، وبالتالي وقعوا فيما وقعوا فيه من إنكار وجحد، والقدرية من أوائل الفرق التي ظهرت في الإسلام، وأوائل ظهورها كانت في البصرة، والعراق على سبيل الإجمال هو مهد الفتن في الإسلام، ما من فتنة إلا ولها جذور عراقية أو مصرية.
ولذلك أتى يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، وقالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوفقا إلى عبد الله بن عمر أبي عبد الرحمن رضي الله عنهما، فاكتنفاه، وسأله أحدهما: إن أناساً ظهروا قبلنا في البصرة يقولون: لا قدر.
وأن الأمر أنف، أي: أن الله لا يعلم ما سيكون إلا بعد أن يكون، وأن الأمر مستأنف لا يعلمه الله قبل وقوعه حاشى لله.
قال: إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون القرآن، وفي رواية: يتقفرون العلم، أي: يطلبون دقائقه ومسائله العويصة، قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني.
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: وهذا كلام ظاهر ينص على أن عبد الله بن عمر كان يكفرهم، وغير واحد قال: قد عقد الإجماع على أن منكر مرتبة العلم والكتابة كافر مرتد عن ملة الإسلام.
إن الخلاف فيما يتعلق بمرتبة الإرادة والخلق خلاف نكير، ولم يظهر في الأمة من ينكر هذا أو ذاك، حتى رأيت في زمننا هذا بعض الكتاب والصحفيين من ينكر القدر، وينسب الإرادة وا(46/2)
باب في ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته، وأن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الرابع: في ذكر ما أعلمنا الله تعالى أن مشيئة الخلق تبع لمشيئته]، فلا يريد العبد إرادة ولا يشاء مشيئة إلا وهي تابعة لمشيئة الله، فإن كانت في الطاعة فإن الله هو الذي أنشأها، وأمر بها، ورضيها لأصحابها، ووفقه لها، وأثابه عليها، وإذا كانت شراً فإن الله تعالى أرادها كوناً وقدراً، يعني: أرادها أن تقع في الكون بقدرته سبحانه وتعالى، وأذن للعبد أن يفعلها وأن يتلبس بها؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد؛ إما إرادة شرعية أو كونية، وفي محصلة ذلك أن العبد لا يعمل عملاً إلا بإذن الله، فإما أن يأذن الله برضا، وإما أن يأذن بسخط، فإن كانت طاعة يأذن فيها برضا، وإن كانت معصية فهو يأذن في وقوعها من العبد في الحياة الدنيا وهو ساخط عليه، متوعد له بالعذاب في الدنيا والآخرة.
قال: [أن الخلق لا يشاءون إلا ما شاء الله عز وجل].
لابد أن نراجع الباب من أوله حتى نثبت أن الخير والشر بيد الله عز وجل، وأن السعادة والشقاء بيد الله عز وجل، وأن الطاعة والمعصية بيد الله عز وجل، وأن الجنة والنار بيد الله عز وجل: (خلق الله الجنة وخلق لها أهلاً وقسماً، وقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، وخلق النار، وجعل لها من عباده قبل أن يخلقهم قسماً) وعلم الله عز وجل ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فخلق لهم النار، وقال: (يا أهل النار! خلود بلا موت)، وهكذا قضى عليهم بالخلود فيها.(46/3)
تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة)
قال: [قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ} [البقرة:213]]، اختلف أهل العلم في هذه الآية، فبعضهم قال: كان الناس أمة واحدة على الإيمان، وأخذوا ذلك من الميثاق الأول، أخذه الله عز وجل على بني آدم من ظهر أبيهم آدم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة -أي: فطرة الإسلام- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وفي رواية عند مسلم: (أو يشركانه) يجعلانه مشركاً، فأصل الخلق على الإيمان والتوحيد، ولكن الله عز وجل إذا كان قد خلق الخلق على الإيمان والتوحيد، ولم تظهر فيهم شائبة شرك فلم أرسل النبيين مبشرين ومنذرين؟ لكن الناس خلقوا على أصل الفطرة وهو الإيمان والتوحيد، ثم ادخلهم الشرك بعد ذلك، فأرسل الله تبارك وتعالى إليهم النبيين مبشرين ومنذرين.
حتى قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، إذاً: الهداية لا تقع للعبد إلا بمشيئة الله وإرادته.(46/4)
وجوب تعلق العبد بالله الذي بيده الهداية والضلال
قال: [وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]]، إذاً: القتال رغم أنه منهي عنه، وقد جاء فيه الوعيد الشديد إلا أنه ما وقع إلا بإرادة الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253] ولكن القتال وقع؛ ولذلك قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] أي: أن القتال وقع بإرادة الله، بمعنى: أن الله أذن في وجوده، وأذن في خلق القتال بين البشر مع أنه قد نهى عنه.
قال: [وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]].
إذاً: الضلال يقع بمشيئة الله، والهداية تقع بمشيئة الله، إذاً: الذي يملك الهداية ويملك الضلال هو الله عز وجل، فهو الذي يهدي وهو الذي يضل، لكن لا تقل: إذا كان الأمر كذلك ففيم العمل إذاً؟ هل أنت متأكد أنك من أهل الضلال عند الله؟ أو هل أنت متأكد أنك من أهل الهداية؟ إذا كنت تعلم أن الأعمال بالخواتيم، وأنت لا تدري بما يختم لك؛ بالسعادة أو الشقاء، بالجنة أو النار، بعمل صالح أو طالح، أنت لا تعلم عن نفسك شيئاً، فإذا كان الأمر كذلك فلا أقل من أن تكون كالمعصوم صلى الله عليه وسلم الذي علم ذلك بفطرته وبوحي السماء، ومع هذا عصمه الله عز وجل من الضلال، وكل هذه المؤهلات وغيرها ما جعلته ينثني عن أن يذل ويخضع لربه، وكان دائماً يقول: (اللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك) مع أنه معصوم من الضلال عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان يقول ذلك إكثاراً لحسناته، وإثقالاً لميزانه، وتعليماً لأمته، أن يعلموا أنهم بين يدي الله عز وجل.
تعجبت من قوله إحدى نسائه وقالت: (أتقول هذا وأنت رسول الله؟! قال: أما علمت أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) يجعل من يشاء كافراً ويجعل من يشاء مؤمناً، يجعل من يشاء سعيداً، ويجعل ومن يشاء شقياً، يجعل من يشاء في النار، ويجعل من يشاء في الجنة، فإذا كانت هذه بيد الله عز وجل وأن المرء لا يدري بما يختم له، فينبغي أن يتعلق المرء بالله عز وجل، وأن يعلق قلبه بالله تعالى؛ لأنه هو الذي يوفقه للطاعة، وهو الذي يضله عن سواء الصراط، ويهديه إلى سواء الجحيم؛ فلما كان ذلك كله بيد الله فينبغي للعبد أن يتعلق بربه الذي يملك الهداية والضلال.(46/5)
الشرك والإيمان لا يقعان إلا بإرادة الله عز وجل
قال: [وقال الله عز وجل: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:106 - 107]، إذاً: الشرك يقع بإرادة الله أم لا، وبمشيئة الله أم لا؟ لكن الشرك وقع في العباد بمشيئة الله الكونية، بمعنى: أن الله أراد أن يقع الشرك في الكون، وأذن في وقوعه وخلقه، ولكنه لا يرضاه، بل نهى عنه ولم يأذن فيه شرعاً، ولذلك ما أرسل الله تبارك وتعالى من نبي ولا رسول إلا أمره أن يأمر أمته {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107].
قال: [وقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]]، إذاً: فإيمان العبد لا يقع بشطارة العبد، وإنما يقع بمشيئة الله.
قال: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111].(46/6)
اعتقاد أن الله هو الذي خلق العباد على الطاعة والمعصية وأن هدايتهم بيده وحده
قال: [وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، اللام في قوله: (وَلِذَلِكَ) بمعنى: على، أي: وعلى ذلك خلقهم، خلقهم على الطاعة والمعصية، على السعادة والشقوة، على الجنة والنار، وهذا تفسير غير واحد من السلف، كتفسير الحسن البصري ومن قبله ابن عباس ومجاهد وغيرهم.
قال: [قال منصور بن عبد الرحمن: قلت للحسن قوله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]، قال: من رحم ربك غير مختلف -أي: لا يقع فيهم الخلاف- قلت: ولذلك خلقهم؟ قال: نعم.
خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وخلق هؤلاء لرحمته وهؤلاء لعذابه ونقمته]، وهكذا جاء عن خالد الحذاء وغير واحد من سلف الأمة في تفسير هذه الآية.
قال: [وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
وقال عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23].
وقال عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى:8] أي: بإرادته.
وقال عز وجل: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:56]]، أي: أهل لأن يتقى؛ لأنه شديد العذاب، وهو أهل أن يرحم وأن يغفر {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56].
وقال عز وجل حين دعا إلى الجنة وشوق إليها، وحذر من النار وخوف منها: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان:29]، (فَمَنْ شَاءَ): أي أثبت المشيئة للعبد، ثم رد مشيئتهم إلى نفسه.
أي: أنهم لا يشاءون شيئاً إلا إذا شاءه الله وأراده وقدره وأذن بوقوعه، فقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:30 - 31].
قال: [وقال عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]-فأثبت للعبد المشيئة- قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]]، يعني: لو أن العبد أراد أن يكفر لا يقع الكفر منه إلا بإرادة الله، ولو أن العبد أراد الإيمان لا يقع منه الإيمان إلا بإرادة الله ومشيئته جل وعلا.
قال: [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]، قال: يبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً].(46/7)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (كما بدأكم تعودون) وإثباته أن الله خلق الشر
قال: [وعن ابن عباس في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29 - 30]، قال: ولذلك خلقهم حين خلقهم، فجعلهم مؤمناً وكافراً، وسعيداً وشقياً، وكذلك يعودون يوم القيامة مهتدياً وضالاً، وعن أبي العالية كذلك في نفس الآية.
وعن طاوس: أن رجلاً قال لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون: إن الشر ليس بقدر -يعني: الله لم يخلق الشر، وليس هو من قدر الله عز وجل- فقال ابن عباس: فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]]، يعني: هذه حجة المشركين، يقولون: لماذا يعذبنا الله على شركنا والشرك يقع بمشيئة الله؟ قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، أي: لَوْ شَاءَ اللَّهُ ألا يجعلنا مشركين، وأن يجعلنا مؤمنين لفعل، إذاًَ: نحن مشركون بمشيئة الله عز وجل، والله هو الذي شاء لنا ذلك، فلم يعذبنا؟ إن الفرق بين المشركين في ذلك الوقت، وبين القدرية الذين يتظاهرون بالإسلام: أن المشركين يعلمون أن الشرك واقع بمشيئة الله، يعني: المشركون يفهمون ويعتقدون أن الشرك مخلوق لله عز وجل، لكنهم يقولون: لماذا يعذبنا؟ وذلك لأنه قد غاب عنهم أن المشيئة مشيئتان أو أن الإرادة إرادتان: شرعية دينية، وكونية قدرية، أما الشرعية الدينية فمبناها على المحبة والرضا، وأما الكونية القدرية فلا يلزم أن تبنى على المحبة والرضا، بل المعاصي والذنوب من مشيئته وإرادته الكونية القدرية.
ولذلك قال المشركون: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]، إلى قوله: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] فشرككم أيها المشركون! وكفركم أيها الكافرون! مكتوب في اللوح المحفوظ والرق المنشور، قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، علم أنكم ستختارون الشرك والكفر؛ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل المحو والإثبات: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، أي اللوح المحفوظ الذي لا يقبل بعد ذلك محواً ولا إثباتاً.(46/8)
تفسير أبي حازم لقوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)
قال: [وقال أبو حازم في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس:8] أي: النفس {فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] قال: الفاجرة ألهمها فجورها، والتقية ألهمها التقوى]، النفس الفاجرة التي علم الله عز وجل أزلاً أنها تختار الفجور خلق لها الفجور، فلما علم الله تعالى من نفس عبده فلان ذلك كتبه فاجراً، وكتب أن نفسه فاجرة فألهمها فجورها.
وعبد اختار طريق الطاعة، واتباع الأنبياء والمرسلين، والعمل بوحي السماء، وتقرب إلى الله تعالى بما شرع من غير بدعة ولا معصية، فلما تأهلت نفس العبد لذلك، علم الله عز وجل ذاك أزلاً قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فكتب عبده فلاناً من النفوس الطيبة فألهمه تقواه.(46/9)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه)
قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، قال: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته]، الله تعالى هو الذي يحول بين القلوب وبين العمل، إذا أراد الله إرادة كونية ألا يؤمن العبد حال بينه وبين الإيمان، وإذا أراد الله إرادة شرعية أن يؤمن هذا العبد قربه إلى الإيمان وقرب الإيمان إليه: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، فإذا كنت أنا على يقين بأن قلبي بيد الله عز وجل، وأن الله يحول بيني وبين ما أشتهي، فينبغي أن يخضع المرء لله عز وجل، وأن يذل، وأن يتودد، وأن يتزلف إلى مولاه وسيده؛ حتى يوفقه للطاعة ويجنبه المعصية.
كما قال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: حيل بينهم وبين الإيمان.(46/10)
تفسير الحسن لبعض الآيات في القدر
قال: [وعن حميد قال: قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة، ففسره لي أجمع على الإسناد، فسألته عن قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200]، قال: الشرك سلكه في قلوبهم]، والضمير يعود على الشرك، (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ): أي: المشركين الكافرين.
قال: [وسألته عن قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، قال: أعمال سيعملونها، وسألته عن قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]، قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من هو صال الجحيم].(46/11)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)
قال: [وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]-والهداية هنا إرادة شرعية- وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]-إرادة كونية قدرية.
قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]- قال: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان بالله].
تصور أنك وقفت تدعو الكفار الأصليين إلى الإيمان بالله عز وجل، وهم جالسون ينظرون إليك ويسمعون لك، وينصتون إليك غاية الإنصات، ثم لا تخرج من هؤلاء إلا بواحد فقط، هذا الواحد هو الذي قال الله تعالى فيه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، فهذا الذين انشرح صدره وانفتح للتوحيد والإيمان، أما الباقون فجعل الله تعالى صدورهم ضيقة حرجة كأنما يصعدون في السماء.
قال: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125] يقول: شاكاً كأنما يصعد في السماء؛ لأنه يشك في مصداقية هذا الكلام وفي صحته.
يقول: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يقدر أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله عز وجل.
وإذاً: الذي يدخل الإيمان في القلوب هو الله، والذي يخرج الإيمان من القلوب هو الله عز وجل، فإذا كنت أنا أعلم أن ذلك كله بيد الله عز وجل فينبغي أن أتزلف إلى سيدي ومولاي.(46/12)
احتجاج مالك بن أنس على القدرية بقوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)
قال: [قال مالك بن أنس: ما أضل من كذب بالقدر لو لم تكن عليهم فيه حجة إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ} [التغابن:2]].
يعني يوم أن خلقكم جعلكم مؤمناً وكافراً، يعني: أنت مسجل عند الله عز وجل أزلاً من أهل الإيمان أو من أهل الكفر، لكن لا تركن على هذا؛ لأنك لا تعلم العاقبة ولا تعلم بما يكتب لك فاحرص أن تكون من أهل الطاعة، ولذلك (سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ -ففيم العمل إذا كنا نعمل لأمر قد كان، وقد فرغ منه، وجف به القلم، وطويت به الصحف- قال: اعملوا.
فكل ميسر لما خلق له) فأما أهل الطاعة فييسرون إلى الطاعة، وأهل الشقاوة ييسرون إلى الشقاوة، ولما غابت الشقوة والسعادة عني فينبغي أن أعمل لسعادتي؛ لأن كل عاقل وكل ذكي يعمل لسعادته في دينه ودنياه، فكل عاقل يجب عليه أن يفعل ذلك، فإذا كنت لا أعلم بما يختم لي فلابد أن أحرص على أن يختم لي بخاتمة الإيمان والسعادة؛ ولذلك قال بعض أهل العلم في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، قالوا: هل يملك العبد أن يموت مسلماً؟ (وَلا تَمُوتُنَّ) أمر، قالوا: الجواب عن ذلك: إن العبد يكتب له بما كان عليه في حياته، فإذا كان عاملاً بعمل الطاعة والإسلام، مقتدياً بما فيه، فإن الله تعالى يوفقه إلى أن يموت على الإسلام والإيمان والتوحيد.(46/13)
مخالفة القدرية لما أثبته الملائكة والنبيون وأهل الجنة وأهل النار وإبليس من المشيئة لله
قال: [وقال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله تعالى، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار ولا كما قال أخوهم إبليس]، ثم بين مخالفة معتقد القدرية بالدليل.
قال: [قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]]، فهذا إثبات من الله أن مشيئة العباد تابعة ومندرجة تحت مشيئة الله عز وجل.
قال: [وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]].
فنفوا أنهم قد حصلوا العلم إلا من طريق الله عز وجل، وفي هذا إثبات أنه لا يقع في الكون إلا ما أراده الله تعالى.
قال: [وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89]].
يعني: لا يمكن أن نخرج من الإيمان إلى غيره أو إلى ما كنا عليه قبل البعثة والرسالة إلا إذا شاء الله تعالى ذلك؛ فأثبت أن الهداية والثبات على الإيمان بيد الله، وأن الانحراف عن الهدى بيد الله عز وجل.
قال: [وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]].
فالهداية بيد الله عز وجل بإقرار وشهادة أهل الجنة.
قال: [وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106].
وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]]، إذاً: إبليس نفسه يعرف أن الغواية والضلال بيد الله، ولم يقل: ربي بما أغويت نفسي، وإنما قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39].(46/14)
إنكار القدرية للقدر على الرغم من علمهم بالأدلة المتكاثرة الدالة عليه
قال: [فالقدرية المخذولة يسمعون هذا وأضعافه -يعني: يسمعون هذه النصوص وأضعافها الكثير في الكتاب والسنة- ويتلونه -بل ويتلى عليهم- فتأبى قلوبهم قبوله، ويردونه كله ويجحدونه بغياً وعلواً وأنفة، وتكبراً على الله عز وجل وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى سنته؛ وللشقوة المكتوبة عليهم، فهم لا يسمعون إلا ما وافق أهواءهم، ولا يصدقون من كتاب الله ولا من سنة نبيه إلا ما استحسنته آراؤهم، فهم كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]، هم كما قال عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
وهذا القدري الخبيث الذي قد سلط الله عليه الشياطين {يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202]، تزجره بكتاب الله تعالى فلا ينزجر -وهذا دائماً شأن أهل البدع- وبسنة رسول الله فلا يذكر، وبأقوال الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فلا ينحسر -أي: فلا يكل ولا ينقطع- وتضرب له الأمثال فلا يعتبر، مصر على مذهبه الخبيث النجس الذي خالف فيه رب العالمين، والملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وجميع فقهاء المسلمين، وضارع فيه اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، فلم يجد أنيساً في طريقته ولا مصاحباً على مذهبه غير هؤلاء -أي: اليهود والنصارى والصابئين- أعاذنا الله وإياكم من مذاهب القدرية والأهواء الردية، والبدع المهلكة المردية، وجعلنا وإياكم للحق مصدقين، وعن الباطل حائدين، وثبتنا وإياكم على الدين الذي رضيه لنفسه، واختص به من أحبه من عباده، الذين علموا أن قلوبهم بيده، وهممهم وحركاتهم في قبضته، فلا يهمون ولا يتنفسون إلا بمشيئته، فهم فقراء إليه في سلامة ما خولهم من نعمه، يدعونه تضرعاً وخفية كما أمرهم به من مسألته.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]].(46/15)
إثبات النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه أن الله يقلب القلوب فيثبتها أو يزيغها
قال: [عن أم سلمة: أن النبي كان يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك ثم قرأ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8]) إلى آخر الآية.
وعن عائشة قالت: (كانت دعوة من رسول صلى الله عليه وسلم: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله! هل تخاف؟ -هل تخاف على نفسك وعلى قلبك- قال: وما يؤمنني -يعني: ما الذي يجعلني أطمئن- وليس من أحد إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه)].(46/16)
إرادة الله عز وجل تخضع لها كل أعمال العباد
قال: [وقال محمد بن كعب: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد].
يعني: الخلق أحقر وأدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل بشيء هو لا يريده أن يقع، لو أراد الزاني أن يزني، وأراد الله تعالى ألا يقع منه الزنا فأي الإرادتين تنفذ؟ إرادة الله عز وجل.
قال: [وعن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: كلام القدرية وكلام الحرورية ضلالة -والحرورية: نسبة إلى قرية حروراء بالكوفة في العراق وهي أشد فرق الخوارج- وكلام الشيعة هلكة.
وقال ابن عباس: ولا أعرف الحق ولا أعلمه إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله].
ولا شك أن مسألة القدر مما غاب عن العقول والقلوب وغاب عن الخلق، فينبغي أن نسلم فيه الأمر إلى الله عز وجل، ومن الأخطار الفادحة أن تحتج على معصيتك بالقدر، يعني: تفعل ما تشاء من المعاصي، ثم تقول: أليست المعصية تقع بمشيئة الله وإرادته؟ قال: [وقال ابن عباس: ولا أعرف الحق ولا أعلمه إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم إلى الله عز وجل، ولم يقطعوا بالذنوب العصمة من الله، وفوضوا أمرهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقدر الله]، يعني: علموا أن الطاعة والمعصية والخير والشر بقدر الله عز وجل.(46/17)
إقامة دعوة الأنبياء على البلاغ والإرشاد
قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن هذه طريقة الأنبياء عليهم السلام].
طريقة الأنبياء أن الأمر إذا كان معلولاً -أي: له علة ظاهرة قالوا بها- وإذا خفيت عنهم العلة آمنوا بما جاءهم من عند ربهم ولم يخوضوا في إثبات علته.
كثير جداً مما جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم بين لنا علله، وكثير جداً منه كذلك لم يبين لنا علته، ولكنا نعلم أنه ما من شرع إلا وقد شرعه الله تعالى لحكمة وعلة عظيمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها؛ لأن الله تعالى هو الحكيم، ولا يمكن أن يشرع لعباده شرعاً إلا لحكمة، وأفعاله كلها مبنية على الحكمة سبحانه وتعالى، لكن أحياناً يخفي هذه الحكمة، وأحياناً يظهرها، فإذا أخفاها آمنا بها ولا يجوز لنا أن نخوض فيها؛ لأنه أراد إخفاءها، وإذا أظهرها لنا فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن هذه طريقة الأنبياء عليهم السلام، وبذلك تعبدهم الله، وأخبر به عنهم في كتابه، أن المشيئة لله عز وجل وحده، ليس أحد يشاء لنفسه شيئاً من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية، إلا أن يشاءها الله، وبالتبري إليه من مشيئتهم، ومن حولهم وقوتهم ومن استطاعتهم، وأن ذلك لا يكون منهم إلا بعد مشيئة الله وإرادته.
قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام حين قال له قومه: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32]، فقال نوح عليه السلام مجيباً لهم: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود:33]].
يعني: إذا شاء الله تعالى أن يرد عليكم أنزل الوحي، وإلا فأنا لا أستطيع أن آتيكم بشيء بغير مشيئة الله.
قال: [{وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:34]]، يعني: رغم دعوتي لكم بالليل والنهار على مدار عقود من الزمن إلا أن هذا الكلام وهذا النصح لا ينفعكم إذا كان الله تعالى قد قدر لكم الضلال في اللوح المحفوظ.
قال: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} [هود:34] هو الذي علم ما أنتم إليه صائرون، وما أنتم به في حياتكم فاعلون، فإذا أردت أن أنصح لكم، وأراد الله تعالى إضلالكم فلا ينفعكم نصحي حينئذ، ولكنه يقيم عليهم الحجة، ولا يحل له أن يمكث بغير دعوة قومه.
قال: [فلو كان الأمر كما تزعم القدرية كانت الحجة قد ظهرت على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولكن الحجة قائمة بقول الله تعالى حاكياً عن نوح على قومه، ولم تقم من قومه على نوح].
قال: [ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه، وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده؛ فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:89] ثم قال شعيب في موضع آخر: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]]، يعني: أنا إذا أردت التوفيق فلا يكون ذلك مني إلا بإرادة الله عز وجل.
قوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] أي: ليس من عند نفسي، بل توفيقي وتسديدي هو من عند الله عز وجل، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
قال: [وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80]، من الذي هداه؟ الله عز وجل، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80]، وقال أيضاً فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه، وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]]، يعني: إبراهيم عليه السلام إمام الملة السمحاء يخاف على نفسه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وهذا الكلام معناه: أنه يعلم أن ذلك بيد الله عز وجل، لو أراد أن يزيغهم أزاغهم، ولو أراد أن يضلهم أضلهم، فطلب منه الهداية والبقاء على العبادة(46/18)
تفسير بعض السلف لآيات في القدر
قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] وما أورثوا من الضلالة، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] قال: في أم الكتاب].
وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: هذه الآية تقضي على القرآن كله، ومعنى تقضي على القرآن كله أي: تحكم على ما ورد في القرآن في باب القدر، فهي قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107].
قال: [وقال عبد العزيز بن رفيع عمن سمع عبيد بن عمير: قال آدم عليه السلام: يا رب! أفرأيت ما أتيت؟ أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي، أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: لا.
بل شيء قدرته عليك من قبل أن أخلقك، قال: أي رب! فكما قدرته علي فاغفر لي.
فذلك قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37]]، سبحانه وتعالى.
لكن لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية كما قلنا من قبل، فتراه يفعل ما يشاء من المعاصي، وينتهك الحرامات ثم يقول: أليس كل شيء بإرادة الله ومشيئته؟ فأنا سأزني وأسرق وأقتل وأشرب الخمر وأفعل ما يقدره الله عز وجل علي، وليس في ذلك عتب ولا ملامة؛ لأن كل شيء يقع بقدر الله وإرادته.
نقول: نعم.
نحن نؤمن ببعض هذا الكلام ونكفر ببعض، نؤمن بأن الطاعة والمعصية بقدرة الله تعالى ومشيئته، وأنه لا يكون في الكون إلا ما قدره الله تعالى وشاءه، ولكننا نكفر بالقول الثاني وهو: جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية؛ لأن آدم عليه السلام ما احتج بالقدر على معصية إلا بعد أن تاب منها.
شخص في هذا الوقت وقع في ذنب، ثم تاب من هذا الذنب بقيام الحد عليه مثلاً، أو بتوبة صادقة بينه وبين الله، أو برد المظالم إلى أهلها، ودائماً ضميره يؤنبه، ومعنوياته الإيمانية دائماً تلومه، حتى ظن أن الله لن يغفر له ذلك الذنب، والله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، فتاب هذا الشخص من هذا الذنب، ورد المظالم إلى أهلها، وعزم على ألا يرجع إلى هذا الذنب أبداً عزماً أكيداً صادقاً بينه وبين الله، وفعلاً له عشرون سنة لم يرجع إلى هذا الذنب، وهذا دليل على صدق التوبة، ودليل على أن الله تعالى قد غفر له ذنبه، ووعد الله لن يخلف؛ فحينئذ أقول لك: لا تستيئس بما وقع منك آنفاً، فإنه ما وقع إلا بقدر الله عز وجل وإرادته ومشيئته، وكان لابد أن تراه وأن ترتكبه وأن تتلبس به، وشيء عظيم جداً أن يمن الله عز وجل عليك بالتوبة من هذا الذنب وبغيره من الذنوب، حينئذ الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة أمر جائز، وهذا ما فعله آدم عليه السلام، أما أنني أراك على معصية وذنب، وأقول لك: اعمل ما تريد، فكل شيء بقدر الله، وإذا لم يكن هذا مكتوباً لما فعلته؛ فهذا ضلال مبين جداً.
فلا نحتج بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة الصادقة أو قيام الحد.
قال: [وعن مجاهد: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم إبليس المعصية وخلقه لها]، يعني: علمه كيف يعصي وخلقه لها.
قال: [فاعلموا -رحمكم الله- أن من كان على ملة إبراهيم وشريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن كان دينه دين الإسلام، ومحمد نبيه، والقرآن إمامه وحجته، وسنة المصطفى نوره وبصيرته، والصحابة والتابعون أئمته وقادته، وهذا مذهبه وطريقته، وقد ذكرنا الحجة من كتاب الله عز وجل؛ ففيه شفاء ورحمة للمؤمنين وغيظ للجاحدين].(46/19)
وجوب اتباع كتاب الله وسنة نبيه والوقوف عند أمرهما ونهيهما
ثم يقول: [ونحن الآن وبالله التوفيق نذكر الحجة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعين الله تعالى على ذكره].
يعني: سيذكر من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ما يبين أن الهداية والضلال بيد الله وأن الشقاوة والسعادة بيد الله، وأن الجنة والنار مخلوقتان لله، وأن الخير والشر من عند الله، وأن الله تعالى هو الذي يوفق عباده لطاعته، ويهديهم ويمن عليهم بالإيمان، وأن الله تعالى هو الذي هدى قوماً من عباده إلى الضلالة، ويسر لهم سبل الضلال، ثم هو في الآخرة يجزيهم جهنم وساءت مصيراً، غير ظالم لهم.
قال: [فإن الحجة إذا كانت في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فلم يبق لمخالف عليهما حجة إلا بالبهت والإصرار على الجحود والإلحاد]، يعني: العلم قال الله قال رسوله.
هذا الدين، ليس قول من يلعب بعقلك ورأسك بقال فلان وقال علان من أهل الوجاهة ومن أهل العلم، فإن من دون النبي عليه الصلاة والسلام ليس معصوماً، فهو يقبل الخطأ والصواب، وما دام الشأن في عباد الله الخطأ والصواب، وأنهم غير معصومين، فلا نستبعد عن أحد الخطأ مهما بلغ قدره من العلم، لكن كيف نخطئ أحمد بن حنبل أو ابن تيمية أو الشافعي أو هؤلاء العظماء من فحول العلم وأئمة المسلمين إذا خالفوا كتاباً أو سنة باجتهاد غير سائغ؟ للاجتهاد السائغ وغير السائغ أصول وآداب وأحكام.
وأنتم تعلمون أن مالكاً وهو أحد الفحول يقول: كل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر.
وأشار إلى قبره عليه الصلاة والسلام، وكأنه ينقد على نفسه وعلى من سبقه من أهل العلم كـ أبي حنيفة وأئمة التابعين وأتباع التابعين، يقول عنهم جميعاً: إنهم يقبلون الخطأ والصواب، لكن التخطئة والتصويب لا يكونان إلا لشخص له في العلم باع طويل وعلم مداخل أهل العلم.
أما علمتم أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتاه جبريل عليه السلام يسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان والشرع، وفي كل مرة يقول له: صدقت صدقت، قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ وذلك لأنه ليس من شأن الجاهل أن يصدق ما علمه، فجبريل عليه السلام لما كان عنده من العلم ما عنده قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (صدقت)؛ وذلك لأنه وافق ما عنده من علم -أي: من وحي السماء- فصدقه على ما قال؛ ولذلك أئمة العلم قديماً ما كانوا يتصدرون للتدريس والفتوى إلا بعد أن يجيزهم العلماء وليس الطلبة، لكن مشائخ هذا الزمان الذين يرفعونهم ويصدرونهم هم الطلبة، لكن هذا انتكاس في طريق الصحوة؛ لأن الأصل ألا يتصدر أحدهم إلا أن يجيزه العلماء والمشائخ الكبار، والواحد في هذا الزمان يجيز نفسه ويتصدر، ولا يجد مساراً يتصدر به إلا الشتائم والسباب والتهكم على أهل العلم، وعلى المجاهدين في شرق الأرض وغربها، ويتخذ ذلك ذريعة للظهور، وحب الظهور يقصم الظهور كما يقولون.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تطلبوا العلم لتماروا به السفهاء، ولا لتجادلوا به العلماء، فمن طلبه ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء فالنار النار)، تهديد ووعيد، فلابد من الإخلاص لله عز وجل في القول والعمل، ولابد أن يندم المرء أشد الندم ويتحسر أشد الحسرة.
ولذلك قال أبو علي الأبار فيما أورده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته: رأيت رجلاً تجاوز البحار حتى دخل في بلاد الأهواز، فقد حف شاربه وأطلق لحيته واشترى كتباً، وتعين للفتوى، يعني: عين نفسه إماماً ومفتياً، فلما جلس قيل له: ماذا تقول في أصحاب الحديث؟ قال: ليسوا بشيء ولا يساوون شيئاً؛ فقام إليه رجل من أصحاب الحديث قال: يا فلان! إن مثلك كمثل رجل أوجب الله تعالى عليه أن يصلي الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والفجر ركعتين، ليس لك إلا ذلك، قال: أنا؟ قال: نعم.
أنت، ماذا تحفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحرمت بالصلاة قبل قراءة الفاتحة؟ فسكت.
قال: ماذا تحفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغت من التسبيح في الركوع؟ فسكت.
قال: ماذا تحفظ إذا قلت: سمع الله لمن حمده؟ فسكت، قال: ماذا تحفظ إذا سجدت وفرغت من التسبيح؟ فسكت.
قال: ماذا تحفظ إذا جلست بين السجدتين؟ فسكت.
قال: ماذا تحفظ إذا فرغت من التشهد وقبل أن تسلم؟ فسكت.
قال: أما قلت لك: إن مثلك كمثل رجل أوجب الله تعالى عليه أن يتعلم كيف يصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم تركه وانصرف.
فهكذا إنسان لا يجد طريقة للشهرة والسيادة والإشارة بالبنان إلا بالنيل من أعراض العلماء، وبالحط من أعمال المجاهدين، وهذا بلا شك مسلك في غاية الخطورة، وهو يجعل طلاب العلم وشباب الصحوة في بلبلة عظيمة جداً؛ ولذلك إذا أردت أن تريح نفسك وأن تريح غيرك فاعلم أن لطلب العلم أصولاً لا يمكنك الحياد عنها، وأن من حاد عنها فقد تنكب الطريق، هذه الأصول هي مصدر التلقي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن الصحاب(46/20)
شرح كتاب الإبانة - احتجاج آدم وموسى وقول النبي صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى
في الحديث النبوي الذي حكى محاجة آدم وموسى عليهما السلام إثبات للقدر، وأن العبد لا يقع منه عمل من خير أو شر إلا بقدر الله الكوني الذي لا يتخلف، ولا يلحقه التغيير أو المحو، وأن العبد ليس له أن يحتج بالقدر على المعائب، وإنما يحتج به على المصائب، أو على الذنوب بعد التوبة منها.(47/1)
حديث احتجاج آدم وموسى وقول النبي الكريم: فحج آدم موسى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً في ذكر حديث احتجاج آدم وموسى، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم صلوات الله وسلامه عليه، بأنه غلب موسى بالحجة، والحديث نذكر به سريعاً، ثم نسرد مذاهب أهل العلم مع الترجيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم! أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة.
قال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى).
وفي رواية: (تحاج آدم وموسى، فحج آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء - أي: علم كل شيء في التوراة- واصطفاه على الناس برسالته؟ قال: نعم.
قال: أفتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق).
وفي رواية (احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً.
قال آدم: هل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: نعم.
قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).(47/2)
موقف المعتزلة من حديث: (احتجاج آدم وموسى)
قد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة، وهم أول ناس ردوا هذا الحديث؛ لأنهم دائماً يقدمون العقل على النقل، إذ إن هذا أصل من أصولهم، ولا شك أن النقل الصحيح دائماً يوافق العقل الصريح، وهذه قاعدة وأصل عند أهل السنة والجماعة.
بينما هؤلاء المعتزلة يقولون: النقل يوافق العقل، لكن القضية ومحل النزاع بين أهل السنة والمعتزلة عند التعارض، أي: إذا تعارض العقل مع النقل فأيهما نقدم؟ أهل السنة يقدمون النقل، أما المعتزلة فيقدمون العقل، ويحكمون على النقل بالبطلان والرد، ولذلك لما قصرت عقولهم عن فهم هذا الحديث ردوه.
قال: [وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كـ أبي علي الجبائي] وأبو علي الجبائي شيخ الاعتزال، وهو زوج أم أبي الحسن الأشعري، وكان يعتمد في الاعتزال على أبي الحسن الأشعري أيما اعتماد، فلما ترك أبو الحسن الأشعري مذهبه في الاعتزال وتبنى مذهباً جديداً وهو مذهب الأشاعرة، أفلس المعتزلة في ذاك الزمان.
قال: [ومن وافقه على ذلك، وقال: لو كان هذا الحديث صحيحاً لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي]، وفي ظنهم أن آدم عليه السلام احتج بالقدر على المعصية، وأن هذا الأمر المقدر مكتوب قبل خلق السماوات والأرض، ولا بد للإنسان أن يعمله، فحينئذ ما قيمة النبوة والرسالة والكتب إذا كان المقدر قبل ذلك سيكون لا محالة؟! وهذا بلا شك يساوي عندهم إهدار النبوات.
قال: [فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذ صحت له الحجة بالقدر -يعني: إذا صح له أن يحتج بالقدر- السابق ارتفع اللوم عنه].
ثم قال: [وهذا من ضلال فريق الاعتزال، وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبينا صلى الله عليه وسلم قرناً بعد قرن، وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم، وشهدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة، ومن عرف بعداوتها، وعداوة حملتها، والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة وحشوية وهذا الشأن؟!] أي: ما بال أصحاب الاعتزال وهذا الحديث ليس من صنعتهم، وإنما هو من صنعة المحدثين، وهو ثابت باتفاق البخاري ومسلم على إخراجه، وبتلقي الأمة لهذا الحديث بالقبول، وبتوفر شروط الصحة في هذا الحديث، فما بالهم يردونه لمجرد أنه يخالف عقولهم؟! قال: [ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام].
وهذا كلام جميل جداً، إذ إنه ما من مبطل في زمن من الأزمنة، أو في قرن من القرون إلا وعمدته رد الأحاديث؛ لأنها لا تتفق مع عقله.
قال: [ولم يزل أهل الكلام الباطل المذموم موكلين برد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدهم الباطلة، وعقائدهم الفاسدة، كما ردوا أحاديث الرؤية -رؤية الله عز وجل- وأحاديث علو الله عز وجل على خلقه، وأحاديث صفاته القائمة به سبحانه، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث نزوله إلى سمائه، ونزوله إلى الأرض للحكم بين عباده، وأحاديث تكلمه بالوحي كلاماً يسمعه من شاء من خلقه حقيقة، إلى أمثال ذلك] من الأحاديث التي جحدها هؤلاء المبتدعة الضالون، وكلهم ينضوي وينطوي تحت فرقة المعتزلة.
قال: [وكما ردت الخوارج والمعتزلة أحاديث خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها]، إذ قالوا: كل صاحب كبيرة مخلد في النار.
قال: [وكما ردت الرافضة -الشيعة- أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكما ردت المعطلة أحاديث الصفات، والأفعال الاختيارية لله عز وجل، وكما ردت القدرية المجوسية أحاديث القضاء والقدر السابق.
وكل من أصل أصلاً لم يؤصله الله ورسوله قاده قسراً إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها، فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلاً غير ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها يرجعون]، إذاً كل أصل ليس له دليل في الكتاب أو السنة فهو أصل باطل.(47/3)
مذهب الناس في مفهوم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فحج آدم وموسى)
وبعد هذه المقدمة فقد اختلف الناس في فهم هذا الحديث إلى مذاهب شتى؛ وأهل العلم لهم نظر آخر ثاقب لهذا الدليل، واستنباط الأحكام والفوائد منه، ولهم في ذلك مذاهب: المذهب الأول: أنهم قالوا: إنما حجه لأن آدم أبوه، يعني: يريدون أن يقولوا: عيب على موسى وهو ابن آدم أن يحاجج أباه، وهذا لا يتناسب مع منزلة النبوة، فحجه كما يحج الرجل ابنه، وهذا الكلام لا محصل فيه ألبتة، وليس له قيمة في التحقيق العلمي فهل مرتبة الأبوة تجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً؟! لا؛ لأن حجة الله يجب المصير إليها مع الأب كانت أو الابن، أو العبد، أو السيد، أو المرأة، أو الرجل، ولو حج الرجل أباه بحق وجب المصير إلى الحجة، وعليه فهذا الرأي باطل من جهة التخصيص العلمي؛ لأنه يجب المصير إلى الحجة والدليل، سواء كانت مع الأب، أو مع الابن.
المذهب الثاني: قالوا: إنما غلب آدم موسى لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في شريعة أخرى، فالذنب وقع من آدم في شريعة آدم، واللوم وقع من موسى في شريعة موسى، فقالوا: آدم غلب موسى لأن الذنب وقع في شريعة آدم، واللوم وقع في شريعة موسى، وهذا أيضاً أفسد من الذي قبله، إذ لا تفسير بهذا للحجة بوجه من الوجوه، وهذه الأمة تلوم الأمم المخالفة كلها، يعني: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام تلوم جميع الأمم السابقة لها، واللوم هذا يقع في شريعتنا والذنب قد وقع في الشرائع السابقة، ولذلك لما أخرج البخاري قال: (يجيء بنوح يوم القيامة فيقول الله تعالى له: يا نوح هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب! فيؤتى بأمته فيسألهم: هل بلغكم نوح؟ قالوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيؤتى بنوح مرة أخرى فيقول الله تعالى: يا نوح من يشهد معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: فذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143])، إذن اللوم يقع يوم القيامة في دار أخرى لا في شريعة أخرى، فيقع بعد الحياة والممات والبعث ويوم القيامة وفي عرصات القيامة، والذنب قد وقع في الدنيا، فلا بأس أبداً أن يقع الذنب في شريعة واللوم في شريعة أخرى، ولذلك هذا المذهب كسابقه من المذاهب الفاسدة.
المذهب الثالث: قالت فرقة ثالثة: إنما حجه لأنه قد كان تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فلا يصح أن يوجه إليه اللوم؛ لأنه قد تاب، والذي يتوب من الذنب كأنه لم يفعله أصلاً، إذاً فعلام اللوم؟ وآدم هنا ما احتج بالقدر إلا بعد التوبة لا قبل التوبة، وهذا وإن كان أقرب مما قبله فلا يصح لثلاثة أوجه، ذكرها الإمام ابن القيم في كتاب: شفاء العليل، يقول: الوجه الأول: أن آدم لم يذكر ذلك الوجه، ولا جعله حجة على ابنه، أي: أن آدم لم يقل لموسى: أتلومني على ذنب قد تبت منه.
الوجه الثاني: أن موسى أعرف بالله سبحانه وبأمره ودينه من أن يلوم على ذنب قد أخبره سبحانه أنه قد تاب على فاعله، واجتباه بعده وهداه، فإن هذا لا يجوز لآحاد المؤمنين أن يفعله فضلاً عن موسى كليم الرحمن سبحانه وتعالى.
الوجه الثالث: أن هذا يستلزم إلغاء ما علق به النبي صلى الله عليه وسلم وجه الحجة، واعتبار ما ألغاه فلا يلتفت إليه، وأنا شخصياً لست مقتنعاً بهذه الأوجه الثلاثة، وابن القيم عليه رحمة الله تبعاً لشيخه ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: هذا مذهب مرجوح أو لا يصح، وذكر الثلاثة الأوجه، وأنا شخصياً ليس عندي أدنى قناعة ولا بوجه واحد، لكن أرجوا أن تذكروا هذا المذهب؛ لأننا سنحتاجه بعد ذلك.
المذهب الرابع قالوا: إنما حجه لأنه لامه في غير دار التكليف، وقد قلنا فيما مضى: إن موسى عليه السلام طلب من ربه أن يحيي له آدم فيكلمه، فأحيا الله تعالى آدم فكلمه فلامه على ذلك، وفي أثناء الكلام لامه على الذنب، أو على المعصية التي جعلته يخرج من الجنة وتخرج ذريته إلى الأرض، فقالوا: هذا لوم ليس في دار التكليف، والأصل أن المرء يلام في دار التكليف، وإرجاع آدم وإحياؤه مرة أخرى للمحاجة والمناظرة بينه وبين ولده موسى عليه السلام لم تكن بالنسبة لآدم دار تكليف، ولو لامه في دار التكليف لكانت الحجة لموسى عليه، قال ابن القيم: وهذا أيضاً فاسد من وجهين: الأول: أن آدم لم يقل له: في غير دار التكليف، وإنما قال: (أتلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق)، فلم يتعرض للدار، وإنما احتج بالقدر السابق.
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يلوم الملومين من عباده في غير دار التكليف، فيلومهم بعد الموت، ويلومهم يوم القيامة، والشاهد أن ابن القيم عليه رحمة الله أبطل هذا المذهب كذلك.
المذهب الخامس: إنما حجه لأن آدم شهد الحكم وجريانه على الخليقة، وتفرد الرب سبحانه بربوبيته، وأنه لا تحرك ذرة إلا بمشيئته وعلمه، وأنه لا راد لقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم(47/4)
مواضع احتج فيها المشركون بالقدر وإنكار الله عز وجل عليهم في ذلك
وعلى هذا أجمعت الرسل من أولهم إلى خاتمهم: أن هؤلاء القدرية أو هؤلاء الملاحدة كـ ابن سينا وغيره حجتهم بلا شك إنما هي حجة المشركين أعداء الرسل الذين قالوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35] أي: أن هذا شرك وقع بإرادة الله تعالى، وأن الله تعالى يحب أن نشرك، وهذا كلام باطل، وقال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47]، أليس الله قادراً على أن يطعم الفقراء والمساكين وابن السبيل؟ بلى، فنحن لن نطعمهم ما دام هو قادراً على أن يطعمهم، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف:20]، فهذه أربع مواضع حكي فيها الاحتجاج بالقدر من أعدائه، وشيخهم وإمامهم في ذلك عدوه الأحقر إبليس، حيث احتج على الله تعالى بقضائه فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]، أي: أنت الذي أغويتني.
فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول -هذا الكلام مهم جداً- صحة قولهم: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، وفعلاً صحيح، أليس الشرك وقع في الكون بإرادة الله تعالى الكونية القدرية؟ بلى، إذاً الفخ الذي وقع فيه أهل البدع أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية، إذ إن الإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا والأمر، أي: أمر الله تعالى، والإرادة الكونية القدرية لا يلزم فيها المحبة والرضا، إذ منها ما هو محبوب إلى الله، ومنها ما هو مبغض كالمعاصي والذنوب، وكل يقع بإذن الله تعالى وقدره.
فإن قيل: قد علم بالنصوص والمعقول صحة قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:35]، {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112]-وهذا على الوجه الأقرب- لكن هم فعلوه، إذاً شاء الله لهم أن يفعلوه، لكنها مشيئة كونية قدرية، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، إذاً: الله تعالى هو الذي شاء غوايتهم وإضلالهم، قال: فكيف أكذبهم، ونفى عنهم العلم وأثبت لهم الكذب فيما هم فيه صادقون، وأهل السنة والجماعة جميعاً يقولون: لو شاء الله ما أشرك به مشرك، ولا كفر به كافر، ولا عصاه أحد من خلقه، فكيف ينكر عليهم ما هم فيه صادقون؟ وهذا السؤال مهم جداً.
قيل: أنكر سبحانه عليهم ما هم فيه أكذب الكاذبين، وأفجر الفاجرين، ولم ينكر عليهم صدقاً ولا حقاً، نعم الشرك وقع منهم بمشيئة الله، فلم أنكر الله تعالى عليهم ذلك؟ قال: بل أنكر عليهم أبطل الباطل، فإنهم لم يذكروا ما ذكروه -أي: لم يحتجوا بالقدر على معاصيهم إثباتاً لقدرة الله تعالى وربوبيته ووحدانيته وافتقاراً إليه وتوكلاً عليه واستعانة به لأمره، ولو قالوا كذلك لكانوا مصيبين، أي: هم لم يحتجوا بالقدر على المعصية، أو بالمشيئة على الشرك الذي وقعوا فيه من باب الذل والافتقار والخضوع لله تعالى، وإثبات أنه لا يكون شيئاً في الكون إلا بمشيئته وإرادته، وإنما قالوا معارضين لشرعه ودافعين به لأمره، فعارضوا شرعه وأمره، ودفعوه بقضائه وقدره، ووافقهم على ذلك كل من عارض الأمر ودفعه بالقدر، وأيضاً فإنهم احتجوا بمشيئته العامة وقدره على محبته لما شاءه ورضاه به وإذنه فيه، فجمعوا بين أنواع من الضلال، معارضة الأمر بالقدر ودفعه به، والإخبار عن الله أنه يحب ذلك منهم، أي: أنهم قالوا: لو كان الله لا يحب الشرك لم يكن يجعلنا مشركين، قال: ويرضاه حيث شاءه وقضاه -أي: لكونه شاءه وقضاه وقدره وأذن في خلقه وإيجاده، إذاً هو يحبه، هكذا قالوا- وأن لهم الحجة على الرسل بالقضاء والقدر.(47/5)
كلام أبي إسماعيل الهروي في بيان أوجه الفعل والاحتجاج بالقدر
وفي كلام شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري ما يوهم هذا الكلام، وقد أعاذه الله منه، فإنه قال في باب التوبة من كتاب (منازل السائرين): ولطائف التوبة ثلاثة أشياء: أولها: أن ننظر في الجناية والقضية فنعرف مراد الله فيها، إذ خلاك وإتيانها، فإن الله تعالى إنما يخلي العبد والذنب لأحد معنيين: الأول: أن يعرف عبرته في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته، وهذا كله معنى واحد.
والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته.(47/6)
أوجه فعل العبد
وقال كلاماً كثيراً جداً مفاده وتلخيصه: أن للفعل وجهين: الأول: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره له، وعلمه به، وأن الله تعالى علم أن عبده سيفعل كذا، ويختار الشر على الخير، ويقدم عليه، ويتلبس به، فلما علم الله تعالى من عبده ذلك أزلاً قدره عليه، أي: كتبه، لا أنه جبره على المعصية، وإلا فلو كان العبد مجبوراً على المعصية فلم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً؟ هذا هو الوجه الأول، وهو متعلق بالله تعالى.
الثاني: وجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال وكسب، وهذه المنزلة هي المنزلة الرابعة من منازل القدر.
ومنازل القدر أربعة: المنزلة الأولى: منزلة العلم، أي: أن العلم الأزلي ثابت لله تعالى، فعلم الله ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون.
المنزلة الثانية: منزلة الكتابة، أي: لما علم الله تعالى ذلك أزلاً كتبه وقدره، فهو مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، الذي لا يأتيه زيادة ولا نقصان.
المنزلة الثالثة: منزلة الإرادة أو المشيئة.
المنزلة الرابعة: منزلة الخلق، أي: أن الأفعال خيرها وشرها بإذن الله تعالى وإرادته، ومشيئته من جهة الخلق والإيجاد، أما من جهة الكسب والفعل فإن العبد هو الذي يكسب الخير والشر، فمثلاً: القتل من جهة الخلق والإيجاد فالله تعالى هو الذي خلق وأوجد، والفعل فعل هذا العبد، وذلك لما أخذ السكين وانطلق إلى غريمه فقتله، وكل ذلك ما وقع إلا بعلم الله، وإرادة الله، ومشيئة الله، وإيجاد الله لهذا الفعل، وإلا فلا يستطيع أحد أن يتحرك حركة إلا بإذن الله، ولا يسكن سكنة إلا بإذن الله تعالى، لكن من الذي باشر القتل؟ من الذي أراق الدم؟ إنه العبد، إذاً هذا الفعل سواء كان خيراً أو شراً حتى لو كان صلاة التي هي رأس العبادات، لو شاء الله لك ألا تصلي، لكنك لو تركت الصلاة فإنما يقول: إنما ذلك وقع منك بقدر الله الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه في الشرع وفي الدين أمرك بالصلاة، وأنت اقترفت النهي وارتكبت الإثم بترك الصلاة، وكذلك القتل، فقد وقع منك من جهة الكسب والفعل، فأنت الذي باشرت هذا القتل، لكنه من جهة الخلق والإيجاد والإذن في الوقوع في الكون كل ذلك من الله عز وجل.
ولذلك يقول هنا: فكل فعل له وجهان: وجه قائم بالرب تعالى، وهو قضاؤه وقدره، وعلمه به سبحانه وتعالى.
ووجه قائم بالعبد، وهو ما يصدر عنه من أفعال، والعبد له ملاحظتان كما سيأتي.
إذاً: اتفقنا أن ما يقع في الكون من أقوال وأفعال لها وجهان: وجه متعلق بالرب تبارك وتعالى، ووجه متعلق بالعبد، من أجل ألا تقول بعد ذلك: أنا مسير في فعل هذا الفعل، والسؤال هذا دائماً يطرح كثيراً: هل أنا مسير أم مخير في أقوالي وأفعالي؟(47/7)
اختلاف العباد في نظرهم إلى الوجه القائم بالرب والوجه القائم بالعبد وأهمية الجمع بينهما
العبد له ملاحظتان: ملاحظة للوجه الأول، أي: القائم بالرب تبارك وتعالى، وملاحظة قائمة بفعله هو، فمن غلب النظر إلى الوجه الأول إنما يعتمد على القدر، وأنه مجبور على الأفعال، فيقول: الله هو الذي خلق كل شيء، وهو الذي جبرني على هذا، إذاً فلم يلومني؟ وملاحظة للوجه الثاني، والكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته، وطاعته ومعصيته.
فانظر إلى هذا الكلام الجميل، فهو يريد أن يقول لك: إذا أردت أن تؤمن بالقدر فلا بد أن تنظر إلى أن الفعل الذي فعلته جانب منه متعلق بالله تعالى، وجانب منه آخر متعلق بالعبد، فلا ترم الحمل كله على القدر؛ لأنك لو رميته كله على القدر فلن ترى نفسك مذنباً قط، بل تستمر في المعصية وتنتقل من معصية إلى ثانية وثالثة ورابعة وهكذا، وحجتك في ذلك: أن هذا مقدر لك في اللوح المحفوظ، وإلا لما كان قد وقع منك أبداً، فأنت لا ترى نفسك مجرماً، ولا مذنباً، ولا عاصياً أبداً، وإنما ترمي بثقلك ومعاصيك على القدر، ولا تنظر أبداً إلى نفسك، ولا بد للعبد من هاتين الملاحظتين: أن ينظر إلى كل فعل وقع منه على أن له ملاحظتان وبابان: باب منه متعلق بالسماء، أي: متعلق بالله تعالى، وباب منه متعلق بالأرض، أي: بفعل العبد، ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الآخر، ولو غاب أحد الأمرين عن الآخر لحمل العبد على الضلال وفساد الاعتقاد، ولذلك الكمال ألا يغيب بإحدى الملاحظتين عن الأخرى، بل يشهد قضاء الرب وقدره ومشيئته، ويشهد مع ذلك فعله وجنايته وطاعته ومعصيته.
فيشهد الربوبية والعبودية، فيجتمع في قلبه معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، مع قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فأثبت الله تعالى لنفسه مشيئة، وأثبت للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة المولى عز وجل، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:54 - 56]، حتى الذكرى بمشيئة الله تعالى.
فمن الناس من يتسع قلبه لهذين الشهودين- أي: الملاحظتين- ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما بقوة الوارد عليه، وضعف المحل، أي: بالقدر، وهذا متعلق بفعل العبد -كلام جميل- ولا ينبغي أن يغيب أحد الأمرين عن الثاني، وإلا هلك العبد وضل وساء اعتقاده في الله تعالى.
وبعد ذلك يقول لك هنا: ومن الناس من يتسع قلبه لهاتين الملاحظتين فيراهما جميعاً، ومنهم من يضيق قلبه عن اجتماعهما؛ لقوة الوارد عليه وضعف المحل، أي: أن صدره يضيق، فلا يستطيع أن يستوعب مسألة القدر؛ لقوة الشبهة الواردة عليه وضعف المحل، أي: ضعف القلب والعقل، ومثل ابن القيم لذلك بمثال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء يرد القضاء)، قال: ومن العباد من يقول: ومع هذا ندعو الله ولا يرد عنا القضاء، فلم؟ قال: لأن البلاء النازل من السماء، والدعاء الصاعد إلى السماء يلتقيان في السماء، فإذا كان الدعاء أقوى وبحرارة وبحضور القلب رفعه، وإذا كان البلاء أقوى من الدعاء نزل البلاء، وإذا كانا في مستوى واحد فهما يعتلجان إلى قيام الساعة، أي: يتصارعان مع بعضهما البعض، وكلما هذا يغلب يرجع هذا مرة ثانية، فهما يعتلجان، أي: يتصادمان في السماء فلا يقوى البلاء على الدعاء ولا الدعاء على البلاء، إذ كل منهما في قوة صاحبه، فكذلك هنا قال: إنما يضيق صدر العبد عن متابعة أن الفعل له ملاحظتان: الأولى: متعلقة بالقدر بفعل الله تعالى، والثانية: متعلقة بفعل العبد، فيضيق صدره لقوة الوارد، أي: لقوة الشبه مثلاً وضعف المحل، مثل أن تأتي برجل طيب ودائماً يغير رأيه فتقول له: فلان هذا يعد لك كميناً وسوف يعمل فيك كذا وكذا، فانتبه حتى لا يغلبك، وأنا لك ناصح، ثم هل جربت علي كذباً وغشاً من قبل؟ فيقول: لا، إذاً أنا أحذرك منه، وأنا لا أغتابه وإنما أقول: احذر، فإنه يعد لك كذا وكذا، وقد أخبرني بنفسه أنه يعد لك كذا وكذا، وبذلك تكون الحجة قد قامت عليه والعلم قد بلغه، ثم يقابله هذا الذي كان يعد له هذه البلية فيكلمه بأدب واحترام، فينسى الذي مضى ويشرب المقلب؛ لأن العلم وإن توفر إلا أن المحل ضعيف، ولذلك عمر بن الخطاب قال: لست بالخب ولا الخب يخدعني، أي: أننا لا نخادع أحداً ولا نسمح لأحد قط أن يخدعنا، فإذا أتى شخص ليخدعنا فنحن نفهم ذلك سلفاً، ولا نمكنه من ذلك؛ لأن المحل قوي، فلا يستطيع أحد أن يغلبنا، ولذلك إبليس نفسه لما كان يرى عمر يسلك فجاً يسلك هو فجاً آخر؛ لقوة المحل، فـ ابن القيم عليه رحمة الله يقول: ومن الناس من يضيق قلبه عن اجتماع الملاحظتين، لقوة الوارد عليه وضعف المحل، فيغيب بشهود العبودية والكسب، وجهة الطاعة والمعصية عن شهود الحكم القائم بالله، أي: لو أن شخصاً يقول:(47/8)
تعليق أبي إسماعيل الهروي على حديث احتجاج آدم وموسى
وبعد هذا البيان والتفسير كله يقول: إذا عرفت هذا فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، والمعلوم يا إخواني! أن القضاء والقدر إنما يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، فيحتج المرء بالقدر على المصيبة التي تنزل به، فمثلاً: إذا سئل المريض: لماذا أنت مريض؟ فيرد عليك قائلاً: يا أخي! هذا قدر الله، ومثله: يا فلان! لماذا أنت أعمى؟ لأن الله كتب وقدر علي العمى، فهذا احتجاج بالقدر في باب المصائب، وهذا محل إجماع، أي: أن القدر يحتج به في باب المصائب، ولا يحتج به في باب المعائب التي هي الذنوب، وهذا الكلام مطلق، أي: قولهم: يحتج بالقدر في باب المصائب ولا يحتج به في المعائب، لكن الخلاف هل يحتج بالقدر في باب المعائب بعد التوبة منها أم لا؟ هذا تحرير المسألة.
قال: بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، وهذا رأي عبد الرزاق وابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين على الجميع رحمة الله.
ولذا فموسى كان يلوم آدم على المصيبة لا على الذنب؛ لأن موسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم أحداً على ذنب قد تاب منه، وهو يعلم أن من تاب من الذنب كمن لا ذنب له، وكذلك آدم لا يمكن أن يكون محتجاً بالقدر على الذنب، لكن ما هي القصة؟ نحن متفقون على أن هناك لوماً، فما مصدر هذا اللوم؟ قالوا: بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة، ونزولهم إلى دار الابتلاء بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيهاً على سبب المعصية، والمحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، ولم يقل له: أخرجتنا من الجنة، وإنما قال له: أنت فعلت خطيئة تسببت في مصيبة، وهذه المصيبة لحقتك ولحقت ذريتك، فأخرجت من الجنة إلى الأرض، فهذه مصيبة عظيمة جداً، ومصدر هذه المصيبة الذنب، فهو ما لامه على الذنب وإنما لامه على المصيبة التي حلت به وبذريته، وأنا غير مقتنع بهذا الرأي أبداً، والذي أقتنع به تماماً أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد التوبة منه، وهذه من مسائل الاعتقاد التي لا يحل لطالب علم يستطيع أن يميز بين أقوال أهل العلم أن يقلد رأياً بغير قناعة؛ لأن هذا دين، ودين الله تبارك وتعالى إذا ترجح لدى طالب علم في قضية من القضايا أصبح ديناً في حقه الذي يحاسبه عليه الله يوم القيامة، وفي لفظ: (خيبتنا).
قال: فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة.
هذا جواب شيخنا: أبي إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى.(47/9)
الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع
وقد يتوجه جواب آخر -انظر هذا الكلام- وهذا الذي كنت أريد أن أخبرك عنه وأقول لك: احفظ هذا المذهب، أي: المذهب الثالث، فإننا سنحتاجه.
والمذهب الثالث: أنه إنما حجه لأنه كان قد تاب من الذنب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز له لومه حينئذ، قال ابن القيم: وهذا وإن كان أقرب مما قبله -يعني: الآراء الفاسدة السابقة- إلا أنه لا يصح لثلاثة أوجه، ثم ذكرها، أي: أنه قال: هو أهون من المذاهب الأخرى، لكنه مع ذلك غير صحيح؛ لثلاثة أوجه، ثم قال هنا: وقد يتوجه جواب آخر، أي: قد يكون الجواب الآخر وجيهاً، وكلمة: (يتوجه) من الوجاهة، أي: قد يصير مذهباً آخر وجيهاً.
قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم.
لكن هذا المذهب يقول لك: أنا يستقر في ذهني وينصرف في عقلي أنه مذهب راجح، يقول: وقد يتوجه.
لا والله أنا عندي أن هذا الرأي هو الأوجه.
قال: وهو أن الاحتجاج بالقدر على الذنب بعد التوبة منه، وعدم العودة إليه قد يكون وجيهاً في موضع ومذموماً في موضع آخر, ثم قال: وهذا هو الرأي الوجيه، أي: أن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك -أي: في هذا التوقيت بعد وقوع الذنب والتوبة منه- من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوة، يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً علي قبل أن أخلق؟ فإذا أذنب رجل ذنباً ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن فأنبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به.
وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج بالقدر فيه ففي الحال والمستقبل، أي: أن القدر يحتج به في المصائب التي تنزل بالعبد، والذنوب التي يرتكبها فيما يتعلق بالماضي التائب منه، أما الاحتجاج بالقدر على الذنب الحال، كأن يرى شخص آخر يزني، فقال له: ما هذا يا فلان؟ فرد عليه: لا تتكلم فإن هذا مقدر علي! وأيضاً سأفعل هذا غداً وبعده، والأسبوع الذي سيأتي، والشهر الذي سيأتي وهكذا، وإذا كان مقدر علي فلا بد أن يقع مني! فهل يصح ذلك منه؟ لا، لكن يصح منه في الماضي وبعد التوبة منه.
قال: وأما الموضع الذي يضر في الاحتجاج بالقدر ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب به باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله تعالى فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، أي: نحن قائمون على الشرك، وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه وندم، وعزم كل العزم على ألا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.
ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(47/10)
المراد بالتقدير في قول آدم: أتلومني على أمر قدره الله علي
المراد بالتقدير في قول آدم عليه الصلاة والسلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)، لا يفهم من كلمة (قدره): أنه مجبور على ذلك؛ لأن الجبرية من الفرق الضالة الهالكة، والمعنى الصحيح لكلمة: (قدره)، أي: كتبه الله علي.
إذاً: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل أنه قال: أنا أقدم أم الذكر؟ قال له: الذكر، قال: أنت نفسك قرأت في الذكر أنني أفعل هذا قبل أن أخلق بأربعين عاماً.
قال: وفي صحف التوراة وألواحها، هل كتبه علي قبل خلقي بأربعين سنة؟ وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين سنة)، أي: أن التوراة التي نزلت على موسى قد كتب فيها أن آدم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك بأربعين سنة.
قال: (قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة)، فهذه الرواية مصرحة بالمراد بالتقدير، وأنه الكتابة، إذاً (أتلومني على أمر قدره الله علي)، أي: كتبه الله علي، والكتابة مرتبة ثانية متعلقة بالمرتبة الأولى من جهة علم الله، أي: أن الله تعالى علم أزلاً ما يكون من العباد من خير وشر، وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ، ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراد من خلقه أزلي لا أول له؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل أن يخلقهم بأربعين سنة؛ لأن هذا القول يستلزم أن الله كان جاهلاً فعلم، وهذا كفر.
ولم يزل سبحانه مريداً بما أراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر، (فحج آدم موسى)، أي: غلبه بالحجة، وظهر عليه بها، ومعنى كلام آدم: أنك يا موسى! تعلم أن هذا كتب وقدر علي قبل أن أخلق، فلا بد من وقوعي فيه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لن نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ واللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع لا بالعقل، فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي.
لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كأن تقول لشخص يشرب الخمر: يا فلان ماذا تعمل؟ فيقول لك: هذا مقدر علي! فهل تحتج بالقدر على المعصية؟ المتفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، مثل أن يقول شخص لمريض: لماذا يا أخي! أنت مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لأن المرض هذا لا أملكه، ولست سبباً فيه، كما لو حصلت حادثة لأناس فماتوا، فلا نقول: لماذا؟ فهذه مصيبة نزلت بهؤلاء، فيجوز أن يحتج على المصائب والبلايا، والأمراض، والأوجاع، والأسقام بالقدر، أما المعائب والذنوب فلا، لكن كلمة (لا) انتبه منها؛ لأنها محل نزاع، والنزاع فيها متعلق بمن تاب من الذنب، فهل يجوز له أن يحتج بالقدر فيقول: هو قدر الله عز وجل.
كأن يزني شخص وهو غير محصن ثم يأتي الإمام فيقول: يا إمام! أنا زنيت، أقم علي الحد، طهرني، فهو أتى تائباً، وأنتم تعلمون أن الحدود كفارات لأهلها، فأقمنا عليه الحد مائة جلدة وتغريب عام.
فهل يجوز لهذا التائب إذا سئل أو ليم على هذا الفعل أن يقول: هو قدر الله عز وجل؟ أنا أعتقد -المسألة محل نزاع- أن التائب من الذنب يجوز له أن يحتج بالقدر بعد التوبة، أما قبل التوبة وفي أثناء التوبة فلا.(47/11)
لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي في الماضي والحاضر والمستقبل
قال: [فإن قيل فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك]؛ لأننا لو قلنا إنه يجوز أن يحتج بالقدر على المعاصي كلها في الماضي والحاضر والمستقبل، إذاًَ فلا شيء هناك اسمه: حدود؛ لأن ربنا هو الذي أمر بذلك، فهو سبحانه علم ذلك، وكتبه علي، وقدره علي، ولذلك لما أتى هذا الزاني إلى عمر بن الخطاب فاحتج بالقدر على المعصية، ثم أمر به عمر فكتف، قال له: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟ قال: نعم، نضربك بقدر الله، مثلما أنت تقول: إن المعصية وقعت منك بقدر، فنحن نقول: إن الحد أيضاً بقدر، ودليل ذلك: قف مكانك، وجلده مائة جلدة، ولو لم يكن مقدراً أن يضربه مائة جلدة لم يكن يستطيع عمر أن يضربه، فتبين أن المعصية بقدر، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر عليها إلا بعد التوبة منها، وأن الحد من قدر الله عز وجل، ونحن قد قلنا: إن هذا القدر هو ما قدر في الكون من خير وشر، وأن ذلك لا يقع في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته، إذاً الحدود أيضاً من قدر الله وفي قدرة الله تعالى.
قال: [فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي لم يسقط عنه اللوم والعقوبة]، أي: لنا أن نلومه ونوبخه، وأيضاً نعاقبه ونقيم عليه الحد، وإن كان صادقاً فيما قال أن ذلك لم يقع إلا بقدر الله، لكن لا يجوز الاحتجاج به، ف
الجواب
أن هذا العاصي باقٍ في دائرة الخير، وهذا فرق بينه وبين آدم، فآدم لما وقع فيما وقع فيه وتاب منه، وانتقل بعد الموت إلى دار أخرى، لكن الله بعثه جواباً لطلب موسى: أنا أريد أن أقابل آدم، خلق له آدم مرة أخرى ثم تناقشوا، لكن في الحقيقة لما لام موسى آدم عليهما السلام لامه في دار ليست محل تكليف؛ لأن الأصل في آدم أنه انتقل إلى دار لا لوم فيها ولا تكليف فيها، لكن العاصي الذي وقع في معصية في الدنيا إذا تاب منها بينه وبين الله تاب الله عز وجل عليه؛ لأنكم تعلمون أن الحد لا يجب قيامه إلا إذا بلغ السلطان، وهذا من الأساسيات الجوهرية في قيام الحد، وليس للأفراد أن يقيموه، حتى الوالد على ولده، والسيد على عبده، والرجل على امرأته، فلا يقيم أحد من عامة الناس الحد على أحد، وإنما يقيمه السلطان أو من ينوب عن السلطان، وكذلك إذا بلغ الحد للسلطان فلا يجوز للسلطان أن يقدم فيه ولا أن يؤخر، ولا أن ينزل من قدر العقوبة، ولا أن يزيد فيها؛ لأنها محددة من عند الله عز وجل، أما التعزيرات فهذه للرجل على امرأته، والوالد على ولده، والسيد على عبده وغير ذلك، والتعزير لا يزيد عن عشر جلدات، وما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً في حد أقل من عشر، وما زاد النبي في تعزير أكثر من عشر، وقد تجد شخصاً آخر يعمل نفسه شهماً وهو أصلاً بخيل، فتأتي امرأته فتسقط طبقاً من الكئوس، فيعمل نفسه شهماً -وهو يغلي من الداخل- فيقول لها: أهم شيء سلامتك، وبعد ذلك يخرج ولا يستطيع أن يتحمل، فيذهب إلى المسجد ليصلي، ثم يعود إلى بيته فيسألها عن صلاة الظهر، فترد عليه: أنها لم تصل، فيقوم بتوبيخها وتأنيبها، وهو في حقيقة الأمر أول مرة يسألها عن الصلاة؛ لأنه لا يستطيع أن يبيت، فلا بد أن يأخذ قيمة الكئوس.
قال: [فهو في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة، واللوم، والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل]، فهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، فإذا مات فلا نظل نوبخه، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف، وعن الحاجة إلى الزجر، فلم يكن في الوقت المذكور له فائدة، بل فيه إيذاء وتخذيل، والله أعلم.
وهذا رأي واحد من أراء كثيرة ومتعددة، يقول: هذا اللوم والتوبيخ الذي وقع من موسى لآدم متعلق برجل خرج من دار التكليف ثم رجع إليها لمهمة وضرورة، فهو في الحقيقة لا يلام ولا يوبخ، ولذلك لما رد عليه آدم الحجة غلبه؛ لأنه ما كان ينبغي أن يلومه موسى عليه السلام.(47/12)
كلام الإمام الخطابي في حديث احتجاج آدم وموسى
قال الإمام الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى: القدر من الله والقضاء منه معنى: الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، أي: أنه يقول لك: انتبه أن تفهم قول آدم عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله)، أن هذا فيه لغة الجبر من الله على هذه المعصية، لا، وإلا ستكون جبرياً من الفرق الهالكة الضالة.
قال: ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كانت من هذا الوجه، يعني: ليس معناه أنه يقول له: أنت تلومني على أمر وأنا مجبور عليه، فليس في المسألة جبر.
قال: وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه وإنما معناه: الإخبار عن تقدم علم الله في الحال بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم -انظر الكلام الجميل- فهو يقول له: يا موسى! الأمر الذي وقعت فيه قد سبق في علم الله أني سأعمله، وأني سأرتكبه.
وهنا آدم أثبت مرتبة العلم لله عز وجل، ومرتبة الكتابة كذلك؛ فآدم كان يؤمن بمراتب القدر.
قال: وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد ومعاصيهم وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها.
يقول لك: وصدور هذه الأفعال وإن كانت معاصي لكنها لا تصدر إلا بخلق وإيجاد الخالق سبحانه وتعالى، يعني: هذا الشر الذي وقع إنما وقع بإذن من الله، وإيجاد من الله، وخلق من الله، لكن المكتسب للشر، والذي قارف الشر بيده هو العبد، إذاً الشر يقع في الكون من العباد كسباً، ومن الخالق إذناً وإيجاداً وخلقاً.
قال: والقضاء في هذا معناه: الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] أي: فخلقهن، إذاً: القضاء الذي قضاه الله تعالى على آدم أو قدره على آدم بمعنى: أذن الله تعالى في خلقه وإيجاده، لكن الذي اكتسبه هو العبد.
ولو كان المكتسب والمباشر لهذا الشر عياذاً بالله هو الله عز وجل لما احتاج آدم إلى التوبة؛ لأنه في الحقيقة لم يفعل شيئاً، فمن ماذا يتوب وهو لم يذنب؟ {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، والمعلوم أن التوبة تكون من الذنب، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، أي: إذا كان علم الله سبحانه وتعالى أزلياً سابقاً، فلا يبقى إلا أن يكتسب العباد أفعالهم وأقوالهم، وحركاتهم وسكناتهم الموافقة لعلم الله الأزلي، فهو يريد أن يقول له: ما فعلت إلا شيئاً وافق علم الله الأزلي وكتابة الله تعالى الأزلية.
قال: وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها، أي: ومع هذا يلامون، ويوبخون، وجماع القول في هذا الباب -أي: خلاصة الأقوال في هذا الباب-: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه.
انتبه من هذين الأمرين: أمر يسمى: الأساس، وأمر يسمى: البناء، والأساس هو علم الله عز وجل، والبناء هو أفعال العباد المطابقة لعلم الله الأزلي.
وإنما كان موضع الحجة لآدم على موسى أن الله سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه، وأن يبطله بعد ذلك؟ إذا كان سبق في علم الله الأزلي أن آدم سيأكل من الشجرة فلا بد أن يوافق فعل آدم ما سبق في علم الله أنه سيأكل، ولو تحرى آدم والخلق أجمعون المخالفة لعلم الله الأزلي السابق لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه، ومع هذا فليس لهم حجة في أن يحتجوا بهذا على القدر إلا بعد التوبة.
قال: وبيان هذا في قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خلقه للأرض، لكن لما خلق آدم، هل خلق في الجنة أو في الأرض؟ في الجنة، إذاً سبق علم الله عز وجل بأن آدم سيخرج من الجنة إلى الأرض، وأخبر الملائكة بذلك، وعليه فعلم الله أزلي، وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها إليها -أي: إلى الأرض- وإنما كان تناوله من الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق لها، وليكون فيها خليفة ووالياًَ على من فيها، فإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودفع لائمة موسى عن نفسه على هذا الوجه، فهو يريد أن يقول له: عملي هذا ما وافق إلا علم الله، فلم تلومني إذاً؟ ولذلك قال: (أتلومني على أمر قدره الله)، أي: كتبه الله علي قبل أن يخلقني، فإن قيل: فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلاً، لكن إذا كان فعل آدم ليس فيه إلا موافقة علم الله الأزلي السابق، فإذاً لماذا فرض الإسلام؟ والجواب على ذلك: اللوم ساقط من قبل موسى، أي: أن الذي حصل لموسى ليس من باب اللوم، لكن النص صريح في اللوم: (أتلومني)، يعني: أن آدم فهم أن هذا لوم، قال: اللوم ساقط من قبل موسى، إذ لي(47/13)
شرح كتاب الإبانة - القضاء والقدر
لله تبارك وتعالى عاقبة الأمور، وهو خالق جميع الخلق، وقد كتب على من شاء منهم أن يكون من أهل الجنة، وقضى على من شاء منهم أن يكون من أهل النار، ويسر هؤلاء للعمل للجنة، ويسر أولئك للعمل للنار، وفي هذا أن قدر الله عز وجل سر من أسراره في خلقه، وما على العبد إلا التسليم له، والاجتهاد في العمل، فكل ميسر لما خلق له.(48/1)
حكم الاحتجاج بالقدر على المعاصي
الحمد لله، نحمده ونستهديه ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: في الدرس الماضي قدم إلي أخ كريم تعليقاً على ما قلته في الاحتجاج بحديث آدم وموسى، وأني احتججت بهذا الحديث أو جعلته دليلاً وحجة لمن احتج بالقدر على المعاصي بعد التوبة منها، ونقل إلي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أنه لا يصح الاحتجاج على هذا النحو.
وأقول: إن هذه الأوراق المقدمة قد اطلعت عليها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وجزى الله تعالى خيراً الأخ المقدم لهذه النصيحة.
وعلى أية حال فإن الذي ترجح لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يترجح عندي، وربما قصر فهمي وإدراكي عن فهم كلامه، وأما ابن القيم فقد اضطرب في هذه المسألة بين رأيين، فنصر المذهب الأول لـ ابن تيمية وضلل من قال بالرأي الثاني، ثم قال: وفي المسألة رأي آخر وجيه أو حسن، وذكر الرأي الثاني الذي كان قد ضلله منذ قليل، وضلل أصحابه وأهله.
وهذا الرأي الثاني هو الذي ترجح لدي منذ سنوات طويلة.
وقد سألت الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الرأي الثاني فقال: إنه وجه حسن.
وأصل القضية هي: هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية؟ والجواب إجماعاً: لا، فلا يحتج بالقدر على مجرد المعصية، ولا يحتج الزاني بأن الزنا مكتوب عليه، ولا السارق بأن السرقة مكتوبة عليه.
وهذه مسألة من مسائل الإجماع، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ويجوز الاحتجاج بالقدر على البلاء.
وكما يقول أهل العلم: لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب وإنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، يعني: إذا نزلت بك بلية أو مصيبة فقل هذا من قدر الله عز وجل.
وهذا من مسائل الإجماع التي لا خلاف عليها، ويفهمها كل أحد.
وأساس القضية وأصل الخلاف هو: هل يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها؟ اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: يجوز، والذي قال يجوز احتج بحديث احتجاج آدم وموسى، وأن موسى عليه السلام لام أباه آدم على أنه أخرج ذريته من الجنة بسبب معصيته وأكله من الشجرة، وهذا بلا شك بلاء عظيم، وأصل هذا البلاء معصية وقعت من آدم، وتاب آدم منها، فلما تاب منها وفرغ من هذا الأمر احتج على موسى عليه السلام وقال: (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً)، يعني: إن هذا الأمر مكتوب في اللوح المحفوظ، فمن العلماء من فهم كلام آدم على أنه احتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها؛ لأنه قد تاب منها، وهذا الذي يستقيم مع سياق الحديث ومع سياق القصة، وهو الذي أذهب إليه، ومن أراد أن يذهب إلى الرأي الأول وهو أن آدم لم يحتج بالقدر على المعصية وكذلك موسى، وإنما احتجا جميعاً على المصيبة، وهي أن آدم أخرج نفسه وذريته من الجنة، وهذه مصيبة وليست ذنباً، وسبب هذه المصيبة الذنب، فلو لم يأكل آدم من الشجرة ما خرج ولا خرجت ذريته، وهذا أمر مقدر ومكتوب على آدم قبل أن يخلقه الله عز وجل بأعوام وأعوام.
والذي أفهمه أنا من هذا الحديث أن هذا احتجاج بالقدر على المعصية ولكن بعد التوبة منها، وأما الاحتجاج بالقدر على المعصية قبل التوبة منها فهذا ضلال مبين.
وهذه من مسائل الإجماع كما قلت.(48/2)
باب ما روي في أن الله تعالى خلق خلقه كما شاء لما شاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في أن الله تعالى خلق خلقه كما شاء لما شاء]، أي: خلق الأبيض والأسود، والمؤمن والكافر، والشقي والسعيد لما شاء، للجنة أو للنار، للشقاء أو للسعادة، فمن شاء الله تعالى خلقه للجنة ومن شاء خلقه للنار، وقد سبق بذلك علمه سبحانه وتعالى ونفذ فيه حكمه وجرى فيه قلمه، ومن جحده -أي: ومن جحد هذه العقيدة السابقة- فهو من الفرق الهالكة الضالة.(48/3)
كيفية الجمع بين آية الميثاق وبين الأحاديث الواردة في إخراج الذرية من ظهر آدم وحده
قال: [عن مسلم بن يسار الجهني: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
قال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره -أي: ظهر آدم- فاستخرج ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فقام رجل فقال: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ -يعني: لم نعمل إذا كان أهل النار معروفين وأهل الجنة معروفين أزلاً، وهم باقون على حالهم أبداً حتى يخلدوا في الجنة أو النار؟ -فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة- أي: لابد من العمل؛ لأنه سبب- حتى يموت على عمل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار، فيدخله الله به النار)].
وهذا الحديث وقع بين أهل العلم نزاع عظيم في فهمه؛ لأن سياق الآية -وهي في الميثاق- يختلف عن سياق الأحاديث الواردة في تفسيرها، فربط الآية بالأحاديث الواردة هو الذي أحدث الإشكال؛ لأن الأحاديث تقول قولاً يختلف عن ظاهر الآية، فالآية تقول: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172]، أي: وليس من آدم، وتقول: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، ولم تقل: من ظهره، وتقول: {وَأَشْهَدَهُمْ} [الأعراف:172]، ولم تقل: وأشهده، وتقول: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا} [الأعراف:172] ولم يقل: قال.
إذاً: استخراج الذرية كان من ظهور بني آدم وليس من ظهر آدم، وأما الحديث فيقول: (إن الله خلق آدم عليه السلام فمسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية أخرى)، فأما الأولى فأهل الجنة وبعمل أهل الجنة يعملون حتى يموتوا على ذلك، وأما المسحة الثانية فهم أهل النار، وبعمل أهل النار يعملون، حتى إذا أدركهم الموت أدركهم وهم يعملون بعمل أهل النار.
وهذه الآية معروفة في التفسير بآية الميثاق، أي: الميثاق الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين استخرجهم من ظهره، أو من ظهورهم، وهل استخرجهم من ظهره أو من ظهورهم؟ هذا محل نزاع، فالنصوص النبوية وآثار الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن الله تعالى إنما استخرج الذرية من ظهر آدم، والآية ظاهرها أن الله استخرج الذرية التي تكون إلى يوم القيامة من ظهور بعضهم بعضاً، والجمع بين هذا وذاك أنه لا مانع أن تكون الأحاديث مبينة أن أول استخراج الذرية إنما كان من ظهر آدم، ثم أخرج الله بعد ذلك بنص القرآن ذرية آدم بعضهم من بعض، فيكون هناك إخراجان، الإخراج الأول إخراج الذرية التي تكون إلى يوم القيامة من ظهر آدم، وهذا بنص الأحاديث النبوية كلها، وأما الإخراج الثاني فهو المذكور في الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، أي: بعد أن أخرجهم من ظهر آدم كالذر أخرج من هذا الذر نسله، ثم النسل الثاني والثالث والرابع إلى يوم القيامة، فهناك إخراجان إذا صح هذا، وهذا التفسير أراه ضرورياً للجمع بين النصوص التي وردت في السنة التي ظاهرها يخالف ظاهر الآية وبين نص الآية، فالنصوص النبوية أثبتت إخراجاً من ظهر آدم، ولم تثبت إخراجاً من ظهور بني آدم، والآية أثبتت إخراجاً من ظهور بني آدم ولم تثبت إخراجاً من ظهر آدم، فلا بد من القول بالإخراجين معاً.
والله تعالى أعلم.(48/4)
كل إنسان ميسر لما خلق له
قال: [وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما انتهينا إلى بقيع الغرقد -وهو مكان المقابر بجوار المسجد النبوي- قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فأخذ عوداً فنكت به في الأرض -أي: ضرب به في الأرض- ثم رفع رأسه فقال: ما منكم من نفس منفوسة أي: مولودة- إلا قد علم مكانها من الجنة والنار، وشقية أو سعيدة، فقال رجل من القوم: يا رسول الله! ألا ندع العمل ونعمل على كتاب ربنا)؟ أي: نعمل بمقتضى الكتاب الذي كتب تحت العرش في اللوح المحفوظ؟ وليس هناك من يعلم إذا كان مكتوباً شقياً أو سعيداً؟ وهل هو من أهل الجنة أو من أهل النار؟ فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان من أهل الجنة عمل بعمل أهل الجنة وصار إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة عمل بعمل أهل الشقوة وصار إلى الشقوة.
قال: [(قال النبي عليه الصلاة والسلام: بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له)]، أي: على كل واحد منا أن يعمل، فإنه إذا خلق للجنة فإنه ييسر لعمل أهل الجنة، وإذا خلق للنار في علم الله السابق فإنه ييسر لعمل أهل النار ويعمل به حتى يدخل النار، فمن كان من أهل الشقوة يسر لعملها، ومن كان من أهل السعادة يسر لعملها.
قال: [(ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]).
وفي رواية: قال: (ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا: يا رسول الله! ألا نتكل؟ -يعني: ألا تأذن لنا أن نتكل على هذا الكتاب المكتوب؟ - قال: لا، بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له)] وهذا النص عن علي بن أبي طالب في الصحيحين.
وأما نص عمر السابق فتشهد له بقية الروايات وإن كان في الإسناد إليه انقطاع.
قال: [وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: (أخذ بيدي علي رضي الله عنه فانطلقنا نمشي حتى جلسنا على شاطئ الفرات، فقال علي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من نفس منفوسة إلا قد سبق لها من الله عز وجل شقاءٌ أو سعادة، فقام رجل فقال: يا رسول الله! ففيم إذاً نعمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ هذه الآيات: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5])].(48/5)
إثبات قدر الله السابق على العبد
قال: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل النار)]، أي: إن الرجل ليعمل في الدنيا بعمل أهل الجنة وهو عند الله تعالى أزلاً من أهل النار.
ونحن نرى الآن من الكفار من يعمل عملاً صالحاً، وهذا قد ورد في النصوص، وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام أثنى على عمل بعض الكفار، فقد كانوا يقرون الضيف، ويلقون السلام، ويطيبون الكلام، وغير ذلك من الأعمال الحسنة، وهذا بلا شك من عمل أهل الجنة وهم من أهل النار، وترى بعض الناس يعمل بعمل أهل النار ويعيش على هذا ردحاً من الزمان وفترة من عمره طويلة، ولكن يختم له بالتوبة وعمل الصالحات.
قال: [(فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار، فمات فدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه لمكتوب في الكتاب أنه من أهل الجنة، فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة، فمات فدخل الجنة)].
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان له قبل الإسلام أعمال كثيرة جداً، وهي من أعمال أهل الإيمان، فجوزي بها خيراً في الإسلام، وفي الحديث: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا).
وأصدق رجل في الأمة ينطبق عليه هذا الحديث هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي ذلك الوقت كان عمر يعمل بعمل أهل النار مثل وأد البنات، ولكنه تاب بالإسلام فجب الإسلام ما كان منه من معاص وكفر قبل ذلك، وحسن إسلامه فتحولت سيئاته إلى حسنات، فهذا الرجل سبق في علم الله أنه من أهل الجنة وإن كان أحرص الناس على قتل النبي عليه الصلاة والسلام.
وقتل الأنبياء من أكفر الكفر.
قال: [قال أنس بن مالك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل البرهة من عمره -أي: الفترة من عمره- بعمل أهل الجنة، فإن كان قبل موته تحول)] وكلمة تحول تصيب الشخص بالفزع، والنبي عليه الصلاة والسلام لما علم هذه الحقيقة كان يفزع من ذلك، وكان دائماً يقول: (اللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك).
وهذه الحقيقة معلومة يقيناً لدى كل مسلم، فينبغي لكل واحد منا أن يذل ويتذلل ويخضع لمولاه ويسأله أن يثبت قلبه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يسأل ربه التثبيت والتصريف إلى الطاعة، حتى قيل له: (يا رسول الله! أوتخشى على نفسك؟ قال: وكيف لا أخشى على نفسي والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء) وتصور أن الرجل قد يظل عمراً طويلاً يعمل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار فيدخل النار، هذا شيء عجيب وعظيم جداً، والله تبارك وتعالى يفعل في خلقه ما يشاء، وهو قد علم ما العباد عاملون وما هم إليه صائرون، وهو غير ظالم لمن أدخله النار، وهو المتفضل على من أدخله الجنة سبحانه وتعالى.
قال: (فإذا كان قبل موته تحول)، أي: من كان يعمل بعمل أهل الجنة تحول فعمل بعمل أهل النار فمات فدخل النار.
قال: [(وإن الرجل ليعمل البرهة من عمره بعمل أهل النار، فإذا كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل الجنة فمات فدخل الجنة).
وعن عمران بن حصين قال: (قال رجل: يا رسول الله! أعلم الله أهل الجنة من أهل النار؟ -أي: هل يعلم ربنا أهل الجنة وأهل النار؟ - قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: ففيم يعمل العاملون؟ -يعني: ما لزوم العمل وقيمته؟ - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)].
فمن كان في علم الله أنه شقي وأنه من أهل النار وإن عمل برهة من الزمان بعمل أهل الجنة فسيختم له بعمل أهل النار، وتصور لو أن رجلاً عمل مائة عام بعمل أهل الجنة، وقبل موته بلحظات ارتد عن دين الله عز وجل، فهذا يكون في النار مع أنه طيلة عمره كان يعمل بعمل أهل الجنة، والإنسان لا يملك لنفسه الردة كما لا يملك لنفسه الإيمان، وكل ذلك بقدر من الله عز وجل، وقد سبق في علم الله تعالى أن فلاناً سيرتد، وأن فلاناً سيثبت على الإيمان، وفلاناً سيفتن، وفلاناً لن يفتن، فإذا كان هذا كله بيد الله عز وجل -يعني: إذا كان النفع والضر والسعادة والشقاء بيد الله- فلا أقل من أن تتعلق بحبل الله المتين، وبسؤال الله أن يثبتك على الإيمان، حتى تفارق هذه الدنيا، كما تتعلق بآحاد الخلق لمصلحة لك عنده، ولله المثل الأعلى.
قال: [عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل من عمره أو كل عمره بعمل أهل الجنة، وإنه لمكتوب عند الله من أهل النار، وإن العبد ليعمل الزمن الطويل من عمره أو أكثره بعمل أهل النار، وإنه لمكتوب عند الله من أهل الجنة)].(48/6)
خطر الرياء على خاتمة العبد
قال: [وعن سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)]، وهذا الحديث يحل إشكالات كثيرة في بقية النصوص.
قال: [(إن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل النار)]، أي: أنه مراء وغير مخلص في هذا العمل، ولا قيمة لعمله، ولا يقبله الله مهما طاب وتعدى نفعه للآخرين، فهو ليس مخلصاً في هذا العمل لله عز وجل، وإنما فعله نفاقاً أو رياءً أو سمعة أو طلباً للمدح أو تصدراً للمجالس أو غير ذلك، فلا يقبل عند الله، ويأتي هذا الإنسان في آخر حياته مفلساً، وقد يكون عمل هذا العبد العمل الصالح خالصاً لله تعالى، ولكنه يأتي مع هذا العمل أعمالاً أخرى سيئة، فيخصم هذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه حتى يطرح في النار، وهذا هو المفلس الذي عرفه النبي عليه الصلاة والسلام.
وحديث سهل بن سعد هذا أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.
وانظروا إلى هذا الرجل الذي كان يقاتل قتالاً أعجب جميع الصحابة، وما استطاع أحد أن يقاتل مثله قال فيه الصحابة: والله إنا لنراه من أهل الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من هذا؟ قالوا: فلان يا رسول الله! إنه يقاتل العدو قتالاً وقتالاً وظلوا يصفون قتاله، قال: (والله إني لأراه من أهل النار).
فهم يرونه فيما يبدو لهم من أهل الجنة، وهو يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو لهم، وفيما اطلعوا عليه، ولكن الذي لم يطلعوا عليه أطلع الله عز وجل عليه نبيه، فقال: (والله إني لأراه من أهل النار، فقال رجل: أرمق الرجل)، يعني: سأنظر ماذا يعمل؛ لأنهم رأوه من أهل الجنة والنبي صلى الله عليه وسلم رآه من أهل النار، ولا بد أنه من أهل النار، فأراد أن يتعرف حقيقة هذا الرجل، فظل يتتبعه، إذا أسرع أسرع خلفه، وإذا وقف وقف، يرمقه من قريب ومن بعيد، حتى أصيب هذا الرجل بسهم فلم يصبر عليه، فوضع ذبابة سيفه في بطنه واتكأ عليه فخرج من ظهره فمات، أي: قتل نفسه، فأتى هذا الرجل الذي كان يتتبعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! الرجل الذي قلنا فيه كذا وقلت فيه كذا قد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله).(48/7)
حكم الجزم لأحد بجنة أو نار
ونحن مأمورون بحسن الظن، فنقول: هذا الرجل يعمل عملاً صالحاً، ولا نزكيه على الله، وهذا الرجل نحسبه من الصالحين، ولا نزكيه على الله، والله تعالى هو الذي يعلم عباده وما هم إليه صائرون، إلى الجنة أم إلى النار، ولا نقطع لأحد بشيء، وهذا أصل من أصول اعتقاد أهل السنة، فلا نقطع لأحد قط بجنة ولا نار إلا إذا قطع له القرآن أو قطعت له السنة، وينبغي أن يعقد الإجماع على ذلك، وما دون ذلك فلا.
ومن الأخطاء الفادحة كذلك أن نقول: فلان شهيد، ومعنى هذا أننا نشهد له بالجنة ولكن من طرف خفي، والأصل أن نقول: فلان نحسبه عند الله شهيداً، أو نسأل الله أن يتقبله من الشهداء، وأما شهيد فلا، فكلمة شهيد قطع له بالجنة، وهذا ممتنع في عقيدة أهل الحق وأهل السنة والجماعة، ونرجو الله تعالى أن يتقبله شهيداً، وأن يكون من الشهداء.
ويجوز أن نقول: شهداء أحد، وشهداء بدر، وشهداء اليرموك، وشهداء أي حرب على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل لكل أحد، وإن كان حتى هذه الجزئية فيها نزاع، أي: إطلاق الشهادة العامة.
(وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة)، أي: يختم له بعمل أهل الجنة، ولكن لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل.(48/8)
بيان تقدير الله لأعمال العباد
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا نبي الله! أرأيت ما نعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نستقبله استقبالاً)، يعني: هذه الأعمال التي نعملها أهي مكتوبة عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ أم لا؟ وقد قسم الله خلقه إلى الجنة والنار، وهذا أمر معلوم لا خلاف عليه ولا مناص منه.
(قال: بل لأمر قد فرغ منه)، يعني: إنك تعمل لأمر قد فرغ منه، وجفت عليه الأقلام وطويت الصحف.
(قال: ففيم العمل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كل لا ينال إلا بالعمل، أما من كان من أهل الشقاء فلا يشقى إلا بالعمل، وأما من كان من أهل الجنة فلا يدخل الجنة إلا بالعمل) فالعمل سبب.
قال عمر: (إذاً: نجتهد)، يعني: إذا كان دخول النار والجنة متعلق بالعمل فلا بد أن نجتهد في العمل الذي ندخل به الجنة.
قال: [وعن ابن عمر عن أبيه قال: (قال يا رسول الله! أرأيت ما نعمل فيه أفي أمر قد فرغ منه أو أمر مبتدأ أو مبتدع؟ -وقوله: مبتدأ يعني: سيطول- فقال: لا، في أمر قد فرغ منه، اعمل يا ابن الخطاب! فكل ميسر، من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء).
وعن هشام بن حكيم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ابتدئت الأعمال أم قد قضي القضاء؟ -يعني: هل الله تعالى يكتب لنا أعمالنا إذا عملناها أم أنه قد كتبها قبل أن نعملها وفرغ منها وانتهى بها القضاء؟ - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه -أي: ثم وضعهم في كفيه- ثم قال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار)].
يعني: قسم عباده إلى قسمين: أحدهما إلى الجنة والآخر إلى النار، فأهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ييسرون لعمل أهل النار.(48/9)
كتابة الله عز وجل لأهل الجنة وأهل النار
وفي السنن ومسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وفي يده كتابان فقال: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم)، أي: جمل أفراده وجمعت وكملت عن آخره، فلا يتطرق إليهم زيادة ولا نقصان.
(ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)، أي: الكتاب الأول الذي هو اللوح المحفوظ، وهذا الكتاب كتاب محسوس، وكل النصوص الواردة تبين أن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون معنى أو مجازاً، وإنما هو كتاب محسوس.
قال: (وقال: هذا كتاب أهل النار)، أي: الكتاب الثاني، (بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد ولا ينقص منهم أبداً، فقال أصحابه: يا رسول الله! إذاً: فيم العمل إن كان أمراً قد فرغ منه، فقال: سددوا وقاربوا).
وسددوا أي: ابلغوا بأعمالكم درجة السداد والصلاح، فإن عجزتم فلا أقل من أن تقتربوا من هذه الدرجة، فكأنه يقول: اعملوا بعمل الطاعة ما أمكنكم ذلك حتى تبلغوا كمال الطاعة وتمامها، فإن لم تبلغوا كمال الطاعة فلا أقل من أن تقتربوا من الكمال.
هذا معنى (سددوا وقاربوا)، أي: سددوا في أعمالكم إلى درجة الكمال، فإن لم توفقوا إلى الكمال فلا أقل من أن تقاربوا الكمال.
قال: (فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال بيده فنبذها)، أي: ثم إنه عليه الصلاة والسلام ألقى الكتابين اللذين كانا في يديه مكتوب فيها أهل الجنة وأهل النار.
ثم قال: (فرغ ربكم من العباد)، أي: من كتابة من كان من أهل الجنة ومن كان من أهل النار من العباد.
(فقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]).
قال: [وعن ابن عباس قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع ناساً يذكرون القدر -يعني: يجادلون فيما يتعلق بالقدر، والقدر ممنوع الخوض فيه- فقال: إنكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغور)، يعني: إنكم تتكلمون في مسألة ربما تؤدي بكم إلى جهنم؛ لأن القدر هو سر الله تعالى في خلقه، ولا يحل لأحد أن يتكلم فيه، ولا يخوض فيه.
قال: [(فيهما أهلك أهل الكتاب)]، يعني: بسبب الكلام في القدر أهلك الله تعالى أهل الكتاب؛ لأنه حرم عليهم أن يتكلموا في القدر فتكلموا.
(ولقد أخرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً كتاباً فقال: هذا كتاب من الرحمن الرحيم، فيه تسمية أهل النار بأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمل على آخرهم، لا ينقص منهم شيء، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، ثم أخرج كتاباً آخر فقرأ عليهم: هذا كتاب من الرحمن الرحيم، فيه تسمية أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، مجمل على آخرهم، لا ينقص منهم، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]).
فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج وفي يده كتابان فقرأهما عليهم وهم يسمعونهما منه ثم نبذهما عليه الصلاة والسلام، ولا يصح المجاز في مثل هذا، فهما كتابان حقيقيان محسوسان، فيهما أسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار وأسماء قبائلهم وآبائهم وعشائرهم، والنبي قرأ عليهم مقدمة الكتابين، وفيهما: (هذا كتاب من الرحمن الرحيم، فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم)، وتوقف عند هذا، ثم قال: (وهذا كتاب أهل النار من الرحمن الرحيم، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وقبائلهم)، ثم توقف عليه الصلاة والسلام ولم يقرأ الأسماء؛ لأن النصوص لم ترد بقراءة الأسماء.
وهذا يفيد أن الله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا أدخل عبداً من عباده الجنة فبرحمته وفضله، وإذا أدخل منهم أحداً النار فبعدله غير ظالم له.
والجنة والنار مخلوقتان الآن، ومالكهما هو الله عز وجل، فهو مالك الجنة ومالك النار، فهو عز وجل الذي خلقهما، وهما ملكه، وهؤلاء العباد عبيده، فإذا شاء أن يدخل بعض عباده الجنة فعل، وإذا شاء أن يدخل بعض عباده النار فعل، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى.
هذا مجمل الباب.(48/10)
باب الإيمان بأن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهورهم فجعلهم فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير
قال: [باب: الإيمان بأن الله عز وجل أخذ ذرية آدم من ظهورهم فجعلهم فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير.
عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله عز وجل آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى -أي: أن الكتف المضروب هو كتف آدم- فأخرج ذرية بيضاً كأنهم الذر، والذر هو صغار النمل، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم أو الحمم -أي: كأنهم قطع فحم من سوادهم- فقال للتي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للتي في يساره إلى النار ولا أبالي)].
ففي الآية قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172]، وهذا الحديث يقول: خلق الله عز وجل آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى ثم ضرب كتفه اليسرى، فأخرج جميع الذرية التي تكون إلى قيام الساعة، فلا بد أن هناك استخراجان، استخراج من آدم واستخراج من ذرية آدم.(48/11)
خلق الله لآدم من جميع الأرض
قال: [وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض)] أي: من جميع تراب الأرض، وتراب الأرض منه الأبيض والأسود والأحمر والأخضر وغير ذلك.
قال: [(فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض والسهل والحزن -وهو الصعب- وبين ذلك، والخبيث والطيب)]، إذ إن من الأرض أراض طيبة، ومنها أراض خبيثة، كما جاء في القرآن الكريم: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58].(48/12)
إخراج الله لذرية آدم من ظهره
قال: [وعن ابن عباس قال: (مسح الله ظهر آدم عليه السلام فأخرج في يمينه كل طيب، وأخرج في يده الأخرى كل حبيت)]، وهي يمين أيضاً كما في الحديث: (وكلتا يديه يمين).
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم والذي فيه أن اليد الأخرى لله هي الشمال فحديث شاذ، وإن كان في صحيح مسلم.
وهذا الحديث عن ابن عباس له حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه مستحيل أن يعلم ابن عباس ذلك من نفسه، إنما لا بد أن يكون سمعه من المعصوم عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا أمر لا يصح فيه الاجتهاد، فليس لـ ابن عباس أن يجتهد ليقول: إن الله مسح على ظهر آدم أو على كتف آدم وأخرج الذرية، ولا يمكن أن يقول هذا إلا إذا كان عنده خبر من المعصوم، ولكنه كسل أو فتر أن يذكر أنه سمع ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي يسميه العلماء موقوف في حكم المرفوع.
قال: [وقال أبو بكر ورضي الله عنه: (خلق الله الخلق فكانوا قبضتين، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي، فذهبتا إلى يوم القيامة)]، يعني: هذا قضاء مبرم من الله عز وجل، فقد خلق الخلق وقسمهم فريقين، فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، وهذا قضاء مبرم من الله عز وجل، وليس لأحد أن ينفك عنه، فمهما عمل صاحب الجنة بعمل أهل النار فإنه لا بد أن تدركه التوبة فيعمل قبل الموت بعمل أهل الجنة، ومهما عمل الإنسان بعمل أهل الجنة فإنه إذا كان قد قضي له قبل أن يخلق الله الخلق بأنه من أهل النار فلا بد أن يختم له بعمل أهل النار ويدخلها.
قال: [وعن ابن عباس قال: (لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام أخذ ميثاقه وأخرج من ظهره ذريته كهيئة الذر -أي: أخرج الذرية من ظهر آدم كما لو كانوا كالنمل- وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم التي تصيبهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا)].
فهذه شهادة منهم بربوبية الله عز وجل.
قال: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه في قول الله تعالى: ({وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] قال: جمعهم جميعاً فجعلهم أزواجاً، ذكراناً وإناثاً ثم صورهم ثم استنطقهم -يعني: طلب منهم أن يتكلموا- فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على ذلك أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، قالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، قال: فإني سأرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا برسلي وصدقوا بوعدي، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي قال: فأخذ عهدهم وميثاقهم، ثم رفع أباهم آدم عليهم -أي: أظهر لهم أباهم آدم فوقهم- فنظر إليهم، فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب! لو شئت سويت بين عبادك) أي: فلا يكون هذا أسود وهذا أبيض، وهذا حسن الصورة وهذا قبيح الصورة وغير ذلك.
قال: [(فقال الله عز وجل: إني أحببت أن أشكر)]، فاختلاف الناس يؤدي إلى الشكر، فلو أنك رأيت رجلاً دميماً فإنك تقول: اللهم لك الحمد أن عافيتني من هذه الصورة، ولك الحمد أن حسنت خلقي، فهذا باب من أبواب الشكر.
قال: [(والأنبياء فيهم يومئذ مثل السرج)]، يعني: ظهر الأنبياء في وسط هذا الذر كما لو أنهم مصابيح هداية وإنارة لهذا الظلام، وهم كذلك.
قال: [وقد خصوا بميثاق آخر للرسالة أن يبلغوها، قال: فهو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7]]، أي: أخذ الله تعالى من النبيين ميثاقاً آخر غير الميثاق الذي هو اعتراف الربوبية، بل هو ميثاق خاص بالأنبياء، وهذا الميثاق هو تبليغ الرسالة.
قال: [(وهو قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]، وقوله: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102]-وهم عامة الذر- قال: وذلك قوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة:7]-أي الأولى- {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة:7]-أي: الذي أخذه عليكم من ظهر أبيكم آدم- فكان في علم الله يومئذ من يكذبه ومن يصدقه- يعني: كان في علم الله لما كنا ذراً في ظهر آدم وقبل ذلك وقبل أن يخلق الله آدم من يع(48/13)
الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم
قال: [قال ابن عباس: ({وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ} [الأعراف:172]، قال: خلق الله آدم فأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم).
وعن أبي نعامة السعدي: قال: كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله وأثنينا عليه ودعوناه، قال: فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره -يعني: يقول له: والله أنا مرتاح من الميثاق الذي أخذه الله علي؛ لأني مطمئن أنني أقررت بين يدي الله عز وجل في اللحظة التي أخرجني فيها من صلب آدم أن الله تعالى ربي- لأنني لا أعلم ماذا سيختم لي، هل أنا من أهل الجنة أو من أهل النار -يعني: أنه خائف من المستقبل- فقال أبو عثمان النهدي: ثبتك الله -أي: ثبتك الله على الميثاق الأول، الذي أنت أشد فرحاً به من آخره- قال أبو عثمان النهدي: كنا عند سلمان الفارسي فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه، فقلت -أي: أبو عثمان النهدي -: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره -يعني: نفس الذي قلته أنت أنا قلته- فقال لي سلمان: ثبتك الله -أي: فدعوت لك بما دعا لي به سلمان - إن الله عز وجل لما خلق آدم عليه السلام مسح ظهره فأخذ من ظهره كهيئة الذر إلى يوم القيامة، أي: ما هو خالق إلى يوم القيامة، فخلق الله الذكر والأنثى والشقوة والسعادة، والأرزاق والآجال والألوان، فمن علم الله منه الخير فعلى الخير ومجالس الخير -يعني: سيعيش ويحيا على فعل الخير ومجالس الخير- ومن علم منه الشقوة فعلى الشر ومجالس الشر]، يعني: هذا أمر قد فرغ منه.
وقد كنا نستأنس جداً ببعض طلاب العلم، ثم بعد أن طلبوا العلم تركوا صلاة الجماعة، ثم تركوا الصلاة بالكلية، ثم ماتوا على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية.
وكانوا من أنبل طلاب العلم، ولكن هذا حدث.
قال: [وعن أبي صالح: أن الله عز وجل خلق السماوات والأرض وخلق الجنة وخلق النار، وخلق آدم، ثم نشر ذريته -أي: أخرج ذريته من صلب آدم أو من كتفه في كفه سبحانه وتعالى- ثم أفضى بهما -أي: بسط بهما يداه- ثم قال: هؤلاء لهذه ولا أبالي -أي: للجنة- وهؤلاء لهذه ولا أبالي -أي: للنار- وكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون، ثم طوي الكتاب ورفع]، بمعنى: أنه لا يزاد فيه ولا ينقص منه، ورفع فهو عند الله تعالى تحت العرش، وهذا هو اللوح المحفوظ والكتاب المكنون.
وهذان البابان متعلقان بمسألة واحدة، وهي مسألة أن الله تبارك وتعالى له عاقبة الأمور، وأن الخلق جميعاً خلقه، فمن شاء خلقه للجنة ومن شاء خلقه للنار، ومن قضى الله تعالى عليه بالنار فسيعمل بعمل أهل النار حتى يموت على ذلك ويدخل النار، ومن قضى الله تعالى له بالجنة فسيعمل بعمل أهل الجنة حتى وإن عمل بخلاف ذلك ابتداء، وسيختم له بعمل أهل الجنة حتى يموت على ذلك ويدخل الجنة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الأعمال بالخواتيم).
نسأل الله تعالى أن يختم لنا ولكم بخاتمة السعادة أجمعين.(48/14)
الأسئلة(48/15)
الأصل في العبادة وثمرتها
السؤال
هل الصحيح أن نعبد الله تعالى من أجل الجنة والهرب من النار، أم ينبغي أن نعبده مخلصين لوجهه الكريم دون طلب هذين المطلبين؟
الجواب
الجنة ثمرة الطاعة، وأصل العبادة أنها لوجه الله تعالى، والغاية العظمى من العبادة هي طلب رضوان الله عز وجل، والمكافأة هي الجنة.(48/16)
ما تقوم به الحجة على الإنسان
السؤال
هل شهادة الإنسان وهو ذر هي التي أقامت الحجة عليه فحسب، أم ثم حجج أخرى؟
الجواب
هذا بيان وإخبار من الله عز وجل ومن النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الإقرار الأول هو أول الشهادات وأول الحجج والإقرارات من بني آدم على أنفسهم أن الله تعالى هو الذي خلقهم ورباهم ورزقهم وكتب آجالهم وأعمالهم ومصائبهم وما هم إليه صائرون إلى الجنة أو إلى النار.
ثم لا بد لبني آدم أن يتذكروا ذلك، خاصة بعد خروجهم من صلب آدم بعد ذلك للتكليف والعبادة وغير ذلك، ولذلك أقام الله تعالى عليهم الحجة مرة أخرى بالرسل والكتب، وهذه الشهادة الثانية هي محل التكليف، وهي التي بعد بعث الرسل وإنزال الكتب، بدليل قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
ومنذ حوالي خمس سنوات تقريباً اكتشفوا أن هناك جزيرة من الجزر في البحر لا يعلم أهلها شيئاً قط عن الأنبياء ولا المرسلين، ولم يسمعوا بهذا، وقد بقيت الدول على مدار السنوات الماضية تعتني عناية فائقة بمعرفة لغة هذه الجزيرة التي ظهرت في البحر -وقرأت هذا بعيني رأسي- حتى يفهموهم أن هناك أنبياء ورسلاً وكذا، واجتهد في ذلك بابا الفاتيكان، واجتهد في ذلك اليهود، وتأخر المسلمون عن الاجتهاد كعادتهم.
والله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
فلا ينال الإنسان العذاب إلا إذا بلغته الرسالة، وقامت عليه الحجة الرسالية الإيمانية.
وقيمة الإقرار الأول أنه إقرار بالربوبية، وأن الله تعالى هو الذي خلق الخلق ورباهم ورزقهم وكتب آجالهم وأعمالهم وغير ذلك.
وأما الإقرار الثاني فلا يكون إلا بعد التكليف وإرسال الرسل، واليوم أصحاب جماعة التكفير يقولون: الولد الصغير مكلف، ولا بد أن يعمل الخير وينتهي عن الشر، ويأتون إلى الطفل الرضيع ويطالبونه بذلك، ويعتمدون في هذا على الميثاق الأول، ولم يعلموا أن الميثاق الأول إقرار بالربوبية، وقد قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، أي: أنا الذي خلقتكم؟ قالوا: بلى، فهذا إقرار بالربوبية، فقد عرفوا أن لهذا الكون رباً، ولكن التكليف الذي يئول بصاحبه إلى الجنة أو إلى النار لا يقوم إلا بالرسل والكتب.(48/17)
سبب نبذ الرسول صلى الله عليه وسلم للكتابين اللذين فيهما أسماء أهل الجنة وأهل النار
السؤال
لماذا نبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابين من يديه؟ هل اختفيا أم ماذا حدث؟
الجواب
لقد أدركت أن سؤالاً سيوجه إلي بهذا الشكل، ولكني لم أشغل نفسي بهذا، وما قرأت أو سمعت أن أحداً من أهل العلم شغل نفسه بهذا.(48/18)
تقييم كتاب تربية الأولاد للشيخ عبد الله علوان
السؤال
ما رأيكم في كتاب تربية الأولاد للشيخ عبد الله علوان، وما هي الكتب المهتمة بهذا الموضوع؟
الجواب
الكتاب في مجمله كتاب جيد، لولا أن الشيخ جعل الأسوة والقدوة في أقطاب الصوفية، يعني: أن الشيخ دائماً يذكر النكتة التربوية ويقول: وقائل هذا الكلام أو صاحب هذه الفائدة فلان الفلاني، فإنه كان قدوة، وغير ذلك، ويثني على أهل البدع.
فلو أن السائل تغاضى عن هذه الجزئية لانتفع بالكتاب، ولو أنه علم من نفسه أنه سيفتن بأصحاب البدع فالأفضل أن لا يقرأ في هذا الكتاب ولا ينظر فيه.
وأنا في الحقيقة ليس عندي عناية بهذا الباب، وليس عندي معرفة بالكتب التي تتحدث عنه.(48/19)
حكم صرف الصدقة في طباعة الكتب
السؤال
هل يجوز صرف الصدقة في طباعة كتيبات يتم نشرها وتوزيعها أم الأفضل التصدق بالمال؟
الجواب
هذا من الصدقات الجارية.(48/20)
بعض المخالفات التي تقع أثناء الخطبة
السؤال
ما هي الضوابط الشرعية لرؤية الخاطب مخطوبته، وما الذي يباح له أن يراه من المخطوبة، وبعد أن يراها ماذا عليه أن يفعل؟ وهل يصلي صلاة الاستخارة فحسب، وهل للاستخارة مدة معينة أم يكفي مرة فيها أو مرتان أو ثلاث؟ وكيف يفعل إذا لم تقع المخطوبة في قلبه؟ وكيف يفعل إذا لم يحس بشيء في قلبه؟ أرجو الاهتمام بالرد المفصل؟
الجواب
سنرد رداً مجملاً، فالسلف رضي الله عنهم ما كانوا يفعلون هذا الذي نفعله، فالواحد اليوم يذهب إلى ولي المرأة ويقول له: سمعت أن لك بنتاً وأريد أن أتزوجها، ثم تخرج البنت ومعها كشف أسئلة، وهو يأتي بكشف أسئلة، ثم يطرح كل واحد أسئلته ثم يتعاركان في الإجابات، ثم تقول له: أنت تحفظ القرآن كله وأنا لا أحفظه، وهو يقول: أنا لست حافظاً للقرآن، فتقول له: إذاً أنت لا تصلح أن تكون زوجاً؛ لأن في مذهبنا أنه لا يصح الزواج من رجل إلا إذا كان حافظاً للقرآن، وهذا الكلام لا يستند إلى أي كتاب، فضلاً أن يستند إلى كتاب الله أو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل باطل باطل).
يعني: أن الذي ليس حافظاً للقرآن الكريم سيضيع ولن يتزوج، وسيذهب يزني ويفجر، ثم تقول له: اذهب إلى الشيخ، فيقول لها: أنا سأخطبك من أبيك ووليك، فتقول له: ولاية أبي بعد ولاية الشيخ، ثم بعد أن يتم شبه اتفاق على الأسئلة والأجوبة يقول لها: اخلعي النقاب من أجل أن أنظر إليك، فتخلعه، وكل هذا لم يكن يفعله السلف، وإنما كانوا من أراد أن ينكح منهم امرأة اختبأ لها حتى يرى منها ما يسره، وفي الحديث قال محمد بن مسلمة: (يا رسول الله! إني نكحت امرأة، قال: أرأيتها؟ قال: لا، قال: اذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئاً)، وفي رواية: (فإن في أعين الأنصار صفراً).
والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه أحب أن يتزوج امرأة فاختبأ لها حتى رأى منها ما يسره.
وهل لما اختبأ المغيرة بن شعبة أو ابن مسلمة رأيا ممن يريدان الزواج بهما الوجه والكفين أم ما يظهر منهما في العادة؟ والآن من يريد الخطبة يختبئ في الشارع، وفي الحالة لن يرى منها ما يسره، وربما يرى بعض ما يسره من الطول والوزن والعرض، وكذا، لكن محل الجمال والخصوبة الوجه والكفان.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخاطب لا يرى من مخطوبته إلا الوجه والكفين فقط، وهذا الكلام ليس عليه دليل، وذهب ابن حزم مذهباً أبعد من ذلك فقال: يجردها، أي: يجردها من ملابسها.
وتصحف على بعض من نقل عن ابن حزم كلمة يجردها فجعل الدال باء، فقال: يجربها.
وذهب بعضهم إلى أنه يرى منها ما يظهر عادة، يعني: يرى منها كما ترى أنت من أمك وأختك، والذي يظهر من المرأة في العادة إذا كانت لابسة في بيتها ملابس محتشمة الرأس والوجه وشيء من الرقبة وشيء من الصدر وشيء من الساق والقدم والذراع.
وهذا الرأي الثالث هو أرجح الأقوال التي تشهد له الأدلة.
قال: (اذهب فانظر إليها؛ فإنه عسى أن يؤدم بينكما)، أو (اذهب فانظر إلى ما يسرك منها؛ فإنه عسى -أو حري- أن يؤدم بينكما)، يعني: يديم بينكما العشرة، ففي هذه الحالة إذا وقعت في قلبه استخار، ثم انطلق للخطوبة.
والمسألة الآن صار يحكمها العرف أكثر؛ لأن الاختباء صار مسألة صعبة؛ لأنها أول ما تدخل البيت تغلق النوافذ والأبواب فكيف سيراها؟ وعلى هذا يلزم الخاطب استئجار شقة مقابلة لشقتها، ثم يفتح نافذة شقته فتحة صغيرة، وينتظر سنة أو سنتين أو ثلاث حتى تغلط وتفتح النافذة ويراها، وحتى تأتي هذه اللحظة تكون قد خطبت لشخص آخر، فهذه مسألة صعبة جداً، ولذلك ألف العرف أن من أراد أن يعقد على امرأة أو ينكحها أو يخطبها يدخل مباشرة من الباب ويكلم أمها، ولا يجلس على النافذة، {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].
فيذهب الخاطب إلى الولي ويخطب إليه ابنته، ويجلس معها في حضور وليها وينظر إليها.
وهناك من يظل ينظر طول الوقت، وهناك من هو حيي جداً كالعذراء في خدرها، فأول ما تدخل بالنقاب يطرق بوجهه إلى الأرض، ثم يخرج بعد ساعة وما رآها، بل حتى لا يعرف ما كانت تلبس، فهو لم يرها أبداً.
وعدد مرات النظر التي يجوز للخاطب فيها أن يرى مخطوبته ليست محدودة بحد في النصوص، بل يراها حتى تقع في قلبه أو ينصرف عنها، ثم إذا انصرف عنها لم يحل له أن يراها مرة أخرى؛ لأنه قد تركها، وقد قطع وجزم بأنه لن يتزوجها، وكذلك لو رآها في المرة الأولى ووقعت في قلبه وسر برؤيتها فلا يراها الثانية حتى يعقد عليها، ولو تردد أهي جميلة أم قبيحة، أو بينهما؟ ويرى أنه لو نظر إليها مرة ثانية أنه قد يتأكد فلا بأس أن يرجع مرة ثانية وثالثة ورابعة وأكثر من ذلك، ما دام أنه متعلق بها ولم يتحقق من رؤيتها.(48/21)
حكم الصلاة في مكان فيه نصارى
السؤال
هل تجوز الصلاة في مكان فيه امرأة نصرانية، حيث إني أعمل في جهة حكومية يوجد فيها بعض النصرانيات؟
الجواب
يجوز لك أن تصلي في الكنيسة، ومن باب أولى أن تصلي في مكان فيه نصارى رجالاً كانوا أو نساءً.(48/22)
الحالة التي أجاز فيها شيخ الإسلام ابن تيمية التخلي عن الهدي الظاهر
السؤال
هل صحيح أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم: إنه يجوز التخلي عن الهدي الظاهر، أي: مثل اللحية في مثل هذه الأيام؟
الجواب
شيخ الإسلام ابن تيمية قال في اقتضاء الصراط المستقيم: وإذا كان المسلم في بلد من بلاد الحرب -أي: من بلاد الكفار المحاربين- وخشي على دينه وخشي الفتنة على نفسه وأمن ذلك بالتخلي عن الهدي الظاهر فله ذلك، وإلا فلا.
ولكنه شرط أن يسارع في الخروج من هذه البلاء، وشيخ الإسلام ابن تيمية لم يقل: إنه يجوز للمسلم التخلي عن الهدي الظاهر لمصلحة الدعوة، ولم يثبت عنه ذلك أبداً، ثم ما هي هذه الدعوة التي تجعل صاحبها يلبس الجنز والكرفتة والقميص المضغوط والبنطلون المضغوط، ويلبس سلسلة ذهب ويمشي مغلوباً على أمره في الشارع؟ ومن الذي سيقبل هذه الدعوة؟ ثم ما الذي يحملنا على ترك الهدي الظاهر والدعوة -والحمد لله- قائمة، ونحن الآن مجتمعون ومتمسكون بالهدي الظاهر، نسأل الله تعالى أن يصلح بواطننا.(48/23)
معنى إسباغ الوضوء على المكاره
السؤال
ما معنى إسباغ الوضوء على المكاره؟
الجواب
المكاره مثل أوقات البرد، فالشخص عندما يقوم من النوم من تحت اللحاف الدافئ في البرد القارس من أجل أن يصلي الفجر، ويتوضأ بالماء البارد فإن هذا مكروه عنده، وكذلك عندما يلبس ويخرج إلى المسجد فإن هذا مكروه عنده، وهذا هو معنى إسباغ الوضوء على المكاره، أي: في الأوقات التي يكره فيها المرء هذا، فإذا ضغط على نفسه وأدى هذه المستحبات أو الواجبات الشرعية فلا شك أن هذا أعظم أنواع إسباغ الوضوء، وليس معنى الإسباغ أن تغسل الأعضاء مرتين أو ثلاثاً، أو أن تسبح في الماء، أو تغسل وجهك وتدلكه تدليكاً جيداً، ولا أن يهرب من هذا الماء البارد، بل يتوضأ كما كان يتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: يغسل الأعضاء ثلاثاً، ولا يقل: أغسلها مرة فقط؛ لأن فرض الوضوء مرة واحدة، والإمام أحمد بن حنبل كان إذا توضأ لا يبل الأرض، يعني: أنه كان يتوضأ بنصف الكوب، وهذا الماء البارد لن يؤثر فيه، وستبقى حرارة بدنه في بدنه، فالمقصود بإسباغ الوضوء أن يتوضأ على السنة ثلاثاً ثلاثاً في وقت يكره فيه هذا الماء البارد.(48/24)
معنى حديث: (لا تأتوا نساءكم مثل البهائم)
السؤال
هل هذا حديث: (لا تأتوا نساءكم مثل البهائم)؟
الجواب
نعم، هذا حديث أخرجه ابن ماجة قال: (إذا أتى أحدكم امرأته فلا يقع عليها كما تقع البهائم)، يعني: بل يروضها ويداعبها حتى تتهيأ للوقاع والجماع، ولا يقع عليها كما يقع الذكران من البهائم على الإناث.(48/25)
حكم استعمال الأدوية المعينة على الاستمتاع بالزوجة
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يأخذ وسائل خارجية للاستمتاع بزوجته؟
الجواب
نعم يجوز له ذلك، وهو باب من أبواب العلاج والطب.(48/26)
حكم أخذ الولي دية قتيله الذي توفي بحادث سيارة
السؤال
توفي بعض الناس في حادث سيارة، وأصيب البعض الآخر فأخذوا تعويضاً على ذلك، فهل هذا التعويض حرام أم حلال؟
الجواب
هذا التعويض حلال، وقد سماه الشرع دية، والمصريون لا يأخذون تعويضاً، مع أن هذا دين وشرع.(48/27)
طلب العلم والزواج، وأهمية التربية
السؤال
أنا رجل خاطب وأريد أن أرحل لطلب العلم ولا أستطيع أن أطلبه الآن؛ لأن عملي يتعارض مع طلب العلم، فهل أترك خطيبتي وعملي وأرحل، أم أنتظر حتى أتزوج، أم بماذا تنصحني؟ علماً بأن أهلي يرفضون ذلك، وجزاكم الله خيراًًَ.
الجواب
أنت عملت مثل الذي يقول لامرأته: أنت طالق على مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل حتى على مذهب جمال عبد الناصر، فإذا حللها أحد حرمها الآخر، فأنت قد أغلقت المسألة من كل ناحية، وتريدني أن أحلها لك، وأنا أنصحك أن تعيش حياتك بالطريقة التي تحلو لك، وأن تحافظ على دينك حتى وإن لم تطلب العلم، وهؤلاء الإخوة -ما شاء الله- متزوجون، ولهم آباء وأجداد، ولا يعطلهم ذلك عن طلب العلم.
وقد ثبت عن سفيان الثوري أنه قال: إذا تزوج الرجل فقد ركب البحر، فإذا ولد له فقد غرق، وهذه حقيقة فعلاً، وإبراهيم النخعي لم يتزوج ولم يكن له ولد، فقيل له: إنك تقوم الليل وتقرأ القرآن، فقال: والله إن بعض الهم الذي يقع بأحدكم على ولده لهو أحب إلى الله تعالى من عبادة مائة عام، يعني: أن تربية الأولاد رسالة عظيمة جداً.
ونحن عندما نتكلم عن عظيم من عظماء التاريخ الإسلامي سنجد أن أول من رباه أمه وأباه، فالذي يبدأ التربية هما الأب والأم، ولا شك أنهما لو ربيا ولدهما على غرس الفضائل وترك الرذائل فتربى ونشأ وترعرع في هذا الجو الطيب مع طلب العلم وحفظ المتون وغير ذلك، وجمع إلى أصالة المنبت العلم الشرعي رجي خيره للأمة كلها بعد ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الولد مبخلة مجبنة مجهلة).
فالولد مبخلة يعني: إذا أراد أن يتصدق قال: لا أولادي أولى، وهم مجبنة، فإذا أراد أن يتكلم كلمة الحق يقول: أخاف أن أذهب إلى السجن وأترك أولادي، فيجبن عن قولها، وهم مجهلة؛ لأنهم يصرفونه عن طلب العلم.
ولما ولد ولدي الأول أحسست بأن حياتي كلها ضاعت، وما فرحت به كما يفرح الأب بأبنائه؛ لأني شعرت أن هذا الولد فتنني وصرفني تماماً عن كتبي ومكتبتي، ولما جاء الثاني والثالث والرابع تعودت على هذا.(48/28)
حكم من أدرك الإمام وهو راكع
السؤال
دخلت صلاة الجماعة وهم في الركوع وقلت: سبحان ربي العظيم ثلاثاً فهل تحسب لي ركعة كاملة أم أعيدها؟
الجواب
هذه من مسائل النزاع بين أهل العلم، فجمهور العلماء يرى أن من أدرك الركوع أدرك الركعة، والبعض يقول: من أدرك الركوع لم يدرك الركعة لركنية الفاتحة.
وهذه المسألة من أعوص المسائل الخلافية بين أهل العلم، فلا تجد أحداً يذهب إلى احتسابها ركعة إلا وكان يذهب مذهباً آخر غير ذلك قبل ذلك، والعكس بالعكس، فهذه من مسائل الخلاف، وقد تسألني عنها اليوم فأقول لك: هي ركعة، وتسألني عنها غداً فأقول لك: لا ليست بركعة، فإن شئت فخذ بهذا، وقد أخذ بهذا وذاك كثير من أهل العلم.(48/29)
حكم العمليات الفدائية
السؤال
هل العمليات الفدائية عمليات استشهادية؟
الجواب
الذي يترجح لدي أنها كذلك، والأحكام الشرعية لا تؤخذ بالعاطفة.(48/30)
حكم البيع والشراء مع اليهود والنصارى
السؤال
يقول: أنت من واقع عاطفتك جوزت التعامل بيعاً وشراءً مع اليهود والنصارى، وهذا محرم شرعاً، فما رأيك؟
الجواب
التعامل مع اليهود والنصارى بالبيع والشراء فيما أحله الله عز وجل، إذا كان أصل البيع والشراء حلالاً فهو حلال، ولا يوجد دليل واحد يحرم التعامل مع اليهود والنصارى بيعاً وشراءً، وأنا لا أستند في ذلك إلى العاطفة، ومن زعم غير هذا فليأتني بنص واحد يحرم التعامل بيعاً وشراءً مع اليهود والنصارى.
والمؤتمر الذي عقد هنا في شهر (9) الماضي أنا كنت صاحب الفكرة في انعقاده، وكنت حريصاً جداً على الدعوة إلى مقاطعة اليهود والنصارى في كل باب من الأبواب، وهناك من يتصور أن المقاطعة تعني ألا يشرب البيبسي فقط، وإذا ذكرت المقاطعة انطلق ذهنه مباشرة إلى البيبسي، مع أن البيبسي هذا واحد من مليون سلعة غرقت فيها السوق الإسلامية والسوق العربية، ونحن نطالب بالمقاطعة من إبرة الخياطة إلى برميل البترول، فتكون المقاطعة عامة كلية، ونطالب بالمقاطعة الدولية قبل المقاطعة الفردية؛ لأن المقاطعة الدولية منفعتها أعم، فالدولة إذا قاطعت إسرائيل في منتجاتها خلت السوق من المنتجات، ولن توجد إلا المنتجات المحلية، وإذا وجدت المنتجات الأوروبية أو اليهودية أمامنا في السوق ونحن في حاجة إليها وليس هناك بديل فسنشتريها، فالمقاطعة الدولية أهم، بل هي السبيل إلى المقاطعة الفردية، وأنا طرحت هذا الأمر مراراً وبتكلف على المحاضرين في أثناء المؤتمر، وتعمدت إعادته مراراً على المحاضرين في الندوة التي كانت في آخر يوم، وتكلمت في البيان الأخير عن وجوب المقاطعة الدولية والفردية للمنتجات الأوروبية، وليس اليهودية فحسب، وأنا دعوت وتكلمت عن الحكم الشرعي فقط، ومن قال: إنني أستند إلى العاطفة فليرني نفسه، وأنا سأقول له: الثوب الذي عليه منتج يهودي أو نصراني، فهو لا يعجبه إلا الجلابية الأصيلة والدفة، ولازم تكون آتية من اليابان، ولو كانت أمامه صناعة سعودية ويابانية لاختار اليابانية؛ لأن اليابان لا تصنع شيئاً رديئاً، والعرب كلهم صناعاتهم رديئة، والسيارة التي يركبها هذه صناعة ألمانية أو أمريكية أو غير ذلك.
فنحن معذورون ومجبورون أن نشتري هذه الحاجات؛ لأنها لا بديل لها، هذا إضافة إلى الاستهتار التام في الصناعات العربية والإسلامية، وغلائها كذلك، فأنت قد تشتري قطعة الغيار المصرية بمائة جنيه، والمستوردة التي هي أفضل منها بمليون مرة بثمانين جنيهاً فقط، ولو اشتريت المصري فسيخرب بعد أسبوع، وستشتريه مرة أخرى بمائة جنيه، وأجرة الاستشاري الذي يصلحها ثلاثمائة جنيه، وأنت راتبك مائتا جنيه فقط، فهناك حيثيات كثيرة جداً تبيح للمسلم أن يتعامل مع اليهود والنصارى بيعاً وشراءً.
والشيخ أحمد المحلاوي حفظه الله كان سنة (1981م) في الجمعية الشرائية في المنصورة، وتكلم عن وجوب مقاطعة اليهود والنصارى في منتجاتهم، وقال: نصرة الإسلام وهزيمة الصليب واجبة أم لا؟ قلنا: نعم واجبة، قال: لا يكون ذلك إلا بالمقاطعة.
وهذه نظرة رائعة وبعيدة جداً، ولكنها لم تتم في الوقت، وكان هذا قبل عشرين سنة، أو ثنتين وعشرين سنة، ولم تكن السوق الإسلامية في ذلك الوقت قد غزيت بهذه الطريقة، ولا خاب المسلمون بهذه الطريقة، ومع هذا كان الشيخ يرى أن سبب الهزيمة التي لحقت بالمسلمين هي اعتمادهم وركونهم على السوق الأوربية، وغير ذلك.
فأنا لم أعتمد على العاطفة، ولم أدع إلى التعامل مع اليهود والنصارى بيعاً وشراءً، ولكني تكلمت عن الحكم الشرعي فيما لو تعامل معهم به رجل، فهذا لا يحرم عليه، ولا يوجد أحد يقول: يحرم.
وهناك عمال في الشركات الأوروبية أو اليهودية أو النصرانية يعملون فيها، فقد يكون مثلاً شغالاً في شركة بيبسي، ويأخذ خمسمائة جنيه في الشهر، وهو يدعو لمقاطعة البيبسي، فلا يترك الشركة، بل يستمر فيها، وإن أفلست الشركة لا يتركها إلا إن أخرجوه منها، ولو أفلست الشركة فهو المستفيد منهم، وليسوا هم المستفيدين منه.(48/31)
حكم منع الزوج زوجته من زيارة والديها أو خدمتهما
السؤال
هل يجوز للزوج منع زوجته من زيارة والديها المسنين وخدمتهما؟ وماذا تفعل الزوجة لو منع عنها زوجها أي مصروف حتى لا تتمكن من زيارة والديها؟ وهل يجوز للزوجة أن تخالف زوجها في هذا وتذهب إليهما دون موافقته؟
الجواب
هذه من الجلافة والغلظة، فأنت غداً ستكبر وتعجز، وستصبح كهلاً وتحتاج إلى من يطعمك، وقد لا تقدر أن ترفع الطعام إلى فيك، وتتمنى لو أن شخصاً من الشارع طرق الباب عليك ليطعمك، فما بالك بالوالد والوالدة وهما أعز الناس على قلب الابن أو الابنة، فما بالك تمنع الزوجة من خدمة أبويها، وكيف سيطيب خاطر المرأة وتهنأ بعيشها تحت رجل يمنعها أن تبر والديها في آخر أيامهما؟ فهذا باب عظيم جداً من أبواب الفساد في العلاقات الزوجية بين الرجل وامرأته، ويلزم هذا الأخ لزوماً شرعياً الإذن لزوجته بخدمة والديها، وإذا اضطر الوالدان إلى ذلك اضطراراً يهلكان بسببه إذا لم يكن لهما خادم أو خادمة إلا هذه البنت فلا بأس أن تستأذن زوجها وتخرج، أو أن تعلمه بالخروج وتخرج، كما أنه لا يحل له أن يمنعها من ذلك.(48/32)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
هل تجوز صلاة المنفرد خلف الصف، وما العمل إذا كان وحيداً خلف الصفوف؟
الجواب
إذا لم يكن له مكان في الصف المقدم جازت صلاته، وإذا كان له مكان في الصف المقدم وآثر أن يقف صفاً وحده فيجب عليه أن يعيد الصلاة.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده -أي: وله مكان في الصف- أمره بإعادة الصلاة، وقال مرة: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف).
كما أنه لا يجوز له إذا لم يجد مكاناً أن يجذب إليه رجلاً من الصف ويقف معه؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف، فالشرع قد جوز له إذا لم يجد مكاناً في الصف أن يقف وحده وصلاته صحيحة، ولا تكون باطلة وتلزمه الإعادة إلا إذا كان بإمكانه أن يلحق بالصف المقدم ولكنه آثر أن يقف وحده، فليس هناك فائدة للجذب، وليس هناك حديث صحيح في الباب.
وأما اختراق الصفوف والوقوف بجانب الإمام فهذه المسألة صعبة جداً، وإن قال بجوازها بعض أهل العلم، وتصور لو جئت إلى المسجد وفيه أربعة أو خمسة صفوف، أو عشرة أو عشرين صفاً، ولم يكن هناك مكان في الصف الأخير، فهل ستخترق هذه الصفوف كلها وتحدث خللاً من أجل أن تقف خلف الإمام؟ والذين سيأتون هل سيكون لهم نفس الحكم، وفي هذه الحالة سينشئون صفاً جديداً خلف الإمام.(48/33)
حكم استهلاك المال العام
السؤال
ما حكم استهلاك الكهرباء حتى تأتي المصلحة بالعداد؟
الجواب
تاريخ الإسلام لم يعهد استحلال المال العام إلا من جهة الخوارج، والمواصلات مال عام، والكهرباء مال عام، والمجاري مال عام، والمياه مال عام.
وقد تجد شخصاً موظفاً في الحكومة وهو في الليل والنهار ينهب ويسرق، ويقول: هذا مال عام! والمال العام أشد حرمة من المال الخاص، وهذا مذهب أهل الحق.
ومن المال العام الكهرباء، فلو قالوا لك: العداد سيأتي بعد أسبوع أو عشرة أيام وأنت في أمس الحاجة إلى الكهرباء فلا بأس أن تستأذن صاحب الكهرباء، وفي الماضي كان إذا استأذن أحدهم يقولون له: لازم عداد، والآن يقولون: سنوصلها لك وسنحسب لك اليوم بخمسة جنيهات، فاكتب طلباً وسنختم عليه، وسنحسب لك اليوم بخمسة جنيهات، وهذا مخرج جميل، وهو غال جداً، ولكن هذا في الأماكن الراقية، وأما الأماكن الشعبية فتكون بخمسين قرشاً أو بسبعين قرشاً.
ولو قلنا: إنك كعضو من أعضاء المجتمع من حقك أن تنتفع بالمنافع العامة في مقابل مال تدفعه، ولا يقبل منك المال إلا بأوراق رسمية وليس لك أوراق رسمية في هذا الوقت، وأن هذا جائز لك لتوقفنا عن هذا الجواز للمضرة التي يمكن أن تلحق بك، لو أن أحداً كشفك فستحبس، فلا ضرر ولا ضرار.
وتجد في الأعمال الحكومية وغير الحكومية الموظفين كل واحد يعد الشاي، وهذا من المسائل اليسيرة جداً، وهي من ضمن خدمات المكان، وهذا أمر يسير يتعافاه الناس فيما بينهم، وهذا مثل إذا كان عليك خمسة جنيهات ونصفاً، وأنت معك ستة جنيهات، وهو ليس معه شيء، فإذا دفعتها له وذهبت فليس هذا من باب الرشوة، ولا يكون حراماً على من أخذه إلا إذا كان عنده ما يدفع، ولكنه اعتذر بأنه ليس عنده ما يدفع؛ لأنه قاصد أخذه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أتاك مال من غير إشراف نفس منك فخذه).
وقد قال هذا لـ عمر، فالموظف الذي يأبى أن يأخذ شيئاً قليلاً أو كثيراً، ولكنه لن يقفل مكتبه أو الخزينة من أجل أن يقوم ليصرف الجنيه حتى يرد لك نصفه، وأنت في نفس الوقت تقول: أنا لا أريد النصف جنيه، فهذا من المال الطيب الذي يهبه الله تعالى بعض عباده.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(48/34)
شرح كتاب الإبانة - بيان أن الله قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض
يجب على كل مسلم الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في النصوص، هذه هي العقيدة السليمة الموافقة للكتاب والسنة وقد أنكر القدرية علم الله عز وجل بالمقادير وكتابته لها، وقالوا: إن الله لا يعلم شيئاً إلا بعد أن يكون، ولا يكتب شيئاً إلا بعد علمه به، فأنكروا بذلك مرتبتي العلم والكتابة من مراتب القدر، وهذا ضلال مبين وانحراف عظيم.(49/1)
باب الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين، ومن خالف ذلك فهو من الفرق الهالكة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب السابع: باب الإيمان بأن الله عز وجل قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين].
السماوات: جمع سماء، والأرضون: جمع أرض، وكما أن السماوات سبع فكذلك الأرضون سبع.
قال: [ومن خالف ذلك فهو من الفرق الهالكة].
أنتم تعلمون أن أهل الإسلام اختلفوا إلى فرق، وهذا قد أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
فالفرقة الناجية من بين الفرق الهالكة هي فرقة أهل السنة والجماعة، والفرق التي دون هذه الفرقة تسمى الفرق الهالكة أو الفرق الضالة، فمن قال: إن الله تعالى لم يقدر المقادير، ولم يكتب آجال العباد ولا أرزاق العباد ولا أعمال العباد ولا شقاوة العباد ولا سعادة العباد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ فهو من الفرق الهالكة الضالة.
دليل ذلك من السنة: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي أخرجه مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).
وأنتم تعلمون أن منكر مرتبة العلم ومرتبة الكتابة -وهما أعظم مرتبتين من مراتب القدر- كافر بالله العظيم، حكم جل الصحابة رضي الله عنهم بكفره، كما جاء ذلك صريحاً من حديث عبد الله بن عمر لما قيل له: إن أناساً قبلنا بالبصرة يقرءون العلم ويتقفرون القرآن، وفي رواية: ويتفقرون القرآن يقولون: لا قدر، وأن الأمر أُنف، قال: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني.
قال النووي: وهذا ظاهر في تكفيرهم.
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك من قبله الإمام النووي وغير واحد: أما منكر مرتبة العلم -أي: أن الله تعالى يعلم كل شيء كان وسيكون- ومنكر مرتبة الكتابة -أي: كتابة مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة- فإنه كافر، يقولون: منكر هاتين المرتبتين لا وجود له الآن، وكان ذلك في الأزمنة الأولى، فهذا حديث عظيم يدل على عظم المرتبة الثانية من مراتب القدر وهي مرتبة الكتابة، كتب الله تعالى ما سيكون وما كان من أمر الخليقة إلى قيام الساعة؛ كتب ذلك في اللوح المحفوظ فهو في كتاب عنده تحت العرش.(49/2)
كل عبد ميسر لما خلق له
قال: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ -هل هؤلاء معلومون وهؤلاء معلومون لله عز وجل؟ - قال: نعم.
قال: ففيم العمل؟ أو ففيم يعمل العاملون؟)] يعني: إذا كان الله تعالى قسم عباده إلى قسمين وجعل قسماً في النار والآخر في الجنة، فلم نعمل إذاً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اعملوا.
فكل ميسر لما خلق له)]، اعملوا فكل مهدي إلى ما خلقه الله تعالى لأجله، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال: [وعن أبي الأسود الدؤلي -وهو من سادات التابعين ومن أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يكدح الناس اليوم ويعملون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاتخذت عليهم به الحجة؟ قال: لا.
قلت: بل شيء قد قضي عليهم ومضى عليهم.
قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟].
عمران بن حصين يقول لـ أبي الأسود الدؤلي: العمل الذي يعمله العاملون الآن هل لأمر قد قضي ومضى وانتهى، أو لأمر سيأتي بعد ذلك قد أتاهم به نبيهم؟ قال: بل لأمر قد مضى وانتهى وكتب في اللوح المحفوظ.
قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ أي: الله تعالى أدخل ناساً النار، وأدخل ناساً الجنة قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة.
قال: فهل يا أبا الأسود! تعد ذلك ظلماً؟ قال: [ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت: إنه ليس شيء إلا وهو خلق الله وملك يده، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون]، يعني: لا يقال: إن هذا الفعل من أفعال الله تعالى ظلم، وإن كان ظاهره الظلم، لكن هذا الظاهر فيما يتعلق بأفهام العباد، لا ما يتعلق بحقيقة الأمر في علم الله عز وجل.
قال: [لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال: سددك الله، إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك]، أي: ما قلت لك هذا من باب إثبات أن هذه شبهة عندي، لكني والله ما أردت إلا أن أتأكد من صحة عقلك وقوة إيمانك.
قال: [(أن رجلاً من مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (أن رجلين من مزينة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه يا رسول الله! أشيء قضي عليهم ومضى عليهم أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاتخذت به عليهم الحجة؟ فقال: لا.
بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم)]، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بل هو شيء قد كتب في اللوح المحفوظ، وهم يعملون بمقتضى المكتوب في علم الله عز وجل.
قال: [(فلم نعمل إذاً؟)] السائلان يسألان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان هذا أمراً قد قضي علينا وانتهى الأمر به وأبرم في الكتاب، فلم نعمل إذاً؟ فقال: [(من كان خلقه الله لواحدة من إحدى المنزلتين فهو مهيئه لذلك)]، يعني: الله تعالى يهيئه ويهديه إما إلى سواء الصراط أو إلى سواء الجحيم؛ لأن الهداية على نوعين، وكذلك البشارة.
قال: [قال ابن بهية: فهو مهيئه لعملها؛ وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]]، أي: ألهمها طريق الفجور، وألهمها طريق التقوى كذلك.
إذاً: إذا ألهم الله نفساً فجورها بعد أن سواها وخلقها وقدر لها مقاديرها؛ أذن في خلق هذه النفس، وأذن له بوقوع الفجور منه باختياره هو بعد أن بين الله تبارك وتعالى له الحق من الباطل، وأنزل له الكتب وأرسل إليه الرسل، وميزه على بقية المخلوقات بالعقل، وكلفه بما لم يكلف به بقية المخلوقات، فقد قامت عليه حينئذ الحجة.
ومعنى أنه خلق للفجور: أنه قدر له أن يقع منه الفجور تقديراً كونياً قدرياً لا تقديراً شرعياً؛ لأن أعمال الطاعات إنما تقع موافقة لشرع الله عز وجل، وأعمال المعاصي والفجور إنما تقع بقدر الله تعالى، أي: تقع بقدرة الله وبإذن الله، أذن الله في وقوعها في الكون؛ لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد، فهذه المعاصي تقع بإرادة الله وبعلم الله وبخلق الله، لكن باكتساب العبد.
فمعنى أن الله تعالى أراد المعصية إرادة كونية قدرية، أي: أراد خلق المعصية وأذن في وجوبها إذناً قدرياً كونياً، وإن كان الله تعالى يكرهها ويحذر منها في الكتاب، ويحذر منها على ألسنة رسله، ويعاقب الفاعل على فعله وجرمه وفجوره، وحذر من ذلك في غير ما آية من الكتاب، وفي غير ما حديث من أحاديث رسوله عليه الصلاة والسلام، ولكن لا يكون في كون الله إلا ما أراد وقدر، وإن كان للعبد مشيئة فمشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فما شاء العبد وما أراد العبد شيئاً لا يمكن أن يكون إلا إذا أراده الله تعالى، إما إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا وموافقة الشر(49/3)
حكم اتكال العباد على المكتوب
قال: [وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجالاً قالوا: (يا رسول الله! أرأيت ما نعمل، أفي شيء قد فرغ منه، أم في شيء نستأنفه -أي: نستقبله-؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل في أمر قد فرغ منه)، كما قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أوكلما نعمل الآن كتبه الله تعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ فبلَّ إبهامه وطبع به في بطن كفه وقال: أرأيتم هذه؟ قالوا: نعم.
قال: والله إنها لمكتوبة في الكتاب قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، انظروا إلى إيمان علي بن أبي طالب وفهمه لمسألة القدر، قال: وهذا الذي فعلته أنا الآن والله إنه لمكتوب في اللوح قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
قال: [(قالوا: هل الذي نعمله قد فرغ منه أم في شيء نأتنفه؟ فقال: بل في أمر قد فرغ منه، فقالوا: فكيف بالعمل بعد القضاء؟) يعني: ما قيمة أن نعمل؟ والأمر ببساطة شديدة جداً يا إخواني! أن الله تعالى كتب أن عبده من أهل الجنة أو من أهل النار، فهذا العبد هل له علم بالمكتوب عند الله عز وجل؟ لا علم له، إذاً: المطلوب مني: أن أعمل لمصلحتي ولمنفعتي، فعملي لمصلحتي ومنفعتي هو اتباع الكتاب والسنة، لعل الله عز وجل يختم لي بالباقيات الصالحات، هذا رجائي في الله عز وجل.
إذاً: المطلوب مني أن أجد فيما ينفعني في آخرتي، أما الذي هو عند الله تعالى فلا يعلمه إلا الله، إذاً: إذا عملت عملاً صالحاً سيغلب على ظني أن الله تعالى مهد لي ويسر لي هذا حتى أحصل على الجنة بسبب العمل، وإن كان دخول الجنة ابتداءً بفضل الله عز وجل؛ لأنه مهما يعمل العاملون لا يستحقون به دخول الجنة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن العبد ليأتي يوم القيامة وكان من أبأس الناس -من الفقر والمصائب والبلايا والأمراض والتعذيب والسجون وكبت الحريات- فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا وعزتك يا رب! ما رأيت بؤساً قط) غمسة واحدة في الجنة تنسيه كل مآسي الدنيا.
وكذلك (يؤتى بأنعم أهل الدنيا -ممن كان يتنعم بالمحرمات والملذات والشهوات- فيغمس في النار غمسة واحدة، ويقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: لا وعزتك يا رب! ما رأيت نعيماً قط).
إذا كانت غمسة واحدة في الجنة تنسي العبد ما كان فيه من ضنك وجحيم وعذاب، والدنيا على أية حال سجن المؤمن وجنة الكافر.
الحافظ ابن حجر له موقف عظيم من هذا الحديث، أنتم تعلمون أن الحافظ ابن حجر كان يسكن على النيل في القاهرة فيما يسمى الآن بالمنيل، وكان قاضي القضاة في مصر، وأنتم تعلمون أن قاضي القضاة له موكب وصولجان وغير ذلك، له موقف الأبهة والعظمة، لكن ابن حجر لقيه رجل من اليهود في هذا الهملجان وهذا الصولجان، وكان اليهودي يبيع الزيت فقال: يا قاضي القضاة! أليس قد قال نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر؟ قال: بلى.
قال: أما تراني بهذا المنظر وترى نفسك بهذا الموكب، فأنت في جنة وأنا في نار؟ كأنه يزعم أن نبينا كذب في ذلك وقال غير الحق، فأنار الله تعالى بصيرة الحافظ وقال له: أنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة في جنة، وأنا بالنسبة لما أعد الله لأهل الإيمان في الآخرة في نار رغم ما ترى.
انظروا إلى هذه البصيرة، فأسلم اليهودي في الحال، فهذا كلام عجيب ونور إلهي.
فلا الحافظ ابن حجر ولا غير الحافظ ابن حجر يعلم بما يختم له؛ ولذلك قال: وأنا بالنسبة لما أعد لأهل الإيمان ولم يقل: بالنسبة لما أعد لي، وإنما قال: بالنسبة لما أعد لأهل الإيمان أنا الآن في نار؛ لأن المرء لو دخل الجنة لحظة واحدة يعلم أن هذه الدنيا مهما كان فيها من نعيم هي دار شقاء ومتاعب ومصائب وبلايا وأمراض وهموم وأحزان وغير ذلك.
فدخول الجنة برحمة الله تعالى والعمل سبب لذلك، فإذا كان العمل سبباً لسعادة سرمدية أبدية لا نهاية لها ولا انقطاع فيها فينبغي أن يعمل المرء وأن يجد ويجتهد، وإذا كان يعلم أن السعادة والشقاء بيد الله عز وجل فليتضرع ويتذلل إلى مولاه وسيده الذي يملك الشقاء والسعادة والضر والنفع أن يجعله من أهل السعادة.
لكن عندما يتكل الإنسان على المكتوب ويقول: فيم العمل إذاً؟ فهذا لا يمكن أبداً، وليس هذا ديناً، ولا حتى دين اليهود والنصارى ولا دين المجوس، فلا يصح أن يذكر هذا الكلام إنسان عاقل أبداً: نعتمد على المكتوب! وما أدراك ما المكتوب لك؟ هل أنت أيقنت لكونك مسلماً أنك من أهل الجنة، فربما خُتم لك بالردة عياذاً بالله، فدخلت النار وخُلدت فيها مع الخالدين فيها، فما أدراك بما كتب الله تعالى لك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأعمال بالخواتيم)، ويقول: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح(49/4)
حرص الصحابة على السؤال عن أمر القدر والعلم به
قال: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر -أي: بعد انتهاء غزوة بدر وهم راجعون إلى المدينة، فقال:- أنعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نأتنفه؟)]، هذا عمر يسأل النبي عليه الصلاة والسلام، وكأن أمر القدر هذا كان يشغل كل الصحابة؛ ولذلك قال: (يا رسول الله! أنعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نأتنفه)، فهذا السؤال سأله فوق العشرين صحابي للنبي عليه الصلاة والسلام، فكأن الأمر يشغلهم جداً.
قال [{فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لأمر قد فرغ منه.
قال عمر: ففيم العمل إذاً يا رسول الله؟! فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: كل ميسر لما كتب له وعليه)]، كل ميسر يعني: مهدي لما خلق له، إن كان خلق للنار فييسر لعمل النار، وإن كان خلق للجنة فييسر لعمل الجنة.
قال: [عن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه قال: (سمعت أبي يذكر أنه سمع أبا بكر الصديق رحمه الله -والأصل رضي الله عنه- وهو يقول: قلت: يا رسول الله! أنعمل على ما قد فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟)]، هذا أبو بكر يسأل، ومن قبله عمر، وقد سأل عمران بن حصين، وقد سأل غير واحد من الصحابة.
قال: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل على أمر قد فرغ منه.
قلت: ففيم العمل يا رسول الله؟! قال: كل ميسر لما خلق له).
وعن هشام بن حكيم: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنبتدئ الأعمال -أو- أتبتدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟)]، يعني: هذه الأعمال التي نعملها يا رسول الله! تبتدأ على الله عز وجل، يعني: الله تعالى لا يكتبها علينا إلا بعد أن نعملها، أم قد قضي فيها القضاء من قبل، وعلمها الله تعالى، وعلم ما العباد عاملون وما هم إليه صائرون، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ؟ وأنتم تعلمون أن القدرية كان أول ظهورهم في البصرة، فأتى بعض أهل العلم من البصرة، وقالوا: لعله يوفق لنا أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فكان الذي وفق لهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال حميد بن عبد الرحمن: فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف.
ومعنى أنف أي: مستأنف، أي: أن الله لا يعلمه حتى يقع؛ لأجل ذلك كفرهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فسلوك القدرية إنكار العلم وإنكار الكتابة، وأن الله لا يعلم شيئاً إلا بعد أن يكون، ولا يعلم ما يكتبه إلا بعد العمل، ولذلك سأل الصحابة رضي الله عنهم مراراً: (يا رسول الله! أترى ما نحن فيه من عمل، أهذا لأمر قد فرغ منه؟) يعني: أن الله عز وجل كان يعلمه قبل ذلك وكتبه، أم أن ذلك لا يُكتب إلا بعد العمل؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل أمر قد فرغ منه، ثم قال: إن الله خلق ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار).
قال: [وعن جابر بن عبد الله: أنه قال: (يا رسول الله! أنعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نأتنفه؟ فقال: بل لأمر قد فرغ منه، فقال سراقة بن مالك -وهو السائل كثيراً- يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟)]، لماذا نعمل إذا كان العمل كله لأمر قد فرغ منه؟ لأن الله تعالى ما كتبك من أهل الجنة إلا لعلمه أنك تعمل بعمل أهل الجنة، وما كتبك من أهل النار في الأزل إلا لعلمه الأزلي السابق أنك تعمل بعمل أهل النار.
ولذلك سأل شخص الحسن البصري وقال له: يا أبا سعيد! أليس ظلماً أن يقضي الله تعالى لنا بالنار قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: الجنة والنار لمن؟ قال: لله، قال: من خلقهما؟ قال: الله، قال: هل أنت خالق الجنة أو مالكها؟ قال: لا.
قال: هل أنت خالق النار أو مالكها؟ قال: لا.
فقال: المالك في دار الدنيا يدخل داره من يشاء ويصد عنها من يشاء، فلا تستغرب هذا في حق الله تعالى، فإنه يدخل من يشاء الجنة ويدخل من يشاء النار، فهو الذي خلقهما وهو المالك لهما، وهذا كلام عقلي، لكنه على أية حال كلام متين جداً يوافق معنى النصوص.
قال: [عن جابر بن عبد الله: أنه قال: (يا رسول الله! أنعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نأتنفه؟ فقال: بل لأمر قد فرغ منه، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كل امرئ ميسر لعمله)].(49/5)
حكم الاحتجاج بالقدر على المعصية
يا إخواني! لا يجوز أبداً الاحتجاج بالقدر على المعصية، إنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، أما الذنوب والمعاصي والمعايب فلا يجوز قط الاحتجاج بالقدر عليها؛ ولذلك نقول: لو أن طريقاً ممهداً معبداً سهلاً ميسوراً، وطريقاً آخر قد امتلأ بالحجارة والشوك والصعوبات، وكلا الطريقين يؤدي إلى غرض واحد، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين، فأيهما تسلك؟ فلابد أنك ستسلك الطريق المعبد.
ولو أتيت برجل مجنون فضلاً عن العاقل، وقلت له: هذان الطريقان يؤديان إلى الغرض؛ فلابد أنه سيسلك الطريق المعبد الممهد الذي لا شوك فيه ولا حجارة ولا تعثرات ولا مطبات ولا غير ذلك، فإذا كان العبد قد اختار هذا بعقله الذي هو مناط التكليف؛ فكيف تستبعدون أن يدخل الله عز وجل عبده النار بعد أن أرسل له الرسل، وأنزل عليه الكتب، وحرم عليه المحرمات وبينها له، وأحل له الحلال وبينه له، وجعل له العقل المميز لهذا وذاك، حتى ميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، فاختار بإرادته الباطل، واختار بإرادته الشر، وهو يعلم أنه في نهاية المطاف سيدخل النار.
فكيف تستبعدون دخوله النار، وقد علم الله عز وجل ذلك منه أزلاً فكتبه، وقضاه عليه؟ وليس ذلك من باب أن الله تعالى ظلمه؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً، وإنما سبق في علم الله الأزلي أن هذا العبد رغم فراغ كل حججه اختار طريق النار، فمعنى مهده له أي: يسر له ذلك، ألا تعلم أن هذه طريق النار؟ تفضل هذه طريق النار اسلكها وفي نهايتها النار، ومع هذا يتجرأ العبد على المعاصي فيسلكها، فلا غرو حينئذ أن يدخل النار.
ولذلك الله تعالى لا يظلم الناس شيئاً، أما إذا كنت تتصور أن الله تعالى خلق الخلق قبل أن يعملوا خيراً أو شراً، فقضى بأن هؤلاء العباد في الجنة، وأن هؤلاء العباد في النار بغير عمل عملوه.
لا والله، إنما قضى عليهم بذلك لعلمه الأزلي السابق أنه بعد إنزال الكتب وإرسال الرسل والتكليف بالعقل السليم يختارون طريق النار، وهؤلاء يختارون طريق الجنة، لما علم الله تعالى ذلك منهم أزلاً كتب ذلك وقضاه، وجعل هذا من أهل الجنة وذاك من أهل النار، إنما كتب الله تعالى الجنة والنار لمن استحق الجنة ولمن استحق النار؛ لما علم أن هذا العبد اختار طريق الجنة، ولما علم أن هذا العبد اختار طريق النار، لكيلا يقول قائل: مادام أن الله كتبني من أهل النار قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ فهذا يعد ظلماً، فأنت لم تعمل شيئاً صحيحاً في ذلك الوقت، لكن الله تعالى علم أزلاً أنك ستعمل الشر فكتبك من أهل النار، وعلم أنك ستعمل الخير فكتبك من أهل الجنة؛ لعلمه الأزلي السابق سبحانه وتعالى، ليس من باب الظلم؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً.(49/6)
وجوب الإيمان بخلق الله لأفعال العباد خيرها وشرها
قال: [وعن جابر: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! فيم العمل؟ أفي شيء قد سبق أم شيء نستأنفه؟ قال: بل في شيء قد سبق)]، أي: أعمالكم التي تعملونها من خير أو شر موافقة لما في الكتاب، الله تعالى علم ذلك أزلاً فيسركم لذلك: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8]، ألهمها فجورها الذي اختارته، وتقواها الذي اختارته، فيسرك للفجور ويسرك للتقوى؛ لأن الله تعالى علم أزلاً قبل أن يخلقك أنك تحب طريق التقوى هذا، فجعل الأمور ميسرة ممهدة لك تسلكها؛ لأنك محب لذلك مقبل عليه، وأما هذا العبد فإنه يأنف من أعمال التقوى ولا يحبها، وإنما يختار طريق الفجور فمهده لذلك، ومعنى مهده لذلك: أذن له في وقوع الفجور منه، وهذا الذي يسميه العلماء بمرتبة الخلق والإيجاد، من مراتب القدر مرتبة الخلق والإيجاد، فالله تعالى خالق كل شيء حتى الشر، نعم.
حتى الشر فإنه من خلق الله؛ لأنه لا خالق إلا الله، فالله تعالى هو الذي خلق الخير وخلق الشر، من الذي خلق إبليس رأس الشر؟ هو الله عز وجل، فالله تعالى خالق كل شيء.
وهكذا خلق الله تعالى الشر أي: أذن في وقوع الشر في كونه؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر سبحانه وتعالى، إرادة كونية قدرية.
فلما قدر الله تبارك وتعالى وقوع الشر قدره من باب الإيجاد والخلق، يعني: هو الذي أذن في وجوده وأذن في خلقه، لكن الذي اكتسب الشر، وباشره وعمله بجوارحه هو العبد، هل للعبد أن يعمل شيئاً من خير أو شر إلا بإذن الله وقدرة الله وخلق الله وإرادة الله؟ لو قال زانٍ: أنا سأزني أذن الله في ذلك أو لم يأذن، هل يصح ذلك منه؟ لا يصح؛ لأن كل حركات العبد وأعمال العبد مخلوقة لله تعالى، إن كانت خيراً فخير، وإن كانت شراً فشر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته).
فالذي صنع هذا المسجل هو الله عز وجل؛ لأن الله تعالى خالق مَن صَنعه، فمعنى (أن الله تعالى خالق هذا المسجل وصانع لهذا المسجل): أنه أذن في إيجاده وفي خلقه وتكوينه، أي: أذن لصانعه أن يصنعه، ولو أراد صانعه أن يصنعه بإرادته دون إرادة الله لا يكون ذلك أبداً.
إذاً: فالله تعالى هو الذي أذن في خلق هذا وفي وجود هذا وفي صنع هذا، لكن من الذي باشر الصنع وباشر الإيجاد لهذا؟ هو الصانع الذي صنعه: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) أي: وصنعته مخلوقة لله تعالى.
لو أردت أن تتكلم وما أراد الله لك الكلام لا تستطيع أن تتكلم، لو أردت أن تمشي وما أراد الله لك المشي لا يمكن أن تمشي، لو أردت أن تسكت وأراد الله لك النطق لابد أن تنطق.
إذاً: كل أعمالك من خير وشر مخلوقة لله تعالى، ومعنى (مخلوقة): أن الله تعالى أذن في وجودها، لكن العبد هو الذي باشر الوجود بنفسه وباشر العمل بجوارحه، فهذا معنى أن العبد يحاسب على عمله.
إن الله تعالى لما شرع شرعه حث الناس عليه، وبين لهم فضل الطاعة، وذم المعصية وحذر منها، وبين لهم مغبتها وعاقبتها، لينتهي الناس عن المعاصي ويقبلوا على الطاعة، الله تعالى أذن في خلق الكفر، وفي إيجاد الكفر في الكون، فهل الله تعالى يحب الكفر؟
الجواب
لا يحبه، بل ويمقته، ويدخل أصحابه النار مخلدين فيها ومع هذا أذن في وجوده.
ولما أذن الله تعالى أزلاً في وجود الكفر؛ لأنه علم أن بعض عباده وخلقه يختارون طريق الكفر مع وجود الإيمان وظهوره، وظهور طريقه وأهله، وما الحرب الضروس التي تدور بين كُتَل مجتمع المعمورة كلها إلا مرده إلى الإيمان والكفر، أهل الإيمان يعلمون أنهم على الحق المبين، وأنهم أصحاب الرسل وأتباعهم، وأن هؤلاء الكفار هم الذين خرجوا عن الرسل؛ فيستحقون بذلك القتل، دليلهم في ذلك: قال الله، وقال الرسول، وأجمع أهل العلم.
أهل الكفر يعلمون أنهم على الكفر المبين، عرفتها أنفسهم وجحدتها ألسنتهم علواً واستكباراً.
وللأسف الشديد بعض أهل العلم الآن عندهم علم ومنسوبون إلى العلم، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا من أهل العلم المعتبرين، وإنما هؤلاء يفتون الفتاوى مدفوعة الأجر مسبقاً ومقدماً؛ يستنكرون على أبناء الصحوة وشباب الدين أنهم يقولون: أهل الكتاب كفار، يستنكرون علينا أننا نقول ذلك، مع أن هذا القول لا نعلم لأحد من السلف خلافه، بل ولا حتى الخلف، لا نعلم أن أحداً ممن له اتصال من قريب أو بعيد بأهل العلم يقول: إن أهل الكتاب ليسوا كفاراً بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.
أما قبل ذلك فإن أتباع الأنبياء مسلمون على شرائع أنبيائهم، منهم العاصي والمفرط، ومنهم المتبع المقتدي والمهتدي، وأما بعد بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام وبلوغ الدعوة إلى العالمين فإن من خالف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن تابعاً له لا شك أنه من الكفار؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده ما من أحد يهودي ولا نصراني من هذه الأمة يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وعيسى عليه السلام ي(49/7)
وجوب الجد والاجتهاد في العمل والنهي عن الاتكال
قال: [وعن بشير بن كعب العدوي قال: (سأل غلامان شابان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت فيه المقادير، أم شيء يستأنف؟ فقال: بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، فقالا: ففيم العمل إذاً؟ فقال: كل عامل ميسر لعمله الذي هو عامل.
قالا: فالآن يَجِدُّ أن نعمل -وفي رواية-: يجب أن نعمل)]، إذا كان كل منا ميسراً لما خلق له ويعمل على مقتضى المكتوب، وانظر إلى هذين الغلامين! الغلام: اسم للطفل الذي لم يبلغ الحلم، والجارية: اسم للطفلة التي لم تبلغ الحلم.
تصور أن غلامين سألا النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! هذا الذي سنعمله لأمر قد فرغ منه أم لأمر مستأنف؟ قال: لا، لأمر قد فرغ منه، قالا: ففيم العمل إذاً؟ فوضح لهم أن كل واحد ميسر لما خلق له، ولما هو مكتوب في الكتاب الأول، فقالوا: إذاً: يجب علينا أن نعمل.
والعجيب أنك تجد بعض الشباب يقول: نحن من أهل النار، فلم نعمل؟ أنا أريد أن أعرف من الذي قال لك أنك من أهل النار؟ كما أنه من الذي قال لك أنك من أهل الجنة؟ بل ينبغي أن تعض على الطاعة بالنواجذ حتى يختم لك بعمل أهل الجنة، لكن عندما تقطع بأنك من أهل الجنة! فهذا تألٍ على الله عز وجل، وافتراء وكذب على الله عز وجل، لو أنك أردت أن تدخل النار وأراد الله لك الجنة دخلت الجنة، فانظر! حتى هذه ليست لك، ولو أردت أن تكفر وأراد الله لك الإيمان لا يمكن أن تكفر، أي: لو أردت الإيمان وأراد الله لك الكفر إرادة كونية قدرية لا يمكن أن يكون إلا ما أراد الله عز وجل.
إذاً: كيف تقطع لنفسك بجنة أو نار، بسعادة أو شقاء إذا كنت تعلم أن هذا كله بيد الله تعالى؟ إذاً: لابد أن تجد وأن تجتهد في العمل الذي يوصلك إلى دار النعيم.
قال: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت يا رسول الله ما نعمل فيه، أفي أمر مبتدأ أو مبتدع -يعني: جديد- أو فيما قد فرغ منه؟ قال: فيما قد فرغ منه، قال: أفلا نتكل؟)]، نتكل على هذا يا رسول الله! ونجلس وننام، لأن الكتاب قد فرغ منه ففيم العمل؟ قال: [(أفلا نتكل؟ قال: اعمل يا ابن الخطاب! فكل ميسر، أما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل عمل أهل الشقاء، وأما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة)].(49/8)
باب الإيمان بأن الله عز وجل خلق القلم فقال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة
[الباب الثامن: باب الإيمان بأن الله عز وجل خلق القلم فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائن -أي: ما هو كائن في ذلك الوقت، وكتب ما يكون إلى قيام الساعة- فمن خالفه فهو من الفرق الهالكة].
فمن قال: إن الله لم يكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة فهو من الفرق الهالكة، ومن قال: إن الله لم يخلق القلم فهو من الفرق الهالكة.
بل ثبت عن ابن عباس: أن الله تعالى خلق القلم وكان قدر القلم كما بين السماء والأرض، ولم يثبت أن الله تعالى أخذ القلم بيمينه، وإنما أمر الله القلم فقال له: (اكتب، -فنطق القلم- فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة)، حتى لا تتصور أن الله تعالى أخذه بيمينه فكتب به كل شيء، بل جرى القلم بالكتابة بأمر الله تعالى، قال له: اكتب، فكتب كل شيء، وركب الله تعالى فيه تمييزاً وإدراكاً؛ حتى يسمع الكلام ويفهمه، ويأتمر بالأمر وينتهي عن النهي، من خالف في ذلك فهو من الفرق الهالكة.
قال: [قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله تعالى القلم.
فجرى بما هو كائن إلى قيام القيامة)]، أي: إلى وقت قيام الساعة.(49/9)
اختلاف أهل العلم في أول المخلوقات هل هو القلم أو العرش؟
وقع خلاف بين أهل العلم: هل أول المخلوقات القلم أم العرش؟ فبعضهم يقول: أول المخلوقات القلم، وبعضهم يقول: أول المخلوقات العرش، ومعنى أول ما خلق الله القلم أي: من أول ما خلق الله القلم، وهذا قد جرت به ألسنة العرب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
فهل خير الناس على الإطلاق من تعلم القرآن وعلمه؟
الجواب
لا، التقدير: من خيركم من تعلم القرآن وعلمه، من أفاضلكم، من أحاسنكم، وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لنسائه)، وهذا حديث صحيح، فإذا قلت: خيركم خيركم لنسائه، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه، لابد أن يحدث تصادم بين النصوص.
إذاً: من خيركم خيركم لنسائه، ومن خيركم من تعلم القرآن، ومن خيركم أحاسنكم أخلاقاً وغير ذلك، إذاً: النصوص فيها تقدير محذوف، وهو (من) التي تفيد التبعيض.
إذاً: في هذه الحالة أول ما خلق الله القلم، أي: من أول ما خلق الله، يعني: من أوائل المخلوقات القلم، ولا يلزم من ذلك أن يكون القلم هو أول المخلوقات.
وفي رواية: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أول ما خلق الله العقل.
فقال له: أقبل فأقبل، فقال له: أدبر فأدبر، قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز علي منك، فبك أعطي وبك أمنع وبك أعاقب وبك أثيب) إلى نهاية الحديث.
قال ابن تيمية عليه رحمة الله في الفتاوى، وقال ابن القيم عليه رحمة الله في الصواعق المرسلة وغيرها من كتبه التي تتعلق بالقدر، وقال في كتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف: كل أحاديث العقل التي تدل على أن العقل أول المخلوقات أحاديث ضعيفة ومنكرة؛ ولذلك سئل شيخ الإسلام ابن تيمية سؤالاً خاصاً فيما يتعلق بالعقل في كثير من كتبه.
على أية حال الخلاف قائم بين أهل العلم من السلف في أيهما أسبق، وذلك بعد اتفاقهم أن أحاديث العقل موضوعة ومختلقة ومكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم وقع الخلاف بين أهل العلم من السلف في أول المخلوقات: هل هو العرش أم القلم؟ أتت نصوص في الكتاب والسنة تدل على أن العرش كان أول المخلوقات: (خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء)، كلمة (وكان عرشه على الماء) تدل على أن العرش أسبق، والعرش مخلوق؛ لأنه لا خالق إلا الله، خلق الله تعالى السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء، يعني: وكان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء.
قال ابن عباس: والماء فوق السماء السابعة، وقبل خلق السماوات كان الماء على الريح.
قال ابن عباس: وكان عرشه على الماء -أي: على الماء فوق السماء السابعة قبل خلق السماوات السبع وخلق الأرضين السبع- قيل لـ ابن عباس: كان على ماذا؟ قال: كان على الريح.
أي: الماء كان على الريح، والعرش فوق الماء، والكرسي فوق العرش، مخلوقات عظيمة جداً، فلا تتصور أن هذه المسألة هرمية؛ لأنه لا يصح في الأذهان أن تتصور هذا، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الكرسي في العرش كحلقة في فلاة).
يعني: تصور أنك ترمي حلقة في صحراء! لا شيء، فالكرسي في العرش كحلقة في فلاة، والكرسي أعظم من السماوات والأرض، وهو لا يساوي في العرش إلا كحلقة في فلاة، إذاً: كيف يكون حجم العرش؟! مخلوقات عظيمة لا يمكن أن تتصورها، إذا كنت أنا ضربت الآن مثلاً بأن القلم الذي كتب مقادير الخلائق قدره كما بين السماء والأرض، والمعلوم أن ما بين كل سماء وسماء أو السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، فهذه مخلوقات عظيمة جداً لا يمكن لأحد أن يتصورها مع أنها مخلوقة.
لو قلنا لك الآن: صف ثمار الجنة، تعجز؛ لأن ثمار الجنة ليس لها مثيل في ثمار الدنيا إلا في الاسم فقط، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا تفاح وهذا تفاح، لكن شتان بين هذا وذاك.
فإذا كان الأمر كذلك فيحرم جداً أن نتصور في الأذهان صورة لله عز وجل، وإنما نثبت أن لله تعالى صورة، كيف هي؟ لا يعلمها إلا الله، إذا كنا نحن نعجز عن إدراك بعض المخلوقات وهي مخلوقات، فكيف بالخالق الذي خلقها؟ ولذلك يروى -كما في كتب ابن الجوزي عليه رحمة الله- أنه قد خرج رجل في زمانه ممن يتعالم، فصعد المنبر وقال: سلوني ما شئتم.
فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، فقام إليه أعرابي جلف، فقال: يا فلان! أين تجد أمعاء النملة؟ فأسكته.
فهذه النملة مخلوقة أم لا؟ إذاً: هل نحن نعلم أن لها أمعاء أو عينين أو رجلين، أو عرضاً أو طولاً؟، هل نعلم خصائصها وأوصافها؟ عجز عنها هذا المتفيهق المتحذلق بكلمة أعرابي جاء من البادية، ليس له في العلم شيء ومع هذا أسكته، وهذه النملة من أحقر وأدق المخلوقات، فكيف بأعظم المخلوقات العرش والكرسي والسماوات والأرض والجنة والنار؟ لا يمكن لأحد أن يصفها.
والمعلوم أننا لا نستطيع أن نصف شيئاً إلا إذا رأيناه أو علمنا له مثيلاً، وليس هذا في بعض المخلوقات ممكناً بالنسبة(49/10)
كتابة القلم لما علمه الله عز وجل إياه
قال: [عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى قيام القيامة)]، أي: كتب ما سيكون إلى قيام الساعة.
هل هذا القلم عنده العلم اللدني أم هذا بعلم الله؟
الجواب
جرى القلم بما علمه الله.
قال له: اكتب أنني سأخلق عبدي فلاناً، وأنه سيعمل بعمل أهل السعادة أو بعمل أهل الشقاء، يعمل كيت، في ساعة كيت في لحظة كيت، في المكان الفلاني.
وهكذا علم الله تعالى ما سيكون من الخلق جميعاً، ليس فقط من بني آدم، وإنما من الخلق جميعاً، فكتب ذلك في كتاب، فهو عنده تحت العرش.(49/11)
الفرعيات لا يبدع فيها المخالف وإنما يؤخذ بالترجيح عند الاختلاف
إن الخلاف الذي وقع بين السلف رضي الله عنهم فيما يتعلق بأول المخلوقات: هل هو القلم أو العرش؟ اتفقنا أنهم استبعدوا أن يكون العقل؛ لأن هذا الكلام مردود ومنكر قولاً واحداً، إذاً: لا يبقى عندنا خلاف إلا فيما يتعلق بالعرش والقلم، أيهما أول المخلوقات.
فقال بهذا بعض السلف وقال بذاك بعض السلف، وهنا لابد أن نعرج على أمر، وهو أن السلف إذا اختلفوا في مسألة -ولو كانت من مسائل الاعتقاد- فإن الأصل أنه لا يبدع المخالف.
وأنتم تعلمون أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا: هل رأى النبي محمد عليه الصلاة والسلام ربه في ليلة المعراج أو لا؟ وتعلمون أن السلف رضي الله عنهم اختلفوا في أفضلية عثمان على علي وفي أفضلية علي على عثمان، وهذه من مسائل الاعتقاد، ومع هذا لم يبدع أحد الفريقين صاحبه، لا الذين فضلوا علياً بدعوا من فضل عثمان، ولا العكس، ولم يبدع الذين قالوا بثبوت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج من قال غير ذلك ولا العكس، وهذه المسائل من مسائل الخلاف سماها العلماء الخلاف الفرعي في العقيدة، فهذه فرعية من فرعيات الاعتقاد، لا أصل من الأصول، أي: ليست متعلقة بالإيمان بالله، إذ إن الإيمان بالله أصل، والإيمان بالملائكة أصل، والكتب كذلك، والرسالات، والجنة والنار والصراط والجزاء، هذا كله أصول، أما الفرعيات فلا يبدع فيها المخالف.
لكن نشأ هذا الخلاف في السلف رضي الله عنهم، وكان لكل دليله، ونحن نعرف أن مسألة الرؤية هذا معه أدلة وهذا معه أدلة وإن كانت الأدلة مؤولة، لكن على أية حال وقع الخلاف، فينظر إذا كان الخلاف وقع في أصول الاعتقاد فلا يحتمل، بل يبدع المخالف ويضلل، وهذا بفضل الله لم يقع في سلفنا رضي الله عنهم، إنما وقع الخلاف في فرعيات مسائل في الاعتقاد، فهذا لا يبدع فيه المخالف.
عندما أقول لك: اعمل لي بحثاً فيما يتعلق بأول المخلوقات: هل هو القلم أم العرش؟ وائتني بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، ثم رجح أحد الفريقين، ما الذي ستفعله؟ ستتبع الكتاب والسنة وستأتي بأدلة القائلين بأن العرش أول المخلوقات، وأدلة القائلين بأن القلم أول المخلوقات، ومن السنة ومن أقوال الصحابة، والسلف عموماً رضي الله عنهم، وبعد أن تأتي بالأدلة ستأتي بكلام الشراح في هذا وذاك، وتأتي بكلام أهل التأويل الذين يجمعون بين النصوص.
وطريقة الجمع كما قلت لك: (وكان عرشه على الماء) منهم من يقول: وكان عرشه بعد خلق السماوات والأرض على الماء، وهذا تأويل، ومنهم من يقول: أول ما خلق الله القلم أي: من أول ما خلق الله القلم، ومنهم من يبقيه على ظاهره يقول: أول المخلوقات القلم بنص الحديث، وكان عرشه على الماء، قالوا: التقدير: وكان عرشه بعد خلق السماوات والأرض على الماء، فيقول: إن العرش مخلوق قبل السماوات والأرض، وفريق آخر يقول: لا.
كان العرش بظاهر الآية قبل خلق السماوات والأرض، وأول ما خلق الله تعالى ضمن ما خلق السماوات والأرض القلم، كل هذه الآراء ستجدها.
فإنك بعد أن تكون مشدوداً ومتعصباً جداً لمسألة أن القلم أول المخلوقات؛ تفاجأ بأن هناك رأياً آخر يقول: إن العرش أول المخلوقات وهذا كلام لا يمكن دفعه، وإذا كنت تقول: إن العرش أول المخلوقات تفاجأ بأن هناك رأياً آخر، وهو أن القلم أول المخلوقات، وكذلك لهم أدلتهم من الكتاب والسنة لا تستطيع ردها ولا صدها ولا تستطيع تأويلها، فإذا كنا نريد الترجيح فإن الترجيح أيها الإخوة! له طريقان: الطريق الأول: إثبات الدليل الذي يؤيد ما أنت عليه، والنظر في أدلة المخالف وتأويلها تأويلاً لا يتعارض مع ما رجحته أنت، فأنا عندما أقول: القلم أول المخلوقات بنص الحديث، فإذا بشخص آخر يقول: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، فإنه لابد أن أجد صرفة لهذه الآية؛ لأن هذه الآية ستقف في طريق مسألتي، وأنا قد وصلت إلى النتيجة أن القلم أول المخلوقات، فإن هذه الآية ستعترضني، فلابد أن أجد لها صرفة، فإذا لم أجد لها صرفة فأنا مهزوم.
والذي يقول: وكان عرشه على الماء العرش أول المخلوقات لابد أن يتصرف في أدلة من يقول بأن القلم أول المخلوقات، فإذا لم يتصرف فكذلك لا يستطيع الترجيح، فاعلم أن العلم بالمناقشة والنظر والاستدلال والتأويل، فلا يصح أن تقول: العرش هو أول المخلوقات وحسب، أعجبك هذا الأمر أم لم يعجبك، فهذا ليس كلام أهل علم، فلابد من البحث في مراجع كتب الاعتقاد.
ولكي تعرف كيفية الترجيح لابد أن تعرف كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للإمام الحازمي، فقد ذكر أن وجوه الترجيح اثنان وخمسون وجهاً، وعندها ستصل إلى كيفية الترجيح، وهذا الكلام موجود ومذكور في كتاب تأويل مختلف الحديث لـ ابن قتيبة، وتأويل مختلف الحديث للإمام الشافعي، وكتاب مشكل الآثار للإمام الطحاوي، وكل هذه الكتب كتب تأويل، وكذل(49/12)
رواية الوليد وعبادة بن الصامت في أن أول المخلوقات القلم
قال: [عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله عز وجل القلم ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة -أي: بمجرد أن خُلق- ما هو كائن إلى يوم القيامة).
وعن الوليد بن عبادة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب! وما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)].(49/13)
تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون)
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون)]، وهي الدواة التي لا يستغني عنها القلم، والقلم قد يستغني عن الدواة إذا أراد الله تعالى أن يكتب القلم من غير دواة، لكن الله تعالى قدر أن يكون للقلم دواة.
فقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] منهم من فسر النون بالحوت؛ لأن النون اسم من أسماء الحوت، ومنهم من فسر النون بأنها الدواة لعلاقتها بذكر القلم بعدها.
قال: [(ثم قال: اكتب.
قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فذلك قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة)]؛ لأن القلم قد جرى بما هو كائن، فكتب كل شيء.(49/14)
تفسير ابن عمر لقوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)
قال: [وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول شيء خلقه الله عز وجل القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين)]، وهذا يرد على ما أخرجه مسلم وأثبت فيه أن لله يداً أخرى وهي الشمال، فإن هذه الرواية شاذة.
قال: [(فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول، بر أو فجور، رطب أو يابس، فأمضاه عنده في الذكر -أي: كتبه عنده في الذكر- ثم قال: اقرءوا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]-أي: نكتب ما كنتم تعملون- فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه)]، يعني: قد تقول: عندي نسخة البخاري الأصلية، ثم تذهب بي إلى البيت وتعطيني مجموعة أوراق فارغة لا كتابة فيها، فسأقول لك: أين هذه النسخة؟! لكن عندما تريني مخطوطاً للبخاري سأقول: نعم.
هذه نسخة، وسميت نسخة لما وقع فيها من النسخ، والنسخ بمعنى: الكتابة، فلا يقال للورقة الفارغة البيضاء نسخة، لكن عندما تكتب فيها كتاباً تقول: لقد نسخت الكتاب أو صورت الكتاب، أو كتبت الكتاب.
فقال الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] أي: نأمر بكتابة أعمالكم.(49/15)
التسليم بالقضاء أصل من أصول الإيمان بالقدر
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أصابتني العزبة)]، يعني: شق علي العزوبية، أنا من غير زوجة.
وهذا قد شق علي يا رسول الله! قال: [(أصابتني العزبة وليس بيدي شيء فأنكح النساء)].
إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، لم يقل: يا معشر الشباب تزوجوا، أو لابد أن تتزوجوا، فإن ترك الزواج ترك للتوكل على الله، أتريد أن تسيء الظن بربك؟ إن الله يقول: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، لا.
لم يقل ذلك، وإنما شرط الزواج بالاستطاعة.
قال: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، فلم يقل: على المسلم الزواج استطاع أم لم يستطع، إنما قال له: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي: وقاية من فتن العزوبة.
قال: [(أصابتني العزبة وليس بيدي شيء فأنكح النساء، وأنا أتخوف على نفسي فتأذن لي فأختصي؟)]، والاختصاء: هو أن يأخذ شهوته من مبيضه، أو ينزع المبايض فلا يكون له بعد ذلك شهوة، فيرى أذم امرأة كما يرى أجمل امرأة، الثنتان عنده سواء؛ فلا يبالي بالنساء.
قال: [(فتأذن لي فأختصي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة! جف القلم، فاختص على ذلك أو اترك)]، يعني: الله سبحانه وتعالى كتب أن أبا هريرة سيختصي أو لا يختصي، فإذا اختصيت يا أبا هريرة! فقد وافقت ما في الكتاب الأزلي، وإذا تركت الاختصاء فقد وافقت ما في الكتاب الأزلي، فكأنه يقول: أتستشيرني في الاختصاء؟ فلو أني أفتيتك بالاختصاء فسيوافق ما قلته لك ما قد كتب أولاً، وإذا منعتك عن الاختصاء فسيوافق المنع لما قد كتب أولاً، ولا بأس يا أبا هريرة! سأتركك لاجتهادك، تختصي أو لا تختصي.
افعل ما تشاء.
ففي هذه الحالة لو أن أبا هريرة اختصى هل يخالف المكتوب له أزلاً؟
الجواب
لا.
ولو ترك الاختصاء كذلك لا يخالف؛ لأن الله تعالى علم أن أبا هريرة سيتردد في هذه المسألة وسيسأل النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم سيجيبه بذلك، وأن أبا هريرة يجتهد في أن يختصي أو يدع، وفي نهاية الأمر ترك أبو هريرة الاختصاء، وهذا بلا شك موافق لما في الكتاب الأزلي.
أنت عندما تقول: يا رب! أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان زواجي من فاطمة خيراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله؛ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه.
وإن كان أمر زواجي من فاطمة شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله؛ فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان.
وفجأة تقول: ولكن يا رب! أنا أريد فاطمة، وقلبي في النهاية يا رب! يتقطع، ولو أن فاطمة تزوجت شخصاً آخر قد أقتلها وأقتله، معذرة يا رب! يقتضي الأمر هذا يا رب! وفي النهاية لا يتزوج فاطمة إلا إذا كان مكتوباً في اللوح المحفوظ أنه سيتزوجها، فيذهب لأبيها، وأبوها يوافق، ويقول له: وافقت يا بني! فادفع مبلغاً معيناً، فدفع المبلغ، وذهب وأتى بمهر وأمهرها وعقد عليها فهل أحد يستطيع النزاع، أو يستطيع التقدم لفاطمة؟ ثم في ساعة خلاف قال لها: أنت طالق، وانتهت القضية، فقد كتب في اللوح المحفوظ أن فاطمة لا يتزوجها علي أو لا يتزوجها إبراهيم، أو سعد أو محمد أو زيد أو عبيد، مع أنه قد استقر لديه أن فاطمة امرأته، لكنه مكتوب في اللوح المحفوظ أنها ليست امرأته ولا يبني بها، فلا يكون في علم الله وقدره إلا ما قدره وأذن في وقوعه في الكون مهما تمنى العبد، فإن ما يختاره الله تعالى لعبده خير مما يختاره العبد لنفسه.
ولو أن العبد آمن بذلك وسلم لاطمأن إلى قدر الله، فكيف يكون حال الشخص الذي يحب امرأة وتتزوج غيره؟ فإن حياته كلها ترتبك وتنقلب رأساً على عقب، ولا يريد الصلاة ولا يريد الصوم، وفي نفسه مغضب من إخوانه، ولا يريد السلام على أحد، ولا يريد أن يصلي جماعة مع الإمام، وكل شيء لا يعجبه، ودائماً تراه في نقد وسخط وعدم رضا، لماذا كل هذا؟ لأنه اكتشف أن فاطمة خطبها غيره.
وعندما يتزوج امرأة أصلح من فاطمة يقول: الحمد لله أن ذهبت فاطمة، الحمد لله أني لم أتزوجها.
أقول: هذا كلام محمود، لكن أقررت بذلك بعد أن اكتشفت أن زوجتك هذه ظفرها يساوي قيمة فاطمة؛ فلمَ لم تسلم من أول لحظة؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، ومضمون الحديث: إنما الصبر عند أول الصدمة، فمن الناس من يفهم أن الصبر عند الصدمة الأولى يعني: عند أول صدمة يصدمها الإنسان في حياته يكون الصبر عندها، وليس مطلوباً منه أن يصبر بعد ذلك.
وهذا خطأ.
إنما الصبر عند أول الصدمة، هذا هو الت(49/16)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون)
قال: [وعن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: رب ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، قال: فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة.
وعنه في قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] قال: ألستم قوماً عرباً؟ هل تكون نسخة إلا من كتاب؟ وعنه في قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] قال: ألستم قوماً عرباً أو عُرْباً؟ هل تكون نسخة إلا من أصل كتاب قد كان قبل؟]، أي: قد كان من قبل، وهذا فيه إثبات أن القلم كتب كل شيء.
قال: [وعنه في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] قال: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم، ثم النون وهي الدواة، ثم خلق الألواح، فكتب الدنيا وما يكون فيها حتى تفنى من كل خلق مخلوق، أو عمل معمول من بِر أو فجور، وما كان من رزق حلال أو حرام، ومن كل رطب ويابس، ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا وبقاءه فيها، كم إلى كم شاء، ثم وكل بذلك الكتاب ملكاً، ووكل بالخلق ملائكة، فتأتي ملائكة الخلق إلى ملائكة الكتاب فينسخون ما يكون في يوم وليلة مقسوماً على ما وكلوا به، وتأتي ملائكة الخلق فيحفظون الناس بأمر الله، ويسوقونهم إلى ما في أيديهم من تلك النسخ، فإذا انتفت النسخ عن شيء لم يكن هاهنا بقاء ولا مقام.
قال: فقال رجل لـ ابن عباس: ما كنا نرى هذا إلا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال: ألستم قوماً عُرْباً؟ {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب؟].
مراد ابن عباس: أن اللوح المحفوظ أو الكتاب المكنون الذي كُتب بقلم القدرة، وهو أول المخلوقات، وهذا القلم كتب نسخة لا زيادة فيها ولا نقص، وهذا المكتوب مقدر لكل مخلوق خلقه الله عز وجل، والملائكة الذين يحفظونك بأمر الله، الموكلون بك وبأعمالك ورزقك وأجلك يذهبون إلى الملائكة القائمين على الكتاب الأول في كل يوم وليلة، فتقول ملائكة الحفظ لملائكة الكتاب: انسخوا لنا عمل العبد اليوم، ورزق العبد اليوم، فتستنسخ ملائكة الحفظ أعمال العبد في اليوم الواحد، فملائكة الرزق ينسخون الرزق، وملائكة العمر ينسخون العمر، وملائكة العمل ينسخون العمل، حتى إذا ذهبوا في يوم ليستنسخوا ما هو مقدر لك في يومك وليلك لا يجدون في كتاب الله شيئاً، أي: انقطع الكتاب، وهذا الانقطاع يدل على نهاية العمر ونهاية الأجل.
وهذا الكلام من علم الغيب، فلا يمكن إلا أن يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض أهل العلم يقول: هذا الكلام من ابن عباس مع صحة السند له حكم المرفوع، يعني: هو موقوف له حكم المرفوع؛ لأن هذا الكلام لا يعلمه أحد إلا من طريق الصادق المصدوق المعصوم عليه الصلاة والسلام.
وبعضهم يقول: لم يسمع ابن عباس هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، وليس له حكم المرفوع؛ لأن الشرط في اعتبار الكلام في أمر الغيب موقوفاً في حكم المرفوع: ألا يُعلم أن صاحبه كان يتلقى عن أهل الكتاب، وابن عباس في الحقيقة كان ممن يتلقى عن أهل الكتاب، فقالوا: لعل ابن عباس أخذ هذا من أهل الكتاب، والله تعالى أعلم.
قال: [وعن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله عز وجل القلم خلقه عن هجاء]، يعني: خلقه للكتابة، فقال: قلم! فتصور قلماً من نور ظله ما بين السماء والأرض.
وهذا كلام نقول فيه ما قلناه آنفاً.
قال: [فقال: اجر في اللوح المحفوظ.
قال: يا رب! بماذا؟ قال: بما يكون إلى يوم القيامة، فلما خلق الله عز وجل الخلق وكل بالخلق حفظة يحفظون عليهم أعمالهم، فإذا كان يوم القيامة عرضت عليهم أعمالهم فقيل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]-أي: في اللوح المحفوظ- فيعارضون بين الكتابين فإذا هما سواء].
يعني: يضعون الكتاب الذي في أيدي الحفظة بجوار كتاب العبد في اللوح المحفوظ، فيجدون أن الكتابين بالضبط منطبقان على بعض.
وهذا يدل على أنه لا زيادة فيها أو نقص؛ لأنها نسخة طبق الأصل؛ ولذلك يقال: صورة طبق الأصل، يعني: ليس فيها زيادة ولا نقصان، فلا يصح أن تختم البطاقة بعد أن تصورها، فيكون الأصل غير مختوم والصورة مختومة، إذاً: هنا لا توجد مطابقة ولا معارضة، وصحة المعارضة هي الموافقة بين المنسوخ والمنسوخ منه.(49/17)
صفة السلام على غير المسلمين والرد عليهم
وعن الحسن بن علي هنا قال: عليهما السلام، فنقول: عليهما السلام، لكن ليس هما فحسب، ولا آل البيت فحسب، بل كل الصحابة والصالحين والتابعين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً؛ كلهم عليهم من الله ومن عباده السلام.
إذا كان هذا هو المعنى اللغوي فيصدق أن نقول عن أي واحد نظنه من الصالحين خاصة الصحابة أجمعين: عليه السلام، وعليه مني السلام، كما أنك تقول: تعال ولك مني الأمان، أو ولك مني السلام؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم، فإنما يقولون: السام.
والسام الموت)، والموت علينا وعليهم حق، لكنهم يسبوننا.
(أتى رجل من اليهود فقال: السام عليك يا محمد! فقال: وعليك، فقالت عائشة: وعليك السام واللعنة والغضب يا عدو الله! قال: يا عائشة! ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه.
قالت: يا رسول الله! أما سمعت ما قال؟ قال: أما سمعت ما رددت به عليه؟).
قالت: وعليك السام واللعنة والغضب يا عدو الله! هذا هو الرد اللائق، ولو كان بإمكانها أن تضربه بنعلها لفعلت، لكن هذا لا يليق بقدر عائشة رضي الله عنها.
وكان بعض اليهود يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له: (السلام عليك يا محمد! ورحمة الله وبركاته) فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام ولا يذكر ورحمة الله وبركاته.
يقول ابن القيم في ذلك: إذا سلم أهل الكتاب على المسلمين فبان في سلامه سلام، يعني: لا يوجد عندي شك أن هذا الرجل عند أن دخل علي قال لي: السلام عليكم -بالألف واللام- ورحمة الله وبركاته؛ يقال له: وعليك السلام، أي: وعليك مني السلام، أما رحمة الله وبركاته فأنت أبعد الناس عن رحمة الله وبركاته.
فـ ابن القيم يقول: النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن إلقاء السلام عليهم هل قصد بالنهي الألفاظ الواردة في التحية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أم قصد مطلق التحية؟ ذكر الخلاف بين العلماء في هذا، ثم رجح ابن القيم عليه رحمة الله أن المنهي عنه هو السلام، وأن مطلق التحية جائزة، وهذا كلام جيد.(49/18)
شرح كتاب الإبانة - الإيمان بأن الله كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه
لقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام ونهاه عن أكل الشجرة، وعلم أنه سيأكل منها قبل أن يخلقه، وهكذا سائر المعاصي والشرور علمها الله تعالى قبل أن يخلقها؛ لأنه لا يكون شيء في ملكوت الله تعالى إلا بعلمه وتقديره، خيراً كان أو شراً، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن الله تعالى لم يخلق الشر ولم يرده، وأن العبد يخلق فعل نفسه، وهم القدرية الذين شابهوا المجوس، ومن نحا نحوهم، ولذلك لما تحاج موسى وآدم حج آدم موسى؛ لأنه احتج بقدر الله على معصيته بعد أن تاب منها، أو على مصيبة خروجه من الجنة، فذكر أن كل ذلك كان بقضاء الله تعالى وقدره.(50/1)
ذكر مجمل مسائل القدر الواردة في المجلد الرابع من كتاب الإبانة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لقد انتهينا من المجلد الثالث من كتاب الإبانة، وهو المجلد الأول في باب القدر، ونحن الآن مع المجلد الثاني في كتاب القدر، والمجلد الرابع في كتاب الإبانة، وهذا المجلد كله يتعلق بالكلام عن عشر مسائل من مسائل القدر.(50/2)
الإيمان بأن الله كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه
وأولى هذه المسائل أو الأبواب: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه] أي: اعتقاد أن الله عز وجل كتب المعصية على آدم قبل أن يخلقه، ومعصية آدم كانت الأكل من الشجرة، وقد نهاه الله عز وجل عن الأكل منها، لكن الشيطان سول له أن هذه شجرة الخلد، وأنه إذا أكل منها فإنه سيخلد ولا يموت أبداً، فانصاع آدم لكلام اللعين إبليس عليه لعنة الله، فأكل من الشجرة، فكان ما كان بعد الأكل أن طرد من الجنة وكثرت ذريته وانتشر نسله في الأرض.
والراجح أن هذه الجنة التي طرد منها آدم كانت في السماء ولم تكن في الأرض، وقد جاءت بذلك بعض النصوص، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة، أي: من قال: إن الله لم يكتب المعصية على آدم قبل أن يخلقه فهو من الفرق الهالكة والضالة، وكما تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، أي: من كان على الهدي النبوي وعلى سيرة الخلفاء الراشدين والصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين.
ولا يلزم من قولنا أن هذه الفرق ضالة وأنها في النار أنها مخلدة؛ لأنه لا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، والدليل على أن هذه الفرق رغم ضلالها وهلاكها إلا أنها ليست كافرة ولا تخلد في نار جهنم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وستفترق أمتي)، فسماهم من الأمة، ومفاد البحث في هذا الحديث أو في هذه الجزئية من الحديث أن الأمة الإسلامية ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى وغير واحد ممن تعرض لشرح هذا الحديث أن هذه الفرق كلها قد ظهرت في الأمة، والخوارج أول الفرق ظهوراً حتى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل: ذلك الرجل الذي يدعى بـ ذي الخويصرة التميمي: (لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! أعطني من مال الله لا من مالك ولا مال أبيك، فلما أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام قال: والله ما أريد بهذه القسمة وجه الله، فقال النبي: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! فلما ولى مدبراً، قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، فانظر إلى أوصاف أهل البدع، فتجد أنهم يجتهدون جداً في العبادة، وهذا هو الذي يغر العامة؛ فيرى رجلاً من أهل البدع يصلي ويصوم أكثر منه، ويقرأ القرآن باستمرار لا يمل ولا يتعب، فيغتر به فيقول: هذا رجل من أهل الصلاح، لكن لا يعلم أنه من أهل البدع إلا أهل العلم، ولذلك العلم نور وبصيرة، وقوله في الحديث: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، أي: أن القراءة من اللسان والفم ولا علاقة لها بالقلب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخوارج كلاب النار)، وغير ذلك من الوعيد الذي ورد فيهم.
ثم ظهرت بعدهم -بعد الخوارج- القدرية الذين أنكروا القدر، وقالوا: إن الأمر أنف، وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فنفوا العلم الأزلي لله عز وجل، كما نفوا الكتابة في اللوح المحفوظ وغير ذلك.
وبلا شك أن غلاة الفرق كفار خارجون عن الملة، وفي بعض فروع هذه الفرق فرق أخرى، فتجد أن القدرية انقسموا إلى أقسام كثيرة، وتجد الشيعة أو الرافضة انقسموا إلى أكثر من عشرين فرقة داخلية، فيندرجون تحت فرقة واحدة وهي الشيعة أو التشيع، لكنهم انقسموا فيما بعد على أنفسهم، وكل انقسام أخذ فرقاً داخلية في داخل الفرقة الواحدة، ومن هذه الفرق الفرعية ما أتى بأقوال تنقض الإيمان والإسلام والتوحيد من أساسه، وبلا شك لو وجدنا أن في بعض الفرق من يقول: الله تعالى رجل جميل المنظر! أن هذا القول كفر بواح، ومن قال به أو اعتقده فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه ليس له مثيل ولا شبيه ولا كفء ولا ند: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالذي يقول: إن الله تعالى على صورة الرجل، أو أنه رجل جميل المنظر غير أنه مجوف أو مصمت -هكذا قالوا- فهو كفر، ولولا أن الله حكى مقالة الكافرين في الكتاب ما جرؤت أن أحكي مقالة هؤلاء، ولكن اقتداء بالقرآن الكريم لما حكا الله تعالى أقوال الكافرين جوز لنا أن نحكي أقوال الكافرين كذلك.
قال: [الباب الأول: الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه، فمن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].(50/3)
الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه وخلق الله للنطفة وإن عزل صاحبها
قال: [الباب الثاني: باب الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه قبل أن يظهر إلى الوجود، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة.
الباب الثالث: الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقاً -أي: إذا قدر للنطفة أن تكون خلقاً وإنساناً مكوناً- كان، وإن عزل صاحبها]، أي: وإن عزل عن امرأته، ولكن الله تعالى قدر للنطفة أن تكون ولداً كانت، ولذلك أنتم تعلمون ما ورد في السنة: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، والعزل هو أن يجامع الرجل امرأته فإذا أراد أن يقذف قذف ماءه خارج الرحم، والحرة تستأذن في ذلك ولا تستأذن الأمة؛ لأن هذا باب من أبواب الإيلام، فالحرة تستأذن فيه خلافاً للأمة، والعزل جائز مع الكراهة، كما أن الخصاء مكروه؛ ومن عزل لا يأثم بذلك؛ لأن الصحابة كانوا يعزلون في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، (واستأذنه رجل في العزل، فقال: اعزل أو لا تعزل، فإذا قدر الله تعالى للنطفة أن تكون كانت)، أي: أنه يريد أن يبين أن هذه المسألة لا تعلق لها أبداً بمشيئتك، فإذا شاء الله تعالى أن تكون نطفة كانت وإن عزلت.
ونحن الآن نسمع كثيراً في الأبحاث الطبية أن امرأة تحمل دون جماع، وأنا لا أريد أن أفتح هذا الباب؛ لأنكم تعلمون خطورته؛ فالباب هو أن كل زانية تأتي وتقول: أنا حملت بغير جماع، كما فتح الباب من قبل على مصراعيه لما انتشر أن الجن يجامعون النساء، فكل امرأة فاجرة زنت تقول: لقد جامعني الجني! وهذا خارج عن إرادتي، ولا شك أن هذا باب لو فتح على مصراعيه فالأمر فيه خطير.(50/4)
التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد حتى يؤمن بالقدر
قال: [الباب الرابع باب: التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن المكذب بذلك إن مات عليه -أي: على التكذيب بالإيمان بالقدر خيره وشره- دخل النار، والمخالف لذلك من الفرق الهالكة]، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله).(50/5)
الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم
قال: [الباب الخامس: باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق] والذي خلق الخلق هو الله عز وجل، ومن بين المخلوقات إبليس، وهو رأس الشر، والخير والشر من عند الله، والخير والشر مخلوقان لله عز وجل.
قال: [باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم يجري منهم مجرى الدم]، أي: كما يجري الدم في العروق، فكذلك الشيطان يجري منك كما يجري الدم، فما هو الدليل؟ أليس قول النبي الكريم: (إن الشيطان إذا سمع الأذان ولى وله ضراط)؟ والحديث في الصحيحين، لكن هل هو في المسألة التي ذكرتها؟ لا، ولذلك الدليل الذي يصح الاحتجاج به يشترط فيه شرطان: الأول: أن يكون صحيحاً، والثاني: أن يكون صريحاً في النزاع.
ومن قبل قلت لكم: لو أن امرأة أتت الآن وقالت: طلقني زوجي، أي: قال لها: اذهبي فأنت طالق، فهل هذا الطلاق يقع أم لا؟
الجواب
نعم يقع، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر)! فهذا الدليل صحيح أم لا؟
الجواب
الدليل ليس صريحاً في النزاع؛ لأنه ليس له علاقة بالقضية، ما لقضية الصيام بقضية الطلاق؟! إذاً: الدليل الذي يجوز الاحتجاج به في قضية ما شرطاه: أن يكون صحيحاً، وأن يكون صريحاً في محل النزاع، وأنا الآن أطالب الطلبة بأن يأتوا بحديث يثبت أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فقال الأخ الكريم بحديث توفر فيه شرط واحد وفقد الشرط الثاني، إذاً هذا يهدم من أساسه ولا يصح للاحتجاج به.
كما لو أتى إنسان فقال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق)، أخرجه فلان، وفيه فلان الضعيف، فأقول له: أنت الآن حكمت بأن هذا الدليل لا يصلح للحجة، وإن كان صريحاً في النزاع أو في الطلب، لكنه لا يصلح أن يكون دليلاً لضعفه.
والحجة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فأتت صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها ولعن الله أباها، ثم أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقلبها إلى بيتها، فخرج من المعتكف ليردها إلى البيت، فرآه صحابيان، فناداهما النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إنها صفية بنت حيي، فقالوا: سبحان الله! يا رسول الله! أوفيك نشك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق)، والحديث في الصحيحين، وهو صريح في أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق.
وهناك حديث صحيح وصريح من جهة العموم لا من جهة فصل النزاع في قضية فرعية، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، والوجاء الوقاية من الشيطان، ويوضح هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (فضيقوا عليه بالصيام).
فتبين أن الصائم يهبط في بدنه جريان الدم، وبالتالي يهبط معه الشيطان ويخمد، وأنتم تعملون أنه إذا دخل رمضان غلقت أبواب النيران وفتحت أبواب الجنان وصفدت الشياطين بسبب الصيام وغير ذلك.(50/6)
الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة وذراري المشركين
قال: [الباب السادس: باب الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة، وذراري المشركين]، أي: ما من مولود من بني آدم إلا ويولد على الفطرة كما جاء في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية: على فطرة الإسلام، أي: ما من مولود إلا ويولد مسلماً- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه)، أي: يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو مشركاً، مع أنه ما من مولود إلا يولد على فطرة الإسلام، وهذا الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم لما استخرجهم من ظهور آبائهم؛ يوم أن أخرجهم ووضعهم في كفه سبحانه وتعالى وقال: هؤلاء للنار وهؤلاء للجنة، أو العكس.
وكذلك ذراري المشركين، أي: أن كل الكفار إذا أنجبوا أولاداً صغاراً فإنهم يولدون على الإسلام وعلى الإيمان والتوحيد؛ للميثاق الأول الذي أخذ عليهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، أي: شهدوا بربوبية الله عز وجل، والشهادة بالربوبية عند الإطلاق تعني توحيد الربوبية والإلهية، وإذا ذكر التوحيدان كان لكل منهما مضمون ومراد يختلف عن الآخر، وقد اختلف العلماء في أبناء المشركين إذا ماتوا قبل البلوغ هل هم كفار؟ فقال أقوام من أهل العلم: إنهم كفار تبعاً لآبائهم، وقال بعض أهل العلم: هم مؤمنون، وهم من أهل الجنة مع أطفال المسلمين الذين ماتوا قبل البلوغ؛ لأن أطفال المسلمين الذين ماتوا قبل البلوغ يدخلون الجنة ولا أعلم في ذلك خلافاً؛ لأنه لم يجر عليه القلم، ولم يبلغ الحلم، فلا ذنب اقترفه ولا إثم فعله، وحينئذ هو من أهل الجنة، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا باباً من أبواب الشفاعة فقال: (من مات له ثلاثة من الولد قبل أن يبلغوا الحنث فاحتسبهم دخل الجنة، قالوا: يا رسول الله! واثنان؟ قال: واثنان).
صلى الله على نبينا محمد، وقد جاء في الحديث: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أطفال المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)، حتى تعلم منشأ الخلاف عند أهل العلم؛ لأن أهل العلم اختلفوا على مذاهب شتى، فمنهم من قال: هم كفار، ومنهم من قال: هم مؤمنون، ومنهم من توقف، ومنهم من قال: يبتلون يوم القيامة باختبار وامتحان، فإن نجحوا وفازوا دخلوا الجنة، وإن رفضوا دخلوا النار، وهذا الامتحان في التوحيد، إذاً منشأ الخلاف قوله عليه الصلاة والسلام: لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، أي: لا أعرف ماذا كانوا سيعملون؟ فلما توقف النبي توقف الناس فيهم، أو اختلف الناس فيهم، لكن النبي عليه الصلاة والسلام (سئل في آخر حياته عن أطفال المشركين فقال: هم في الجنة مع إبراهيم عليه السلام)، ولا شك أن هذا القول ينسخ القول الأول، وهذا الذي استقر عليه مذهب جماهير العلماء من أهل السنة والجماعة، أن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل بلوغ الحلم وقبل أن يجري عليهم القلم فهم مع أطفال المسلمين في الجنة، وهذا هو القول الراجح، وهو الذي نرجو ونود أن يكون موافقاً لرحمة الله عز وجل؛ لأن هؤلاء لا يحاسبون.(50/7)
ما روي في المكذبين بالقدر وما روي عن الصحابة في ذلك
قال: [الباب السابع باب: ما روي في المكذبين بالقدر.
الباب الثامن: باب ما روي في ذلك عن الصحابة ومذهبهم في القدر رحمهم الله] وذكر أبا بكر الصديق ثم عمر ثم علي بن أبي طالب.(50/8)
باب الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه
قال: [باب: الإيمان بأن الله عز وجل كتب على آدم المعصية قبل أن يخلقه، فمن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].
والباب فيه عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، وكدت أقول: إن الطرق التي ورد بها هذا الحديث تكاد تكون متواترة، لكن ليست متواترة على الحقيقة، لكنها بلغت مبلغاً من الشهرة والذيوع بالمكان العالي.(50/9)
شرح حديث عمر: (إن موسى قال: يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة)
قال: [عن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن موسى قال: يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة)]، أي: أرني آدم الذي أخرجنا نحن الذرية وأخرج نفسه من الجنة، فهذه مصيبة حلت بآدم قبل أن تحل بالذرية.
قال: [(فأراه الله عز وجل آدم)]، كلمة (فأراه) تصدق على رؤية المنام كما تصدق على رؤية العين، ولذلك تقول: رأيت فيما يرى النائم وتسميها رؤية، مع أنها في الحقيقة ليست رؤية بمعنى الكلمة، فلما احتملت هذه الكلمة وغيرها من الكلمات المنصوصة في هذا الحديث اختلف أهل العلم في لقاء موسى بآدم، فمنهم من قال: كان لقاء موسى بآدم لقاء أرواح، ومنهم من قال: أحيا الله لموسى آدم فلقيه وكلمه، ومنهم من قال: إن الله عز وجل إنما أرى موسى آدم في قبره، أو أرى آدم موسى في قبره عند الكثيب الأحمر في فلسطين، وغير ذلك من الأقوال، والذي يترجح لدي ما رجحه الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله فقال: وهذا من أبواب الابتلاء في الإيمان.
فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى الأنبياء في ليلة الإسراء وصلى بهم، ولا يجوز أن نتنازع كيف صلى بهم ولا كيف رآهم؟ لكننا نقول: إن هذا باب من أبواب الابتلاء في الإيمان، فإذا عجزنا عن البلوغ والوصول إلى الحكمة من النصوص فلا أقل من أن نسلم في ذلك، ولذلك قال الحافظ ابن حجر قولاً ممتعاً جداً في الفتح في شرح هذا الحديث: وهذا مما يجب الإيمان به لثبوته عن خبر الصادق وإن لم يطلع على كيفية الحال، فينبغي الإيمان بذلك، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر.
لكن ممكن أن يقول شخص: أنا مؤمن بعذاب القبر، لكني أريد أن أعرف كيف يقع عذاب القبر؟ وكيف يجلس الميت في قبره وهو ضيق جداً؟ لا تنظروا إلى هذه الغرف الكبيرة، وإنما أصل القبر لحد كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا)، فاللحد ضيق جداً لا يكاد الإنسان يتقلب فيه حركة واحدة، فما بالك أن يأتي ملكان ويجلسانه ويسألانه وهو يجيبهم؟! ثم إذا تلعثم في الجواب ضرب بمرزبة فغاص في الأرض سبعين ذراعاً، كيف يتم ذلك كله في هذا القبر الضيق الصغير؟ كل ذلك نؤمن به، وأنه على الحقيقة، وأن الله على كل شيء قدير، فإذا كنت أؤمن أن الله على كل شيء قدير، إذاً: أنا أؤمن بأن الله قادر على أن يجمع هذا الكون في بيضة صغيرة، بل يجمع هذا الكون ويدخله سم الخياط، أي: خرم الإبرة؛ لأنه قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، ولا أقيس قدرة الخالق بقدرتي، إذ إن قدرتي محدودة ضعيفة، ولها قوانين أرضية سفلية تحكمها، أما الله عز وجل ففوق كل القوانين، وأفعاله لا منتهى لها ولا مثيل لها.
ولذلك نحن نقول: توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية يعني أن الله هو الرب الخالق المدبر لشئون خلقه القيوم على شئون عباده، ومعنى توحيد الأفعال، أي: يفعله الله ولا يفعله أحد، كيف ذلك؟ الله تعالى يسمع، فهل يسمع العالم كله منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة كسمع الله؟ لا يسمعون، وإن اجتمعت أسماعهم، فالله تبارك وتعالى هو الذي يخلق ولا خالق غيره ولا رب سواه، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يخلقوا رجلاً أو امرأة أو طفلاً رضيعاً؛ فهل يستطيعون أن يخلقوا طفلاً رضيعاً كما يخلق الله؟ لا، إذاً: هو واحد في أفعاله، ولو قلت لي: هل بإمكانك أن تدخل هذا السلك في خرم الإبرة؟ أقول لك: أنا أعجز عن ذلك، لكن الله يجمع الدنيا كلها إذا أراد ويدخلها من سم الخياط؛ لأنه على كل شيء قدير.
قال: وليس هو -أي: لقاء آدم لموسى- أول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نقف على حقيقة معناه كعذاب القبر ونعيمه.
واعلم أن هذا الكلام بمثابة الأصول القوية المتينة لأهل السنة والجماعة.
قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات، أي: في بيان الحكمة من الأمر أو النهي إذا ضاقت علينا، مثل: لماذا أمرنا الله بصلاة أربع ركعات في الظهر والعصر والعشاء؟ لماذا أمرنا الله بصلاة ركعتين في الصبح والمغرب ثلاثاً؟ وما الحكمة من هذا العدد؟ ولم لمْ يجعل الظهر خمساً أو ثلاثاً؟ خفيت علينا الحكمة ولم يبق لنا إلا وجوب التسليم لله عز وجل.
قال: ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم، أي: التسليم والإذعان لله عز وجل.
وقال ابن عبد البر: مثل هذا عندي -أي: مثل لقاء آدم بموسى- يجب فيه التسليم ولا يوقف فيه على التحقيق؛ لأنا لم نؤت من جنس هذا العلم إلا قليلاً، أي: لأنا لم نؤت في بيان المشكلات وحل الغامض من هذا إلا شيئاً نادراً جداً، إذ إن معظم أمور الغيب يجب فيها التسليم ويمتنع السؤال عن الحكمة، وليس هذا في مسائل الغيب فقط، بل من المسائل العملية التي يعملها الناس بالليل والنهار لا يعلمون لها حكمة، ولذلك المني في مذهب جماهير العلماء طاهر ويوجب الغسل، والبول بالإجماع نجس ولا يوجب الغسل، لكن قد يقول قائل: لماذا؟ أنا لا أستطيع أن أقول لك السبب، لكن الذي أس(50/10)
شرح حديث أبي هريرة: (احتج آدم وموسى) من عدة طرق
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت الذي أدخلت ذريتك النار؟ قال آدم لموسى: أصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأنزل عليك التوراة، فهل وجدت أني أهبط؟ -أي: هل وجدت هذا في الكتاب؟ - قال: نعم، فحجه آدم)]، أي: غلبه بالحجة.
[وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى)]، أي: كانت بينهما مناظرة، والمناظرة أيها الإخوة! تجوز حتى بين الابن وأبيه؛ لأن موسى ابن وآدم أب، ومع هذا فموسى هو الذي طلب آدم للحجاج والمناظرة، والمناظرة بين الولد ووالده ليست من سوء الأدب؛ لأن بعض الناس يظن أن الولد إذا أراد تبيين الحق لأبيه قالوا: كيف يتكلم مع أبيه بهذه الطريقة؟ إن إبراهيم عليه السلام ناقش والده، ونوح عليه السلام ناقش ولده.
فالمناظرة بين الوالد وولده جائزة إذا كان المراد منها الوصول إلى الحق، وإنما يعاب على من يناقش والده التعدي في الأدب، واختيار الألفاظ غير اللائقة بمقام الأبوة، أما المناظرة لأجل الوصول إلى الحق ومرضاة الرب فهذا أمر محمود في الشرع، والطريقة نفسها التي تكون أحياناً مذمومة وأحياناً محمودة حسب أدب الولد.
وكذلك المناظرة بين العبد والسيد، وبين الزوجة وزوجها، وبالتالي فلا بأس أن تذكر المرأة زوجها بالله، وأن تشير عليه بأمر ربما خفي عليه، كما أشارت أم سلمة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وذلك لما خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (اذبحوا الهدي وحلوا من إحرامكم، فلم يفعلوا، فدخل مغموماً خيمته، فلما علمت أم سلمة بذلك قالت: يا رسول الله! اخرج فاذبح الهدي واحلق، وإذا رأوك قد فعلت ذلك فعلوا، فلما خرج وفعل فعلوا رضي الله عنهم)، فهذه من باب المشورة.
لكن لا يأتي شخص الآن على خط مستقيم ويقول لامرأته: إن رأيك عندي استشاري، وأنت ليس لك قيمة عندي، أنت امرأة، أنت أنثى، حتى ولو وافق رأيك القرآن والسنة فكذلك أنت امرأة! ماذا يعني بهذا الكلام؟ إن الحق يا أخي! يقبل من كل من جاء به وإن كان يهودياً، والسلف يقولون: الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التمسها وأخذها، وهذه ليست هي القضية، وإنما القضية في هذا الكلام الذي نسمعه أحق أم باطل؟ موافق أم مخالف؟ مردود أم مقبول؟ فهذه هي القضية وهي الفيصل، أما أن تقول: ما دام أنك نصراني فلن آخذ منك شيئاً، فلا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي هريرة: (صدقك وهو كذوب)، أي: أن كلامه صدق، فهل يرد الكلام الصدق؟ ولو كان يرد الصدق -وإن أتى من إبليس- لما أقر النبي عليه الصلاة والسلام إبليس على أن نصح أبا هريرة أن يقرأ آية الكرسي عند نومه، فإذا قرأها فلا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، وإنما أقر النبي إبليس في هذا لأنه صدق، وليس له مصلحة في أن يكذب في هذا الموطن، فقال: (يا أبا هريرة! صدقك وهو كذوب، أتدري من يخاطبك منذ ثلاث؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك شيطان).
فالحق يؤخذ من كل من أتى به، أما أن تقف مع امرأتك على خط مستقيم فلا تقبل لها قولاً وتنهرها وتسفه أحلامها وغير ذلك، فليس هذا ديناً، وبعض الناس يتصور أن هذا باب من أبواب الشهامة والرجولة؛ أنه دائماً يضربها ويرد أقوالها، ويقول لها: وإن وافقك الكتاب والسنة.
يا أخي! إنك جبار عنيد، والحق يؤخذ منها إذا نطقت به.(50/11)
معنى قول آدم لموسى: (أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء)
قال: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض؟ -أغويت: من الغواية وهي الضلال- فقال له آدم: أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء)]، وهل الله سبحانه وتعالى بالفعل أعطى لموسى علم كل شيء؟ لا، إذاً: هذا يسمى عند الأصوليين من العام المخصوص، وكلمة (كل) من ألفاظ العموم، أي: علم كل شيء قد ورد في الكتاب الذي أنزله عليه، بدليل أنه ما أحاط بشر قط بالعلم كله، وأعلم العلماء في الخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، ومع هذا قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
إذاً: قوله: (وأعطاك الله علم كل شيء)، أي: علم كل شيء قد جاء في التوراة، ومصداق ذلك: أن موسى عليه السلام لما سئل: أتدري أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فعاتبه الله عز وجل على ذلك لأنه تعجل الجواب، فقال: يوجد عبد من عبادي هو أعلم منك، اذهب إليه في مكان كذا، والقصة طويلة وقد شرحناها من قبل، والشاهد منها: أن موسى عليه السلام لما التقى بـ الخضر قال له الخضر: أنت على علم علمكه الله لم يعلمنيه، وأنا على علم علمنيه الله لم يعلمك.
إذاً: موسى عليه السلام لم يحط بالعلم، وإنما أحاط بالعلم الذي نزل إليه، فهذا يسمى في الأصول من العام المخصوص، أي: وإن كان اللفظ عاماً، لكن المراد من النص ليس العموم المطلق، وإنما العموم الخاص بالكتاب المنزل عليك يا موسى! قال: [(أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء واصطفاك على الناس -أي: اختارك- برسالته؟ قال موسى: نعم، قال: أفتلومني على أمر قد كتب علي قبل أن أفعله، أو قال: قبل أن أخلق؟ قال: فحج آدم موسى)].(50/12)
اختيار الألفاظ المناسبة من محاسن اللغة العربية
[وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التقى آدم وموسى)]، وفي كلمة (التقى) مغزى لغوي مفاده: أنه لا يصح استعمال لفظ آخر مكانه يربط بين آدم وموسى، ولذلك أنا لا أستطيع أن أقول: الشمس خرجت، وإنما: الشمس طلعت.
وكذلك لما قال عمر رضي الله عنه: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل)، فقوله: (إذ طلع)، هذا اللفظ لا يصلح أن يكون لحقيقة الآدميين، وإنما الذي يصلح للآدمي: خرج أو دخل علينا رجل، أما (طلع) فلا هو قمر ولا هو شمس، ولذلك قال: (هو جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فربطنا قوله: (هو جبريل) بالقول الأول (طلع)، فـ عمر ما قال: طلع علينا رجل إلا لما علم أنه جبريل، فاختار لفظاً يتناسب مع جبريل ولا يتناسب مع حقيقة الآدمي، فقال: طلع، ولم يقل: خرج أو دخل، فكذلك قوله هنا: (التقى آدم وموسى).(50/13)
معنى قول موسى لآدم: (أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة)
قال: [(التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت الذي أشقيت الناس -من الشقاء والتعاسة، وهو ضد السعادة- وأخرجتهم من الجنة؟ قال: فقال آدم لموسى)] وفي الحقيقة يذكر الأمر باعتبار ما سيكون؛ لأن الذي خرج من الجنة هو آدم وحواء دون الذرية، إذ إن الذرية ما كانت إلا على الأرض، أي: لم يكن لآدم نسل في الجنة، وإنما لما نفخ الله فيه الروح وأمره بهذه الأوامر وقعت المخالفة بعدها فوراً من شدة إغواء الشيطان وإبليس له، فكان الخروج فوراً من الجنة إلى الأرض، فلم يحصل لآدم تناسل في الجنة، وإنما أول التناسل حصل بعد أن نزل إلى الأرض، فقوله هنا: (أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة)، هو في الحقيقة يريد أن يقول: أنت الذي خرجت من الجنة، وبالتالي كانت ذريتك حاصلة على الأرض وليس في الجنة، بدليل أن الإجماع منعقد على أن آدم لم ينجب في الجنة، وإنما أنجب في الأرض، فقوله: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة، هو في الحقيقة ما أخرجهم، وإنما أخرج نفسه، وهو أس النسل عليه السلام.
قال: [(فقال آدم لموسى: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فهل وجدته كتب علي قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى)]، أي: غلبه بالحجة.
[وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى عليهما السلام، فقال آدم لموسى: أنت يا موسى! الذي بعثك الله برسالته، واصطفاك على خلقه، ثم صنعت الذي صنعت؟)]، في كل مرة موسى هو الذي يقول لآدم، وهذه المرة بدأ آدم، قال: (أنت يا موسى! الذي بعثك الله برسالته، واصطفاك على خلقه، ثم صنعت الذي صنعت؟)، وأنتم تعلمون أن موسى عليه السلام قتل نفساً، وكان ربما وقع في النفس الثانية، لولا أنه استرجع ما كان منه بالأمس: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19]، أي فما الخبر يا موسى؟ أو كلما تلقى شخصاً تريد قتله أم كلما يصرخ عليك شخص من قومك تقوم مباشرة بقتله؟ قال: [(فقال موسى: أنت آدم أبو الناس الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، فلولا ما صنعت دخلت ذريتك الجنة؟ قال آدم لموسى: أتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى).
ومن طريق أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقي آدم موسى عليهما السلام، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ثم فعلت ما فعلت، فأخرجت ذريتك من الجنة؟ قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالته، وكلمك وقربك نجياً؟ قال: نعم، قال: فأنا أقدم أم الذكر؟)]، انظروا إلى الحجة، يقول له: أيهما خلق أولاً أنا أم اللوح المحفوظ؟ [قال: بل الذكر] الذي هو اللوح المحفوظ.
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى، فحج آدم موسى)]، وكأن آدم أراد أن يقول لموسى: أنا أقدم أم الذكر؟ قال موسى: الذكر، والذكر مكتوب فيه كل شيء إلى قيام الساعة، وبالتالي مكتوب فيه أن آدم سيأكل من الشجرة.(50/14)
أثر ابن عباس: (قد أخرج الله آدم من الجنة)
قال: [وعن ابن عباس قال: (قد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يسكنه إياها)]، أي: قد قضى عليه بالهبوط منها قبل أن يدخلها، لا أنه ما دخل الجنة ابتداء، فهو قد دخلها، ولكن الله تعالى علم أنه سيخالف الأمر ويرتكب النهي فيهبط بسبب ذلك إلى الأرض، ثم يتوب فيتوب الله عز وجل عليه.
قال: [(ثم قرأ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30])]، وكلمة (خليفة) تعني: أنه يخلف قوم قوماً، لا أن الله تعالى يُخلِف عنه أحداً من خلقه؛ لأن بعض أهل العلم فهموا ذلك، فقالوا: (إني جاعل في الأرض خليفة) أي: خليفة عن الله عز وجل، قالوا: ومفاد ذلك أن الله تعالى هو العدل، وهو الحكم الذي يحكم بين عباده بالعدل، لكن الله لا يحكم بينه وبين عباده مباشرة، وإنما بواسطة رسله، فآدم أول نبي بعثه الله عز وجل، وأول رسول أرسله الله هو نوح عليه السلام، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً كما تعلمون.
فقالوا: فناسب أن يكون لله تعالى خليفة في الأرض ليحكم بين الذرية بالعدل نيابة عن الله عز وجل، وهذا الكلام بعيد، والصحيح أن معنى (خليفة) أي: يخلف بعضهم بعضاً، ويكون بعد كل قرن قرن، لا أنه أراد آدم على جهة الخصوص.(50/15)
أثر عبيد بن عمير: (قال آدم: يا رب! أرأيت ما أتيت)
[وعن عبيد بن عمير قال: (قال آدم: يا رب! أرأيت ما أتيت، أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ قال: لا، بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: أي رب! فكما قدرته علي فاغفره لي، قال: فذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]]، أي: هذه هي الكلمات التي كانت بين آدم وبين الله عز وجل.(50/16)
أثر خالد بن مهران: (قلت للحسن: يا أبا سعيد! آدم خلق للأرض أم للسماء)
[وقال خالد بن مهران الحذاء: قلت للحسن -أي: الحسن البصري أبو سعيد -: يا أبا سعيد! آدم خلق للأرض أم للسماء؟ -أي: هل الأصل في خلق الله لآدم أنه للأرض أم للسماء؟ - فقال: ما هذا يا أبا المبارك]! أي: ما هذه الأسئلة الغريبة التي تسألها، الأصل أن هذه المسائل مستقرة عندك.
[قال: فقال: خلق للأرض] أي: خلق للأرض ولم يخلق للجنة، وإن دخلها وخرج منها، فهذا المخلوق الوحيد الذي دخل الجنة وخرج منها، ولا يدخل بعده أحد قط الجنة بعد البعث ويخرج منها، بل من دخلها فإنه يخلد فيها أبداً، وهذا خلافاً للنار، فإنه من دخلها من الكفار والمنافقين خلد فيها أبداً، أما من دخلها من عصاة الموحدين فيخرج منها بشفاعة الشافعين أو بشفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى، إذاً النار تختلف عن الجنة، وبين الجنة والنار فروق كثيرة جداً.
منها: أن للجنة ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب، ولا تظن أن الباب شيء سهل، فباب الجنة بين مصراعيه كما بين المشرق والمغرب، والقائمون على عتبتي الباب أحدهم في المشرق والآخر في المغرب، ومع هذا يتزاحم فيه الناس حتى يكادوا يختنقون، اللهم اجعلنا منهم، ولكن لا نخنق، فيكفي الزحام الذي نحن فيه.
وقوله: قلت للحسن: يا أبا سعيد! آدم خلق للأرض أم للسماء؟ هذا إشارة إلى أن الجنة التي كان فيها آدم كانت في السماء لا في الأرض.
قال: [فقال: ما هذا يا أبا المبارك! قال: فقال: خلق للأرض، قال: فقلت: أرأيت لو استعصم فلم يأكل من الشجرة؟] أي: ألست تقول لي: إنه خلق للأرض، إذاً فما رأيك لو أن آدم لم يأكل من الشجرة، أيكون للأرض أم للسماء؟ وهذا فرض جدلي، والمطلوب طرحه ورده وعدم الجواب عليه.
[قال: فقلت: أرأيت لو استعصم -أي: استعصم بالله واستعاذ به- فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له بد من أن يأكل منها؛ لأنه للأرض خلق].
انظر إلى جواب الحسن البصري، يقول له: انس هذا الأمر.
وتذكرون قبل حوالي سبع أو ثمان سنوات عندما قالوا في مجلة العلمانيين المجرمة: إن إبليس ذهب إلى الشيخ علي جاد الحق في مشيخة الأزهر، وقال له: يا مولانا! أنا أريد أن أتوب، وأريد أن أسلم لله، ولا أدري ماذا أعمل؟! أي: أن إبليس ذهب إلى الأزهر من أجل أن يشهر إسلامه! لأن هذا شرط، والآن الأزهر عمل شرطاً جديداً للنصراني الذي يريد أن يسلم، وهو أنه لابد أن يحفظ خمسة أجزاء من القرآن من أجل أن يعطيه الشهادة، يعني: أنتم تكفروه حتى يحفظ خمسة أجزاء؟ فيظل على كفره حتى يحفظ القرآن؟ فأنت إذا قلت اليوم: لابد من خمسة أجزاء، فيمكن أن يأتي غيرك ويقول: عشرة أجزاء، ولو أن نصرانياً طلع من هذا الباب، أو من عند هذا المنبر فيجب علينا أن يدخل في الإسلام أولاً، ثم يذهب فيغتسل، والمسافة قريبة، ويحرم علينا أن نقول له: اغتسل أولاً ثم تعال وانطق بالشهادتين؛ لأنه لو مات في الطريق فمن الذي يتحمل إثمه؟ أيضاً افرض يا أخي! أن ذاكرته ضعيفة، يحفظ كل سنة جزءاً، فهل يظل خمس سنوات كافراً؟ هذا شيء عجيب جداً.
فالمجرمة روز اليوسف قالت: إن إبليس ذهب إلى سيدنا جاد الحق وقال له: يا مولانا! أنا أريد أن أشهر إسلامي وأتوب إلى الله، فقال له سيدنا جاد الحق: اذهب حتى نرى حلاً لمشكلتك! انظروا إلى هذا الكلام الفارغ، إنه استهزاء بالدين.
والجواب على هذه الشبهة: أنه مستحيل أن يطلب إبليس هذا الطلب، ولو من باب إحراج القرآن والسنة؛ فمستحيل أن يخطر ببال إبليس هذا، أو أن يخطر بباله الدخول في الإسلام؛ لأن الله قد قضى عليه في الأزل الكفر حتى نهاية العالم، فإذا كان الله تعالى قال في حياة أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ} [المسد:1 - 4]، أي: أم جميل بنت حرب كذلك في نفس المصير، فلو كان أبو لهب يريد أن يحرج النبي، أو أن يظهر أن هذا القرآن كذب، وأن الأمر لا يجري على مراد الله وعلمه السابق الأزلي فقال: مادام أن القرآن يقول ذلك، إذاً فأنا أسلمت، لكن حتى ما قالها نفاقاً، فكيف يقولها إبليس؟! إذاً: هذا الذي يحدث على صفحات هذه المجلة الشيطانية ما هو إلا استهزاء بالإسلام، ولذلك نحن لا نتوقف مطلقاً في تكفير قائل هذه المقالات، والمستهزئ بالدين في أحكام أهل العلم كافر بالإجماع.
[قال: فقلت له: أكان له أن يستعصم؟ قال: لا] أي: هل كان ممكن أن يقع منه الاعتصام بالله أم لا؟ قال: مستحيل أن يقع منه ولا يخطر على باله؛ لأن الله كتب ذلك في علمه الأزلي السابق في اللوح المحفوظ فلا يمكن.(50/17)
تعليق ابن بطة على أحاديث وآثار احتجاج آدم وموسى وتعلقها بالقدر
[قال الشيخ ابن بطة] يشرح هذه الأحاديث الطويلة بكلمتين في منتهى الاختصار، وهذا هو وضع السلف أنهم كانوا قليلي الكلام كثيري العمل، أما نحن فعلى العكس تماماً، كلام كثير جداً والعمل صفر.
[قال الشيخ: فقد علم الله عز وجل المعصية من آدم قبل أن يخلقه]، وانتبه إلى قوله: قد علم، فهذا فيه إثبات مرتبة العلم.
ونحن قد قلنا: إن مراتب القدر أربع: مرتبة العلم، ومرتبة الكتابة، ومرتبة الإرادة والمشيئة، ومرتبة الخلق.
فانتبه إلى هذه المراتب، إن لم تحفظها وتلم بها وبأحكامها وبأدلتها ستضيع في باب القدر.
ومرتبة العلم، إي: إثبات العلم الأزلي لله عز وجل، وأنه علم كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة، فعلم ذلك من خلقه فكتبه في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش، وفي الحديث: (أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة) وهذا قلم القدرة، فهذه هي المرتبة الثانية من مراتب القدر، وهي مرتبة الكتابة، التي كتبت على مقتضى علم الله عز وجل.
إذاً: المرتبة الأولى: العلم الأزلي، ولا نقول كما قالت القدرية: إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها وبعد حدوثها، بل علمها في الأزل، فلما علمها الله عز وجل كتبها، ولا أقصد بقولي: (فلما) أنه لم يكن يعلم فعلم، إنما قصد الكلام الدارج.
ثم إن الله عز وجل جعل للعبد مشيئة وإرادة، والله سبحانه مشيئة وإرادة، وما تشاءون إلا أن يشاء الله، فجعل للعبد مشيئة ولله مشيئة: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فأثبت للعبد إرادة ولله تعالى إرادة، لكن العبد لا يريد إلا ما أراده الله، ولا يشاء إلا ما يشاؤه الله، بمعنى: أنه لا يقع من العبد عمل أو قول أو فعل أو حركة أو سكون إلا أن يأذن في خلقها وإيجادها الله عز وجل، وهذه هي المرتبة الرابعة التي تسمى: مرتبة الخلق والإيجاد، فلا يكون في ملك الله إلا ما أراد وقدر وشاء، لكن الأعمال التي تتم في الكون منها ما هو خير وطاعة موافق للشرع وموافق لمحبة الله ورضاه وأمره، ومنها ما وقع وهو شر ومعصية، والله تعالى هو الذي أذن فيه وفي وقوعه؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد، فإما أن تكون إرادة شرعية مبناها على المحبة والرضا، فأنا الآن أصلي، فهل يمكن أن أصلي على غير مشيئة الله وإرادته؟ أي: هل للعبد أن يقول: أنا أصلي أربع ركعات شاء الله أم أبى؟ هل يقع منه ذلك؟ لا يقع منه ذلك، ولو أراد الله تعالى أن يميته في مكانه وقبل أن يتم كلامه لفعل سبحانه وتعالى.
فلا يضمن العبد أن يدخل في عمل أو أن يتكلم بقول أو أن يضمن حياته، ولا أن يضمن أيتم ذلك منه أم يخرص ويصم قبل أن يتم؟ ولذلك الإرادة الشرعية هي الموافقة للشرع، سواء كانت من الله عز وجل في أوامره التي أمر الله بها العباد، أو من العبد الذي تقرب إلى الله بفعل هذه الطاعات.
فنقول: هذا العبد يصلي، فهو قد أراد ما أراده الله شرعاً وقدراً، والقدر هو القدر الكوني أو القدر الشرعي، فالله تعالى أراد أن يقع منه في الكون ما أراد شرعاً، وهو تحقيق الصلاة.
ونقول: إن الإرادة الكونية القدرية دون الشرعية تكون من العبد إرادة واكتساباً، وتكون من الرب تبارك وتعالى إيجاداً وخلقاً، فالله تعالى هو الذي أذن في وقوع الكفر في الكون، ولو أراد الله تعالى أزلاً ألا يقع في الكون كفر لما وقع، وما استطاع أحد أن يكفر، حتى وإن أراد الناس الكفر لا يكفرون إلا بإرادة الله؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد، لكن بعض الناس يخلط بين الإرادة الشرعية التي مبناها على المحبة والرضا الموافقة للشرع، وبين الإرادة الكونية القدرية، فالله تعالى أذن في هذا وأذن في ذاك، أذن في الشرعية لأنه أحبها ورضيها وأمر بها، وأذن في القدرية ومنها الموافق للشرع ومنها المخالف؛ والمخالف أذن فيه الله تعالى ابتلاء للعبد، حتى إذا تاب تاب الله عز وجل عليه، وإذا لم يتب فهو في مشيئة الله إن كان موحداً، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، وإذا كان كافراً اختار الكفر اختياراً بإرادته، وهذا هو الذي يجاب به عن
السؤال
هل الإنسان مسير أم مخير؟ فأنت تختار الطريق بإرادتك، ومن قبل قلنا: لو أن إنساناً أمامه هدف، والموصل إلى الهدف طريقان: أحدهما: معبد، والآخر غير معبد، وقلنا له: اسلك أحد الطريقين فوراً، فإنه سيسلك الطريق المعبد الممهد بعيداً عن الشوك والحجارة والطوب وغير ذلك، والذي سيوصله إلى الهدف بسرعة، وهذا هو اختيار العقل، إذاً فلم تختار طريق المعصية في حياتك وأنت تعلم أنها معصية، وأنها تؤدي إلى النار؟ ثم تقول: الله تعالى هو الذي قدر علي ذلك؟ لم لمْ تسلك هذا الطريق الممتلئ بالشوك وتقول: هو الذي قدر علي ذلك؟ إذاً أنت مختار مريد للمعصية، ووقعت منك بإذن من الله تعالى؛ لأنه لا يكون في ملك الله من خير أو شر إلا بإرادته وإذنه وخلقه وإيجاده، فالمعصية في باب الخلق والإيجاد لله عز وجل، وفي با(50/18)
معنى قول المؤلف: (فقد علم الله المعصية من آدم قبل أن يخلقه)
قال: [فقد علم الله عز وجل المعصية من آدم قبل أن يخلقه، ونهاه عن أكل الشجرة، وقد علم أنه سيأكلها]، أي: أن الله عز وجل علم علماً أزلياً قبل أن يخلق آدم أن آدم سيأكل من الشجرة، وبعد علم الله عز وجل خلق آدم، وبعد خلقه نهاه أن يأكل من الشجرة، والله تعالى يعلم أزلاً أنه سيأكل منها بغواية الشيطان له.
قال: [وخلق إبليس لمعصيته -أي: أن الله خلق إبليس من أجل أن يعصيه- ولمخالفته فيما أمره به من السجود لآدم]، ومعنى ذلك: أن الله تعالى خلق إبليس وهو يعلم أنه إذا أمره بالسجود لآدم فإنه لن يسجد، كما علم أن آدم لن يمتثل الأمر بل سيقع في النهي، قال: [وقد علم أنه لا يسجد، فكان ما علم ولم يكن ما أمر]، أي: فكان من الله ما علم ولم يكن منه ما أمر، فهو أمر بالسجود لآدم ونهى عن الأكل من الشجرة، فخالف إبليس الأمر، وخالف آدم النهي، والله تعالى يعلم هذه المخالفة، ومع هذا أمر، فالذي كان من الله عز وجل الأمر والنهي، والذي وقع على آدم هو النهي، والذي وقع على إبليس هو الأمر، فخالف إبليس في الأمر وارتكب آدم النهي.
وهذا النهي الذي وقع فيه آدم والأمر الذي خالفه إبليس كان في علم الله تعالى الأزلي أنهما لا يمتثلان.
قال: [فكان ما علم ولم يكن ما أمر، وكذلك خلق فرعون وهو يعلم أنه يدعي الربوبية ويفسد في البلاد ويهلك العباد، وأرسل إليه موسى يأمره بالتوحيد لله والإقرار له بالعبودية، وهو يعلم أنه لا يقبل].
وهذا في ميزان البشر، فإذا كان هو يعلم أنه لن يقبل فلماذا يبعثه؟ من أجل أن يقيم عليه الحجة، فلا تظن أن الله عز وجل يظلم عباده أبداً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالله تعالى أرسل إليك الرسول، وأنزل معه الكتاب، ومنحك العقل الذي هو مناط التكليف، فماذا تريد بعد ذلك؟ الآن -ولله المثل الأعلى- عندما يقول لك أبوك: أنا أأكلك وأشربك وأصرف عليك وأعطيك دروساً خصوصية، لكن لابد أن تكون النتيجة آخر السنة مرضية، فأنت على مدار السنة تكون مرعوباً إن لم تأت بالنتيجة المرضية، وتعمل جاهداً على أن تحقق أعلى نسبة نجاح ترضي الوالد، والله تعالى أحق بالرضى، فهو الذي ربى جميع الخلائق وقام على شئونهم، وهو الذي خلقهم وسواهم وعدلهم، أفلا يستحق بأن يُرضى؟! وغير ذلك فوق الطعام والشراب والمسكن والمأوى مما لا يملكه إلا الله، فقد أرسل إليك الرسل من أجل أن يبين لك طريق الهداية من الغواية، وأنزل معهم الكتب التي فيها هدى ونور أو كلها هدى ونور، ومنحك العقل لتميز بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الجنة والنار، بين الطاعة والمعصية؛ وتعلم ذلك يقيناً من نفسك.(50/19)
العمل سبب لدخول الجنة
إذاً: لو خالفت الأمر أو ارتكبت النهي تستحق دخول النار، والأكثر من ذلك أيها الإخوة! أننا مهما عبدنا الله لا نستحق الجنة، إذ إن دخول الجنة بفضل الله تعالى ورحمته، إلا أنه سبحانه جعل العمل سبباً لدخول الجنة، أما أن العمل يكافئ الجنة ويوازيها ويساويها فلا والله، ولذلك أخرج الحاكم في المستدرك من حديث أنس: (أن رجلاً عبد الله ستمائة عام)، تصور شخصاً قائماً صائماً لله تعالى ستمائة سنة، قال: (فقال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: يا رب! بعملي، قال: زنوا عمل عبدي ونعمي عليه)، انظروا إلى الاختبار والابتلاء، أي: ضعوا عمله في كفة، وضعوا نعمي عليه في كفة أخرى، واعلم أن هذا الكلام ليس له علاقة بالجنة والنار، فالآن نحن سنضع النعم في كفة والعمل في كفة، فإذا غلبت النعم فعملك ليس بنافع، وإذا غلب العمل -ومحال أن يغلب العمل- فلا أقل من أننا نقول لك: شكراً لك، لكن أنعمنا عليك وأنت عملت، ليس لك لا جنة ولا نار، فيكون مثلك مثل الأعراف، أليس كذلك؟ لأنه لن يكون إلا ذلك.
قال: (فوضعت الملائكة نعمة واحدة؛ نعمة البصر في كفة، ووضعوا عمل ستمائة سنة في كفة، فطاش العمل -أي: ثقلت به كفة النعمة الواحدة- فقال الله تعالى: أدخلوا عبدي النار)؛ لأن عمله لم ينقذه، وهذه نعمة واحدة: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فكيف إذا كانت نعماً كثيرة؟! قال: (فقال الله: أدخلوا عبدي النار، قال: يا رب! أدخلني الجنة برحمتك)، لماذا لم يكن هذا الكلام أولاً؟(50/20)
المؤمن بين الخوف والرجاء
إذاً: فلا يغتر أحدنا بطاعته، ولا يقنط أحد من معصيته؛ لأنكم تعلمون أن جناحي المؤمن في السير إلى الله: الخوف والرجاء، الخوف الذي يزيده عملاً، والرجاء الذي لا يقنطه من رحمة الله، فهل هناك طائر يمكن أن يطير بجناح واحد؟ لا، بل لو انكسر أحد جناحيه لسقط، وكذلك المؤمن لو فقد الخوف من الله ارتكب المعاصي، ولو فقد الرجاء في الله قنط من رحمة الله وأيس، ولا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرون، ولذلك العلماء يقولون: من عبد الله بالخوف فقط كفر، ومن عبده بالرجاء فقط كفر، إذ إنه لا يمكن أن يستقيم العبد إلا إذا مشى الاثنان سوياً، فلا يغلب الخوف على الرجاء، ولا الرجاء على الخوف، ولذا قالوا: إذا كان المرء في شبابه فلا بأس أن يزيد عنده الخوف الذي يؤدي إلى مزيد العمل، وعند الموت أو كبر السن فلا بأس أن يغلب الرجاء عليه حتى يلقى الله تعالى وهو حسن الظن به، أما أن يغتر الإنسان بعمله فهذه مصيبة عظيمة، ولذا من الكبائر أن ترى لنفسك عملاً مع نعم الله عز وجل، فمهما عبدت الله عز وجل فليست بشيء ولا تؤهلك لأي شيء، فإياك أن تغتر وتقول: أنا رجل سني وملتحي وألبس جلبية بيضاء قصيرة إلى غير ذلك من التزكية للنفس، فإياك أن تغتر بهذا والله لا ينفعك، ولذلك العلماء يقولون: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة؛ فالأول لأنه اغتر وتعالى وافتخر بها على الناس، كأن يقول: أنا أصلي الخمس، وأصوم رمضان، وأحج كل سنة وأعتمر كذا وكذا، ويظل يفاخر بأنه يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويتصدق، وأنه حل قضايا فلان ومشاكل فلان وغير ذلك، مع أن الذي وفقه لهذا العمل هو الله تعالى، ولو أن الله تعالى تخلى عنه لحظة ما فعل شيئاً من ذلك.
إذاً: مرد العمل كله لله عز وجل، ولو أنه سبحانه أوكلك إلى نفسك طرفة عين لهلكت، فأنت في كنف الله ورعايته فلا تغتر، ولا تنسب شيئاً من ذلك لنفسك، فإذا فعلت طاعة فاحمد الله عليها، ولا تحمد نفسك، وإذا فعلت معصية فاستغفر الله منها، ورب معصية أورثت صاحبها ذلاً وانكساراً وتوبة، فكان بسببها أن دخل الجنة.
شخص التقى بأناس كثيرين وقال: أنا أبو المعاصي، والله تعالى يسترني ويستركم جميعاً، لكن أحياناً يأتي إنسان ويقول: يا شيخ! أنا قتلت وزنيت وشربت الخمر وأكلت الخنزير، وهو يتقطع ويتمزق ألماً، ثم منهم من يهيم على وجهه بسبب هذه المعصية، وينقطع للعبادة، ولا يرى أنه يعبد الله تعالى ويكافئه بأي شيء من نعمه، فهذا بلا شك معصية أورثت صاحبها خيراً.(50/21)
نزول المصائب والبلايا بالعبد منحة لا محنة
ولذلك أيها الإخوة! كثير من البلايا تنزل بالعبد فيراها محنة، وهي في حقيقتها منحة من الله عز وجل، فتكون في هذه البلايا إفاقة ورجوع وإنابة إلى الله عز وجل.
والمصائب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخير في يديك، والشر ليس إليك)، أي: أن الشر المحض الذي لا مصلحة فيه ليس من أفعال الله عز وجل، وإنما الشر الذي يراه الناس شراً وهو فيه خير، فهذا من أفعال الله عز وجل، أي: من أفعال الله التي أذن في خلقها وإيجادها، فلو أن إنساناً قتل آخر، فهذا القتل يراه جميع الناس شراً محضاً، لكن لو أن القاتل أقيم عليه الحد على الهواء مباشرة، ورآه العالم، وقيل: فلان هذا قتل فلاناً، وأولياء القتيل يطالبون بالقصاص، وهذا هو القصاص، ويضرب عنقه ويقتل كما قتل، لفكر كل سفاح أو مصاص للدماء أو قاتل مليون مرة في العالم كله قبل أن يقتل أنه ممكن في يوم من الأيام أن يعرض هذا المعرض ويشهده الناس في هذا المشهد، وبالتالي تقل الجريمة أو تنعدم.
ولذا لو أردنا أن نعد الحدود التي وقعت في زمن النبوة فلن نستطيع أن نعدها على أصابع اليد الواحدة، فكم امرأة أقيم عليها الحد؟ أو كم شخص أقيم عليه الحد بالزنا؟ قلة قليلة جداً، اثنان أو ثلاثة؛ المرأة الغامدية، وماعز الأسلمي، والمرأة التي وقع عليها العسيف الأجير، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الله بن أنيس! اذهب إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فهؤلاء ثلاثة قتلوا أو رجموا في الزنا، وهذا الأجير العسيف أقيم عليه حد الجلد؛ لأنه لم يكن محصناً، وقد وردت السنة بهذا.
أما القتل فقلة قليلة جداً، بل أقل من ذلك، وكذلك شرب الخمر قلة قليلة، مع أن الصحابة رضي الله عنهم ما أتى إليهم النبي إلا وهم يرزحون تحت نير الخمر، لكن لما نزلت آيات التحريم الصريحة سالت أودية المدينة بقدور الخمر، لكن قد يقول قائل: أنا أشرب سجائر ولا أستطيع تركها، أشربها وعمري سبع سنوات، وأنا الآن في ثلاث وخمسين سنة، وماذا يعني ذلك؟ ألا توجد عزيمة وإرادة؟! ألا تخاف من الله يا أخي؟! ثم أيها أعظم: الخمر أم السجائر؟ إن الصحابة رضي الله عنهم كان شرابهم الخمر، لكن عند أن نزل التحريم استجابوا لله تبارك وتعالى، وانتهى الكل عن شرب الخمر، مع أن كل واحد منهم كان عنده قدور من الخمر، ومع ذلك أخذها وصبها في سكك المدينة، حتى أصحبت الشوارع كلها مبتلة هنا وهناك؛ لأنهم يعلمون قدر الله عز وجل، وعظم الأمر الموجه إليهم من السماء، ويعلمون من الإله الحق الذي يعبدونه؟ إنه صاحب الأمر والنهي، ولو أمر الله تعالى الصحابة أن يخرجوا من آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم والله لخرجوا وما توقفوا، بل وقد خرجوا، فهناك حالات خروج، وأنتم تعلمون أن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن اسلول خرج من أبيه، وهو الذي طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل أباه المنافق الذي قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، فوقف عبد الله لأبيه على مشارف المدينة، وقال: أأنت الذي قلت: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟ ثم قال له: والله إنك الذليل ورسول الله هو العزيز، ولد يكلم أباه بهذا الخطاب؛ لأنه قد خرج منه وباعه لله عز وجل: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، هذا هو الإيمان الحق.
[قال الشيخ: فقد علم الله عز وجل المعصية من آدم قبل أن يخلقه، ونهاه عن أكل الشجرة، وقد علم أنه سيأكلها، وخلق إبليس لمعصيته ولمخالفته فيما أمره به من السجود لآدم وأمره بالسجود، وقد علم أنه لا يسجد، فكان ما علم ولم يكن ما أمر، وكذلك خلق فرعون وهو يعلم أنه يدعي الربوبية ويفسد في البلاد ويهلك العباد، وأرسل إليه موسى يأمره بالتوحيد لله والإقرار له بالعبودية، وهو يعلم أنه لا يقبل، فحال علمه فيه دون أمره].
أي: فنفذ في فرعون علم الله ولم ينفذ فيه أمره.
قال: [وعن مجاهد في قول الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم من إبليس المعصية، وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها]، أي: الطاعة بعد التوبة.(50/22)
كلام الإمام النووي في المراد بالتقدير في قوله عليه السلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)
لما ذكر الإمام النووي عليه رحمة الله هذه الأحاديث التي ذكرناها قال: المراد بالتقدير في قوله عليه الصلاة والسلام: (أتلومني على أمر قدره الله علي)، لا يفهم منه أنه مجبور على ذلك، إذ إن الجبرية من الفرق الضالة الهالكة.
وإنما معنى التقدير في قوله: (أتلومني على أمر قدره الله علي) أي: كتبه الله علي، إذاً: التقدير هنا بمعنى: الكتابة، بدليل أنه قال: أأنا أقدم أم الذكر؟ قال: الذكر، إذاً أنت قرأت في الذكر أنني سأفعل هذا قبل أن أخلق بأربعين عاماً.
قال: وفي صحف التوراة وألواحها، أي: كتبه علي قبل خلقي بأربعين سنة، وقد صرح بهذا في الرواية التي بعد هذه، فقال: (بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين سنة)، أي: أنه في التوراة التي نزلت على موسى أن آدم عليه السلام سيرتكب ما ارتكب قبل ذلك بأربعين سنة.
قال: (قال: أتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)، فهذه الرواية مصرحة ببيان المراد بالتقدير، وأنه الكتابة.
والكتابة مرتبة من مراتب القدر، وهي متعلقة بالمرتبة الأولى من جهة علم الله، أي: أن الله تعالى علم أزلاً ما يكون من العباد من خير وشر وصالح وطالح، فلما كان ذلك كتبه في اللوح المحفوظ.
ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى وما قدره على عباده وأراد من خلقه أزلي لا أول له؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن علم الله تعالى متعلق بخلقه قبل أن يخلقهم بأربعين سنة؛ لأن هذا القول يستلزم أن الله كان جاهلاً فعلم، وهذا كفر.
ولم يزل سبحانه مريداً لما أراده من خلقه من طاعة ومعصية وخير وشر.
قال: (فحج آدم موسى)، أي: غلبه بالحجة وظهر عليه بها، ومعنى كلام آدم: أنك يا موسى! تعلم أن هذا قد كتب وقدر علي قبل أن أخلق، فلابد من وقوعه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر، فلم تلومني على ذلك؟ ولأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع لا بالعقل.
فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله علي، لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، كأن تجد شخصاً يشرب الخمر فتقول له: يا فلان! لماذا تعمل ذلك؟ فيقول: هذا مقدر علي! فيحتج بالقدر على المعصية، والمتفق عليه بين أهل السنة والجماعة أن القدر يحتج به في باب المصائب لا في باب المعائب، كأن يمرض شخص فيقول له آخر: لماذا يا أخي! مرضت؟ فيقول له: هذا قدر، واحتج له بالقدر؛ لأن هذا المرض لا يملكه وليس سبباً فيه.(50/23)
شرح كتاب الإبانة - السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه
كتب الله سبحانه وتعالى السعادة أو الشقاء لعبده وهو في بطن أمه، وقدر له رزقه وأجله وخَلقه وخُلقه كذلك وهو في بطن أمه، فيجب الإيمان بذلك، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة، والكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان أوضح من الشمس في رابعة النهار في ذلك.(51/1)
باب الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثاني: باب الإيمان بأن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه]، أي: من كان مكتوباً له السعادة والشقاء وهو في بطن أمه [ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].(51/2)
رواية عبد الله بن مسعود أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه
اعتمد الإمام في صحة هذا التبويب على حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قال: [(حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه الملك بأربع كلمات: رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أو سعيد، قال النبي عليه الصلاة والسلام: فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب -أي: في اللوح المحفوظ- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)].
وفي رواية: [(إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة) -ففي الرواية الأولى: (أربعين يوماً)، وفي الرواية الثانية: (أربعين ليلة) - (ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً؛ فيؤمر بأربع كلمات فيقول: اكتب عمله، وأجله ورزقه وشقياً أو سعيداً، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع -يعني: في آخر أيام حياته-، فيغلب عليه الكتاب الذي سبق، فيختم له بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيغلب عليه الكتاب الذي سبق، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة).
ومن طريق أبي داود صاحب السنن قال: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل قال: حدثنا حسين بن محمد عن فطر بن خليفة عن سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق.
قال أبو داود: قلت لـ أحمد: حديث: (يجمع المرء في بطن أمه)؟ قال: نعم].
كأن الإمام أحمد قال في طريقه: قال ابن مسعود: حدثنا الصادق المصدوق وسكت، فسأله أبو داود: أتقصد حديث: يجمع المرء في بطن أمه أربعين يوماً نطفة؟ قال: نعم.
قال: [قال أحمد: قص حسين -أي: حسين بن محمد - نحو حديث الأعمش].
وبعض الناس يتصور أن حديث ابن مسعود ليس له إلا طريق واحدة، وهي طريق سليمان بن مهران الأعمش الكوفي، وفي الحقيقة أنه قد تابعه كثرة من الرواة.
[وفي رواية: (إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه لأربعين، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فيكتب أربعاً: أجله وعمله ورزقه وشقياً أو سعيداً، قال عبد الله -أي: ابن مسعود -: فوالذي نفس محمد بيده! إن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه عمل أهل السعادة فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه عمل أهل الشقوة فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
وعن أبي داود السجستاني قال: حدثنا محمد بن يزيد الأعور -وهو الإمام الزاهد- قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جالساً مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقلت: يا رسول الله! حديث عبد الله بن مسعود الصادق المصدوق، وأريد حديث القدر؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا -والله الذي لا إله إلا هو- حدثته به)].
وهذه رؤيا منامية.
[قال: (فأعادها ثلاثاً -أي: أعاد الأعور نفس السؤال ثلاث مرات على النبي عليه الصلاة والسلام- وهو يقول: أنا -والله الذي لا إله إلا هو- حدثته به).
قال: [(غفر الله للأعمش كما حدث به، وغفر الله لمن حدث به قبل الأعمش، وغفر الله لمن حدث به بعد الأعمش)].
وهذه رؤيا منامية، ولا شك أننا لا نتكل عليها؛ لأن الرؤى مبشرات فقط، ولا يعتمد عليها في إثبات حكم أو رد حكم، فضلاً عن مسائل الاعتقاد.(51/3)
رواية حذيفة بن أسيد أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه
قال: [وعن حذيفة بن أسيد الغفاري -بعض الناس يقول: أُسَيد وهو أَسِيد مكبر- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استقرت النطفة في الرحم بعث الله إليها ملكاً موكلاً بالأرحام، فيقول: يا رب! ما أكتب؟! أذكر أو أنثى؟ قال: فيقضي الرب ويكتب الملك، ثم يقول: رب! أشقي أم سعيد؟ قال: فيقضي الرب ويكتب الملك، ثم يكتب مصائبه ورزقه وأجله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء خمس يكن في الرحم -يعني: يكتبن على ابن آدم وهو في رحم أمه- لا يزاد فيهن ولا ينقص منهن).
وعن أبي الزبير أن عامر بن واثلة أبا الطفيل حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره -يعني: اعتبر بما نزل على غيره-.
قال: فأتى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثته بذلك من قول ابن مسعود، فقلت: كيف شقي بغير عمل؟! -شقي وسعيد وهو لا يزال في بطن أمه! فكيف يكتب عليه الشقاء بغير عمل؟ - قال: فقال: تعجب من ذلك؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله عز وجل إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها)].
وكل ذلك بعد اثنين وأربعين، وهذا يؤيد من ذهب إلى أن نفخ الروح عند الأربعين، وبعضهم قال: نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وهذه المسألة فيها نزاع عظيم جداً، والطب الحديث -وإن كنا لا نعتمد عليه- لما كان هذا ميدانه معظم التقارير الطبية في هذا الزمان تثبت أن نفخ الروح يكون بعد الأربعين، ويصورون الأجنة عن طريق تلك المكينات الحديثة وهو يتحرك بعد الأربعين؛ مما يقوي هذا الرأي.
وقد سمعت الشيخ ابن عثيمين عليه رحمة الله وقد سألته امرأة حملت -وتعدى حملها أربعين يوماً- فقالت: أنا حامل وعندي عذر في إسقاط الجنين بالإجهاض، فهل يحل ذلك لي؟ قال: إذا كان حملك قبل الأربعين ودعتك الضرورة للإجهاض؛ فبها ونعمت، وإذا كان ذلك بعد الأربعين فلا يحل لك مع قيام العذر حتى وإن تسبب الحمل في موتك.
فهذه المسألة محل نزاع، ولا نستطيع أن نقضي بأرجحية أحد الرأيين على الآخر: هل نفخ الروح بعد المائة والعشرين يوماً، أو بعد الأربعين، ولا شك أن الاحتياط لدين المرء اعتباره أن نفخ الروح يكون بعد الأربعين، هذا هو الاحتياط؛ لأنه سيترتب عليه أحكام شرعية لا يمكن الاحتياط لها إلا باعتبار هذا الرأي، وعدم رد الرأي الثاني.
قال: [إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله عز وجل إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، فقال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي الرب ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب! أجله؟ فيقضي ربك ما شاء، ثم يقول: يا رب! رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على أمره ولا ينقص).
وعن سفيان عن عمرو بن دينار أنه سمع أبا الطفيل - عامر بن واثلة الأسقع - يخبر عن حذيفة بن أسيد الغفاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الملك على النطفة بعد ما استقرت في الرحم أربعين أو خمساً وأربعين -أي: أربعين يوماً أو خمسة وأربعين يوماً- فيقول: يا رب! أذكر أو أنثى؟ فيقول الله عز وجل؛ فيكتب، ثم يقول: يا رب! أشقي أو سعيد؟ فيقول الله؛ فيكتب، ثم يكتب مصيبته -أي: المصائب والبلايا التي تنزل بالعبد- وأثره ورزقه وعمله، ثم تطوى الصحف؛ فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص).
قال حذيفة بن أسيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقضي الله عز وجل ويكتب الملك)].
جاء اثنان وأربعون، وثلاثة وأربعون، وخمسة وأربعون، ونيف وأربعون، فكل هذه اختلافات تحتمل، والأمر فيها سهل؛ ولذلك أتت رواية بضع وأربعين.(51/4)
رواية جابر بن عبد الله أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه
قال: [وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت النطفة في الرحم؛ مكثت فيها أربعين يوماً أو أربعين ليلة، فإذا أذن الله عز وجل بخلقها -يعني: قدر لها الخلق أن تكون ولداً: بنتاً أو غلاماً- قال الملك: رب! أجله؟ قال: كذا وكذا، قال: رب! رزقه؟ قال: كذا وكذا، قال: رب! شقي أو سعيد؟ قال: كذا وكذا)].
يعني: إما أن يكتب الملك: شقي أو سعيد.(51/5)
رواية أنس بن مالك أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه
قال: [وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وكَّل بالرحم ملكاً، فيقول: يا رب! نطفة، يا رب! علقة، يا رب! مضغة، فإذا أراد الله خلقه قال: أي رب! ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب ذلك كله في بطن أمه)].
أي: فيكتب ذلك كله ولا يزال في بطن أمه.(51/6)
رواية عبد الله بن عمرو أن الله خلق خلقه في ظلمة
قال: [وعن عبد الله بن الديلمي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل؛ فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل).
وذلك لأن هذا موجود في الظلمة لا يعلمه أحد، وإنما يعلمه الله عز وجل.
[وعن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو في حائط له بالطائف يقال له: الوهط، فقلت: خصال بلغتنا عنك أردت مساءلتك عنها، وفي رواية: فقلت: خصال بلغتنا عنك تحدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أريد أن أستوثق منك فيها- أنه قال: (الشقي من شقي في بطن أمه؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل خلق خلقه في الظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره؛ فمن أصابه من النور يومئذ شيء فقد اهتدى، ومن أخطأه ضل؛ فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يخلق النسمة قال ملك الأرحام معرضاً -أي: متوجهاً للسؤال إلى الله، يقال: اعترض فلان فلاناً، أي: اعترضه بالسؤال، وقام إليه بالاستفسار، فاعتراض الملك إنما هو في السؤال- يا رب! أذكر أم أنثى؟! فيقضي الله إليه أمره، ثم يقول: يا رب! أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله إليه أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها)]، يعني: حتى المصيبة والبلاء الصغير يكتبه الملك.(51/7)
رواية أبو هريرة أن السعيد والشقي من سعد أو شقي في بطن أمه
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه)].
أي: السعيد من كتبت له السعادة ولا يزال في بطن أمه، والشقي من كتبت عليه الشقوة وهو لا يزال في بطن أمه بغير عمل؛ لأن الله تعالى علم قبل أن يخلق هذا العبد أنه سيختار طريق الشقاوة؛ فكتبه شقياً، وعلم الله تعالى قبل خلق هذا العبد أنه سيختار طريق السعادة ويهتدي فكتبه سعيداً، وهذا راجع إلى علم الله الأزلي، وأنتم تعلمون أنه لا يصح للعبد أن يقول: لم كتبني شقياً؟ لأنه على المقابل إذا جوزنا للشقي أن يسأل؛ فلابد أن نجوز للسعيد أن يسأل، فلما لم يكن هذا من السعيد فكذلك يمتنع أن يكون من الشقي.
وقد أفرغ الله تعالى حجة الشقي في اعتماده واتكاله على القدر، وأن شقاوته بقدر؛ بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والتمييز المتعلق بالتكليف، فلما كان هذا كله بين يدي العبد فلا يحل له بعد ذلك أن يعترض على الله عز وجل.(51/8)
رواية ابن مسعود أن الله كتب السعادة ليحيى بن زكريا والشقاء لفرعون
قال: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله عز وجل يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً)].
يعني: كلاهما مكتوب عنه: هذا من أهل السعادة، وذاك من أهل الشقاوة، علم الله ذلك من فرعون، ومن يحيى بن زكريا، أي: علم الله تعالى أن من عباده يحيى بن زكريا، وأنه سيكون مؤمناً؛ فكتبه مؤمناً، وعلم الله تعالى أن من عباده فرعون، وأنه سيختار طريق الشقاء؛ فكتبه شقياً كافراً قبل أن يخلقه، فلما علم الله ذلك كتبه وقدره على يحيى وعلى فرعون.(51/9)
قول عبد الله بن عمرو في أن الله يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه أنه شقي أو سعيد
قال: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين يوماً جاءها ملك فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل، فقال: اخلق يا أحسن الخالقين! فيقضي الله عز وجل فيها ما شاء من أمره، ثم تدفع إلى الملك، فيسأل الملك عند ذلك: أسقط أم تم؟ -يعني: هل هذا سيكتب له التمام ويولد أم أنه سينزل سقطاً؟ -فيبين له، ثم يقول: يا رب! أواحد أم توأم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! أشقي أم سعيد؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب! اقطع برزقه مع خلقه، فيهبط بهما جميعاً.
فوالذي نفسي بيده! ما ينال من الدنيا إلا ما قسم له، فإذا أكل رزقه قبض].
يعني: إذا أكل كل ما كتبه الله تعالى له من رزق؛ قبضه الله إليه.
وهذا الأثر وغيره مما يدور في فلكه لا أدري ما صحتها.(51/10)
أقوال عبد الله بن مسعود في أن الشقي من شقي في بطن أمه
وكذلك ثبت [عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الشقي من شقي في بطن أمه، وإن السعيد من وعظ بغيره.
وعنه قال: إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا -أي: فاتبعوا الكتاب والسنة، ولا تبتدعوا في دينكم- فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره.
وقال أيضاً: يا أيها الناس! إنكم لمجموعون في صعيد -أي: في ناحية واحدة- يسمعكم الداعي، وينفذكم البصر، ألا إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره.
وعن عبد الله بن ربيعة قال: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود فذكر القوم رجلاً، فذكروا من خلقه، فقال عبد الله: أرأيتم لو قطعتم رأسه أكنتم تستطيعون أن تعيدوه؟! قالوا: لا، قال: فيده؟ قالوا: لا، قال: فرجله؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لا تستطيعون أن تغيروا خُلُقَه حتى تغيروا خَلْقَه، إن النطفة لتستقر في الرحم أربعين ليلة، ثم تنحدر دماً، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم يبعث الله إليه ملكاً؛ فيكتب رزقه وخَلْقه وخُلُقه وشقياً أو سعيداً.
وقال عبد الله: عجب للنساء اللاتي يعلقن التمائم تخوف السقط].
فـ عبد الله بن مسعود يتعجب من المرأة التي تضع التمائم الشركية على صدرها؛ حتى يتم لجنينها الخلق وينزل ولادة لا سقطاً حسب زعمها.
قال: [والذي لا إله غيره لو بطحت -يعني: لو أن أحداً أخذها وبطحها في الأرض وهي حامل- ثم وطئت عرضاً وطولاً ما أسقطت؛ حتى يكون الله عز وجل هو الذي يقدر ذلك لها.
ثم قال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم التي يكون منها الولد طارت تحت كل شعرة وظفر، فتمكث أربعين ليلة، ثم تنحدر فتكون مثل ذلك دماً، ثم تكون مثل ذلك علقة، ثم تكون مثل ذلك مضغة].(51/11)
ما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن رسول الله أنه يكتب الشقاء أو السعادة للجنين وهو في بطن أمه
[وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله أن يخلق النسمة أتاها ملك الأرحام معرضاً فقال: أي رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله أمره، ثم يقول: أي رب! أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق؛ حتى النكبة ينكبها)].
[وقال عبد الله بن عمر: مكتوب بين عيني كل إنسان ما هو لاق حتى النكبة ينكبها].(51/12)
سبب نزول قول الله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخاصموه في القدر -يعني: جادلوه في القدر-، فنزل قول الله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49])].(51/13)
حجة القائلين بأن الروح تنفخ بعد الأربعين يوماً
ساق الإمام مسلم عليه رحمة الله جملة عظيمة جداً من أحاديث هذا الباب، وأظن أن معظم ما في مسلم قد أورده ابن بطة في هذا الكتاب.
وهناك روايات عند الإمام مسلم مختلفة في السياق والتمام والنقصان عما في هذا الكتاب، وأعظم نكتة في الحديث يعتمد عليها من قال بأن الروح تنفخ بعد الأربعين قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)، فتوقفوا عند قوله: (ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)، فيقولون: تنفخ الروح قبل هذه الأطوار، ويقولون: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ويعتمدون على هذا النص الزائد: (ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)، يعتمدون على الاختلاف في هذه الرواية في إثبات أن الروح تنفخ بعد الأربعين، والإمام النووي عليه رحمة الله يرد ذلك.
قال: (ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة) إلى آخر الحديث.
فلما اختلفت الروايات بين الثلاثة أشهر أو هذه الأطوار، ورواية الأربعين يوماً أو نيف وأربعين؛ قال العلماء: طريق الجمع بين هذه الروايات: أن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة، وأنه يقول: يا رب! هذه علقة هذه مضغة في أوقاتها، ولا يعني ذلك: أن الروح تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، وهذا ظاهر النص، فالملك فقط يقول ذلك من باب الإخبار، والله تعالى أعلم بحال خلقه، فإذا كان نطفة قال الملك: يا رب! هذه نطفة، لا من باب أنه يخبر الله تعالى، وإنما هو يخبر عن حالها: هذه نطفة هذه علقة هذه مضغة، فهذا لمجرد الخبر، فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى؛ وهو أعلم سبحانه.(51/14)
حجة القائلين بأن الروح تنفخ بعد المائة والعشرين يوماً
ولكلام الملك وتصرفه أوقات: أحدها: حين يخلقها الله تعالى نطفة، ثم ينقلها علقة، وهو أول علم الملك بأنه ولد؛ لأنه ليس كل نطفة تصير ولداً، فمنها ما يكون سقطاً، وذلك عقب الأربعين الأولى، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته، ثم للملك فيه تصرف آخر، وفي وقت آخر، وهو تصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه، وكونه ذكراً أم أنثى، وذلك إنما يكون في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة، وقبل انقضاء هذه الأربعين، وقبل نفخ الروح فيه؛ لأن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته، هذا ما ترجح لدى الإمام النووي، وأن الروح لا تنفخ إلا بعد أربعة أشهر، أو يقل قليلاً أو يزيد قليلاً، ويعتمد في ذلك على قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:12 - 14]، ثم يكون للملك فيه تصوير آخر، وهو وقت نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة، حين يكمل له أربعة أشهر.
ثم يزعم الإمام النووي اتفاق أهل العلم على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، وفي الحقيقة نقل اتفاق أهل العلم على ذلك ليس سديداً، فهناك من العلماء من خالف ذلك.
ووقع في رواية البخاري: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه)، فاعتمد على قوله: (ثم ثم ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي.(51/15)
سبيل معرفة باب القدر التوقيف على ما ورد في الشرع
يقول النووي: وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر -أي: وعدم رده وإنكاره- وأن جميع الواقعات بقضاء الله تعالى وقدره: خيرها وشرها، ونفعها وضرها، وقد سبق في أول كتاب الإيمان قطعة صالحة من هذا، في قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فهو ملك لله تعالى يفعل ما يشاء.
يعني: هذا الخلق جميعاً والكون جميعاً ملك لله يفعل فيه ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل؛ لأنه هو المالك الحقيقي لهذا الكون.
قال: ولا اعتراض على المالك في ملكه؛ ولأن الله تعالى لا علة لأفعاله.
هكذا قال الإمام النووي، فإذا كان يقصد من ذلك: أن أفعال الله تعالى لا تعتمد على الحكمة؛ فهذا بعيد جداً، وإذا كان يقصد أنه لا يجوز لأحد أن يسأل عن علة القدر، وأن القدر كله معلوم لله تعالى، وقد قدره قبل أن يخلق الخلق، ولكنه أخفى العلة عن الخلق؛ فهذا المعنى صحيح.
قال الإمام أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب -أي: باب القدر- التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس، ومجرد العقول.
فاحفظ هذا؛ لأنه أقوى كلام في القدر، وهو مذهب سلف الأمة.
قال: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة.
يعني: لا تتعدى قال الله وقال رسوله، وقد قال رسوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يرسل الملك فيؤمر بكتب أربع: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، آمنَّا بأن الشقاوة والسعادة في بطن الأم؛ وذلك لأننا اعتمدنا على النص، والنص توقيف؛ فلا يجوز لنا بعد ذلك أن نقحم عقولنا في هذا الباب؛ لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل.
قال: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس، ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه -أي: من انحرف عن الكتاب والسنة- فقد ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار -يعني: ستر الله تعالى عنَّا سره في القدر- واختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة.
إذاً: كل أفعال العباد إنما صدرت لحكمة علمها الله عز وجل.
قال: وواجبنا أن نقف حيث حد لنا.
أي: حيث جعل الله لنا حداً نقف عنده، ولا نخوض بعد ذلك لا بالقياس ولا بالعقل خاصة في باب القدر، فيجب الإيمان والتسليم بغير سؤال عن الحكمة.
قال: ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم -أي: عالم الإنس والجن- فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب.
أي: لا الأنبياء ولا الملائكة يعلمون سر الله في القدر؛ لأن هذا مما اختص الله تعالى به نفسه.
قال: وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها، والله أعلم.(51/16)
العمل مطلوب، ولا يجوز الاتكال على القدر
وفي هذه الأحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال، كما في الحديث: (يا رسول الله! ندع العمل ونعتمد على القدر المكتوب؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
قال: ففيها النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها، وكل ميسر لما خلق له -فأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة- لا يقدر على غيره، ومن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعملهم، كما قال تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7]، وكما قال: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10]، وكما صرحت بذلك الأحاديث.
وفي روايات: (جفت الأقلام، وطويت الصحف)، ومعنى (جفت الأقلام) أي: مضت المقادير، وذهبت وانتهى أمرها.
قال: وسبق علم الله تعالى به، وتمت كتابته في اللوح المحفوظ، وجف القلم -أي: قلم القدرة- الذي كتب به، وامتنعت فيه الزيادة والنقصان.
يعني: هذا المكتوب يمتنع فيه الزيادة والنقصان.
قال: قال العلماء: وكتاب الله تعالى، ولوحه، وقلمه، والصحف المذكورة في الأحاديث؛ كل ذلك مما يجب الإيمان به.
وأما كيفية ذلك وصفته فعلمها إلى الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].(51/17)
الأسئلة(51/18)
حكم من صلى الوتر بعد العشاء وأراد قيام الليل
السؤال
شخص خاف ألا يستيقظ ليصلي الوتر، فصلى الوتر ثم نام، ثم استيقظ، فهل يجوز له أن يصلي بعد الوتر صلاة قيام الليل؟
الجواب
هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً)، ولم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي بعد الوتر شيئاً إلا أنه كان يصلي ركعتين وهو جالس صلى الله عليه وسلم، فالسنة فيهما الجلوس حتى في القادر على القيام، ومن شاء المزيد فليرجع إلى فقه السنة، أو صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام في باب قيام الليل.
وبعض أهل العلم أجاز الصلاة بعد الوتر، وأنه لا يوتر في آخر صلاته، وإنما يكتفي بالوتر الذي أوتر به في أول الليل؛ لأنه لابد أن يتم في الليلة وتر واحد، فمن صلى ركعة أو ثلاث ركعات في أول الليل ثم نام واستيقظ فأتى بركعتين؛ فيكون مجموع الصلاة ثلاث ركعات، أو أتى بأربع فيكون مجموع الصلاة خمساً، أو أتى بست فيكون مجموع الصلاة سبعاً، وهكذا حتى يكون في آخر الليل قد صلى وتراً، بمعنى: أنه صلى سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة، أو زاد على ذلك، المهم ألا يتجاوز العدد الفردي.
قالوا: وهذا هو المقصود من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا وتران في ليلة)، وهذا قد أوتر، وصلاته كلها وتر، بمعنى: أنها عدد فردي، هكذا فهموا الحديث على أن الصلاة لا تتجاوز الوتر، بمعنى: ألا تكون شفعاً: عشراً أو اثنتي عشرة أو أربع عشرة بل تكون وتراً: ثلاثاً، خمساً، سبعاً، تسعاً، إحدى عشرة، ثلاث عشرة، خمس عشرة وهكذا، فهذه الصلاة يطلق عليها الوتر.
لكن جمهور أهل العلم على أن قوله: (واجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً).
أي: ركعة واحدة، أو ثلاث ركعات مجموعات، ويفسره قوله الصريح عليه الصلاة والسلام: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الفجر فأوتر بواحدة)، وهذا هو الرأي الذي يترجح لدي.(51/19)
حكم من قال لزوجته: إذا فعلت كذا كان هذا فاصلاً بيني وبينك
السؤال
قلت لزوجتي: إذا أخذت هذه الحقنة فإن هذا سوف يكون فاصلاً بيني وبينك، وكنت أقصد الطلاق، فهل إذا أخذت زوجتي هذه الحقنة تكون طالقاً؟
الجواب
الحقيقة أن الأخ دخل في باب لا يحسنه، وقوله هذا يحتاج إلى النية، فهو يقول لامرأته: لو أخذت الحقنة فإن هذا سيكون فاصلاً بيني وبينك، فهل كلمة (فاصل) من ألفاظ الطلاق الصريحة؟ لا، ألفاظ الطلاق الصريحة مثل: أنت طالق.
فقوله: (هذا فاصل بيني وبينك) أرجح الأقوال فيه: أنه طلاق ضمني يحتاج إلى نية الحالف، كأن يقول الرجل لامرأته: اخرجي من بيتي، فقوله هذا إعلام وإخبار بأن هذا البيت بيته هو وليس بيتها، فربما يقصد هذا، وربما يقصد الطلاق، فلا يعرف المعنى إلا بالنية؛ ولذلك يسأل الذي قال هذا الكلام عن نيته فيه.
ورد في السنة أن ابنة الجون قالت لها عائشة وحفصة: (إذا دخل عليك النبي عليه الصلاة والسلام فقولي: أعوذ بالله منك؛ فإنه يحب ذلك، فلما دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام قالت: أعوذ بالله منك، قال: لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك)، وكان هذا منه طلاقاً عليه الصلاة والسلام.
فكلمة: (الحقي بأهلك) على مقصود القائل، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد طلاقها فطلقت، لكنه إذا قصد شيئاً آخر فلا يعد طلاقاً، فالألفاظ الضمنية تحتمل وقوع الطلاق وتحتمل وقوع غير الطلاق، فإذا كان اللفظ يدور بين احتمالين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة فلا بد أن يحدد الغرض والقصد من هذا اللفظ، ولا يكون ذلك إلا عن طريق المتكلم، فيسأل هذا الرجل: إن كنت تقصد بهذه الكلمة الطلاق -حيث قال: إنه يقصد الطلاق- فإنه إذا أخذت زوجتك هذه الحقنة تكون طالقاً؛ لأنك قصدت الطلاق، فالطلاق المعلق على شرط يقع بوقوع الشرط، وهذا الطلاق لا كفارة له، وهو الشيء الوحيد الذي لا كفارة له، فلو فعل الرجل بامرأته أي شيء من ضرب أو شتم أو غير ذلك كل ذلك له علاج، إلا لفظة الطلاق، لو أراد المطلق أن يكفر عن ذنبه لا يمكن، ولو قدم مائة ألف شاة، فالطلاق قائم ومعلق على شرط، وأما إذا قال: إنه لم يقصد الطلاق فنقول له: لا يجوز التلاعب بألفاظ الشرع.(51/20)
كيفية صلاة من كان يعمل مندوباً ويسافر باستمرار
السؤال
أعمل مندوباً، وأسافر باستمرار، ويؤذن المؤذن أثناء السير في الطريق، فهل ننزل ونصلي مع الجماعة أم ننتظر أنا والسائق ونُصلي قصراً؟ وهل في صلاة المغرب والصبح صلاة سنة وأنا على سفر؟ وهل يجوز أن أجمع الظهر مع العصر حتى وإن أذن علينا هنا في القاهرة في وطننا الأصلي؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن لصلاة الظهر قبل السفر صلى الظهر وأخر العصر إلى أن يؤذن، فينزل في منزله ويصلي العصر، لكنه كان يصلي الظهر في وقته صلاة تامة في بلد الإقامة، وكان يؤخر العصر ويصليه قصراً في طريق السفر، أو في البلد الذي وصل إليه.
وإذا أردت أن تؤخر الظهر إلى العصر فإنما يكون ذلك في حال السفر قبل أذان الظهر، فإذا انطلقت في السفر قبل أذان الظهر وأذن المؤذن للظهر فلك أن تؤخره حتى تجمعه مع العصر.
وأما السنة في السفر عموماً لا تصلى إلا سنة الفجر والوتر وقيام الليل، ومن صلاها فلا إثم عليه ولا حرج.
وإذا كان لا يمكنه صلاة العصر في وقتها بسبب طول السفر فلا بأس أن يجمع في الحضر ويصلي أربعاً، يصلي الظهر أربعاً والعصر أربعاً، ونعتمد لذلك على حديث ابن عباس، وشيخنا الشيخ محمد عبد المقصود يذهب إلى أن الجمع في حديث ابن عباس جمع صوري، ولكن مذهب كثير من أهل العلم أنه جمع حقيقي، أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر، وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: حتى لا يحرج أمته، يعني: حتى يرفع عنها الحرج.(51/21)
الحكمة من تكليف الله عز وجل للملائكة بمراقبة أعمال العباد
السؤال
إذا قدر أن العبد سعيد أو شقي حتى النكبة كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فلم كلف الله عز وجل الملائكة بمراقبة أعمال العبد بعد ولادته؟
الجواب
حتى تقام عليه الحجة من صحيفته، فهو يأخذ صحيفته بيده يوم القيامة مكتوباً فيها أعماله جميعاً وأقواله، فيقرؤها ولا يستطيع أن ينكر شيئاً منها، فإن هم بالإنكار؛ ختم على فيه ونطقت جوارحه.
وقد قلنا سابقاً: إن الأصل ألا يسأل أحد في القدر.(51/22)
الحكم المترتب على من حلف أيماناً متعددة على شيء واحد
السؤال
شخص حلف يمينين متتاليين على شيء واحد في وقت واحد، فهل يكفر عن يمين واحدة أم عن ثنتين؟
الجواب
الواجب عليه أن يكفر عن كل يمين حلفها، فلو حلف على شيء واحد عشرة أيمان يكفر عن عشرة أيمان إذا حنث، وهذا الذي استظهره ابن قدامة في المغني.(51/23)
حكم العمل كصحفي في مجلة قطر الندى
السؤال
ما حكم الإسلام في العمل كصحفي في مجلة قطر الندى؟
الجواب
من اسمها أرى أنها مجلة جيدة، أو كذلك مجلة الوعي الإسلامي، وأما صحف الأهرام وأخبار الجمهورية وأمثالها فلا يجوز العمل فيها، وإذا كان الله سبحانه وتعالى وقد بسط لك في الفكر والفهم وبسط قلمك؛ فساعد أخاك أبا إسلام أحمد عبد الله في صوت بلدك، فهي مجلة رائعة، نسأل الله أن يوفق القائمين عليها.(51/24)
حكم قصر الصلاة لمن هو مقيم في بلد ويريد السفر إلى بلد أخرى
السؤال
أنا مقيم في القاهرة، وأهلي مقيمون في الغربية، فكيف أقصر الصلاة، وما هي مسافة القصر؟
الجواب
مسافة القصر فيها نزاع بين أهل العلم، والذي يترجح لدي مذهب المحققين من المحدثين أن مسافة القصر متعلقة بالعرف، فإذا قال أهل العرف: إن هذه المسافة سفر وإن قلت عن ثمانين كيلو؛ استخدمت الرخص، وإن قال العرف عن مسافة: ليس سفراً؛ وإن زادت عن ألف كيلو امتنعت الرخص، هذا الذي يترجح لدي.
وبعض أهل العلم يذهب إلى أن الرجل له عدة مواطن، لكن هذا ليس موطنك وإنما هو موطن أهلك، فأنت تبيت في الغربية يوماً ويومين وثلاثة وأربعة، فإذا نويت المكوث أكثر من أربعة أيام أتممت من أول يوم؛ لأن مذهب الجمهور أن مدة القصر أربعة أيام، وهو الراجح عندي.
فإذا كنت تريد أن تمكث أسبوعاً أو أكثر من أربعة أيام على العموم تتم من أول لحظة، ولا يحل لك القصر إلا في أثناء الطريق، لكن لو كنت ذاهباً لزيارة أهلك يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة بالكثير ثم ترجع بعد ذلك؛ ففي هذه الحالة لك أن تقصر في الغربية وفي أثناء الطريق، وأما أكثر من ذلك فلا.
والبعض اعتمد على حديث لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لرجل أن يقصر صلاته في بلد له فيه أهل أو مال)، وهذا حديث ضعيف باتفاق المحدثين.(51/25)
حكم من أدرك التشهد الأخير مع الإمام
السؤال
صليت خلف الإمام وأدركت التشهد الأخير؛ فهل تحسب لي صلاة الجماعة؟ وما هي أعلى درجات الحديث صحة: المتفق عليه أم المتواتر؟
الجواب
بل المتواتر، وأما إدراك الصلاة إذا أدركت الإمام في التشهد الأخير؛ فهذا محل نزاع بين أهل العلم، والذي يترجح لدي أن من أدرك الإمام قبيل التسليم ولو بلحظة تحسب له جماعة.
وبعضهم يقول: لا تحسب للمرء جماعة إلا إذا أدرك ركعة كاملة من الصلاة.(51/26)
حكم العمل في مجال الديكور لرجل نصراني
السؤال
أنا أعمل في مجال الديكور، فهل يجوز أن أعمل ديكوراً لرجل نصراني في بيته أو في محله؟ مع العلم أنني لا أنفذ شيئاً قد نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
لا بأس بذلك.(51/27)
الآثار المترتبة على تسلط الكفار على المسلمين
السؤال
منذ ثمانية أشهر بدأت النكبات والفتن، وكنت أقابلها بجهالة وضيق؛ حتى أحسست بوحشة في القلب، وأخذت أعود إلى الله حتى أحسست بعودتي مرة أخرى، ولكن غلبتني نفسي وعدت إلى الحالة الأولى ومنها تبلد تام: وضيق وألم في الصدر، وفتور في العزيمة، وعدم القدرة على تحديد الهدف، وضعف في القدرات العقلية، وكثرة الوساوس؟
الجواب
كل هذا بسبب تسلط الكفار على المسلمين، فضيق الصدر جداً لما حل بالأمة من فتن ونكبات وغير ذلك من تسلط الكافرين.
وخطبة الجمعة الماضية فيها الكفاية للإجابة عن هذا السؤال.(51/28)
حكم تلف بضاعة اؤتمن عليها شخص
السؤال
أعمل في مصنع، ويقوم صاحبه بخصم ثمن ما قد يفسد من البضائع أثناء العمل نتيجة خطأ غير متعمد، أو نسيان أو إهمال، فهل هذا جائز في كل هذه الحالات؟
الجواب
يا أخي! النبي صلى الله عليه وسلم قرر لنا قاعدة، وهي أن الأمين غير ضامن، فأنت عندما تأتي وتضع عندي شيئاً فأنا غير ضامن لهذا الشيء إذا تلف أو فسد؛ لأنني متصدق عليك بالحفاظ على هذا الشيء، فلا يقابل هذا بالغرم إلا في حالة الإهمال، والإهمال أو عدمه مرده إلى العرف.
فإذا كنُت أعمل في هذا المحل لديك، وبغير تقصير مني مطلقاً فسدت البضاعة؛ كأن صرف الله عنك قلوب الناس وجيوبهم فأنا لا أضمن هذه البضاعة.
لكن عندما أترك المحل مفتوحاً مثلاً، وأذهب إلى المسجد ثم أرجع إلى المحل فأجده قد سرق؛ فأنا أضمن هذا؛ لأنني قصرت عرفاً في المحافظة على البضاعة.
فالأمين لا يضمن إلا في حالة الإهمال، والإهمال المتعمد من غيره يظهر لدى القانونيين.(51/29)
حكم ابتلاع المصلي بقايا طعام كانت بين أسنانه
السؤال
ما الحكم إذا ابتلع المصلي بقايا طعام كانت بين أسنانه؟
الجواب
لا حرج عليه، وصلاته صحيحة؛ لأن هذا لا يقصد به الطعام لا عرفاً ولا شرعاً، شخص يحرك لسانه بين أسنانه فاستخرج حبة رز أو نحوها فلا شيء عليه.(51/30)
حكم إتيان الرجل زوجته في دبرها حائضاً كانت أو غير حائض
السؤال
رجل جامع امرأته في دبرها بدون إنزال، فما الحكم إن كانت حائضاً أو غير حائض؟
الجواب
لا علاقة للحيض بإتيان المرأة في دبرها، فسواء كانت حائضاً أم غير حائض؛ فإتيان المرأة في دبرها إثم عظيم وكبيرة من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل ذلك.
قال: (لعن الله من أتى امرأة في دبرها)، وقال: (من أتى امرأة في دبرها فليتصدق بنصف دينار)، وفي رواية: (بدينار)، كأن اختلاف الكفارة متعلق بحال من أتى امرأته في دبرها، فهذه كبيرة من الكبائر، وإثم عظيم من الآثام، ويغفر الله عز وجل لعبده الذي وقع في هذا الإثم إذا تاب من ذلك؛ سواء كان ذلك في حيض أو في غير حيض، ومن المعروف أن المرأة تحيض في قبلها، فلا علاقة لسؤال السائل إذا كان الإتيان هذا في الحيض أم في غير الحيض، ونصف الدينار مائة جنيه تقريباً.(51/31)
بيان معنى معية الله
السؤال
ما معنى: في معية الله؟
الجواب
يعني: أن الله تعالى معك: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194].
معية الله تعالى لعبده لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، ولكن على أية حال معية الله تعالى معية علم وسمع وإحاطة ورعاية وغير ذلك، هذا كله من معاني المعية، ولا يبعد أن يكون الله تعالى مع عبده معية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.(51/32)
حكم تكفير الشيعة
السؤال
هل يجوز تكفير الشيعة؟
الجواب
لا؛ لا يجوز إطلاق التكفير أو إطلاق هذا الحكم على عموم الشيعة، وإنما يكفر من الشيعة أئمة الضلال كـ الخميني وغيره.(51/33)
حكم قصر الصلاة لمن كان سائق سيارة يسافر ويرجع في نفس اليوم
السؤال
أنا سائق أسافر وأرجع في نفس اليوم، فهل يجوز لي القصر في أثناء الطريق وهذه طبيعة عملي؟
الجواب
نعم.
يجوز، حتى لو كنت سائق (قطار) أو (تكسي) بين المحافظات، فتنزل وتصلي قصراً؛ لأنك في كل الأحوال مسافر، وإن شئت أن تفطر فلك ذلك؛ لأن الشرع جوز لك ذلك.(51/34)
حكم من لا يصلي الصلاة إلا بعد انقضاء الجماعة لعذر شرعي
السؤال
أعمل في محل أمن ولا أصلي الصلاة إلا بعد انقضاء الجماعة، فما حكم ذلك خاصة أني لا أستطيع أداءها في وقتها؟
الجواب
الأصل هو صلاة الجماعة، لكن إذا منعك العذر حقاً أن تلحق بالجماعة؛ فنرخص لك بمذهب الجمهور وهو أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة.(51/35)
حكم جلوس الخاطب مع خطيبته أو الاتصال بها
السؤال
هل يجوز للخاطب أن يجلس مع خطيبته مع ذي محرم؟ وإذا جاز فما حكم غض البصر إذاً؟
الجواب
الذي نعلمه من كلام أهل العلم أن المخطوبة أجنبية؛ فلا يجوز الجلوس معها، حتى إن الشيخ الألباني رحمه الله وكذلك الشيخ ابن عثيمين لما سئلا: هل يجوز للخاطب أن يتصل بخطيبته هاتفياً أو مراسلة؟ قالا: لا.(51/36)
حكم عمل المرأة خارج البيت
السؤال
ما حكم عمل المرأة خارج البيت؟ وهل هناك ضرورة؟
الجواب
في الحقيقة يا إخواني! عمل المرأة من أخطر ما يمكن أن يهدد المجتمع، وليس المرأة العاملة فحسب، والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، والمرأة في كل الأحوال عاملة، لكن عملها في بيتها، وفي تربية أبنائها، والأصل ألا تخرج المرأة قط من بيتها إلا لضرورة، فإذا خرجت لضرورة جاز لها ذلك مع التزامها بالهيئة والمنظر والآداب الشرعية.
وأما إذا خرجت المرأة للعمل تحت هذه الضرورة فالأصل في ذلك الجواز؛ بشرط أن تعمل في مكان تأمن فيه على دينها وعفتها وصيانتها، وألا تخالط الرجال، وتعمل عملاً يتناسب مع طبيعتها ومع هيئتها.
أما أن تخرج وتعمل في مدرسة مثلاً فيها مدرسون ونظَّار ومفتشون وهذا ذاهب وهذا آت، وهذا يغمز وهذا يشتم، وهذا يستهين بها وبعفتها وبنقابها وغير ذلك؛ فلا شك أن هذا لا يصلح أبداً، والعجيب أن المقابل لهذا العمل مائة جنيه أو مائتين، والأعجب من ذلك أن المرأة مصرة على العمل، والراتب لا يساوي شيئاً (200) جنيه! هل هذا مرتب مقبول؟ انظر إلى لبسها وحاجتها ومواصلاتها وغير ذلك، فهذا الراتب لا يساوي شيئاً مقابل ذلك.
وقد تكون هناك نساء مضطرات للعمل كفقيرة، أو من مات عنها زوجها، أو أي علة من العلل، وعندها ثوب واحد فقط تخرج به كلما حصلت لها مناسبة، أو احتاجت للخروج مثلاً في كل شهرين مرة، فإنه يستمر معها هذا الثوب عشر سنين أو عشرين سنة، وأما أنها تعمل فإنها ولا ترضى بثوب واحد ولا بثوبين ولا بعشرة؛ لأن لها زميلات وأصدقاء، فكلما استلمت راتبها فكرت في حذاء أو في خمار أو في ثوب تلبسه.
إذاً: الراتب يذهب في ملابس وعزومات ومواصلات.
وبالأمس قلت لأخت تعمل في مكتبة في المقطم ما دمت تلبسين النقاب، وأنت حريصة جداً عليه لماذا خرجت من بيتك؟ قالت: بسبب الظروف، فقلت لها: كم راتبك؟ قالت: ثمانون جنيهاً؛ فقلت لها: هذا الراتب هو الذي أخرجك من بيتك؟! ماذا تفعلين بها؟ إذاً: هذه المرأة واهمة في الخروج، وهمت أنها مضطرة، وهل الشرع فعلاً يقول: إن هذه الحالة التي فيها هذه المرأة حالة اضطرار؟
الجواب
لا، وأنتم تعلمون قول أهل العلم: الضرورات تقدر بقدرها، ويقدرها الشرع وليس الإنسان؛ لأن الإنسان لو أطلق له العنان لقال عن كل شيء: ضرورة؛ حتى يبيح لنفسه ولهواه كل ما تشتهي.
فالضرورة لا بد أن يقرها الشرع، وأما دون ذلك فلا.(51/37)
حكم إعطاء الفقير الذي يعمل المنكرات من أموال الزكاة
السؤال
هل يجوز إعطاء أخ فقير لا يعمل من أموال الزكاة، ولكنه ليس ملتزماً ولا يصلي، بل ويعمل المنكرات؟
الجواب
لا؛ لا تعطه من أموال الزكاة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول لـ قبيصة: (يا قبيصة! اعلم أن الصدقة -أي: الزكاة- لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي)، يعني: ذي قوة وساعد يستطيع أن يضرب في الصخر ويأتي بقوته وقوت أولاده، فما بالك بالذي يترك الصلاة ويأتي المنكرات؟! وأنتم تعلمون خلاف أهل العلم فيما يتعلق بتارك الصلاة، وأن مذهب جماهير الصحابة إن لم يكن إجماعاً: أن تارك الصلاة على كل نحو كافر، وهذه المسألة قد استوعبناها، واستوعبها شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين بحثاً، وأظن أنكم قد سمعتم هذه المحاضرات.
وأما أخذ الكافر من أموال الزكاة فلا إلا على سبيل التأليف، ومنهم من منعه مطلقاً.
وأما حديث: خرج رجل بصدقته، فوضعها في يد زانية في يد غني في يد سارق؛ فهذا في عموم الصدقة وليس في أموال الزكاة.(51/38)
حكم من مات بسبب الجوع مع أنه قد أعطي طعاماً
السؤال
بالأمس كنت أسمع المحاضرة هنا، وفي طريقي إلى المدينة الجامعية وجدت رجلاً مستلقياً على الأرض ذا جلباب أصابته شحوم السيارات وزيوتها، فأشفقت عليه، واشتريت له طعاماً ليأكل فلم يأكل، وظل يقول: إن نعم الله كثيرة، ولم تنجح محاولاتي في أن يأكل، فماذا أفعل له؟ وأنا منذ ذلك اليوم أتألم من منظره وبؤسه، وفي الصباح لم أجده بجوار سور الجامعة، مع العلم أنه كانت هناك حالة كحالته في العام الماضي وتوفي بعد أربعة أيام، فماذا أفعل عند مقابلة هؤلاء؟ وجزاكم الله خيراً!
الجواب
كأني أفهم من السؤال أن هذا الرجل مات كذلك، فإذا كان قد مات بسبب الجوع وقد عرض عليه الطعام فلم يأكل؛ فقد مات منتحراً.
وإذا كان امتناعه عن الطعام أنه ليس جائعاً أو لعلة أخرى؛ فأمره إلى الله عز وجل.(51/39)
حكم من عليه كفارة وأراد تأديتها لزوجته التي عقد عليها
السؤال
علي كفارة، فهل يجوز لي أن أعطيها لزوجتي المعقود عليها وهي محتاجة، علماً بأنها إذا أخذتها ستأتي بأشياء تعود علي بعد الزواج؟
الجواب
لا يجوز لك ذلك؛ لأن أرجح الأقوال أن المعقود عليها نفقتها تلزم العاقد؛ لأنها زوجته، ولا يجوز للمرء أن يعطي كفارته لنفسه؛ لأنه إذا أعطاها للمعقود عليها فإنها تعود إليه، وهذا هو الذي صرح به.(51/40)
كيفية معالجة الحالات النفسية الناتجة عن فتن شخصية
السؤال
كيف يتم معالجة الفتن الشخصية التي أدت بي إلى حالة نفسية، وعدم القدرة على السيطرة على النفس؟
الجواب
ثبت في البخاري: أن عمر بن الخطاب قال: (أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج).
فهذا الأخ عليه بتقوى الله عز وجل، سواء كانت فتناً داخلية أو خارجية فعليه بتقوى الله عز وجل، والمحافظة على الفرائض وأركان الإسلام، وأركان الإيمان، وأن يتعاهد دائماً إيمانه، وأن يكثر من النوافل، وإذا كان ذا مال يكثر من الصدقات، فإن شاء الله تعالى ينفعه ذلك بعد فضل الله تعالى.(51/41)
حكم إعطاء رجل كافر أشرطة قرآن ومحاضرات
السؤال
قعد رجل غربي كافر في السيارة مع رجل مصري مسلم ليعمل معه، فسمع صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فطلب من المسلم أن يعطيه شريطاً للشيخ؛ ليأخذه معه إلى بلده، فما حكم ذلك؟ وهل يطلب منه الطهارة قبل سماعه وإمساك الشريط؟
الجواب
يعطيه الشريط، ولا بأس أن يعطيه شيئاً أكثر من ذلك، فلو كانت عنده معان للقرآن مترجمة، أو كتب تدعو إلى الإيمان وذكر محاسن الإسلام مترجمة إلى لغته؛ فلا بأس أن يتكبد المشاق؛ لتوفير هذه المادة وإعطائها لهذا الكافر، لا بأس بذلك، ولا يطالبه بالطهارة، فهو خبيث العقيدة فقط، فلو نزل في بئر أو غير ذلك لا تزول عنه نجاسة الشرك.(51/42)
حكم السلام على المسيحي، وبيان كيفية الهوي للسجود
السؤال
هل السلام على المسيحي يفسد الوضوء؟ وما هي كيفية الهوي للسجود؟
الجواب
السلام على المسيحي لا ينقض الوضوء؛ لأن نجاسة الكافر نجاسة معنوية، فلو كانت النجاسة حسية حتى لو أسلم يبقى نجساً، إذاً: هي نجاسة معنوية متعلقة بعقيدته، فإذا أسلم طهرت عقيدته.
وأما النزول إلى السجود: هل هو على اليدين أم على الركبتين، فهذا محل نزاع بين أهل العلم: فـ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد رجح النزول على الركبتين من عشرين وجهاً، والذي يترجح لدي النزول على اليدين؛ لحديث وائل بن حجر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك بروك البعير، ولينزل على يديه قبل ركبتيه)، أو (ليسجد على يديه قبل ركبتيه)، وفي رواية: (ولينزل على ركبتيه قبل يديه)، وتفصيل هذا في اللغة أن ركبتي البعير في يديه، وهذا الذي اختلط على شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى.(51/43)
بيان ما يفعله العبد فيما حصله من مال غير شرعي إذا تاب
السؤال
خالتي تعمل مذيعة في قناة النيل للأخبار، ولديها سيارة ثمنها من عملها، وهي تزعم أنها ستترك هذا العمل وأخبرتني بذلك، فهل عند التوبة تتصدق بثمن السيارة أو بجزء منها بعد بيعها؟
الجواب
هذه المسألة محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم، فلجنة الفتوى في السعودية أنزلوا رسالة سموها: حكم التوبة من العمل الحرام، يقصدون آثار التوبة من المال وغير ذلك، ورجحوا أن من تاب يلزمه أن يتخلص من الحرام.
ورأي آخر عند بعض علماء اللجنة قالوا: لا يلزمه ذلك، وإنما التوبة تجب ما قبلها.
والرأي الذي ترجح لدي من أقوالهم وهو الثالث: أنه يلزمه أن يتخلص مما زاد عن حاجته، فالذي مثلاً لديه شقتان يبيع شقة، أو كان لديه سيارتان يبيع واحدة ويكتفي بواحدة، على حسب حاجته وضرورته.
وفي الحقيقة الإنسان الصادق المخلص في توبته يتخلص ولو من جلده، فالذي يخاف الله عز وجل وكان صادقاً في خوفه وفي توبته ورجوعه إلى الله؛ لا ينتظر أن يسأل أحداً من أهل العلم؛ لأنه يعرف أن هذا من حرام، فسيتركه مباشرة، حتى وإن أفتاه أهل العلم بجواز الإمساك يقول: لا، فهو طبيب نفسه، وهو أعلم بحاله.(51/44)
المعقود عليها ليس لها قسم
السؤال
هل المعقود عليها لها قَسْم؟
الجواب
لا، إذا كان رجل متزوجاً من امرأة، وعاقداً على أخرى فليس.
لها قسم؛ لأن القسم لا يكون إلا بعد البناء، وأما قبل البناء فلا، والقسم المقصود به هنا: العدل في المبيت.(51/45)
حكم زواج رجل من امرأة ما زالت متزوجة
السؤال
ما حكم زواج رجل من امرأة ما زالت متزوجة؟
الجواب
إنا لله وإنا إليه راجعون! هذا بلا شك جرم عظيم جداً، وهذا الزواج باطل، بل كيف يسمونه زواجاً؟!(51/46)
التقدير في الدعاء (اللهم أصلح لي شأني كله)
السؤال
في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي شأني كله)، كلَه بالفتح أم كلُه بالضم؟
الجواب
كلَه بالفتح، والتقدير: اللهم أصلح كل شأني.(51/47)
حكم العمل في شركة يملكها نصارى
السؤال
ما حكم العمل في شركة يملكها نصارى، وهذه الشركة تقوم بتوزيع بعض المنتجات الأمريكية كصابون إريال وغيره، مع العلم بأن عملي فيها محاسب؟
الجواب
لا بأس بذلك، ونحن نحذر من إرباح هذه الشركات الأجنبية، وهذا على سبيل العقوبة وليس على سبيل الحرمة، فإذا كان وجودك في هذه الشركة مكسباً لك؛ فهنيئاً مريئاً، فنحن نفرق بين مسألتين، أنا لن أشتري هذا الإريال، بل سأشتري غيره، مع أنه لا يوجد بديل للإريال، فكل الشركات يهودية أو نصرانية، حتى الشركات التي كانت مسلمة بيعت للنصارى.
فعلى فرض أن شركة إريال هذه شركة أمريكية نصرانية أو يهودية أياً كانت، فالكفر كله ملة واحدة: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70]، فإذا كان الأمر كذلك فوجودك فيه نفع لك، ولا يوجد فيه ضرر على المسلمين، بل فيه نفع، وأنت أحد المنتفعين، فلا حرج عليك في بقائك في هذه الشركة.(51/48)
الحرص على الزواج بامرأة صالحة ذات دين
السؤال
أنا خاطب، وظننت أن الله سيجعلني سبباً لهداية خطيبتي وأهلها، ومرت الشهور وأنا قد مللت دعوتها إلى الله، مع تقدم خطيبتي إلى الله شيئاً فشيئاً، ولكني لا أظن أنها قد تتحمل الحياة الزوجية بعد الزواج، مع العلم أنها أكبر مني سناً؟
الجواب
لماذا هذا يا أخي؟! النبي صلى الله عليه وسلم أمرك ابتداءً ألا تتزوج إلا امرأة صاحبة دين، قد تقول لنفسك: سأتزوج امرأة مقصرة ثم أدعوها، أقول لك: هذا باب فتنة عظيم جداً، فإذا كنت تجوز لنفسك أن تتزوج امرأة متبرجة لأجل جمالها، أو لأجل مالها، أو لأجل حسبها ونسبها؛ فجوز للمرأة المنتقبة أن تتزوج رجلاً لا يصلي ولا يصوم، ويفعل المنكرات، وذلك من باب أنها ستكون سبباً لهدايته، فأقول: في النهاية أنت تستطيع أن تهدي هذه المرأة بإذن الله؛ لأن هذا بيد الله.(51/49)
شرح كتاب الإبانة - الإيمان بأن الله إذا قضى من النطفة خلقًا كان وإن عزل صاحبها
الله سبحانه وتعالى هو خالق الخير والشر؛ لأنه لا يكون شيء في هذا الكون إلا بإرادة الله ومشيئته النافذة، وإذا أراد الله تعالى شيئاً وقدره كان ولابد، ومن ذلك خلق الولد وتكوينه في رحم أمه، فمهما حاول الرجل بشتى الأسباب ألا يكون له ولد -كأن يعزل عن امرأته ونحو ذلك- والله تعالى قد قدر وأراد أن تحمل المرأة ويكون الولد، فإن قدر الله تعالى هو الكائن لا محالة، فإنه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.(52/1)
باب الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقاً كان وإن عزل صاحبها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثالث -أي: من كتاب القدر- باب الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقاً كان وإن عزل صاحبها، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة].
أي: لو أراد الله عز وجل للنطفة التكوين والخلق مع محاولة صاحبها ألا تكون لكانت؛ لأن إرادة الله تعالى غالبة، وهو القادر على كل شيء، القادر أن يخلق الأشياء بغير سبب، القادر ألا يخلق الأشياء وإن اتخذ الناس الأسباب.
فلو أن رجلاً عزل عن امرأته وقذف ماءه خارج رحمها، وأراد الله عز وجل مع ذلك أن تكون النطفة علقة كانت مهما حاول صاحبها، وإذا أراد الله عز وجل ألا يخلق تلك النطفة وإن لم يعزل صاحبها مائة عام لا تكون.(52/2)
حديث أبي سعد الخير: (ما يقدر الله عز وجل في الرحم فسيكون)
قال: [قال أبو سعد الخير: (سأل رجل من أشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل.
فقال: ما يقدر الله عز وجل في الرحم فسيكون)]، أي: ما كان الله تعالى قد كتبه في الأزل أن هذه النطفة ستكون ولداً كانت وإن عزل صاحبها.(52/3)
حديث جابر بن عبد الله: (أنت تخلقه؟)
[وعن جابر بن عبد الله قال: (جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما ترى في العزل يا رسول الله؟ فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: أنت تخلقه؟ أنت ترزقه؟ أقره مقره، فإنما هو القدر)]، قوله: (أقره مقره)؛ أي: اقذفه حيث أمرك الله عز وجل؛ فإن قدر الله تعالى له أن يخلق تخلق، وإن قدر له عكس ذلك لا يكون وإن قذف في رحم المرأة.(52/4)
حديث أبي سعيد الخدري: (لا عليكم ألا تفعلوا)
[وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، إنما هو القدر، يعني: العزل)]، أي: إن شئتم فاعزلوا أو لا تعزلوا، فإن ما قدره الله عز وجل لهذا الماء سيكون.(52/5)
حديث أنس: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد)
[وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد يبيت على صخرة لأخرج الله منه ولداً، ليخلقن الله كل نسمة هو خالقها)]، أي: لو أراد الله عز وجل لماء أو لنطفة أن تخلق ولداً لابد أن تكون، ولو ألقاها صاحبها على صخرة ملساء؛ لأن الله تعالى قادر على كل شيء.(52/6)
حديث جابر بن عبد الله: (سيأتيها ما قدر لها)
[وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله! لي جارية -أمة- أفأعزل عنها؟ قال: سيأتيها ما قدر لها)]، أي: سواء عزلت أو لم تعزل.
قال: [(فذهب، ثم جاء فقال: يا رسول الله! ألم تر إلى الجارية التي سألتك عنها فإنها قد حبلت)]، أي: حملت حملها.
[قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قدر الله لنفس أن تخرج إلا وهي كائنة)]؛ أي: لابد أن تكون كائنة.
فكم من امرأة وضعت لولباً وحملت مع وجود اللولب، بل نزل الوليد وهو آخذ باللولب في يده قابض عليه، وكم من إنسان كان يحرص ألا يكون له ولد فمنع الحمل سنة وسنتين وثلاثاً وأربعاً وعشراً ثم فوجئ بأن امرأته تأتي في البطن الواحد باثنين وثلاثة وأربعة، وتفعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، وكأن الله تبارك وتعالى قد جمع لها ما قد فرقته في الأعوام الماضية، فالحرب مع الله تعالى لا تصلح أبداً.(52/7)
تقدير الله تعالى وخلقه للخير والشر
[قال الشيخ: فجميع ما قد ذكرته لك واجب على المسلمين معرفته، والإيمان به، والإذعان لله عز وجل، والإقرار له بالعلم والقدرة، وأنه ليس شيء كان ولا هو كائن إلا وقد علمه الله عز وجل قبل كونه -أي: قبل أن يكون، فالله تعالى علمه في الأزل- ثم كان بمشيئة الله وقدرته، فمن زعم أن الله عز وجل شاء لعباده الذين جحدوه وكفروا به وعصوه الخير والإيمان به والطاعة له، وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والكفر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم في أنفسهم واختيارهم لها خلافاً لمشيئته فيهم، فكان ما شاءوا ولم يكن ما شاء الله، ومن قال ذلك فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله].
أي: من يتصور أن الكفر وقع منه على مشيئته وليس على مشيئة الله، وأن المعصية وقعت منه بمشيئته وليست على مشيئة الله، وأن الطاعة والإيمان وقع منه بالخيار وبمشيئته دون مشيئة الله وقدرته وإرادته فقد كفر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولا يكون في كونه إلا ما أراد وقدر وشاء من خير وشر، وكما أن الله تعالى خلق الخلق فهو كذلك خالق الشر، لكنه خلق الشر ونهانا عنه ولم يرضه لعباده، ولا يرضى لعباده الكفر، فهو سبحانه قد نهانا عنه وحذرنا منه، ولأهله خلق النار، لكن كما قلنا فإن كثيراً من الناس يفرقون بين إرادة الله ومشيئته الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، والمشيئة والإرادة الكونية القدرية التي تضم الخير والشر، إذ ما من خير على الأرض إلا وقد أراده الله وقدره وشاءه مشيئة شرعية دينية وأحبه وأمر العباد به، وأما ما يقع في الأرض من شر فلا يقع إلا بمشيئة الله، لكن بمشيئته الكونية القدرية، وليس بلازم أن الله تعالى يحبها، بل من الأفعال التي تقع في الأرض بمشيئته الكونية القدرية منها ما هو خير ومنها ما هو شر، فلا تبنى المحبة أو فلا تبنى المشيئة الكونية القدرية على المحبة.
وإنما فيها ما يحبه الله، وفيها ما يبغضه الله من الكفر وسائر المعاصي، لكنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله وقدر، ولا يفهم أحد من هذا الكلام أن الله تعالى إذا كان قد قدر الخير والشر، وجبر الخلق عليه، وقهرهم على فعل الشر والتلبس بالكفر، إذاً فلم يعذبهم ولم يعاقبهم؟ هذا الكلام من أبطل الباطل، وقد رددنا عليه مرات، لكننا نذكر به دائماً حتى لا يدور في خلدات أحد من السامعين أن الله تعالى قدر المعصية على العبد، وجبره وقهره عليها، وأن العبد مسلوب الإرادة، وقد قلنا من قبل في الجواب عن هذا السؤال أو على هذا الوهم: أن الله تعالى له مشيئة، وللعبد مشيئة، فهو ليس مسلوب الإرادة، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فأثبت في هذه الآية للعبد إرادة، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} [التكوير:29]، فأثبت في هذه الآية أن للعبد مشيئة، على خلاف وقع بين أهل العلم: هل المشيئة هي الإرادة أو أنهما شيئان مختلفان؟ ليس هذا أوان بحثه، وقد بحثناه من قبل أيضاً.
لكن الله تعالى خلق الشر ونهانا عنه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وجعلنا عقلاء مميزين وعفا عن المجانين والنائمين والناسين أصحاب الأعذار، والله تعالى لا يحاسب إلا من وقع تحت طائلة التكليف، ومعنى أن الله تعالى قدر علي الشر أو قدر علي المعصية: أنه علمها أزلاً فكتبها في اللوح المحفوظ، والتقدير هنا بمعنى العلم والكتابة، والله تعالى أذن في خلقها وفي إيجادها، فالله تعالى أذن فيها خلقاً وإيجاداً، واكتسبها العبد فعلاً وعملاً.
فهذا معنى أن الله تعالى أراد وقدر الشر، أي: أنه علمه أزلاً قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ.(52/8)
الرد على الذين يزعمون أن الله تعالى لم يخلق الشر ولم يرده
قال: [ومن قال ذلك فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله، وأنهم أقدر على ما يريدون منه على ما يريد، فأي افتراء على الله يكون أكثر من هذا؟! ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه، فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه]، أي: لو علم الله عز وجل أن عبده فلان سيعمل خيراً وطاعة في المكان الفلاني في الساعة الفلانية، فإنه لو أراد ألا يعمل هذه الطاعة لما استطاع؛ لأنه سبق في علم الله أنه سيعمل.
فلما علم الله تعالى أن عبده سيسلك عمل الطاعة يسرها وقدرها له، وأذن في خلقها ووجودها، والعبد هو الذي باشرها وهو الذي عملها، فإذا أراد العبد شيئاً غير ما أراد الله لا يقدر، وإذا شاء العبد شيئاً ما شاءه الله له لا يقدر، بل لابد أن تنفذ مشيئة الله تعالى، وعلم الله تعالى وقدرة الله تعالى في عبده مهما حاول العبد معاكسة ذلك ومخالفة ذلك والإتيان بنقيضه، فإن العبد لا يستطيع أن يغير أبداً.
قال: [ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه، فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه، وجعل الخلق يقدرون لأنفسهم على ما لا يقدر الله عليه منه، وهذا إلحاد وتعطيل وإفك على الله عز وجل، وكذب وبهتان، ومن زعم أن الزنا ليس بقدر].
أي: ومن زعم أن الزنا يقع من العبد بغير قدر الله ومشيئته الكونية القدرية فقد أخطأ؛ لأن الله قدرها أن تقع في الكون، ومعنى قدرها، أي: علمها من عبده قبل أن يخلقه، وقبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقبل أن يخلق هذه النسمات، علم أن عبده فلان ابن فلان سيزني بفلانة في المكان الفلاني في الساعة الفلانية، فلما علم الله تعالى ذلك منه كتبه في اللوح المحفوظ، وبالتالي فلابد أنه واقع منه.
ولا يعني ذلك جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية كما قلنا من قبل؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المعاصي سبيل أهل البدع، والاحتجاج بالقدر على المصائب والنوازل سبيل المؤمنين، فإذا نزل بك مرض أو علة أو آفة أو يقتل ولدك أو غير ذلك، كل هذا إذا سألك أحد فقل: قدر الله وما شاء فعل.
أما أن تزني وتقتل وتسرق وغير ذلك، ثم يقال لك: لم ذلك؟ فتقول: قدر الله وما شاء فعل! فتحتج بالقدر على المعصية، هذا سبيل أهل البدع، وكما رجحنا من قبل أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة منها، أما قبل التوبة فهذا مسلك أهل البدع.
قال: [ومن زعم أن الزنا ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا وجاءت بولدها، هل شاء الله أن يخلق هذا الولد؟]، مع أنه نتاج من الزنا، فهل هذا الولد خلق بمشيئة الزاني أم بمشيئة الله عز وجل؟ [وهل مضى هذا في سابق علم الله أم لا؟] أي: هل سبق في علم الله أن فلاناً سيزني بفلانة، وأنها ستحمل منه ذكراً أو أنثى؟
الجواب
نعم، [وهل كان في الذرية التي أخذها عز وجل من ظهر آدم؟]، وذلك لما أخرج الله تعالى ذرية آدم من صلب آدم فقال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
وهذا هو الميثاق الأعظم الذي أخذه الله تعالى على عباده لما استخرجهم كالذر من ذرية آدم، ووضع بعضهم أو قسماً منهم في يمينه، وجعل القسم الآخر في يده الأخرى وهي اليمين كذلك، وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، فهل ترون أن هذا الولد من الزنا ممن أخرج من صلب آدم وأخذ الله تعالى عليه الميثاق، أو أنه لم يخرج؟ والميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم قوله: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))، أي: شهدوا بالربوبية والألوهية في وقت واحد.
و
الجواب
أن هذا الولد من الزنا لما أخرج الله عز وجل ذرية آدم من صلب آدم كان فيهم، ومن أخرجه من الميثاق فيلزمه أن يأتي بدليل ولا دليل، إذاً: فلابد من القول: بأن هؤلاء قد خرجوا من صلب آدم، وأخذ الله عليهم العهد والميثاق، وحينئذ فلابد أن نقول: بأن هذا الولد سبق في علم الله أنه سيكون، وأن الله تعالى قدر له ذلك، وشاء له أن يخلق في بطن أمه من هذا الماء الهدر، ولما كان كل ذلك لابد أن نسأل أنفسنا: هل استطاع هذا الزاني أن يزني بتلك الزانية على غير مراد الله وعلى غير مشيئة الله، أم أن ذلك وقع بمشيئة الله؟ لا يستطيع أحد في الكون أن يتحرك حركة، أو إذا كان متحركاً أن يسكن سكنة إلا بمشيئة الله، سواء كان ذلك من أهل الطاعة أو من أهل المعصية، وهذه سنة التدافع الكونية القدرية في الكون بين الخير والشر.
وما كان يصلح أن يخلق الله عز وجل جميع الخلق مؤمنين، وما كان يصلح كذلك أن يخلق جميع الخلق كفاراً وملحدين، بل لابد أن يكون هناك إيمان وكفر، خير وشر، حق وباطل، حتى تقوم سنة التدافع بين الخلق، ولا تحلو الحياة إلا بهذا، وهذا أعظم ميدان وأفسحه لطلب الجنة، أي: أن يوجد مع الإيمان كفر، ومع الخير شر، ومع الحق باطل، حتى ترفع راية الجهاد فيؤخذ من يؤخذ من أهل الإيمان بناصيته إلى جنة عرضها السموات والأرض، إنه م(52/9)
إقدام العبد على المعصية والذنب بإرادته وبقدر الله عز وجل
قال: [وعن يونس بن بلال، عن يزيد بن أبي حبيب أن رجلاً قال: (يا رسول الله! يقدر الله عز وجل علي الذنب ثم يعذبني عليه؟ قال: نعم، وأنت أظلم)]، ولو أجابه بـ (نعم) فحسب لدار في نفس السائل أن هذا ظلم، وأنتم تعلمون أن الظلم صفة نقص، والله تعالى منزه عن كل صفات النقص، إذ إنه متصف بكل صفات الكمال سبحانه وتعالى.
فحذار أن تظن أن الله تعالى قد جبرك على المعصية، وأنه الذي اختارها لك، بل أنت الذي اخترتها، فلما اخترتها وسلكت سبيلها، وإن كان ذلك قبل أن تخلق، وقبل أن تكون نطفة، لكنه سبق في علمه أن ذلك سيكون منك، فأذن في وقوعها منك، وكلمة: (أذن في وقوعها منك)، أي: أراد الله تعالى لها أن تقع في الأرض، وأن تكون في الأرض، أما الذي باشرها فهو العبد، وهو أظلم.(52/10)
الزنا بقدر وشرب الخمر بقدر والسرقة بقدر
قال: [وعن ابن عباس قال: (الزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر)].
وبالتالي فجميع المعاصي تقع بقدر، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يحب الزنا، أو أن الزنا يقع في الكون رغماً عنه، أو أن جميع المعاصي في الكون تقع رغماً عن الله، فلو أراد السارق أن يسرق وما أراد الله له السرقة فهل يسرق؟ لا والله أبداً، ولو أن رجلاً أراد أن يسرق خزينة في محافظة المنصورة مثلاً، واتخذ الأسباب المعينة له على ذلك، وتهيأ وأخذ العدة والمطارق وغيرها ووضعها في حقيبة، وركب السيارة ونزل حتى صار عند باب الخزينة، لكن الله تعالى علم ذلك منه أزلاً فصرفه عن ذلك، وكتب أنه مصروف عن السرقة في اللوح المحفوظ، فهل يمكن أن تقع منه السرقة؟ وما الذي سوف يحصل؟ إنه سيرجع القهقرى، حتى وإن تمكن من سرقة الأموال فإنه سوف يدعها وينصرف؛ لأن الله قد كتب له هذه الخطوات فقط في طريق المعصية، لكن الله تعالى قدر له وعلم أزلاً أنه لن يأخذ مال غيره حتى وإن قطع بعض الأشياء إلا أنه سوف يتوقف عند البعض الآخر ويرجع، وربما يكون هذا باباً من أبواب التوبة.
وتعلمون المرأة التي كانت في أمس الحاجة إلى الدريهمات لكي تطعم أولادها أو تنفي عنها فقرها، فقد سلكت كل سبيل للحصول على ما تقتات به، وما وجدت إلا أن تطلب من ابن عم لها أو قريب لها، فخيرها بين أن يمنعها أو أن يعطيها على أن تمكنه من نفسها، ففعلت حتى جلس بين شعبها الأربع.
والواحد منا أيها الإخوة الكرام! إذا تصور هذا المنظر قال: لابد من وقوع الزنا، لكن هذه المرأة قالت له كلمة حولت مساره من شرير عاص لله عز وجل منتهك للحرمات إلى رجل طائع يخاف الله تعالى، قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرف عنها -وقد أعطاها الدراهم والدنانير- لما خالط قلبه بشاشة الإيمان، وترك المال مستغفراً وتائباً إلى الله عز وجل، فانظروا إلى هذا الرجل لم يكن بينه وبين المعصية إلا قاب قوسين أو أدنى، ثم انصرف عنها.
فهل تعتقدون أن ما حدث منه لم يكن يعلمه الله قبل خلق السموات والأرض، ولم يكتبه الله عز وجل قبل خلق السموات والأرض؟ بل قد علم الله تعالى ذلك وكتبه؛ إذ إن كل شيء يقع في هذا الكون من خير وشر إنما هو بقدر الله عز وجل، فالزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، أي: بعلم وكتابة، وأن الله تعالى علم ذلك وقدره وكتبه.
قال: [وعن عمرو بن محمد قال: جاء رجل إلى سالم بن عبد الله فقال: الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: قدره الله علي ويعذبني عليه؟ قال: فأخذ له سالم الحصباء].
وكان هذا منهج السلف، فقد كان إذا ذكر القدر أمسكوا، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وإذا ذكر النجوم أمسكوا كما جاء ذلك في الأثر، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يؤثرون أبداً الخوض في باب القدر؛ لأنهم يعلمون أن القدر هو سر الله تعالى في خلقه، فكانوا يمسكون إذا ذكر القدر، فهذا سالم بن عبد الله بن عمر يسأله رجل: الزنا بقدر؟ فيجيبه بـ (نعم)، فيعترض الرجل ويقول: إذاً فلم يعذبنا الله على أمر قدره علينا؟! فأخذ سالم حصيات من الأرض يريد أن يلقيها في وجهه؛ لأنه سوف يبدأ الخوض في باب عظيم من أبواب الإيمان؛ إذ إن الإيمان يدل على مكنون القلب وعلى الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب لا نقول فيه: لم كذا؟ وكيف يعذب الله الأموات في قبورهم؟! ولم يعذب الله الأموات في قبورهم؟ وكيف خلق الله الجنة؟ وكيف خلق النار؟ وكيف الصراط؟ وكيف مرور الناس على الصراط؟ وكيف وكيف وكيف؟ إن كل مسائل الغيب يحرم على المؤمن أن يقول فيها: لم؟ وكيف؟ لأن مسائل الإيمان في الغالب مسائل ابتلاء؛ لينظر الله تعالى هل يؤمن بها العبد أم لا؟ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس في السماء موضع قدم)، وفي رواية: (موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد أو قائم أو راكع)، فتصور هذا الأمر، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة)، فلا يأتي شخص يقول: نحن جالسون في مجلس علم، وأنا أريد أن أرى هذه السكينة، يا أخي! هل أنت محتاج لأن ترى السكينة؟ قال: (وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة)، فهل تعتقدون أن الملائكة معنا الآن، ويسمعوننا ويحضرون هذه المجالس؟ إن من لم يؤمن بذلك فقد رد على الله تعالى أمره، ورد على الله تعالى خبره، وكذلك رد على الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا لابد أن يراجع إيمانه، بل أن يراجع إسلامه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، حتى إذا مروا بحلق الذكر)، أي: بحلق العلم، (نادى بعضهم على بعض: ألا هلموا، فيجتمعون فيعلو بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا)، فتصور لو أن فوقنا ملائكة تحفنا بأجنحتها -نسأل الله الرحمة والرضوان- وفوقهم طبقة أخرى من الملائكة، ثم ثالثة، ث(52/11)
العزل وما يتعلق به من تقدير الولد
قال: [وعن أبي سعيد الخدري قال: (أصبنا نساء يوم خيبر)]، أي: أسرنا نساء يوم خيبر، [(فكنا نعزل عنهن ونحن نريد الفداء)]، أي: كنا نريد أن نرجع هؤلاء النساء ونأخذ عليهن مالاً، وذلك حتى لا يخرج الولد كافراً يتربى في غير أحضان والديه، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: [(ليس من كل الماء يخلق الولد)]، بل من أقل شيء من الماء، قال: [(وإن الله عز وجل إذا أراد شيئاً لم يمنعه شيء)]، أي: حتى وإن عزلتم فإن الله تعالى لو قدر أن يخلق من هذا الماء ولداً لكان ذلك.
قال: [وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يقولون: النطفة التي قدر منها الولد لو ألقيت على صخرة لخرجت تلك النسمة منها].
لأن الله تعالى قدر لها أن تكون.(52/12)
باب العزل وأحكامه عند أهل العلم والمصنفين
باب العزل في الحقيقة باب عظيم، وله في الاعتقاد ميدان فسيح، كما له كذلك في باب الفقه ميدان فسيح، ولذلك منهم من يذكر أحاديث العزل في أبواب الاعتقاد كـ ابن بطة، ومنهم من يذكرها في أبواب الطلاق أو النكاح أو الرضاع أو يخصها بباب حكم العزل كما فعل مسلم والبخاري.
أما مسلم فقد أخرجه في كتاب الطلاق، وأما البخاري فقد أخرجه في كتاب النكاح، وهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (سألني أبو صرمة فقال: يا أبا سعيد! هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر العزل؟ فقال: نعم، غزونا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب -أي: أعظم نساء العرب- فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل، فقلنا: نفعل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله! فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا عليكم ألا تفعلوا)، أي: إن شئتم استمتعتم وإن شئتم تركتم، إن شئتم عزلتم وإن شئتم أفرغتم ماءكم في أرحام هؤلاء، قال: (ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون)، ومفهوم المخالفة: وإذا قدر الله لها ألا تكون فلن تكون، بل لو اجتمع أهل الأرض على ذلك، وفي رواية: (فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة)، وفي رواية: لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن العزل قال: (لا عليكم ألا تفعلوا، فإنما هو القدر).(52/13)
روايات أبي سعيد الخدري في العزل
قال: [وعن أبي سعيد قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر)، قال محمد بن سيرين: وقوله: (لا عليكم) أقرب إلى النهي].
أي: مثل ما يقول رب العالمين: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فهذه الآية جاءت على سبيل التهديد، وليس على سبيل التخيير، أي: أن ربنا يخيرنا بين من أراد أن يؤمن فليؤمن، ومن أراد أن يكفر فليكفر، وإنما الله سبحانه وتعالى يهددنا ويتوعد، وكذلك قوله هنا: (لا عليكم ألا تفعلوا)، أي: تريدون أن تعزلوا اعزلوا، لكن والله لو أراد الله بما عزلتم أن يخلق فلابد أن يكون ذلك، فـ ابن سيرين رحمه الله فهم من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا عليكم): النهي؛ لأنها تدل عليه من باب الإشارة لا من باب صريح العبارة.
[وعن أبي سعيد قال: (ذكر العزل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما ذاكم؟ -أي: ماذا تقصدون بالعزل؟ - قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها)]، أي: يا رسول الله! امرأتي ترضع ولو أني جامعتها حملت، والعرب كانوا يعدون لبن الحامل مضراً بالولد، فنحن نعزل في أثناء الرضاع مخافة أن تحمل المرأة.
قال: [(الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له أمة فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه)]؛ لأن الأمة لو حملت كان ولدها تبعاً لها في الرق، وربما تكون كافرة من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية، وكفر أهل الكتاب بالإجماع لا على القول الراجح! إذاً: الذي دفعنا يا رسول الله! إلى أن نعزل أمران: الأول: أن هذه امرأتي الحرة ترضع، وأنا لو أصبت منها حملت، فكان في ذلك المضرة على الرضيع، الثاني: أن الواحد منهم تكون له أمة ويريد أن يستمتع بها، لكنه يخشى أن تحمل فيتبعها ولدها في الرق، وهذا أمر لا يشرف صاحب النطفة، أو أنه إذا حملت الأمة صارت أم ولد، ومن أحكام أم الأولاد أنها لا تباع ولا تشترى، فإذا حملت امتنع عليه بيعها للآخرين، وبالتالي تفوته المصلحة في ذلك.
فلما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك قال: [(لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم)]، أي: إذا أردتم أن تعزلوا فاعزلوا، (فإنما هو القدر)، أي: حتى وإن عزلتم فلا يكون إلا ما قدره الله تعالى.
قال ابن عون: فحدثت به الحسن البصري فقال: والله لكأن هذا زجر.
أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يزجرهم أن يعزلوا.
قال: [وعن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ولم يفعل ذلك أحدكم؟ -وهذا إنكار- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها)]، أي: إلا ولابد أن يخلقها الله عز وجل.
قال: [وعنه قال: سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن العزل فقال: (ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)]، أي: لم يمنعه العزل.(52/14)
حديث جابر في العزل من عدة طرق
وعن جابر: (أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا، وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت يا رسول الله! فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها).
وعن جابر قال: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لن يمنع شيئاً أراده الله، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! إن الجارية التي كنت ذكرتها لك قد حملت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا عبد الله ورسوله)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أنا وعبد الله ورسوله) ليس معناه: أنه لم يكن يعرف أنه عبد الله ورسوله، بل كان يعرف، لكنه أراد أن يقول له: أنا عبد الله ورسوله الذي أؤمن بالقدر، وأؤمن أن ما قدره الله لابد أن يكون، ولقد أخبرتكم بذلك.
وعن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، كأن هذا كان أمراً مباحاً، وإلا لو كان حراماً لكان النهي قد ورد، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن.
وعن جابر قال: (لقد كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا).(52/15)
تحريم وطء الحامل المسبية
وفي رواية يزيد بن خمير قال: سمعت عبد الرحمن بن جبير يحدث عن أبيه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أتي بامرأة مجحاً على باب فسطاط)، والمرأة المجحية هي المرأة الحامل، وباب فسطاط، أي: على باب خيمة، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعله يريد أن يلم بها)، أي: أن يصيب منها وأن يجامعها، (فقالوا: نعم يا رسول الله! فقال: لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره)؛ لأن هذا الرجل أراد أن يجامع امرأة ليست امرأته، وإنما سباها في الحرب وهي حامل، فيحرم عليه جماعها إلا بعد وضع حملها، فقال: (لقد هممت أن ألعنه لعناً يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟)؛ لأنه لو جامعها فربما يقال: إن هذا الولد نتاج ذلك الجماع، خاصة لو كان بعد الجماع بستة أشهر، أي: لو نزل الحمل بعد الجماع بستة أشهر وهي أقل مدة للحمل كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ لأنه حينئذ سيكون ولده، والولد لا يكون خادماً لوالده، وفي ذاك أيضاً جواز الغيلة، والغيلة هي وطء المرضع.(52/16)
جواز الغيلة وهي وطء المرضع، وكراهة العزل
قال: [عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة)]، أي: لقد هممت أن أنهاكم أيها الناس! أن يجامع أحدكم امرأته وهي مرضع.
قال: [(حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم)]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تذكر أن فارس والروم يفعلون ذلك، أي: يجامع أحدهم امرأته في أثناء إرضاعها لابنها ولا يضر ذلك الولد، وأن القول المزعوم بأن اللبن حينئذ يضره ليس حاصلاً.
قال: [وقالت جدامة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي)].
والمعنى: أنهم كانوا يعزلون والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وما كان ينهاهم، والوأد الخفي حرام، لكن الوأد لا يكون حراماً إلا بعد أن تخلق النطفة، وهذا هو الإجهاض، وأشد حرمة منه الوأد بعد الميلاد مخافة العار أو مخافة الفقر أو تبعاً لأخلاق الجاهلية وغير ذلك، فهذا كله حرام، وقد نهى عنه القرآن نهي تحريم وشنع على فاعله.
وهنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن العزل وأد خفي، ومع هذا لم ينهنا عنه فكيف يكون ذلك؟ الوأد عموماً -كما قلنا- هو بعد التخليق، لكن هذا وأد دون الوأد الذي نهى عنه القرآن؛ لأنه وأد للنطفة، وليس للعلقة ولا للمضغة المخلقة، ولا بعد أن تنفخ فيه الروح، ولا بعد الميلاد ذكراً كان أم أنثى، وإنما ذلك وأد للنطفة منذ تكوينها؛ لأن العبد المجامع لامرأته إذا قارب الإنزال أنزل ماءه خارج الرحم أو خارج فرج المرأة، وهذا معنى العزل، فالنطفة لم تبلغ مرحلة من المراحل بعد، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم مجازاً وأداً خفياً، وليس الوأد الذي يستلزم قيام الحد.
قال: [وعن سعد بن أبي وقاص: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لو كان ذلك ضاراً ضر فارس والروم)، وفي رواية: (إن كان لذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم)].
يقول العلماء: العزل جائز مع الكراهة لعدم وجود النهي من النصوص، والعزل عن الزوجة والأمة هو أن يجامع الرجل حليلته، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وسبب ذلك: العزوف عن علوق المرأة وتكوين حمل في رحمها، وإما لأسباب صحية تعود إلى المرأة أو إلى الجنين -وهو ما يسمى بالغيلة- أو إلى الطفل الرضيع، أو ربما يكون بسبب فساد الزمان، فقد يقول شخص: نحن في زمن شر، وأنا أخشى على أولادي أن يكونوا فاسدين في المجتمع، أو أن يتأثروا بفساد المجتمع، لكن صلاح النية وحده لا يكفي في أغلب الأحوال، بل لابد من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهنا لو أن هذا الرجل عزل بهذه النية وقدر الله تعالى له الولد جاء الولد.
وقد ذهب جمهور من الفقهاء إلى جواز عزل السيد عن أمته مطلقاً، سواء أذنت له في ذلك أو لم تأذن؛ لأن الوطء حق له وليس للأمة، فللرجل الذي له أمة أن يبيعها في أي وقت شاء، أو يعتقها في أي وقت شاء، فهي ملك له كأي متاع، فإذا شاء أن يستمتع بها استمتع، لكن إن استمتع بها فحملت صارت أم ولد وانتقلت إلى أحكام أخرى، لكن لو أراد السيد أن يستمتع بأمته وما أراد منها الولد لأي عذر من الأعذار، كأن يريد أن ينتفع بها في يوم من الأيام بالبيع أو الشراء، أو ربما يخشى من سوء أخلاقها فيتأثر بها ولدها، وغير ذلك من الأعذار الكثيرة، وهي كذلك، أي: وإن لم يكون لها حق على سيدها في الوطء فليس لها حق على سيدها في الحمل، فكل ذلك له.
أما العزل عن الحرة المحصنة العفيفة فهل يلزم فيه إذنها أم لا يلزم؟ وهل الوطء حق له هو أم حق لهما؟ وهل هناك فرق بين الوطء والاستمتاع؟ هذا محل نظر واختلاف بين أهل العلم، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين: الرأي الأول: إباحة العزل مطلقاً عن الحرة سواء أذنت في ذلك أو لم تأذن، أي: أنها تماماً كالأمة، إلا أن ترك العزل عن الحرة أفضل، وهو الراجح عند الشافعية، وذلك لأن حقها الاستمتاع دون الإنزال إلا أنه يستحب استئذانها.
وفي الحقيقة هذا المذهب ضعيف، والذي أعتقده أن الحرة لابد من استئذانها؛ لأنها شريكة زوجها في الاستمتاع والولد، كما أنها شريكته في الوطء، فهي صاحبة الحق في هذا، والاستمتاع في أثناء الجماع لا يغني عن استمتاع المرأة في لحظة الإنزال، فهذا حقها لا يجوز لزوجها أن يعزل عنها بغير إذنها، فإن أذنت حل له ذلك وإلا فلا.
الرأي الثاني: يباح العزل عن الحرة بإذنها، فإن كان لغير حاجة فمكروه، والحاجة هي الأعذار التي ذكرت من قبل، وهذا قول عمر، وعلي، وابن عمر(52/17)
أدلة القائلين بإباحة العزل والقائلين بكراهيته
وقد استدل القائلون بإباحة العزل مطلقاً بغير إذن الزوجة بما روي عن جابر: (كنا نعزل على عهد رسول الله والقرآن ينزل، ولم ينهنا النبي عليه الصلاة والسلام)، واستدل القائلون بالإباحة بشرط إذن الحرة بمرويات كلها ضعيفة، ومنها ما جاء عند أحمد وابن ماجه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها).
وعند عبد الرزاق والبيهقي من حديث ابن عباس قال: (نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها)، وكلاهما ضعيف.
وأما أدلة الكراهة: فإن العزل إن كان بدون عذر فلأنه وسيلة لتقليل النسل، وقطع اللذة عن الموطئة، ولذلك الكفار يحرصون كل الحرص على تكثير نسلهم، وفي نفس الوقت يدفعون الأموال الطائلة للمسلمين لتحديد النسل، ولما علموا أن (التحديد) لفظ جارح وخادش لمعتقد كثير من المسلمين، جاءوا بلفظ (التنظيم)، والبلاء واحد لكن الأسماء مختلفة بحيث يستحلون محارم الله بأدنى الحيل.
ويبقى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حث على تعاطي أسباب الولد فقال: (تناكحوا تكثروا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).(52/18)
الأعذار المبيحة للعزل
والعذر في العزل يتحقق في الأمور التالية: إذا كانت الموطوءة في دار الحرب وتخشى على الولد الكفر، كما هو الحاصل في فلسطين، فلو أن فلسطينياً عزل عن امرأته مخافة أن يتأثر ولده بدين اليهود أو بالفساد فهذا عذر، كذلك: إذا كانت أمة ويخشى الرق على ولده؛ لأن الرق نقص وهو لا يريد النقص لولده، أيضاً: إذا كانت المرأة يمرضها الحمل أو يزيد في مرضها، كما لو قرر ذلك أكثر من طبيبة مسلمة حاذقة صاحبة دين وثقة، وبالتالي إذا غلب ذلك على الظن جاز للرجل أن يعزل عنها إذا كانت المرأة يمرضها حملها، أو أنها مريضة والحمل يزيد في مرضها، أو أن الحمل يؤخر برأها، وحينئذ فهذا عذر للعزل، لكن ليس على مذهب أبي حامد الغزالي رحمه الله، إذ إنه يقول: إذا خافت المرأة على جمالها فهذا عذر في العزل! وهذا كلام ما له أصل ولا يصح؛ لأن لكل امرأة أن تقول: أنا أخاف على جمالي، حتى الدميمة تقول: أنا أيضاً خائفة على جمالي! لكن الجمال مسألة نسبية، فهي دميمة عندك وليست دميمة عند غيرك، فإذا رأيت امرأة سوداء فستزهد فيها، لكن لا يزهد فيها غيرك بل يطلبها ويبتغيها، ولو نظرت إلى امرأة بيضاء اشتهيتها، لكن لو نظر لها رجل أسمر اللون لا يشتهيها.
إذاً: مسألة الجمال والحسن والوجاهة مسألة نسبية، فإذا كانت المرأة تريد العزل بعذر المحافظة على جمالها ورشاقتها فهذه مسألة نسبية.
وهذه المسائل كلها يا إخواني! تريد رجالاً أصحاب تقوى؛ لأن الكلام مكتوب في الورقة وبإمكان كل إنسان أن يقرأه، لكن الذي يطبقه على نفسه يحتاج إلى تقوى الله عز وجل، والعجب أنه في هذه الأيام كثير من المثقفين يقول: أنا أريد ولداً وبنتاً فقط! وكأنه يشترط على الله قبل أن يتزوج، ولذلك أنا أذكر قصة للعبرة: كان معنا في الإعدادية أستاذ لغة عربية، وكان على مشارف المعاش، وكان أول رجل رفع الراية في نصرة مذهب الغرب في تحديد النسل، وكان يحارب لأجل هذا الغرض في كل واد وميدان، وما كان يعجبه قط رفض المشايخ لهذه الدعوة الخبيثة، ثم أنجب هذا الرجل ولداً واحداً بإرادته، أي: أنه اتخذ الأسباب لمنع النسل بعد الحصول على الولد الأول، ورباه تربية حميدة، حتى أصبح مثالاً للأدب والأخلاق الحسنة، وهو أستاذ في كلية الآداب في جامعة عين شمس، لكن الرجل لما كبر ولده وذهب إلى جامعة السوربون ليحصل على الدكتوراه شعر بالوحدة بينه وبين امرأته، فلما أراد الولد كان الوقت قد فات، فنصحه الناس أن يتزوج امرأة أخرى، فهاجم هجوماً جديداً في قضية تعدد الزوجات، وما أن كبر وذهب عنه الناس وماتت امرأته ترك الرجل التدريس وأحيل على المعاش، فمكث في بيته بقية عمره وحيداً فريداً، قد كرهه أهل بلدته كلهم بسبب الحملات التي حملها عليهم من قبل، وبقي الرجل في بيته حتى جن وفقد عقله، وأنا أذكر لما كنت في الجامعة زرته؛ لأنه رجل صاحب فضل ومنة علي، فأخذت أذكره بما كان منه من حملات ضد النسل في ذلك الوقت، فكان الرجل يبكي بكاء شديداً، فبكينا لبكائه حزناً عليه وعلى ما وصل إليه حاله، وكان دائماً يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لتزوجت أربعاً من الزوجات.
وكان دائماً يدعو لنا بدعوة واحدة: أسأل الله تعالى ألا تروا ما قد رأيت، ولما كبرنا عرفنا الوحدة وكيف هي؟ وإن كنا لم نجربها، لكن الإنسان دائماً لا يستغني أبداً أن يجتمع بالناس، أما تعلمون أن الرجل إذا كبر في سنه وفارقته امرأته أو ماتت عنه يحب أن يتزوج امرأة أخرى ولو أكبر منه، لا لأجل اللذة والفراش، وإنما لأجل المؤانسة.
وهذا رجل قد هرم وماتت عنه امرأته منذ أقل من سنتين، وهو صاحب جاه ومال وأولاد أربعة، أطباء، والرجل احتال على أصدقاء أولاده هنا وهناك حتى رفعنا الأمر إلى أولاده وقلنا لهم: حقه الشرعي لا تمنعوه، فتفهموا أخيراً للأمر وأذنوا له بالزواج، والله يا إخواني! الرجل يتصل بي في أي وقت من الليل الساعة الواحدة الثانية الثالثة الرابعة قبل صلاة الفجر ويقول: والله يا شيخ! ما نمت، أنا سوف أجن، ويقول: كدت أفقد عقلي، أنا أريد امرأة تؤنس وحدتي، ولا تحصل هذه المرأة مني على شيء، لكني أريد أن تؤنس وحدتي فقط.
وكذلك المرأة أشد حاجة للرجل من الرجل إليها ولو من باب المؤانسة فحسب، وهذه سنة الله عز وجل لا يحل لأحد أن يمنع فيها، فإذا فسد الزمان وحرص الرجل ألا يكون له ولد مخافة أن يفسد مع فساد أهل الزمان فذلك له.
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(52/19)
شرح كتاب الإبانة - لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يصح إيمان العبد إلا به، فلا بد من الإيمان بالقدر خيره وشره، ومن كذب بذلك كان من الخاسرين، وكان من الفرق الهالكة، وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين من بعده واضحة في ذلك.(53/1)
باب التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره(53/2)
أقوال أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وحذيفة وعمران بن الحصين في إثبات القدر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الرابع: باب التصديق بأن الإيمان لا يصح لأحد ولا يكون العبد مؤمناً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن المكذب بذلك إن مات عليه -أي: على التكذيب- دخل النار، والمخالف لذلك من الفرق الهالكة].
دليل ذلك: [عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر -كأنه شك في شيء من القدر أو التبس عليه أمر من أمور القدر- فأتيت أبي بن كعب رضي الله عنه فسألته، فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يظلمهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت أحداً ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لمت على غير الفطرة التي فُطر عليها محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الديلمي: فخرجت من عنده -أي: من عند أبي بن كعب - فأتيت ابن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فسألته فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك].
هذا الحديث يشير إلى ما حاك في نفس ابن الديلمي، وربما يكون الذي حاك في نفسه: أنه إذا كان الله تعالى قدر كل شيء، وعلم كل شيء قبل خلق هذه الأشياء؛ فلم قدر علي المعصية؟ وإذا كان هو المقدر لذلك فلم يعذبني إذاً؟ ولم يدخلني النار؟ أليس هذا من الظلم؟! والظلم منفي عن الله عز وجل، وكل صفات النقص لا تليق بالله عز وجل؛ لأنه متصف بصفات الكمال والجلال سبحانه وتعالى، فقال لما حاك في نفسه شيء من القدر: أتيت أبي بن كعب، وهذا مسلك أهل العقل والعدل دائماً، فالذي يحيك في نفسه شيء أياً كان هذا الشيء ما دام متعلقاً بالحلال والحرام، ومتعلقاً بمسائل الشرع؛ فإنه يجب عليه أن يهرع إلى أهل العلم؛ ولذلك قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
فهذه الآية أوجبت على طائفتين واجبات: أوجبت على أهل الجهل أن يسألوا أهل العلم، وأوجبت على أهل العلم أن يجيبوا أهل الجهل بما قد سألوهم عنه، فلا يحل لجاهل أن يخفي سؤاله ولا يسأل عنه، ولا يمنعه من ذلك كبر ولا حياء، كما أنه أوجب على العالم إذا سئل في شيء أن يجيب ولا يكتم علمه، ومن كتمه فإنه يأتي يوم القيامة ملجماً بلجام من نار، والجزاء من جنس العمل.
قال ابن الديلمي: لما حاك في صدري ذلك الشيء أتيت أبي بن كعب رضي الله عنه -وهو من كبار الصحابة وسيد من سادات المسلمين- فقال: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يظلمهم.
أي: لو أن الله تعالى كتب على أهل السموات -أي: الملائكة- وأهل الأرض العذاب السرمدي الأبدي؛ لكتب ذلك غير ظالم لهم، وأنا أدلك على مصداق ذلك: لو كان العذاب والرحمة والجنة والنار متعلقات بالعمل فحسب في مقابل نعم الله عز وجل عليك؛ لما كافأت عبادتك نعمة واحدة من نعم الله عليك، وإذا كانت المسألة مسألة موازين العمل الصالح وغير الصالح، وأن من عمل صالحاً دخل الجنة ولابد؛ فإن الأمر لا بد أن يكون فيه شيء من العدل، فستوضع نعم الله تعالى على العبد في كفة وعبادة العبد في كفة أخرى، فينظر: هل تزن هذه الأعمال نعم الله عز وجل عليه أم لا؟
الجواب
لا؛ لأنه قد جاء بسند لا بأس به عند الحاكم: (أن رجلاً عبد الله ستمائة سنة، فجيء به يوم القيامة فقال الله تعالى لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي.
قال: لا يا رب! بل بعملي -فقد تصور أنه بهذه العبادة استحق الجنة- فقال الله تعالى: زنوا عمل عبدي وزنوا نعمي عليه -وفي رواية-: وزنوا نعمة البصر) وهي نعمة واحدة، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
قال: (فلما وضعوا نعمة البصر في كفة وعبادة الرجل ستمائة سنة في كفة؛ طاشت تلك العبادة) يعني: لم تثبت هذه العبادة أمام نعمة واحدة من نعم الله عز وجل، فلو كان الأمر متعلقاً بالعمل فحسب فإن الله تعالى لو عذب العابدين فضلاً عن العصاة، وفضلاً عن الكافرين، فهو غير ظالم لهم؛ لأن عبادتهم لا يمكن أن تكافئ نعمه عليهم، ولكن رحمة الله تبارك وتعالى هي الدليل والقائد للعبد الطائع إلى جنة الله عز وجل؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله(53/3)
الإيمان الجازم بالقدر راحة للعبد في الدنيا والآخرة
قال: [وعن عطاء بن أبي رباح قال: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ فقال: دعاني فقال: يا بني! اتق الله.
واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده].
أول شيء يا بني اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله ولا تعلم حقيقة الإلهية إلا إذا آمنت بالقدر خيره وشره.
قال: [يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله، ولن تبلغ العلم بالله حتى تؤمن بالله وحده، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قلت: يا أبت! كيف لي إلى الإيمان بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك -تعلم أن ما قدره الله عليك لا بد أنه واقع بك مهم حاولت دفعه- وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، هذا بالقدر] أي: أن تؤمن إيماناً جازماً أن ما قدره الله عليك واقع بك، وما صرفه الله عنك لا يمكن لأهل الأرض جميعاً أن يلحقوه بك، والذي يؤمن بالقدر ويعلم أن كل شيء من عند الله سواء كان خيراً أو شراً؛ يستريح جداً.
فالإيمان بالقدر هو الذي يجعل المرء شجاعاً في كل ميدان، وذلك إذا كان يعتقد اعتقاداً جازماً أن أهل الأرض لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لا يضرونه إلا بشيء هو مكتوب أزلاً، ولا يمكن صرفه؛ ولذلك كثير من الناس يتودد وينافق ويداهن ويماري ويرائي حتى يصرف بلاءً ظن أنه واقع به، ولا ينصرف هذا البلاء أبداً، فمع فقدان الدين بالنفاق والرياء وغير ذلك يقع به ما قد قدره الله، ومع الصدق واليقين والتوكل على الله عز وجل يفاجأ أن العزة في هذا الموقف كانت مكتوبة له قبل ذلك، ولعل من علم ذلك أو عاش ذلك في بعض مواقفه يشعر بصحة ما قلت، وهذا لا يحتاج إلى تجارب، والإيمان بالله لا يحتاج إلى تجارب، وإنما الإيمان بالله يكون ابتداءً قبل أي تجربة، أؤمن بأن القدر كله من عند الله: أن الخير من عند الله، وأن الشر من عند الله، وأن الله تعالى هو النافع الضار، ولا يمكن لأحد قط هددك بضر أن يوقع هذا الضر بك إلا إذا كان مكتوباً قبل خلق السموات والأرض، وإذا وعدك واعد بجلب نفع إليك لا يمكن له ذلك إلا إذا كان مكتوباً لك قبل أن يخلق الله السموات والأرض، فإذا كان كل ذلك بيد الله، وأن الخلق جميعاً في قبضة الله، وهم ملك الله تعالى؛ إذاً: فلم تحرص على الدنيا؟! ولم تخاف من ذي سلطان وهو نفسه في قبضة الله عز وجل، وتحت سلطان الملك الجبار سبحانه وتعالى؟! أنت وهو سواء، وربما تكون أنت أقرب إلى رحمة الله منه، بل هو المهدد بالعذاب والنكال والانتقام، إذاً: فلم تخالف أنت وأنت صاحب الحق؟! لا بد للمسلم أن يكون له عزة في كل موقف، وينبغي لكل منا أن يثبت موقف عزة لله عز وجل في موقف يظن فيه أنه مهان، ولا بد أن يستعمل المؤمن دائماً إيمانه وإسلامه، ولا تجعل إيمانك دائماً في الوحل والرغام والطين، بل لا بد في كل موقف يستحق الاستعلاء بالإيمان أن تستعلي بإيمانك على هذا الواقع الباطل، وعلى هؤلاء المبطلين الذين يوجهون أكاذيبهم فيستعلون عليك، وهم والله لا يملكون شيئاً منك: لا في روحك، ولا في بدنك إلا ما قد قدره الله عز وجل عليك، ولو أراد أحد أن ينزل بك العذاب وينتقم منك أشد الانتقام، فلا يقدر على شيء من ذلك، فإذا كنت تؤمن بهذا إيماناً جازماً فسر قُدُماً على بركة الله عز وجل، واعلم أن الأرض كلها لو اجتمعت على أن يضروك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولو اجتمع العالمون على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، فكل أمر مقدر، وما عليك إلا أن تكون ناصراً لدينك.
واعلم أن هؤلاء جميعاً كلهم في قبضة الله عز وجل، وتحت سلطانه وسيطرته وقهره وملكوته وجبروته سبحانه وتعالى، فهم مهددون بالعذاب قبل أن يهددوك، ولو كان لهم شيء فبقدر، ولو كان لهم سلطان على شيء منك فإنما سلطانهم على بدنك، ومعنى (سلطانهم على بدنك): أنهم لا يملكون منك إلا السوط الأول، وما دون ذلك لا تشعر به، وهل تستعظم على الله عز وجل أن تنال في سبيله سوطاً؟ لا والله، كل ذلك قليل في حق الله وجنب الله.(53/4)
وصية عبادة بن الصامت عند الموت لابنه الوليد بالإيمان بالقدر
[عن عطاء بن أبي رباح: قال سألت الوليد بن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ فقال: دعاني فقال: يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قلت: يا أبتي! كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
هذا القدر، أظنه قال: فإن مت على غير هذا دخلت النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: أي رب! وما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى القلم تلك الساعة بما هو كائن إلى الأبد)].
فلو هددك طاغية بشيء من العذاب والنكال وأردت أن تصرفه عن نفسك وقد كتب في اللوح المحفوظ أنه واقع بك؛ هل يمكنك دفعه؟ لا، وإذا لم يكتبه الله تعالى عليك هل يمكن لهذا الطاغية إلحاق الأذى بك؟ لا، فإن تؤمنوا بذلك فأنتم على خير، لكن الإيمان الحقيقي يظهر ساعة المحك والعمل، فإن قال لك سلطان: افعل كذا، قل له: هذا حرام، فإن قال: تفعل وإلا فعلت، قل له: لا تستطيع إلا بقدر، وكل شيء بقدر، قدر الله وما شاء فعل.
هذه الكلمات تقتله قتلاً؛ لأنه لا يؤمن بالقدر كما تؤمن أنت، وإن أوقع شيئاً من الأذى فبقدر ومكتوب، وهو في علم الله منذ الأزل.
[وعن أيوب بن زياد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وأنا أتخيل فيه الموت، فقلت: يا أبا الوليد! -وهي كنية عبادة بن الصامت - أوصني واجتهد لي؟ قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: يا بني! إنك لن تطعم طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله عز وجل حتى تؤمن بالقدر خيره وشره -أي: إنك لن تطعم طعم الإيمان، وتذوق حلاوته حتى تؤمن بالله، وتعلم الله تعالى، وتؤمن بالقدر خيره وشره- فقلت: يا أبتاه! وكيف لي أن أعلم ما خير القدر من شره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول شيء خلق الله القلم، ثم قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيام) يا بني فإن مت ولست على هذا -أي: ولم تؤمن بهذا- دخلت النار.(53/5)
نفي الإيمان عمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره
[وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن عبد حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، بعثني بالحق وبالبعث بعد الموت، وحتى يؤمن بالقد).
وعن علي قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالقدر خيره وشره، ويؤمن بالبعث بعد الموت)] أي: يؤمن أن الناس يبعثون يوم القيامة للحساب والجزاء.(53/6)
حكم عبد الله بن عمر على من أنكر القدر وقال إن الأمر أنف
[وعن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر معبد الجهني البصري، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلت: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء القوم -يعني: يا ليتنا! نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى نسألهم عن القول الذي يقوله معبد الجهني - فلقينا عبد الله بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله (اكتنفته) -يعني: أحطت به من جانبيه- فعلمت أنه سيكل الكلام إلي -يعني: فعلمت أن صاحبي قد خولني في أن أتكلم مع عبد الله بن عمر - فقلت: يا أبا عبد الرحمن! - وهي كنية عبد الله بن عمر - إنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم -أي: يطلبونه طلباً حثيثاً، وفي رواية (يتفقرون) بالفاء قبل القاف، أي: يطلبون فقار العلم، ودقائقه ومسائله الغامضة العويصة- يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف].
فأول بدعة القدرية كانت من العراق من البصرة.
وهم يقولون: (لا قدر، وأن الأمر أنف)، يعني: ليس هناك شيء اسمه قدر، والله تعالى لم يقدر شيئاً بل إنه لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع، هذا معنى قولهم: (لا قدر وأن الأمر أنف)، أي: مستأنف غير معلوم لله قبل أن يقع.
وهم بهذا يكذبون الله تعالى في إثبات العلم له، ويكذبون أن الله تعالى كتب مقادير الخلائق كما في الحديث: (إن أول شيء خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان وسيكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة) هؤلاء يكذبون مثل هذه النصوص في القرآن والسنة؛ لأنهم يقولون: ليس هناك شيء اسمه قدر، كما أن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وإجمال ذلك في كلمتين: لا قدر وأن الأمر أنف، فأنكروا مرتبة العلم، وأنكروا مرتبة الكتابة.
[فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أوقد قالوها؟ إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، أي: ليست منهم وليسوا مني].
قال النووي: ورد عبد الله بن عمر هذا دليل على تكفير هؤلاء.
قال: وعلى ذلك انعقد إجماع أهل العلم: أن من أنكر مرتبة العلم ومرتبة الكتابة كفر بالله عز وجل؛ لأنه ينفي العلم عن الله، ومن نفى العلم عن الله يلزمه أن يثبت الضد وهو الجهل، فكأنه يسب الله تعالى.
قال عبد الله بن عمر: [إني سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا.
قال: صدقت! فعجبنا له يسأله ويصدقه)].
لأنه ليس من عادة السائل الجاهل أن يصدق العالم، أو المفتي؛ وذلك لأن التصديق لا يأتي إلا من رجل عالم، ثم اكتشفوا بعد ذلك أن هذا السائل هو جبريل وليس سائلاً عادياً، وكذلك مظهره ومخبره يدل على أنه ليس رجلاً قادماً من البادية إلى المدينة.
[(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشر)] وهذه حجة عبد الله بن عمر في الرد على معبد الجهني الذي تكلم بهذا الشيء.
[حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال رجل لـ عبد الله بن عمر: إن ناساً من أهل العراق يكذبون بالقدر، ويزعمون أن الله عز وجل لا يقدر الشر -أي: لا يأذن في وجوده وخلقه-، قال: فبلغهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه برآء، والله لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره].
أي: حتى يؤمن بأن الخير والشر من عند الله، وأن الله تعالى علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون.
والقدر هو سر الله تعالى في خلقه، ولا ينبغي لأحد أن يتكلم في هذا الأمر، ولا أن يبحثه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، الشاهد قوله: (إذا ذكر القدر فأمسكوا) أي: لا تخوضوا في مسائله خوض المجادلين فيه بغير علم ولا طلب للحق.
[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشر)].(53/7)
أقوال عبد الله بن مسعود في أن العبد لا يذوق طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر
قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: والذي لا إله غيره لا يذوق أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعنه قال: لن يجد طعم الإيمان -ووضع يده في فيه- حتى يؤمن بالقدر، ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث]، أي: حتى يؤمن بالبعث بعد الموت.
[وعنه قال: ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق -أي: الكذب والمماحلة والمجادلة بالباطل وهو يعلم الحق، ولكنه يماري ويجادل بالباطل- والكذب في المزاحة] وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمزح ولكن لا يقول إلا حقا، (أتت امرأة تسأله عن الجنة، فقال النبي: لا يدخل الجنة عجوز، فولت المرأة وهي باكية) وهو صلى الله عليه وسلم صادق في ذلك؛ لأنهن لن يدخلنها إلا عرباً أتراباً، أي: في سن واحدة، فلما قال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة عجوز) كان صادقاً؛ فولت المرأة باكية حزينة؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت لها أنه صادق، ثم أتت امرأة وقالت: (يا رسول الله! أتعرف بعلي؟ قال: نعم، أليس الذي في عينيه بياض؟ - وكل الناس في عينيه بياض - فقالت المرأة: نعم.
يا رسول الله!).
وكان رجل من البادية يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي له بخيرات البادية، وذات يوم قدم المدينة وليس معه شيء، فاستحيا أن يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بغير شيء؛ فذهب إلى السوق، فلحقه النبي عليه الصلاة والسلام وأتى من خلفه فأغمض عينيه وقال: (من يشتري العبد؟ فقال الرجل: فلما وضعت يدي على يد النبي عليه الصلاة والسلام علمت أنه هو، فما يد أنعم من يده ولا أطيب، فقلت: يا رسول الله! إذاً: يجدني كاسداً).
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب الممازحة والملاطفة: (من يشتري العبد؟ قال الرجل: إذاً: يجدني كاسداً يا رسول الله! قال: بل أنت رابح، بل أنت رابح، بل أنت رابح)، وهذه بشارة عظيمة لهذا الرجل بالربح الحسن يوم القيامة، وغير ذلك من ممازحاته عليه الصلاة والسلام.
(ومر النبي عليه الصلاة والسلام على امرأة في الطريق فقال: أتعلمين من أمر قريش شيئاً، ومن أمر أبي سفيان؟ فقالت: لا، قال: بل تعلمين من أمره شيئاً فأخبرينا، وأخبرينا عن ذاك الرجل الذي خرج في قريش يزعم أنه نبي، فقالت المرأة: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل لا نخبرك حتى تخبرينا أنت؟ فلما أخبرتهم بخبر قريش وبخبر أبي سفيان -وكان ذلك في غزوة بدر- قالت: هذا خبر قريش وخبر أبي سفيان، فمن أنتما ومن أين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام).
فقوله: (نحن من ماء) لم يكذب فيه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه عرض به، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب.
(قال: نحن من ماء، قالت المرأة: من أي ماء أنتم؟ فانطلق النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجب المرأة).
وهذا كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
قال: [ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق، والكذب في المزاح، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال ابن مسعود: لأن يعض الرجل على جمرة حتى يبرد -يبرد ويسكن ويموت وينام كلها بمعنى واحد- خير له من أن يقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه].
يعني: إنسان لو يمسك جمرة هكذا، ويظل قابضاً عليها بفمه إلى أن تخرج روحه خير له من أن ينطق بهذه الكلمة: ليت الله لم يفعل هذا: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فكل أفعال الله تعالى مبنية على الحكمة والعدل والفضل، فحينئذ لا يجوز لأحد قط أن يعترض على الله تعالى في أفعاله.(53/8)
أقوال علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر في إثبات القدر
قال: [وعن يعلى بن مرة قال: ائتمرنا -يعني: اتفقنا- أن نحرس علي بن أبي طالب كل ليلة عشرة، قال: فخرج فصلى كما كان يصلي، ثم أتانا فقال: ما شأن السلاح؟ -وساق حديثاً طويلاً- ثم قال: إنه لن يجد عبد أو يذوق حلاوة الإيمان حتى يستيقن يقيناً غير ظان -يعني: غير شاك].
وهذا شرط في إيماننا بالقدر، وكلنا يؤمن بالقدر، والقدر باختصار شديد: أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، يعني: أن ما قدره الله لك لا بد أن ينزل، وما صرفه الله عنك لا يمكن أن ينزل، فحينئذ إذا وقع بك البلاء فاعلم أنه من عند الله، وإذا صرف عنك الخير الذي تظن أنه خير فاعلم أن هذا الصرف من عند الله، فلماذا أنت غضبان؟! لو أن شخصاً يريد أن يتزوج امرأة جميلة وطيبة ومتدينة فإنه يستخير الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نستخير حتى في شراك نعلنا، فبعد أن يصلي هذا الشخص يقرأ هذا الذكر الذي علمنا النبي عليه الصلاة والسلام إياه: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم) إلى آخر الدعاء، والعجيب أن أحدنا يسمي هذه المرأة ويقول في النهاية: يا رب أنا أريدها، قدرها لي، أنا سأموت يا رب! إذا لم أتزوجها، وكذلك من النساء من تقول عن رجل من الناس هذا القول، لماذا كل ذلك؟! أنت كونك استخرت ربك فقد فوضته في أن يختار لك، فإذا قدر لك ألا تتزوج تسخط وتغضب على ربك؟! هذه قسمة ضيزى، وليس إيماناً يساوي فلساً في ميزان الإيمان بالله عز وجل، فالله سبحانه جعل لك الخير في غيرها، وكم مرة ظن الإنسان أن العمل القادم عليه خير فيصرفه الله، ثم يكتشف العبد أنه كان شراً، والعكس بالعكس، فما عليك يا أخي المؤمن إلا أن تعلن الإيمان بالله، وتعلن الإيمان بالقدر خيره وشره، وقل: الذي أتمناه هو الذي يقدره الله عز وجل، وما قدره الله لي ينبغي أن يكون أمنيتي فيه، إيجاباً أو سلباً.
قال: [إنه لن يجد عبد أو يذوق حلاوة الإيمان حتى يستيقن يقيناً غير شاك: أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقيناً غير ظان: أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويؤمن بالقدر كله.
وقال أبو بكر الكلبي: رأيت شيخاً يزحف عند قصر أوس، فقال: سمعت أبا سعيد الخدري رحمه الله يقول: لو أن عبداً أقام الليل وصام النهار، ثم كذب بشيء من قدر الله عز وجل لأكبه الله في النار على رأسه، أسفله أعلاه، قال: قلت له: أنت سمعته من أبي سعيد؟ قال: أنا سمعته من أبي سعيد.
وعن عبد الله بن عمر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن المرء حتى يؤمن بالقدر خيره وشر).
وعن ابن عباس: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال جبريل عليه السلام: قال الله عز وجل: من آمن بي ولم يؤمن بالقدر خيره وشره فليلتمس رباً غيري)، وهذا على سبيل التقريع والتهديد.(53/9)
باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم
قال: [الباب الخامس: باب الإيمان بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم].
مخلوق وهو رأس الشر، واتفقنا من قبل أن الخير والشر من عند الله، وأن الله خالق للخير والشر، وأن الله أراد من عباده الخير إرادة شرعية دينية، وأحب ذلك وأمرهم به، وأراد منهم الشر إرادة كونية قدرية، بمعنى: أنه لا يقع في كون الله إلا ما أراد، وما شاء وقدر، ولو أراد العصاة معصية الله تعالى ما قدروا على ذلك إلا بعد أن يأذن الله في ذلك، فالله سبحانه لا يحب الشر بل يبغضه، وحذر منه، وخلق لأجله النار، وتوعد عباده العصاة.
إذاً: إبليس رأس الشر، فنؤمن بأن الشيطان مخلوق مسلط على بني آدم يجري منهم مجرى الدم في العروق إلا من عصمه الله عز وجل، ومن أنكر ذلك فهو من الفرق الهالكة.
ففي البخاري عن أنس: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فالشيطان يجري من ابن آدم كما يجري منه الدم، فالدم يجري في كل أعضاء البدن، فكذلك الشيطان يجري في جميع أعضاء البدن، وهو يجري من ابن آدم كما يجري الدم في العروق.
[وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلجوا على المغيبات -أي: لا تدخلوا على النساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن، (لا تلجوا) أي: لا تدخلوا خلسة على النساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن- فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، والعلة وردت في قوله عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
قال: [(قالوا: ومنك يا رسول الله؟! -الشيطان يجري منك مجرى الدم؟ - قال: ومني -أي: يجري مني كما يجري منكم- إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير).
وكلمة (فأسلم) ضبطت مرة بالفتح ومرة بالضم، فالضم معناه: فأسلم أنا منه ومن وسوسته، ورواية الجمهور -وهي الصحيحة- بالفتح، أي: فأسلم الشيطان وترك الكفر، فصار مسلماً لا يأمرني إلا بخير، ولا يأمرني إلا بالإسلام].(53/10)
تقديم المرء حسن الظن إذا رأى ما يبعث على الشبهة في أخيه
قال: [وعن صفية بنت حيي قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره -وفي هذا استحباب زيارة النساء لأزواجهن في المعتكف- فحدثته ثم قمت فانقلبت -أي: تكلمت معه شيئاً ثم استأذنته لأنصرف- إلى بيتي، قولها: (فانقلبت) -أي: أرجع إلى بيتي- فقام ليقلبني -أي: فقام ليوصلني إلى بيتي- وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر النبي برجلين من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما -أي: على مهلكما، لماذا تجريان؟ - إنها صفية بنت حيي.
قالا: سبحان الله! يا رسول الله -يعني: هل سنشك فيك أنت؟ - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال: شيئاً)].
أي: خشيت أن يتسلط عليكما الشيطان فيحدثكما بسوء أو شر، فتعتقدان أني آتي هذا الخنا فتكفران بذلك، فانظر إلى رأفة النبي عليه الصلاة والسلام وشفقته ورحمته بأصحابه، أنه عليه الصلاة والسلام قدم المعذرة بين أيديهم: تعالوا؛ لماذا تجرون؟ هذه صفية بنت حيي امرأتي التي تعرفونها وتعرفون أنها امرأتي، قالوا: يا رسول الله! هل نحن سنشك فيك؟! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فهو معكم وهو يراكم ولكنكم لا ترونه، وربما سول لكم شيئاً فتقعون في إساءة الظن بنبيكم؛ فتكفرون بذلك، فأنا أريد ألا تقعوا في شيء من ذلك، رحمةً منه ورأفة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6].
[وعن أنس قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم مع امرأة من نسائه إذ مر رجل فقال: يا فلان! هذه زوجتي فلانة)].
فالأصل في مثل هذا الأمر حسن الظن، فتخيل أني لم أقل لك: مهلاً هذه امرأتي معي في السيارة؟ أو لو أن امرأة محترمة جالسة معي في السيارة وأنت رأيتها معي؛ فالأصل حسن الظن، كما أن الأصل حسن الظن بإخوانك من طلبة العلم، فقد أرى طالب علم ومعه امرأة متبرجة وسافرة، فالأصل هنا حسن الظن، لكن ربما يكون في ذلك شيء من العتاب في أسلوب رقيق لطيف مهذب مؤدب إلى أقصى حد، وهذا الذي حدث لي ذات مرة عند النقابة في مدينة مصر وأنا قادم من أجل درس شرعي، فرأيت رجلاً وامرأة والرجل يشير إلى السيارات بجنون فتوقفت له، فإذا بامرأته مغمى عليها، فماذا يكون موقفي؟ ولو أنت مكاني ماذا تفعل؟ هل تحمله أم لا تحمله؟
الجواب
تحمله، ولو كانت هي متبرجة، وهكذا حملتها بسيارتي وزوجها، وقلت له: إننا نذهب إلى المستشفى، فلما نزلت المرأة وزوجها هنا أمام المسجد حملها زوجها ورفعها على صدره، وصعد بها إلى أعلى وأنا صعدت خلفه، وحجزت لهما التذكرة، ودخلت معهما عند الدكتور، وأوصيت الدكتور بهما خيراً، وكان من حسن هذه المعاملة أن التزم الرجل والمرأة بالصلاة واللباس الشرعي كلاهما، وأنا لا أريد أن أحرجه؛ لأنه الآن صار صديقاً لي، وامرأته صارت صديقة لأهل بيتي.(53/11)
دعوة الناس إلى دين الله تعالى بالحكمة
وبعض الإخوة انزعج جداً وقال: كيف تحترم المتبرجات؟ قلت: نعم أحترمها؛ إن الكافر مع أنه لا قدوة فيه لكنه لو كان على سرعة مائة وخمسين كيلو متر ورأى شخصاً قاطعاً الطريق لوقف له، فنحن أولى بهذا الخلق، فهذا خلق كريم ينبغي أن نتخلق به، فكم من إنسان كان عاصياً وبكلمة واحدة تاب ورجع، وكم من كافر آمن بكلمة، فحسن الخلق يجد طريقه إلى القلوب، وهذا هو خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أخلاق النبوة.
وقد ثبت في الأثر: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أريد أن أسلم لكن على أن تأذن لي في الزنا -وأظن لو أن هذا السؤال كان مطروحاً عليك لقمت بضربه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أترضاه لأمك؟ لابنتك؟ لزوجك؟ لعمتك؟ لخالتك؟ وفي كل سؤال يقول الرجل: لا، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام صدره من جهة قلبه وقال: اللهم طهر قلبه)، فقام الرجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم معترفاً أن أبغض شيء إليه هو الزنا، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهره لما انتفع الرجل بهذا الموقف الإيماني الرائع؟ إن النبي عليه الصلاة والسلام له مع أصحاب المعاصي مواقف رائعة، وأما مواقفه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهؤلاء الصحابة الأجلاء الكبار من أئمة الدين فهي مواقف أخرى، وعندما نأتي الآن لنسرد أخلاقيات النبي صلى الله عليه وسلم مع العصاة والزناة والسُّراق، والذين كانوا يسبونه ويشتمونه لعلمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن ينتقم من أحدهم كأهل مكة لما فتحها، فـ أبو سفيان قال له: (يا رسول الله! أبيدت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم، فكف عنهم النبي عليه الصلاة والسلام)، فلو كان صلى الله عليه وسلم من أهل الانتقام كما ننتقم نحن فلن يقوم لهذا الدين قائمة، فاتقوا الله عز وجل في العصاة.
ولا بد أن تعلموا أننا على معاص، فهم معصيتهم ظاهرة ونحن معاصينا مستورة، والله تعالى سترها عن الخلق لحسن مظهرنا، أو لحبنا لله ورسوله مع وجود المعاصي فينا.
ولو قرأت يا أخي المسلم! في حياة السلف كما هو في كتاب (سير أعلام النبلاء) في ترجمة أدنى رجل من أهل العبادة والعلم والعمل وقست نفسك عليه لوجدت نفسك ضائعاً أمام أعمالهم؛ لأن السلف بلغوا المجد في كل باب من أبواب العلم والعمل، والزهد فنحن بجوار السلف لا شيء، وليس لنا من السلف إلا حب السلف، وأما العمل فبيننا وبينهم بون شاسع، فهناك أناس أدنى منك وأقرانك في العلم والعمل والعبادة، وأعلى منك، والناس درجات، فقد جعل الله تعالى هؤلاء أهل معصية؛ حتى تؤجر أنت فيهم، وحتى تدعوهم إلى الله عز وجل، وحتى يستمر باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كان كل الناس مؤمنين موحدين فكيف يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! قال: [(بينما النبي صلى الله عليه وسلم مع امرأة من نسائه إذ مر رجل فقال: يا فلان! هذه زوجتي فلانة، فقال: يا رسول الله! من كنت أظن به فإني لم أكن أظن بك! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)].(53/12)
بيان أن لكل إنسان قريناً من الجن
قال: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا وكل به قرينه من الجن)، فأنت معك قرينان أحدهما يأمرك بالخير والثاني يأمرك بالشر، أما الذي يأمرك بالشر فهو قرين الجن، والذي يأمرك بالخير فهو قرين الملائكة، (قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فليس يأمرني إلا بخير).
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وله قرينه من الجن، قال: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أني آمره فيطيعني).
وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وله شيطان، قال: ولك يا رسول الله؟! قال: ولي؛ إلا أن الله أعانني عليه فأسلم)] وله شاهد عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها.(53/13)
أقوال الصحابة والتابعين في أن لكل إنسان قريناً وتحذيرهم من وسوسته
قال: [وعن ابن عمر قال: كيف تنجو من الشيطان وهو يجري منك مجرى الدم؟!] والاستفهام هنا إما للتعجب، أو للنفي، فاجتهد قدر الإمكان أن تنجو.
[وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: أرأيتم لو أن رجلاً رأى صيداً فجاءه من حيث لا يراه الطير يوشك أن يأخذه؟ قالوا: بلى].
وذلك لأنه ينقض عليه في حين غفلة منه، وهذا أمكن في السيطرة.
[فقال مطرف: فكذا الشيطان يراك ولا تراه]، فهو يتحين منك لحظة غفلة ينقض عليك ويوقعك في المعصية.
وعن عبد الله بن عبيد بن عمير: (أن إبليس قال: أي رب! أخرجتني من الجنة من أجل آدم، وأني لا أستطيعه إلا بسلطان)] أي: أنا لا أستطيع أن أتسلط عليه إلا أن تمكنني من ذلك، فهذا إبليس يعلم أن كل شيء من عند الله تعالى.
[قال: (قال: فإنك مسلط عليه -أي: على آدم- قال: أي رب! زدني؟ قال: لا يولد له ولد إلا لك مثله)] فالشياطين يتناسلون خلافاً للملائكة.
قال: [(قال: أي رب! زدني؟ قال: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]، قال آدم: أي رب! إنك سلطته علي ولا أمتنع منه إلا بك) أي: لا أستطيع العصمة منه ومن حبائله ووسوسته إلا بك.
[(قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من يد السوء - أي: من إبليس والشيطان - قال: أي رب! زدني؟ قال: حسنة عشراً وأزيد، والسيئة واحدة)] يعني: إذا وقعت في السيئة كتبتها واحدة، وإذا فعلت الحسنة كتبتها حسنة إلى عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء.
[(قال: أي رب! زدني؟ قال: باب التوبة مفتوح ما دام الروح في الجسد، قال: أي رب! زدني؟ قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]) وعن عمر بن عبد العزيز قال: لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس]، إذاً: لما خلق إبليس أراد أن يعصى، أي: أذن في وجود المعصية وفي خلقها، وأرادها إرادة كونية قدرية لا إرادة شرعية دينية.
قال: [فقد فصل لكم وبين لكم: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162]-أي: بمضلين- إلا من قدر عليه أن يصلى الجحيم].
[وعن مجاهد: في قول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف:27] أي: الشيطان والجن يراكم هو وقبيله وأبناؤه وولده من حيث لا ترونهم].
قال الشيخ ابن بطة: [فهذه الأحاديث كلها موافقة لما نطق به التنزيل من تسليط الله إبليس وجنوده على بني آدم، وما قد ذكرناه في أول هذا الكتاب].(53/14)
الأسئلة(53/15)
توفيق الله سبحانه لنبيه دون غيره في أن قرينه أسلم
السؤال
كيف نعمل نحن مع ضعفنا في مجاهدة الشيطان لكي يسلم؟
الجواب
إياك أن تتعشم أن الشيطان سيسلم، فهذا للنبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان شيء من ذلك كائناً لآحاد الأمة لكان الصحابة أولى بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الصحابة -بل أشراف الصحابة- فيقول لهم: (غير أن الله أعانني عليه فأسلم)، أما أن يسلم شيطان أحدنا فهذا أمر لا يعلمه أحد إنما يعلمه الله عز وجل.
فما عليك إلا أن تجاهد مكائد الشيطان، فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً.(53/16)
حكم صيام يوم عاشوراء ويوم بعده
السؤال
شخص لم يصم يوم التاسع من محرم فماذا يفعل: هل يصوم العاشر والحادي عشر، أم كيف يخالف اليهود؟
الجواب
في الحقيقة صيام الحادي عشر مع العاشر لمن فاته التاسع دليله ضعيف بل ضعيف جداً، وإنما يكفيك أن تصوم يوم العاشر فحسب، لكن إذا صمت يوم الحادي عشر على أنه يوم الإثنين فإنك تصومه بنية أنه من الأيام المسنونة، وليس ملحقاً بعاشوراء.(53/17)
الجمع بين قولنا: إنه لا راد لما قضى الله وقدره، وبين الحديث: (لا يرد البلاء إلا الدعاء)
السؤال
ما وجه الجمع بين ما قلت وبين ما نعلم من أن الدعاء يرد البلاء، وأن الدعاء والقدر يعتلجان في السماء، وكيف أدعو الله عز وجل أن يصرف عني بلاءً وأنا أعلم أنه لو قدره الله تعالى علي فلن يصرفه عني؛ فلم الدعاء إذاً؟
الجواب
هذا كلام جميل، ونفس سؤالك هذا قد سأله الصحابة رضي الله عنهم، فأقول: هل تعلم أنت بنزول البلاء أم لا؟ وهل تعلم أن الله كتب عليك البلاء أم لا؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر كان يعلم من ربه أنه منصور؛ بدليل أنه قال: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وظل يعدد مصارع صناديد الشرك والكفر، ومع هذا رفع يديه عليه الصلاة والسلام في ليلة الجمعة إلى الله عز وجل، وظل يدعو ربه طوال الليل، ويستغيث الله عز وجل أن ينصره مع أن الله ناصره، وهو يعلم ذلك، فكان ينبغي أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا منصور، وينام طوال الليل حتى يستعد للحرب بعد الفجر، كان له ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب ومن أعظمها الدعاء.
قال الحافظ ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (الداء والدواء): الدعاء والبلاء يعتلجان في السماء، البلاء نازل والدعاء صاعد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يرد البلاء إلا الدعاء) هذا حديث صحيح.
ومعنى ذلك: أن الله تعالى قدر لي البلاء، ومع تقديره البلاء في اللوح المحفوظ قدر أنه لن يصل إلي، أو سيصل إلي، أو يعتلج مع الدعاء إلى قيام الساعة، فالحديث: (لا يرد البلاء إلا الدعاء) والدعاء هذا لقوته وقوة حرارة الإيمان فيه رد عنك البلاء، فلم يخف على الله تعالى لما كتب عليك البلاء أنك ستدعوه بإخلاص ويقين، فيرفع هذا الإخلاص وهذا اليقين البلاء، إذاً: فهو قدر البلاء وقدر لهذا البلاء أن يصعد مرة أخرى، لكنك أنت لا تعلم ذلك، ولا تدري أن الله قدر لك البلاء أم لا.
فلو أنك خرجت من هذا المسجد وصدمتك سيارة، فدقت السيارة ذراعك فانكسرت؛ فهذا بلاء، وهو مقدر في السماء، ومع ذلك يحتاج إلى الدعاء؛ فإنه ربما يبرز هذا الدعاء بحرارة إيمان ويقين جداً، فيتقبله الله فيصرف عنك هذا البلاء، فإذا صرفه عنك فاعلم أنه مكتوب في اللوح المحفوظ أن من القدر نزول البلاء، ومن القدر كذلك رفع البلاء بسبب الدعاء، هذا مكتوب وذاك مكتوب.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (صلة الرحم تزيد في العمر) مع أن الله تعالى يقول: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
فأنت مكتوب لك أنك تعيش خمسين سنة مثلاً على التمام والكمال بغير زيادة ولا نقصان، لكن هل تعرف أن هذا مكتوب لك؟ لا، ولو كنت تعرفه لاستمررت في العصيان طوال عمرك، وعندما يصل عمرك إلى (49) سنة تتوب من ذلك؛ لأنك تعرف أن الموت لم يبق له إلا سنة واحدة، وتعرف أن معادك الساعة كذا في الدقيقة الفلانية، وقد تقعد على القبر لتستعد للموت، لكن من حكمة الله تعالى أنه أخفى عليك يومك حتى تجتهد طول عمرك؛ لأن الموت ينزل بك وبساحتك في أي وقت وأنت شاب أو شيخ أو كهل أو رجل أو امرأة، صغيراً كنت أو كبيراً، الموت يأتي بغتة، فإذا كان هذا اعتقادك اجتهدت في الطاعة، واجتهدت في العبادة والدعاء الذي هو رأس العبادات، وبهذا الدعاء يرفع الله عنك البلاء.
فالله تعالى قدر لك في اللوح المحفوظ أنك ستعيش (50) سنة، وهذا اللوح المحفوظ لا يقبل المحو ولا الإثبات: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فالمحو والإثبات إنما هو في الصحف التي في أيدي الملائكة، فالله تعالى يقول للملائكة الذين يكتبون، أو لملك الأرحام الذي يكتب عمرك: اكتب إذا كان واصلاً لرحمه فسيعيش ستين سنة، وإذا كان غير ذلك فسيعيش خمسين سنة، والله تعالى علم أنك لن تكون واصلاً؛ فكتبك في اللوح المحفوظ -الذي لم يُطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً- أنك ستكون قاطعاً للرحم، وأن عمرك ينتهي عند الخمسين، ولكنه أمر الملائكة: اكتبوا إذا كان واصلاً فسيعيش ستين سنة، وإذا كان غير واصل فسيعيش خمسين سنة، فهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (صلة الرم تزيد في العمر) أي: هي سبب في زيادة العمر المعلوم في علم الله الأزلي، والله تعالى علم منك قبل أن يخلق السموات والأرض أنك ستكون واصلاً أو قاطعاً، وهذا من العلم الذي أخفاه الله عن جميع الخلق حتى الملائكة والأنبياء، فالملك الذي كتب عمرك لا يدري متى تموت بالضبط على الكمال والتمام؛ لأن الله تعالى قال له: اكتب: إن هذا سيموت وعمره (50) أو (60) سنة حسب عمله الصالح أو الطالح، فالملك لا يعلم عين التوقيت الذي تقبض فيه روحك، لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، فهذا معنى أن الأعمال الخيرية تزيد في العمر.
وربما يكون المعنى: أنها تزيد في العمر بركة، فشخص عاش (60) سنة، لكنه لم يعمل خيراً قط، وشخص عاش (30) سنة أو (4(53/18)
شرح كتاب الإبانة - بيان أن كل مولود يُولد على الفطرة، وذراري المشركين
لقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مولود يولد على الفطرة، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالفطرة، وانعقد الإجماع على أن من مات من أبناء الموحدين قبل البلوغ فهو في الجنة، ووقع الخلاف في أبناء الكفار الذين ماتوا قبل بلوغهم الحلم على مذاهب عدة تجدها مبسوطة في هذه المادة.(54/1)
باب الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة وذراري المشركين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: الباب الثالث من أبواب القدر: باب الإيمان بأن كل مولود يولد على الفطرة، وذراري المشركين.
أي: والكلام عن أطفال المشركين.(54/2)
شرح حديث (كل مولود يولد على الفطرة)
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تناتج الإبل من كل بهيمة جمعاء، هل تحس من جدعاء؟)].
ومعنى الحديث: أن البقرة تلد بقرة مثلها، والبعير يلد بعيراً مثله، فإذا ولدت الناقة ولداً فهل تشعر بأدنى فرق بين هذا المولود وبين أمه؟ لا، إنما هو بضعة منها قد اجتمعت أعضاؤه كلها، والناظر إلى ولد الناقة يقول: هذا ولد الناقة، والناظر إلى مولود الآدمي يقول: هذا آدمي، ولا يمكن أبداً أن تلد ناقة إنساناً، أو تلد امرأة ناقة.
ولذلك كل مولود ينتج مثيله وشكيله، (جمعاء) أي: قد جمع جميع الأعضاء، وقوله: (هل تحس من جدعاء؟) الجدع: قطع الأنف، أو قطع الأذن، أو قطع اليد، أي: قطع الأطراف عموماً، فإذا ولدت الناقة فولدها مثلها في الشبه والأعضاء.
قال: [(كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، أو يشركانه)]، أي: يجعلانه مشركاً، كالبهيمة التي تلد بهيمة مثلها قد جمعت جميع الأعضاء، (هل تحس فيها من جدعاء؟) أي: هل فيها نقص؟ ليس فيها نقص، بل كلها مثل أمها.(54/3)
مذاهب العلماء في أبناء المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ
[(قالوا يا رسول الله: أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)].
قولهم: (أرأيت من يموت وهو صغير؟) هذا يتعلق بأبناء المشركين والكفار؛ لأن الإجماع قد انعقد -مع وفرة النصوص من الكتاب والسنة- على أن من مات قبل البلوغ، وقبل أن يجري عليه القلم، وقبل أن يبلغ الحلم من أبناء الموحدين والمسلمين فهو في الجنة، لا خلاف في ذلك، وإنما وقع الخلاف في أبناء الكفار لو أنهم ماتوا قبل البلوغ أين هم؟ على أربعة مذاهب.
المذهب الأول: أنهم في الجنة.
المذهب الثاني: أنهم تبع لآبائهم، أي: أنهم في النار.
المذهب الثالث: التوقف، أي: عدم القطع لهم بجنة ولا نار.
المذهب الرابع: أنهم يؤتون يوم القيامة فيعقد لهم اختبار، فإن أطاعوا الله تعالى أدخلهم الجنة، وإن عصوا الله تعالى أدخلهم النار.
وهذا الاختبار عبارة عن قول الله تعالى لهم: ادخلوا النار، فإن أطاعوه ودخلوا النار كانت برداً وسلاماً عليهم، وهذا يدل على أنهم لو كانوا عاشوا حتى بلغوا لكانوا من الطائعين لله عز وجل، فالذي يطيعه تعالى في هذا الموطن حري به أن يكون مطيعاً له في الدنيا لو أنه عاش، ولو أن الله تعالى أمره أن يدخل النار فأبى وعصى كان حرياً به ألا يطيعه في الدنيا لو أنه عاش بعد البلوغ.
فهذه المذاهب الأربعة فيما يتعلق بذراري المشركين أو بأبناء الكفار أيها أرجح؟ سنتعرض لهذا بإذن الله تعالى.(54/4)
حجة من يقول بأن أبناء الكفار كفار
قال: [وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه -أي: يجعلانه مجوسياً- والبهيمة تنتج البهيمة)، أي: والبهيمة تلد البهيمة، ومعنى هذا القول: أن المؤمن يلد مؤمناً، والكافر يلد كافراً، وهذا هو الذي حدا ببعض أهل العلم إلى أن يقول: إن أبناء الكفار كفار، والبهيمة تنتج البهيمة.
[ثم قال: (هل تكون فيها جدعاء؟)] أي: هل فيها نقص؟ هل فيها عوج؟ هل فيها التواء؟ هل فيها انحراف عن أصل فطرتها؟
الجواب
لا، إذاً: أبناء الكفار كفار، وهذه حجة من يقول: إن أبناء الكفار كفار.
قال: [وعن الأسود بن سريع التميمي السعدي -نزل البصرة ومات في أيام الجمل- قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية -أي: بعث النبي سرية للجهاد فجاهدوا وقاتلوا حتى قتلوا أبناء المشركين الذين كانوا يقاتلونهم- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما حملكم على قتل الذرية؟ -أي: ما الذي دعاكم إلى قتل الأطفال؟ - قالوا: يا رسول الله أوليسوا أولاد المشركين؟ قال: أوليس خياركم أولاد المشركين؟ -أي: إن خياركم الآن هم أبناء المشركين، ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيباً فقال: ألا كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه)]، أي: حتى يصبح باختياره مؤمناً أو كافراً، وهذا لا يكون إلا بعد البلوغ.(54/5)
معنى الفطرة في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) عند ابن بطة رحمه الله
قال الشيخ ابن بطة: [وما أكثر من عشيت بصيرته عن فهم هذا الحديث -أي: أصابه العشى- فتاه قلبه، وتحير عقله، فضل وأضل به خلقاً كثيراً، وذلك أنه يتأول الخبر على ما يحتمله عقله من ظاهره، فيظن أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كل مولود يولد على الفطرة): أراد بذلك أن كل مولود يولد مسلماً مؤمناً].
وهذا الذي نفهمه جميعاً من الحديث، بل لو سألت شخصاً فقلت له: ما المقصود بالفطرة في قول النبي الكريم: (كل مولود يولد على الفطرة؟) فالكل سيقولون: الإسلام، لكن انظر إلى كلام الشيخ ابن بطة عليه رحمة الله، يقول: ما أكثر من عشيت بصيرته عن فهم هذا الحديث، فتاه قلبه وتحير عقله فضل وأضل.
وهذا زجر شديد جداً، فهو ينعى على من فهم أن الفطرة هي الإسلام، فيقول: هذا كلام غير صحيح.
قال: [وإنما أبواه يهودانه وينصرانه، فمن قال ذلك أو توهمه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل وعلى رسوله، ورد القرآن والسنة، وخالف ما عليه المؤمنون من الأمة].
إذاً: نحن بذلك ضائعين؛ لأننا نفهم أن الفطرة هي الإسلام.
قال: [وزعم أن اليهود والنصارى يضلون من هداه الله عز وجل من أولادهم، ويشقون من أسعده الله، ويجعلون من أهل النار من خلقه الله للجنة، ويزعمون أن مشيئة اليهود والنصارى والمجوس في أولادهم كانت أغلب، وإرادتهم أظهر وأقدر من مشيئة الله وإرادته وقدرته في أولادهم، حتى كان ما أرادته اليهود والنصارى والمجوس، ولم يكن ما أراده الله، تعالى عما تقوله القدرية المفترية على الله علواً كبيراً].
إذاً: هو بذلك جعلنا قدرية!(54/6)
تفسير الفطرة في هذا الحديث بما جاء في كتاب الله والأحاديث الأخرى من أخذ الميثاق في ابتداء الخلق
قال: [فأما هذا الحديث فإن بيان وجهه في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند العلماء والعقلاء بيان لا يختل على من وهب الله له فهمه، وفتح أبصار قلبه؛ وذلك قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]].
يريد أن يقول: إن الفطرة في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هي المذكورة آية الميثاق: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا))، فهو فسر الفطرة بالميثاق الذي ابتدأه الله تعالى فاطر السماوات والأرض، أي: مبتدئ السماوات والأرض، فقال: الفطرة هي الابتداء، أي: ابتدأه الله تعالى.
ففسر الفطرة بالابتداء، والابتداء هو الخلق، ولما خلقهم الله تعالى على هيئة الذر في ظهور آبائهم أخرجهم من ظهور آبائهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق أنه ربهم، ولا رب لهم إلا هو سبحانه وتعالى، وهو المستحق للإلهية؛ لأن الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت يستحق أن يعبد دون سواه، فلما أخذ الله تعالى عليهم العهد بذلك: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
قال: [ثم جاءت الأحاديث بتفسير ذلك أن الله عز وجل أخذهم من صلب آدم كهيئة الذر، فأخذ عليهم العهد والميثاق بأنه ربهم، فأقروا له بذلك أجمعون، ثم ردهم في صلب آدم، ثم قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]-أي: التي ابتدأ خلق الناس عليها- فكانت البداية التي ابتدأ الله عز وجل الخلق بها، ودعاهم إليها؛ وذلك أن بداية خلقهم الإقرار له بأنه ربهم، وهي الفطرة].
إذاً: فسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) بأنه الإقرار الأول الذي أخذه الله تعالى من ذرية آدم لما أخرجهم من صلب أبيهم آدم، قال: [والفطرة هاهنا ابتداء الخلق]، أي: أنه فسر الفطرة بابتداء الخلق وليس بالإسلام.
قال: [ولم يعن بالفطرة الإسلام وشرائعه وسننه وفرائضه، ألا تراه يقول: ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))، ومما يزيدك في بيان ذلك ووضوحه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] يعني: أنه بدأ خلقها، أي: بدأ خلق السماوات والأرض، فالفطرة بمعنى: الخلق والبداية، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: على تلك البداية التي ابتدأ الله عز وجل خلقه بها، وأخذ مواثيقهم عليها من الإقرار له بالربوبية، ثم يعرب عنه لسانه بما يلقنه أبواه من الشرائع والأديان؛ فيعرب بها وينسب إليها، ثم هو من بعد إعراب لسانه واعتقاده لدين آبائه؛ راجع إلى علم الله تعالى في العلم الأزلي الذي كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومن سبق له في أم الكتاب عنده أنه كان ممن سبقت له الرحمة؛ لم تضره أبوته].
فانظر إلى الحجج العقلية، فهو يقول: إذا كان الله تعالى علم أن هذا مرحوماً فلن تضره أبوة أبويه وإن كانا كافرين، ولو سبق في علم الله لعبده أنه معذب فلن تنفعه أبوة أبويه وإن كانا من أتقى أهل الأرض، وهذا كلام جميل.
قال: [ولا ما دعاه إليه وعلمه أبواه من دين اليهودية والنصرانية والمجوسية، فما أكثر من ولدته اليهود والنصارى والمجوس ونشأ فيهم ومعهم وعلى أديانهم وأقوالهم وأفعالهم، ثم راجع بدايته وما سبق له من الله ومن عنايته بهدايته، فحسن إسلامه، وظهر إيمانه، وشرح الله صدره بالإسلام، وطهر قلبه بالإيمان، فعاد بعد الذي كان عليه من طاعته لأبويه عاصياً، ومحبته لهما بغضاً، وسلمه لهما وذبه لهما حرباً، وعليهما عذاباً صباً، ولو كان الأمر على ما تأولته الزائغون أن كل مولود يولد على الفطرة -أي: على دين الإسلام وشرائعه- لكان من سبيل المولود من اليهود والنصارى إذا مات أبواه وهو طفل ألا يرثهما].
وهذه حجة عقلية، فهو يريد أن يقول: لو كانت الفطرة هنا بمعنى الإسلام؛ فإن كل أبناء المشركين إذا ماتوا تجرى عليهم أحكام الإسلام: من الغسل، والتكفين، والصلاة عليهم، والدفن في مقابر المسلمين، ويرث أباه، وأبوه يرث منه، وهذا الكلام معقول، والأوضح منه أمر المنافقين؛ إذ إن الله قد قطع بكفرهم؛ لأنهم كفار في الحقيقة، فقد أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ولكونهم أظهروا الإسلام جرت عليهم أحكام الإسلام في الدنيا، وهم عند الله كفار، وكذلك أطفال المشركين ما المانع أن يكونوا في حقيقة أمرهم مسلمين، وتجرى عليهم في الدنيا أحكام الكفار تبعاً لآبائهم؟ والنبي عليه الصلاة والسلام صلى على زعيم المنافقين وهو على يقين من ربه أنه منافق، وأنه كافر، ومع هذا(54/7)
رد المؤلف على مذهب القائلين بأن الفطرة هي الإسلام
قال: [ولو كان الأمر على ما تأولته الزائغون أن كل مولود يولد على الفطرة -أي: دين الإسلام وشرائعه- لكان من سبيل المولود من اليهود والنصارى إذا مات أبواه وهو طفل ألا يرثهما، وكذلك إن ماتا لم يرثاه؛ لما عليه الأمة مجمعون أنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، وقد كان من سبيل الطفل من أولاد أهل الكتاب إذا مات في صغره أن يتولاه المسلمون، ويصلوا عليه، ولا يدفن إلا معهم وفي مقابرهم].
أي: أنه يريد أن يقول لك: لو كان النبي والصحابة يفهمون أن الفطرة هي الإسلام لأخذوا أولاد المشركين بعد موتهم وصلوا عليهم، وأجروا عليهم أحكام الإسلام، لكن لما لم يفعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه الكرام دل على أن الفطرة ليست هي الإسلام، وإنما هي ابتداء الخلق، وأخذ الميثاق على العباد.
قال: [فإن كان الحكم في معنى هذا الحديث كما تأولته القدرية -وليس هو كذلك والحمد لله- فقد ضلت الأمة، وخالفت الكتاب والسنة حين خلت بين اليهود والنصارى وبين الأطفال من المسلمين].
أي: لو كان الأمر كذلك -أن الفطرة هي الإسلام- فقد أجمعت الأمة على الضلال؛ لأنها مكنت اليهود والنصارى والمجوس والمشركين من دفن أبنائهم، وفي حقيقة الأمر هم منا، لكن هذا محال، فالأمة لا يمكن أبداً أن تجتمع على ضلال.
قال: [يأخذون مواريثهم ويلون غسلهم والصلاة عليهم والدفن لهم، لكن المسلمين مجمعون، وعلى إجماعهم مصيبون: أن من مات من أطفال اليهود والنصارى والمجوس ورثه أبواه وورث هو أبويه، ووليا غسله ودفنه، وأن أطفالهم منهم ومعهم وعلى أديانهم -أي: في الدنيا-، وإنما قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) إنما أراد أنهم يولدون على تلك البداية التي كانت في صلب آدم عليه السلام من الإقرار لله بالمعرفة، ثم أعربت عنهم ألسنتهم ونسبوا إلى آبائهم، فمنهم من جحد بعد إقراره الأول من الزنادقة الذين لا يعترفون بالله ولا يقرون به، وغيرهم ممن لم يبلغه الإسلام في أقطار الأرض الذين لا يدينون ديناً، وسائر الملل، فهم يقرون بتلك الفطرة التي كانت في البداية، فإنك لست تلقى أحداً من أهل الملل -وإن كان كافراً- إلا وهو مقر بأن الله ربه وخالقه ورازقه، وهو في ذلك كافر حين خالف شريعة الإسلام].
ونخلص من ذلك كله إلى أن ابن بطة عليه رحمة الله فسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) أي: على أصل الخلق الذي خلقه الله تعالى عليه؛ حين أخذ العهد والميثاق عليه لما أخرجه كالذر من صلبه أبيه آدم، ففسر الفطرة بالابتداء، وأن الله تعالى أخرج الذرية من ظهور آبائهم، وأخذ عليهم الميثاق: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))، فهم يقرون بربوبية الله عز وجل، ثم تجد بعد ذلك من يجحد ويكفر ومن يؤمن.
ثم يستدل على صحة هذا التفسير [بما رواه الحجاج بن منهال عن حماد بن سلمة قال: هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى))].
إذاً: ابن بطة لم يأت بكلام من عنده، وإنما له سلف في هذه المسألة، وسلفه فيها هو حماد بن سلمة، ومثل قول حماد قال قتيبة رحمه الله تعالى.(54/8)
بيأن أن الأدلة الشرعية لا يقع فيها التضاد والتناقض حقيقة
قال: [وأدل من ذلك ما جاء من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم التي أجمع أهل العلم بها على صحتها لا يقع فيها التتضاد].
أي: لا يمكن أن يحصل فيها تضارب؛ لأنها من مشكاة واحدة وهي مشكاة الوحي، قال: [وأقواله وكلامه صلى الله عليه وسلم لا تتناقض ولا تتناسخ، وربما صحت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم بالاختلاف والتناسخ، فكان ذلك في التحليل والتحريم، والتخفيف والتشديد].
هو يريد أن يقول: إن كلام الله عز وجل، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام منه ما هو خبر، ومنه ما هو إنشاء، والإنشاء بابه طويل وعظيم جداً، ومتفرع منه الحلال والحرام، والتخفيف والتشديد، ومنه المنسوخ وغير المنسوخ، والنسخ يلحق الإنشاء ولا يلحق الخبر، فغير الأخبار معرضة للنسخ، والنسخ إنما يكون في زمن النبوة، أي: أنه لا نسخ بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الطريق الدال على النسخ.
قال: [فكان ذلك في التحليل -أي: مسألة النسخ- والتحريم، والتخفيف والتشديد للأمر يحدث، والسبب يعرض، والعذر يحضر، فأما الأخبار الواردة التي تجري مجرى الخبر عن الله عز وجل والإعلام عنه؛ فمعاذ الله أن تتضاد هذه الأخبار، أو تتناقض هذه الأقوال].
أي: هل يمكن أن يأتي النسخ فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، فبعد أن كان رحيماً نسخت رحمة الله عز وجل؟ لا يمكن؛ لأن الله تعالى أخبر عن نفسه بأنه رحيم، وأنه رحمان، وأنه غفور، وأنه ودود، فلا يمكن لهذه الأخبار أن يلحقها النسخ، لكن الإنشاء مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، فهذا أمر، والأمر نوع من أنواع الإنشاء، إذاً: فالإنشاء بجميع فروعه ومسائله يمكن أن يلحقه النسخ، وأما الأخبار فليست قابلة للنسخ، وبالتالي الإنشاء لا يلحقه تصديق ولا تكذيب، لكن يلحقه نسخ، والأخبار يلحقها التصديق ويلحقها التكذيب، فيقال: هذا خبر صادق، وهذا خبر كاذب.
ولذلك قال: [اعلم رحمك الله أن أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم التي أجمع أهل العلم بها على صحتها لا يقع فيها التضاد، وكذلك أقواله وكلامه لا تتناقض ولا تتناسخ، وربما صحت الأخبار عنه عليه الصلاة والسلام بالاختلاف والتناسخ، لكن ذلك في التحليل والتحريم -وهو الإنشاء- والتخفيف والتشديد للأمر يحدث، والسبب يعرض، وللعذر يحضر.
فأما الأخبار الواردة التي تجري مجرى الخبر عن الله عز وجل والإعلام عنه؛ فمعاذ الله أن تتضاد هذه الأخبار، أو تتناقض هذه الأقوال، وإنما أتى من أتى فيها وافتتن من افتتن بها من اشتباه لفظها -هل هي خبر أم إنشاء؟ -، وضيق الأعطان، وسوء الأفهام، وضعف طبيعته عن معرفتها، وإلا فكيف يجوز لمتأول أن يتأول أن كل مولود على الفطرة، وأريد بذلك أن كل مولود على دين الإسلام وشريعة الإيمان؟!].
يريد أن يقول: إن هذا كلام في منتهى السفه والغفلة؛ أي: من فسر ذلك بأن كل مولود يولد على فطرة الإسلام.
قال: [وأريد بذلك أن كل مولود على دين الإسلام وشريعة الإيمان، وصريح قول النبي عليه الصلاة والسلام وفصيح إعرابه الذي لا يحتمل التأويل، ولا يتولد فيه التعطيل؛ أتى بغير ما تأولته أصحاب هذه المقالة].
يريد أن يقول: إن الكلام الصحيح لتفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) هو بخلاف ما ذهب إليه من قال: إن الفطرة هي الإسلام.
قال: [ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (الوائدة والموءودة في النار)، والوائدة: هي القاتلة لابنتها، والموءودة هي الصبية الطفلة التي قتلها أبواها، فلو كانت الموءودة مسلمة].
أرأيتم من أين أتت الشبهة؟ فهو يقول لك: الوائدة والموءودة كلاهما في النار، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، والوائدة هذه بالغة ومشركة وكافرة فتستحق النار، فإن لم يكن للوأد فلكفرها أو العكس، والأصل أن الموءودة وئدت، أي: دفنت في التراب حية حتى ماتت، فلو كانت مسلمة فكيف تدخل النار؟ والنبي هنا قد قضى لها بالنار! قال: [فلو كانت الموءودة مسلمة لما كانت في النار، وبالأحرى أن تكون في الجنة لا محالة على ما تتأوله القدرية؛ لأنها طفلة مسلمة ومقتولة مظلومة، وبقوله أيضاً حين سئل عن أطفال المشركين، فقال: (مع آبائهم في النار)].
فالنبي عليه الصلاة والسلام سئل مرة عن أطفال المشركين فقال: (هم في الجنة)، وسئل مرة أخرى عن أطفال المشركين فقال: (مع آبائهم في النار)، وسئل مرة ثالثة عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
فهذه أخبار، ونحن قد اتفقنا على أن الخبر لا يلحقه النسخ، فلماذا اختلفت أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم؟ سيأتي معنا الجواب.
قال: [ثم سئل عنهم ثانية، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، أن السؤال الثاني خرج مخرج الاستفهام: لم صاروا في النار؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين].(54/9)
تفسير الفطرة في حديث: (كل مولود يولد عل الفطرة) بالإسلام مذهب القدرية عند ابن بطة رحمه الله
لقد اعتبر الإمام ابن بطة أن من فسر الفطرة بالإسلام فهو قدري، أي: من القدرية؛ لأن الفطرة بمعنى: ابتداء الخلق وأخذ الميثاق، ومن قال: إن الفطرة هي الإسلام فقد حاد الله تعالى، وحاد الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الحديث يقول: (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه).
إذاً: الذي يكون في يده التهويد هو الأب إذا كان يهودياً، وينصره إذا كان نصرانياً، ويمجسه إذا كان مجوسياً بغير إرادة الله وقدرته.
ولذلك قال: [الذي يقول بأن الفطرة هي الإسلام يقول: إن مشيئة الأبوين أغلب من مشيئة الله]، أي: أراد الله له الإسلام وأراد الوالدان له اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو الشرك، وكأنه -أي: من يقول: إن الفطرة هي الإسلام- يقدم قدرة الوالدين على قدرة الله، ويغلب إرادة الوالدين على إرادة الله؛ لأن الله أراد له الإسلام وخلقه على الإسلام، لكن مشيئة الأبوين كانت أغلب من مشيئة الله، بدليل: أنهما هوداه أو نصراه أو مجساه أو شركاه، هذا فهم ابن بطة لهذه القضية.(54/10)
تفسير الفطرة بغير الإسلام في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هو مذهب لبعض علماء السنة
وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى من القول بأن أولاد المشركين في النار، وتفسير معنى الفطرة فيما تقدم بغير معنى الإسلام، وأن تفسير الفطرة بالإسلام غير صحيح؛ هو مذهب لبعض علماء السنة.
واعلم أننا لا نعرف من قال بقول ابن بطة غير قتيبة، وحماد بن سلمة، وأبي يعلى، هؤلاء الأربعة فقط، فأين علماء الأمة على مدار هذه القرون كلها من هذه القضية؟ فعلماء الأمة هم آلاف مؤلفة على مدار القرون، فهل يمكن أن يصار إلى رأي هؤلاء الأربعة وتترك اجتهادات علماء الأمة على مدار هذه القرون؟ لا.(54/11)
الفطرة ليست بمعنى الإسلام عند أبي يعلى الحنبلي
قال أبو يعلى الحنبلي: ليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين: الأول: أن معنى الفطرة: ابتداء الخلق، كما قال الله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1]، ولم يقل أحد مطلقاً: إن فاطر السماوات والأرض بمعنى: جاعل السماوات والأرض مسلمة، بل إن (فاطر) بمعنى: مبتدئ وخالق، وإذا كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة، وجرت في فطرة المعقول، وهو استخراجهم ذرية؛ لأن تلك حالة ابتدائهم، ولأنها لو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين ألا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلاً؛ لأنه مسلم، كما أنه لا يجوز للمسلمين أن يفرطوا في هؤلاء الأطفال، ولا يمكنوا آباءهم من الصلاة عليهم على مذاهبهم الكافرة، ولا دفنهم في مدافن الكفار، ولا أن يمكنوهم من الميراث.
كذلك اختلاف الدين يمنع الإرث، ولوجب ألا يصح استرقاقه -وهذه شبهة عقلية جديدة- فإذا حارب المسلمون المشركين، فسبوا ذراريهم فمن حق أهل الإسلام أن يسترقوهم.
فهو يريد القول: إذا كانت الذرية -أي: أبناء المشركين مسلمين- وقامت الحرب بين المسلمين والكافرين، وسبى المسلمون هؤلاء الذراري فلم يسترقوهم مع أنهم مسلمون؟ فالأصل أن المسلم لا يقع تحت الرق إلا إذا كان أسيراً لدى الكفار، أما الذي يقع تحت الرق عند المسلمين فهم الكفار كذلك، وأما من أسلم فإسلامه هو ثمن حريته، فإذا كان الأطفال وذراري المشركين مسلمين أصلاً؛ فكيف استرقهم المسلمون في القرون الخيرية؟ فالواجب ألا يصح استرقاقه، ولا يحكم بإسلامه بإسلام أبيه؛ لأنه مسلم.(54/12)
اختلاف حكم الدنيا عن الآخرة بالنسبة لذراري الكفار
أي: عندما يأتي الآن كافر فإننا نقول: إن ابنه هذا تبع له في أحكام الدنيا، فلو أسلم الرجل الكافر فلا شك أن أبناءه يأخذون حكمه، فمثلاً: عندما يأتي نصراني ويقول: أريد أن أسلم، فنسأله: ألديك أولاد؟ فيجيب: نعم، فنقول: كم أعمارهم؟ قال: ولد عمره سنة، وولد عمره ثلاث سنين، وولد عمره خمس سنين، فنقول له: تعال وأشهر إسلامك، فأول ما يشهر إسلامه يأخذ أبناؤه حكم الأب، وبالتالي فالحكم عندنا يختلف، فهل اختلف موقف هؤلاء الأولاد عند الله؟ لا، إذاً: فمحل النزاع والخلاف في الآخرة، ولذلك الخلاف في أن أبناء المشركين مسلمون أو غير مسلمين من أحكام الدنيا، والخلاف فيها نادر جداً، وإنما الخلاف القوي بين علماء السنة: هل هؤلاء الأطفال في الجنة أم في النار؟ وهذا الخلاف من أحكام الآخرة، والأمة مجمعة على أن الأولاد تبع لآبائهم في الأحكام، يعني: أن الرجل هذا نصراني، إذاً هؤلاء الأولاد نصارى، فهذا فيما يتعلق بأحكام الدنيا، أما الآخرة فلا، إذ إن لها وضع آخر، وهنا يأتي الخلاف ويحتد ويقوى جداً، أما في الدنيا فلا، فهذا الولد إذا مات فالذي يكفنه ويغسله ويصلى عليه ويرثه هو أبوه؛ لأن هذه أحكام الدنيا، فالدنيا لها أحكام والآخرة لها أحكام أخرى.
وهذا كما أخبر الله عز وجل نبيه بأعيان المنافقين وأسمائهم، ومع هذا كان إذا مات واحد منهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، ولذلك لما جاء إليه مشرك وقال له: (يا محمد! أريد أن أقاتل معك، قال: أمسلم أنت؟ قال: لا، قال: ارجع فلن نستعين بمشرك)؛ لأن أحكامه ظاهرة، فهو يقول: أنا مشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يمكن أن نستعين بمشرك، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأذن للمنافقين معلومي النفاق بالاشتراك في القتال؛ لأنهم أظهروا الإسلام، مع أنه لم يخف على النبي عليه الصلاة والسلام أنهم كفار، وأن مردهم إلى قعر جهنم، ولذلك فالمنافقون تحكمهم في الدنيا أحكام، وفي الآخرة لهم أحكام أخرى، وكذلك العكس، يعني: أن أبناء المشركين والكفار تحكمهم في الدنيا أحكام، وهي أحكام الكفر تبعاً لآبائهم، وأما في الآخرة فهم في الجنة بإذن الله تعالى، أو على ما سنذكر من الخلاف بإذن الله.
ومن أحكام هؤلاء: أن الرجل النصراني إذا أسر في الحرب واسترق كان ابنه تبعاً له في الحكم، يعني: يصير رقيقاً هو كذلك، ولو كان مسلماً لما جاز استرقاقه.
هذه حجة ابن بطة ومن معه هذا مذهب هؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى، ولكن كثيراً من الأئمة رجح خلاف ما ذهبوا إليه في تفسير معنى الفطرة، وعندما قرأتم كلام أبي يعلى أو كلام قتيبة أو كلام ابن بطة قلتم: والله هؤلاء عندهم حق، وهذا كلام جميل جداً ومعقول، ولا يمكن رده، وأنا أقول: بل لابد من رده، فهو المذهب الضعيف في المسألة، وهذه الحقيقة يا إخواني! حلاوة الفقه، أو حلاوة مسائل الخلاف، ولذلك العلماء كانوا يقولون: لا يحل لأحد أن يفتي الناس إلا إذا علم مسائل الخلاف.
فأنت عندما تقرأ في: فقه السنة مسألة من المسائل تجد مثلاً الشيخ سيداً رحمه الله رجح مذهباً واحداً، وأحب أن يخرج من الخلاف ويضع الشباب على الرأي الراجح، لكن هذا الرأي الراجح هو راجح عنده، فلو قرأنا كلام ابن بطة فقط فسيترجح لدينا، ونقول: نحن فعلاً كنا على الضلال والانحراف والزيغ كل هذه السنين! وأنا عندما قرأت من قبل كلام الإمام النووي في شرح مسلم، وكلام الحافظ ابن حجر في الفتح فيما يتعلق بهذه المسألة كان كالكلام المسلّم، وبعد ذلك عندما قرأت كلام ابن بطة -وكان هذا منذ أكثر من عشر سنوات- قلت: كيف هذا؟ أنا أفهم أن الفطرة هي الإسلام، أهذه الأوصاف كلها في؟! أي: الضلال والزيغ والانحراف، والناس الذين قلت لهم: إن الفطرة هي الإسلام كيف أصحح لهم هذا الخطأ؟ فلابد في المسائل الخلافية من النظر في جميع الأقوال، وتتبع أدلتها والترجيح بينها، والخروج بالقول الراجح، ولا يكتفى بمعرفة قول واحد فقط دون معرفة بقية الأقوال.(54/13)
تفسير الفطرة بالإسلام في حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) هو مذهب جماهير علماء الأمة
وقول ابن بطة الذي تابع فيه حماد بن سلمة وقتيبة وأبا يعلى، خالفهم فيه جماهير علماء الأمة ففسروا الفطرة بالإسلام -وهذا المذهب الذي شنع عليه ابن بطة - كما نقل ذلك عنهم ابن عبد البر في كتاب التمهيد، والقرطبي في التفسير، وممن ثبت عنهم من السلف تفسير الفطرة بالإسلام: أبو هريرة، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، والزهري، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، والإمام البخاري، والإمام أحمد وإليه ذهب كل من شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية له رسالة مخصوصة بعنوان: الفطرة، وابن القيم نصر هذا المذهب جداً في كتاب له اسمه: شفاء العليل.
وفسر آخرون من الأئمة الفطرة بغير هذين التفسيرين، لكنها أقوال ضعيفة جداً أو منكرة أو مردودة فنعرض عنها.
ومن الجدير بالذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية نصر مذهب القائلين: بأن المراد بالفطرة الإسلام، ورد على المخالفين -وسماهم مخالفين، مع أن ابن بطة يسمينا: مخالفين- وأورد أدلة صحيحة صريحة في الدلالة على أن المراد بالفطرة الإسلام، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى، وقد استوفى كل واحد منهما، الكلام على مسألة الفطرة، ورجحا أن المراد بالفطرة فطرة الإسلام لا غير.(54/14)
بيان ابن القيم أنه لا يلزم من تفسير الفطرة بالإسلام القول بالقدر
وقد بين ابن القيم رحمه الله بأنه لا يلزم من القول بأن المراد بالفطرة الإسلام موافقة مذهب القدرية.
أي: لا يلزم منه عندما أقول: إن الفطرة هي الإسلام، وإن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ أنني قدري، ومعنى أني قدري: أني قدمت إرادة الأبوين على إرادة الله، وقدرة الأبوين على قدرة الله، ومشيئة الأبوين على مشيئة الله، بدليل أن الله أراد له الإسلام وجعله مسلماً، لكن أبويه هوداه ونصراه ومجساه.
قال: ولا يلزم من القول بأن المراد بالفطرة الإسلام موافقة مذهب القدرية التي تستدل بحديث الفطرة على مذهبها الباطل.
وابن القيم بدأ يتكلم عن أصحاب المذهب الأول؛ حيث يزعمون أن كل إنسان مفطور على الإسلام، وأنه تعالى لا يقضي ولا يقدر المعاصي على العباد، وهذا كلام القدرية، وأن العباد هم الذين يحدثون الكفر والمعاصي من قبلهم دون إرادة الله السابقة وعلمه الأزلي عز وجل، وأن الأبوين هما اللذان يضلان أولادهما دون مشيئة من الله وإرادته السابقة سبحانه، فالله لا يضل ولا يسعد أحداً من خلقه في زعمهم.
وقد رد السلف على هذا المذهب الباطل، فبينوا أن أحاديث الفطرة لا تدل على مذهبهم، بل إنها دليل عليهم، وهي أقوى حجة، فعندما يعتمد المخالف نصاً ويعتبره دليلاً وحجة له؛ فأقوى حجة للرد عليه: أن تكون من نفس النص.
وبالتالي نريد أن نعرف رد السلف على المذهب الذي ذهب إليه أبو يعلى وابن بطة من نفس الدليل الذي احتجوا به، فماذا قالوا؟ قال الإمام مالك وغيره من أهل السنة لما بلغهم: إن القدرية يحتجون على مذهبهم بأول الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، قالوا: احتجوا عليهم بآخر الحديث؛ لأنه لا يمكن أن يأتي الخبر متناقضاً في أوله وآخره، إذ إن الأخبار كلها وحي من مشكاة واحدة، ولذلك كان ابن خزيمة رحمه الله يقول: الوحي كله من مشكاة واحدة، ومادام أنه من مشكاة واحدة فلا يمكن أن يلحقه التعارض ولا التضارب؛ لأنه كلام الله عز وجل، ومن وقع عنده الإشكال فإنما وقع الإشكال في فهمه وذهنه وعقله، قال: ومن كان عنده نصان مختلفان ظاهراً فليأت إلي أؤلف له بينهما، فالتعارض قد يكون ظاهراً، لكنه لا يمكن أبداً أن يلحق الوحي: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وإن وجد الاختلاف ففي ذهن العبد، والنص في حقيقته وتأويله عند أهل العلم ليس فيه اختلاف، ولذلك ألف بعض أهل العلم مصنفات جمعت بين ما ظاهره التعارض والتضارب.
فهذا كلام الإمام أحمد بن حنبل في الرد على الزنادقة والملحدة، وهذا ابن قتيبة له كتاب في تأويل مختلف الحديث، وكذلك الإمام الشافعي له كتاب في تأويل مختلف الحديث، وكذلك الإمام الطحاوي له مشكل الآثار، فيأتي لك في الباب الواحد بدليل، ثم بدليل آخر يتعارض مع الدليل الأول في قضية واحدة، ويقول: ها هو الاختلاف ظاهر أمامك، وفي الحقيقة ليس هناك اختلاف، وإنما تأويل النصين على النحو الفلاني، ويأتي بأدلة من القرآن والسنة للدلالة على أن هذا الباب لا تعارض فيه ولا تضارب، بل وجه الحق فيه كيت وكيت وكيت.
فكذلك هنا جماهير السلف ردوا على من قالوا: بأن الفطرة هي فطرة الخلق وابتداء الخلق، وقالوا: الفطرة هي الإسلام، وإذا كان أصحاب المذهب الأول القائلين بأن الفطرة هي ابتداء الخلق قد احتجوا بأول الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفسروا الفطرة بقول الله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] أي: مبتدئ خلقهما، فنحتج عليهم بآخر الحديث، وآخر الحديث يقول: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ففيه إثبات العلم الأزلي لله عز وجل، لكن القدرية يقولون: إن الأمر أنف -أي: مستأنف- وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، أي: أن الله تعالى لا يعلم ماذا سنصنع بعد خروجنا من هذا المجلس! كذلك أنا لا أعلم ماذا أتكلم بعد كلمتي هذه، وهم يقولون: وكذلك الله لا يعلمها إلا بعد أن أقولها.
فسووا الله تعالى بخلقه، وكأنهم قالوا: ليس الله بعالم ولا عليم، مع أن الله تعالى أثبت لنفسه العلم الأزلي، فهو علام الغيوب، وهذه غيوب هو يعلمها وليست شواهد، وعلم المشاهدة مع علم الغيب عند الله سواء، ((عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) أي: الذي غاب والذي هو مشاهد في علم الله سواء، فالله يعلم هذا كما يعلم هذا.
إذاً الذي يقول: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها ينفي العلم الأزلي عن الله عز وجل، وكلام ابن بطة: أن من فسر الفطرة بالإسلام ضال مضل ومنحرف عن منهج السلف وكلام السلف؛ كلام مردود؛ لأن الله تعالى خلق الخلق جميعاً على فطرة الإسلام حتى أخذ منهم الإقرار بذلك، ثم منهم بعد ذلك من اختار الكفر على الإسلام، وكان ذلك في سابق علم الله عز وجل(54/15)
تفسير الإمام أحمد للفطرة في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة)
أما الإمام أحمد بن حنبل فيقول: أنتم تقولون: هؤلاء القوم إذا احتجوا بأول النص فنحتج عليهم بآخرة، لا والله! وإنما نحتج عليهم كذلك بأول النص، وهذه الحجة أقوى.
والإمام أحمد بن حنبل كان أكثر إنارة في قلبه وبصيرته، فيقول: لا، بل بنفس الكلام والنص الذي تحتجون به أنا سأرد عليهم به.
ففسر رحمه الله تعالى قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) أي: على السعادة والشقاوة السابقتين في علم الله تعالى في الأزل، ويكون إقراره بين يدي الله لما أخرجه من صلب أبيه آدم حجة عليه في الربوبية، ولذلك نجد أن المشركين الأولين كلهم كانوا مقرين بالربوبية، أي: بالخلق والابتلاء والرزق وغير ذلك، مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان، فهم بذلك يعرفون هذه القضية.
ولذلك كانت المهمة العظمى والأولى في إرسال الرسل هي توحيد الإلهية، لأن الشرك وقع في الإلهية لا في الربوبية، بينما الأمة الآن وقعت في الشرك في الربوبية، ووصلت لمرحلة من الجاهلية لم يكن عليها أهل الجاهلية الأولى، فيقول أحدهم اليوم: يا فلان ارزقني! وأبو جهل لم يقل ذلك، وفلان هذا سيقطع رزقي، إذاً لابد أن أسمع كلامه! صحيح أن الخمر حرام، لكن مادام أن مديري في العمل قال لي: اشرب الخمر، إذاً لابد أن أشرب الخمر.
أو يقول: زميل لي أو مديري أو رئيسي نصراني، لكن عنده عرس فأحببت أن أجامله وأذهب إلى عرسه، فوضع الخنزير وأحرجت وأكلت منه، ووضعوا الخمر وأحرجت فشربت منها، يا أخي! لو أنك شربت السم في بدنك لكان خيراً لك، فقد جعلت الله تعالى أهون الناظرين إليك! قال الإمام أحمد: الفطرة هنا هي ما علمه الله تعالى أزلاً من عبده هذا من السعادة أو الشقاء، أي: أن الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون من السعادة والشقاوة، ففطر بعضهم على السعادة، وفطر بعضهم على الشقاوة، وليس هذا ظلماً للعباد؛ بدليل أن الله تعالى أرسل إليهم الرسل، وجعل لمن لم تبلغه الرسالة حكماً خاصاً.
كما جعل للمجانين والسفهاء ومن لم تبلغهم الدعوة، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، لكن كان من الممكن أن يقول الله عز وجل: إنما أكتفي بالسعادة والشقاوة بالميثاق الأول، ولو فعل لكان عادلاً في ذلك، ولكن الله تعالى علم أزلاً أن جميع العباد ينسون هذا الميثاق، فأرسل الأنبياء والمرسلين؛ يذكرون العباد والخلق بما أخذ عليهم في صلب أبيهم آدم.
إذاً: فمهمة الأنبياء هي تذكير العباد بهذا الميثاق الغليظ الذي أخذه الله تعالى على عباده وهم في صلب أبيهم آدم.
ففسر الإمام أحمد الفطرة بالسعادة والشقاوة السابقتين في علم الله تعالى في الأزل، المكتوبتين عنده في أم الكتاب قبل أن يخلق الجنين، وبعد أن خلق في بطن أمه؛ لأن القدرية تنكر الفطرة بهذا المعنى مع ثبوتها بأدلة من الكتاب والسنة، فأراد الإمام أحمد أن يرد عليهم بتفسير الفطرة بهذا المعنى مع تفسير الفطرة أيضاً بمعنى الإسلام، ولا منافاة بين التفسيرين كما بينه ابن القيم عليه رحمة الله تعالى.(54/16)
توضيح ابن القيم لسبب اختلاف العلماء في تفسير الفطرة في الحديث والرد على القدرية
وقد وضح مذهب الإمام أحمد في تفسير الفطرة بهذين المعنيين ابن القيم في كتابه شفاء العليل نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك.
وخلاصة ذلك قال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث: أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله.
أي: أن الكفر والمعاصي إنما أحدثها وأنشأها العباد، ولا علاقة لإرادة الله وقدرته بذلك، وإنما هذا بقدرة العباد وإرادتهم ومشيئتهم، بل بما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك.
فالإمام أحمد بن حنبل يريد أن يقول لك: لما قالت القدرية: بأن الكفر والمعاصي لا دخل لله تعالى فيهما، وأنهما بإحداث العبد لهما بغير إرادة الله تعالى ومشيئته؛ لأن الله تعالى لا يريد ولا يشاء الكفر ولا المعاصي، فمن أين جاء هذا اللبس؟
الجواب
من عدم التفرقة بين المشيئة الشرعية الدينية والمشيئة الكونية القدرية، إذ إنهم قالوا: الله تعالى ما أراد الكفر، ولكن الكفر وقع في الأرض، وما أراد الشرك وما أراد المعاصي، لكن في الحقيقة والواقع أن ذلك واقع في الخلق وفي الكون.
فالله تعالى أراد من العباد إيماناً وإسلاماً وتوحيداً، لكن العباد أرادوا كفراً وشركاً ومعصية، فكانت إرادة الكفار والعصاة أقوى وأغلب من إرادة ومشيئة الله، فمن هنا أتى الضلال.
وضبط هذه المسألة: أن الله تعالى أراد الخير والشر، وخلق الخير والشر، وأذن في وجود الخير والشر، لكن يفرق بين إرادة ومشيئة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا؛ كالإيمان والطاعة، فقد أمر الله بها في كتابه، وأراد الكفر والشرك والمعاصي إرادة كونية قدرية -أي: أذن الله تعالى في وجود الكفر والمعاصي- لأنه لا يكون في كون الله إلا ما أراد وقدر وشاء، لكن هذه الإرادة ليست مبنية على الطاعة والمحبة والرضا، وإنما مبنية على البغض والسخط واللعن.
ولذلك توعد الله الكافرين مع أنه هو الذي أذن في خلق وإيجاد الكفر، وعلم الله تعالى أزلاً من عبده قبل أن يخلقه أنه سيختار طريق الكفر والمعصية والشرك، مع أنه جعله عاقلاً يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الطاعة والمعصية، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، فقامت الحجة على العبد ليس بالميثاق الأول، وإنما بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعلوهم محلاً للتكليف، فلما اختار العبد طريق المعصية علم الله ذلك منه قبل أن يخلقه.
إذاً: العبد هنا مخير، وعلم الله تعالى أن عبده سيختار طريق الكفر قبل أن يخلقه فكتبه عليه، ومعنى: كتبه وقدره عليه: أن الله تعالى علم بعلمه الأزلي أن هذا العبد سيختار طريق الكفر، والآن في واقع الناس وحياة الناس عندما نأتي بطريقين: أحدهما: مليء بالشوك، والآخر: ممهد معبد، وقلنا لاثنين: هذان الطريقان سيؤديان إلى مكان فيه ألف جنيه، وقلنا لهما: نقطة الانطلاق من هاهنا والطريق يتفرع إلى طريقين، ثم يلتقيان عند نقطة معينة عندها مكافأة وجائزة، ونقول لهما: كل واحد منكما يسلك الطريق المناسب للحصول على الألف الجنيه، فهل في هذين الاثنين من سيسلك طريق الأشواك؟ لا يمكن أبداً؛ لأنه يريد أن يحصل على الجائزة والمكافأة، ولا يمكن له البلوغ أولاً إلا إذا سلك طريقاً معبداً، فهذا الطريق المعبد هو طريق الأنبياء والمرسلين، والذي يعصي الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه يعصيه، وهؤلاء المكذبون الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي، واليهود الذين كذبوه في المدينة وغيرهم ممن كان يقاتله ويحاربه كانوا يعلمون أنه نبي من عند الله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، فكانوا يجحدون نبوة نبيهم مع أنهم يوقنون أنه نبي مرسل.
فالذي يزني يعلم أنه يعصي الله عز وجل، ويعلم أن الشرع قد نهى عن هذه المعصية، ويعلم أن النهي محله الزجر، وربما بلغ الزجر إلى دخول النار والعياذ بالله.
وبالتالي فهو بهذا العلم قد قامت عليه الحجة، ومع هذا فقد اختار طريق المعصية التي ناسبت هواه ورأيه، وعلم الله ذلك كله منه قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولما علم أنه سيختار طريق المعصية كتب في اللوح المحفوظ أن عبدي فلاناً عرضت عليه الطاعة وعرضت عليه المعصية فاختار طريق المعصية، إذاً: هو في هذه الحالة مختار.
قال: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث: أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل بما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام.(54/17)
الرد على من يفتي الناس بما يوافق أهواءهم
ووالله يا إخواني! لا يصح إلا الصحيح، ولا يبقى في الأرض إلا الحق، فهذا داعية مشهور جداً، ويستمع له الآلاف، ولا أريد أن أقول: الملايين كيلا يقال عني: أبالغ، ونقول له: لماذا يا فلان! تفتي الناس -الذين يحضرون لك- بأن المرأة بالاسترتش أو بالشرت صلاتها صحيحة؟! بل المرأة التي فيها خير قد تذهب إلى إحدى الصالات فتجد النساء عرايا كما ولدتهن أمهاتهن، وتخيلوا أنها تقول لهن: اتقوا الله! البسوا المايوه! فأمثل امرأة فيهن الطاعة عندها تساوي لبس المايوه.
وبعد ذلك يقول لهم: إن مصافحة الرجال للنساء حلال، وليس فيها أي شيء! وكلام طويل، وفتاوى سيئة للغاية، فسألناه فقلنا له: ألست قلت هذا الكلام وهو مسجل؟ قال: نعم، قلنا: هذا الشيء حرام أم حلال؟ قال: حرام، قلنا: سبحان الله! حرام علينا حلال لهؤلاء الناس! يعني: أنت تشدد علينا الآن وتتساهل مع هؤلاء الناس، فلماذا قلت لهؤلاء الناس: إنه حلال؟ قال: من أجل أن أحببهم في الإسلام، ولو كانت هذه حجة محترمة لكان أولى الناس بها النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن الله تعالى عاتبه لما قرب صناديد الشرك والكفر وأبعد بعض أصحابه، إذ إن هؤلاء هم الذين سيأخذون دعوتك وينشرونها في الأرض، وأما هؤلاء فلا خير فيهم.
وأنت الآن عندما تقول لهذه للمرأة: الصلاة بالاسترتش صحيحة وليس فيها أي مشكلة، وأنا في مسجد العزيز أذكر خلاف العلماء في جواز أن تكشف المرأة باطن القدم في الصلاة، فعلى هذا الفهم يكون هذا إرهاب، أليس كذلك؟ فهناك شخص يجيز لها الصلاة عريانة، وأنا هنا أقول لها: لماذا ظهرت أصابع رجليك من تحت؟! فصلاتك باطلة، ولابد أن تعيدي الصلاة! لأن العلماء اختلفوا على مذهبين اثنين لا ثالث لهما: جواز أن تصلي المرأة بغير جورب، ووجوب أن تصلي المرأة بالجورب، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يظهر من المرأة في صلاتها إلا الوجه والكفان.
وأنت تأتي الآن وتجردها من ثيابها وتقول لها: صلي بهذا الشكل! فإذا كانت هناك أخت من أخواتنا مسكينة ومبتدئة وسمعت كلامي في مسجد العزيز، وسمعت هذا يقول: صل بالاسترتش ولا حرج عليك، وما سئل عن شيء إلا وقال: افعل ولا بأس، افعل ولا حرج! إذاً: ماذا أعمل؟ وما هو موقفي عندما تتصل بي وتقول لي: يا متشدد! يا إرهابي! من ضيقت علينا وجعلتنا نكره ربنا، فماذا أقول لها؟!(54/18)
خطر أن يتقدم لدعوة الناس من كانت فيه صفتان
إذاً من الخطورة بمكان أن يقدم إنسان فيه صفتان: الصفة الأولى: أن يقدم للناس الدين على حسب أهوائهم وآرائهم، وعلى حسب ما يحلو لهم، وما يتوقع أنهم يقبلونه به، فالله تعالى يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فهذا حق الله الذي نزل من السماء، تقبله أو العاقبة عليك.
ثانياً: أن يتقدم للناس إنسان جاهل لا يعلم مسائل الحلال والحرام، ويريد أن يعظ الناس، وقد يتأثر الناس به، ونحن نحب ذلك، وبالفعل هؤلاء قد وصلوا إلى فئات من الناس لا يمكن أن يأتوا إلى مسجد العزيز، والعجيب أن التي تأتي منهن إلى مسجد العزيز فهؤلاء الأخوات في مسجد النساء يمسكنها فينشرن عظمها، ويجعلنها تخرج كارهة نفسها وكارهة الإسلام والمسلمين؛ لأن كثيراً من الأخوات المنتقبات لا حكمة عندهن في الدعوة إلى الله عز وجل.
فأول ما تدخل امرأة لابسة استرتش تجد النظرات الحادة موجهة إليها، وكان الأولى الرفق، ثم ألم تكوني بالأمس لابسة استرتش؟! والأخوات اهتمين بك حتى أصبحت أختاً لابسة للنقاب ومتشددة ومتزمتة مثلي! لكن هي نسيت أنها كانت بالأمس هكذا: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، فتمسكها وتنشر عظمها! وتقول لها: ما هذا الذي أتيت به؟ ما هذه الجرأة؟ وتصلين بعد ذلك؟! والله العظيم تتصل بي نساء يقلن: لا يمكن أن ندخل مسجد العزيز؛ لأنه حصل من الأخوات أنهن قلن: كيت وكيت وكيت! فرفقاً بهؤلاء.
فتقول أحداهن: لكن يا شيخ! الصلاة بالبنطلون صحيحة أم غير صحيحة؟ نقول لها: ليست صحيحة، فتقول: كيف ذلك؟ إن فلاناً يقول: إنها صحيحة! فماذا أقول لها؟ فلان هذا جاهل، أنا لا أريد أن أسقطه في نظرها؛ لأنه صار رمزاً شئنا أم أبينا، لكن قدم للناس على أن هذا هو الإسلام، وهنا تكمن الخطورة، فنصحنا هذا الرجل بأنه لا داعي لأن يفتي الناس، وإنما عليه بالوعظ والكلام الرقيق وكلام القلوب والتأثير في الناس، ويأخذ معه فقيهاً، وكنت أظن أنه سيأخذ أحد مشايخنا المحترمين، لكن واضح أنه كان يلعب هذه اللعبة على منهجه، فقد أخذ فقيهاً لا يحرم شيئاً، إذاً فما الفائدة؟! كنت ستوفر وتفتي الناس أنت، والقضية كلها قضية مائعة، وعندما تذهب وتجلس مع هؤلاء الناس عقلك سيضل ويشك أهذا دين ربنا؟ أهؤلاء الناس مسلمون، أم أننا نحن الذين زدناها قليلاً؟! والله شيء غريب جداً، وأنا قد جلست في مجلس من هذه المجالس حتى إنني أشفقت على نفسي لا على هؤلاء الناس؛ لأنهم ما سألوني عن شيء إلا وقلت: حرام، وما أخبروني عن أحد في هذه المسائل إلا وقال: حلال، فقلت: لا أدري أأشفق على نفسي أم أشفق على هؤلاء الناس؟! ثم هؤلاء الناس أين سيذهبون؟! إذاً فهؤلاء فيم ينفعون في الكلام في القلوب والرقائق ومن هذا القبيل، وأما حلال وحرام فمادام أننا مختلفون فاجعلوها فيما بعد؛ حتى تتهيأ قلوب هؤلاء الناس لتحمل الإسلام.
ومن كان فيهم صادقاً كتب له الثبات على الدين والحق، وكان ينتج نتاجاً طيباً جداً، ونسأل الله تعالى أن يهدي الجميع.(54/19)
تنبيه ابن القيم وغيره من أهل العلم على عدم إجراء أحكام الإسلام في الدنيا على ذراري المشركين
كما نبه ابن القيم وغيره من أهل العلم كـ البيهقي في كتاب الاعتقاد على عدم إجراء أحكام الإسلام في الدنيا على ذراري المشركين -وقد ذكرت لك الفرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة- وإنما يعاملون معاملة الكفار في الدنيا تبعاً لآبائهم حسب الظاهر؛ إذ كان هذا موضع اتفاق بين علماء الأمة، حيث ثبت ذلك في عهده، وتواتر من فعله عليه الصلاة والسلام.
أي: لم نسمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول في مرة من المرات: ائتوني بابن المشرك الذي لم يبلغ بعد حتى أصلي عليه، وأدفنه في مقابر المسلمين.
فكان هذا هو حكم أطفال المشركين في الدنيا، وبيان معنى كلمة الفطرة في الحديث، وأما حكمهم في الآخرة فإن العلماء قد اختلفوا في ذلك أيضاً على عدة مذاهب حسب اختلاف الأدلة في المسألة، وأقوى المذاهب دليلاً مذهبان: الأول: أنهم من أهل الجنة، والمذهب الثاني: مذهب الاختبار، وأما مذهب من يقول: إنهم في النار؛ فهذا كاد أن يكون مذهباً باطلاً، ومذهب التوقف مذهب ضعيف.
إذاً: أقوى المذهبين في المسألة: أنهم في الجنة، والمذهب الثاني: مذهب جماهير علماء السلف، وهو مذهب الابتلاء أو الاختبار، فيؤتى به يوم القيامة فيختبر.
وقد أوردوا نصاً فيه: أن الاختبار عبارة عن قول الله تعالى له: ادخل النار، فإن دخل كانت برداً وسلاماً عليه، وكانت إشارة وعلامة على أنه كان من الطائعين لو أنه عاش، ولو أنه عصى لكان من العصاة لو أنه عاش.
والكلام في هذه المسألة طويل جداً، وبإمكانك أن تراجع في ذلك كتب التفاسير، وكتاب التهذيب لـ ابن القيم الجوزية، وكذلك كتاب شفاء العليل، ورسالة الفطرة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي رسالة جامعة احتوت على كلام سهل ميسور بعيد عن التعقيد، وكذلك فتح الباري، ومجموعة الرسائل الكبرى لـ ابن تيمية، وأضواء البيان للشيخ الشنقيطي، وغير ذلك من كتب أهل العلم.(54/20)
سؤال الصحابة للنبي عن أطفال المشركين وأين هم بعد موتهم
قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوائدة والموءودة في النار)، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن ذراري الكفار قال: (مع آبائهم)، فقالت له عائشة: (يا رسول الله! بلا عمل؟ -أي: يدخلون النار بلا عمل؟ - قال: الله أعلم بما كانوا عاملين)].
وعن عائشة: (أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين، فقال: هم يتعاوون في النار) -أي: يبكون ويصيحون-، وفي رواية البراء: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أطفال المشركين، فقال: هم مع آبائهم، فقيل: إنهم لم يعملوا، قال: الله أعلم) -أي: بما كانوا عاملين-، وقالت خديجة: (يا رسول الله! أين أولادي منك؟ قال: في الجنة، قالت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، قالت: فأولادي من المشركين؟ قال: في النار، قالت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين).
وعن ابن عباس قال: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذراري المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)].(54/21)
الهداية والإضلال من الله تعالى
قال الشيخ ابن بطة: [فجميع الذي ذكرناه من القرآن، ورويناه من السنة والآثار، وما لم نذكره ولم نروه يدل العقلاء المؤمنين الذين سبقت لهم من الله العناية والهداية أن الأشياء كلها بقضاء الله وقدره ومشيئته سابق ذكرها في علم الله تعالى، وأنه لا مضل لمن هداه الله عز وجل، ولا هادي لمن أضله، ولا مانع لمن أعطاه، ولا معطي لمن منعه، وكذلك خطبه صلى الله عليه وسلم وكلامه، وخطب الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، وكذلك في كلامهم ومحاورتهم، وكل ذلك دليل على أن القدرة والمشيئة والإرادة هي قدرة الله تعالى ومشيئته وإرادته].
[فعن عبد الله بن مسعود قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له -والشاهد هنا-، ومن يضلل فلا هادي له) إلى آخر الحديث.
وعن البراء قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وكان رجلاً كثير الشعر صلى الله عليه وسلم، وهو يرتجز رجز عبد الله بن رواحة يقول: لاهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا)].(54/22)
كل شيء بقضاء وقدر
قال: [وعن أيوب السختياني قال: أدركت الناس وما كلامهم: إلا وإن قضى وإن قدر].
أي: أن كل كلامهم: وإن قضى الله تعالى شيئاً كان، وإن قدر الله شيئاً كان.
[وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال المسيح عيسى بن مريم عليه السلام: ليس كما أريد، ولكن كما تريد].
أي: كان يقول لله: ليس الأمر كما أريد، ولكن الأمر كما تريد أنت.
قال: [وليس كما أشاء، ولكن كما تشاء.
وقال ابن مسعود: كل ما هو آت قريب، ألا إن البعيد ما ليس بآت، لا يعجل الله لعجلة أحد، ولا يخف لأمر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الله أمراً ويريد الناس أمراً، ما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مقرب لما باعد الله، ولا مبعد لما قرب الله، ولا يكون شيء إلا بإذن الله، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وعن زيد بن أسلم قال: اشتد غضب الله على من يقول: من يحول بيني وبينه؟ قال الله عز وجل: أنا أحول بينك وبينه].
أي: بينك وبين مرادك.
[وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر رضي الله عنه يوم أصيب وعليه ثوب أصفر، فخر وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]].
أي: يعلم أن هذا الذي حدث له سابق في علم الله، وأنه بقدر.
[وعن الحسن قال: لما رمي طلحة بن عبيد الله يوم الجمل؛ جعل يمسح الدم عن صدره وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38].
وعن أنس بن مالك قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما أرسلني في حاجة قط فلم تتهيأ إلا قال: لو قضى كان، أو قدر كان)].
أي: يبعث أنساً كي يأتي له بشيء، فيأتي أنس فيقول له: يا رسول الله! هذا الشيء لم يجهز، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قضى الله كان)، أي: لو أراد الله ذلك لكان، ولو قدره لكان.
[وعن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخاصموه في القدر، فنزلت هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49]].
فـ (شيء) نكرة في السياق الإثبات فتفيد العموم، و (كل) من ألفاظ العموم.
وهذا يدل على أن كل ما هو مخلوق قد خلقه الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره ولا رب سواه، حتى العجز والكسل، بل وكل شيء.(54/23)
طلب العون والهداية من الله في كل حال
قال: [وكان النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس يقول في دعائه: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، ولا تنصر علي من بغى علي، اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطيعاً، لك مجيباً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي -أي: اغفر ذنبي-، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وثبت حجتي -أي: قوي حجتي-، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي -أي: أزل حقد قلبي-)].
قال الشيخ: [فهذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهل بقي لمن يزعم أن المشيئة والاستطاعة بيديه حجة يحتج بها إلا البهتان والجحد للتنزيل، وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بالشقاء والخذلان اللذين كتبهما الله عليه؟! ونحمد الله على ما وفقنا له من معرفة الحق، وهدانا إليه].(54/24)
حديث ابن عباس: (يا غلام إني أعلمك كلمات)
قال: [وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام ألا أعلمك شيئاً لعل الله عز وجل أن ينفعك به؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله عز وجل، وإذا استعنت فاستعن بالله عز وجل، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك عند الشدة، وجف القلم بما هو كائن، فلو أن الناس اجتمعوا جميعاً على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك -أي: قد كتبه الله في أم الكتاب قبل أن يخلق الخلق-، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، واعلم أن لكل شيء شدة ورخاء، وأن مع العسر يسراً، وأن مع العسر يسراً)].(54/25)
عاقبة من ضل في مشيئة الله
قال: [وعن حماد بن زيد: أن رجلاً بايع رجلاً على أن يعبر نهراً -كأن تتحدى آخر بأن يعبر النهر وله مكافأة أو جائزة- فسبح حتى قارب الشط، قال: قد بلغت والله، فقال له رجل: قل: إن شاء الله، قال: إن شاء وإن لم يشأ، قال: فغاص ولم يخرج].
وهذا جزاؤه.
أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(54/26)
الأسئلة(54/27)
أحسن كتاب في الفقه للمبتدئ
السؤال
ما هو أحسن كتاب للمبتدئ في الفقه؟
الجواب
أحن كتاب للمبتدئ بلا شك هو كتاب فقه السنة.(54/28)
حكم استخدام التوصية والوساطة للسفر إلى الحج
السؤال
أنا ضابط في الجيش، وأريد الذهاب إلى الحج، وفي الجيش يكون السفر للحج على حساب الشخص الخاص، والأولوية لصاحب الوساطة، فهل يجوز استخدام التوصية في هذا الأمر؟
الجواب
نعم يجوز.(54/29)
حكم المظاهرات
السؤال
ما حكم المظاهرات؟
الجواب
الذي أعتقده أنها غير مشروعة، ومع ذلك لا أؤثم من يفعل ذلك، لكن اعلم أن الأمر قد وصل إلى مرحلة لا ينفع معها المظاهرات ولا غير المظاهرات، فأنت وفر عليك بلاء عظيماً جداً تقدم عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(54/30)
شرح كتاب الإبانة - ما روي في المكذبين بالقدر
مجوس هذه الأمة هم القدرية؛ لأنهم زعموا أن الله خلق الخير ولم يخلق الشر، وقدر الخير ولم يقدر الشر، وقد شابهوا المجوس في قولهم بثانوية الإله: إله الخير وإله الشر، وقد أنكر الصحابة والتابعون وسلف الأمة عليهم أشد الإنكار، وردوا عليهم وكفروهم، وآثارهم في ذلك كثيرة.(55/1)
ما روي في المكذبين بالقدر(55/2)
القدرية مجوس هذه الأمة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في المكذبين بالقدر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاءه رجل فسأله عن القدر، فقال: من هؤلاء القدرية؟ قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هم مجوس هذه الأمة)].
هذا الحديث روي من طرق متعددة عن ابن عمر، ورواه غير ابن عمر جمع من الصحابة رضي الله عنهم، وفي كل طريق من هذه الطرق راوٍ كذاب، أو متروك، أو ضعيف، أو ضعيف جداً، وبالتالي اختلفت كلمة المحدثين في إثبات هذا الحديث من عدمه، فبعضهم يرى أن مجموع هذه الطرق والشواهد يرتقي بها الحديث إلى درجة الحسن أو الصحيح، وبعضهم يقول: لا يزيد الحديث بذلك إلا ضعفاً.
[وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)، وفي رواية: (وإن ماتوا فلا تشيعوهم، ولا تناكحوهم)] أي: لا تنكحوا إليهم ولا منهم.
[وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله عز وجل أن يلحقهم بـ الدجال).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة القدرية، لا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا)، وفي رواية: (وإن ماتوا فلا تشيعوهم).
وعن ابن عمر قال: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر)]، وغير ذلك من الروايات التي تثبت أن القدرية هم مجوس هذه الأمة.
[وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي مسخ، وذلك في القدرية والزنديقية)].
والزنديقية: من الزندقة وهي النفاق، والزنديق هو المنافق.
[وعن محمد بن أيوب المكي قال: سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لما ذكر عنده القدرية يقول: هذا أول شرك هذه الأمة] يعني: أول شرك وقع في الأمة هو قول الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، وكان أول ظهورهم في البصرة.
قال: [ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كأني بنسائهم يطفن حول ذي الخلصة)].
يعني: كأني بنساء القدرية الذين يقولون: لا قدر؛ يطفن حول ذي الخلصة، وذو الخلصة كما في كتاب النهاية لـ ابن الأثير بيت كان فيه صنم لدوس باليمن يسمى: الخلَصَة بفتحات، أراد لا تقوم الساعة حتى ترجع دوس عن الإسلام، وذلك قبل يوم القيامة، فلا تقوم الساعة حتى ترتد دوس على أعقابها وتشرك بالله عز وجل، فتطوف النساء بذي الخلصة، وتضطرب أعجازهن وألياتهن كما كن يفعلن بالجاهلية.
[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كأني بنسائهم يطفن حول ذي الخلصة، تصطك ألياتهن مشركات -أو ألياهن-، والذي نفسي بيده لا ينتهي سوء رأيهم -أي: لا يذهب سوء رأيهم فيما يتعلق بمسألة القدر- حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير كما أخرجوه من أن يقدر الشر)].
لأن بعض فرق القدرية قالت: إن الله تعالى خلق الخير ولم يخلق الشر، وقدر الخير ولم يقدر الشر، وشاء الخير ولم يشأ الشر، فشابهوا تماماً المجوس الذين قالوا: بثنائية الإله، إله الخير وإله الشر، إله الظلمة وإله النور، فسماهم النبي عليه الصلاة والسلام مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس قالوا بأن للعالم إلهين: إله للخير وإله للشر، إله للظلمة وإله للنور، وكذلك كادت القدرية أن تقول: لهذا الكون كذلك إلهان: إله للخير وإله للشر، وذلك بقولهم: إن الله شاء الخير ولم يشأ الشر، قدر الخير ولم يقدر الشر، فإذا كان الشر مخلوقاً وموجوداً في واقع الناس وفي هذه الحياة فلا بد أن يكون له خالق، فإذا كنتم تقولون: إن الشر لم يخلقه الله فلا بد أن يكون لهذا الشر خالق غير الله، وهذا باب عظيم من أبواب مشابهة القدرية للمجوس؛ لأنهم قالوا بثانوية الإله.
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة) علة ذلك أن المجوس يقولون بثانوية الإله، وأن القدرية كادوا أن يقولوا بثانوية الإله، لأنهم قالوا: إن الله قدر الخير ولم يقدر الشر، والشر مخلوق فلا بد له من خالق، وإلا فك(55/3)
حكم من أنكر مرتبتي العلم والكتابة من القدر
والمكذب بالقدر إذا كان من الغلاة، وكان من علماء القدرية فإنه يكفر بهذا خاصة إذا أنكر مرتبة العلم والكتابة، فإن من أنكر مرتبة العلم الأزلي لله عز وجل، وأن الله لم يكتب ذلك في اللوح المحفوظ فقد كفر بذلك، وأما من أنكر المرتبتين التاليتين وهما: مرتبة الإرادة ومرتبة الخلق ففيه نزاع كبير جداً بين أهل العلم في تكفيره؛ خلافاً للمرتبتين السابقتين: العلم والكتابة فقد اتفقت كلمة الأمة على تكفير من أنكرهما؛ لأنه ينفي العلم عن الله عز وجل، ويصفه بالجهل، وأن الله تعالى لا يعلم الأمر إلا بعد أن يقع، وأنه لا قدر، وأن الأمر أنف كما ذكرنا مراراً من قبل.
فقوله: (لا يدخل الجنة مكذب بالقدر) هذا التكذيب إن حصل في المرتبة الأولى والثانية فالكلام على إطلاقه، وأنه كافر بالله العظيم مخلد في نار جهنم مع الكافرين، وإذا كان هذا التكذيب منصب على المرتبة الثالثة والرابعة ففيه نزاع مشهور معروف لأهل العلم ذكرناه مراراً من قبل.
فمن كان مستحلاً لهذا العقوق مع قيام الحجة بالدليل عليه، فيسب ويضرب والديه، فإذا قيل له هذا حرام، قال: ليس بحرام، وإذا تلونا عليه آيات وأحاديث تبين حرمة العقوق وأنها كبيرة من الكبائر أنكرها وجحدها؛ فقد كفر بالله عز وجل، وكذلك إذا كان يشرب الخمر ويجحد حرمة ذلك مع قيام الحجة عليه: باجتماع الشروط، وانتفاء الموانع؛ فلا شك أنه يكفر بالله عز وجل.(55/4)
حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة والخوارج والمعتزلة
وظاهر الحديث أنه لا يدخل الجنة لأول وهلة مع الداخلين الأوائل: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمكذب بالقدر، فيكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخل الجنة أولاً، والخوارج والمعتزلة أجروا هذه النصوص على ظاهرها فقالوا: لا يدخل الجنة، أي: لا يدخلها أبداً بل يخلد في النار؛ لأن الخوارج يكفرون صاحب الكبيرة، بل غلاة الخوارج يكفرون بالصغائر، وأنتم تعلمون أن الكبائر إن أقيم على صاحبها الحد فهو كفارته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارة لأهلها)، فمن أقيم عليه الحد في أمر قد استوجب الحد فالحد ينفي عنه ما كان منه، وإذا تاب إلى الله عز وجل تاب الله تعالى عليه، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، وإذا مات مصراً عليها غير مستحل لها فهو في مشيئة الله عز وجل: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، هذا حكم الكبيرة عند أهل السنة والجماعة.
وأما الخوارج فقالوا: مرتكب الكبيرة يخرج من الملة ويكفر بكبيرته، ويخلد في النار مع المخلدين.
والمعتزلة قالوا: ليس مؤمناً ولا كافراً، هذا حكمه في الدنيا، وأما حكمه في الآخرة فهو مخلد في النار مع المخلدين، وهذا كلام لا دليل له؛ لأنه لا يخلد في النار إلا الكافر الأصلي والمنافق؛ لأنه عند الله كافر، ولكنه تجرى عليه أحكام الإسلام في الدنيا لإظهاره شعائر الإسلام، ونطقه بكلمة التوحيد، وأما هو في حقيقة الأمر فقد أبطن الكفر، والله تعالى مطلع على باطنه، فهو عند الله كافر مخلد في النار مع الكفار، فحينئذ يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة عاق) أي: لا يدخل الجنة لأول وهلة، وإنما يدخلها بعد أن يطهر في النار، أو يعفو الجبار تبارك وتعالى.(55/5)
انتشار السحر والتنجيم بين المسلمين
[وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أتخوف على أمتي ثلاثاً: التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة)].
والتصديق بالنجوم: هو أن تعتقد الأمة في النجوم، وأن تعمل بالسحر والشعوذة، والأمة قد وقعت في هذا، وهو من المهلكات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات - أي: المهلكات - الشرك بالله عز وجل، والسحر)، والأمة فيها كثير من السحرة بل منها ولايات ودول لا تحسن إلا أعمال السحر والتنجيم، واعتمدت على ذلك في كل أقوالها وأفعالها، حتى في تعاملاتها مع الدول المجاورة وغير المجاورة، وحتى مع الدول الكافرة إنما تعتمد على السحر والتنجيم، كبلاد المغرب كلها: المغرب، تونس، الجزائر، ليبيا، فيعتمدون على السحر والتنجيم، وأما زعماء العالم الغربي الكافر والعالم العربي المسلم فغالباً ما يعتمدون على التنجيم والسحر والشعوذة، ولقد اتخذ كل منهم ساحراً له، لا يصدر إلا عن أمره، وينبئوه كذباً بما سيكون في غد، فيتخذ لذلك الحيطة.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) فبدلاً من أن يستمطروا السماء بالدعاء والعمل الصالح؛ يستمطروها بالنجوم، قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو مؤمن بالكوكب كافر بي، وأما من قال: مطرنا بفضل الله فقد أصبح مؤمن بي كافراً بالكوك) فبين الله عز وجل في هذا الحديث أن هذه المسألة متعلقة بالإيمان والكفر، فهي من مسائل الإيمان وليست من مسائل العمل.
قال: (والتكذيب بالقدر)، وقد تكلمنا عنه كثيراً.(55/6)
صلاح الأمة بصلاح علمائها وحكامها
قوله: (وحيف الأئمة) الحيف هو: الظلم، والميل والعدول عن الحق، والأئمة المقصود بهم أئمة الحكم والسلطة، وأئمة العلم، فالأئمة عند الإطلاق في نصوص الشرع يعني بهم أئمة السياسة، أو إمام الدولة وإمارة البلاد، ويعنى بهم كذلك أئمة العلم، فهذان إذا هلكا هلكت بهلاكهما الأمة، وإذا صلحا صلحت بصلاحهما الأمة، السلطان والعالم إذا صلحا صلحت بصلاحهما الأمة، وإذا فسدا فسد بفسادهما الأمة، ولقد فسد الكل وأضاعوا الأمة معهما، فلا سلاطين على منهاج النبوة، ولا علماء على منهاج النبوة إلا من رحم الله وقليل بل نادر جداً ما هم، وهم مبعدون مغضوب عليهم، لا يسمع لهم القول، وحري إذا تكلموا ألا يسمع لهم، وإذا نكحوا ألا ينكحوا، هذا حالهم في هذا الزمان، لكنهم عند الله تبارك وتعالى مباركون مقبولون بإذن الله تعالى، فهذا الحديث مخيف إلى أقصى حد لمن كان يخاف الله عز وجل.
[وعن ابن محيريز قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: حيف الأئمة، وإيمان بالنجوم، والتكذيب بالقدر)].(55/7)
الأدلة على إثبات القدر
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -يعني: يجادلونه ويناظرونه فيما يتعلق بالقدر- قال: فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49])].
وهذه آية عظيمة احتج بها جميع الأئمة في إثبات القدر، وأن كل شيء بقدرة الله عز وجل، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} [القمر:49] (كل) من ألفاظ العموم، و (شيء): نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ} [القمر:49] فلا خالق إلا الله {بِقَدَرٍ} [القمر:49] أي: بعلم سابق، وبقدرة إلهية على الخلق، فكل شيء في الكون بقدر الله عز وجل، وهذا يشمل في عمومه الخير والشر، والصالح والطالح.
[وعن محمد بن كعب القرظي أنه قرأ هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49] قال: ما نزلت إلا تعييراً لأهل القدر] أي: تبكيتاً لهم فيما يزعمون إنكاره ورده.
وكثير من أهل العلم لما سئل عن القدرية قال: صنفان ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية، وقتالهم أحب إلينا من قتال الروم وفارس والديلم.(55/8)
تكفير السلف ولعنهم للقدرية الأولى
[وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: ما كان كفر بعد نبوة إلا كان مفتاحه التكذيب بالقدر]، يعني: أن التكذيب بالقدر رأس الشر، وناقض لرسالات الرسل، ونبوة الأنبياء، وما كان كفراً بعد نبوة إلا بدأ بالتكذيب بالقدر.
[وعن محمد بن يزيد الرحبي قال: قلت لـ نافع مولى ابن عمر: إن قبلنا -أي: ناحيتنا- قوماً يقولون: إن الله عز وجل لم يقدر الذنوب على أهلها، والناس مخيرون بين الخير والشر، قال: أولئك قوم كفروا بعد إيمانهم].
أي: الذي يقول هذه المقولة يكفر بعد إيمانه.
[وعن نافع قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال: ناس يتكلمون بالقدر؟ فقال: أولئك القدريون، وأولئك يصيرون إلى أن يكونوا مجوس هذه الأمة].
وهم الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، أي: أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها.
وهؤلاء القدرية أناس بلغوا في العلم مبلغاً وشأناً عظيماً جداً، والذين تكلموا في القدر كـ معبد الجهني، وكذلك الجهم بن صفوان من الجهمية وغير واحد من أعلام أهل البدع كانوا في غاية العلم والذكاء والفطنة ولم يكونوا جهالاً، وفرق كبير جداً بين العلم والهداية، ولذلك فالعلماء يقولون: العلم علمان: علم بالله، وعلم بأحكام الله عز وجل، فالعلم بالله على رأسه مخافة الله عز وجل، وإجلال الله تبارك وتعالى وعبادة الله تبارك وتعالى، بذل وإخبات وخضوع وخشوع، فهذا هو العلم الذي ينتفع به صاحبه يوم القيامة.
وأما العلم الثاني: فهو العلم بالأحكام الشرعية، وبالحلال والحرام، فمن أهل هذا العلم من جمعوا إلى علمهم العلم الأول، فهؤلاء هم الذين قال الله تعالى عنهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، أما عالم بالحلال والحرام يلوي بالحرام لسانه حتى يجعله حلالاً، ويلوي بالحلال لسانه حتى يجعله حراماً، فإذا كان التوجه العام والسياسة العامة تريد تحريم هذا الشيء فيذهبون ويأتون بأدلة باطلة وموضوعة وغير ذلك لإثبات أن هذا الشيء على هوى السائل، وإذا كان العكس فبالعكس كذلك، كما سئل أحدهم وكان قد سأله كافر فقال: أليس نبيكم قد حرم مصافحة النساء؟ وقد رأيناك تصافح النساء بنفسك، وبعض الناس منكم يقول: إن النبي لم يصافح النساء في بيعة كذا، قال: مصافحة النساء حلال، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء؛ لأنه كان قادماً من سفر متعباً فاعتذر عن مصافحة النساء! أنا أظن أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون قد خطر على بال إبليس، فهذا المفتي ليس له حظ ولا نصيب إلا النار إن لم يتب؛ لأنه يقول على النبي عليه الصلاة والسلام ما لم يقله، ويتأول النصوص الشرعية على غير مراد الله عز وجل، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليضل الناس بما عنده من علم، وهو يعلم أن ذلك حرام، ولو طلب منه وكان التوجه العام إثبات حرمة مصافحة النساء، ووجوب لبس النقاب؛ لأتى بأدلة هائلة لإثبات هذا؛ لأنه غاب عنه أن يرضي الله عز وجل، وإنما أتى بمهمة عظيمة وهي إرضاء التوجه العام في البلاد الإسلامية، فأنا لا أدري كيف يبيع المرء دينه بعرض من الدنيا قليل لا ينفعه، فهو لا يأكل إلا كما كان يأكل، ولا يلبس إلا كما كان يلبس، ولا ينام إلا كما ينام، وسيترك هذا كله ولا يخرج من دينه ودنياه إلا بالخسران والبوار، فكيف يقدم على ذلك رجل عنده مسكة من عقل، ثم هو قد بلغ من العمر أرذله، فإذا كان يخشى سجن أو تعذيب فإنه ليس من أهل السجن ولا من أهل التعذيب، والناس عندهم نظر لهذا السن، ولا يسمح بذلك، وأقصى ما يقال فيه: إنك قد بلغت السن القانوني فاخرج لا نريدك، وقد قيل لسابقه هذا القول، فعجيب جداً أن يبيع المرء دينه بفتات من فتات الدنيا، فاللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تثبتنا على إيماننا.
[وعن نافع عن ابن عمر قال: إن لكل أمة مجوساً، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم -يعني: يأخذ منه بالدلو- قد ابتلت أسافل ثيابه -يعني: أطراف ثيابه من أسفل- فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال ابن عباس: أوقد فعلوها؟! قلت: نعم، فقال: فو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49]، أولئك شرار هذه الأمة، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، إن أريتني أحداً منهم فقأت عينه بأصبعي هاتين]، يعني: إن أريتني واحداً منهم سأفقأ عينيه ولا دية له ولا يقاد مني في ذلك.
[وعن عكرمة بن عمار اليمامي قال: سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يلعن القدرية.
وق(55/9)
الطاعة تسلم إلى الطاعة والبدعة والمعصية يسلمان إلى البدعة والمعصية
[وعن مجاهد قال: يبتدءون فيكونون مرجئة].
فالطاعة تسلم إلى الطاعة، فكذلك البدعة تسلم إلى بدعة، والمعصية تسلم إلى معصية، وهذه سنة الله تعالى في الكون، فالذي يحرص على أن يصلي إذا ما فرغ من صلاته انشغل بالأذكار، وإذا فرغ من الأذكار انشغل بالتسبيح، ثم انشغل بقضاء حوائج المسلمين، أو بأي طاعة من الطاعات حتى تأتيه الصلاة مرة أخرى.
والمعصية تسلم إلى معصية أخرى، والمرء يخرج من ذنب فيدخل في آخر، وهو في الذنب الأول يفكر ماذا يصنع في الذنب الثاني وغير ذلك، فكذلك البدعة تسلم إلى بدعة أخرى.(55/10)
مداخل الشيطان على العبد
والبدع أخطر من المعاصي بكثير جداً، والشيطان يحبها حباً جماً، ولذلك يجتهد عليك الشيطان في باب الكفر والخروج من الإيمان، وفي الغالب أنه لا يفلح في الردة، فيجتهد عليك في باب البدع ولا يجتهد عليك في باب المعصية، فإن فشل معك في باب البدع فإنه يجتهد آسفاً عليك فيما يتعلق بالمعصية؛ لأن البدعة وسط بين الإيمان والكفر، وأما الذنب فليس كفراً فهو في المرتبة الثالثة.
ولذلك تجد صاحب البدعة يبتدع وهو يزعم أنه يتقرب إلى الله، وأما صاحب الذنب فلا يمكن أن يزعم ذلك، فلو سألت شخصاً يشرب الخمر وتقول له: أنت تشرب الخمر لماذا؟ فسيقول: هذه معصية، وربنا يتوب علي وادع لي، لكن لو ذهبت إلى شخص يطوف حول قبر الحسين، وقلت له: هذا شرك، لماذا تعمل هذا؟ يقول لك: لا تتكلم، هؤلاء أولياء الله عز وجل، سوف يحصل لك ويأتي إليك ويعمل فيك! فأصحاب البدع دينهم الكذب على الله وعلى رسوله، فصاحب البدعة يبتدع وهو يعتقد أنه يتقرب من الله عز وجل، ولذلك تجده متمسكاً جداً ببدعته ومجاهراً بالبدعة؛ لأنها في نظره دين.
لكن صاحب المعصية يعصي الله، وإذا ناقشته أو اطلعت عليه في حال معصيته خزى واستحى، ووضع وجهه في الأرض؛ لأنه يعلم أنه على معصية، فالشيطان يهتم دائماً أن يجتهد عليك في باب البدعة.(55/11)
ما روي عن الصحابة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من التشنيع على المكذبين بالقدر
وقد روي عن كثير من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين مواقف مشهودة لهم فيما يتعلق بحكمهم على القدرية.(55/12)
أثر أبي بكر الصديق في إثبات التقدير السابق
قال: [فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: خلق الله عز وجل الخلق وكانوا قبضتين، فقال للتي عن يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال للتي في يده الأخرى: ادخلوا النار ولا أبالي].
ومعنى هذا الكلام أن الله تعالى لما أخرجهم من صلب آبائهم جعلهم فريقين: فريقاً في يده اليمنى، وفريقاً في يده الأخرى، وقال للذين في يده اليمنى: أنتم من أهل الجنة، وقال للذين في يده الأخرى: أنتم من أهل النار، وهذا يدل على علم الله الأزلي السابق.
والقدرية هم الذين أنكروا العلم الأزلي لله عز وجل، فقول أبي بكر هنا: إن الله تعالى قسم خلقه إلى قسمين: أحدهما في النار والآخر في الجنة؛ ليدل على أن كل شيء بقدر، وأن كل شيء كان معلوماً لله عز وجل قبل أن يكون، وفي هذا أعظم رد على القدرية.
[ويقول: (قلت: يا رسول الله! أنعمل على عمل قد فرغ منه؟ أم على أمر مؤتنف؟)].
يعني: هذا الذي نحن نعمله يا رسول الله! نحن مطلوب منا أن نعمله، أم أنه أمر قد فرغ منه؟ يعني: أن الله عرفه وكتبه وقدره علينا، أم أمر مؤتنف لا يعلمه الله إلا بعد أن يقع منا، فإذا أوقعناه كتب الله عز وجل لنا أو علينا.
[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل على أمر قد فرغ منه، قلت: يا رسول الله! إذا كان هذا الأمر قد فرغ منه ففيما العمل إذاً؟ -وهذا السؤال سأله أيضاً عمر رضي الله عنه وغير واحد من الصحابة- قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق، فأما من خلق للجنة فييسر لعمل أهل الجنة، وأما من خلق للنار فييسر لعمل أهل النار).
ولعل شخصاً يقول: ما دام الأمر قد فرغ منه فأنا لن أعمل، فنقول له: أنت الذي حكمت على نفسك بأنك من أهل النار، فالذي يجعلك قدرت أنك من قبضة أهل النار يجعلك تقدر أنك من قبضة أهل الجنة، فاعمل ولابد، فإذا كان خلق للجنة بعلم الله الأزلي السابق فسييسر لعمل أهل الجنة، والأخرى بالأخرى.(55/13)
أثر عمر بن الخطاب في إثبات قدر الله والرد على جاثليق النصارى في إنكاره إضلال الله لمن يشاء
وأما عمر رضي الله عنه: فقد جاء [عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية -يعني: في الشام- فحمد الله وأثنى عليه، فلما أتى على قوله: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له -يعني: من كتب الله تعالى له الهداية في الأزل فلا يمكن أن يضل، ومن أضله الله في الأزل فلا يمكن أن يهتدي- فلما قال ذلك عمر والجاثليق بين يديه -وهو زعيم من زعماء النصارى- قال بقميصه فنفضه وقال: بركست بركست -يتكلم بكلام عبري- فقال عمر: ما يقول عدو الله؟ فقالوا: لم يقل شيئاً يا أمير المؤمنين! دعك منه وواصل كلامك، ثم أعادها فتشهد فقال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق بقميصه فنفضه]، يريد أن يقول: إن هذا كلام غلط.
وهذا كما جاء عن الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما عندما كانوا يذكرون راوياً منكر الحديث أو كذاباً أو وضاعاً بين يدي أحدهم فإنه يقوم ينفض ثيابه ويترك المجلس وينصرف ولم يقل شيئاً، وهذا الفعل أعظم مما لو قال: كذاب أو وضاع.
فهذا الجاثليق لما قال عمر: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نفض ثيابه وقال: بركست بركست.
قال: [فقال عمر: ما يقول عدو الله؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله عز وجل يهدي ولا يضل -يعني: يخلق الخير ولا يخلق الشر- فقال عمر: كذبت يا عدو الله! بل الله عز وجل خلقك، وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله].
فلم يقل واحد من المسلمين: يا أمير المؤمنين أنت زدت فيها، كان المفروض أن تتلطف مع هذا الرجل النصراني لعل الله أن يهديه، فهل نحن نخفي الحق من أجل هداية فلان أو فلان؟! قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأما من ذهب منا إليهم فأبعده الله) أي: لا نريده، أما أنك تخفي الحق من أجل فلان أو علان فليس هذا منهجاً للسلف أبداً، فلا بد من قول الحق.
فقال: [كذبت يا عدو الله! بل الله عز وجل خلقك، وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله]، فاستثنى وذكر المشيئة لأنه ربما يهتدي ويتوب.
ثم قال: [والله لولا لوث عهد لك -أي: لولا عهد بينا وبينك- لضربت عنقك، إن الله عز وجل لما خلق آدم عليه السلام نثر ذريته في يده، فكتب أهل الجنة وأعمالهم، وأهل النار وأعمالهم، وقال: هذه لهذه -أي: لأهل الجنة- وهذه لهذه -أي: لأهل النار- فتفرق الناس يومئذ وهم لا يختلفون في القدر]، أي: فتفرق الناس في يوم أن قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
[وعن عبد الله بن الحارث قال: خطب عمر بن الخطاب بالجابية فحمد الله وأثنى عليه، وعنده جاثليق يترجم له ما يقول، فقال: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، قال: فنفض جبته كالمنكر لما يقول عمر، فقال عمر رضي الله عنه: ما يقول هذا؟ قال ذلك ثلاث مرات، قالوا: يا أمير المؤمنين! يزعم أن الله عز وجل لا يضل أحداً، قال عمر: كذبت يا عدو الله! بل الله خلقك، وقد أضلك، ثم يدخلك النار إن شاء الله، أما والله لولا لوث من عهد لك لضربت عنقك، إن الله عز وجل خلق أهل الجنة وما هم عاملون -أي: من خير- وخلق أهل النار وما هم عاملون -أي: من شر-].
إذاً: فخالق الخير والشر هو الله عز وجل، لكنه لا يحب الشر ولا يرضى به، ويأذن في وجوده؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد الله.
فقال: [هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه، قال: فتفرق الناس وما يختلفون في القدر].(55/14)
القدر قدرة الله فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله تعالى
قال: [وعن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: القدر قدرة الله عز وجل].
والإمام أحمد بن حنبل عندما سئل: ما القدر؟ قال: إن الله على كل شيء قدير.
قال: [القدر قدرة الله عز وجل، فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله عز وجل].
فالذي يقول: لا شيء هناك اسمه قدر كأنه نفى علم الله، ونفى قدرة الله، فالله تعالى عليم، وموصوف بالعلم، وقادر وموصوف بالقدرة، والذي ينكر القدر ينفي عن الله تعالى بعض أسمائه وبعض صفاته.(55/15)
يقظة السلف عند التعامل مع الألفاظ المخالفة
[وعن هشام بن عروة عن أبيه: أن رجلاً قال لـ عمر بن الخطاب: أعطاك من لا يمن ولا يحرم].
فالسلف كانوا متيقظين جداً لأهل البدع، وكانوا في غاية اليقظة لكلمات أهل البدع، فهذا الشخص يقول له: يا عمر أعطني يعطيك من لا يمن ولا يمنع، فـ عمر قال له: كذاب، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17].
إذاً: فالله تعالى يمن، والمن في حقنا منقصة، لكن المن في حق الله صفة كمال، والله تعالى يحرم الكافر من الجنة ويدخله النار، والحرمان في حقنا صفة عيب ونقص لكنه في حق الله صفة كمال في مقابلة من يستحق الحرمان، ولا يسمى الله تعالى: المان، كما لا يسمى: المحرم، أي: الذي يحرم عباده؛ لأنه لا يؤخذ من أفعال الله عز وجل أسماء له، كما قال الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يسمى: المنتقم.
وأما الحنان المنان فهما من أسماء الله، فقد ورد في ذلك نص صريح (يا حنان يا منان)، وأما المان فهو ليس من أسماء الله تعالى؛ لأنه مستخرج من أفعاله، وكل أفعال الله تعالى التي لم يثبت منها أسماء لا تستخرج منها الأسماء، كما في قول الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يسمى الله تعالى المنتقم، فالانتقام في العموم صفة نقص في حق المخلوقين، وهي في حق الله عز وجل صفة كمال؛ لأنه لم ينتقم إلا ممن يستحق الانتقام، وكما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16] فلا يسمى الله تعالى: الكائد، وعندما نقول: فلان كياد فهذه صفة نقص، ولا يوصف الله تعالى بذلك ابتداءً، وإنما يوصف بها على سبيل الكمال في مقابلة كيد الكائدين، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، والمكر في حق المخلوق صفة نقص، لكن في حق الله عز وجل مهما مكر الماكرون فمكرهم عند الله عز وجل، وفي قدرة الله عز وجل، وسابق في علم الله عز وجل قبل أن يخلقه.
إذاً: إحاطة المولى عز وجل بكيد الكائدين، وإجرام المجرمين، وانتقام المنتقمين، وغير ذلك صفة كمال لله عز وجل، ولذلك ذهب أهل العلم إلى أن أسماء الله عز وجل الثابتة له التي ظاهرها النقص أنها لا تقال على سبيل الإفراد، بل تقال على سبيل المقابلة، فتقول: النافع الضار، والضار من أسماء الله عز وجل، لكن لا تقل: الله تعالى هو الضار؛ لأن الاسم عند الإطلاق والإفراد يوحي بشيء من النقص، لكن تقول: الله تعالى هو النافع الضار.
ولا تقل: الله تعالى المعيد، بل قل: هو المبدئ والمعيد، فهو الذي بدأ الخلق ثم يعيدهم؛ لتجمع الأمر من أوله إلى آخره لله عز وجل، وأما لو قلت: هو المبدئ؛ فربما قيل: ومن المعيد؟ ولو قلت: هو المعيد؛ لتوهم بعض السامعين أنه لم يبدأ الخلق، بل هناك خالق بدأ وخالق ثانٍ يعيد هذا الخلق، وهذا من قواعد الأسماء والصفات.
قال: [إن رجلاً قال لـ عمر بن الخطاب: أعطاك من لا يمن ولا يحرم.
فقال له عمر: كذبت، بل الله يمن عليك بالإيمان، ويحرم الكافر الجنة].
وابن عباس عندما قيل بين يديه: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل قال: نعيم الجنة لا يزول.
وهذا فيه رد على قوله: وكل نعيم لا محالة زائل، فنعيم الجنة دائم سرمدي أبدي لا نهاية له، فلما صدق في شطر بيته الأول أقره، ولما كذب في الشطر الثاني كذبه فوراً؛ حتى توضع النقاط على الحروف.
[وقال ثابت: إن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! أعطني، فوالله لئن أعطيتني لا أحمدك، ولئن منعتني لا أذمك، فقال أمير المؤمنين عمر: لم؟ قال: لأن الله عز وجل هو الذي يعطي وهو الذي يمنع]، أي: أن المعطي الحقيقي والمانع الحقيقي هو الله.
قال: [أدخلوه بيت المال ليحضره -أي: أدخلوا الرجل بيت المال إلى أن يرى المال بعينيه- وليأخذ منه ما يشاء]، وشكره عمر.
وهذا القول رغم أنه توحيد لكن لا يخلو من شيء من الجفاء مع الأئمة والوجهاء، والأصل فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (دعوا الناس يزرق الله بعضهم من بعض) يعني: لو أعطاه عمر لكان رازقاً له بإذن الله، وينبغي تأدباً شكر من أنعم عليك، فالله تعالى يقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، فسمى الله النبي صلى الله عليه وسلم منعماً وهو مخلوق؛ لأنه أنعم ومنّ على(55/16)
إيمان عمر الجازم بأن الذي يملك السعادة والشقاوة والخير والشر هو الله تعالى
قال: [وقال أبو عثمان النهدي: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يطوف بالكعبة يقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت علي الذنب والغضب في الشقاء فامحني وأثبتني في أهل السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب].
وأنتم تعلمون أن مسألة المحو والإثبات وإنما تكون في الصحف التي بأيدي الملائكة، وأما أم الكتاب واللوح المحفوظ ففيها القضاء المبرم الذي لا يقبل الزيادة ولا النقصان، فـ عمر رضي الله عنه يدعو ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في الصحف التي بأيدي الملائكة شقياً فامحني من الشقاء وأثبتني في أهل السعادة، وأعني على ذلك، وهذا إيمان جازم من عمر رضي الله عنه أن الذي يملك السعادة والشقاء هو الله عز وجل، وأن الذي يخلق الخير والشر هو الله عز وجل.
[وعن عمرو بن ميمون: أن عمر سمع غلاماً وهو يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فحل بيني وبين الخطايا فلا أعلم بشيء منها]، يعني: يا رب! اجعل بيني وبين الذنوب والخطايا حاجزاً وساتراً، واجعلني في غفلة عن الذنب حتى إني لا أعلم ما الذنب.
[فقال عمر: رحمك الله! ودعا له بخير.
وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر يوم أصيب وعليه ثوب أصفر، فخر وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]].
وكان أمر الله مقدراً في الأزل، (مقدوراً) أي: مخلوقاً وموجوداً لا محالة، وكأنه يريد أن يقول: إن الذي حل بي اليوم علمه الله تعالى في الأزل، وكتبه في اللوح المحفوظ.
فهذا الخبر يذكره عمر في أخريات لحظات حياته، ويبرز لنا قضية مهمة وهي قضية الإيمان بالقدر، ويقول: إن الذي حل بي إنما هو مقدر في اللوح المحفوظ ولا بد أن يقع، ولذلك عمر رضي الله عنه ما كان يخفى عليه أن أبا لؤلؤة المجوسي كان غلاماً مجوسياً للمغيرة بن شعبة، وكان يصنع الرحى، وقد ضرب عليه سيده المغيرة مبلغاً من الدنانير يدفعها في كل عام، فأتى أبو لؤلؤة المجوسي إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يشكو له غلاء الضريبة التي ضربت عليه من سيده، فقال: كم يأخذ منك؟ قال: أربعة دنانير، قال: ما عملك؟ قال: أصنع الرحى، وأنا فوق ذلك حداد نجار، قال: ما خراجك بكثير، أتصنع رحى؟ قال: نعم.
قال: اصنع لي رحاً.
فقال الغلام: سأصنع لك رحاً تتكلم عنها العرب والعجم، فلما وقع الذي وقع من أبي لؤلؤة المجوسي -عليه لعنة الله- قال عمر: لقد تهددني العلج آنفاً، والعلج بمعنى القبيح.
فـ عمر فهم مراد أبي لؤلؤة ولم يكن غافلاً، وعمر كان ذكياً جداً، وقد كان قبل الإسلام سفير قريش مع بقية القبائل وعنده من العمر ستة وعشرون عاماً، فلا يعقل أن قريشاً مع مكانتها وفصاحتها وذكائها وخدمتها للحجيج؛ تتخذ رجلاً لا عقل له، أو رجلاً غبياً، أو لا يدرك أبعاد المسائل؟ هذا لا يمكن، وفي الغالب أن كل أمة إنما تختار سفراءها من أذكى الناس فيها، وأنا أتكلم هنا عن سفراء العرب قديماً، وأما الآن فالسفير قد يقول: خطب شارون خطاباً بالأمس وكان في خطابه إيجابيات، وهناك في خطابه أمور ليست إيجابية، لماذا لا تقول: سلبية؟ خائف ممن؟ فحتى هذه الكلمة يخاف من قولها، وهو يحاول أن يخرج من أسئلتك شمالاً ويميناً، ويقول: فيه أشياء غير إيجابية.
والكذاب الكبير حق أمريكا يتصل بـ شارون ويقول له: لا عليك، من أجلنا تصالح مع العرب، فـ شارون يقول له: إلى الآن والكتائب اليهودية لم تحقق أهدافها العسكرية، فيقول له: افعل ذلك من أجلنا، فاليمن والسودان والخليج كلهم أتباعنا، واليهود والصليبيون في أرض الجزيرة العربية، وفلسطين ملكنا، لكن أريد أن أقول: إن البيع المعلن لم يتم، وهو سيتم ولا بد، ولا حل لهذه الأمة إلا أن ترجع إلى ربها.
فانظروا إلى عمر بن الخطاب عندما كتب رسالة إلى سعد بن أبي وقاص قال له: يا سعد! اتق الله في الخاصة من نفسك، وفيمن معك من الجند، فإنك إن عصيت الله كان جند العدو خيراً منك؛ لأنك لا تنتصر إلا بتقوى الله، فإذا كنت على غير ذلك فاقك العدو بالعدد والعدة، فكان خيراً منك في أرض المعركة؛ لأنك صاحب معاص وذنوب، فإما أن تتوب الأمة إلى الله عز وجل وترجع إلى ربها، وإما فسيأتي شارون إلى هذه البلاد بل وإلى كل بلد من بلاد الإسلام، وسيكون هناك أسماء كثيرة جداً كلها تمثل شارون، لكن هذا شارون عربي وهذا شارون ليبي، وهذا شارون مغربي، وهذا شارون سعودي وهكذا، فلا بد أن ترجع الأمة إلى ربها.
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد، اللهم انصر المجاهدين(55/17)
شرح كتاب الإبانة - ما روي عن الصحابة في التشنيع على المكذبين بالقدر
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يشنعون على المكذبين بالقدر، وينكرون عليهم أشد الإنكار، ويتبرءون من معتقدهم، ويحاجونهم بكتاب الله وسنة رسوله، ويحذرون الناس من مجالستهم والاستماع إليهم.(56/1)
تابع ما روي عن الصحابة فيما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من التشنيع على المكذبين بالقدر(56/2)
إثبات علي بن أبي طالب للقدر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد: فإن أفضل الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب العاشر: ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم فيما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام من التشنيع على المكذبين بالقدر].
وقد روينا فيه عن أبي بكر الصديق، وعن عمر رضي الله عنهما وغيرهما، وأما اليوم فنذكر الكلام الثابت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن غيره من الصحابة والتابعين.
[قال يعلى بن مرة: إن أصحاب علي قالوا: إن هذا الرجل في حرب، وإلى جنب عدو، وإنا لا نأمن أن يغتال، فلو حرسه منا كل ليلة عشرة، قال: وكان علي إذا صلى العشاء لزق بالقبلة، فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم انصرف إلى أهله، فصلى ذات ليلة ثم انصرف، فأتى عليهم -يعني: ذهب إلى أصحابه الذين اجتمعوا- فقال: ما يجلسكم هذه الساعة؟ قالوا: جلسنا نتحدث، قال: لتخبرونني! فأخبروه -أي: أخبروه الخبر أنهم قد اتفقوا أن يحرسه في كل ليلة منهم عشرة؛ مخافة أن يغتال- فقال: من أهل السماء تحرسوني أو من أهل الأرض؟ قالوا: نحن أهون على الله من أن نحرسك من أهل السماء، بل نحن نحرسك من أهل الأرض.
قال: فلا تفعلوا، إنه إذا قضي أمر من السماء عمله أهل الأرض، وإن علي من الله جنة -أي: وقاية- حصينة إلى يومي هذا ثم تذهب، وإنه لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يستيقن غير ظان -أي: شاك- أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه].
وهذا ربما يشير ظاهره إلى عدم الأخذ بالأسباب، والنبي عليه الصلاة والسلام قد اتخذ لنفسه الحراس والخدم والعبيد والموالي، وغير ذلك، فإذا كان الاغتيال بقدر الله؛ فكذلك الحراسة من قدر الله عز وجل، ولكن الإمام علي رضي الله عنه أراد أن يعلمهم درساً عظيماً جداً في التوكل على الله تعالى، والإيمان بما قدره الله تعالى.
وقال -أي علي بن أبي طالب -: [ما آدمي إلا ومعه ملك يقيه ما لم يقدَّر عليه، فإن جاء القدر خلاه وإياه] أي: تركه حتى ينفذ فيه القدر.
[وعن أبي البحتري: أن علياً كان يقول: إياكم والاستنان بالرجال -أي: إياكم أن تستنوا بآراء الرجال، فإنما ذلك بالكتاب والسنة، من كان مستمسكاً فليستمسك بالكتاب والسنة- فإن كنتم مستنين لا محالة فعليكم بالأموات] أي: عليكم برأي من مات، فإن الحي يقول الرأي اليوم ويرجع عنه غداً، وإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أما الميت فقد نجا من الفتنة وانقطعت عنه بموته.
قال: [لأن الرجل قد يعمل الزمن من عمره بالعمل الذي لو مات عليه دخل الجنة، فإن كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار فمات؛ فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن من عمره بعمل أهل النار، فإذا كان قبل موته بعام تحول فعمل بعمل أهل الجنة فمات؛ فدخل الجنة].
وهنا لا يلزم أن نذكر كل ما ورد في ترجمة الإمام، وفي كلامه عن القدر، بل نجتزئ بالبعض دون البعض الآخر.
[وعن علي بن أبي طالب أنه ذكر عنده القدر يوماً فأدخل أصبعيه في فيه السبابة والوسطى -أي: لما ذكر عنده القدر ذات يوم أدخل السبابة والوسطى في فمه وبلهما بريقه- فأخذ بهما من ريقه فرقم بها في ذراعيه -أي: طبع بهما على ذراعيه- ثم قال: أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب].
يعني: أن كل شيء إلى قيام الساعة مكتوب عند الله تعالى في أم الكتاب، وفي اللوح المحفوظ.
[وعن عمر بن سلام عن إسحاق بن الحارث من بني هاشم وذكر عنده القدرية، فقال الهاشمي: أعظك بما وعظ به علي بن أبي طالب رضي الله عنه صاحباً له، فقال: إنه قد بلغني أنك تقول بقول أهل القدر، قال: إنما أقول: إني أقدر على أن أصلي وأصوم وأحج وأعتمر.
قال علي: أرأيت الذي تقدر عليه -أي: هذا الذي ذكرت من الصلاة والصيام والزكاة والحج- أشيء تملكه مع الله، أم شيء تملكه من دون الله؟ -يعني: هل تستطيع أن تعمل ذلك مع الله تعالى، أو بدون الله تعالى؟ - قال: فارتج الرجل، فقال علي رضي الله عنه: مالك لا تتكلم؟ أما لئن زعمت أن ذلك شيء تملكه مع الله عز وجل؛ فقد جعلت مع الله مالكاً وشريكاً، ولئن كان شيئاً تملكه من دون الله؛ لقد جعلت من دون الله مالكاً، قال الرجل: قد كان هذا من رأيي، وأنا أتوب إلى الله عز وجل منه توبة نصوحاً لا أرجع إليه أبداً].
يعني: هو في الحالين مشرك، ورأيه يوافق رأي المجوس.
[وعن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده قال: أتى رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: أخبرني عن القدر؟ فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: أخبرني عن القدر، قال: بحر عميق فلا تلجه، قال: أخبرني عن القدر، قال: س(56/3)
ما قاله عبد الله بن سلام في إثبات القدر
قال: [عن عبد الله بن سلام قال: خلق الله عز وجل الأرض يوم الأحد والإثنين، وقدر فيها أقواتها، وجعل فيها رواسي -أي: جبالاً- من فوقها في يوم الثلاثاء، والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلقها يوم الخميس والجمعة، وأوحى في كل سماء أمرها، وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم تركه أربعين ينظر إليه ويقول: تبارك الله أحسن الخالقين، ثم نفخ فيه من روحه، فلما دخل في بعضه الروح ذهب ليجلس -أي: تعجل آدم الجلوس.
قال الله عز وجل: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]- فلما تبالغ فيه الروح -أي: اشتد أمر الروح فيه- عطس؛ فقال الله عز وجل له: قل: الحمد الله، فقال: الحمد لله، قال الله له: رحمك ربك! ثم قال: اذهب إلى أهل ذاك المجلس من الملائكة فسلم عليهم، ففعل، فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك، ثم مسح ظهره بيديه فأخرج فيهما من هو خالق من ذريته إلى أن تقوم الساعة، ثم قبض يديه ثم قال: اختر يا آدم، قال: اخترت يمينك يا رب، وكلتا يديك يمين، فبسطها وإذا فيها ذريته من أهل الجنة، فقال: ما هؤلاء يا رب؟ قال: هو ما قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة، فإذا فيهم من له وبيص -أي: لمعان وضياء- قال: ما هؤلاء يا رب؟ قال: هم الأنبياء، قال: فمن هذا الذي له فضل وبيص؟ -أي: نور ساطع- قال: هذا ابنك داود، قال: فكم جعلت عمره؟ قال: ستين، قال: فكم عمري؟ قال: ألف سنة، قال: فزده يا رب من عمري أربعين سنة -أي: أعطه من عمري أربعين سنة، فيكون عمر آدم ألف سنة إلا أربعين، ويكون عمر داود مائة عام- قال: إن شئت، قال: يا رب! قد شئت -وفي هذا إثبات أن للعبد مشيئة- قال: إذاً يكتب ثم يختم ثم لا يبدل].
يعني: كأن الله تعالى يقول: انظر يا آدم ما تقول! فإننا لو أخذنا منك الأربعين فوضعناها في عمر ابنك داود؛ فهذا القول لا يبدل، وسيكتب في اللوح المحفوظ ولا رجعة فيه.
قال: [ثم رأى في آخر كف الرحمن آخر له فضل وبيص، قال: فمن هذا يا رب؟ قال: هذا محمد، هو آخرهم وأولهم أدخله الجنة.
فلما أتاه ملك الموت ليقبض نفسه -أي: أتى آدم- قال: إنه قد بقي من عمري أربعون سنة، قال: أولم تكن وهبتها لابنك داود؟! قال: لا، قال: فنسي آدم فنسيت ذريته، وعصى آدم فعصت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته، فذلك أول يوم أمر بالشهداء] أي: أول يوم استدعى الله تعالى فيه الشهود على آدم.
هذا الحديث وإن كان موقوفاً على عبد الله بن سلام؛ فإن له في صحيح مسلم شواهد كثيرة.(56/4)
موقف ابن مسعود وابن عمر ممن كذب بالقدر
قال: [وعن ابن مسعود قال: ما كان كفر بعد نبوة قط إلا كان مفتاحه التكذيب بالقدر.
وعنه قال: لئن أعض على جمرة حتى تبرد أحب إلي من أن أقول لشيء قد قضاه الله: ليته لم يكن.
وعن أبي حازم قال: ذكر عند ابن عمر قوم يكذبون بالقدر، فقال: لا تجالسوهم، ولا تسلموا عليهم، ولا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تشهدوا جنائزهم، وأخبروهم أني منهم بريء، وأنهم مني براء، وهم مجوس هذه الأمة.
وعن يحيى بن يعمر قال: قلت لـ ابن عمر: إن عندنا رجالاً بالعراق يقولون: إن شاءوا عملوا، وإن شاءوا لم يعملوا -يعني: أرجعوا الأمر كله إلى مشيئتهم دون مشيئة الله تعالى- وإن شاءوا دخلوا الجنة، وإن شاءوا دخلوا النار -يعني: حتى دخول الجنة والنار بمشيئتهم- وإن شاءوا وإن شاءوا وذكر أشياء أخرى، فقال: إني منهم بريء وإنهم مني براء.
وقال رجل لـ عبد الله بن عمر: إن ناساً من أهل العراق يكذبون بالقدر، ويزعمون أن الله عز وجل لا يقدر الشر، قال: فبلغهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء، وأنهم منه براء، والله لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره] أي: أن الخير والشر من عند الله عز وجل.(56/5)
موقف ابن عباس ممن يتكلم في القدر
قال: [وعن أبي الزبير قال: كنا نطوف مع طاوس -أي: طاوس بن كيسان اليماني - فمررنا بـ معبد الجهني -وهو زعيم القدرية- فقيل لـ طاوس: هذا معبد الذي يقول في القدر -أي: الذي ينكر القدر- فقال له طاوس: أنت الكاذب على الله عز وجل بما لا تعلم؟ قال: فقال: يكذب علي! -أي: هم يفترون علي، فهذا الذي وصلك وبلغك عني كذب وافتراء- فدخلنا على ابن عباس فقال له طاوس: يا أبا عباس! الذين يقولون في القدر -يعني: هنا أناس قاعدون في هذا المجلس يتكلمون في القدر- قال ابن عباس: أروني بعضهم، قال طاوس: صانع ماذا؟ -يعني: لو أريناكهم ماذا ستصنع بهم؟ - قال: أدخل يدي في رأسه ثم أدق عنقه].
وابن عباس كان كفيفاً في كبره.
[وعن مجاهد قال: ذكر القدرية عند ابن عباس، فقال: لو أريت أحداً منهم عضضت أنفه].
أي: عضضت أنفه حتى أقطعه.
[وذكروا عند ابن عمر فقال: من لقيهم منكم فليبلغهم أني منهم برئ، وأنهم مني براء].
يعني: ليسوا منا ولسنا منهم؛ لأنهم مجوس وليسوا مسلمين، فالذي يقول: إن الله لم يقدر الشر، وما علمه إلا بعد أن وقع، وأن هذا لم يكن مكتوباً في اللوح المحفوظ؛ فهو كافر وخارج عن ملة الإسلام، وهذا ظاهر كلام عبد الله بن عمر في الحديث الطويل؛ حديث جبريل عليه السلام عند الإمام مسلم، وقال النووي: ظاهر كلام عبد الله بن عمر أنه يكفر القدرية.
[وعن ابن عباس قال: الإيمان بالقدر نظام التوحيد -يعني: أصل التوحيد- فمن وحد الله وكذب بالقدر؛ كان تكذيبه بالقدر نقضاً للتوحيد -يعني: لم يكن موحداً، بل كان مشركاً مجوسياً، وقد شابه المجوس في جعلهم للكون إلهين: إلهاً للخير، وإلهاً للشر- ومن صدق بالقدر كانت العروة الوثقى التي لا انفصام لها].
قوله: (ومن صدق بالقدر) أي: من آمن به، وأن كل شيء بقدر: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وأن الله تعالى قدر الخير وأراده وشاءه، وأمر به وأحبه وأحب أهله، وقدر الشر، وأذن في وجوده وخلقه ولم يرضه، بل توعد فاعله بالوعيد الشديد في الدنيا والآخرة.
[وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]-يعني: الله يمنع العبد من أن يأتي خيراً أو شراً- قال: يحول بين المؤمن وبين المعاصي، وبين الكافر وبين الإيمان].
فالله تعالى يحول بين المؤمن وأن يقع في المعصية، ويحول بين الكافر وأن يؤمن بالله تعالى.
[وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، قال: أضله على علم قد علمه عنده].
أي: أضله الله تعالى على علم منه بأن عبده هذا سيكون عبداً ضالاً.
[وجاء عبد الله بن عباس في ثلاثة نفر يتماشون، فقالوا: هيه يا ابن عباس! حدثنا عن القدر، قال: فأدرج كم قميصه حتى بدا منكبه] يعني: كأنه يقول: تريدون أن نتكلم عن القدر؟ ثم شمر عن ذراعيه إلى حد المنكب، وهذه حركة ظريفة جداً من ابن عباس مع أنه كفيف، فأبدى الاستعداد لمحاربة أهل البدع.
[ثم قال: لعلكم تتكلمون في القدر؟ قالوا: لا، قال: والذي نفسي بيده! لو علمت أنكم تتكلمون فيه لضربتكم بسيفي هذا ما استمسك في يدي] يعني: سأضربكم بسيفي إلا أن تغلبوني فتأخذونه مني.
[وعن طاوس قال: كنا جلوساً عند ابن عباس وعنده رجل من أهل القدر، فقلت: يا أبا عباس! كيف تقول فيمن يقول: لا قدر؟ -يعني: ليس هناك شيء اسمه قدر، وأن الله ما قدر شيئاً، بل ما علم شيئاً إلا بعد وقوعه- قال: أفي القوم أحد منهم؟ قلت: ولم؟ -يعني: لماذا تسأل؟ - قال: آخذ برأسه، ثم أقرأ عليه آية كيت وآية كيت -أي: الآيات المثبتة للقدر- حتى قرأ آيات من القرآن؛ حتى تمنيت أن يكون كل من تكلم في القدر قد شهده، فكان فيما قرأ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]].
وهذا الذي تمر به الأمة اليوم هو العلو الثاني والأخير لبني إسرائيل، فلا علو بعد هذا العلو أبداً، وآية ذلك أن العلو الثاني علامته وأمارته أن جاء الله تعالى بهم لفيفاً -أي: جماعات وأفواجاً من الأرض كلها- حتى نزلوا أرض فلسطين؛ ليتم وعد الله الأخير في هلاك بني إسرائيل، وفي هلاك دولة اليهود.
فالله تعالى لما قال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ(56/6)
أقسام الإرادة والمشيئة
وفي الآية الثانية: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، ولم يقل: كأنما يصعد، وإنما أتى بصيغة مبالغة: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
فهذه الآية أثبتت قدر الخير وقدر الشر، وأثبتت المشيئة الشرعية الدينية والمشيئة الكونية القدرية، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، هذه إرادة شرعية دينية، ومبناها على المحبة والرضا.
فقوله: {أَنْ يَهدِيَهُ} [الأنعام:125]، هذه هداية.
وقوله: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] يعني: يقبل الإسلام فيكون مسلماً، والإسلام محبَّب إلى الله تعالى، وقد أمر الله به، وألزم العباد به، وإرادته الإسلام للعبد مبناها على المحبة والرضا، إذاً: فهذه مشيئة شرعية وإرادة شرعية.
والإرادة الثانية: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:125]، والضلال لا يحبه الله، والذي خلق الضلال هو الله! لأنه لا خالق إلا الله.
{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ} [الأنعام:125] فهو الذي يجعل، {صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] يعني: روحه تصعد، أي: ومن أراد الله تعالى له الضلال أضله حتى جعل صدره ضيقاً حرجاً، كأنما يصعد في السماء.
إذاً: الذي أراد الهداية هو الله، والذي أراد الضلال هو الله، والذي خلق الهداية والضلال هو الله.
والله تعالى أذن في وجود الضلال وفي خلق الضلال، ولكن الله تعالى حذر منه، وتوعد عليه بالنار والعذاب والعقاب، وهذا الضلال مبغض إلى الله، والله تعالى يمقته ويغضب عليه ويسخط منه، ولأجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ لأجل أن يهرب الخلق من الضلالة إلى الهداية.
والله تعالى بعلمه الأزلي علم أن بعض العباد مع إنزال الكتب وإرسال الرسل لا يَقبلون الإسلام، وإنما يُقبلون على الضلال، فخلقه لهم، أي: أذن في وقوع الضلال لهؤلاء؛ لأن الله تعالى بعلمه الأزلي السابق علم أنهم لا يقبلون هداية الإسلام، وإنما يَقبَلون ويُقبِلون على الضلال؛ فخلق الله بعلمه الأزلي السابق الضلال، وخلق كذلك بعلمه الأزلي السابق الهدى، وكل ميسر لما خلق له.(56/7)
عدم جواز الاحتجاج بالقدر على المعاصي
[وعن ابن عباس قال: الزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة بقدر].
وهذا يدل على أن جميع المعاصي بقدر، ولا يعني أن هذه المذكورات فقط بقدر وما دونها ليس كذلك، بل هذه المذكورات على سبيل المثال في المعاصي، فكذلك سائر المعاصي كلها بقدر، أي: أن الله تعالى علمها، وعلم أن العبد الفلاني سيشرب الخمر ويزني ويسرق ويقتل ويأكل الخنزير، ويخالف بذلك آيات التنزيل؛ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، فكتب ما علم سبحانه وتعالى، وهذا لا يعني أن الله تعالى يحب الزنا أو شرب الخمر.
كما أنه لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعاصي، ويقول: كتب الله تعالى علي الزنا فزنيت، وكتب السرقة فسرقت، وكتب شرب الخمر فشربت؛ لأنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعايب، وإنما يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، فلان مرض عنده حمى عمل عملية جراحية، لأن الله تعالى قدر عليه ذلك؛ فيجوز لك أن تحتج بالقدر على المصائب.
أما إنسان يزني أو يسرق أو يقتل، فإذا سئل: لم فعلت هذا؟ يقول: أليس هذا مقدراً؟ طرح هذا السؤال بهذا النحو في هذا الموطن ليس من دين الإسلام ألبتة، وإلا لبطل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، وهدمنا الدين كله؛ ولذلك أهل العلم يقولون: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر، وأن كل شيء بقدر، لكن لا يجوز الاحتجاج به قط على وقوع المعصية، اللهم إلا أن يتوب منها، فيوقن حينئذ أنه بعد التوبة لم يكن قد ارتكب ما ارتكبه إلا بقدر، والتوبة تستجلب الحد، يعني: إذا أقيم عليه الحد فهو كفارته، وإلا فإن كان هناك عجز عن قيام الحد -كما هو حال أمة الإسلام اليوم- فلا أقل من أن يتوب توبة نصوحاً بينه وبين ربه؛ فحينئذ يتوب الله تعالى عليه.
[قال ابن عباس: ما في الأرض قوم أبغض إلي من قوم من القدرية؛ يأتونني يخاصمونني -يعني: يجادلونني وينازعوني- وذاك أنهم أحسب لا يعلمون قدرة الله عز وجل] يعني: أنا على يقين أن هؤلاء لا يعلمون أن الله على كل شيء قدير، ويشكون في قدرة الله.(56/8)
معنى قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)
قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، هذه الآية تشير إلى أفعال الله تعالى: إدخال الله تعالى لبعض خلقه الجنة، وللبعض الآخر النار، فهذا من أفعال الله، فهو قادر على ذلك، ولو أن الله تعالى أدخل الطائعين النار، وأدخل العصاة الجنة لا يكون ظالماً لأحد الطرفين، بل فعل ذلك لحكمة وعدل، لأن اليقين أن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وأن الله تعالى منزه عن جميع صفات النقص، متصف بجميع صفات الكمال، ولما كان الأمر كذلك؛ جل ربنا تبارك وتعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل المؤمنين النار، فجعل الجنة لأهل الإيمان والتوحيد، وجعل النار لأهل الكفران والإلحاد والعصيان.
وهذا من تمام وكمال عدل الله عز وجل في أهل النار، ومن كمال وتمام فضل الله عز وجل على أهل الجنة، وإلا فلو عمل العاملون بطاعة الله تبارك وتعالى منذ أن خلقوا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا يستحقون بذلك الجنة، ولكنها فضل الله عز وجل؛ ولذلك قال ابن عباس في قول الله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]: السر هو ما أسره الإنسان في نفسه، ولم يطلع أحداً عليه؛ فهذا يسمى: سراً، والله تعالى هو الذي يعلمه، وهناك من الأمور في حياتي ما لا أعلمها أنا، وما فكرت فيها أصلاً، والذي يعلم أني غداً سأفكر في كيت وكيت هو الله.
فهذا خفي علي من أمري ومصالحي وحياتي، وأنا ما فكرت فيها، ولا أعلم منها شيئاً، وقد علم الله أني سأفعل كذا غداً وبعد غد حتى آخر لحظة في حياتي، فعلم الله تعالى وسجل حياتي قولاً وعملاً حركة وسكوناً، وأنا لا أعلم من حياتي إلا ما قد وقع بالفعل؛ فيصلح في حقي أني لا أعلم شيئاً، وأن الأمر بالنسبة لعلمي وإرادتي أنف، أي: لا أعلمه إلا بعد الوقوع، وأما الله تعالى فإنَّ علمه الأزلي سابق في خلقه، فقد علم ما كان منهم وما يكون، وما سيكون منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.(56/9)
معنى قوله تعالى: (يعلم السر وأخفى)
[قال ابن عباس في قول الله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] قال: السر: هو ما أسره الإنسان في نفسه، {وَأَخْفَى} [طه:7] أي: ما لم يكن وهو كائن] يعني: ما لم يكن في الماضي وهو كائن الآن وفي المستقبل؛ يعلمه الله عز وجل.
[وعن ابن عباس قال: كلام القدرية كفر].
أي: أن نفي العلم عن الله، ونفي الكتابة التي كتبها الله تعالى في اللوح المحفوظ والرق المنشور كفر بالله تعالى.
قال: [وكلام الحرورية -أي: الخوارج- ضلالة، وكلام الشيعة هلكة]، وستأتي هذه الفرق معنا بإذن الله تعالى.
قال: [لا أعرف الحق إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم من الأمور إلى الله] يعني: هذا هو عين الحق، فالذين يكلون أمورهم كلها إلى الله عز وجل هم قوم قد آمنوا بالله.
قال: [وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقضاء الله وقدره] وكل شيء بقدر، حتى وضعك يدك على خدك، يعني: أو عبثك بلحيتك، كل هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، فشخص الآن جالس يريد أن ينام لأنه مرهق هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، وآخر قعد وهو منتبه وحريص جداً على سماع كل كلمة مكتوب في اللوح المحفوظ؛ ليدل على تمام علم الله تعالى، وتمام قدرة الله، وأنها نافذة في خلقه لا محالة.(56/10)
إثبات عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهم للقدر
[وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: من كان يزعم أن مع الله قاضياً أو رازقاً، أو يملك لنفسه ضراً أو نفعاً؛ أخرس الله لسانه، وجعل صلواته هباء، وقطع به الأسباب، وأكبه على وجهه في النار.
وقال: إن الله عز وجل خلق الخلق وأخذ منهم الميثاق وكان عرشه على الماء].
[وقال أبو سعيد الخدري رحمه الله: لو أن رجلاً صام النهار وقام الليل ثم كذَّب بشيء من القدر؛ لأكبه الله في جهنم رأسه أسفله] يعني: يكبه في جهنم بحيث يكون رأسه إلى الأسفل، اللهم سلم يا رب! [وعن أبي الدرداء قال: أي رب! لأزنين، أي رب! لأسرقن، أي رب! لأكفرن.
وقال أبو هريرة: أي رب! لأسرقن ولأزنين؛ فقيل: يا أبا هريرة! أتخاف؟ قال: آمنت بمحرف القلوب].
أي: آمنت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، يجعل العفيف خبيث النفس، ويجعل الخبيث طيب النفس؛ كل ذلك بقدر، الإنسان يجاهد نفسه ألا يزني فيزني، ويجاهد ألا يسرق فيسرق، وغير ذلك من أعمال الطاعة وأعمال المعصية، ويذهب إنسان ليسرق؛ فيصرفه الله، ويحاول إنسان ألا يقع في المعصية فيقع في المعصية، فإذا كانت الطاعة والمعصية بيد الله عز وجل، وأن الله تعالى هو الذي يقدرها لعباده وعلى عباده؛ فينبغي أن يكون الملجأ والملاذ إلى الله عز وجل.
وإذا كان الله تعالى هو الذي يملك الجنة والنار، والثواب والعقاب، والخير والشر، والطاعة والمعصية؛ فينبغي ألا يكف المرء في قيامه، ولا في نومه وحركاته وسكناته أن يتضرع إلى الله عز وجل أن يعصمه من الذنوب، وأن يوفقه دائماً للطاعات، فنؤمن حقيقة أن كل شيء بقدر، وأن الله تعالى هو الذي قدر الأمور كلها، وقدر لها أسبابها.
[وقال عمرو بن دينار: سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: إن الله هو الهادي والفاتن].
أي: أن الله تعالى هو الذي يهدي العباد وهو الذي يفتنهم، فالهداية مخلوقة خلقها الله، والفتنة مخلوقة خلقها الله.
[وعن طاوس قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، حتى العجز والنشاط].
أي: الإنسان لما يشعر بأن عنده فتوراً، ولا يقدر أن يقضي مصالحه وهو يسير بالعافية، فهذا مكتوب في اللوح المحفوظ، وهذا مخلوق في العبد، بسبب أو بغير سبب، والنشاط والقوة بسبب أو بغير سبب، والذي خلقها وركبها فيك هو الله عز وجل.
والعجز في ظاهر النص هو الضعف أو الخمول، والخمول هذا مخلوق، والله تعالى هو الذي خلقه وركبه فيك، ومهما اتخذت من أسباب فلن تنجو من هذا إلا بأن يكون الله تعالى كتب لك الانتقال من العجز إلى النشاط.
واحد يقول: أنا لم أنم طوال الليل، ولما صليت الفجر ورحت أنام لم يأتني النوم، وأحسست بمنتهى القوة والنشاط فأنا مستعد أن أواصل اليوم بدون نوم؛ فالنشاط هذا مخلوق، مع أنه مناف لأسباب النشاط ومنها: أن تنام جيداً، وأن تأكل جيداً، وأن تمارس الرياضة جيداً.
وليس معنى ذلك أن يقول شخص: أنا سأترك الأكل والشرب، وسأرى هل النشاط سيأتي أو لا؟ لا، ليس بلازم، وإنما أردنا أن نبين أن العجز والكيس مخلوقان، فالذي خلقهما هو الله عز وجل، فالله هو الذي خلق الطاعة والمعصية والإيمان والكفر، وما من شيء إلا وخالقه الله عز وجل إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، طاعة أو معصية إيماناً أو كفراً ثواباً أو عقاباً جنة أو ناراً ملكاً أو نبياً أو شيطاناً؛ كل ذلك فالله تعالى هو الذي خلقه وأراده وقدره، وأما الخير فأراده الله تعالى إرادة شرعية دينية، وأحبه ورضيه وأمر به، والشر أراده إرادة كونية قدرية، بمعنى: أنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله عز وجل، لكن هذا محل سخط الله عز وجل، وتحذيره ووعيده وعقابه، ويقذف أهله في النار ولا يبالي غير ظالم لهم، فلا بد أن تعتقد صحة ما قلنا؛ لأن هذا هو الإيمان بالقدر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(56/11)
الأسئلة(56/12)
حكم نظر الرجل إلى فرج امرأته
السؤال
ما صحة هذا الحديث: (يا أيها الناس! إن الله أمرني أن أعلمكم مما علمني، وأؤدبكم مما أدبني، فلا يكثرن أحدكم الكلام عند الجماع؛ فإنه يكون منه خرس الولد، ولا ينظرن أحدكم إلى فرج امرأته إذا هو جامعها؛ فإنه يكون منه العمى، ولا يقبلن أحدكم امرأته إذا هو ضاجعها؛ فإنه يكون منه صمم الولد، ولا يديمن أحدكم النظر في الماء؛ فإنه يكون منه ذهاب العقل)؟ وما رأيكم في كتاب: وصايا الرسول للشيخ محمد خليل الخطيب؟
الجواب
أنا لا أعرف صاحب الكتاب ولا الكتاب، وأما الحديث الأول فهو حديث موضوع، والصواب -وهو مذهب جماهير العلماء- أنه لم يصح حديث في النهي عن نظر الزوج إلى فرج زوجته، فالنظر إلى فرجها جائز بلا خلاف بين من يعتد برأيه.(56/13)
حكم كشف بطن قدم المرأة وهي في الصلاة
السؤال
إذا صلت امرأة في بيتها؛ وفي أثناء الصلاة كشف بطن القدم ولا يراها أحد، فهل تصح الصلاة أم تبطل؟
الجواب
هذا محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب تغطية باطن القدم.(56/14)
حكم العمليات الاستشهادية في فلسطين
السؤال
الشباب الفلسطيني الذين يفجرون أنفسهم هل هم شهداء؟
الجواب
نعم، نحسبهم عند الله تعالى شهداء، وهذه العمليات عمليات استشهادية جهادية وليست عمليات انتحارية، هذا الذي يترجح لدي، وأما الدليل عليه فقد سبق أن تكلمنا عنه بالتفصيل في محاضرة المؤتمر الذي انعقد في هذا المكان في شهر أغسطس الماضي.(56/15)
حكم العادة السرية
السؤال
أنا شاب عندي تسعة عشر عاماً؛ أفعل العادة السرية، كيف أمتنع من هذه العادة؟ وكيف أحافظ على الصلاة وأترك المعاصي؟
الجواب
العادة السرية محرمة في أرجح أقوال أهل العلم، وهو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، فقد اعتمد في ذلك على قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فهذا اعتداء على أعضاء الإنسان بما لم يجزه الشرع؛ لأن الشرع ما أجاز هذا إلا في إتيان الزوجة أو في إتيان ملك اليمين، وما فوق ذلك فهو حرام.
وأما ما جاء عن عبد الله بن عباس وابن عمر أنهما سئلا عن ذلك فأجازاه في رواية، ومنعاه في أخرى، فالجواز والمنع متعلق بالضرورة، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أيجلد أحدنا عضوه في الجهاد؟ وذكر الجهاد لأن النساء لا يخرجن إلى الجهاد؛ فيكون في ذلك شيء من العنت والمشقة، وربما أوقع الإنسان في حرج، أو ربما طلب الإنسان العودة إلى أهله وترك الجهاد؛ فأذن في ذلك ابن عباس، كما أذن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في أن يجلد الإنسان عميرة، هكذا سماه.
قالوا: يا أبا عبد الرحمن! أيكون أحدنا في الفتنة -أي: تعرض عليه فتنة النساء- فإما أن يزني وإما أن يجلد؟ قال: أجلد عميرة؟ قالوا: نعم، قال: اجلد عميرة.
ولكن لو أنك نظرت إلى أصل المسألة: إما أن يزني، وإما أن يستمني؛ فحينئذ على قاعدة ارتكاب أخف الضررين الاستمناء أرحم بكثير، ولا مقارنة بينه وبين الزنا، فلو أن المرء فعل ذلك فانطفأت نار شهوته، وابتعد عن الزنا؛ لكان ذلك أولى، وليس هذا يعني أن الاستمناء حلال أو جائز، هو جائز إذا كان هناك خروج من مأزق شرعي خطير كارتكاب كبيرة الزنا، وأما في الأصل فالأصل أنه حرام.
ويستعين الإنسان على ذلك بأنه لا ينظر في المجلات المتخصصة في هذا البلاء المجلات التي تعرض الصور العارية، وهذه المجلات أمثال الصحف القومية الآن، فمثلها مثل أي مجلة جنسية، ومن ذلك تلك المجلات التي تزعم أنها مجلات إسلامية، فقد عرضت كثير من المجلات الشرعية والإسلامية بعض الصور لفاتنات وغير ذلك تحت باب الدعاية والإعلان وغير ذلك، فهذا بلا شك بلاء عظيم جداً أوشك أن يدخل إلى تلك الجرائد والصحف الإسلامية، فنسأل الله العافية والسلامة.
فحينئذ يستعين المرء على ترك هذه العادة بألا ينظر في هذه الصور والمجلات والجرائد مطلقاً؛ لأنها تؤدي به إلى المحظور الشرعي، ومجرد النظر إلى هذه الصور محظور شرعي، بل إن ابن القيم عليه رحمة الله ما ألف كتابه العظيم: (الداء والدواء) أو (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي) إلا لبيان أمراض القلوب خاصة عشق الصور.
وإخواننا -الله يغفر لهم- في بلاد أوربا وأمريكا مفتونون بالصور، فالمجلات القبيحة تلقى إليهم على أبواب العمارات وأبواب الشقق حتى صار الوضع عندهم مألوفاً جداً، وأنا أستغرب جداً أن تصير المعصية مألوفة، ففي إحدى الزيارات للإخوة في مدينة شيكاغو وجدت بعض الإخوة أتوا بمجلة جنسية، وفي الغالب لا يوضع عليها دبابيس، وصاروا يفرشون سفرة الطعام بهذه المجلة، وفيها صور لا يمكن النظر إليها، فقلت لهم: ماذا تفعلون؟! فلما ألفوا ذلك قالوا: أنت زعلان من هذه الصور! قلت: هذا شيء مقبول عندكم أم ماذا؟ قالوا: نحن متأسفون، فهم ناسون تماماً احترام شعور الضيوف، قالوا: لو قعدت هنا سنة أو سنتين فستألف هذا الوضع ويكون طبيعياً جداً.
ثم قام واحد منهم وشقق الستارة وقال: تعال انظر إلى هذه الصور صورناهم وهم يمشون في الشوارع، فقلت: والله ليس لكم إلا الهجرة من هذه البلاد، وهم في الحقيقة يقبلون كل شيء إلا أن تأمر أحدهم بأن يترك البلاد إلى بلاد الإسلام، ومهما كان في بلاد الإسلام من بلاء وفتن فيبقى فيها الرحمة، وتبقى فيها شعائر الإسلام قائمة، وهذا يكفيك، فأنت لما تروح دولة مثل أمريكا تقعد عشر سنين لا تسمع أذاناً، فماذا سيكون حال قلبك لما تقعد عشر سنين لا تصلي جمعة ولا غير جمعة؟ لأنك ذهبت إلى مدن ليس فيها مساجد، ولا حتى شقة يجتمع فيها المسلمون نهائياً، فقلت لهم: كيف تصلون صلاة الجمعة؟ قالوا: نحن لا نصلي الجمعة، وكل واحد يصلي في بيته، ويكون يوم المنى لما يجتمعون على الغداء يوم السبت يوم الإجازة أو الأحد في بيت أحدهم، فتجتمع ثلاث أو أربع أسر فتصير هذه فرحة ما بعدها فرحة، وأما هذا الاجتماع الذي نحن مجتمعين فيه هذا الوقت لو اجتمعوه هناك يمكن ألا يتمالكوا أنفسهم من الفرحة، فالحمد لله نحن في نعمة عظيمة جداً والله.(56/16)
حكم صلاة الجمعة على المسافر
السؤال
هل يجوز قصر صلاة الجمعة أثناء رحلة جامعية بغرض الدعوة؟
الجواب
كم عدد ركعات صلاة الجمعة حتى تسأل عن قصرها؟! هي كلها ركعتان، والقصر لا يكون إلا في الصلاة الرباعية، فإذا كنت في سفر فأبشر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا جمعة على مسافر)، فالمسافر إذا صلى الجمعة فيكون هذا من باب الاستحباب، وليس من باب الوجوب، خلافاً للمقيم.
والرحلة الجامعية بغرض الدعوة مشروعة، وسبيل الدعوة لا بد أن يكون مشروعاً، ولا يمكن قصر الجمعة إلى ركعة واحدة.(56/17)
الرد على من يخصص الإمام علياً وأولاده بالسلام
السؤال
يا شيخ! مع المعذرة، تخصيص سيدنا علي وأولاده إحدى عشرة مرة بلفظ الإمام يوحي بالتشيع، كقول المرء عنهم: عليهم السلام، وفضيلتك يعلم أنه يجب البعد عن ذلك، وذلك ورد في فتوى هيئة كبار العلماء في الرد على أشرطة طارق السويدان؟
الجواب
أنا لم أقل هذا، وقد ذكرت هذا ورديت عليه، فواضح أن الأخ كان نائماً وصحا على كلمة الإمام.(56/18)
حكم متابعة الإمام إذا زاد ركعة ناسياً
السؤال
هل يتابع الإمام في صلاته إذا زاد ركعة ناسياً؟ وماذا على المأموم في ذلك إذا فعل؟
الجواب
لا يتبع المأموم الإمام في الزيادة إذا قام إلى الخامسة مثلاً، بل ينبه الإمام بأن يجلس في التشهد، فإذا لم يجلس واستمر في صلاته؛ بطلت صلاته وصلاة المأمومين، وهذا الذي استظهره ابن قدامة في المغني، وهو الراجح.(56/19)
حكم من نذر أن يذبح ثم رأى أن يتصدق بثمن الذبيحة
السؤال
نذر شخص أن يذبح، ثم رأى أن يخرج ثمن الذبيحة لذوي الحاجات أفضل، فهل يجوز ذلك؟ وما عليه في هذه الحالة؟
الجواب
لا يجوز له ذلك، بل الذي يجب عليه أن يفي بعين النذر ما دام قادراً ومستطيعاً.(56/20)
حدود اللحية
السؤال
ما حدود لحية الوجه، هل هي شعر اللحيين فقط؟
الجواب
اللحية هي شعر اللحيين مع العارضين، أي: الخدين مع الذقن، هذه هي حدود اللحية.(56/21)
حكم النقاب
السؤال
فتاة تريد أن تنتقب، وقد كانت متبرجة سافرة، فهل تنتقب مباشرة أم ماذا؟
الجواب
الذي أعتقد أن النقاب واجب، فلو أنها فعلت ذلك لأدت ما عليها، نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياها.(56/22)
درجة حديث: (لا راد لقضاء الله لا حيلة في الرزق)
السؤال
حديث قدسي: (لا راد لقضاء الله لا حيلة في الرزق لا شفاعة في الموت لا سلامة من ألسنة الناس لا راحة في الدنيا) هل هناك راحة في الدنيا أم لا؟
الجواب
لا راحة للمؤمن حتى يضع رحله في الجنة، هذا كلام أهل العلم، وأما هذا الحديث فهو حديث غير ثابت عن الله عز وجل؛ فهو حديث ضعيف.(56/23)
حكم دعاء القنوت قبل الركوع وبعده
السؤال
رجل يقصد القنوت -يعني: الدعاء- فقنت بعد الركوع في الركعة الثانية، ثم تذكر وأتم القنوت، ثم صلى الركعتين الباقيتين ثم سلم، فما صحة صلاته؟
الجواب
الصلاة صحيحة، وإن كان الأصل أن يتم ذلك قبل الركوع من الركعة الأخيرة، وإذا تم بعد الركوع فلا بأس.(56/24)
حكم أداء أذكار الصباح والمساء جماعة بصوت واحد
السؤال
ما حكم أذكار الصباح والمساء جماعة بصوت واحد؟
الجواب
هذه بدعة لم يكن عليها السلف، إلا أن يكون ذلك على سبيل التعليم.(56/25)
حكم تلاوة ورد الرابطة قبل صلاة المغرب
السؤال
وما حكم تلاوة ورد يسمى الرابطة، يفعله بعض الملتزمين قبل صلاة المغرب كل يوم؟
الجواب
أنا أشعر أن هذا منهج المتصوفة، وليس من الملتزمين، ثم ما هو ورد الرابطة؟ فالأوراد المشروعة هي التي جاءت في الكتاب والسنة.(56/26)
حكم تصرف المستأجر بالعين المؤجرة إذا أذن المؤجر
السؤال
استأجر رجل مع شريك له محلاً تجارياً منذ عشر سنوات، ثم دفع أحدهما للآخر مبلغاً من المال وأصبح هو المستأجر بمفرده، ثم أنفق على هذا المحل حوالي عشرة آلاف جنيه، فهل يجوز أن يعطي هذا المحل لمستأجر جديد ويأخذ مالاً مقابل هذا مع علم صاحب العقار؟
الجواب
إذا أذن في ذلك صاحب العقار وإلا فلا.(56/27)
حكم استعمال العقاقير الطبية لمنع نزول الحيض عند أداء العمرة
السؤال
امرأة تريد أن تذهب إلى أداء العمرة، وهي تعلم أنها أثناء العمرة سوف تكون حائضاً، فماذا تفعل: هل تذهب أم لا؟ مع العلم أنها إذا لم تذهب الآن لا تتوفر لها ظروف أخرى للسفر؟
الجواب
تذهب وتأخذ عقاقير طبية تمنع نزول الدورة؛ حتى تؤدي العمرة.(56/28)
معنى كلام شيخ الإسلام: من قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات
السؤال
ما معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد السابع في كتاب الإيمان: من قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات؛ سواء جعل فعل تلك الواجبات لازماً له أو جزءاً منه؛ كان مخطئاً خطأً بيناً، وهذه بدعة الإرجاء؟
الجواب
هذا الكلام جميل جداً، وحاصل ذلك: أنه إذا كان الإيمان قولاً وعملاً فكذلك الردة تكون بالقول وبالعمل، وهذا شرحه يطول، وأظن أننا قد تكلمنا فيه مراراً لما كنا نتكلم عن الجزء الأول والثاني من كتاب الإبانة.(56/29)
حكم من يصلي ويسب أمه
السؤال
رجل يصلي ويسب أمه، ويسب جدته ويضربها، ويغيظ إخوته، فهل تقبل صلاته؟ وكيف يمنع من ذلك؟
الجواب
إذا كان هذا الرجل يصلي ويصوم لكنه يسبُّ أمه التي لا دخول له الجنة إلا بها وبرضاها، وكذلك يسبُّ جدته ويضربها ويغيظ إخوته هذا إنسان سيئ الخلق، وينبغي أن يؤدب بالطريقة اللائقة.(56/30)
حكم العمل في شركة سياحة
السؤال
أعمل محاسباً في شركة سياحة، مع العلم أنني كنت لا أعمل لفترة طويلة ولم أجد عملاً غيره، فهل مرتبي حلال أم ماذا؟
الجواب
مسألة الحل والحرمة متعلقة بنوع العمل الذي تعمله، أو بالعمل الذي تقوم به الشركة، وشركات السياحة على ألف لون في العمل، فهل هذه الشركة تقوم بالعمل السياحي المشروع المأذون فيه شرعاً، أم أنها غير ذلك؟(56/31)
حكم الاستخارة في الحضور لأحد المشايخ الذي يحذر من بعض العلماء
السؤال
هل يجوز الاستخارة في الحضور لأحد المشايخ وهو يحذر من بعض الشيوخ، ويقول: إنهم ليسوا من أهل السنة، وأنا لا أعرف من هو على الحق؛ لأني لا زلت مبتدئاً في الالتزام؟
الجواب
لا يا أخي! احذر ممن حذرك منهم، فإنهم أهل السنة وليسوا بخوارج.(56/32)
حكم حلق اللحية لمن كان في الجيش
السؤال
أنا شاب ملتح وسأذهب إلى الجيش إن شاء الله تعالى، فهل أحلق لحيتي أم ماذا؟
الجواب
لا خيار لك، فهذا أمر مفروض علينا وعليكم.(56/33)
الرد من زعم أن أمريكا هي المسيح الدجال
السؤال
لماذا لا تكون أمريكا هي المسيح الدجال، خاصة وأن قسوتها وفتنتها بدأت في أفغانستان، أي: في المنطقة التي تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بظهوره وسطوعه وخروجه منها، وأن بعض المفسرين الإسلاميين الكبار من علماء الأزهر الشريف سبق وأن أكدوا أن المسيح الدجال ليس بالضرورة أن يكون رجلاً من لحم ودم، بل من الجائز أن يكون ظاهرة أو قوة؟
الجواب
هذا كلام باطل، وحتى لو قال الأزهريون ذلك فهو كلام باطل، والمسيح الدجال له أوصاف وعلامات، وهو من لحم ودم، فقد يكون ابن صياد وقد يكون غيره، وهذه المسألة محل نزاع: هل المسيح الدجال هو ابن صياد المذكور في صحيح مسلم في كتاب الفتن أم غيره، هذا محل نزاع بين أهل العلم، فلا نجزم بواحد من القولين، والعلم عند الله تعالى.
ويؤسفني جداً أني سمعت بعض المشايخ في أحد الأشرطة يقول: أمريكا هي المسيح الدجال، فسألته: لم؟ قال: لأن المسيح الدجال ليس شخصاً، وإنما هو قوة عظمى، واحتج بكلام بعض علماء الأزهر الذين ماتوا، فقلت له: هم قد أفضوا إلى بارئهم، ولا شك أن كلامهم خطأ.(56/34)
حكم تخصيص علي بن أبي طالب بعبارة: كرم الله وجهه
السؤال
عند ذكر الإمام علي يقال كرم الله وجهه دون باقي الصحابة، لم ذلك؟
الجواب
نحن لا نوافق على ذلك، فـ علي بن أبي طالب وأهل بيته من الصحابة، وحكمهم كبقية الأصحاب، فيقال عنهم: رضي الله عنهم.(56/35)
حكم العمل في الإدارة العامة للأمن المركزي
السؤال
يقول: أعمل محاسباً مدنياً في الإدارة العامة للأمن المركزي، مع العلم أني جاهدت حتى انتسبت إلى هذا العمل بلحيتي، فهل يجوز العمل هناك؟
الجواب
نعم يجوز.(56/36)
الحكم على حديث: (عمار بيت المقدس خراب يثرب)
السؤال
( عمار بيت المقدس خراب يثرب)، هل هذا حديث؟ وهل هو صحيح؟
الجواب
نعم، وكأن المعنى: أن علامة خراب يثرب -أي: المدينة- سيوافق عمارة بيت المقدس.(56/37)
حكم الجمع بين الظهر والعصر والمغرب
السؤال
أعمل في الوردية الليلية؛ ولذلك أجمع الظهر والعصر، وأحياناً المغرب، فهل هذا حلال أم حرام؟ وما الحل؟
الجواب
جمع الظهر والعصر والمغرب ليس مشروعاً ولا مسنوناً، بل المشروع جمع الظهر والعصر في وقت أحدهما، والمغرب والعشاء في وقت أحدهما، وأما أن تجمع ثلاثة فروض فلا وألف لا، فلو أنك فصلت السؤال لفصلنا الجواب.(56/38)
حكم التحدث تلفونياً بين الرجل وخطيبته
السؤال
ما حكم التحدث بين الرجل وخطيبته في التلفون، هل هو خلوة غير شرعية؟
الجواب
بلا شك أنه ليس خلوة، لكنه كلام مع أجنبية لغير ضرورة.(56/39)
المبرر للحملة الشعواء ضد كتاب هرمجدون
السؤال
هل هناك مبرر للحملة الشعواء ضد كتاب هرمجدون ومؤلفه، رغم اعتماد المؤلف في كتابه على أحاديث معظمها في الصحيح، وعلى بعض الآثار للإمام نعيم بن حماد شيخ البخاري، والتي قد حدث الكثير منها بالفعل، فما القول الفصل في هذا الأمر؟
الجواب
الحقيقة طرح السؤال بهذا الأسلوب يدل على سوء أدب الكاتب أو السائل.
أما كتاب هرمجدون فليس بأفضل من كتبه السابقة، فهو كتاب قد امتلأ بالتزوير الشرعي والتاريخي للأحداث والنصوص الشرعية، فمؤلفه قد حشد وجيش الجيوش في أول الصفحات؛ حتى لا ينتقده أحد، وهذا ليس منهجاً علمياً ولا أدبياً، ثم ذهب يمدح نعيم بن حماد بما يخالف به جماهير النقاد من حكمهم على نعيم بن حماد بأنه ضعيف في الرواية، ولكنه يبرز نعيم بن حماد دائماً ويقول: وهو شيخ البخاري، وما معنى قوله: شيخ البخاري؟ يعني: لا يكون ضعيفاً، وقد حدث البخاري عن كل الثقات، وليس في مشايخه أحد من الضعفاء، وهذا غير صحيح، فـ نعيم بن حماد عند جماهير النقاد ضعيف، وهو القول المعتمد، ولا يحتج بروايته خاصة إذا انفرد.
ثم هذه المخطوطات وهذه المصادر التي اعتمد عليها الكاتب أو المؤلف أين هي في عالم الكتب وعالم التوثيق؟ لا ندري، ويقول: المخطوط عندي، فأقول: ماذا تصنع به؟! لمَ لمْ تخرجه إلى الوجود؟ ثم إن هذا المخطوط مداره على نعيم بن حماد، ويذكر فيه حديثاً طويلاً جداً للنبي عليه الصلاة والسلام يبين فيه أحداث آخر الزمان، فيأخذ من الصدام أنه صدام، ويأخذ من السادات أنه أنور السادات، ويأخذ من الناصر أنه عبد الناصر! وهو بهذا قد ظلم مبارك؛ لأنه لم يذكره مع هذه الإنجازات العظيمة، ولا حتى بالشر فضلاً عن الخير، فلم يذكره بشيء.
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتكلم إلا عن مصر فقط، فلم تكن هناك دولة من دول الإسلام إلا مصر فقط، وكان الناقص في هذا المخطوط أن يأتي بعناوين وتلفونات هؤلاء الرؤساء، هذا ما نقص هذا المخطوط! فهذا كلام سخيف وبارد جداً، ولا أتصور أن عاقلاً يكتب هذا الكلام.
وللأسف الشديد أن هذه الكتب لها من يهتم بها كثيراً؛ لخلو هؤلاء من التأصيل العلمي، بل أكثر من ذلك، ولا أريد أن أستفيض في هذا.(56/40)
الحكم على حديث: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)
السؤال
( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، هل هذا حديث صحيح؟
الجواب
هذا الحديث ضعيف.(56/41)
حكم المظاهرات الجماهيرية
السؤال
في جامعة الأزهر هناك بعض الشباب يسمون بجند النصر المنشود، يشددون على قضية فلسطين عند دعوة بعض الشباب الذين يدعونهم، وأكثرهم لا يصلون، فهل طريقتهم في الدعوة صحيحة؟
الجواب
جيل النصر المنشود في جامعة الأزهر أو في غير جامعة الأزهر هم جيل المظاهرات، ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً أن المظاهرات عمل غير مشروع، ولا مستند لها في الشرع لا من كتاب ولا من سنة، ولا حتى في فعل السلف، فليس عليها أي دليل، هذا من جهة الشرع.
ومن جهة الواقع وقياس المصلحة والمفسدة؛ هذه المظاهرات ليس من ورائها أي مصلحة، فلم تحقق شيئاً، فالأمة لها الآن فوق الخمسين سنة تتظاهر، فماذا أثمرت من مصالح عامة أو خاصة هذه المظاهرات؟ ليس هناك أي مصلحة.
وأما المفسدة فهناك مفاسد كثيرة جداً، وآخرها موت اثنين من المتظاهرين في الإسكندرية، فلحساب من ولمصلحة من؟ هذا أمر ينبغي الوقوف عنده، وهذا مخالف لقاعدة: (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، فما بالك وليس هناك مصلحة! ثم الأصل الثالث وهو: من المتظاهر؟ شاب ماجن فاسق مطارد للبنات تارك للصلاة والصيام محاد لله ورسوله، وكذلك الفتاة، حتى في المظاهرات نفسها تجد الولد يأخذ البنت فوق كتفه وهو يظاهر! فماذا نصنع بهؤلاء؟! أنا أريد أن أعرف ماذا تريدون؟ هو حماس وعاطفة فقط، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فالجهاد ليس مطلوباً لذاته، وإنما هو مطلوب لأجل أن نحقق العبودية الكاملة لله عز وجل، فلماذا تظاهر وأنت تارك للصلاة والصيام، وأنت إنسان فاجر في أقواله وأفعاله، ولو رأيته في الأيام العادية لوجدته قاعداً في أحضان ثلاث أو أربع من البنات، وفي المظاهرات نفسها ترتكب أشياء كثيرة من ذلك، فماذا تريد من المظاهرة يا بني؟ هذا تشويش.
ولذلك قلَّ أن نجد واحداً منكم في مظاهرة؛ لأنها لو كانت طاعة لكنا نحن أولى الناس بهذه الطاعة، ومهما ترتب عليها من نتائج فهي طاعة ويكفي، فمجيئنا نصلي في المسجد مغامرة، وكذلك قعودنا في هذه الدروس مغامرة أيضاً، فلو كانت هذه المظاهرات مشروعة لغامرنا فيها وليحصل ما يحصل، لكن لما كان اعتقادنا أنها غير مشروعة فلا مشاركة لنا فيها، ولا موافقة لنا عليها، فهذا عمل غير مشروع.
والجهاد لا يراد لذاته، وإنما يراد للتمكين في الأرض الذي يؤدي إلى عبودية الله تبارك وتعالى العبودية الحقة، وهؤلاء لا لهم علاقة بالعبودية، ولا بالصلاة والصيام، وهم شباب تافه جداً، لكن كوننا ننكر على هؤلاء الشباب أفعالهم غير المنضبطة على أصول الشرع؛ كذلك ننكر الطريقة الهمجية جداً التي تقابل بها تلك المظاهرات، فننكر على الطرفين، ولا بد من فتح مائدة المفاوضات، ولماذا مائدة المفاوضات ليست فاضية ودائماً مشغولة، ويقابل هؤلاء بالقنابل المسيلة للدموع، وأحياناً بضرب النار؟! مع أن القانون يقول: إن ضرب النار في المظاهرات لازم يكون تحت الرجلين، فما الأمر الذي جعل ضرب النار يكون في الصدر وما قابله؟! وهل يأمن الذين تصدوا لهذه المظاهرات أن يقابلوا من هؤلاء الشباب بمثل أعمالهم فتكون هناك مجزرة دموية؟ ومن المستفيد منها في النهاية؟ فهذا أمر لا نوافق عليه ألبتة لا من هنا ولا من هناك.
وأريد أن أقول لك: لا تفترض فرضاً نظرياً، فأنت تقول: ربما يكون فيها تأثير؟ فأقول: هل هذا التأثير وليد اليوم، أم أنه نتج من تتبع العادات؟ فالأمة لها خمسون سنة تتظاهر فماذا عملت؟ ومن الذي استجاب لها؟ فلم تثمر إلا الحنظل، وبعد كل مظاهرة نجد الثمرة مرَّة، فلماذا لا نتعلم؟ إن الحكومات الإسلامية لا تحترم شعوبها، ولا تحترم شعور الشعوب، ولا أعراف الشعوب، ولا أخلاق الشعوب أبداً، هؤلاء في واد والحكومات في واد آخر، ولا يوجد أي ثمرة حصلت نهائياً على مدار الخمسين سنة إلا ثمار الحنظل المر، فعلى الأقل نستفيد من التجارب السابقة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(56/42)
شرح كتاب الإبانة - ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين
الإيمان بالقدر خيره وشره من أركان الإيمان، وقد أطبق التابعون على إثبات القدر خيره وشره من الله، وأنه لا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فهو الفعال لما يريد، خلافاً للقدرية الذين يزعمون أنهم يخلقون أفعالهم من خير وشر، فقد جعلوا أنفسهم خالقين مع الله تعالى، مع أنه سبحانه هو خالق الخير والشر، وإرادته للخير إرادة شرعية، وإرادته للشر إرادة كونية قدرية، فهو يقدر الكفر كوناً ولا يرضاه شرعاً سبحانه وتعالى.(57/1)
باب ما روي في الإيمان بالقدر والتصديق به عن جماعة من التابعين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الجزء العاشر من كتاب (الإبانة) وهو الثالث من كتاب القدر] وذكر فيه الإمام ثلاثة أبواب: قال: [باب ما روي في الإيمان بالقدر، والتصديق به عن جماعة من التابعين، وقول ابن سيرين، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، ووهب بن منبه، وطاوس اليماني، ومكحول، وعكرمة، وعطاء، وقتادة وغيرهم.
الباب الثاني: بيان مذهب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القدر، وسيرته في القدرية، وفيه رسالة لـ عبد العزيز بن الماجشون.
الباب الثالث: باب فيما يروى عن جماعة من فقهاء المسلمين ومذهبهم في القدر، وقول الأوزاعي].(57/2)
نسبة القدرية القول بالقدر إلى الحسن البصري وبطلان ذلك
قال: [الباب الأول: باب ما روي في الإيمان بالقدر، والتصديق به عن جماعة من التابعين.
اعلموا رحمكم الله! أن القدرية أنكروا قضاء الله وقدره، وجحدوا علمه ومشيئته، وليس لهم فيما ابتدعوه ولا في عظيم ما اقترفوه كتاب يؤمونه] يعني: ليس معهم دليل من الكتاب على إثبات مذهبهم.
ثم قال: [ولا نبي يتبعونه، ولا عالم يقتدون به، وإنما يأتون فيما يفترون بأقوال من أهوائهم مخترعة، وفي أنفسهم مبتدعة، فحجتهم داحضة -أي: ذاهبة لا قيمة لها- وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد، يشبهون الله بخلقه، ويضربون لله الأمثال، ويقيسون أحكامه بأحكامهم -أي: أحكام الله تعالى بأحكام العباد-، ومشيئته بمشيئتهم، وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؟ فيدعي أن إمامه في ذلك هو الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إماماً من أئمة المسلمين، وسيداً من ساداتهم وعالماً من علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان، ويرميه بالإثم والعدوان؛ ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه.
وأنا أذكر من كلام الحسن رحمه الله في القدر، ورده على القدرية ما يسخن الله به عيونهم، ويظهر للسامعين قبيح كذبهم إن شاء الله تعالى وبه التوفيق].
أي: أن أهل البدع دائماً يتشبثون بقول لرجل من أهل السنة، وهذه سمة وعلامة تميز أهل البدع دائماً: أنهم لا يركنون في الغالب في مواجهة الخصم إلى علمائهم؛ لأنهم يعتقدون أننا لا نعتبر علماءهم، فمثلاً: لو أراد شيعي أن يحاججنا في مسألة من مسائل النزاع لا يحتج بكلام أئمته، وإنما يحتج بكلام لإمام معتبر عندنا، وهذا المبتدع إما أن يكون فهم الكلام فهماً غير مراد، وإما أن يكون هذا النص عن إمامنا غير ثابت، وإما أشياء أخرى.
ولذلك إذا كان هناك نص في البخاري يدعو إلى محبة أهل البيت، فالشيعة يتشبثون جداً بهذا النص، ويلزموننا أن نكون وإياهم سواء في محبة أهل البيت، بدليل ما قد ورد في البخاري عندنا من وجوب محبة أهل البيت، نعم، نحن نحب أهل البيت، ونتقرب إلى الله بحبهم؛ فهم عترة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا بحبهم واتباعهم ما داموا على الكتاب والسنة، فالشيعة يحتجون بهذا.
ودائماً نقول لهم: لم تحتجون بحديث في البخاري؟ يقولون: لأنه كتاب معتمد عندكم، إذاً: إذا كان معتمداً عندنا فنحن الذين نحتج به لا أنتم، وإذا جاز لكم أن تحتجوا بما عندنا من أدلة؛ فإما أن تحتجوا بما في البخاري كله، وإما ألا تركنوا إلى دليل يوافق هواكم.
ولذلك من شأن أهل البدع أنهم ينتقون من كلام الخصم ما يوافق هواهم، ويغضون الطرف عن بقية كلامه، حتى وإن كان مناقضاً لما قد يحتج به الخصم، أو صاحب البدعة.
ظهر من الحسن البصري عليه رحمة الله كلام يفهم على وجهين، فقد تكلم في القدر بكلام محتمل، يعني: له وجه حسن ووجه غير حسن، وجه يوافق القدرية، ووجه يوافق أهل السنة فيما يتعلق بمسألة في القدر.
وإذا كان كلام الإمام الحسن البصري يفهم على وجهين فإنه يصار لما صرح به مراراً وتكرارً على جهة الإثبات، فهو له كلام في إثبات القدر لا نهاية له، وكلام محتمل يحتمل النفي ويحتمل الإثبات، فكلامه الذي يحتمل وجهين لا بد أن يحمل على كلامه الذي يحتمل وجهاً واحداً.
فأهل البدع احتجوا بكلام للحسن يحتمل وجهين، والقاعدة العلمية تقول: إذا كان الكلام يحمل عدة معان ولا مرجح ولا قرينة؛ فحينئذ هذا الموطن موطن نزاع ينبغي اعتباره واحترامه، لكن إذا كان الكلام يحتمل عدة معان، ولي كلام آخر ليس له إلا معنى واحد، فلا بد أن يحمل كلامي الغامض على كلامي الصريح الواضح.
هذه جزئية من الدفاع عن الإمام.
الجزئية الثانية: أنه قد ثبت بالنص الصريح الصحيح أن الحسن قال هذا الكلام في وقت غضب، ولا شك أن الرجل إذا قال كلاماً في وقت الغضب فإنه لا يدرك معناه، أو لا يقصد المراد منه ظاهراً، وهذا الكلام معفو عنه، ولذلك قال الأعرابي الذي فقد راحلته في الصحراء ثم وجدها: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فهل يحق لأحد أن يتشبث بهذا؟ لا، فكذلك لا يحق لأهل البدع أن يتشبثوا بكلام الحسن البصري عليه رحمة الله إمام البصرة في زمانه، وسيد معظم من سادات التابعين؛ لا يحل لهم أن يحتجوا بكلامه، وإلا لو جاز لهم أن يحتجوا بهذا لقلنا لهم: يجب عليكم أن تحتجوا ببقية كلامه، فلماذا انتقيتم منه هذا النص فحسب، بل له في القدر ما يزيد على مائة نص، فلم تحتجون بواحد وتنسون بقية هذا العدد؟ لا شك أن الحامل على ذلك هو مرض قلوبهم.
الأمر الثالث: أن الحسن قال ذلك في موعظة، وليس في مجلس علم، ليس في مجلس تقرير المسائل العلمية بأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، وإنما قال ذلك في مجلس وعظ، وذلك في مكة، والمعلوم أن مجالس الوعظ يتساهل فيها المرء في الوعيد الشديد، ويتعدى ربما الحد أو الخط ا(57/3)
أقوال الحسن البصري في إثبات القدر
قال: [عن حميد قال: كان الحسن يقول: لأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول: إن الأمر في يدي أصنع به ما شئت]، وهذا نص يبين اعتقاد الحسن أن الأمور كلها بيد الله عز وجل.
[وقال: من كذب بالقدر، فقد كذب بالقرآن].
والمعلوم أن من كذب بالقرآن فقد كفر.
[وعنه قال في قول الله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119] قال: خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار].
أي: قبل أن يخلقهم علم ما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، فجعل قسماً من خلقه في النار، وجعل قسماً من خلقه في الجنة قبل أن يخلقهم.
قال: [وعن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت مع الحسن، فقال لي رجل إلى جنبه: سله عن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، قال: فسألته عنها فقال: ومن يشك في هذا؟ ما من مصيبة بين السماء والأرض إلا في كتاب من قبل أن تبرأ النسمة] أي: من قبل أن يخلق الله تعالى فاعلها، علمها فكتبها، فهي عنده في كتاب مكنون وفي رق منشور.
قال: [وعن قرة بن خالد قال: سمعت رجلاً يسأل الحسن عن قول الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] قال: خلقهم للاختلاف] أي: لاختلاف مصائرهم: فهذا في الجنة وذاك في النار.
[وقال حميد: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله! وهل خالق غير الله؟ الله خلق الشيطان، والله خلق الخير، والله خلق الشر فقال الشيخ: قاتلهم الله كيف يكذبون على هذا الشيخ؟!] يعني: كيف يفتري القدرية الكذب على هذا الإمام الذي لم يقل يوماً من الأيام: إن الله تعالى لم يخلق الشر؟! [وقال ابن المبارك: جالست الحسن ثنتي عشرة سنة، فما سمعته يفسر شيئاً من القرآن إلا على إثبات القدر.
وعن يونس وحميد قالا: كان تفسير الحسن كله على الإثبات.
وعن منصور بن ذازان قال: سألت الحسن ما بين (الحمد لله رب العالمين) إلى (قل أعوذ برب الناس) ففسره على الإثبات].
يعني: سألته عن القرآن كله من أوله إلى آخره فما فسره إلا على جهة إثبات القدر.
[وقال حميد: كان الحسن يقول: لأن أسقط من السماء أحب إلي من أن أقول: الأمر بيدي، ولكن أقول: إذا أذنب أحدكم ذنباً فلا يحملنّ ذنبه على ربه، ولكن يستغفر الله ويتوب إليه] يعني: لا يحل لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية، وهذا الكلام قررناه من قبل، وقلنا: الاحتجاج بالقدر يكون على المصائب التي تنزل بالعبد دون المعايب التي تصدر منه.
قال: [وقال كثير بن زياد: سألت الحسن عن هذه الآية: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60] قال: هم الذين يقولون: الأشياء إلينا: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل] يعني نحن لنا مشيئة، ولا علاقة لله تعالى بأفعال العباد.
[وعن يونس بن عبيد عن الحسن في قول الله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:8 - 10] قال الحسن: قد أفلحت نفس أتقاها الله، وقد خابت نفس دساها الله].
يعني: الذي يلهم النفس تقواها وفجورها ويزكيها ويدسيها هو الله عز وجل.
قال: [وعن يحيى بن كثير العنبري قال: كان قرة بن خالد يقول لنا: يا فتيان لا تغلبوا على الحسن؛ فإنه كان رأيه السنة والصواب].
يعني: لا يضحك عليكم أحد ويقول: إن الحسن كان قدرياً، بل كان في باب القدر من أهل السنة، فلا يفتننكم أحد في هذا الإمام.
قال: [وقال عوف: سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، إن الله عز وجل قدر خلق الخلق بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى].
فمن يقول: إن الأمور كلها بيديه لا بد أنه سيبطل الأمر والنهي، ومن يقول: إن الله تعالى ما شاء الشر وما أذن في خلقه وإيجاده؛ فلا بد أنه يصل في نهاية الأمر إلى أن الأمر والنهي في الكتاب والسنة لا قيمة لهما.
قال: [وعن ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن ونحن عنده، فقال: يا أبا سعيد أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو إنها ل(57/4)
احتجاج أهل الباطل بالمتشابه والمحتمل من كلام العلماء والرد عليهم في ذلك
وهناك جماعة مبتدعة من الجماعات العاملة على الساحة لو أتيتهم وقلت لهم: إن عملكم هذا غير مشروع، ولا دليل عليه من الكتاب والسنة؛ قالوا: الشيخ ابن باز أفتى بمشروعية هذا العمل.
نقول لهم: هل تأخذون بكلام الشيخ ابن باز كله وبفتاواه كلها؟ لا، ونقول: لم لم يردوا إلى عالم من علمائهم؟ لأنهم يعلمون أنهم لا عالم عندهم ابتداء، ولكنهم يقولون: عندنا علماء، لكن حين النقاش والنزاع والمناظرة يعجزون أن يثبتوا أن في جماعتهم عالماً.
والعجيب كيف يكون هذا العمل صحيحاً وليس له رجل من أهل العلم يحله ويجيزه لهم؟! وأنا لا أتصور أن جماعة تحترم عقلها وتحترم منهجها لا يكون من بين أبنائها علماء، وبدل العالم عشرة وعشرون ومائة، لكنهم يحتجون بكلام رجل معتبر عندنا، ولا يحتجون بكلامه كله؟ وإنما يحتجون بكلام مشتبه يحتمل الرأي والرأي الآخر لهذا الإمام.
وأذكر أنه في عام (1983م) ذهب بعض الطلبة يسأل الشيخ ابن باز عن حكم عمل الجماعة الفلانية؟ قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي.
وهذا كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تدخل الجنة عجوز).
قال: لا يدخل الجنة إلا سلفي، ثم هرعت إليه الجماعة، وقالوا: يا شيخ بلغنا أنك قلت كذا وكذا؟ قال: نعم أنا قلت هذا، قالوا: كيف، نحن لسنا سلفيين؟ قال: ألا تحبون السلف؟ قالوا: نعم، نحن نحب السلف، قال: هل يسعكم مخالفة السلف في العقيدة؟ قالوا: لا، لا يسعنا، بل لا بد أن نكون على مذهبهم في الاعتقاد، قال: أليس تتبعونهم فيما أحلوا وفيما حرموا؟ قالوا: نعم، نتبعهم، قال: إذاً: أنتم سلفيون.
هذه هي شهادة الشيخ، وقالها مداعبة، فيحتجون بها علينا ويقولون بمشروعية العمل الذي هم فيه، ودائماً يحيلون هذا الكلام للشيخ ابن باز.
والشيخ ابن باز رحمه الله يذكرنا بالإمام البخاري؛ فقد كان لطيف العبارة جداً، ولطيف النقد إلى أقصى حد، فما دام يرى احتمال العمل، وأنه يمشي ولا بأس به، وله من جوانب الخير الشيء الكثير؛ كان يترفق جداً في نقد العمل، فقال هذه الكلمة التي تحتمل معان متعددة، فهم قد يحتجون بها أو يحتجون به.
قال: [كذب على الحسن ضربان من الناس: قومُ القدر رأيهم، فهم يريدون أن ينفقوا بذلك رأيهم.
وقوم في قلوبهم له حسد وبغض، يقولون: ليس من قوله كذا وكذا، وليس من قوله كذا وكذا].
فينتقون من كلام الحسن كلاماً يوافق أهواءهم.
قال: [وعن خالد الحذاء قال: قدمت من سفر فإذا هم يقولون: قال الحسن: كذا وكذا، فأتيته فقلت: يا أبا سعيد، أخبرني عن آدم خلق للسماء أم للأرض؟ قال: بل للأرض، قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة، قال: لم يكن منه بد، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:162 - 163]، قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله له ذلك].
يعني: الشياطين لا تضل أحداً إلا إذا كتب الله تعالى له الضلال من قبل في الأزل.
ثم قال: [وعن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر: فقلت: سمعت الحسن يقول: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:48] قال: نجّى الله نوحاً والذين آمنوا معه وأهلك الممتعين، فجعلت أستقريه الأمم -أي: أمة أمة، ونبياً نبياً- قال بلال: وما أراه إلا كان حسن القول في القدر].
يعني: ما أجاب إلا بإجابة موافقة لكلام الصحابة والتابعين في القدر.
[وعن حمزة بن دينار قال: عوتب الحسن في شيء من القدر فقال: كانت موعظة فجعلوها ديناً].
انظر هذا الكلام الجميل، فالكلام الذي فيه شيء من التجوز في الموعظة لا نتوقف عنده، وإنما يكون غرض الواعظ أن يعظ الناس في باب من الأبواب، والموعظة تكون في الغالب ارتجالية خاصة عند السلف، فما كانوا يحتاجون إلى ما نحتاج إليه نحن اليوم من الإعداد والحفظ والمدارسة، أو المراجعة والسؤال والجواب وغير ذلك، كان الواحد منهم إذا جاء إلى مجلس مثل هذا ليعظ في باب من الأبواب، كما كان ابن الجوزي يفعل، كانت بغداد كلها تجتمع له، فيقولون: يا إمام عظنا والملوك والأمراء والسلاطين وكل أصحاب الوجاهات والهيئات موجودون، فكان يقيم واحداً من مجلسه فيقول له: اضرب بيتاً من الشعر -وانظر إلى براعة ابن الجوزي - فيضرب بيتاً فينسج ابن الجوزي على قافية هذا البيت أي: على آخر حرف في البيت ينسج موعظة عظيمة شعراً أو نثراً لبعض الوقت، لا يخطئ هذه القافية.
وهذا لا يوجد في هذا الزمان، لكن قد يق(57/5)
إثبات السلف أن القدرية تكذب على الحسن في نسبة مذهبها إليه
ثم قال: [وعن ابن عون قال: كنت أسير في الشام فناداني رجل من خلفي، فالتفت فإذا هو رجاء بن حيوة، فقال: يا ابن عون! ما هذا الذي يذكرون عن الحسن؟ قلت: إنهم يكذبون على الحسن كثيراً].
[وعن ابن عون قال: لو ظننا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت؛ لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا عليه شهوداً -حتى يبرأ الحسن من هذه الكلمة- ولكنا قلنا كلمة خرجت لا تحمل].
يعني: نحن تصورنا أن هذه الكلمة كلمة يسيرة، ولا أحد يتوقف عندها؛ لما ينقضها من نصوص عدة لنفس الإمام، وما كنا نتصور أنها تبلغ الآفاق، وهذا أمر ملاحظ بيننا تجد الواحد لما يقعد يتكلم كلاماً صحيحاً لا أحد يقول له شيئاً، وعندما يقول كلمة واحدة فيها غلط وخطأ ترى من ينشرها ويشيعها بين الناس من المنصورة ومن البحيرة ومن سنغافورة، فلماذا الإخوة المستمعون ما نبهوه.
إذاً فالخطأ في المحاضرة أو عند الأسئلة كان بإمكان أحد السامعين للخطأ أن يقول لي: هل يجب علينا الإيمان بالقضاء والقدر والرضا به أم لا؟ فقد أكون أخطأت فهم السؤال.
فالإيمان بالقضاء والقدر والرضا به واجب، ولكننا لا نرضى بالقدر الكوني، فمن القضاء ما هو قضاء شرعي، ومنه ما هو قضاء كوني، أو قدر شرعي ديني مبني على المحبة والرضا، وقدر قدري كوني، وهذا في باب المعاصي، فهل نحب المعاصي ونرضاها؟ لا.
إذاً: الإجابة المحكمة: أننا نؤمن بالقضاء والقدر، والإيمان به واجب، وهو ركن من أركان الإيمان.
وأما الرضا فنحن نرضى بالقضاء الشرعي، ولا نرضى بالقضاء الكوني في باب المعاصي؛ لأن المعاصي يبغضها الله عز وجل؛ ولذلك قال ابن عون: [لو ظننا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتاباً، وأشهدنا عليه شهوداً، ولكنا قلنا كلمة خرجت لا تحمل، وكان ابن عون يقول: بيننا وبينكم حديث الحسن].
أي: مجالس التحديث العلمي التي كان الحسن يحدث فيها، وليس إذا طلعت منه كلمة في مجالس الوعظ نجعلها ديناً ونحتج بها، لا، بيننا وبينكم كلامه العلمي المؤصل في مجالس التحديث، وأما دون ذلك فلا.
ثم قال: [وقال أبو هلال: رفعت إلى حميد بن هلال وأيوب وهما قاعدان عند باب عمرو بن مسلم فذكرا الحسن وفضله، فقال حميد: لوددت أنه أسهم على أهل البصرة غرم كثير يؤخذون به وأن الحسن لم يتكلم بتلك الكلمة] يعني: التي طار بها أهل البدع.
[قال سفيان: سمعت أبي - وكان ثقة - عن العلاء بن عبد الله بن بدر قال: دخلت على الحسن وهو جالس على سرير هندي فقلت: وددت أنك لم تتكلم في القدر بشيء، فقال: وأنا وددت أني لم أكن تكلمت فيه بشيء].
ألا يكفي هذا النص الصحيح على اعتبار أنه تكلم بكلام خالف فيه أهل السنة؟ ألا يكفي هذا برجوعه وتوبته، إذاً فلماذا نحتج بكلام مخالف للأصول بعد التوبة.
[قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: إن قوماً جعلوا غضب الحسن ديناً.
وعن المبرك عن الحسن في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف:179] قال: خلقنا].
[وعن الحسن في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] قال: عهد ربك ألا تعبدوا إلا إياه.
وعن عاصم الأحول قال: سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر فقد كذب بالحق -قال ذلك مرتين-، إن الله عز وجل قدر خلقاً، وقدر أجلاً، وقدر بلاءً، وقدر مصيبة وقدر معافاة، وقدر معصية] يعني: قدر تقديراً كونياً قدرياً لا تقديراً شرعياً.
ثم قال: [فمن كذب بشيء من القدر؛ فقد كذب بالقرآن].
[وعن خالد الحذاء قال: قدم علينا رجل من أهل الكوفة، وكان مجانباً للحسن لما كان بلغه عنه في القدر، حتى لقيه فسأله رجل أو سئل الحسن في حضرة الكوفي عن قول الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، قال الحسن: لا يختلف أهل رحمة الله، (ولذلك خلقهم) قال: خلق أهل الجنة للجنة، وخلق أهل النار للنار، فكان الرجل يذب عن الحسن].
فالكلمة السابقة إما أن تكون صدرت من الحسن في مكة كما جاء في بعض الروايات، وإما في البصرة حيث موطنه ومنزله، فطارت إلى الكوفة فسمعها رجل من أهل السنة في الكوفة، ولما سئل الحسن في حضرته، وتكلم بكلام منضبط في القدر؛ كان هذا الكوفي بعد ذلك يدفع عنه كل من ينال من عرض(57/6)
مناظرة بين رجل من أهل السنة مثبت للقدر وغيلان الدمشقي القدري
[وعن غالب بن عبيد الله العقيلي عن الحسن قال: اختلف رجل من أهل السنة وغيلان الدمشقي في القدر، فقال: بيني وبينك أول رجل يطلع من هذه الناحية، قال: فطلع أعرابي قد طوى عباءة فجعلها على عاتقه، فقالا للرجل: قد رضينا بك فيما بيننا، قال: قد رضيتما؟ قالا: نعم، قال: فطوى كساه وربعه ثم جلس عليه، ثم قال: اجلسا بين يدي، فقال للسني: تكلم فتكلم، ثم قال لـ غيلان تكلم فتكلم، قال: قد فهمت قولكما -يعني: قد فهمت أصل الخلاف الذي بينكما- فأيداني بثلاث حصيات، قال: فصفهن بين يديه وفرق بينهن، ثم قال للسني: قلت أنت: لا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، ولا يزحزحه من النار إلا برحمة الله؟ قال: نعم.
ثم قال لـ غيلان: قلت أنت: لا يدخل الجنة إلا بعمله، ولا يدخل النار أحد إلا بعمله؟ قال: نعم، قال: فهذا رجل قال: لا أعمل خيراً قط ولا شراً قط، ولا أدخل هذه ولا هذه أفمتروك هو بلا جنة ولا نار].
يعني: أنت قلت: يدخل الجنة والنار فقط بالعمل، وهذا يقول: يدخل الجنة بفضل الله تعالى ورحمته، فقال لـ غيلان: الرجل لا يعمل خيراً ولا يعمل شراً، فإذا كان دخول الجنة والنار متعلقاً بالعمل إذاً فهذا لا يدخل الجنة ولا يدخل النار، فأين سيذهب؟! ثم قال: [وقد قال الله عز وجل: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]؟! فقال غيلان: لا، فقال لـ غيلان: قم مخصوماً؛ فقال الحسن: ذلك هو الخضر عليه السلام].
يعني: أن الرجل الذي كان يقضي بينهما هو الخضر عليه السلام، سواء كان الخضر أو غير الخضر فهذه مسألة نزاع، وإذا قلنا هو الخضر فسنتوصل بعد ذلك إلى مسائل أخرى متعلقة بـ الخضر، لكن ابق على ما أنت عليه ولا تخرج عن ذلك، واعتقد أنه الخضر إذا كنت تعتقد ذلك، أو أنه غير الخضر، سواء كان ذلك في مجال الإثبات والتدقيق العلمي صحيحاً أو غير صحيح، فهذا غير مهم الآن.
قال: [وقال الحسن: جف القلم، ومضى القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل، وسعادة من عمل واتقى، وشقاوة من ظلم واعتدى، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالتبرئة من الله للمشركين].(57/7)
ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير في القدر
قال: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: نظرت في بدء الأمر ممن هو -يعني: في أصل الخليقة بخيرها وشرها ممن هو- فإذا هو من الله، ونظرت على من تمامه؛ فإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه؛ فإذا ملاكه الدعاء].
يعني: إذا كان ابتداء الأمر وانتهاؤه من الله عز وجل بخيره وشره؛ فنحن لا نملك إلا الدعاء أن يصرف الله عنا البلاء والشر، وأن يرزقنا الخير.
[عن مطرف قال: ليس لأحد أن يصعد فوق بيت فيلقي نفسه، ثم يقول: قدر لي]؛ لأن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المعصية.
[ولكنا نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء؛ علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب لنا]، وهذا كلام جميل وقوي.
[وعنه قال: لو كان الخير في كف أحدنا ما استطاع أن يفرغه في قلبه، حتى يكون الله هو الذي يفرغه في قلبه.
وعنه قال: إن الله عز وجل لم يكل الناس إلى القدر وإليه يصيرون]، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام دائماً يقول لأصحابه الذين يسألونه: (يا رسول الله، أترى ما نحن عاملون ألشيء مضى وانتهى، أم لشيء أنف؟ قال: بل لأمر قد فرغ منه، جف به القلم، وطويت به الصحف، قالوا: يا رسول الله، فلم العمل إذاً؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
فقوله: (إن الله عز وجل لم يكل الناس إلى القدر، وإليه يصيرون) أي: يصيرون إلى ما قدر وكتب في اللوح المحفوظ، وهم عاملون بعلم الله السابق الجلي.(57/8)
ما روي عن محمد بن سيرين في القدر
قال: [عن محمد بن سيرين قال: إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قبله يأمره وينهاه.
وقال ابن سيرين: ما ينكر هؤلاء أن يكون الله عز وجل علم علماً جعله كتاباً].
يعني: ليس بمستغرب إثبات علم الله تعالى الأزلي، ولا بد من إثبات علم الله؛ لأن من أنكر هذه المرتبة ورد علم الله، وقال: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها؛ فقد خرج من الملة.
ويلزم من ذلك إثبات أن الله تعالى علم في الأزل كل ما يعمله العاملون، فكتبه عليهم، وسجله في صحائفهم، فما هي الغرابة في هذا، ألا تثبتون علم الله وأنه أزلي سابق على خلق الخلق؟ بلى، ألا تثبتون أن الله تعالى علم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون قبل أن يخلقهم، فكتب ذلك في اللوح المحفوظ، فهو عنده تحت العرش؟ فإما أن تقولوا: إن الله لم يكن عالماً ثم علم، وإما أن تقولوا: إن الله تعالى عليم وعلمه أزلي ليس مخلوقاً ولا حادثاً؛ لأن صفات الله تعالى كلها غير مخلوقة، فحينئذ نقول: إن الله تعالى في باب القدر علم ما العباد عاملون، فكتبه في اللوح المحفوظ ليس ظلماً للعباد؛ لأن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الله تعالى علم أن عبده فلاناً بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب وتمييزه بالعقل عن بقية الحيوانات والمخلوقات، وتركيب الهدى والضلال فيه والخير والشر؛ علم أنه إذا عرض عليه الخير يأنف منه ويمقته ويقدم على الشر، فلما علم الله تعالى أن عبده هذا سيختار الشر مع قيام الحجة عليه؛ كتب ذلك عليه، فلا غرابة ولا ظلم حينئذ.
[وقال ابن سيرين: يجري الله الخير على يدي من يشاء، ويجري الشر على يدي من يشاء] أي: أن الخير والشر بمشيئة الله تعالى، وأن الله تعالى شاء الشر، وأذن في وجوده وخلقه، وأن المرتكب لذلك والعامل والمباشر والمكتسب للشر والخير بجوارحه هو العبد.
[وعن عثمان البتي؛ قال: دخلت على ابن سيرين فقال لي: ما يقول الناس في القدر؟ قال: فلم أدر ما رددت به عليه، قال: فرفع شيئاً من الأرض فقال: ما يزيد على ما أقول لك مثل هذا، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً وفقه لمحابه وطاعته، وما يرضى به عنه، ومن أراد به غير ذلك اتخذ عليه الحجة، ثم عذبه غير ظالم له].
يعني: من أراد به شراً أقام عليه الحجة بالكتب والرسل وبالعقل المميز، ثم أهلكه بعد ذلك غير ظالم له.(57/9)
ما روي عن سعيد بن جبير في القدر
قال: [عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] قال: كما كتب عليكم تكونون؛ فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة].
يعني: كما كتب عليكم في الأزل تكونون؛ إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
قال: [وعنه في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] قال: ألزمها فجورها وتقواها.
وعنه في قوله: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.
وفي قوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37] قال: ينالهم ما كتب عليهم من شقوة أو سعادة، من خير أو شر].(57/10)
ما روي عن مجاهد بن جبر المكي في القدر
[عن مجاهد بن جبر المكي في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27] قال: الراضية بقضاء الله، التي علمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها.
وعنه في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقه لها.
وفي قول الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم:30] قال: الدين والإسلام، {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] قال: لدينه.
وعنه في قوله تعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:117] قال: بمن قدر له الهدى والضلالة قبل أن يخلقهم.
وعن مجاهد في قوله: [{وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] قال: في أم الكتاب].
و (كل) نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم، (وكل شيء) أي: من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهدى وضلال، وإيمان وكفر، كل ذلك في أم الكتاب مكتوب قبل أن يخلق الله تعالى الخلق.
قال: [وعن مجاهد في قوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] قال: ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها: شقي، أو سعيد.
وعن مجاهد في قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] قال: لهم أعمال لا بد لهم أن يعملوها] أي: خطايا من دون تلك الكبائر هم لها عاملون.
[وعن حميد بن قيس الأعرج قال: صليت إلى جنب رجل يتهم بالقدرية، فلقيت مجاهداً فأعرض عني، فقلت له، فقال: ألم أرك صليت إلى جنب فلان؟ قلت: إنما ضمتني وإياه الصلاة] أي: أنا لم أعرف أنه بجانبي، وإنما هذا بسبب الصلاة.(57/11)
ما روي عن محمد بن كعب القرظي في القدر
قال: [عن محمد بن كعب القرظي قال: الخلق أدق شأناً من أن يعصوا الله عز وجل طرفة عين فيما لا يريد].
يعني: أن الخلق منذ آدم إلى قيام الساعة لو اجتمعوا على أن يعصوا الله تعالى بمعصية لم يأذن فيها ما قدروا على ذلك، وهذا معناه: أن المعاصي لا تكون إلا بقدر الله عز وجل، وأنه أرادها إرادة كونية قدرية، وليست إرادة شرعية دينية؛ لأن الله تعالى يبغض المعاصي، ولا يأذن سبحانه أن يكون في الكون إلا ما أراد من خير أو شر، فلو أراد إنسان أن يطيع الله تعالى طاعة لم يأذن الله بها لا يستطيع أن يفعلها مع أنها طاعة.
فمثلاً: لو ذهبت في قضاء حاجة أخيك وأنت في غاية الحماس، ولكن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن هذه الطاعة وهذه الخطوات لا تتم؛ فسيبعث الله لك أي شيء يصرفك عن هذه الطاعة؛ لأن الله لم يأذن بها مع أنها طاعة.
والشر كذلك؛ يذهب الإنسان من هنا إلى هناك لأجل ارتكاب معصية معينة، ولكن الله تعالى بعزه وسلطانه وجبروته ما أراد أن تقع هذه المعصية فيصرفه عنها، وإذا أراد الله تعالى أن تكون منك المعصية قدرها عليك، ويسر لك أسبابها؛ لأنه علم أزلاً أنك ستختار هذا الطريق، وليس في هذا أدنى احتجاج بالقدر على المعصية أبداً، ولا يقول قائل: ربنا هو الذي قدرها علي.
قال: [وعن ابن وهب قال: قال رجل لـ محمد بن كعب القرظي: ما أبعد التوبة! قال: فتبسم، قال: بل ما أحسن التوبة وأجملها] يعني: كان عليك أن تقول: ما أحسن التوبة لا ما أبعد التوبة؛ لأن معنى قولك: (ما أبعد التوبة) أنك أنت الذي تملك التوبة، يعني: إذا كنت أريد أن أتوب أتوب، وإذا ما أريد أن أتوب لم أتب، لا؛ التوبة بيد الله عز وجل، والذي بيد الله لا يصح وصفه بالبعد.
[فقال الرجل: أرأيت إن قمت من عندك فأتيت المنبر فعاهدت الله عنده ألا آتي الله بمعصية أبداً، قال: فمن أعظم ذنباً منك، أو أعظم جرماً منك إذا تأليت على الله ألا ينفذ فيك أمره].
أي: كأن يقول شخص: أقسم بالله ثلاثاً لا أعصي الله أبداً، فما يدريك بذلك؟! وقد كان الشيخ الألباني يقول بعد كل خطبة جمعة: قولوا ورائي: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا، وعزمنا على ألا نفعل.
فأنت مطلوب منك أن تستغيث وتجأر إلى الله عز وجل بالدعاء أن يحول بينك وبين المعصية، أما أن تحلف بينك وبين الله ألا تأتيه بمعصية أبداً فإذاً هو لمن يغفر؟ ومن يرحم؟ ويتوب على من؟ فستعطل كثير من أسمائه وصفاته، وإلا فالمعصية تقع بقدر الله، والطاعة تقع بقدر الله عز وجل، لكن الله تعالى يعاقب على المعصية، ويثيب على الطاعة.
ومعنى كونه قدر المعصية أي: أذن في خلقها وإيجادها، ولكنه يبغضها ويكرهها ويحذر منها، ورتب عليها العقوبات المناسبة، فلكل معصية عقوبة تناسبها؛ حتى لا يأتي شخص ويقول: ألست تقول: إن كل شيء بقدر؟ فأنا زنيت وسرقت وقتلت وشربت الخمر، فلماذا تضربونني وتعذبونني على ذلك؟ كما حصل في زمن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما شرب شارب الخمر، فقال له عمر: ما الذي حملك على ذلك وأمر بضربه؟ قال: يا أمير المؤمنين! أتضربني على أمر قدره الله علي؟! قال: نعم نضربك بقدر الله.
يعني: الذي قدر عليك المعصية أيضاً قدر عليك العقوبة.
قال: [قال محمد بن كعب القرظي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو على المنبر بيده اليمنى، قال: (هذا كتاب بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، قال: ثم قبض يده اليمنى ومد اليسرى فقال: هذا كتاب الله بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وأنسابهم، مجمل عليهم لا يزاد فيهم ولا ينتقص منهم، وليعمل أهل السعادة بعمل أهل الشقاء حتى يقال: كأنهم هم هم، بل هم هم، ثم يستنقذهم الله عز وجل قبل الموت ولو بفواق ناقة، حتى يسلك بهم طريق أهل السعادة، وليعمل أهل النار بعمل أهل السعادة حتى يقال: كأنهم هم، بل هم هم، ثم يسلك بهم ولو بفواق ناقة طريق أهل الشقاوة، والشقي من شقي بقضاء الله، والسعيد من سعد بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم)].
يعني: لا أحد منا يضمن على الله تعالى الجنة، ولكن يجتهد المرء قدر طاقته في طاعة الله عز وجل، والذي يختم له به هو في علم الله، وكم من إنسان عمل بطاعة الله دهراً من عمره، ثم ارتد قبل موته ومات على الردة، وكم من إنسان حارب الله تعالى ورسوله، وأراد الله تعالى له الهداية قبل موته بأيام أو بلحظات؛ فتاب وآمن، وربما لم يصل ولم يصم ولم يزكِ، تاب ومات فصار من أهل الجنة وكأنه لم يعمل شراً قط، بل نطق بشهادة التوحيد ومات على ذلك، فإذا كانت الأعمال بالخواتيم، وكلنا مرهونون بعلم الله عز وجل، وعلم الله تعالى نافذ لا محالة في الخلق؛ فعلينا بملاك الأمر وهو الدعاء والتضرع أن يجعلنا الله تعالى وإياكم من أهل السعادة، ولا يجعلنا من أهل الشقاوة.
ثم قال: [عن محمد بن كعب القرظي قال: كانت الأقوات قبل الأجساد -يعن(57/12)
ما روي عن وهب بن منبه في القدر
قال: [وعن وهب بن منبه قال: إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله عز وجل وفي التوراة: إني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخلق، خلقت الخير وخلقت من يكون الخير على يديه، فطوبى لمن خلقت الخير أن يكون على يديه، وإني أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخلق، خلقت الشر وخلقت من يكون الشر على يديه، فويل لمن خلقت الشر أن يكون على يديه].
هذا النص موجود في التوراة، فقد كان رحمه الله كثير الرواية من الكتب السابقة.
[وعنه قال: الكتب بضع وتسعون كتاباً -يعني: الكتب السماوية التي نزلت من السماء بضع وتسعون كتاباً- قرأت منها بضعاً وسبعين كتاباً، فوجدت في كل كتاب منها: من يزعم أن إليه شيئاً من المشيئة فقد كفر].
يعني: أن هذا أمر متفق عليه بين الخلائق، ولم يخالف في ذلك إلا المجوس ومن بعدهم من القدرية.
[وعن يزيد الخرساني قال: بينما أنا ومكحول إذ قال: يا وهب بن منبه! أي شيء بلغني عنك في القدر؟ قال: عني؟ قال: نعم، فقال: والذي كرم محمداً بالنبوة لقد قرأت من الله عز وجل اثنين وسبعين كتاباً، منه ما يسر ومنه ما يعلن، ما منه كتاب إلا وجدت فيه: من أضاف إلى نفسه شيئاً من قدر الله فهو كافر بالله، فقال مكحول: الله أكبر].
يعني: أن هذا أمر متفق عليه بين جميع الشرائع.(57/13)
ما روي عن طاوس بن كيسان اليماني في القدر
قال: [عن طاوس اليماني قال: اجتنبوا الكلام في القدر؛ فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم] أي: هذا مسلك خطير جداً، والكلام فيه بحساب دقيق جداً؛ فحين تكلم الحسن البصري، وكذلك مكحول حمل أهل البدع كلامهما في القدر على حسب أهوائهم، ولم يلتفتوا إلى ما جاء عنهما من الإثبات للقدر.
[وعن ابن طاوس عن أبيه في قول الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] قال: وأنا قدرتها عليك].
أي: وما أصابك من سيئة فمن نفسك كذباً واختلاقاً، ومن الله عز وجل خلقاً وإيجاداً؛ ولذلك قال: (وأنا قدرتها عليك).(57/14)
ما روي عن مكحول الشامي في القدر
قال: [وعن أيوب قال: سمعت مكحولاً يقول لـ غيلان: لا تموت إلا مفتوناً] أي: غيلان الدمشقي، وسيأتي الكلام عن هذا.
قال: [وعن محمد بن عبد الله الشعيثي قال: سمعت مكحولاً يقول: بئس الخليفة كان غيلان لمحمد صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده].
أي: بئس ما خلف غيلان الدمشقي محمداً عليه الصلاة والسلام على قومه وأمته.
ثم قال: [وحلف مكحول لا يجمعه وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق فيخرج منه].
يعني: كان مكحول إذا رأى غيلان يمشي في السوق يرجع من السوق ويخرج منه.
قال: [قال أبو داود السجستاني: كان غيلان نصرانياً.
عن إبراهيم بن مروان قال: قال لي أبي: قلت لـ سعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد! إن الناس يتهمون مكحولاً بالقدر، قال: كذبوا، لم يكن مكحول بقدري.
وعن الأوزاعي قال: لم يبلغنا أن أحداً من التابعين تكلم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن، ومكحول، فكشفنا عن ذلك فإذا هو باطل].
يعني: افتراء وكذب على الحسن ومكحول.
قال: [وقال الأوزاعي: لا نعلم أحداً من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي إلا الحسن، ومكحول، ولم يثبت ذاك عنهما.
قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبد العزيز يبرئ مكحولاً ويدفعه عن القدر].(57/15)
ما روي عن عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وغيرهم في القدر
قال: [عن عكرمة في قول الله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] قال: لا يرجعون إلى التوبة.
وعن عطاء الخراساني في قول الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] قال: من عظامهم وجلودهم، وذلك كتاب حفيظ.
وعن قتادة في قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] قال: حكيم في أمره، خبير بخلقه.
وعن سعيد بن أبي عروبة قال: جاء رجل إلى قتادة فقال: يا أبا الخطاب ما تقول في القدر؟ فقال: رأي العرب أعجب إليك أم رأي العجم؟ قال: بل رأي العرب، قال: إن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر، ثم أنشده بيتاً من شعر.
قال أبو داود: وحدثت عن الأصمعي عن وهيب عن داود بن أبي هند قال: اشتقت القدرية من الزندقة، وأهلها أسرع شيء ردة، هكذا قال الأصمعي.
وقال زياد بن يحيى الحساني: ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى].
وإن كنا نفرح بكل من يأتي بأسباب العتق من النار، لكن لنعلم أن البلايا والفتن ما ظهرت في الأمة إلا من كثرة من دخل في الدين من المجوس واليهود والنصارى وغيرهم؛ فمعظم الشر كان منهم.(57/16)
ما روي عن زيد بن أسلم وأبي صالح وسعيد بن عبد العزيز وأبي حازم في القدر
قال: [عن زيد بن أسلم قال: والله ما قالت القدرية كما قال الله، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس.
قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
وقال الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32].
وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89].
وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]] أي: التي كتبتها علينا في اللوح المحفوظ.
ثم قال: [وقال أخوهم إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]]، فإبليس يعترف بأن الغواية بيد الله عز وجل، والقدري يقول: لا، نحن إذا شئنا أغوينا، وإذا شئنا أرشدنا، يعني: أن الغواية بأيدينا.
قال: [عن أبي العالية في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:30].
وعن أبي صالح في قوله: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37] قال: نصيبهم من العذاب] أي: العذاب المذكور في الكتاب.
[وعن سعيد بن عبد العزيز: لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] قال وأبو جهل لعنه الله: الأمر إلينا] أبو جهل مع أنه فصيح أضله الله وأعماه عن المراد، والله عز وجل يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فظاهر الآية أن الله عز وجل يخيرنا بين الإيمان والكفر، لكن ليس هذا هو المراد، بل المراد من ذلك التهديد والوعيد، فالحق واضح والباطل واضح، فالذي يريد أن يختار يختار، مع أنه لا يختار إلا بقدر.
قال: [لما نزلت: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فنزلت: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]].
فأهل البدع أخذوا أول الآية وتركوا آخرها، فنقول لهم: إما أن تأخذوا آخرها مع أولها، وإما أن تتركوا النص كله، وقد صنف في قضايا الإيمان والكفر في هذا الزمان أناس، ولم ينصفوا فيما كتبوا؛ فإنهم أخذوا من الآيات ومن أقوال أهل العلم ما يوافق مذهبهم الذي يذهبون إليه، وهذه هي طريقة أهل البدع، مع أن هؤلاء الكتاب ليسوا من أهل البدع.
قال: [عن أبي حازم قال: إن الله عز وجل علم قبل أن يكتب، وكتب قبل أن يخلق].
أي: علم سبحانه ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فالعلم والكتابة أسبق من العمل والعامل لها، علم سبحانه ذلك بالعلم الأزلي السابق.
ثم قال: [فمضى الخلق على علمه وكتابه].
يعني: جرى من الخلق أعمال الخير والشر التي علمها الله تعالى منهم، فكتبها في اللوح المحفوظ.
[وعن الحسن بن محمد بن علي قال: لا تجالسوا أهل القدر.
وقال حماد: ولا أعلمني إلا قد سمعته من ثابت مراراً أن الحسن بن علي كان يقول: قضي القضاء، وجف القلم، وأمور تقضى في كتاب قد خلا].
يعني أن كل الذي يعمله العباد ما هو إلا ترجمة عملية لعلم الله السابق، وكتابة هذا العلم في اللوح المحفوظ.
أقولي قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(57/17)
شرح كتاب الإبانة - مذهب عمر بن عبد العزيز في القدر وسيرته في القدرية
لقد حفلت كتب العقيدة الإسلامية بذكر عقائد الأمة والسلف رحمهم الله تعالى في أهل الأهواء والبدع، وذلك لكشف عوارهم، وبيان فساد وبطلان مذهبهم، حتى يحذر المسلمون من ذلك الضلال فلا يقعوا فيه، وحتى يصير دين الله صافياً نقياً، لا يعكره دخيل، ولا يلصق به ما ليس منه.(58/1)
بيان مذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في إثبات القدر(58/2)
رسالة عمر بن عبد العزيز إلى من سأله عن القدر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثاني في كتاب القدر هو: بيان مذهب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله في القدر، وسيرته في القدرية.
قال سفيان الثوري: كتب عامل لـ عمر بن عبد العزيز إلى عمر يسأله عن القدر فكتب إليه: أما بعد -أي: بعد الحمد والثناء على الله، والصلاة والسلام على رسوله-: أوصيك بتقوى الله عز وجل، والاقتصاد في أمره -أي: التوسط، وهو درجة بين الإفراط والتفريط- واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعدما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة -ما التزم أحد بالسنة إلا عصمته من كل بلية- ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها].
أي: ما من بدعة إلا وقد رأى الناس آثارها السيئة في حياتهم، وكان على قبحها وسوئها دليل من الكتاب أو السنة.
قال: [فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما قد رضي به القوم لأنفسهم].
أي: ارض لنفسك أن تسلك في كل باب من أبواب الدين والشريعة ما قد رضيه أسلاف هذه الأمة لأنفسهم.
قال: [فإنهم عن علم وقفوا -أي: توقفوا بعلم- وببصر نافذ قد كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى وأقدر].
أي: هذا الخوض الذي يخوضه الناس اليوم فيما يتعلق بمسائل القدر، والأسئلة التي تنم عن زعزعة الإيمان في قلوب أصحابها؛ كان السلف -لو كانت هذه الأسئلة محمودة وممدوحة- هم أولى بطرحها على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كان هذا أمراً مذموماً كفوا عنه، وآمنوا به.
قال: [وهم على كشف الأمور كانوا أقوى وأقدر، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه].
أي: إن كان الهدى هو الذي أنتم عليه اليوم من الخوض فيما لا يعنيكم، فاعلموا أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد! وهذا مستحيل.
كما قال عبد الله بن مسعود لأولئك الذين تحلقوا حلقاً في المسجد، وجعلوا على كل حلقة كبيراً لهم يلقي لهم الحصى، ويقول: سبحوا مائة، احمدوا مائة، كبروا مائة، فوقف على رءوسهم وقال: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة.
ولا شك أن الأولى مستحيلة؛ أن يخفي الله تعالى الهدى والحق والخير والنور عن نبيه وعن أصحابه نبيه ثم يظهره لنا، ثم هذا مخالف لأصل من أصول الدين، وهو: أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على شر ولا ضلالة ولا باطل، فلأن يدعي رجل اليوم أنه قد وقف على خير وهدى قد حرمته الأمة على مدار أربعة عشر قرناً؛ لهو ضال مضل؛ لأن نتيجة هذا الكلام يهدم أصلاً من الأصول التي عليها اعتماد الإسلام، وهو أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على شر ولا على ضلالة، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم؛ ما أحدثه إلا من ابتغى غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم السابقون -والله تعالى قد مدح السابقين- فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من مجسر].
أي: إما أن يكون إنساناً مفرطاً جداً فيما كانوا عليه غير تابع لهم، وإما أن يكون إنساناً جريئاً جداً يرتكب مخالفة الهدي، ويتبع سبيل غير المؤمنين.
قال: [قد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام -أي: رغب عنهم أقوام- فغلوا، وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم].
أي: أن طريق السلف بين الإفراط والتفريط، وبين التقصير والجسور، ولم تكن الجرأة والتبجح من طريقهم، وإنما كانوا يلتزمون عند حدود النقل.(58/3)