شرح كتاب الإبانة - مقدمة الكتاب
كتاب الإبانة للإمام ابن بطة العكبري من الكتب المصنفة في موضوع العقيدة، وقد بين فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وذكر مزاياها ومصادرها، وحذر من الفرق المذمومة، المخالفة لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة.(1/1)
مزايا العقيدة السلفية وأول من صنف فيها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فهذا أول درس مع كتاب جديد من كتب السنة المسندة.
السنة عند الإطلاق تعني: المخالفة للبدعة، أو مقابلة البدعة، فإذا قرأنا كتاب السنة لفلان، فمعنى ذلك أنه يذكر مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة بأدلتها المسندة، وكتاب الإبانة للإمام ابن بطة عليه رحمة الله هو من هذا الباب، بل هو من أوائل من صنف في عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو العقيدة السلفية التي تمتاز عن غيرها من العقائد من أوجه عدة، منها: أن هذه العقيدة نبعها ومرتكزها هو الكتاب والسنة، أي: أن عقيدة السلف مردها ومرجعها إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم، وسار على منوالهم ونهجهم بقية علماء الأمة ممن نحا نحوهم، فمن مزايا العقيدة السلفية أن مصادرها هي المصادر الأصيلة التي لم يختلف عليها أحد، ولن يختلف عليها أحد بإذن الله إلى قيام الساعة.
ومن مزايا العقيدة السلفية: أنها عقيدة رسخت بمفهوم النبوة لكتاب الله عز وجل، ومفهوم الصحابة، وخاصة الخلفاء الراشدين الذين نقلوا إلينا معتقد النبي عليه الصلاة والسلام في ربه وأسمائه وصفاته، وبقية مسائل الاعتقاد التي خالفوا فيها أهل الأهواء والزيغ والضلال، ولذلك: كل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا الكل يقول: أنا سني أو أنا سلفي، أو نهجي قائم على الكتاب والسنة، وكم من صاحب بدعة إذا احتج احتج بقال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهل يتصور أن صاحب البدعة يخرج علينا ويقول: أنا مبتدع، أنا زائغ، أنا ضال؟ لا يكون هذا منه، وإنما يقول: أنا مرتكزي ومصدري فيما أقول هو كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هيهات هيهات أن تصح دعوى أو يستقيم طريق لأحد، إلا لمن أخذ طريقه عن السلف رضي الله عنهم.
الكل يقول: أنا منهجي القرآن والسنة؛ لكن بفهم من؟ هذا هو مناط البحث، ليس مناط البحث أن تأتي بقول أو فكر أو فهم أو تأتي له بشاهد من الكتاب والسنة، ولكن مناط البحث أن تأتي من أقوال السلف بمن سبقك إلى هذا الفهم لهذه الآية أو لهذا الحديث، حتى تعلم أن القضية ليست بالدرجة الأولى الاعتماد على النص، بقدر ما هي الاعتماد على فهم السلف رضي الله عنهم لهذا النص.
وهذا أمر أردت بيانه حتى ينتبه الناس أن طريق السلف يعني مفهوم السلف للكتاب والسنة لا مفهوم الخلف، وسيأتي معنا الفرق بين السلف والخلف، إما من جهة الزمان وإما من جهة كيفية الاتباع.
ثم عقيدة السلف من أعظم ثمارها أنها السبب في توحيد صف المسلمين، فهذه العقيدة لا تدعو إلى التفرق، بل تدعو إلى الاجتماع ونبذ الفرقة، وفي ذلك روايات وأحاديث كثيرة.
وما تفرق المسلمون منذ الصدر الأول إلا بعد ظهور الفرق الضالة، كالقدرية والمعتزلة وغيرهم من أصحاب الأهواء والملل والنحل، فلما ظهرت هذه الفرق تفرق المسلمون إلى فرق وجماعات شتى، فعقيدة السلف إنما هي أصل الاعتقاد، بل لا يصح اعتقاد غيرها عند الله عز وجل.
كما أن من مزايا عقيدة السلف أنها مرتبطة على مر أيامها وسنينها بآبائها وأجدادها من أهل القرون الخيرية الأولى المشهود لهم بالخير، والمشهود لهم بالفهم والعلم والبركة والاحتياط والورع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فعقيدة السلف تعني أن تقتدي بآبائك أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين المشهود لهم بالكفاءة في الدين.
وفي التمسك بعقيدة سلف الأمة آثار كثيرة جداً، ويكفينا وحسبنا في هذا المقام أن نقول: إن أهل العقيدة الصحيحة هم الناجون من النار نجاة أبدية، حتى لو عذب بعض المعتقدين بعقيدة السلف بسبب ذنوب قد اقترفوها، فإنه لابد خارج من النار ومخلد في الجنة بإذن الله عز وجل، ولذلك لما عدد النبي عليه الصلاة والسلام فرق النصارى واليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين قال: (ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين كلها في النار) ولم يستثن إلا واحدة، قيل: (يا رسول الله! من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
وهم الذين على عقيدتنا اليوم التي لا خلاف عليها، وكيف يكون الخلاف والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أسسها وقعدها رجوعاً إلى كتاب الله عز وجل وإلى وحي السماء.
فهذه بعض مزايا العقيدة السلفية، وإن كانت كلها مزايا وفضائل وشمائل ومناقب؛ لكن ليس هذا عنوان بحثنا، إنما نتكلم اليوم عن الإمام ابن بطة وعن كتابه المعروف بالإبانة، وله كتابان: الإبانة الصغرى والإبانة الكبرى، وهذان الاثنان عرف بهما ما صنفه هذا(1/2)
التعريف بمؤلف كتاب الإبانة(1/3)
اسم ابن بطة ونسبه ومولده ومنشؤه
هو الإمام أبو عبد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن عمر بن عيسى بن إبراهيم بن سعد بن عتبة بن فرقد، وعتبة بن فرقد هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل عتبي فرقدي، أي: من نسل عتبة بن فرقد، ولقب المؤلف بـ ابن بطة وهو لقب لأحد أجداده حتى صار يلقب به كل واحد في الأسرة.
ولد ابن بطة سنة (303هـ) في بلدة تسمى: عكبرى، لها باع طويل جداً في تأصيل العلوم الشرعية واللغوية لهذه الأمة المباركة، فكم أنجبت من علماء، سواء في التاريخ أو في الحديث أو في الرجال أو في شروح اللغة العربية أو السيرة، وهي بلد معروف لدى طلاب العلم بأنها أنجبت علماء كثيرين.
قال ابن الجوزي في كتابه المنتظم: ولد ابن بطة يوم الإثنين 14 من شوال سنة (304)، وهو إما أن يكون ولد في سنة (303) أو (304).
وعكبرى بلدة صغيرة على دجلة فوق بغداد من جهة الشمال بخمس فراسخ، والنسبة إليها عكبري، ولذلك هو معروف بـ ابن بطة العكبري.
وقد نشأ ابن بطة في حجر والده، وكان والده يحب العلم والعلماء فاعتنى بولده منذ الصغر، فأوفده إلى بغداد، يعني: أرسل به إلى بغداد ليتعلم العلم هناك، وأنتم تعلمون أن الخلافة في مطلع القرن الرابع كان مقرها بغداد، وأنه حيثما كانت الخلافة كانت رحلة أهل العلم وطلاب العلم إلى بلد الخلافة.
وإذا قرأنا في صحيحي البخاري ومسلم أو في أي كتاب من كتب السنة، وجدنا أن معظم الرواة إما كوفي أو بصري أو بغدادي، أو غير ذلك من بلدان العراق شواطئ وغيرها، وهذا الراوي إما أنه من أهل هذه البلاد، وإما أنه وفد إليها، وما وفد إليها إلا بعلمه، فهناك جملة عظيمة مستكثرة من أهل العلم استقروا في هذه البلاد بطلب الخليفة، أو رحمة بالأمة في اجتماعها حول الخليفة، واجتماع طلاب العلم من أنحائها في أي موطن يكون فيه الخلافة والخليفة.(1/4)
رحلة ابن بطة في طلب العلم
رحل ابن بطة من عكبرى إلى بغداد قبل أن يتم العاشرة من عمره، وقد عقد ابن بطة ألوية السفر، وشد رحله من قطر إلى قطر، ومن مصر إلى مصر؛ ليأخذ العلم عن مشاهير العلماء في عصره.
يقول الخطيب البغدادي عن ابن بطة باعتباره من أهل بلاده: إنه سافر الكثير إلى البصرة والشام، وذكر ابن العماد الحنبلي عنه أنه سافر الكثير إلى مكة والثغور والبصرة وغير ذلك، والثغور: هي أماكن الجهاد.
وهذا يدل على أنه لم يقتصر على العلم بل كان يجاهد كثيراً.(1/5)
عزلة ابن بطة واشتغاله بالتدريس
وبعد عودة ابن بطة إلى موطنه من رحلاته المتكررة الكثيرة لازم بيته أربعين سنة، ولا يعني هذا أنه ترك العلم وترك الدعوة إلى الله عز وجل، وإنما معنى ذلك أنه اعتذر عن قبول أي عمل في مهام السلطان من القضاء والإفتاء وغير ذلك، وإنما تصدر فقط للعلم والتدريس، كما جاء في الروايات أنه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى قبضه الله عز وجل، وليس معنى ذلك أنه مكث في بيته ولم ينشغل إلا بنفسه.
كما أن مفهوم العزلة عند ابن بطة هو عدم الخوض في الفتن أو الاشتراك في وظائف الحكم، وقد ذكر ابن أبي يعلى عنه أنه كان له مجلس للدرس يوم الجمعة في مسجد عكبرى، كما كان له درس في مسجد المنصور، وهو أعظم مسجد في بغداد، ومن هذه المجالس التي كان يعقدها للتدريس تمكن طلبة العلم من الرواية عنه والانتفاع به.
كما أجمعت كتب التراجم على أنه كان عابداً كبيراً وصالحاً شهيراً، لم ير في سوق ولا رئي مفطراً إلا في يوم عيد، وأنه مستجاب الدعوة وكان صواماً قواماً.
قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان صاحب أحوال وإجابة دعوة رضي الله عنه.
وقال ابن الجوزي: وكان له حظ وافر من العلم والعبادة.(1/6)
مصنفات ابن بطة العكبري(1/7)
المؤلفات المخطوطة
وكان له مؤلفات كثيرة تدل على سعة علمه واطلاعه، عرف منها تسعة عشر مؤلفاً يمكن إرجاع أفضلها إلى مواضيع فقهية، وهي: المناسك أي: في الحج والعمرة، وكتاب الإمام ضامن، وهو نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) أي: الإمام ضامن لأخطاء المأمومين، والمؤذن مؤتمن على الأذان، وأنه لا يؤذن إلا بعد علمه بدخول الوقت، وصنف الإمام ابن بطة في هذه المسألة رسالة فقهية.
وكذلك كتاب: الإنكار على من قضى بكتب الصحف الأولى، والإنكار على من أخذ القرآن من المصحف، وإنما يؤخذ العلم من أفواه المشايخ والعلماء.
وكتاب النهي عن صلاة النافلة بعد العصر وبعد الفجر.
وكتاب تحريم النميمة.
وكتاب صلاة الجماعة.
وكتاب منع الخروج بعد الأذان والإقامة لغير حاجة.
وكتاب إيجاب الصداق بالخلوة، والخلوة: هي الخلوة الشرعية، وهذا يعني أن رجلاً لو خلا بامرأته التي عقد عليها ثم طلقها فلها الصداق كاملاً، والخلوة: هي إرخاء الستر وإغلاق الباب وإن لم يقربها، أما إذا تنازلت أو تنازل وليها عن شيء من الصداق فهذا شيء آخر، إنما للمرأة الحق بأن تطالب بالصداق كاملاً عند تحقق الخلوة.
وفي هذه المسألة نزاع بين أهل العلم، والذي ترجح لدى ابن بطة -وهو الراجح من أقوال أهل العلم- أن المرأة لها الصداق كاملاً إذا خلا بها زوجها قبل الجماع.
وله كتاب فضل المؤمن.
وله كتاب الرد على من قال الطلاق الثلاث لا يقع.
وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والراجح فيها أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحداً.
وله كتاب صلاة النافلة في شهر رمضان بعد المكتوبة، وله كتاب في ذم البخل، وكتاب في تحريم الخمر، وكتاب في ذم الغناء والاستماع إليه، وكتاب التفرد والعزلة.
وكل هذه الرسائل لا تزال محفوظة لم تخرج للوجود، وهكذا لو عددنا لكل إمام من أئمة الدين كتبه المخطوطة التي لم تطبع لوجدناها أكثر مما طبع له، ولذلك فإن الذي تأهل لاستخراج هذه الكنوز الدفينة عليه مسئولية كبيرة جداً في إخراج تراث الأمة المهجور، لكنه للأسف الشديد اختلط الحابل بالنابل، وصار الطلاب يطلبون علم الحديث فحسب حتى يتمكنوا من التجارة، وإن شئت فقل: حتى يتمكنوا من أن يتاجروا بتراث البلد.
ولذلك تجد الكتاب الواحد له عدة طبعات ربما لا يصلح من هذه الطبعات طبعة واحدة، ولابد عند المقارنة أن تجد بين مجموع هذه الطبعات سقطاً وتحريفاً وتصحيفاً وإن شئت فقل: هزلاً؛ لأنه يريد أن يخرج الكتاب حتى يأخذ على الملزمة كيت وكيت، ويأخذ على الكتاب مبلغاً من المال، ثم لا يهمه بعد ذلك الكتاب أن يخرج مصحفاً أو غير مصحف، محرفاً أو غير محرف، المهم أنه أخرج الكتاب واستفاد أمرين: الأمر الأول: أنه وضع اسمه على صدر الكتاب، وفي هذا حق أدبي ومعنوي عظيم، وأنه يعرف بين الناس بأنه من أهل العلم وإن لم يكن في حقيقة الأمر كذلك.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، تجد الواحد لا علاقة له بالعلم، بل والله لا علاقة له بالصلاة، ولا عهدنا عليه مرة أنه حضر مجلس علم، ثم يأتي وبين يديه كتاب يريد أن تقرأه ثم تقرأه، أنت لا تعرفه ولا هو معروف بين أهل العلم، ثم تقول له: يا فلان! ما الذي دعاك لهذه العجلة، ألا يسعك أن تطلب العلم أولاً حتى يزكيك أهل العلم؟ فالاستعجال في هذا الأمر ليس أمراً محموداً، يقول: يا شيخ؛ ليس المهم هذا، إنما المهم أن تقرأ الكتاب، وإن كان فيه شيء فأرجو أن تنصحني.
ثم يدعي بعد ذلك أنه ما فعل هذا إلا لنفسه، وأن هذا الكتاب لا يخرج إلى الوجود قط، إنما هذا جهد وبحث في مسألة يريد أن يصل فيها إلى الحق، فإذا قرأت الكتاب وأثنيت عليه أو قلت له: هذا الكتاب جيد في بابه لكن يحتاج إلى تعديل في موطن كيت وكيت، ولا تتعد هذه الأماكن، ثم ما هي إلا أيام وترى الكتاب مطبوعاً مسبقاً.
عجباً! فقديماً سمعنا الشيخ الألباني عليه رحمة الله وهو من هواة العلم يقول: لو استقبلت من الأمر ما استدبرت لجمعت ما كتبت وأحرقت، مع أنه لو فعل ذلك لكان جديراً بالأمة أن تحفر الأخاديد ثم توقد على نفسها النيران، ومعنى ذلك: أنه ندم ندماً شديداً مع رسوخه في العلم أن قلمه تجرأ بالكتابة، تجد طالب العلم ما يريد إلا الحديث فقط؛ لأنه يعرف أن الحديث هو مادته للتجارة.
لكن الأعمال بالنيات، لئن أفلحت في الدنيا فلن تفلح في الآخرة، وافعل ما بدا لك؛ فإنك معروض على الله عز وجل.(1/8)
المصنفات المطبوعة
قال: أما كتبه المطبوعة فهي: كتابه الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة.
وهو الكتاب المعروف بالإبانة الصغرى، وكتاب آخر في إبطال الحيل، وهو مطبوع كذلك.
وكان ابن بطة رحمه الله من كبار علماء الحنابلة في زمنه، وكان له اختيارات فقهية في المذهب الحنبلي، ذكر بعضها المرداوي في كتابه الإنصاف.
ومعنى (اختيارات فقهية) أنه كان مجتهداً في المذهب، مثل ما يقال: إن فلاناً هذا له حرف، يعني: أنه مجتهد في القراءة، وفي تأصيل وتقعيد الأصول والقواعد بكيفية التلاوة على الحرف الفلاني أو على قراءة فلان عن فلان.
كما تتلمذ عليه أشياخ وعلماء الحنابلة، ومنهم أبو حفص العكبري، وابن حامد وغيرهما.(1/9)
شيوخ ابن بطة العكبري وتلاميذه ووفاته
وقد أخذ ابن بطة الفقه والحديث وغيرهما من العلوم عن كبار شيوخ عصره، منهم أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد الفقيه الحافظ شيخ الحنابلة بالعراق، وصاحب التصانيف الكثيرة، إمام كبير معروف مشهور.
ومن شيوخه أيضاً: أبو القاسم الخرقي، وأبو بكر النيسابوري وكان إمام الشافعية في عصره.
ومن شيوخه البغوي وابن الباغندي، والآجري وابن صاعد وكثيرون غير هؤلاء.
وكلهم معروفون بالإمامة في الدين.
كما أخذ العلم عن ابن بطة تلامذة كثيرون عرفوا بالعلم والتقوى والفضل، ومن أشهرهم: الحسن بن شهاب العكبري، وأبو حفص العكبري، وأبو إسحاق البرمكي، وابن حامد، والقطيعي، والروشاني وغيرهم.
وكانت وفاة ابن بطة يوم عاشوراء سنة (387هـ)، أي أنه عاش حوالي (85) سنة، وقد سجلت لنا كتب التراجم قصيدة قيلت فيه، رثاه بها تلميذه ابن شهاب العكبري ومطلعها: هيهات ليس إلى السلو سبيل فليكتنفك تفجع وعويل إلى آخر القصيدة.(1/10)
التعريف بكتاب الإبانة
أما هذا الكتاب الذي نحن بصدده فاسمه الحقيقي: الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة.
ومعنى (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية)، أي: الإظهار والوضوح عن عقيدة أهل السنة لما ظهرت عقيدة الفرق المذمومة، فأراد هذا أن يظهر وأن يبين عقيدة أهل السنة والفرقة الناجية، فسمى كتابه الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة.(1/11)
توثيق نسبة الكتاب لابن بطة
أما من حيث توثيق إسناد هذا الكتاب إلى ابن بطة: فقد نسب هذا الكتاب إليه غير واحد ممن ترجم له، فـ الذهبي وغيره في ترجمتهم لـ ابن بطة يذكرون أن من مؤلفاته أن له كتاباً في أصول الديانة، وهذا الكتاب له أمارات وعلامات.
ومما يدل على نسبة هذا الكتاب إليه: السند المتصل إلى المؤلف، وهو من أقوى الأدلة في إثبات أن هذا الكتاب هو كتابه؛ والذي روى هذا الكتاب أثبت السند إلى ابن بطة.
الأمر الثاني الذي يدل على صحة إسناد هذا الكتاب إليه: ذكر هذا الكتاب العلماء القريبون من عصر ابن بطة وغيرهم من المتأخرين على أنه من مؤلفاته، ونقلوا عنه بهذا الاعتبار، يعني: كل من صنف في العقيدة بعد ابن بطة استفاد مما كتبه ابن بطة، فهذه النصوص عن علماء عصره ومن أتى بعدهم واعتمادهم على ما كتبه ابن بطة ونسبة ذلك إليه، تؤكد أنه كتب كتاباً في الاعتقاد، ومن هؤلاء أبو يعلى الحنبلي، وابنه أبو الحسين من المتقدمين، وكذلك ابن تيمية عليه رحمة الله، وابن القيم، والذهبي من المتأخرين.
الأمر الثالث: نقل بعض المحدثين لبعض المرويات عنه في هذا الكتاب، يعني: من أتى بعد ابن بطة وأراد أن يستدل بدليل في أصول الاعتقاد أورد هذا الدليل من طريق ابن بطة في هذا الكتاب، وهذا يدل على صحة النسبة إلى المؤلف.
الأمر الرابع: أن السماعات المثبتة على أجزاء النسخة الأصلية أو في نهايتها، تؤكد أن هذا الكتاب لـ ابن بطة، وقرأه عليه تلاميذه أو بعض تلاميذه، فأجازهم برواية هذا الكتاب، وكتب إجازته لهم في أول صفحة أو في آخر صفحة من كل نسخة من نسخ الكتاب.
وهذا كله يؤكد أن هذا الكتاب لـ ابن بطة بلا نزاع ولا خلاف.
الأمر الخامس: أن أحداً لم يطعن في نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه، فهذه الخمس الشواهد تؤكد أن الكتاب لـ ابن بطة ولم يطعن أحد في ذلك.(1/12)
موضوع كتاب الإبانة لابن بطة
أما موضوع الكتاب فهو: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، وأنه في العقيدة أو في أصول الاعتقاد.
وهذا الكتاب ليس هو الكتاب الوحيد الذي صنف في هذا الباب بل كتب كثيرة جداً على منواله صنفت في أصول الاعتقاد، وأحياناً يطلق المصنف على ما صنف باسم السنة أو شرح السنة، مثل: كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل ولولده عبد الله، وكتاب السنة لـ ابن أبي عاصم، والسنة للأثرم، والسنة لـ محمد بن نصر المروزي، وشرح السنة لـ ابن شاهين، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، وشرح السنة للبغوي وغيرها.
والمقصود بالسنة هنا: مخالفة البدع، ويهدف مؤلفو هذه الكتب في السنة أو في عقيدة السلف إلى إبراز عقيدة السلف كما كانت، خالصة من شوائب الفرق الأخرى وشبهها؛ وذلك من خلال روايتهم للأحاديث والآثار الواردة في هذه العقيدة، وهذه الكتب جميعها يكاد أن يكون نهجها واحداً، وهو ذكر عقائد السلف الصالح عن طريق رواية الأحاديث والآثار الواردة في جميع أبواب العقيدة السلفية، لاسيما ذكر من كان بارزاً ومشهوراً من السلف، حيث تذكر عقائدهم بالتفصيل مقرونة بأسمائهم.
فهذا باب عظيم جداً تصدى له علماء السلف في إظهار مسائل الاعتقاد التي خالف فيها أهل البدع.
والصحابة رضي الله عنهم لم يؤلفوا كتاباً في أصول العقيدة، لأن الأمر كان على الفطرة في ذلك الوقت، فلم تكن الأمة في حاجة إلى تصنيف يحفظ عليها أمر عقيدتها؛ لأنها محفوظة والعلم منتشر، وأي إنسان يرفع عقيرته يضرب على رأسه بالنعال أو بالجريد.
إذاً: لا حاجة للسلف حينئذ أن يكتبوا وأن يحذروا الأمة من الجحد بالقرآن مثلاً؛ لأن الجاحد يؤخذ على رأسه، لكن لما انتشر هذا الفكر وتفشى وصار ظاهرة في الأمة صنف العلماء في هذه المسائل التي خالف فيها أهل الفرق، وفي كل عصر وفي كل مكان تظهر بدعة، فاضطر أهل السنة إلى الرد عليها من باب الرد على المخالفين أو المبتدعين، وهذا أمر ليس محدثاً، وإنما هو أمر قديم قد تطرق إليه سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين.
فعندما يخرج مبتدع ببدعة لا يردون عليه، حتى إذا انتشرت بدعته وصار خطرها عظيماً على أغلب الأمة تصدى لها أهل العلم بالفضح والبيان والمخالفة وغير ذلك، ثم بينوا وجه الحق في المسألة من عقيدة السلف إلى يومنا هذا، فهذا النهج يسير عليه أهل السنة، لم يأت شخص بعد أن يتفشى المرض الفكري أو العقائدي في الأمة ويقول: يا أخي لا ترد عليهم، اتركهم، اجعل المسألة تمر.
أما الآن فالرجل في التلفزيون أو الصحف أو المجلات أو الجرائد يكتب ما يريد وما يحلو له، باسم الدين وباسم السنة، والأمة كلها تتناقل الأخبار، أنتم عارفون أن فلاناً قال كذا، وهذا فلان يقول هكذا وهذا مخالف لعقيدة المسلمين.
فحينئذ يجب وجوباً شرعياً محتماً على أهل السنة المتصدرين لبيان الحق في الأمة أن يظهروا فساد هذا الرأي، وأنه مخالف لعقيدة السلف التي هي المنبع والأساس، ولا يسعهم أن يسكتوا عن هذا الضلال، حتى وإن خمد هذا الضلال بعد ذلك ونسي وعفى عليه الزمن فإنهم لا ينجون من الإثم إلا أن يشاء الله عز وجل؛ لأن الله تعالى افترض عليهم إظهار دينه، ومكنهم من ذلك، وجعل لهم منزلة في قلوب الخلق فكان لابد عليهم أن يقوموا بهذا الواجب.
أما أن يتأخروا وأن يتقاعسوا وتقدم الأهواء والآراء المضلة الفاسدة على دين الله عز وجل، فهذا ليس نهج السلف.
ثم يقول: ومن المعلوم أن هذا النمط من الكتب -أي: كتب السنة- لم يظهر إلا بعد أن انتشرت الفرق الإسلامية وأخذت شبهها بالظهور بين الكافة.(1/13)
منهج ابن بطة في كتابه الإبانة
ومن الأجزاء الموجودة لدينا من هذا الكتاب نستطيع أن نقول: إن ابن بطة قد جمع بين رواياته للأحاديث والآثار الواردة في العقيدة، وبين الرد على الفرق المبتدعة، وقد سلك في كتابه مسلكاً عظيماً في إثبات وجه الحق في القضية، وإثبات قول المبتدعة والرد عليهم، أو إثبات قول المبتدعة ثم ذكر الآثار الواردة عن السلف في حقيقة هذه المسألة.
وأظهر فساد ما عليه أهل البدع أصحاب الفرق الضالة، ثم بين الحق في هذه القضية، وذلك عن طريق رواية الأحاديث والآثار الواردة في إبراز وبيان حقيقة عقيدة السلف الصالح في هذه القضية، وهذا مسلك عظيم جداً، فالرد العلمي هو إظهار فساد فكر المخالف ثم إثبات الحق بأدلته.
والفرق بين ضُلاَّل زمانهم وضُلاَّل زماننا كما بين السماء والأرض، ضُلاَّل زمانهم كانوا يتصورون أنهم أصحاب حق، فـ واصل بن عطاء، لما أتى رجل وسأل الحسن البصري وهو في المسجد الكبير في البصرة، فقال: يا إمام في مرتكب الكبيرة؟ وواصل بن عطاء تلميذ من تلاميذ الحسن البصري، لكن ليس من حقه أن يتكلم في حضرة الإمام، فتكلم قبل أن يتكلم الحسن البصري فقال: هو في منزلة بين المنزلتين، وهو في الدنيا لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة من المخلدين في النار.
ولم يكتف بذلك، بل استند إلى ركن من أركان المسجد، وأفتى أصحاب الأهواء والأمراض الفتاكة، وجلسوا مع واصل في حلقة في نهاية المسجد، فقال الحسن البصري: لقد اعتزلنا واصل، فسموا من هذا الوجه المعتزلة، والعار ينتابهم إلى قيام الساعة، وأصل البدعة أن واصلاً تخلى عن الأدب بين يدي شيخه، ولو انتظر حتى يسمع الجواب فلربما هداه الله عز وجل.
ولكنه تكلم بهذا الفقه بغير إذن فصار العار ينسب إليه إلى قيام الساعة؛ أنه أصل البلاء والاعتزال.(1/14)
تقسيمات ابن بطة وترتيبه لكتاب الإبانة
والحقيقة أن كتاب الإمام مكون من ثلاثة أجزاء، وكل جزء يتكلم في قضية بعينها، الجزء الأول يتكلم عن الإيمان ومباحثه، وما هو الإيمان، ومن خالف من الفرق في مسائل الإيمان والرد عليه، وإثبات عقيدة السلف في أن الإيمان قول وعلم وعمل، وأنه يزيد وينقص، وأن الأعمال لها تأثير عظيم في زيادة الإيمان ونقصانه.
وكتاب الإبانة جاء في ستة مجلدات، المجلدان الأولان يتكلمان عن الإيمان، والآخران يتكلمان عن القدر، والأخيران يتكلمان عن الرد على الجهمية، فالمجلدان الثالث والرابع فيهما الرد على القدرية وإثبات النصوص السلفية التي توجب الإيمان بالقدر وما هو القدر وأحكامه ومراتبه وغير ذلك، ثم يتكلم في المجلدين الأخيرين عن الرد على الجهمية، وتلاه الرد على القدرية والرد على المرجئة وغير ذلك من الفرق الضالة.
أما تقسيم كتابه فقد جاء في أجزاء الجزء الأول: يتعلق بالخمسة الأبواب، وهي: باب ذكر الأخبار والآثار التي دعت إلى جمع هذا الكتاب وتأليفه، يعني: ما هي العلة وما هو السبب الذي جعل ابن بطة يؤلف هذا الكتاب، ثم باب ما افترض الله تعالى نصاً في التنزيل من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن.
ثم باب ذكر ما نطق به الكتاب نصاً في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة، ثم باب ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة.
الجزء الثاني: ويتكون من ثلاثة أبواب: باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها وفضل من لزمها، وباب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لنا بذلك، وباب ترك السؤال عما لا يعني والبحث عما لا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين.
الجزء الثالث: ويتكون من باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان، ثم باب ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الجدل والكلام.
الجزء الرابع: ويتكون من: باب التحذير من استماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام ومحو شرائعه فيكنون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين، وباب إعلام النبي عليه الصلاة والسلام لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم وتحذيره إياهم، وباب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمر الفتن الجارية وأمره بلزوم البيوت، وباب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن وما يجب على الناس من الحذر منهم، وباب النهي عن المراء في القرآن.
الجزء الخامس: وفيه: باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وأن الإيمان قول وعمل، وباب معرفة اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وباب معرفة الإسلام وعلى كم بني، وباب معرفة الإسلام والإيمان وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وباب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو وأخلاق المؤمنين وصفاتهم، وباب كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك، وباب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق وعلامات المنافقين، وباب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارقه الإيمان فإن تاب راجعه.
الجزء السادس: ويتكون من أربعة أبواب: باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به عن الملة، وباب أن الإيمان خوف ورجاء، وباب بيان وجوب الإيمان وفرضه وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات ولا يكون المؤمن مؤمناً إلا بهذه الثلاث، وباب ذكر الآيات من كتاب الله عز وجل في ذلك.
الجزء السابع: ويتكون من أربعة أبواب: باب زيادة الإيمان ونقصانه وما دل على الفاضل فيه والمفضول، وباب الاستثناء في الإيمان، وباب سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ وكيف الجواب له وكراهية العلماء لهذا السؤال وتبديع السائل عن ذلك، وباب القول في المرجئة وما روي فيهم وإنكار العلماء لسوء مذاهبهم.
وفي آخر الكتاب وهو آخر المجلدات وآخر النسخ الخطية ذكر فضل أبي بكر وعمر واستفاض في إثبات فضلهما.
كأنه بذلك يرد على الرافضة والخوارج في إثبات فضل الصحابة.
وصلى الله على نبينا محمد ورضي الله عن أصحابه أجمعين.(1/15)
سبب تأليف ابن بطة لكتاب الإبانة
أما سبب تأليف الكتاب فيقول الإمام في مطلع نسخته: [أما بعد: يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء، ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الأيام- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المفترون بتمويهاتها، وكساها الزائفون والجاهلون حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل بنا الذي حذرناه نبينا صلى الله عليه وسلم من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، ووقع أكثرنا في الذي عنه نهينا -يعني: وقعنا فيما نهينا عنه- وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلة الإيمان، وانكشف الغطاء وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء، واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة، وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة -والزناد هي ذلك الرمح الذي يقلب به- فاضطرمت نيرانها، أي: كما أنك لو أوقدت ناراً ثم خمدت فإذا ضربت مادة هذه النار والوقود بعصا تأججت النار مرة أخرى، هكذا قال: وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، أي: زادت.
[وخلف محمد صلى الله عليه وسلم في أمته بأقبح الخلف -يعني: نحن شر خلف لخير سلف- وعظمت البلية، واشتدت الرزية، فظهر المبتدعون وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحنة، بعد أن كان أمرهم هيناً، وحدهم ليناً، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعاً، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهراً، والحق ظاهراً، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوساً أرباباً، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك -أي: وأقحم نفسه- في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا إليه مسرعين من كل قاصية، فالبسوا شيعاً وميزوا قطعاً، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة، والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله، وصدودهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله عز وجل عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فاشتعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضية، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار، ورويت فيهم الآثار].
وهذا في القرن الرابع فما بالك لو رأى زماننا هذا.
نكتفي بهذا القدر من بيان حال المؤلِف والمؤلَف كذلك، ثم نقف عند أول أثر من آثار هذا الكتاب في الدرس القادم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.(1/16)
شرح كتاب الإبانة - الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع
وردت آثار كثيرة عن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في افتراق هذه الأمة وظهور البدع فيها، وما ذاك إلا بسبب ركوبها سنن أهل الكتاب، ومتابعتهم في عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم ومشاربهم، ولا مخرج من هذا كله إلا أن يكون المسلم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.(2/1)
مقدمة المصنف رحمه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: فهذا هو الدرس الأول في صلب الكتاب، وما سبق كان تعريفاً بالمؤلِّف والمؤلَّف.
ذكر الإمام ابن بطة رحمه الله في مقدمة هذا الكتاب كلاماً يستشعر القارئ أنه ينضح أسىً وحزناً على ما بلغ إليه أهل زمانه من الفساد والانحراف وترك السنة وظهور البدعة، فكيف به لو ظهر في زماننا ورأى ما نحن عليه؟! قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحمد لله المشكور على النعم بحق ما يطول به منها، وعند شكره بحق ما وفق له من شكره عليها، فالنعم منه والشكر له، والمزيد في نعمه بشكره، والشكر من نعمه لا شريك له، المحمود على السراء والضراء، والمتفرد بالعز والعظمة والكبرياء، العالم قبل وجود المعلومات، والباقي بعد فناء الموجودات، المبتدئ بالنعم قبل استحقاقها، والمتكفل للبرية بأرزاقها قبل خلقها، أحمده حمداً يرضيه ويزكينا لديه، وصلى الله أولى صلواته على النبي الطاهر عبده ورسوله مفتاح الرحمة وخاتم النبوة، الأول منزلة، والآخر رسالة، الأمين فيما استودع، الصادق فيما بلغ.
أما بعد: يا إخواني! عصمنا الله وإياكم من غلبة الأهواء ومشاحنة الآراء، وأعاذنا وإياكم من نصرة الخطأ وشماتة الأعداء، وأجارنا وإياكم من غير الزمان -أي: من تغيرات الزمان ومحدثاته- وزخاريف الشيطان، فقد كثر المغترون -وفي رواية: فقد كثر المفترون- بتمويهاتها، وتباهى الزائغون والجاهلون بلبسة حلتها، فأصبحنا وقد أصابنا ما أصاب الأمم قبلنا، وحل الذي حذرناه نبينا صلى الله عليه وسلم، من الفرقة والاختلاف، وترك الجماعة والائتلاف، وواقع أكثرنا الذي عنه نهينا، وترك الجمهور منا ما به أمرنا، فخلعت لبسة الإسلام، ونزعت حلية الإيمان، وانكشف الغطا وبرح الخفاء، فعبدت الأهواء واستعملت الآراء، وقامت سوق الفتنة وانتشرت أعلامها، وظهرت الردة وانكشف قناعها، وقدحت زناد الزندقة فاضطرمت نيرانها، وخلف محمد صلى الله عليه وسلم في أمته بأقبح الخلف، وعظمت البلية واشتدت الرزية، وظهر المبتدعون، وتنطع المتنطعون، وانتشرت البدع، ومات الورع، وهتكت سجف المشاينة، وشهر سيف المشاحة بعد أن كان أمرهم هيناً وحدهم ليناً، وذاك حتى كان أمر الأمة مجتمعاً، والقلوب متآلفة، والأئمة عادلة، والسلطان قاهراً، والحق ظاهراً، فانقلبت الأعيان، وانعكس الزمان، وانفرد كل قوم ببدعتهم، وحزب الأحزاب، وخولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رءوساً أرباباً، وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاق، وتهوك في العسرة العامة وأهل الأسواق، ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا نحوه مسرعين من كل قاصية، فألبسوا شيعاً، وميزوا قطعاً، وشمتت بهم أهل الأديان السالفة والمذاهب المخالفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما ذاك إلا عقوبة أصابت القوم عند تركهم أمر الله عز وجل، وصدفهم عن الحق، وميلهم إلى الباطل، وإيثارهم أهواءهم، ولله عز وجل عقوبات في خلقه عند ترك أمره ومخالفة رسله، فأشعلت نيران البدع في الدين، وصاروا إلى سبيل المخالفين، فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الماضين، وصرنا في أهل العصر الذين وردت فيهم الأخبار ورويت فيهم الآثار].(2/2)
الآثار الواردة في افتراق الأمة وظهور البدع
ثم يروي رحمه الله بعد ذلك بسنده آثاراً كثيرة للدلالة على صحة ما قدم لهذا الكتاب، وأن البلاء الذي وقعت فيه الأمة -ولا تزال تغط فيه غطاً- إنما هو بسبب ترك أمر الله عز وجل، وترك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإقبالها على البدع، وشربها للأهواء شرباً كما تشرب الماء البارد في اليوم الحار.
وهذه النصوص ما كان منها مرفوعاً شددنا فيه، وما كان منها موقوفاً أو أقل من ذلك تساهلنا فيه، وذكرنا بالعبرة منها.(2/3)
حديث عبد الله بن عمرو (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل)
وقد أورد رحمه الله حديث الافتراق من طرق، وهو حديث يكاد أن يكون متواتراً، فقد رواه الجمع الغفير، وربما وجد في بعض طرقه ضعف، لكن هذا الضعف لا يؤثر؛ لثبوت الحديث اتفاقاً وشهرته كذلك.
قال: [عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل، حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة)]، ولم يذكر اليهود؛ لأن اليهود افترقت إلى واحد وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الرواية إنما تكلم عن بني إسرائيل، وهم اليهود والنصارى.
قال: [(وإنهم تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، تزيد عليهم واحدة)]، أي: أن هذه الأمة في تفرقها واختلافها، وعدم ائتلافها واتفاقها، أنها تزيد في تفرقها وتشرذمها وابتعادها عن نهجه السليم القويم عن عدد الاختلاف الواقع في بني إسرائيل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لما علم يقيناً من ربه أن اليهود والنصارى بعد بعثته جميعاً في النار ما لم يؤمنوا ويدخلوا في الإسلام إنما اهتم وعني ببيان الفرق الإسلامية التي ستدخل النار.
فقال: [(تزيد عليهم واحدة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي)].
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان على المحجة البيضاء، وقد تركنا عليها، ليلها كنهارها، ليس فيها زيغ ولا خفاء ولا لبس، ولا شيء من هذا مما يعذر به المرء بين يدي الله عز وجل.
فكانت الأمور واضحة والسنة ظاهرة حتى نهاية العصر الأول من عصر النبوة، حين ظهرت القدرية والخوارج والشيعة، وهذه الفرق هي أُولى الفرق ظهوراً في الإسلام، وكلها ظهرت في أواخر القرن الأول من القرون الخيرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام بين أن الافتراق لا بد أنه واقع في هذه الأمة، وبين أن هذه الفرق ثلاث وسبعون فرقة، ثم بين أن مجموع هذه الفرق في النار إلا واحدة فقط، وهي التي يطلق عليها أهل العلم: الفرقة الناجية، وبعض الناس يخطئ إذا تصور أنها الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة إجماعاً، لذا فإن كل من تمسك بالسنة واستمسك بها، وتمسك بالجماعة ولم يفارقها قيد شبر، فهو من أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية.
أما الطائفة المنصورة فشيء آخر، إذ إنهم خاصة الفرقة الناجية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا هم أهل الحديث فلا أدري من هم؟! والظن بالإمام أحمد أنه عنى: أهل العلم المتخصصين المعروفين به، سواء كانوا من أهل الحديث أو من غيره من بقية فروع العلم الشرعي.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)، والسؤال هنا: هل هؤلاء دخلوا النار ردة؟ وإذا دخلوها -إن لم يكونوا قد ارتدوا- فهل سيخلدون فيها؟ اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: إن هذه الفرق كفرت وارتدت، وهي في الآخرة مخلدة في النار، لكن جمهور أهل السنة والجماعة أن الحكم بالنار لهذه الفرق ليس على سبيل التأبيد، وإنما على سبيل جزاء الانحراف وعلى قدر الانحراف، فيعذبون ثم يخرجون بشفاعة الشافعين بعد ذلك.
مع أنهم يستثنون الغلاة، وإن شئت فقل: هم يقسمون الفرق إلى عامة وغلاة، فالغلاة منهم لا بأس بتكفيرهم؛ لأنهم من أهل العلم، وقد ظهرت لهم حجج أهل السنة والجماعة، وهي حجج شرعية نقلية، ومتفقة مع العقل السليم تمام الاتفاق.
وهذا الرأي من أعجب الآراء إلي، إذ إن غلاة كل فرقة كفار إذا أتوا ما يستوجب كفرهم، وهم مخلدون في النار بالتأكيد إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة.
وسموا بأهل السنة لاتباعهم للسنة، وسموا الجماعة لأنهم لا يخالفون الإمام ولا يخرجون عليه، وأعني بالإمام: الإمام العادل المسلم وإن كان فاجراً؛ لأن أهل السنة متفقون على عدم جواز الخروج على الإمام المسلم وإن جار، لكن بشرط أن لا يكون جوره مؤدياً إلى كفره كفراً بواحاً، فلو كان مؤدياً إلى كفره كفراً بواحاً، واستتيب ولم يتب وجب على الأمة أن تجتمع لخلعه ولا بد، قال: (كلهم في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! وما تلك الواحدة قال: هو ما نحن عليه اليوم أنا وأصحابي) وهذا يدل على أن الصحابة وخاصة الخلفاء الراشدين على الستر والسلامة والأمن والإيمان، وأن البدع من أبعد الأشياء عنهم أجمعين، فضلاً عن الخلفاء الراشدين.(2/4)
حديث شداد بن أوس (لتركبن ما ركب أهل الكتاب)
قال: [وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لتركبن ما ركب أهل الكتاب)]، (لتتبعن سنن أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، أي: إن لم يكونوا هم الذين أعنيهم فمن يكونون إذاً؟ وإنما عنى بهم اليهود والنصارى والخوارج والروم.
ثم قال: [(لتركبن ما ركب أهل الكتاب لا تخطئون ولا يخطأ بكم، حذو النعل بالنعل)]، أي: تصيرون خلفهم، فإذا رفعوا نعالهم وضعتم أنتم نعالكم مكان نعالهم، مبالغة في ترك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وترك الاهتمام بها والاهتداء بهديه، ومتابعة اليهود والنصارى في كل شيء، في عقائدهم وأخلاقهم ومسالكهم ومشاربهم، حتى لا يكاد الواحد منا -عياذاً بالله- يخطئ اليهودي ولا النصراني فيما يتعلق بخاصته، أي: يقلده في كل شيء، وأنتم تعلمون الآن أن تقليد المسلمين لأهل الكتاب -وإن شئت فقل: دول أوروبا وأمريكا- على أشده في بلاد المسلمين، حتى أخذ هذا مظهراً آخر واعتقاداً آخر، وحتى صار الذي يتبع اليهود والنصارى هو الإنسان المتمدن المتحضر الواعي العاقل الفاهم، وغير ذلك من هذه المصطلحات الرنانة، وفي الحقيقة هو الإنسان الفاجر الخاسر المستنكف عن عبادة الله عز وجل، المخالف لطريق النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على أية حال مذهبنا، وهذا فهمنا، وليعده من شاء تخلفاً أو تقدماً، فهذا لا يعنينا، إنما الذي يعنينا هو اعتقادنا الجازم أن ترك السنة وركوب سنن أهل الكتاب هو التخلف بعينه، وهو الفجور بعينه، وهو الفسق بعينه، وأخشى أن من قلدهم حشر معهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم، يحب القوم لكنه لا يتمكن ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)، قال أنس وهو راوي الحديث: فوالله ما فرح الصحابة رضي الله عنهم أشد من فرحهم يوم أن سمعوا: المرء مع من أحب، ثم قال أنس: وأشهدكم أنني أحب أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم أجمعين.(2/5)
حديث أبي هريرة (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم)
قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)]، وهذا الحديث أخرجه الشيخان.
قال القاضي عياض: الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر، كل هذه الألفاظ التي وردت في الأدلة تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء مما نهى الشرع عنه وذمه، وفي رواية: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك)، أي: ومن أعني إلا أولئك.(2/6)
بيان المصنف انطباق أحاديث الافتراق على أهل زمانه
قال الشيخ ابن بطة رحمه الله: [وإنما ذكرت هذه الأحاديث في هذا الموضع من هذا الكتاب ليعلم العقلاء من المؤمنين، وذوي الآراء من المميزين أن أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قد صحت في أهل زماننا -أي: أنه يتكلم عن زمانه، فما بالك لو رأى زماننا- فليستدل بصحتها على وحشة ما عليه أهل عصرنا، فيستعملوا الحذر من موافقتهم ومتابعتهم]، أي: أن هذه الأحاديث ربما ما قالها النبي عليه الصلاة والسلام إلا ليحذر أهل زمان ابن بطة من متابعة اليهود والنصارى.
قال: [ويلزمون اللجاء والافتقار إلى الله عز وجل في الاعتصام بحبله -أي: القرآن- والتمسك بدينه، والمجانبة والمباعدة ممن حاد الله ورسوله في أمره، وشرد شرود الناد المغتلم]، أي: شرود إنسان فارق وخالف وشذ.(2/7)
الأحاديث والآثار الواردة في معنى حديث افتراق الأمة
قال رحمه الله تعالى: [وأنا أذكر أيضاً من هذه الأحاديث وما يضاهيها وما هو في معانيها، لتكون زيادة في بصيرة المستبصرين، وعبرة للمعتبرين، وتنبيهاً للغافلين].(2/8)
حديث أبي أمامة الباهلي (لتنقضن عرى الإسلام) وبيان مظاهر ذلك في زماننا
قال: [وعن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة)].
ثم قال عياض: أتدرون ما نقض الصلاة؟ قالوا: لا نعلم، قال: رفع الخشوع.
والناظر في هذا الحديث الصحيح سيجد أنه ينطبق تمام الانطباق على أهل زماننا، فإن الإسلام ينقضي عروة عروة، وشيئاً فشيئاً، والعجب أنك إذا قرأت لعلماء السنة منذ خمسين عاماً مثلاً أو مائة عام وهم يذبون عن الإسلام وعن الإيمان، فيدافعون في وجوه أعداء السنة والقرآن، ويردون على المستشرقين أقوالهم وأفعالهم، ودس السم في العسل، تكاد تعجب إذا قرأت مثلاً لواحد مثل الشيخ أحمد شاكر وهو لم يمض على موته خمسين عاماً، فيرد على الملاحدة في زمانه؛ لأنهم تكلموا في فرعيات وجزئيات لا يكاد طالب العلم أن ينتبه لها، لكن انتبه لها العلماء أمثال الشيخ أحمد شاكر؛ لأن ملحداً أو زنديقاً أو منافقاً أو معادياً للإسلام وأهله أراد أن يغمز الإسلام غمزاً من طرف خفي وعلى استحياء، في جزئية الجزئية من دين الله عز وجل، لينظر الآن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى الطعن وخلع الثوابت من قلوب أبناء الإيمان وأهل الإسلام، والمسألة لا تحتاج بعد ذلك إلى استحياء، فكل كيد أو كل خنزير عنده طعن على الإسلام وأهله، سواء في الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو القرآن، أو الرسول، أو السنة، أو في الله عز وجل؛ له أن يتقدم به الآن، وله أن يفعل بدين الله ما يشاء تحت ذريعة الإبداع، وحرية الفكر، وباب الأدبيات الراقية، والعقول النيرة.
ونحن نقول لهم: من باب الديمقراطية التي تؤمنون بها ونكفر نحن بها أيضاً؛ لأن الديمقراطية ما هي إلا ترك حكم الله عز وجل، وأن الشعب يحكم نفسه بنفسه.
فنحن على أية حال من باب الديمقراطية التي يؤمنون بها نقول لهم: أعطونا فرصة، فمن باب الأدب، ومن باب الديمقراطية، ومن باب الإبداع أن نفكر كما تفكرون، وأن نبدع كما تبدعون، وأن نستنير كما تستنيرون ونقول إنكم كفار! فهذا الإبداع الذي نملكه نحن؛ لأن الذي يسب الله تعالى ويسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويقول إن القرآن كذا وكذا، وإن الرسول مزاجي! ويغمط النبوة والرسالة، ويطعن في شخصه عليه الصلاة والسلام؛ الذي يفعل ذلك كافر.
ثم بعد ذلك يظهر كتاب آخر بعد هذا الكتاب، يطالب باستئصال ثوابت الإسلام من قلوب المؤمنين، بالطعن في ذات الإله، وبالطعن في القرآن، ثم يقول: وهذا إبداع، وهذه أدبيات راقية قلَّ أن يصل إليها أحد من أهل العصر! ونحن نقول: لو تكرمتم أعطونا فرصة لنبدع مثلكم، لكن إبداعنا إيمان وكفر؛ ولذلك نحن نقول: ما وصلتم إليه إبداع، ونعم الإبداع هو في نظركم! وهو عندنا كفر بواح، وقائله كافر، والراضي به كافر، والمساعد على مثله كافر، فهذا الإبداع الذي عندنا، وليس إبداعكم أولى بنشره وبيانه ووضوحه من إبداعنا، فأعطونا مساحة نبدع فيها، ولا تجعلونا أكواماً على الأرصفة، فنحن لنا الحق في الإبداع مثلكم، لكن إبداعنا يقتضي تكفيركم وخلودكم في النار إن متم على ذلك، فهذا نوع إبداعنا، وكل واحد أعلم بإبداعه، وهو حر في إبداعه.
والعجب العجاب: أن الكلام من قبل كان في فرعيات وجزئيات الدين على استحياء وخجل، وكان يقال: هذا الكلام يمكن أن يصح ويمكن ألا يصح، يمكن أن يقصده قائله ويمكن ألا يقصده، أما اليوم فسب علني لكل ثوابت الإسلام! وتصور لو أن بعض السلف رضي الله عنهم -ولا أقصد بالسلف الشيخ أحمد شاكر الذي مات منذ خمسين عاماً ومن مات قبله وبعده بقليل- ظهر الآن ورأى هذا الإبداع في خلع مبادئ الإسلام من قلوب أبنائه، فماذا يقول؟ وكيف يكون موقفه؟! أما نقض الحكم فهو بلية البلايا، فالله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، أي: ليس الحكم لأحد إلا لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وأما هذه الدول العربية والإسلامية التي استغنت عن الله وعن حكمه، وعن شرعه وعن قرآنه، فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، بل ليس بعد كلام الله كلام، ولا بعد كلام الرسول كلام، إنما هي حثالات عقول البشر التي لا يمكن أن تصلح من خرج بها، ومن ظن أنه أبدعها أولاً، فإنها والله لا تصلحه، وكنا من قبل نعتقد ما كان يملى علينا في الجامعات من أن هذه القوانين الغربية لا تصلح إلا في بلادها التي خرجت منها، وإننا الآن بعد أن رددنا هذا نقول: إن هذا من أنكر المنكر وأكثر الفساد، بل هذه البلاد الغربية لا يصلحها إلا كتاب الله عز وجل، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن القوانين الفرنسية والإنجليزية والأمريكية لا تصلح للتطبيق في هذه البلاد، بل لا يصلحهم إلا ما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام.
فهذا الحكم قد نقض منذ زمن بعيد، ولا أعلم بقعة على وجه الأرض الآن تطبق شرع الله عز وجل كما أراد الله، وكما أراد(2/9)
حديث أنس بن مالك (إن الإسلام بدأ غريباً)
قال: [وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)].
هذا خبر من النبي عليه الصلاة والسلام يبين لنا فيه أنه لما بُعث بعث وحده في قوم يغطون في عبادة الأصنام والأوثان، ويعبدون آلهة شتى، فإذا به يسفه أحلامهم، أو يسفه أصنامهم، ويدعو لشيء غريب، ولذلك بدأ غريباً، ومن تبعه على ذلك كان أشد غرابة، خاصة الفقراء وهم أتباع الأنبياء، والمهاجرون الذين هاجروا إليه من الروم ومن فارس وغيرها من البلدان المجاورة، والحق الذي علمه من الكتب السابقة.
قال: (إن الإسلام بدأ غريباً)، وبعد غربة الإسلام اشتد وقوي وأسست الدولة وفتحت البلدان، وكذلك عقول الخلق وقلوبهم، وتحملت كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، واشتد عود الدولة حتى هابها القاصي والداني، حتى قال هارون الرشيد أحد الخلفاء لما أرسل رسالة إلى نقفور: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب ما ترى لا ما تسمع، وسأرسل إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي.
وهذا يعني أن الإسلام كان في عزة وقوة وسيادة وريادة، وكان هذا لفترة من الزمان ليست بالقليلة، ثم كان الإسلام يضعف ويقوى حتى انتشر في ربوع الأرض على ضعف وهزال، وهي الفترة التي يمر بها المسلمون الآن، كثرة كاثرة لا قيمة لها ولا وزن لها.
ولذلك حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا، وإن شئت فقل: أخبر بهذا، وأننا غثاء كغثاء السيل، وسبب ذلك: (ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فهذا حال الأمة اليوم، ومن أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام أن يتكلم بهذا الكلام.
قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، أي: بعد قوة وذهاب للغربة الأولى سيعود غريباً كما بدأ؛ فلذلك أنتم الآن غرباء في مجتمع يغط غطيطاً في أخلاق الجاهلية وأعمال الجاهلية، وإن شئت فقل: نحن كذلك لم ننج من أعمال الجاهلية، بل كثير منا في وقت الميسرة تجده أحسن أخ، وفي وقت العسرة والغضب والشدة والضيق لو اضطر أن يذهب إلى ساحر يستجلب الرزق لذهب.
إن الواحد منا لو فقد شيئاً عزيزاً عليه وقيل له: ليس من علاج إلا أن تذهب للساحر لذهب وهو يعتقد أن الساحر سيأتي به، وهذا من أعظم الجاهلية، بل هو الكفر البواح، ومع هذا يصدر منا معاشر الصحوة أحياناً! وعلى أية حال فالمسلمون اليوم يمرون بغربة عجيبة، والمتمسك بدينه كالقابض على الجمر، فليصبر، والله تعالى الناصر لعباده.
ولذلك بشر النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء الغرباء أولاً وآخراً بـ (طوبى) فقال: (فطوبى للغرباء)، أي: جزاء الغرباء لو تمسكوا بدينهم، واحتملوا هذه الغربة وما فيها من سب وتهكم وشتائم، واتهام بالإرهاب والتطرف؛ أن لهم في الآخرة: (طوبى) على خلاف في تفسيرها.
فقيل: هي منزلة في الجنة لا يدخلها إلا الغرباء.
وقيل: هي شجرة في الجنة يسير الراكب المسرع في ظلها مائة عام، وقيل غير ذلك.(2/10)
أثر عبد الله بن عمرو بن العاص (كان النفاق غريباً)
قال: [قال عبد الله بن عمرو بن العاص: كان النفاق غريباً في الإيمان]، أي: كان النفاق أولاًَ غريباً في الإيمان، إي والله، ولذا كان من أغرب الغرابة أن ينافق أحد في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن نتمنى لو أننا رأينا النبي عليه الصلاة والسلام ولو في المنام، وهذه عاجل بشرى المؤمن، فما بالك بمن كان يلقاه في كل وقت وحين، ويسمعه يقرأ القرآن الكريم.
وإذا كان الواحد منا إذا استمع مثلاً إلى الشيخ المنشاوي كأن قلبه يحلق في السماء، وهذا الشيخ المنشاوي عنده ما عنده من المعاصي، وعنده ما عنده من الطاعات؛ لأنه فقط لا يخلو مما نحن فيه.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام الذي ما أتى وما فكر في كبيرة قط، بل عصمه الله عز وجل، إنما أوتي من القرآن حلاوة وجمالاً وصوتاً لم يؤته أحد، فتصور أنك تسمع القرآن من النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن والصحابة خلفه يتمنون أن لو ختم القرآن، أن لو أتى على آخره دون أن يصيبهم ملل.
والشيخ ابن باز عليه رحمة الله يقول عن الشيخ المنشاوي: عجباً لهذا الرجل، لا يمل السامع من سماعه ولو كرر السورة مئات المرات! فما بالك بالنبي عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ؟! ومع هذا فإن عبد الله بن أبي ابن سلول الكلب الملعون، ما كفاه الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وسماعه القرآن منه، بل وما كفاه رؤية النبي عليه الصلاة والسلام، والآيات التي تتنزل من السماء، والمعجزات التي تظهر على يده الشريفة عليه الصلاة والسلام.
كل هذا لم يغير في قلبه، ولذا فلا يمكن أن يكون هذا قلباً، بل قطعة من الصخر أو الحجر.
ولذلك استغرب عبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون النفاق في زمن النبوة، فقال: كان النفاق غريباً في الإيمان، أي: في ذلك الوقت.
ثم قال: [ويوشك أن يكون الإيمان غريباً في النفاق]، وهذا هو الشاهد، أي: أن معظم أبناء الأمة تمرسوا في النفاق حتى صار صاحب الإيمان فيهم غريباً، ولا زلنا في تفسير الغرباء.(2/11)
أثر حذيفة: (أتركت بنو إسرائيل دينها في يوم)
قال: [وقال طارق بن شهاب: قيل لـ حذيفة: أتركت بنو إسرائيل دينها في يوم؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه]، فانظر إلى الخلع كيف يكون؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحاب المعاصي: كلما شرب العبد معصية نكت في قلبه نكتة سوداء، وإذا شرب أخرى نكت أخرى، وثالثة ورابعة حتى تسجتمع على قلبه طبقة تسمى الران، وهذا الران طبقة من السواد تغشى القلب حتى لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وربما زيد له في هذا البلاء، فعد المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وهذا كما يفعل المنافقون في هذا الزمان، فيحاربون أهل الإيمان، لكن العجيب أن هذه الحرب باسم الإسلام وباسم الإيمان، فمثلاً: مجلة روز اليوسف، أو المتمسلمون من أسرة روز اليوسف لا يقلون في كفرهم ونفاقهم عن النصارى الذين يكتبون معهم في نفس هذه المجلة، إذ إنهم يحاربون أهل الإيمان، ويحاربون الدعاة إلى الله عز وجل، نعم عندنا ضعف، وعندنا أخطاء، وعندنا تجاوزات، ونحن في نهاية الأمر بشر، لكن ليس عندنا نفاق ولا كفر.
أما هم فهم أساتذة ومؤسسون للكفر، ويبثونه بالليل والنهار، وشتان بين ما عندنا من إهمال وتقصير وبين ما عندهم من كفر وجحود، ومع هذا يحاربوننا باسم الإسلام، أي: يقولون كلاماً يجعل الإنسان ينطلق في ليله ونهاره داعياً إلى الله، لذا فحذار أن تتصور أنك جئت إلى هنا لتسمع الدرس، بل أنت مكلف بعد خروجك من هذا المسجد بما هو أعظم من بقائك فيه، أنت مكلف في الليل والنهار بالدعوة إلى الله عز وجل، وفضح مخططات هؤلاء المنافقين، وإظهار صورة حسنة للإسلام وأهله، إما بالقول وإما بالعمل، وإن هذه الغمة لا تنقشع إلا بحسن الدعوة إلى الله عز وجل، ولا بد أن يقوم بها كل إنسان على قدر ما أوتي، وهنا نستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).(2/12)
أثر حذيفة بن اليمان (أول ما تفقدون من دينكم)
قال: [وعن حذيفة بن اليمان قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتصلين النساء وهن حيض، ولينقضن الإسلام عروة عروة، ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم، وتبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله {َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، لا يصلون إلا صلاتين أو ثلاثة، وفرقة أخرى تقول: إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة ما فينا كافر ولا منافق، حقاً على الله أن يحشرهم مع الدجال].
هذا الكلام سنده ضعيف، وربما يكون في المتن بعض نكارة.
لكن لنا أن نأخذ العبرة من هذا الكلام، وهو أن فرقتين في آخر الزمان تنكران ثوابت الإسلام.
أما الأولى فتقول: ما هذه الصلوات الخمس التي يصليها الناس، فيكفينا أن نأخذ بالقرآن ولا علاقة لنا بالسنة، والقرآن ما قال في الصلاة غير قول الله عز وجل: {َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ} [هود:114]، أي: صلاة في أوله، وصلاة في آخره، {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، أي: وشيئاً يسيراً من آخره؟! ووالله لقد بلغ إلى مسامعي من يقول بهذا، وهو رجل ادعى العلم، وكتب ما يربو على عشر رسائل يسب فيها أهل العلم، وكأنه أخذ على عاتقه أو أقسم طلاقاً أن يشتم ويسب إمام أهل السنة والجماعة الشيخ الألباني عليه رحمة الله تعالى، فأبى الله عز وجل إلا أن يفضح هذا ويرفع ذاك، فرفع الله تعالى ذكر الألباني في الناس كلهم أجمعين، وأخزى هذا الأبعد، وهو بجواركم هنا خلف هذا المسجد، ولا بأس أبداً أن أذكره، وهو المعروف بـ أبي عبد الرحمن الأثري الذي صنف رسالة يقول فيها: تضعيف ما صححه الألباني وتصحيح ما ضعفه الألباني، والرد على جهالة الألباني، والرد على سفالة الألباني، وغير ذلك من عناوينه الاستفزازية التي سب فيها أهل العلم.
وكذلك لم ينج علماء الحجاز من لسانه، حتى فتن في دينه الآن وقال: الصلوات الخمس بدعة منكرة، وليس في الدين إلا صلاة في الصباح وصلاة في المساء! ولا بأس أن يصلي المسلم شيئاً من الليل، هكذا قال أخزاه الله! فالحمد لله أن بلغ إلى أعظم حد الردة، وكل هذا بسبب سبه لأهل العلم، إذ إن أهل العلم لهم حرمة عظيمة، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن تعرض لهم بالثلب، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب.
على أية حال: نحن نحافظ كل المحافظة على البقية الباقية، لكن من أراد أن يمرق في هذا الزمان فالباب مفتوح على مصراعيه.
أما الفرقة الثانية التي ذكرها حذيفة فتقول: (إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق)، وهذا كلام يشبه كلام المرجئة؛ لأن المرجئة يقولون: نحن مؤمنون كإيمان جبريل وميكائيل، وإن إيماننا لا تضره ولا تؤثر فيه المعاصي، وهذا كلام كله خبل؛ ولذلك دعا عليهم حذيفة وقال: أسأل الله أن يحشرهم مع الدجال.(2/13)
أثر حذيفة (يأتي على الناس زمان)
قال: [وعن حذيفة قال: يأتي على الناس زمان لو رميت بسهم في يوم الجمعة لم يصب إلا كافراً أو منافقاً].
وهذا أثر ضعيف، وهو في الحقيقة شديد جداً على الناس، لكن حذيفة كان بارعاً ومتخصصاً في الفتن التي ستقع فيها الأمة حتى قيام الساعة؛ إذ إن النبي عليه الصلاة والسلام قد أطلعه على الفتن التي تظهر في الأمة إلى قيام الساعة، وتصور أن حذيفة يقول: سيأتي على هذه الأمة زمان لو أنك ألقيت على الناس في المسجد وهم يشهدون الجمعة سهماً؛ فإنه لا يكاد يقع إلا على كافر أو منافق، وهذا لكثرة النفاق وترك الإسلام، حتى وإن صلوا وصاموا.
وعلى أية حال فالأثر ضعيف، وأنا لا أقول به، لكن هذا الكلام يستفاد منه: كثرة الغدر في آخر الزمان.(2/14)
حديث غضيف بن الحارث: (ما ابتدعت بدعة إلا رفعت)
قال: [وقال غضيف بن الحارث: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ابتدعت بدعة إلا رفعت مثلها من السنة)].
أي: ما ابتدعت بدعة إلا أثرت فيما يقابلها من السنة، وهذا كلام حق؛ لأن البدعة في الدين بقصد القربة ليس لها دليل من الكتاب أو السنة.
وهنا لو أن مبتدعاً ابتدع في دين الله عز وجل فإنه لا بد أن تقابل هذه البدعة مثيلتها من السنة، فإذا ظهرت البدعة ماتت السنة، وإذا ضعفت البدعة ظهرت السنة، فالسنة والبدعة طرفا رهان، إذا ظهر أحدهما انطفأ الثاني.(2/15)
أثر ابن عباس: (ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه)
قال: [وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن].
فأنت الآن عندما تأمر شخصاً بسنة يقول لك: لنا خمسون سنة على هذا، وقد أخذت هذا عن آبائي وأجدادي.
فيظن أن ذلك هو الحق، وهو في الحقيقة على بدعة، ولذا فما الفرق بين قيام معظم هذه الأمة على هذه المبتدعات والشركيات وأنهم ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وبين هؤلاء الذين عبدوا الأصنام أخذاً عن دين آبائهم وأجدادهم؟! إن هذا ابتدع والأول أشرك، ومن البدع ما هو شرك في العمل فحسب.(2/16)
أثر علي بن أبي طالب: (لا يزال الناس ينقصون)
قال: [وقال علي بن أبي طالب عليه السلام].
الحقيقة أن تخصيص علي بالسلام دون صحابة النبي عليه الصلاة والسلام أمر مبتدع لم يكن معروفاً عند سلفنا، إلا ما جاء عن الشيعة أنهم يقولون عن علي بن أبي طالب وأئمة البيت عليهم السلام.
ومن جهة الاعتقاد واللغة لا بأس أن نقول: عليهم السلام، لكن لا يختصون به دون بقية الأشخاص، فالصحابة جميعاً عليهم السلام.
أما تخصيص علي وآل بيته بذلك فمشعر بشيء من التشيع، لذلك لم يكن سلفنا رضي الله عنهم يخصون أهل البيت بالسلام، وإنما يقولون: علي رضي الله عنه، الحسن رضي الله عنه، الحسين رضي الله عنه، فاطمة رضي الله عنها، وغير ذلك من آل بيته عليه الصلاة والسلام.
قال: [قال علي رضي الله عنه: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يقول أحد: الله الله]، أي: لا يزال الناس في نقصان حتى لا يقول أحد: الله الله.
ومعنى: (حتى لا يقول أحد: الله الله)، أي: لا يستعلن أحد بذكر الله عز وجل، وليس معنى ذلك أن الأرض لا يبقى عليها أحد أبداً يعرف ربنا، ولا يقول: الله الله، بل لا يزال الناس في نقصان، حتى يخشى أهل الإيمان ألا يقول أحد: الله الله.
ونحن الحمد لله نصلي ونصوم ونرفع الأذان، ونعمل كل شيء في هذا الوقت، والحمد لله أيضاً أنه لم يجعلنا من أهل الزمان الذي لا يمكن لنا أن نرفع أصواتنا، ولا أن ننطق بألسنتنا لفظ الجلالة، إذ نحن في نعمة عظيمة جداً فلنحافظ عليها، والمحافظة عليها لا تكون إلا بالعلم والدعوة إلى الله عز وجل، ولا يزال باب الخير مفتوحاً، وباب الدعوة على مصراعيه.
والمسلم في دعوته إلى الله سيصيبه ما أصاب نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ إن الأرض لم تفرش يوماً حريراً له، فقد أصابه ما أصابه في الحروب وغيرها، وكان الواحد من الأعراب يأتي فيأخذ بتلابيبه، أو يأخذ بثوبه حتى يؤثر ذلك في رقبته عليه الصلاة والسلام، ومع هذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يحلم عليه؛ ولذلك كان الصبر هو عدة الداعية إلى الله عز وجل، فمهما وقع بك من أذى فاصبر؛ لأن هذا طريق النبوة، وهذا طريق الدعوة، فتدعو إلى الله وإن أصابك أذى؛ لأنه سبحانه هو الذي أمرك بالصبر على ذلك في قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، أي: تواضوا فيما بينهم بالحق الذي هم عليه، وتواصوا فيما بينهم بالصبر على ذلك، والصبر عبادة كالجهاد، وحذار أن تظن أن الصبر سلاح لا ينفع، وأن الدعاء سلاح لا ينفع، فهذا خلل في اعتقادك! وحذار أيضاً أن تتصور أنه لا وقت للدعاء، وأنه لا وقت للصبر، إذ إن عبادة الوقت الآن هي الدعوة إلى الله عز وجل وطلب العلم والصبر على ذلك، وليس أمامك سبيل مفتوح الآن إلا هذا، فأنت مطالب أن تتعبد إلى الله عز وجل بما هو في وسعك ومقدورك، وهذا هو الذي في مقدورك الآن.(2/17)
حديث أسامة بن زيد: (لا تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها)
قال: [وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها، ألا عليهم حلت اللعنة)].
هذا الحديث وإن كان فيه ضعف، إلا أنه يشهد له حديث [عائشة رضي الله عنها: (أمرتم بالاستغفار لسلفكم فشتمتموهم، أما إني سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: لا تفنى هذه الأمة -أي: لا تقوم الساعة- حتى يلعن آخرها أولها)].
ونحن الآن نقرأ في كل يوم ونسمع كثيراً من يسب أبا هريرة، ومن يسب معاوية، ومن يسب خالد بن الوليد، ومن يسب معظم الصحابة، بل ومن يكفر أبا بكر وعمر، أليس هذا حاصلاً في الأمة؟ أليس هذا آتياً من الفرق وحاصلاً في الفرق؟ إذاً: هذا الحديث من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أمرنا بالاستغفار لهم في كتاب الله عز وجل، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، فذهبنا نسبهم ونلعنهم، ألا حلت لعنة الله عز وجل على من لعنهم!(2/18)
آثار عن السلف في تغير حال المسلمين
قال: [وقال حماد بن زيد: سمعت يونس بن عبيد يقول: يوشك لعينك أن ترى ما لم تر، ويوشك لأذنك أن تسمع ما لم تسمع، ولا تخرج من طبقة إلا دخلت فيما هو دونها، حتى يكون آخر ذلك الجواز على الصراط].
أي: أن الأمة ما تزال في نقصان حتى تلقى الله عز وجل.
وعليه فهذه الأحاديث كلها مرعبة ومخيفة، تجعل الواحد لا ينام الليل ولا يفتر بالنهار، وإنما يبحث عن سنة في مقدوره وبإمكانه أن يستمسك بها في وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الإلحاد والفجور والفسوق، بل والكفر البواح، نسأل الله العافية.
قال: [وقال أبو الدرداء: لو أن رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمه -أي: لو كان الرجل يعلم الإسلام وما هو الإسلام ويهمه أمر الإسلام- ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئاً]، وهذا قد أخذه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقال: صليت في مائة مسجد، فما رأيت واحداً يصلي صلاة كصلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فتصور أن واحداً يقول هذا في القرن الثالث من القرون الخيرة: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث فينا الآن ما عرف منا غير القبلة، أي: لا يعرف واحداً منا، وإنما يعرف أن هذه قبلة المسلمين، وأن هذه هي الكعبة؛ لأن المسلمين قد أضاعوا دينهم، حتى الملتزم منهم ملتزم على ضعف وهزال، يغفره الله عز وجل.
قال: [قال الحسن: ذهبت المعارف وبقيت المناكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم]، أي: المعروف الذي كان يعرف عند الصحابة بأنه معروف قد ذهب، وهذا في زمن الحسن البصري الذي مات سنة (110هـ)، أي: في أوائل القرن الثاني! وقوله: (ذهبت المعارف)، أي: ماتت، (وبقيت المناكر)، أي: المنكر، والمناكر جمع منكر، ومن بقي من المسلمين فهو مغموم؛ لما يرى من ظهور المنكر وخفاء المعروف.
قال: [وقال الحسن: ما لي لا أرى زماناً إلا بكيت منه، فإذا ذهب بكيت عليه].
أي: أن الحسن يبكي ويتحسر، ويتفطر قلبه دماً على الزمن الذي ولد فيه، فقد كان يتمنى أن يكون في زمن النبوة، لكنه تابعي ومن سادة التابعين، ومن أئمة أهل الورع، وهو سيد أهل البصرة في الورع والزهد والعلم والعبادة والاعتقاد، وهو الذي فضح المعتزلة من أول وهلة.
ولا زلنا نقول: (معتزلة) إلى قيام الساعة أخذاً عن تسمية الحسن البصري رضي الله عنه لـ واصل بن عطاء.
يقول الحسن: (مالي لا أرى زماناً إلا بكيت منه)، أي: في زمانه، (فإذا ولى هذا الزمان بكيت عليه)؛ لأنه يعلم أن ما يأتي بعده هو شر منه.(2/19)
تعقيب المصنف على آثار السلف في تغير حال المسلمين
قال: [قال الشيخ ابن بطة: إخواني! فاستمعوا إلى كلام هؤلاء السادة من الماضين والأئمة العقلاء من علماء المسلمين، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين، هذه أقوالهم، والإسلام في طرافة ومطاوعة وعنفوان قوته واستقامته].
يريد أن يقول لك الحسن البصري وأبو الدرداء وغيرهم ما قالوا هذا الكلام الذي يتفطر فيه القلب دماً وغماً إلا والإسلام في عز قوته وعنفوانه وشبابه.
قال: [والأئمة راشدون، والأمراء مقسطون -أي: عادلون- فما ظنكم بنا وبزمان أصبحنا فيه وما نعانيه ونقاسيه، ولم يبق من الدين إلا العكر، ومن العيش إلا الكدر، ونحن في دردى الدنيا وثمارها]، أي: الحثالة من الطين التي تبقى في الماء، فهو يريد أن يقول: نحن الآن في نهاية الدنيا، وقد ذهب المسلمون الحق ولم يبق إلا الغثاء، وهذا في زمنه هو، فكيف بزماننا نحن؟! قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم]، عبد الله بن مسعود يقول هذا في زمن النبوة في القرن الأول، يقول: الموت اليوم تحفة وهدية الله عز وجل للمسلم؛ لأنه قد ذهب الذين يعاش في أكنافهم.
ولذلك يقول أبو هريرة: لقد ذهب الناس ولم يبق إلا النسناس.
فـ أبو هريرة يقول هذا، إذاً: ماذا نقول نحن؟! وعائشة رضي الله عنها تقول: لقد ذهب الذين يعاش في أكنافهم، أي: لم يبق أحد يستحق الصحبة والعشرة وغير ذلك من أقاويل أشراف الأمة في أعظم زمن الأمة وهو صدر الإسلام.
قال: [وقال زبيد: حدثني أبو وائل، قال: قال عبد الله بن مسعود: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم، فقال الرجل الذي حدثه أبو وائل وزبيد: سمعت عبد الله يقول: ما شبهت الدنيا إلا بالتعب يسري صفوه ويبقى كدره، ولن يزالوا بخير ما إذا حز في نفس الرجل وجد من هو أعلم فمشى إليه فسقاه].
أي: أنه يريد أن يقول: إن الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود أن الواحد منهم عندما تحيك في صدره مسألة من مسائل العلم، فيسأل عن العلماء، فيجد عالماً يفتيه ويشفي غلته، فهذا هو الخير الذي كان موجوداً في زمن عبد الله بن مسعود وبعد ذلك لم يبق إلا الكدر.
ثم يقول: [وايم الله ليوشكن أن تلتمس ذلك فلا تجده]، أي: أنه يقسم بالله أن الرجل صاحب المسألة يسير في الناس، ويسأل عن عالم يفتيه فلا يجد؛ ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: أيها الناس! تعلموا قبل أن تسودوا، أي: تعلموا قبل أن تصيروا سادة كباراً؛ لأن من صار سيداً وكبيراً ثم عزل من سيادته ونزل من كبريائه يستنكف أن يجلس في مجالس العلم، أي: بعد أن يصير وزيراً أو رئيساً أو مديراً أو غير ذلك، فهل يقبل أن يرجع مرة أخرى؟ ولذلك لما حمل رجل على القضاء في زمن مالك قال: حتى أستخير وأستشير، فاستشار مالكاً في ذلك، فقال مالك: لا أحب أن تتولى القضاء إلا بعد أن تتعلم، مع أن هذا الرجل كان من أنبغ تلاميذ مالك، لكن مالكاً أراد له أن يبلغ الكمال والتمام في العلم.
قال: ولم يا إمام؟ قال: لأنك لو عزلت عن القضاء لا ترجع إلينا هنا.
وكان عروة بن الزبير يقول لأبنائه وأبناء أخيه: يا بني تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم اليوم تكونون كبار قوم غداً.
فطلب العلم من أشرف المطالب، ويكفي أنه واجب على كل مسلم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
قال: [وقال إبراهيم بن نصر: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كيف بك يا إبراهيم بن نصر إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناساً لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الأمين والخائن، ولا بين الجاهل والعالم، ولا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً]، فتصور أن زمناً يكون فيه كل هذه الآفات، وربما يكون هذا الزمن الذي نحن فيه.
قال ابن بطة: [فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنا قد بلغنا ذلك وسمعناه، وعلمنا أكثره وشاهدناه، فلو أن رجلاً ممن وهب الله له عقلاً صحيحاً، وبصراً نافذاً، فأمعن نظره، وردد فكره، وتأمل أمر الإسلام وأهله، وسلك بأهله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، لتبين له أن الأكثر الأعم الأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم، وارتدوا على أدبارهم، فحادوا عن المحجة، وانقلبوا عن صحيح الحجة.
ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون، ويستحلون ما كانوا يحرمون، ويعرفون ما كانوا ينكرون، وما هذه -رحمكم الله- أخلاق المسلمين، ولا أفعال من كانوا على بصيرة في هذا الدين، ولا من أهل الإيمان به واليقين].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وإنا لله وإنا إليه را(2/20)
الأسئلة(2/21)
الحكم على حديث (رفع عن أمتي الخطأ)
السؤال
ما درجة حديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)؟
الجواب
على أية حال هذا الحديث قد ورد من طرق متعددة، من ثلاث طرق أو تزيد، ووقع النزاع بين أهل العلم في ثبوته من عدمه، والذي يترجح لدي أنه حديث حسن.(2/22)
الحكم على حديث (الإسبال في ثلاث)
السؤال
ما درجة حديث: (الإسبال في ثلاث)، أي: في الكم والسروال والعمامة؟
الجواب
على أية حال هذا كلام الفقهاء، وإذا كان حديثاً مرفوعاً فهو ضعيف، ونبه عليه شيخ الإسلام ابن القيم في كتاب زاد المعاد.(2/23)
حكم رد السلام على المرأة الأجنبية
السؤال
ما حكم رد السلام على المرأة الأجنبية، وما الدليل على ذلك؟
الجواب
رد السلام فرض عين على كل من سمع، لكن الراجح أن رد السلام فرض كفاية، فإن رد البعض سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثموا جميعاً، أي: أثم من سمع، وهذا إذا سلم الرجال على الرجال، والنساء على النساء.
ووقع الخلاف في سلام النساء على الرجال والعكس، فالراجح جوازه ما أمنت الفتنة، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها: رد السلام).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، و (أفشوا) فعل أمر.
وإلقاء السلام في مذهب الجمهور سنة، والذي يترجح لدي أنه واجب ما كان ذلك في الإسلام، والرد واجب بلا خلاف، ويبقى الإشكال في سلام النساء على الرجال والعكس، وهو مرهون بأمن الفتنة، فإذا سلمت المرأة على الرجال فلا بأس بذلك، وإذا سلم الرجل على جمع من النسوة فلا بأس بذلك.
أما إذا لقي الرجل المرأة، أو المرأة الرجل؛ فهذا الموقف صعب، وأصل السلام والحالة هذه جائز مع أمن الفتنة، خاصة حين يتعلق بالشاب والشابات، واستحب أهل العلم للشاب أو الفتاة أن لا يلقي أحدهما على صاحبه السلام؛ لأن الفتنة لا تكاد تكون مأمونة بين الشاب والفتاة.(2/24)
حكم أداء النوافل عند إقامة الصلاة المفروضة
السؤال
ما حكم من دخل يصلي السنة وأقيمت الصلاة؟
الجواب
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، والنزاع وقع في فهم هذا الدليل، والكل متفق على صحة الحديث.
أما الفهم فمن الفقهاء من قال: إذا أقيمت الصلاة فلا يصح لأحد أن ينشئ صلاة غير صلاة الجماعة؛ ولذلك لما أقام بلال صلاة الفجر وشرع رجل في الصلاة، أي: في صلاة السنة، دنا منه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (آصبح أربعاً؟)، كالمنكر عليه أن ينشئ صلاة بعد سماع الإقامة.
وبعضهم قال: أنشأ أو لم ينشئ، فلو أنه كان في صلاة نافلة وأقيمت الصلاة فإنه يخرج من صلاته، والذي يترجح لدي -فضلاً عن المذهب الأول وأنه راجح بلا خلاف- أنه إذا كان الرجل في صلاة فسمع الإقامة، فإن كان قد نوى أربعاً صلاها اثنتين، ويتعجل فيها حتى يدرك الركعة الأولى مع الإمام، وإن كانتا اثنتين فليتمهما سريعاً حتى يدرك الإمام في الركعة الأولى، وهذا كله في النوافل والسنن.
أما إذا فاته الظهر، ثم دخل المسجد بعد أذان العصر، فصلى الظهر حتى يدرك العصر مع الإمام، فأقيمت الصلاة وهو في الركعة الثانية أو الثالثة، فلا يخرج من صلاته حتى يتمها، وهذا النهي وارد في حق السنن دون الفرائض.
كما أن النزاع وقع في كيف يخرج من صلاته، هل يخرج بتسليم أم لا؟ فمن حمل النهي في قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا صلاة إلا المكتوبة) على الفساد والبطلان قال: لا يلزمه التسليم؛ لأن صلاته تبطل بسماعه الإقامة.
ومن لم يحمل النهي على الفساد والبطلان قال: يلزمه التسليم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(2/25)
شرح كتاب الإبانة - ذكر الأخبار التي دفعت إلى تأليف الكتاب
لقد جرت عادة أهل العلم رحمهم الله تعالى بالتأليف والتصنيف في الرد على أهل الأهواء والبدع؛ لبيان وزيف باطلهم، وتحذير المسلمين منهم ومن باطلهم، وحتى لا يغتر بهم العامة فيقعون في أكاذيبهم وأباطيلهم.(3/1)
التحذير من التلون في الدين
الباب الثاني: وهو ذكر الأخبار والآثار التي دعت ابن بطة رحمه الله إلى جمع هذا الكتاب.
قال: [أستوفق الله بصواب القول وصالح العمل]، أي: أطلب منه التوفيق والسداد، [وأسأله العصمة من الزلل، وأن يجعل ما يوفقنا له من ذلك واصلاً بنا إليه، ومزلفنا لديه، وأن يجعل ما علمنا حجة لنا وبركة علينا وعلى من عرفنا ومن قصدنا لحمل ذلك عنا، فإنا لله وبه وإليه راجعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل].
فهذا بلا شك أن الدافع لهذا الإمام إلى تصنيف هذا الكتاب: ظهور البدع، فقد أورد في هذا الباب أحاديث ظاهرها وجوب أن يتكلم العالم بما عنده من علم إذا ظهرت الفتن والبدع، لكن هذه الآثار غير صحيحة كما سيأتي.
قال حذيفة لـ أبي مسعود البدري، وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، وليس بدرياً، فهو لم يحضر غزوة بدر، وإنما نسب بدرياً لأنه كان يسكن في مكان يسمى: بدر.
[قال حذيفة لـ أبي مسعود: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله واحد].
أي: أن الضلال الذي ليس بعده ضلال أن تقول عن الحق إنه باطل، وأن تقول عن الباطل إنه حق، وبعد أن كنت على الحق المبين تتنكب له وتقول: بل هو المنكر الذي ليس بعده منكر، فكثير من الناس يكون على أمر الاستقامة ثم يزيغ وينحرف، لأنه في أصله وأصل هدايته كان صاحب هوى، ثم اعلم أن الناس ينقمون عليه ضلاله وانحرافه عن الطريق الذي سار فيه أولاً، فهو يقول ويسابق: إن الذي كنت عليه لضلال مبين، وما أنا عليه الآن فإنه الحق المبين.
فهذا تلون في دين الله عز وجل، والله عز وجل لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه ولا من نياتهم، ودين الله تبارك وتعالى واحد لا تلون فيه، والحق فيه واحد، ولذلك نحن نرى أناساً كثيرين بعد أن كانوا ينهجون نهج سلف الأمة رضي الله عنهم أجمعين، تنكبوا وصاروا إلى مذاهب وفرق شتى، زاعمين بأن ما هم عليه الآن هو خير مما كانوا عليه آنفاً.
وإني لأعجب كل العجب من إنسان بعد أن يتعرف على البخاري ومسلم، ومن قبلهما: الشافعي ومالك وابن حنبل، وغيرهم من أهل العلم وسلف الأمة وأصحاب السنن والمصنفات والأجزاء، ثم بعد ذلك كله يتنكب الطريق الحق جرحاً وتعديلاً، ويسلك مسلكاً خلفياً شطحاً، ثم يزعم أن ما هو عليه الآن خير مما كان عليه! فكيف يتصور أن صاحب فكر حديث هو خير وأولى بالاتباع من هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم آنفاً؟! إما أنه كان سلفياً بجهل ولا يدري ما معنى السلفية أو ما معنى نهج الخلف وسوء الخلف، وإما أنه تظاهر باتباع السلف وفي حقيقة الأمر قلبه قد امتلأ هوى، فإن مضى وأتيحت له الفرصة ترك وتخلى عن مذهب السلف وانتهج نهج الخلف.
قوله: (إن الضلالة حق الضلالة: أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في الدين، فإن دين الله تعالى واحد).
ولذلك فإن انحراف هؤلاء الذين ينحرفون عن الصراط المستقيم أمر حتمي لابد منه؛ حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث، وحتى نعلم الصادق من المنحرف والمتلون، ومع ذلك فهو أمر لا يرضيني شخصياً، فإذا كان الإمام على الاستقامة ثم انحرف فهذا له دلالة عندي قد استخلصتها من عند السلف ومن خلال السلف، وهي: أنه لم يكن على المنهج أصيلاً، وإنما كان دخيلاً جاهلاً، أو صاحب هوى كما قلت، وتركه لهذا المذهب الناصع البياض السليم الصحيح، واختياره لمذهب الخلف ظاهرة سطحية، حتى يتميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث.
[وقال عدي بن حاتم: إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف].
أي: لا تزال الأمة بخير إذا كان عالمها يتكلم وهو مطمئن لا يخاف السلطان وبطشه، أما إذا خاف العالم أن يتكلم من السلطان وظلمه وقهره، فإن الأمة لاشك قادمة إلى الهاوية.
[وقال الحكم بن عمير -وإن كان الحديث ضعيفاً جداً- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الأمر المفظع، والحمل المضلع، والشر الذي لا ينقطع: إظهار البدع)]، وهذا الحديث لا نعول عليه لنكارته.
[قال ابن بطة رحمه الله: فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، ومن الرجوع عن الحق والعلم إلى الجهالة والعمى].(3/2)
لا أسوة في الشر
[وعن ابن مسعود قال: إذا وقع الناس في الشر خيل لك في الناس أسوة في الشر]، أي: إذا استشرى الشر وانتشر حتى لم يكن في المجتمع غيره، تصور الناس أن الأسوة في هذا الشر، ولذلك إذا نقدت أي إنسان الآن في ضلالة هو عليها أو في بدعة هو عليها يقول: كل الناس هكذا، فهل يتصور أن هذه بدعة والناس يعملون بها، ومطبقون عليها منذ زمن بعيد؟ وهل يتصور أن يكون هذا هو الباطل، وأن ما تأتيهم به الآن هو الحق؟ نعم هذا متصور.
ولذلك أنكر مجتمع قريش دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أول ظهورها؛ لتصورهم أنهم على الحق المبين.
قال: إذا وقع الناس في الشر فقل: لا أسوة لي في الشر، وإنه لا أسوة في الشر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أسوة في الشر)، وإن أجمع الناس وأطبقوا على استمرار الباطل ورد الحق، فإن هذا لا يجعل الباطل حقاً، ولا يجعل الحق باطلاً.
[وعن عبد الله بن مسعود قال: ليوطنن المرء نفسه على أنه إن كفر من في الأرض جميعاً لم يكفر]؛ لأن كل واحد سيأتي ربه فرداً، ويسأل فرداً لا علاقة له بالناس، وأن الناس لا يدافعون عنه ولا يدفعون له بين يدي الله عز وجل.
قال: [ولا يكونن أحدكم إمعة، قيل: وما الإمعة؟ قال: الذي يقول: أنا مع الناس]، أي: إن أحسنوا أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس فأحسنوا، وإن أساءوا فلا تسيئوا، أي: وإن أساءوا فلا تتبعوا إساءتهم.
قال: [إنه لا أسوة في الشر]، وإن أطبق الناس على عمل الشر، وقول الشر، واعتقاد الشر، فإنه لا علاقة لك بالناس، وإنما علاقتك بالحق المبين، الذين نزل من السماء على قلب رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم.(3/3)
فضيلة التمسك بالدين في هذا الزمان
[وعن أنس بن مالك قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه له أجر خمسين منكم)، حتى أعادها ثلاث مرات].
وهذا الحديث ضعيف، وربما يكون فيه شيء من النكارة؛ لأن الواحد منا مهما عمل ومهما بلغ عمله، فإنه لا يمكن أن يؤدي معشار ما أداه واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال في الصحيح: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
والحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والترمذي [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر)].
وهو حديث عظيم جداً، إن لم يكن يتناسب مع واقع المسلمين اليوم فهو على أي حال يكاد ينطبق على حالهم غداً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)، أي: لا يأتي عليكم زمان ولا يوم ولا عام ولا شهر ولا أسبوع إلا والذي بعده شر منه.
فهذا الحديث فيه إيحاء بفضيلة من تمسك بدينه في هذا الزمان والأزمنة المتعاقبة التي تتلو هذا الزمان، وأن المتمسك القابض على دينه كالقابض على جمرة من نار، والذي يقبض على جمرة من نار يوشك أن تحرقه أو تحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، وهكذا القابض على دينه في هذا الزمان، ويكفي أنهم الغرباء، والكثرة الكاثرة غالباً ليست الغريبة، وإنما الغريب هو القليل النادر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً)، أي: بدأ وظهر الإسلام في ثلة مؤمنة عظيمة، لكنها قليلة في وسط قوم وأمة تعج بالفساد والشرك وعبادة الأصنام والأوثان.
ولذلك اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بأنه شاعر، وأنه مجنون، وأنه ساحر، وأنه تعلم هذا من كتب السابقين، وغير ذلك من الشبه، وإن شئت فقل: افتراءات وكذبات قد ورد الرد عليها في كتاب الله عز وجل، إذ إن الله تبارك وتعالى قد رد وذب عن نبيه أيما رد وذب، وهنا إثبات الغرابة في أول أمر الإسلام، ثم بعد ذلك تنقض عرى الإسلام عروة عروة حتى يترك الناس دينهم أو جل دينهم، فإذا قامت فئة فتمسكت بالدين ظاهراً وباطناً أصولاً وفروعاً؛ كانوا هم الغرباء؛ لأنهم يحيون في الناس سنناً قد ماتت عندهم، وفرائض قد أهملوها، ولذلك يقول عنهم المجتمع الكثير: إنهم غرباء، وإنهم شواذ، وإنهم فئة قليلة، لكنها تغلب فئة كثيرة بإذن الله.(3/4)
بشارة النبي عليه الصلاة والسلام للغرباء في آخر الزمان
[قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)]، هذه بشارة لأهل الالتزام الصابرين على دينهم صبر من أخذ بيديه جمرة فقبض عليها، [(قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس).
قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم بكتاب الله عاملين، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم متمسكين، وللأئمة الخلفاء الراشدين المهديين متبعين، ولآثار سلفنا وعلمائنا مقتفين، وبهدي شيوخنا الصالحين رحمة الله عليهم أجمعين مهتدين، فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، قد جعل في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر]، فجعل الله تبارك وتعالى بين كل نبيين فترة من الزمن، يقتفي فيها الآثار حتى يتميز الناس بمن كان متبعاً لآثار من مضى عمن انحرف عن طريق الأنبياء السابقين، وكل فترة بين نبيين تسمى بالفترة، وأهل الفترة إن ماتوا في هذا الزمان -أي: في مدة الفترة- فكانوا متبعين لآثار من مضى من الأنبياء، فإنهم من أهل الجنة، وهم المؤمنون حقاً، أما من ترك آثار الأنبياء السابقين ومات في الفترة فإنه يموت على الكفر.
قال: [قد جعل الله في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر، اقتفاء للآثار، أي: أن الله تعالى بلطفه بعباده، ورفقه بأهل عنايته، ومن سبقت له الرحمة في كتابه، لا يخلي كل زمان من بقايا من أهل العلم وحملة الحجة، يدعون من ضل إلى الهدى، ويذودونهم عن الردى -أي: يدفعونهم عن الردى- ويصبرون منهم على الأذى، فيحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بعون الله أهل العمى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والغباء]، أي: والغباء.(3/5)
حديث: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)
[وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)]، أي: يحمل هذا العلم من كل جيل ومن كل عصر عدوله.
والإمام أبو حنيفة ذهب إلى أن كل من طلب العلم، ودعا إلى الله عز وجل فهو عدل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (يحمل هذا العلم)، أي: العلم الشرعي (من كل خلف عدوله)، يقومون بهذه المهام.
قال [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)].
أما غيره من أهل العلم فإنهم لم يستفيدوا من هذا الحديث أن كل من حمل العلم عدل، فمن أهل العلم من هو من أفسق الناس وأفجر الناس، وليس بلازم أن كل من طلب العلم أو حمله يكون عدلاً ثقة، بل الواقع يؤيد أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وإذا كان الأمر كذلك فهل يتصور أن أول من تسعر بهم جهنم العدول؟! وأنتم تعلمون الحديث: (إن أول من تعسر بهم جهنم ثلاثة: العالم)، أي: المرائي في علمه الذي طلبه لغير الله، وهذا يدل على أنه ليس كل من طلب العلم عدلاً، وأن من راءى في طلب العلم ليس من العدول، وأن من لم يعمل بعلمه ليس من العدول، وأن من باهى وفاخر وسمَّع وراءى بعلمه ليس من العدول، مع ما هو عليه من علم.
لكن ترد على الأحناف في ادعائهم أن النبي عليه الصلاة والسلام عدل أهل العلم وحملة العلم وطلاب العلم، أن ذلك مشروط بثلاثة شروط قد وردت في نفس الدليل الذي اعتمد عليه الأحناف.
قال: [(ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، أي: أن العالم العدل في كل زمان هو: من حمل العلم أولاً، أي: تعلم وعرف المسائل العلمية الشرعية بأدلتها من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع أهل العلم، وعمل بذلك لله تبارك وتعالى رغبة ورهبة، فهذا هو العالم حقاً.
أما كونه عمل بذلك للناس، فإن هذا العمل إما أن يكون لنفسه، أو يكون متعدياً إلى الغير في الدعوة إلى الله، وهو مع هذا في ليله ونهاره يهتم ويغتم بالرد على انتحال المبطلين، أي: من انتحل نحلة زاغ بها عن نحلة الإسلام، وعن هدي الإسلام، وعن طريق الإسلام، إذ إن الإسلام واحد، ودين الله تبارك وتعالى واحد، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام واحدة، وهديه واحد معروف لدى السلف، فمن انحرف عن مذهب السلف تصدى له أهل العلم الذين حملوه لبيان الحق له، وإثبات الباطل الذي انتحله، فهذا بلا شك من علماء الإسلام.
قال: (ينفون عنه: تحريف الغالين، وانتحال المبطلين)، والغالون: هم المتنطعون المتهوكون المتشدقون الذين يلوون أعناق النصوص، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالدليل كما تلوي الأبقار ألسنتها؛ تجليلاً للباطل الذي هم عليه، وتحريفاً للكلم عن مواضعه.
والغالون جمع غال، وهو الذي يتنطع في دين الله عز وجل، إما بإدخال أشياء ليست في دين الله عز وجل عليه، أو بنقصان أشياء من الدين، فإن أدخل هذا المتنطع زيادة في دين الله عز وجل وجب الرد عليه بترك هذه الزيادة والرجوع إلى الأصل؛ لأنه ربما فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام على غير ما فهمه سلف هذه الأمة، وكثير من أصحاب البدع إنما مردهم ومستندهم هو إلى الله ورسوله، وهل يتصور أن أهل البدع أثاروا البدعة وهم يعلمون ويوقنون بأنهم على الباطل المبين؟! لا يتصور ذلك إلا في الباطنية وفرق الشيعة، فإنهم يعلمون أنهم على الباطل المبين، وخاصة غلاتهم، أما أن الإنسان يقرأ في كتاب الله عز وجل، فتضربه آية في أم رأسه فيتوقف عندها ويبني عليها أقوالاً وأعمالاً دون أن يرجع إلى شراح كلام الله عز وجل وما يختص به، ودون أن يرجع إلى شراح سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويفهم فهماً لوحده لم يسبقه أحد من علماء الأمة، ثم يزعم بعد ذلك أن هذا هو دين الله عز وجل؛ فإنه لابد من الرد عليه وإثبات أنه ليس على شيء، وأن ما هو عليه ليس صحيحاً؛ لأن السلف هم أولى الناس بكلام الله عز وجل وكلام رسوله الكريم، وهم أبلغ الناس وأفصح العرب، ومع هذا لم يفهموا ما فهمه هذا الذي يقرأ في كتاب الله عز وجل.
ولذلك يقول الشاعر: وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا أي: كل يدعي أنه محب لليلى، لكن القضية تكمن في محبة ليلى لهؤلاء أو لواحد منهم؛ لأنها ستحار حينئذ، فكل يقول: منهجي ودليلي هو الكتاب والسنة، وفي حقيقة الأمر ليس هذا هو الفيصل، إنما الفيصل كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بفهم سلف الأمة، أما أهل البدع إذا خاصموا في قضية ما فإنهم يحتجون عليك بقال الله وقال رسوله، لكن الفيصل بينك وبينهم: أنك تفهم قول الله وقول رسوله من واقع فهم سلف الأمة، وهم يفهمون قال الله وقال رسوله من واقع أفهامهم وعقولهم.(3/6)
منزلة العلماء وفضلهم على الناس(3/7)
حديث (لا يزال على هذا الأمر عصابة)
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال على هذا الأمر عصابة من الناس لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله)].
أي: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق قولاً وعملاً، لا يضرهم في ذلك من خالفهم حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم ثابتون قائمون عاملون بقول الله تعالى وبقول رسوله الكريم، مظهرون لهذا الحق على مراد الله وعلى مراد رسوله مهما انتفش الباطل؛ لأن الباطل لا يدوم بل يزول سريعاً، أما الحق لما كان واحداً فهو ثابت، إذ إن له أهلاً يحفظونه في كل زمان ومكان، فيلزمون الوحي حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.(3/8)
حديث (لا تزال طائفة من أمتي)
[وقال سعد بن أبي وقاص: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الدين عزيزة إلى يوم القيامة)]، فوصفهم بأنهم ثلة قليلة -وهذه بشارة لك- وهذه الثلة ظاهرة على الحق، أي: أن معها الحق وتدعو إليه، وهو أعلى من الباطل، وأنها تكتسب العزة بتمسكها بهذا الدين، ولذلك قال: (عزيزة)، أما باطل هؤلاء فإنه لا يمكن أبداً أن يبقى في أهل الحق؛ لأن الحق حق، وأهل الباطل يعلمون أنك على الحق وإن سخروا بك واستهزءوا بك وحاربوك، بل ولو قتلوك فإنهم يعلمون يقيناً أنك على الحق المبين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14].(3/9)
حديث (من جاءه الموت وهو يطلب العلم)
وجاء في حديث مرفوع: [(من جاءه الموت وهو يطلب العلم يحيي به الإسلام لم يكن بينه وبين الأنبياء في الجنة إلا درجة)] هذا كلام مرفوع نصه، والنص ضعيف، ولا يقال من قبل الرأي؛ لأن هذا إخبار عن غيب، والإخبار عن الغيب لابد أن يكون من الثبوت والصحة بمكان، وليس الأمر هنا كذلك.
[وقال وهب بن منبه: الفقيه العفيف الزاهد المتمسك بالسنة؛ أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان].
ومن كان بهذه الخصال وهذه الصفات فإنه يكون حقاً متبعاً لآثار من مضى، أما إذا تخلف عنه شيء من ذلك ففيه من الانحراف عن آثار أنبيائهم على قدر ما فيه من الخلل.
[قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم ممن أعز أمر الله فأعزه، وأبقى لله فكفاه، ولجأ إلى مولاه الكريم فتولاه].(3/10)
أثر سفيان (أفضل الناس منزلة)
[وقال سفيان بن عيينة: أفضل الناس منزلة يوم القيامة من كان بين الله وبين خلقه].
وقد جاء نحو هذا الكلام عن غيره، والذي بين الله وبين خلقه هم الأنبياء وورثتهم من العلماء، إذ إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، ولذا فالعلماء هم في الدرجة الثانية بعد الأنبياء.
وهم الواسطة بيننا وبين الله بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام، وهم المبينون والمفسرون والموضحون لكلام الله عز وجل، وهم الذي يأخذون بنواصي العباد إلى الله عز وجل، ولذلك هم أشرف الخلق عند الله عز وجل إذا كانوا عاملين بعلمهم.(3/11)
أثر ربيعة (الناس في حجور علمائهم)
[وقال مالك بن أنس: سمعت ربيعة بن عبد الرحمن -وهو المعروف بـ ربيعة الرأي - يقول: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم].
أي: يسلمون لهم، فأنك لو أخذت طفلك الرضيع فوضعته في حجرك وألقيت في فمه سماً ابتلعه، ولو ألقيت في فمه لبناً رضع، وهكذا العلماء، فالناس في حجورهم وبين أيديهم كالصبية والغلمان الصغار بين أيدي آبائهم.
بل أمر العلماء أخطر وأجل؛ لأن الأب غالباً يغذي الأبدان، أما العلماء فهم الذي يغذون الأرواح، ويغذون العقول ويفتحونها إما بالخير وإما بالشر، فإن كان بكتاب الله وسنة رسوله فهو خير، وإلا فلا خير في غير هذين المصدرين.(3/12)
أثر سلمة بن سعيد (العلماء سرج الأزمنة)
[وقال سلمة بن سعيد: كان يقال: العلماء سرج الأزمنة].
أي: نور الأزمنة.
[فكل عالم مصباح زمانه، فيه يستضيء أهل عصره، وكان يقال: العلماء تنسخ مكائد الشيطان]، وهو كذلك، إذ إن العالم في قرية ما كالعين التي تنبع بالماء، بل هو أحسن وأجل؛ لأن هذه العين التي تنبع بالماء تغذي أبدانهم وزروعهم وغير ذلك، أما العالم فإنه يغذي العقول والأرواح، ويأخذ بنواصي العباد إلى ربهم تبارك وتعالى.
وكذلك وجود العالم في قرية ما دليل على صلاحية هذه القرية، وعلى خيرية هذه القرية، وذهاب الناس في القرية إلى هذا العالم يستفتونه في أمور دينهم، دليل على خيرية هؤلاء، أما قرية بغير عالم فهي قرية تتخبط في ظلمات الغي والضلالة، وإن الواحد منهم إذا احتاج ليستفتي في مسألة ربما ركب المواصلات الطويلة حتى يجد عالما يفتيه في مسألته؛ لأن القرية ليس فيها عالم، وهي آثمة كلها؛ لأنهم لم يفرغوا من بينهم واحداً يطلب العلم، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
وهنا يجب على كل طائفة من الناس أو قرية أو بلد إذا لم يكن فيها عالم أن يخصصوا رجلاً من أهل النباهة ليتعلم العلم في مكان يظهر فيه العلم، ثم يرجع إليهم عالماً يفتيهم في أمور دينهم وربما دنياهم.
[قال الشيخ ابن بطة: جعلنا الله وإياكم ممن يحيي به الحق والسنن، ويموت به الباطل والبدع، ويستضيء بنور علمه أهل زمانه ويقوي قلوب المؤمنين من إخوانه.
[وعن سلمان أنه قال: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يعلم الآخر هلك الناس].
بل مثل هذا الكلام ثابت من حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (البركة مع أكابركم، ولا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن كبارهم، فإذا أخذوه عن صغارهم فقد هلكوا).
وقال ابن المبارك عليه رحمة الله: ليس الصغير صغير السن، وإنما الصغار هم أهل البدع.
أما صغير يؤدي إلى كبير؛ فليس بصغير على الحقيقة، إنما الصغير من انحرف عن الجادة وإن كان كبيراً في السن، والكبير من عرف الحق بأدلته، وعلم الناس وعمل بذلك، فهو الكبير وإن كان حديث السن، ومجلس عمر رضي الله عنه كان مكتظاً بالشباب والكهول، وكان عمر يقول للشباب: لا يحقرنكم حداثة أسنانكم على ألا تشيروا برأيكم.
والنبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد الخدري قال: (ستفتح لكم الأرض، ويأتيكم غلمان يتعلمون العلم، فإذا جاءوكم فعلموهم، والطفوا بهم، ووسعوا لهم في المجالس)، ولذلك كان أبو سعيد إذا أتاه غلام أو غلامان قال: مرحباً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما نراه الآن على شاشات التلفزيون تحت باب الحفاظ على الدين من الداخلين فيه بغير مؤهل، فهذا باطل ومنكر من القول.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فالعلم يكمن في قال الله قال رسوله، سواء كان قائله أزهرياً أو غير أزهري، حتى ولو كان صاحب حرفة حدادة أو نجارة أو غيرها، والأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم والصحابة والأئمة، وعلماء المسلمين شرقاً وغرباً، لم يتخرجوا من الأزهر، بل جل من تخرج من الأزهر لا يصلح أن يكون داعية لنفسه قبل أن يكون داعية لله عز وجل يدعو الناس، مع إيماننا الجازم بأن الأزهر قد خرَّج رجالاً قل أن تجد في الخلق مثلهم في العلم والعمل والديانة والورع والنسك وغير ذلك، أما جل الأزهريين فإنهم لا يصلحون لأنفسهم قبل أن يصلحوا لغيرهم، وهذه خطوة أو حلقة في سلسلة طويلة مردها ومآلها: القضاء على كتاب الله وسنة رسوله الكريم.(3/13)
الالتزام على منهج صحيح من أعظم النعم على العبد
قال: [إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها]، ولذلك ورد عن كثير من السلف أنهم قالوا: لا ندري أي الاثنتين أعظم: أن من الله علينا بالإسلام، أو أن جعل لنا في الإسلام سنة؟ وهذا كلام جدير بأن يكتب بماء الذهب، وبلا شك فإن الإسلام أعظم وأجل، لكن هذا كلام خرج مخرج بيان أفضلية اتباع الحق، أو المبالغة في إثبات أن الحق أولى بأن يتبع.
ولذلك فإن من أعظم نعم الله على الشاب أنه إذا التزم التزم على يد دعوة صحيحة سليمة لا شك فيها، وهنا أصحاب الأهواء يكثرون التدخل والجدل من جماعة إلى جماعة، ومن طائفة إلى طائفة، ومن فرقة إلى فرقة، بخلاف من وفق أولاً إلى طريق السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهذا بخلاف الآخر، فقد مر على جماعة واثنتين وثلاث وأربع وعشر، وفي كل جماعة يدرس ولم يقتنع، فيتحول إلى جماعة أسوأ، منها حتى استقر به المقام على منهج السلف بعد أن بلغ من العمر أرذله.
وعلى أي حال فمن الخير أن يختم له بالعمل الصالح وبمنهج سليم.
قال: [من نعمة الله على الشاب والأعجمي إذا نسك أن يوافق لصاحب سنة يحملهما عليها؛ لأن الأعجمي يأخذ فيه ما سبق إليه]، وليس الأعجمي فقط فكذلك العربي، والأعجمي هو كل إنسان لا يحسن اللسان وإن كان عربياً، والعربي هو كل من يحسن العربية وإن كان أعجمياً.
لذا فهو يريد أن يقول: إن العجم الذين لا يفهمون العربية، يتبعون في الغالب من يدعوهم إلى الإسلام، فإذا دعاهم الشيعة دخلوا في الإسلام على مذهب الشيعة، وإذا دعاهم الخوارج دخلوا في الإسلام على مذهب الخوارج، وأنا أقول: وهكذا العوام الذين لا علاقة لهم بدينهم ولا بالعلم الشرعي، فأول من يدعوهم إلى الالتزام يتبعونه، وأنتم ترون أن هذه الجماعات المترنحة على الساحة، إذا دعت إنساناً لا علاقة له أصلاً بالعلم الشرعي ولا بالدعوة، فإنما يكون مذهب هذا المدعو هو مذهب من دعاه، ويصعب جداً خلعه من هذا المذهب؛ لأنه يرى أن لهؤلاء الفضل عليه بعد أن كان غارقاً في أوحال المعصية، ولا شك أن هذا خير، لكن ليس هو الخير المحض، بل هو خير فيه شر.
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: إن من لقي الله تبارك وتعالى ممن دعي إلى الإسلام على منهج الخوارج، خير له من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً، وإن من لقي الله تبارك وتعالى من الروافض -أي: أسلم على مذهب الروافض- خير له من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً.
وهذا الكلام في غاية المتانة، وهو كلام محترم جداً، لكن ليس معنى ذلك أنه يدعو للرفض أو للخروج أو غير ذلك، وإنما نقول كما قال ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم: إن من لقي الله تبارك وتعالى على بدعة أو معصية خير من أن يلقى الله تعالى كافراً كفراً بواحاً؛ لأن الكافر مخلد في النار بخلاف صاحب البدعة، فإن لم تكن مكفرة فإنه لا يخلد في النار، بل إذا دخلها خرج منها لا محالة.
ولذلك يقول: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة -أي: أن يصاحب صاحب سنة- يحمله عليها ويدعوه ويلهمه بها.
[وقال عمرو بن قيس الملائي: إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه -أي: ارج خيره- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه]، حتى ولو تاب، فإنك لو أتيت إلى صاحب بدعة في هذا الوقت قد تاب منها، فتنظر إليه فتجده لا يزال واقفاً على أشياء كبيرة ظاهرة فيه.
وأذكر أنه في سنة (1981م) كان هنا شخص من إيران يدرس في كلية دار العلوم، وهو شيعي رافضي، وكان صاحباً لي، فزارني في بيتي في المنصورة ذات يوم بعد أن ترك مذهب الرفض عاماً كاملاً، وتفقه عندي أكثر من عشرين يوماً، وكنا نتدرب على مصطلح الحديث، فقلت له: ماذا تقول في ثورة الكذاب الخميني؟ قال: الخميني ليس بكذاب، إنما الكذاب أبو بكر وعمر! وقال: لا يسب أحد الإمام الخميني ونتركه! فقلت له: ألم تدع مذهب الرفض؟ قال: نعم، لكن الذي تتكلم به غيبة على الخميني، فقلت له: وأنت قابلت غيبة الخميني بالطعن في هذين الإمامين العظيمين؟ قال: وهل إمامة أبي بكر وعمر محل اتفاق عند أهل السنة؟ قلت: نعم محل اتفاق عند أهل السنة، قال: لا، أهل السنة إمام إيران! فتأمل رجوعه، رجع إلى الحور بعد الكور، مرة أخرى لمجرد أنك طعنته في مشاعره، إذ إنه أول ما يسمع الخميني يقول لك: إلا هذا! ونترك العجم ونتكلم عن العرب: جماعة التكفير -وهم خوارج العصر- يجمعون أنفسهم إلى الآن بعد أن دخلوا السجون وخرجوا منها، وتجدهم جميعاً على قلب رجل واحد، وإذا دخل بينهم رجل لم يكن منهم حاولوا جاهدين خلعه كما يخلع أحدنا ضرسه؛ لأن ولاءهم لبعضهم وليس لغيرهم، وهكذا كل صاحب بدعة لا تزال البدعة تؤثر وتعمل في قلبه عملاً عظيماً وإن تظاهر بغير ذلك، ونحن لا ننفي قط(3/14)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل قادر
[وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)]، وهذا فيه أعظم حافز لدعوة الناس إلى الله عز وجل، حتى ولو كانت ثمرة الدعوة على مدار الأعوام العديدة واحداً، (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
وذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليزور طفلاً يهودياً في مرض موته ليدعوه، فلما ذهب إليه النبي عليه الصلاة والسلام دعاه إلى الحق، وإلى طريق الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه فقال أبوه: (يا غلام! أطع أبا القاسم، فنطق الغلام بالشهادتين، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ووجهه يتهلل ويقول: الحمد لله الذي أعتق بي رقبة من النار)، أي: رقبة واحدة.
فالدعوة إلى الله عز وجل واجبة على كل قادر عليها، أما النتيجة فهي على الله عز وجل، وإن قلت ثمرتها فإنه لا حرج في ذلك، والسلف رضي الله عنهم كانوا يأتون بكلمات ثم لا ينتظرون النتائج وكانوا يفعلون ما أمروا به؛ لأنهم يعلمون أن ثمرة هذا الكلام وهذه الدعوة على الله عز وجل دون سواه.
[وقال الحسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله من نفقة قول)]، والعلم يزكو بالدعوة والعمل، وهذا كلام علي بن طالب وابن سيرين وابن المبارك وغيرهم من أهل العلم.
قال: والعلم يزكو بالدعوة والعمل.
أي: يزيد وينمو كلما دعوت إلى الله عز وجل، ولذلك الذي يدعو إلى الله عز وجل يتعلم أكثر ممن لا يدعو إلى الله عز وجل.
ولذا لو أن شخصين يحضران مجالس العلم، أحدهما يدعو بما تعلم ويعمل به، والآخر يكتفي من العلم بالسماع والحفظ فقط، ولا يعمل به أو لا يدعو إليه، فيكاد هذا الذي لا يدعو أن ينسى ما تعلمه، بخلاف الذي يدعو فإنه يحتاج في كل دعوة أن يذكر وأن يتذكر وأن يراجع، وأن يدرس ما تعلمه، حتى يتمكن من تبليغه للناس، ودعوة الناس إليه وبه، فهذا أدعى لتثبيته في القلوب، ولذلك فزكاة العلم ونماؤه هي الدعوة إليه ومدارسته ومراجعته، وغير ذلك مما كان يفعله السلف.
[وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكن نبي قط إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يتبعون أمره ويهتدون بسنته، ثم يأتي من بعد ذلك أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، يغيرون السنن، ويظهرون البدع، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن, وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)].
ففي الحديث بين النبي عليه الصلاة والسلام أن أول هذه الأمة على الخير والبركة والرحمة، وأن حوارييه عليه الصلاة والسلام على الإيمان التام، وهم أصحابه الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، لكن يأتي من بعدهم أمراء وسلاطين يقولون ما لا يعملون، ويعملون ما لا يؤمرون، يُظهرون البدع ويميتون السنن، يكيدون للإسلام ليل نهار، وينقضون عراه عروة عروة.
ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام أن على هؤلاء الحواريين ومن سلك نهجهم إلى قيام الساعة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قوله: (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)، أي: إذا كان هذا المنكر لا يزول إلا باليد فواجبٌ أن نزيله باليد، وإذا عجزوا عن التغيير باليد جاهدوهم باللسان والدعوة والبيان، وإذا عجزوا عن ذلك فلا أقل من أن ينكروا بقلوبهم، ويفارقوا مواطنهم ولو بالهجرة من بلاد المعصية إلى بلاد الإيمان، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان، كما روي عند مسلم من حديث أبي سعيد في الإنكار على هؤلاء، قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، أي: لا إيمان بعد ذلك، وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)؛ لأن تغيير المنكر بالقلب في مقدور كل إنسان، إذ لا سلطان لأحد على قلبك إلا لله عز وجل، فأنت بإمكانك أن يتمعر وجهك، وأن تهجر وتفارق مكان المعصية، فإن عجزت عن التغيير باليد أو باللسان، فلا أقل من أن تهجر مكان المعصية مخافة أن ينزل العقاب فيعم الجميع.
[وقال أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة -: جزى الله عنا خيراً من أعان الإسلام بشطر كلمة]، وجزى الله تعالى شراً من أعان على هدم الإسلام ولو بشطر كلمة.(3/15)
الأسئلة(3/16)
ما يفعله من دخل المسجد أثناء الخطبة أو الدرس العلمي
السؤال
إذا دخلت المسجد أثناء الدرس فهل أصلي أولاً أم أنصت إلى الدرس؟
الجواب
إذا دخلت المسجد فصل ركعتين خفيفتين، ثم الحق بدرس العلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، ومجلس العلم إما أن يكون خطبة جمعة، أو درس علم، أو مادة شرعية، أو غير ذلك، وكل هذا لا ينفي أن تصلي ركعتين، ولذلك أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه مسجد النبي عليه الصلاة والسلام في يوم جمعة والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب، فجلس عثمان ولم يركع ركعتين، فأمره بعد أن جلس جلوساً خفيفاً أن يصلي ركعتين، وعثمان رضي الله عنه اعتقد أن الإنصات للخطبة أولى من صلاة ركعتين، وفي رواية: (صل ركعتين وتجوز فيهما)، أي: لك أن تصلي ركعتين خفيفتين.(3/17)
حكم توزيع الإنسان تركته على ورثته قبل وفاته
السؤال
والدي قسم بيننا قبل وفاته بمدة، والآن بعد عام إخوتنا لم يعطونا حقنا، ويقولون لنا: بعد ثلاث سنوات، وأمي تشجعهم على ذلك، وأنا وأختي في أمس الحاجة إلى المال، ومنعتني من دخول بيت أبي لو أصررنا على طلبنا هذا، والآن هي معي في المسجد، ونريد من حضرتكم الإفادة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
على أي حال هذا كلام عظيم انتشر بين المسلمين.
فأولاً: لا ينبغي للأب أن يوزع تركته على ورثته قبل موته؛ لأن الميراث ما سمي ميراثاً إلا لتوزيعه بعد الوفاة، أما قبل الوفاة فلا، وأنتم تعلمون أن الهبة أو العطية بين الأولاد ليس فيها للذكر مثل حظ الأنثيين، وإنما إذا أراد الأب أو الأم أن توزع على الأولاد ما تملكه أو ما يملكه، فيجب التوزيع بالتساوي، فإذا أعطى البنت ألفاً وجب عليه أن يعطي الولد ألفاً، وإذا أعطى الولد مائة ألف يعطي البنت مائة ألف؛ لأن هذه هبة وعطية، وحديث النعمان بن بشير عندما أتى أبوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليستشهده على عطية أو نحلة نحلها أحد أولاده، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أكل ولدك نحلت مثل هذا؟)، أي: أكل أولادك أعطيته مثلما أعطيت لهذا؟ (قال: لا يا رسول! قال: اذهب فأشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور).
وهذا أمر منه عليه الصلاة والسلام يفيد التقريع والتوبيخ، لا جواز الإشهاد على هذا الجور، والشاهد من الحديث قوله: (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟)، أي: أعطيته مثل ما أعطيت لهذا، قال: لا، فاعتبره النبي عليه الصلاة والسلام جوراً، لأن هذه هبة لا يصح أن تكون تركة؛ لأن توزيع الشيء في حياة المورث لا يسمى ميراثاً، وإنما يسمى هبة وعطية ونحلة ومنحة، كل هذا يلزم فيه التساوي، ولا تأخذ فيه البنت نصف ما يأخذ الولد.
وأنا أنصح هذه الأم، وأنصح الأبناء الذكور أن يجمعوا الميراث كاملاً، أو يساووا التركة كاملة، ثم يقسموها من جديد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، بعد أن تأخذ الأم من ميراث زوجها الثمن ما دام لها أولاد، ثم توزع بقية التركة بين الذكور والإناث للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأقول: هذا إذا كنتم تحبون وتحترمون هذا الرجل الذي قضى حياته في خدمتكم وتربيتكم، وتعب تعباً شديداً بالليل والنهار لأجل إسعادكم، فلا تكونوا أنتم أول من يشقيه ويعذبه في قبره، فإنه الآن يعذب في قبره والله تعالى يعلم ذلك؛ بسبب أنه جار في هذه الوصية، أو جار في هذا الميراث، فإما أن يكون هذا حدث منه جهلاً، وإما أن يكون حدث منه عناداً ومحبة لأبنائه الذكور على حساب البنات.
وهذه الأم لا تأمن أن يصنع بها أولادها بعد موتها كما صنعت هي وأولادها بزوجها، فتشقى كذلك في قبرها، وهي ستموت وستعرض على الله عز وجل، ويكلمها كما يكلم أحدنا أخاه مشافهة ليس بينها وبين الله عز وجل ترجمان -ولله المثل الأعلى- ويسألها عن هذا الجور وعن هذا الظلم، فلا يكون لديها جواب صحيح سديد تجيب به عن نفسها، وإن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها ويدخلها الجنة، وهذا الكلام لكل واحد، فإن البنات مظلومات في هذا الزمان، فلا يعطين من التركة إلا القليل، ويظن الذكور أن الحق كل الحق لهم، مع أن هذا لا يصح؛ لأن العقيدة الصحيحة السليمة تقول: إن الباطل لابد من زواله، يمحق الله الربا مهما كثر، ويربي الصدقات وينميها ليعمل بالحلال.
وهذه قصة لإحدى الأمهات دعتني لتوزيع التركة، فقال كبير القوم أو كبير الإخوة: يا شيخ! إذا كان عندك أن البنات ترث فلا نحتكم إليك في أول المجلس! فقلت: الأمر لكم، فرد جميع الرجال -إذا كانوا رجالاً، وإذا صح أنهم رجال-: أن البنات لا ترث من الأرض، وكانت هذه الأرض قطعة واحدة، والفدان الواحد بمائة وعشرين ألف جنيه، وعندهم فدان واحد بنوا عليه بيتاً عظيماً جداً بلغ إحدى عشرة غرفة، وعندهم مكان كبير يدرسون فيه المحاصيل، وبستان عظيم جداً فيه الكثير من الثمار وغير ذلك، ثم قالوا: ليس للبنت الواحدة إلا خمسمائة جنيه! أو ليس لهن كلهن إلا هذا! ونحن متفقون مع البنات على هذا، فسألت إحدى البنات فقالت: أنت ستقطع عيشتنا يا فلان! وإذا بها قد أغشي عليها حينما سمعت المبلغ المقسم من وراء الستار، وبعد جدال وأخذ ورد استمر حتى سمعنا أذان الفجر لم يصل أكثر من خمسمائة جنيه! فقلت: هذه المرة تتنازلن عن الخمسمائة جنيه وتحتسبن كامل حقكن عند الله عز وجل، وبينكن وبين إخوتكن الثلث الأخير من الليل.
فتصور أن معظم الأمة بهذا الشكل، يتعاملون مع الدين بذكاء لمصلحتهم، أما عليهم فلا لا دين ولا مصلحة ولا علم، ولا من هذه الأشياء نهائياً.
والعجيب أن البنات والصبيان حفظوا القرآن الكريم، وأنسى الله تبارك وتعالى القرآن كله أربعة من الرجال حتى صغار السن، وكان هذا قبل الميراث، لكن بقي واحد منهم على حفظ القرآن الكريم، وهو إنسان بصراحة، أما أحدهم وهو الكبير فقد كان صاحب متجر كبير جداً في شركة حكومية، وقد احتال عليه أحد التجار أن يأخذ رشوة في مقابل أن يسجل(3/18)
حكم صيام الزوجة عن زوجها المتوفى
السؤال
توفي زوجها وعليه صيام رمضان، فهل تصومه عنه أو تفطر؟
الجواب
لو صامت فهو أولى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه)، أما المرأة التي لا تقوى على الصيام فلا بأس أن تفدي عنه كل يوم إطعام مسكين.(3/19)
ما يجب على الرجل إذا دخل على المرأة وهي تصلي
السؤال
لو دخل رجل أجنبي على امرأة وهي تصلي، فهل تقطع صلاتها أم تكمل الصلاة؟
الجواب
تكمل الصلاة، ويجب على من دخل عليها أن يغض بصره، وعلى المرأة أن تكمل صلاتها، وإذا كانت تلبس نقاباً فلها أن تنزله على رأسها.(3/20)
الحكم على حديث (سبحانك اللهم وبحمدك)
السؤال
يسأل عن حكم حديث كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)؟
الجواب
حديث حسن.(3/21)
حكم قراءة سورة العصر عند الانصراف من المجلس
السؤال
هل ثبت عند السلف قراءة سورة العصر عند الانصراف من المجلس؟
الجواب
الإمام ابن كثير يرجح مثل ذلك، وكنت قد بحثت هذا الأثر الذي يقضي بقراءة سورة العصر، فلما وقف على ذلك شيخنا العلامة الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف -وهو معروف بعلمه، إذ إنه بحر في سنن النبي عليه الصلاة والسلام- قال: أرجو أن تراجع الأثر في سورة العصر، ولا تتعجل فإنها إلى الثبوت أقرب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/22)
شرح كتاب الإبانة - ذكر ما افترض الله تعالى في التنزيل من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد قرن الله عز وجل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته في مواضع كثيرة من كتابه، وجعل أمره كأمره، وأعقب ذلك بالوعيد الشديد، والزجر والتهديد لمن حاد عن أمره أو خرج عن طاعته، أو ابتدع في سنته، ولقد بين لنا سبحانه طريق محبته، وأرشدنا إلى سبيل هدايته بأقصد المذاهب، وأقرب المسالك، حين أعلمنا أن محبة الله هي متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.(4/1)
باب ذكر ما افترضه الله تعالى نصاً في التنزيل من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
الباب الذي نحن بصدده باب يحث على أصل عظيم من أصول الإيمان والإسلام، ألا وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
في هذا الباب يسرد الإمام ابن بطة رحمه الله الآيات والأحاديث التي أمرت بطاعته عليه الصلاة والسلام، ثم يعرج على موقف السلف، وخاصة أصحابه عليه الصلاة والسلام من طاعته صلى الله عليه وسلم.(4/2)
بعث الله لمحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ومهيمناً على النبيين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر ما افترضه الله تعالى نصاً في التنزيل -أي: في كتاب الله عز وجل- من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما بعد.
فإن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ومهيمناً على النبيين].
قوله: (مهيمناً) أي: مسيطراً على النبيين الذين سبقوه، أو ناسخاً لجميع الشرائع والملل السابقة، كما أن القرآن الكريم ناسخ لجميع الكتب السماوية التي نزلت من السماء، ولذلك فببعثته عليه الصلاة والسلام لا يحل لأحد أن يزعم أنه تابع لموسى أو لعيسى أو لغيرهما من الأنبياء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بمجرد بعثته قد نسخ جميع الشرائع، وليس في وسع أحد من الأنبياء لو كان حياً إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وسينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان، ويكون فرداً من أفراد الأمة الإسلامية، سيكون تابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فيدعو بالقرآن والسنة، ويضع يده في يد المهدي المنتظر الذي سيظهر في آخر الزمان، وهو من آل بيت النبي عليه الصلاة والسلام، كما أن اسمه يوافق اسمه، ثم يخرب المسيح عليه السلام رموز الكفر عند النصارى، ويتبرأ منهم تبرئة عظيمة عند باب لدٍّ في فلسطين، التي يزعم اليهود الآن والنصارى معهم أنهم يهيئون المنطقة العربية كلها لنزول المسيح على رأس الألفية، فإنهم زعموا في الألف الأولى أن عيسى سينزل، ولكنهم دائماً لا يقولون عيسى، إنما يقولون: سينزل المهدي أو ينزل المسيح، فالنصارى يزعمون أن المسيح هو عيسى بن مريم، واليهود يزعمون أنه المسيح الدجال.
على أية حال خيب الله تعالى آمالهم وسعيهم في الألفية الأولى، كما خيب سعيهم وآمالهم في الألفية الثانية التي كانوا ينتظرونها منذ عدة أشهر، وهكذا الله تبارك وتعالى يخيب اليهود والنصارى في كل سعيهم وفي كل حربهم، وفي أموالهم التي ينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، وهذا وعد الله عز وجل.(4/3)
بعث الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ببيان ما أجمل من الكتاب ووجوب طاعته في ذلك
ثم قال: [ونذيراً بين يدي عذاب شديد، بكتاب أحكمت آياته وفصلت بيناته، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بيَّن فيه مناهج حقوق افترضها، ومعالم حدود أوجبها؛ إيضاحاً لوظائف دينه، وإتماماً لشرائع توحيده، كل ذلك في آيات أجملها بألفاظ اختصرها أدرج فيها معانيها، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبيين ما أجمل، وتفصيل ما أدرج، فقال جل ثناؤه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]].
أي: أنزلنا إليك يا محمد القرآن على سبيل الإجمال دون التفصيل؛ لتبين للناس ما أنزل إليك في القرآن على سبيل الإجمال، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما قام مع شرع ربه بمثابة المبين والمفسر والموضح، والمزيل للإشكالات العامة التي جاءت في كتاب الله عز وجل، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
ثم قال: [وفرض على الخلق أجمعين طاعة رسوله، وقرن ذلك بطاعته، ومتصلاً بعبادته، ونهى عن مخالفته بالتهديد، وتوعد عليه بأغلظ الوعيد في آيات كثيرة من كتابه، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:131 - 132]].
فالله عز وجل عقد المقارنة بين من تنكب طريق الطاعة للنبي عليه الصلاة والسلام، وبين من أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء من أولي رحمة الله عز وجل.(4/4)
ذكر بعض الآيات التي توجب طاعة الرسول وتقرنها بطاعة الله تعالى
ثم قال: [وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]] أي: فإن تولوا عن طاعتك يا محمد، فهذا التولي إما أن يكون كفراً اعتقادياً مخرجاً من الملة، وإما أن يكون كفراً عملياً، لكنه على أية حال فهو في الجملة نوع كفر.
ثم قال: [وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]] ينفي الله تبارك وتعالى في هذه الآية الإيمان عمن لم يقبل حكم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يرض به ولم يسلم له تسليماً، قال: ((فَلا وَرَبِّكَ)) يبدأ الآية بالقسم، ((لا يُؤْمِنُونَ))، نفي للإيمان، ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)) أي: حتى يقبلوا تحكيمك يا محمد في كل المنازعات والخصومات التي تنشأ بينهم، ((ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ)) يعني: يرضون بحكمك تمام الرضا، حتى لا يحيك في نفس أحد منهم مما قضيت وحكمت شيء، إنما يخرج من عندك بهذا القضاء الذي قضيت به راضياً بما قضيت، ثم يسلموا لك الأمر تسليماً؛ لأنك المبين عن الله عز وجل وأنت رسوله الكريم.
ثم قال: [وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]] كأن الله عز وجل يسلي نبيه بقوله: من أطاعك يا محمد فهو منك وأنت منه، لا بد من عقد الولاء بينك وبينه، أما من عصاك وتولى عنك ولم يرض بحكمك، فإن الحرب تنتقل إلى الله عز وجل، هو الذي يتولى أمرها: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80].
يعني: هذا فيه نوع من المعنى الذي قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]، فالذي يتولى الكيد لهؤلاء الكائدين هو الله عز وجل، ومن ذا الذي يفلح إذا كاد الله عز وجل له، فالحرب تنتقل مباشرة بين هؤلاء وبين النبي عليه الصلاة والسلام إلى حرب بينهم وبين المولى عز وجل، فهو الذي يتولاهم.(4/5)
قول الله في طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وبيان معنى ذلك
ثم قال: [وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]].
(أَطِيعُوا اللَّهَ) استقلالاً، (وأَطِيعُوا الرَّسُولَ): استقلالاً، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: (وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ)، وهذا يدل على أن أولياء الأمور لا طاعة لهم مستقلة عن طاعة الله وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا أمر أولو الأمر بأمر هو في طاعة الله وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام فبها ونعمت، كذلك إذا أمروا بأمر مباح لم يأت فيه أمر ولا نهي في كتاب الله ولا في سنة رسوله وجب على المأمور أن يلزم هذا الأمر؛ لأن أمر الأمير والسلطان والوالي إذا كان في دائرة المباح فهو ملزم للمأمور، أما إذا أمر الأمير والسلطان بل والخليفة العام، إذا أمر بأمر هو في معصية الله ومعصية رسوله الكريم؛ فإن هذا الأمر لا يلزم أحداً من المسلمين، بل لو أنفذه المأمور لكان شريكاً للأمير في الإثم، ولذلك أرسل النبي عليه الصلاة والسلام سرية وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي، فأمرهم أن يؤججوا ناراً ثم يقذفوا بأنفسهم فيها، قالوا: أيها الأمير والله إنا منها قد فررنا.
يعني: نحن ما آمنا بالنبي عليه الصلاة والسلام إلا فراراً من النار، فكيف تأمرنا أن نلقي بأنفسنا فيها؟! قال: إنما أنا أمير.
وظن أن طاعته واجبة النفاذ في كل ما يأمر وينهى، في الحق والباطل، والخير والشر، والطاعة والإثم، فلم يفعلوا، فلما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام حكوا ما كان من أمرهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لو أنكم أطعتموه ما خرجتم منها أبداً) أي: لو أنكم أطعتم أمر الأمير في معصية الله عز وجل ما خرجتم من النار أبداً؛ للحديث الثاني: (لا يحرق بالنار إلا رب النار)، وفي رواية: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) فالذي له هذه الخاصية هو الله عز وجل وحده دون أحد سواه لا أمير ولا غفير ولا خليفة ولا شيء من هذا، إلا بعض الأمور قد استثناها أهل العلم من هذه القاعدة العامة، مثل باب القصاص، قالوا: من أحرق أخاه بالنار اقتص منه بالنار، والجزاء من جنس العمل.
يعني: لو قام عليك أحد فأحرقك بالنار متعمداً، فالقصاص منه لا يكون بمجرد القتل، وإنما يكون بالقتل عن طريق الحرق؛ لأن هذا من نوع العذاب الذي أوقعه على صاحبه، هذا الكلام ذكره الإمام النووي، ونقل أن هذا هو مذهب جماهير العلماء، ومنهم من أنكر ذلك بالكلية.
كما أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه غالت فيه الشيعة وقالت: إنه إله.
فلما علم رضي الله عنه بمقالتهم أمر بجمعهم، فجمعوا له وأجج ناراً، ثم أمر بإلقائهم في النار، فألقوا فيها.
ومن الناس من يقول: إن علياً لم يحرقهم على الحقيقة، والذي يترجح لدي أنه أحرقهم بالفعل، ولكن عبد الله بن سبأ لما علم بما كان من أمر علي رضي الله عنه واستطاع أن يهرب من الحرق، وفي أثناء هربه قال: الآن أيقنت أنه هو الله؛ لأنه لا يحرق بالنار إلا رب النار، فهو لم يستسلم، وإنما استشهد بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحرق بالنار إلا رب النار) على زعمه الباطل! وربما يدور في بعض الأذهان: لماذا أحرقهم علي بن أبي طالب بالنار؟
الجواب
ربما لم يبلغ علياً رضي الله عنه هذا النهي الذي نهاه النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك أنكر عليه كثير من أصحابه.
ثم يحتمل أنه علم بالنهي، ولكنه خالف النهي لما رأى عظيم خطر هؤلاء، فأراد أن يجعلهم عبرة للعالم بأسره؛ حتى لا يجرؤ على هذه المقولة أحد بعدهم، وليس لأهل العلم أقوال في فعل علي بن أبي طالب غير هذين القولين.
وقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) التنازع بمعنى الاختلاف، وتقدير الآية: فإن اختلفتم في شيء فردوا هذا التنازع والخصام والاختلاف إلى الله وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
وإن فعلنا ذلك فهذا علامة إيماننا بالله ورسوله؛ لأنه قال: (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).(4/6)
تفسير عكرمة وميمون بن مهران لقوله تعالى (وأولي الأمر منكم)
قال: [عن عكرمة في قول الله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
قال: هما أبو بكر وعمر].
أي: بعد الرد إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام نرد أمورنا كلها إلى أبي بكر وعمر.
وهذا الكلام له معنيان: الأول: أن ذلك كان في زمان عكرمة، ولم يكن الأمير في زمانه إلا ما كان من إمرة أبي بكر ثم من إمرة عمر رضي الله عنهم؛ لأن هذا الكلام محمول على أنه قاله في إمرة عمر، فولي الأمر في زمان عكرمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر ثم عمر.
الثاني: أن يكون مقصود كلام عكرمة أنه يجب الرد إلى أولياء الأمور وخاصة الخلفاء الراشدين، فلما لم يكن من الخلفاء غير أبي بكر وعمر في زمانه أوجب الرد إليهما، وكأنه يدلنا على أصل أصيل من الأمور التي يجب على أصحاب الصحوة أن يحفظوها ويعوها جيداً، وهو أن أصول العلم كما قال ابن القيم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فهذه أصول العلم عند أهل السنة والجماعة، الرد إلى الله عز وجل في كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد مماته، وإجماع أهل العلم، وخاصة ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون أو العشرة المبشرون رضي الله عنهم وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أجمعين.
قال: [وعن ميمون بن مهران في قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] قال: الرد إلى الله إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إن قبض إلى سنته] أي: وإن كان حياً فإلى شخصه وذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم.(4/7)
وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من عصيانه
[قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13 - 14]].
مقابلة أهل الطاعة بأهل المعصية، وجزاء الصالحين بجزاء العاصين، فإن أطاع فله الجنة خالداً فيها، وإن عصى وتعدى حده فله النار خالداً فيها كذلك.
ثم قال: [وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105].
أي: بما يوافق الواقع الذي يعيشه العالم، فهذا الكتاب نزل بالحق لتحكم به يا محمد بين الناس بما أراك الله.
قال العلماء: إن الله عز وجل أنزل كتابه، وجعل لنبيه البيان، وأرسل نبيه وجعل لأهل العلم اجتهاداً، فلا غنى عن الرسول عليه الصلاة والسلام ولا عن سنته، كما أنه لا غنى لعامة الناس عن أهل العلم الذين يستنبطون من كلام الله عز وجل، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام باجتهادهم، وبالأدوات التي ملكوها من الحِكَم والعظات والأحكام والفوائد من كلام الله عز وجل، ومن كلام رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
ثم قال: [وقال الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]].
أي: ليس على الرسول إلا البلاغ، فإن توليتم عن طاعته عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك وتعالى يجازي من تولى بتوليه أن يصليه جهنم.
ثم قال: [وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]]، فجعل شرط الإيمان هو طاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: [وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]].
فالحياة الحقيقية هي حياة الإيمان، ولا إيمان إلا بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.(4/8)
الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من التنازع والاختلاف
قال: [وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]].
أي: لا تضربوا الكتاب بالسنة، ولا تضربوا السنة بالكتاب، كما لا تتنازعوا في كتاب الله عز وجل، فتضربوا آياته بعضها ببعض، وتضربوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام بعضها ببعض؛ لأن الكتاب والسنة خرجا من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الوحي، وإذا كانت المشكاة واحدة، فليس هناك تعارض ولا تفرق؛ لأنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فلما لم يكن فيه اختلاف قليل ولا كثير، دل على أنه من عند الله عز وجل، فوجب الرجوع إليه وعدم التنازع فيه، فالنتيجة المترتبة على التنازع والنزاع: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تذهب قوتكم.(4/9)
من شعار أهل الإيمان والفلاح السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
قال: [وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]].
هذا شعار أهل الإيمان، بخلاف شعار بني إسرائيل الذين قالوا: سمعنا وعصينا.
انظر إلى أهل الجحود والنكران وإلى أصحاب الإيمان، هؤلاء قالوا: سمعنا، وهؤلاء كذلك قالوا: سمعنا، فكل منهم سمع، ولكن شتان بين سماع هؤلاء وسماع هؤلاء، فبنو إسرائيل ما زادوا في كلام الله عز وجل على مجرد السمع بآذانهم، فأعقبهم الله عز وجل عصياناً وجحوداً؛ لأنهم لم يتقبلوا كلام الله عز وجل بالقبول الحسن: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، فختم الله على قلوبهم بالكفر، أما أهل الإيمان فقالوا: (سمعنا) أي: سماع إجابة، كقولك في الصلاة: سمع الله لمن حمده، مع أن الله تعالى يسمع من حمده ويسمع من لم يحمده، يسمع كل شيء من إيمان وكفر، فما فائدة قولك: سمع الله لمن حمده؟ أي: استجاب الله دعاء من دعاه، فسماع المولى عز وجل في قولك: سمع الله لمن حمده، أي: سماع إجابة، وكذلك المؤمنون إنما يقولون: (سمعنا وأطعنا) أي: أجبنا الله عز وجل إلى قوله، وأجبنا الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قوله كذلك.
إذاً: سماع أهل الإيمان سماع إجابة، بمجرد أن تسمع الأمر والنهي تمتثل اعتقاداً وقولاً وعملاً، هذا هو الإيمان، فالإيمان قول وعمل، عمل بالقلب والجوارح، وقول باللسان.
أما عمل القلب فإنه الإيمان والتصديق، وأما عمل الجوارح فأن تظهر نتيجة الإيمان القلبي على الجوارح، فيصلي ويصوم ويزكي ويحج، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وغير ذلك من امتثال الأمر واجتناب النهي، ويسبق هذا كله نطق اللسان، بعد أن يشهد العبد أنه قد آمن بالله ورسوله.(4/10)
عدم الرضا بحكم الشرع واللجوء إلى حكم القوانين خلل في الاعتقاد
قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
الواحد منا أحياناً لا يرضى بحكم المحكم في الغالب، وإنما يرضى بقضاء القاضي رغماً عن أنفه، فالفرق بين القاضي والحكم في هذه القوانين الوضعية، أن حكم القاضي ملزم للخصمين شاءا أم أبيا، والقاضي يملك صفة التنفيذ على الخصمين شاءا ذلك أم أبيا.
ولا بد أن تعلم قبل هذا أن القاضي ربما وافق قضاؤه حكمَ الله عز وجل وربما خالف، وهو في كل الأحوال ملزم له، وفي غالب الأحوال أنه مخالف لحكم الله عز وجل، خاصة في ظل هذه القوانين الوضعية التي هي زبالات عقول البشر، أما المحكم فإنه في الغالب إما أن يكون ارتضاه الخصمان من باب العادة، وإما يكون قد ارتضاه الخصمان امتثالاً لحكم الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35]، يعني: يأتي شيخ أو رجل من أهل العلم يرتضيه الخصمان حَكَمَاً بينهما، يقضي بينهما بما أنزل الله وبما قضى به رسوله عليه الصلاة والسلام، فالرجل العالم يجتهد ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلو وافق حكمه حكم الله عز وجل فلا بد أنه يرضي أحد الخصمين ولا يرضي الآخر، فيتنكب هذا الخصم الطريق؛ لأنه يعلم أن حكم هذا الحاكم أو المحكم لا يملك قوة التنفيذ، فيرفضه، وهو يعلم أن هذا هو كلام الله، وأن هذا هو حكم الله، فمن فعل ذلك فليعلم أنه داخل تحت قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]؛ لأنه رضي بحكومة هذا المحكم رجاء أن يصل إلى أمر يرضيه هو لا أمر الشرع.
فمهمة القاضي والمحكم إظهار حكم الله عز وجل وإظهار حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن القاضي في هذا الزمان يزيد عن المحكم أنه يملك سلطة التنفيذ، لكن المحكم لا يملك هذا، ولذلك يستهين به الخصوم، مع أنه عند الله عز وجل أولى من هذا القاضي الجاهل بكلام الله والجاهل بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء الناس إنما يرضون بحكمه إذا وافق هواهم، فهؤلاء ما أطاعوا الله في هذا التحكيم، وما أطاعوا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فويل لهم ثم ويل لهم.
ومع هذا ينتقلون من عند هذا المحكم إلى القاضي، وربما حكم القاضي بنفس ما حكم به المحكم، لكن لا يجرؤ واحد منهما أن يقول: إن هذا الحكم لا يعجبني؛ لأنه يعلم أن الحبس مصيره، ويعلم أن القتل مصيره، ويعلم ما يملكه القاضي من سلطة تنفيذية، فما بالنا لا نرضى بحكومة أهل العلم، وبقضاء أهل العلم، وبفصل أهل العلم في المنازعات؟! ولماذا نلجأ إلى هذه القوانين الباطلة الزائفة المستوردة من هنا وهناك، ولا نلجأ إلى أصحاب الدين وأصحاب المنهج السليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟! لماذا لا تقبل أنت حكومة العالم الذي يقضي في قضيتك التي ربما تبقى في المحاكم عشرات السنوات؟ لماذا لا تقبل حكم المحكم العالم بكتاب الله وسنة رسوله في مجلس واحد؟ متى يكون هذا الكلام واقع الناس وحياة الناس وقلوب الناس، ودين الناس؟ أنتم تعلمون ما نحن فيه من ذل وهوان، ورب السماء والأرض ما هذا إلا بسبب البعد عن كتاب الله وعن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنا لا أخاطب الفساق ولا الفجار، وإنما أخاطب أهل المساجد وأهل الصلاة، وأصحاب اللحى، وصاحبات النقاب هذه البلايا فينا قبل غيرنا، فمتى نرجع؟ نحن الشيوخ والعلماء وطلاب العلم متى نرجع أولاً قبل الناس إلى الله عز وجل؟ وحذار أن تتصور أنني أخاطب الفجرة أو الفساق، أو المجرمين، وإنما أخاطب نفسي أولاً ثم أخاطبك بعد ذلك: متى العودة إلى الله عز وجل؟ لا بد أن تعلم أن هذا خلل في العقيدة، فلا تظن أن هذا خلل في المسلك أو في المنهج، هذا -والله- خلل في الاعتقاد، فأنت موقوف ومسئول، والله تعالى يسألك ليس بينك وبينه ترجمان، يوم أن تنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، ثم تنظر تلقاء وجهك فلا ترى إلا النار، والله عز وجل قادر على أن يقذف جميع عباده في النار ولا يبالي: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
الله تبارك وتعالى لا يخاف عاقبة الأمور، لا أحد يلومه: لم ألقيت عبادك في النار، والله عز وجل لا يظلم الناس مثقال ذرة، فإذا أدخلك الجنة فبفضله، وإذا أدخلك النار فبعدله، وراجع عملك ثم حاسب نفسك: هل تستحق الجنة بما قدمت من عمل؟ لا والله، ليس أحد منا يستحق الجنة بعمله، وإنما الجنة بفضل الله عز وجل ورحمته، ولذلك إذا قذفك في النار مهما كنت عابداً فليس بظالم لك، فقدم اليوم ما ترجوه غداً، واحذر اليوم ما تهرب منه غداً.(4/11)
طاعة الله ورسوله سبب حصول العبد على الفوز والرحمة والهداية
قال: [قال: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].
وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56].
وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]].
فالهداية في طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا): وعد وبشارة منه سبحانه.(4/12)
أمر الله عز وجل بلزوم الأدب معه صلى الله عليه وسلم عند مناداته
قال: [وقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]].
أي: لا تقولوا: يا محمد يا محمد يا محمد، كما يقول بعضهم لصاحبه: يا محمد، يا إبراهيم، يا زيد، يا عمرو، ولكن ليكن دعاؤكم الرسول صلى الله عليه وسلم بما لقبه ونسبه إليه الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
أذكر بهذه المناسبة وإن كان الأمر فيه جهالة، لكن هذا رجل لطيف جداً لا يقصد أي شيء من كلامه؛ لأنه أقل من أن يقصد أي شيء بكلامه، سمعته والله بأذني رأسي، وهو رجل بسيط يقول: اللهم صل على سيدنا محمد أفندي رسول الله، فقلت: من أين أتيت بأفندي؟ قال: نحن نقول عن السيد الفلاني: يا أفندي، والنبي عليه الصلاة والسلام أحسن من هؤلاء الناس كلهم، وأولى بهذه الألقاب وهذه المصطلحات! فالرجل لا يقصد شيئاً، لكنه في نفسه يعظم ويبجل ويوقر النبي صلى الله عليه وسلم فوق هذا الرجل.
لكن على أية حال دعنا نستفيد من هذا الرجل البسيط الذي رأى أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم بما يعظم به الناس، أيهما أحسن هذا الرجل أم الملاحدة أصحاب الشهادات وأصحاب حملة الدكتوراه، الذين يقولون على النبي صلى الله عليه وسلم، بل على دينه وقرآنه وشرعه قولاً شنيعاً، بل يسبون الذات الإلهية؟ هل الأحسن والأفضل هذا الذي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم باجتهاده بلفظ: أفندي وأستاذ وغير ذلك، أم هؤلاء المجرمون الملاحدة؟ هذا الرجل أفضل.
قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
أتى شخص من أهل المدينة إلى الإمام مالك ليسأله قال له: أنا أريد أن أحرم بالعمرة أو الحج، فهل أحرم من ذي الحليفة أم من المسجد النبوي؟ قال: لا، ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، اذهب إلى ذي الحليفة وأحرم من هناك، قال: يا إمام إنما هي خطوات، فهل أحرم من المسجد؟ فقال الإمام: إني أخشى عليك الفتنة، قال: أي فتنة في ذلك؟ قال: أما قرأت قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
انظروا إلى فقه الإمام مالك كيف يرى الفتنة، ولذلك أنت حينما تذهب إلى المسجد النبوي ستجد آلاف الناس محرمة، وهذا خطأ، إنما الإحرام لأهل المدينة ومن مر بها من ذي الحليفة.(4/13)
عدم التزام أمر الله وأمر رسوله يوجب الوقوع في الضلال البعيد
قال: [وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]].
يعني: إذا قضى الله عز وجل في قضية معينة، أو قضى الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية معينة؛ فلا خيار لك، ويلزمك أن تقول: سمعنا وأطعنا، هذا إذا كنت مؤمناً، أما إذا كنت غير ذلك فافعل ما بدا لك، والله تبارك وتعالى هو الذي سيحاسبك.(4/14)
معنى التقدم بين يدي الله ورسوله وموقف الصحابة من الأمر بعدم التقدم
قال: [وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة:6].
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]].
التقدم بين يدي الله: هو أن ترى غير ما أمرك به الله، وهو أن يحكم الله تعالى في قضية بحكم ثم أنت لا ترى هذا الحكم، وترى رأياً آخر يخالف حكم الله عز وجل، وكذلك أن يحكم النبي عليه الصلاة والسلام في قضية ما بحكم السماء، ثم أنت لا ترى ما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام، بل تذهب فتحكم فيها برأيك وهواك، فهذا تقدم بين يدي الله ورسوله.
والصحابة رضي الله عنهم قد ضربوا أروع الأمثلة لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
كان ثابت بن قيس بن شماس جهوري الصوت بطبيعة الخلقة التي خلقه الله تعالى عليها، كان صوته عالياً جداً، كان إذا تكلم أسمع الناس كلها، فإذا تكلم في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام علم الناس أن المتكلم هو ثابت بن قيس بن شماس، فظن ثابت بن قيس أن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] نزلت في شأنه؛ لأن صوته عال.
فقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ} [الحجرات:2] أي: لا ترفعوا أصواتكم عليه، وتجهروا عليه بالقول: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فلما سمع ثابت بن قيس هذه الآيات لزم بيته وقال: أنا من أهل النار، أنا قد حبط عملي، أنا الذي نزلت فيّ هذه الآية، ولذلك تفقده النبي عليه الصلاة والسلام عدة أيام كما كانت عادته عليه الصلاة والسلام، فلما لم يره سأل عنه، فأخبروه بما كان من أمره، قال: (اذهبوا إليه وبشروه بالجنة).
إذاً: المقصود أن ترى أنت غير حكم الله وترى غير حكم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن عمل الصحابة بظاهر هذه الآية.
وقد جاء عن أبي بكر الصديق أنه قال بعد نزول هذه الآيات: [(يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار)، يعني: كمن يحدث أخاه سراً.
وأما عمر فكان النبي عليه الصلاة والسلام يستبينه في الكلام مرة ومرتين وثلاثاً؛ لأن عمر يتكلم بصوت يتكلف فيه الخفض، حتى يقول له النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا تقول يا عمر؟ فيعيد عمر إعادة غير مسموعة، فيستعيده النبي عليه الصلاة والسلام.
إذا كان هذا موقف الصحابة من مجرد التلفظ مع الطاعة، فما بالكم بمن يهجم على الله وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام؟ شتان بين زمان الصحابة وزماننا، وقلوبهم وقلوبنا، وطاعتهم وانقيادهم وطاعتنا وانقيادنا.(4/15)
اقتران طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعة الله واتباعه بمحبة الله عز وجل
قال: [قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:17].
وقال تعال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]].
وهذا يدل على أن ما نطق به النبي عليه الصلاة والسلام وحي وإن كانت سنة.
ثم قال: [وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12]].
أي: ليس عليه إلا البلاغ البين الواضح الذي لا خفاء فيه.
ثم قال: [وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق:10 - 11].
في آيات أخرى نظائر لهذه الآيات كلها قد قرن الله عز وجل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعته، ووصلها بفريضته، وجعل أمره كأمره، وتعقبها بالوعيد الشديد، والزجر والتهديد لمن حاد عن أمره أو خرج عن طاعته، أو وجد في نفسه حرجاً من قضيته، أو ابتدع في سنته، ولقد دلنا مولانا الكريم سبحانه وتعالى على طريق محبته، وأرشدنا إلى سبيل هدايته، بأقصد المذاهب، وأقرب المسالك، حين أعلمنا أن محبة الله هي في متابعة نبيه صلى الله عليه وسلم، حين قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]].
يقول الحسن البصري: ما ابتلي الناس بمثل بلائهم بهؤلاء، يعني: هذه الآية أعظم اختبار ومحك لمن ادعى أنه يحب الله، فإن من زعم أنه محب لله لا بد من النظر في متابعته للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن كان حقاً متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فهو صادق في زعمه المحبة، وإن كان تنكب طريق الطاعة والاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو كاذب في ادعائه المحبة لله عز وجل.
إذاً: قوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) ما هي العلامة؟ (فَاتَّبِعُونِي) أي: اتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الاتباع والانقياد والذل والخضوع لله عز وجل أحبكم الله عز وجل، وغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
ثم قال: [فمن اتبع رسوله في سنته أورثه ذلك محبة الله عز وجل بكسبه البصيرة في إيمانه، فيما أحكمه في قلبه ولسانه، وبالمغفرة والرضوان في ميعاده.
وسئل سهل بن عبد الله التستري عن شرائع الإسلام، فقال: قال العلماء في ذلك وأكثروا، ولكن نجمعه كله بكلمتين: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]] فالرجل هنا يسأل عن شرائع الإسلام، ما هي؟ وكيف هي؟ وماذا نفعل؟ وماذا نصنع إلى آخره؟ فقال: تكلم العلماء في شرائع الإسلام بكلام كثير وعرفوه وبينوه، ولكني أجمع كل ما قيل في شرائع الإسلام بكلمتين اثنتين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فبين أن شرائع الإسلام إنما هي في طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: [ثم نجمعه كله في كلمة واحدة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فمن يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فريضته].(4/16)
باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله بالقرآن
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحذير من طوائف يعارضون سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن].
أي: هذا الباب فيه ذكر ما جاء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام من لزوم طاعته والاقتداء به، بعدما بدأنا بذكر بعض الآيات التي حثت وأمرت باتباع النبي عليه الصلاة والسلام وطاعته، وأن طاعته هي من طاعة الله عز وجل، فسأحشد ذلك بباب من السنة يبين نفس المعنى.
قال رحمه الله تعالى: [وليعلم المؤمنون من أهل العقل والعلم أن قوماً يريدون إبطال الشريعة] وفي الحقيقة ابن بطة يخاطبكم أنتم، يخاطب أصحاب الصحوة وأهل الشريعة وأصحاب الدين، ويبين لهم خطر الملاحدة، وما أكثرهم في زماننا، فاعتبر أن هذا الكلام رسالة موجهة لك: [وليعلم المؤمنون من أهل العقل والعلم أن قوماً يريدون إبطال الشريعة ودروس آثار العلم والسنة] أي: يريدون أن يمحوا آثار السنة من قلوب الخلق.(4/17)
وصف ابن بطة للمعارضين للسنة ومقارنتهم بأهل زماننا
قال: [فهم يموهون على من قل علمه وضعف قلبه، بأنهم يدعون إلى كتاب الله ويعملون به] يعني: صاحب الهوى والبدعة يزعم أنه أفهم لكتاب الله ممن يدعوه إلى بدعته وباطله، وأعرف بسنة النبي عليه الصلاة والسلام منه، ثم هو بعد ذلك يرى أنك على الخطر المبين.
قال: [وهم من كتاب الله يهربون، وعنه يدبرون، وله يخالفون، وذلك أنهم إذا سمعوا سنة رويت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام رواها الأكابر عن الأكابر، ونقلها أهل العدالة والأمانة، ومن كان موضع القدوة والأمانة، وأجمع أئمة المسلمين على صحتها، أو حكم فقهاؤهم بها، عارضوا تلك السنة بالخلاف عليها، وتلقوها بالرد لها، وقالوا لمن رواها عندهم: تجد هذا في كتاب الله عز وجل؟].
يقول لك: أعطني أصل هذه الرواية في كتاب الله، لا يكفي أن تكون هذه الرواية في البخاري ومسلم! والعجيب أن الذي يناقشون بهذا هم أحط خلق الله وأسفل خلق الله، لكن الواحد منهم يظهر بمظهر المدافع عن كتاب الله، فيقول: أنا أعرف أن هذا الحديث في البخاري ومسلم، لكن هل البخاري معصوم؟ وهل مسلم معصوم؟ نقول: ليست القضية متعلقة بشخص البخاري ومسلم، القضية متعلقة بأمة أجمعت على تلقي هذا بالقبول، فأنت مضطر اضطراراً أن تقول حين رفضك لهذه الرواية: إن الأمة منذ أربعة عشر قرناً أجمعت على الضلالة، وتخالف بذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
ويقول لك: لا، هذا ليس حديثاً؛ لأنه ليس في البخاري ومسلم، وهو منذ قليل يقول: إن البخاري ومسلماً ليسا معصومين.
المهم أن هؤلاء الملاحدة يريدون دروس السنة ومحوها من قلوب الخلق، لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، لا علاقة لهم لا بالكتاب ولا بالسنة، ولا بالإيمان ولا بالرسول، لكنهم لا يجرءون مع ما يرونه من قتل من يرفع عقيرته في هذا الزمن، لا يجرءون أن يقولوا للناس ويريحونا: نحن منافقون، أو نحن كفار.
لا يجرءون أن يقولوها؛ لأنهم يعلمون أن بعض الشباب يتربص بهم.
إذاً: فهذه الأفكار الشيطانية ربما انطلت على الجهال والصبيان والبسطاء، لكنها لا تنطلي على أهل العلم، ولذلك لم تنطل على ابن بطة، فيقول حاكياً عنهم ثم يرد عليهم: [وهل نزل في هذا القرآن؟ وائتوني بآية من كتاب الله حتى أصدق بهذا.
فاعلموا رحمكم الله أن قائل هذه المقالة إنما ترقق عن صبوح] الصبوح هو السكر غدوة، تجد الشخص مثلاً بدلاً من أن يشرب حليباً يشرب خمراً، فيسكر على الريق؛ لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيقول: هذه مقولة من شرب الخمر في أول نهاره، فهؤلاء أناس ملاحدة لا يدرون ما يخرج من رءوسهم من فرط عنادهم وكفرهم.
فقوله: (إن قائل هذه المقولة إنما ترقق) أي: تكلم بها (عن صبوح)، أي: عن سكر.
وهذا بلاء يتعرض له الأطباء النفسيون، يريد أن يوصل العلاج بأي شكل لمريضه، وربما يكون عند المريض خجل، أو انطواء، أو غير ذلك من الأمراض، فيقوم الدكتور يقول لأهل المريض: اتركوه عندي يومين أو ثلاثة فيعطيه حقنة بنج ويسجل كل كلامه، قل لي: ما الذي أغضبك؟ أبوك أغضبك، أمك أغضبتك، امرأتك أغضبتك، ابنك أغضبك.
ما هي القضية؟ ويظل معه حتى يعرف أصل العارض، ويفيق بعد ذلك هذا المريض، فعندما يكون الطبيب قد عرف المرض يبدأ يعرّف المريض أساس العلة المعروفة لديه.
حدثني بهذا طبيب نفساني، قال: إنما يسلك الأطباء النفسانيون هذا المسلك لمعرفة المرض الذي لا يمكن الوصول إليه بطريقة السلم بين الدكتور وبين المريض.(4/18)
الرد على المعارضين للسنن بآيات قرآنية لا تتبين إلا بالسنة
ثم قال: [ويُسر خبيئاً في اربغاء يتحلى بحلية المسلمين، ويضمر على طوية الملحدين، يظهر الإسلام بدعواه، ويجحده بسره وهواه، فسبيل العاقل العالم إذا سمع قول هذه المقالة أن يقول له: يا جاهلاً بالحق خبيثاً في الباطن، يا من خُطِّئ به طريق الرشاد وسبيل أهل السداد، إن كنت تؤمن بكتاب الله، وأنه منزل من عند الله، وإن ما أمرك الله به وما نهاك عنه فرض عليك قبوله، فإن الله أمرك بطاعة رسوله وقبول سنته؛ لأن الله عز وجل إنما ذكر فرائضه وأوامره بخطاب أجمله، وكلام اختصره وأدرجه، دعا خلقه إلى فرائض ذكر أسماءها، وأمر نبيه بأن يبين للناس معانيها، ويوقف الأمة على حدود شرائعها ومراتبها.
فقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]].
هذه أوامر مجملة بينها بأوصافها وعددها وهيئاتها وغير ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فلو تركنا النبي صلى الله عليه وسلم بلا بيان، لم يستطع أحد منا أن يعبد ربه، إذاً: لا بد من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فربنا تبارك وتعالى هو المنزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43].
وقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]].
من منا يستطيع أن يحج بغير بيان وتفصيل؟ ولذلك لما حج النبي عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني مناسككم) يعني: اعرفوا كيف أحج من أجل أن تحجوا مثلي، وإلا فمن حج على غير نهج النبي عليه الصلاة والسلام فحجه يدور بين البطلان والفساد، أو يجبر بدم عند مخالفة الواجب أو غير ذلك.
ثم قال: [وقال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]]، من كان يعرف أن يصوم من غير بيان أحكام الصيام؟ يعني: لو أتيت في هذا الوقت إلى واحد في بلاد الكفر أسلم على يديك، فتقول له: أنت ما دمت قد أسلمت، فربنا قد فرض عليك الزكاة في المال، وأمرك بالصلاة وبالصيام وبالحج، ولم تشرح له كيفية أداء تلك العبادات، فهل يستطيع أن يؤدي طاعة من هذه الطاعات؟ هو لا يعرف كيف يبدأ الصيام وكيف ينتهي، ما الذي يفسده وما الذي يصلحه، وأي الأشهر هو؟ وهل هو شهر أو شهران أو ثلاثة في السنة؟ أم هل هو السنة كلها أو بعضها؟ لا يعرف شيئاً، وكذلك في كل أمر من هذه الأوامر، فلا يمكن الاستغناء عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: [فلو عارضك من هو في الزيغ هالك، وقال لك: إن الصلاة التي دعاني الله إلى إقامتها إنما هي صلاة في عمري -أي: صلاة واحدة في العمر كله- أو صلاة واحدة في كل يوم، أو عارضك في إحدى الصلوات الخمس، فقال: إن صلاة الظهر ركعتان، أو صلاة العصر ثلاث ركعات، أو قال لك: إن التي تسر القراءة فيها من صلاة النهار سبيلك أن تجهر به، وما تجهر به في صلاة الليل والفجر سبيلك أن تخافت به، أو قال لك: إن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فقال: إنما أمرني الله بالسعي والذكر، وليس تجب علي صلاة، وإنما أذكر الله بلساني وأنصرف، أو قال لك: إن الصلاة يوم الجمعة أربع ركعات كسائر الأيام، مثل: صلاة الظهر من غير خطبة، وإلا فأوجدني للخطبة وصلاة الركعتين، والجهر فيهما بالقراءة في كتاب الله موضعاً].
يعني: أعطني دليلاً على أن صلاة الجمعة هذه لها خطبة من كتاب الله عز وجل.
[أو قال لك: إن الله أمرني بالزكاة، وإنما تجب على من معه ألف دينار في عمره مرة واحدة دينار واحد.
أو قال لك قائل: إنما الزكاة في الذهب والورق ولا زكاة في الحبوب ولا البهائم، أو كيف تعطى الزكاة من البهائم والأنعام؟ أو قال آخر: إن الخيل والبغال والحمير والإماء والعبيد والعقارات والسفن والثياب الفاخرة والجواهر، واليواقيت التي يتزين بها الناس ويتجملون بها من نفيس الأموال وخطير العقد والأملاك فلم لا تؤدى زكاتها؟].
يعني: لماذا لا تخرج عنها زكاة، لأن الشرع لم يفرض عليه فيها زكاة؛ لأنها استعمال شخصي.
[أو قال قائل: إني أحج بلا إحرام، ولا أخلع ثيابي، ولا أجتنب شيئاً مما يجتنبه المحرمون، ولا أمتنع من جماع النساء، وأستعمل الطيب، ولا آتي الميقات، ويجزيني طواف واحد وسعي واحد، والعمرة التي ذكرها الله عز وجل إنما هي الصلاة أصليها أو هدية أهديها.
أو قال لك: إن الجمار لا أرميها.
أو عارضك في شهور رمضان، وقال: إنما فرض على النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فقال: إن الشهر الذي فرض صيامه إنما هو رمضان الذي أنزل فيه القرآن]، وهذه هي حجة الملاحدة في الزمن القديم، استدل(4/19)
نماذج وقصص تحكي واقع من لا يؤمن بالسنة ويدعي الإيمان بالقرآن فقط
جاءني منذ ثلاثة أيام رجل برسالة تحكي قصة طبيب بيطري، وهذه الرسالة معي أتى بها هذا الرجل من مدينة (6 أكتوبر)، جاء بها وهو مفزوع يقول: أدركني، هذا طبيب بيطري تزوج أخت امرأته، طلق زوجته الأولى ثم تزوج أختها في اليوم الثاني من طلاق الأولى.
وأنتم تعلمون أن هذا حرام؛ لأن الرجل إذا طلق المرأة فأراد أن يتزوج من كان يحرم عليه أن يجمع بينها وبين زوجته الأولى، فلا يحل له أن ينكحها إلا بعد انقضاء عدة الأولى، وهذه التي يسميها الفقهاء: عدة الرجل.
فنكح أختها في اليوم الثاني من طلاقها، فأرادت أختها الأولى أن تكيد لها فاحتالت على الرجوع لزوجها، فرجعت، وهم الآن يقيمون في شقة واحدة، يبيت هذا الكلب عند هذه ليلة وعند تلك ليلة، وناقشه أكثر من شيخ في حرمة هذا -كما لو كنا جالسين في أمريكا أو في لندن، لا يوجد حل- يقول لهم هذا الرجل: أعطوني من القرآن حرمة هذا، لا يقول لي واحد: سنة، أنا لا أعترف بالسنة، وإنما أعترف بالقرآن المقطوع بتواتره.
نقول لهذا: هذا الكلام لأهل العلم، هل تعلم ما معنى متواتر وآحاد؟ وما الذي يركب في العقل والذي لا يركب؟ فلا يزال هذا الأمر إلى الآن قائماً، وإذا وصل كلامي هذا إلى (البوليس) فأنا مستعد أن أذهب معهم إلى العنوان الذي معي، وأصحب معي بعض الدعاة الذين نهوه عن هذا الحرام.
وهذا أخ تزوج أخته عند المأذون، ثم لما سحبا إلى الشرطة قالت البنت ببجاحة شديدة: لا يمكن أن أتخلى عنه؛ فإنني أحبه بجنون.
أقول: هذا يدل أولاً على نهاية العالم، وقرب الساعة، ثم إن هذا ربما يكون بأدنى مخالفة للنبي عليه الصلاة والسلام، والله أنا أتوقع أن هذا بسبب أن الأب لم يفصل بينهما في المضجع منذ سن العاشرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (علموهم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، لماذا نفرق بينهم في المضاجع؟ لماذا الولد ينام في مكان والبنت تنام في مكان؟ لأن الشيطان أقوى منهما، خاصة في هذا الزمان الذي اختلطت فيه المحارم واختلط فيه الحابل بالنابل.
وهذا طالب يقول لزميله: لماذا التعب يا أخي، تطلب هذه فتأبى عليك وتطلب هذه فتأبى عليك؟ لماذا لا تذهب لأختك؟ أختك تجلس معك في البيت وأنت في مأمن من أعين الناس.
هذا هو الجيل المثقف، وأنتم تعرفون الوزير المثقف الذي جاء يهدم أبناءنا ويخرب التعليم، ويحذف مادة الشريعة الإسلامية التي يسمونها: التربية الدينية، وهذه تسمية خاطئة منافية للعقيدة الإسلامية، بل لا بد من تسميتها: التربية الشرعية الإسلامية، لا الدين فقط، دين ماذا؟! فالنصارى لهم دين، واليهود لهم دين، والمجوس لهم دين، فهذا تمييع لأمر الإسلام وشرائعه، على يد عميل يهودي، ومعظم هؤلاء السادة والقادة يهود، تربوا على أيدي اليهود في بلاد الغرب، ثم أتوا إلى هذه البلاد ليفعلوا بها الأفاعيل، فهؤلاء يصنعون بأبناء الأمة ما لم تقدر اليهود والنصارى أن تصنع، يريدون أن يخربوا، بل قد خربوا عقائد المسلمين شباباً ورجالاً، وشيوخاً ونساء، كباراً وصغاراً؛ بالتعليم تارة، والطب تارة، والزراعة تارة وكل مناحي الوزارات إنما تولاها من ليس بأهل، والأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة، قالوا: وما ضياعها يا رسول الله؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله).
أسأل الله تعالى لي ولكم العافية في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تقبل منا أعمالنا الصالحة، وتجاوز عن سيئاتنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(4/20)
الأسئلة(4/21)
بيان المعتقد الصحيح في رفع عيسى عليه السلام
السؤال
ما هو المعتقد الصحيح في رفع عيسى عليه السلام؟
الجواب
اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما أعلم في هذه القضية: أن عيسى عليه السلام لم يمت، وإنما رفعه الله عز وجل إليه، فعيسى حيٌّ في السماء، ليست حياته كحياة الأنبياء في قبورهم، ولا حياة الشهداء في قبورهم، وإنما هي حياة حقيقية كما نحيا نحن؛ لأنه لم ينتقل من حال إلى حال، بل رفع في حياته الدنيوية إلى الله عز وجل إلى السماء، وسينزل في آخر الزمان.
ولقد أخبرني رجل وهو من علية القوم، ومن حاملي الشهادات المتعددة، ويحرص كل الحرص على أن يذكر شهاداته ورحلاته العلمية، والمؤتمرات التي حضرها، أخبرني بأن عيسى قد مات.
وذات مرة في كلية دار العلوم قال الدكتور أحمد شلبي أستاذ التاريخ: أتدري يا بني نتيجة الأبحاث العلمية المتعلقة بعيسى؟ قلت له: هل يحتاج عيسى إلى بحث علمي أم بحث شرعي؟ قال: لا، أبحاث علمية أثبتت أن عيسى مات، ولم يرفع إلى السماء! قلت: يا دكتور، هذا البحث العلمي أنت الذي سيحكم به؟ قال: نعم يا بني.
قلت له: يا دكتور، انظر ما تقول، فإن هذا مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، قال: لا، بل متفق معهما تمام الاتفاق.
قلت له: بيِّن لي.
قال: والله يا بني عندي الآن مؤتمر، ففي وقت آخر إن شاء الله.
ثم التقيت به أربع مرات بعد ذلك ليحدثني عن تفصيل ذلك، وأنا أكفر بكلامه، وأؤمن بكلام الله عز وجل، ولكنه في كل مرة كان يهرب، حتى التقيت به بمكتبه أنا وأحد الصحفيين أتى يسجل معه لقاء، فتنحيت بهذا الصحفي وقلت له: الدكتور يقول: كيت وكيت وكيت، وأنت لو حققت معه في هذه القضية ستصبح صحفي عصرك، وتصبح أنت صاحب السبق فيها، وبينت له خطورة الأمر، وقلت له: انتبه! فإنك ستذكر على كل لسان.
فقال: لا، أنا كنت قد أتيت لمهمة أخرى، والمهمة هذه مضبوطة تحتاج إلى آيات من القرآن وأحاديث من السنة، فاكتبها لي أعرضها عليه، فجلسنا في المكتب المجاور، وأخرجت له الآيات والأحاديث مكتوبة، ودخلت معه إلى الدكتور، ففوجئ بأن الصحفي تبنى القضية ويريد أن يسترسل معه، فقال له: لا، نبقى في التاريخ الإسلامي المعروف عند الناس بالطريق الإسلامي، فقال له الدكتور: هذه مسألة متعلقة بالأنبياء والنبوة وغير ذلك، فاجعلها في وقت لاحق.
قال: بل اليوم، فقال: يا بني هذه المسألة أنا أعددت فيها بحثاً سأدفعه إليك، فتفضل معي في سيارتي وأنا أعطيك بحثي، المهم خرج الدكتور من الكلية من أجل أن يدفع البحث للصحفي، ثم اتصل بي الصحفي، وقال: لم يكن لديه بحث ولا شيء من هذا نهائياً، فالرجل أقسم لي بالله أن البحث مكتمل وقد كتب النتيجة النهائية التي توصل إليها أن عيسى مات.
نقول: اعلم أن هذه ليست عقيدة معظم النصارى، فمعظم النصارى يعتقدون أن عيسى رفع وهو حي، فتقول له: أنت تعبد من؟ يقول لك: عيسى، تقول له: أنتم تقولون إن عيسى مات، وهل هناك إله يموت وبعد ما يموت أيضاً نعبده؟ يقول لك: لا، أنا أعتقد أن عيسى حي.
فهو نصراني ويعتقد أن عيسى حي، هل يتصور أن إنساناً كبيراً مثل الدكتور لم يصل إلى معتقد بعض النصارى أو جمهور النصارى، فهذا بلاء عظيم تمر به الصحوة، ومضروبة في قلبها ممن سموا دعاة، أو رسموا في الرسم العام أنهم علماء أو متخصصون أو غير ذلك، فهذا بلاء عظيم جداً.
نسأل الله تعالى العافية.(4/22)
شرح كتاب الإبانة - ذكر ما جاءت به السنة من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد جاءت الأحاديث الكثيرة في السنة توجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعتبرها من طاعة الله عز وجل، ومن تنكب طريق الطاعة فقد تنكب طريق الجنة، إذ إن الجنة مرهونة بطاعة النبي عليه الصلاة والسلام.(5/1)
ذكر ما جاءت به السنة من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
أما بعد: فلا يزال الكلام في طاعة النبي عليه الصلاة والسلام موصولاً من خلال سنته بعد أن سردنا كثيرا ًمن الآيات التي تأمر بطاعته عليه الصلاة والسلام، وتبين هذه الآيات أن طاعة النبي عليه الصلاة والسلام طاعة لله عز وجل؛ لأنه لا يتكلم من عند نفسه، وإنما يتكلم بوحي من السماء.
وفي هذه الآثار والأحاديث التي سنسردها شاهد قوي جداً لتلك الآيات في لزوم طاعته عليه الصلاة والسلام، ومن تنكب طريق الطاعة لا بد أنه تنكب طريق الجنة، فإن الجنة مرهونة بطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، وكذلك النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
فالله عز وجل إنما خلق الخلق وجعلهم قسمين خلق النار وقسم لها قسماً من خلقه، وقال: يا أهل النار! خلود بلا موت، وخلق الجنة وجعل لها قسماً من خلقه، وقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت.
والله عز وجل لو قذف العباد جميعاً في النار لكان ذلك بعدله سبحانه وتعالى، ولو شاء أن يدخلهم جميعاً الجنة لجعلهم مؤمنين أولاً، ولكن لا تستقيم الحياة إذا كان كل الناس كفاراً أو كلهم مؤمنين، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، فلا بد من الدفع، ولا بد من الجهاد، ولا بد من القتال؛ وهذا يستلزم أن يكون الناس فريقين: فريقاً مؤمناً، وفريقاً كافراً.
أما الكافر فإن الله تعالى أعد له النار، وأما المؤمن فإن الله تعالى أعد له الجنة، وجعل له منزلاً في النار إذا عصى، ورتب ذلك على مشيئته؛ فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ عباده بذنوبهم.
والباب الذي نتكلم عنه في هذه الليلة هو تتمة وتكملة لما بدأناه في الدرس الماضي من وجوب طاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن من عصاه دخل النار كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ -أي: من الذي يرفض أن يدخل الجنة؟ - قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) أي: أبى أن يدخل الجنة، إذ إنه حكم على نفسه بالطرد من رحمته سبحانه وتعالى، وبالتالي استحق أن يدخل النار.(5/2)
حديث أبي رافع (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)].
في هذا الحديث يحذر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من قوم سيظهرون من بعدهم، فهو يحذرهم أن يكون هذا فيهم، أو في القرون الخيرية؛ فقال: احذروا أن أجد أحدكم متكئاً على أريكته، والأريكة هي الكرسي الوثير العظيم؛ ولذلك أتى في إحدى طرق الحديث: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعاناً)، أي: إنسان عنده تخمة، يعيش في النعيم، ويغص في نعم الله عز وجل، وجالس على الكرسي، ويضع رجلاً على رجل، فتقول له: أنت على معصية، فيقول لك: أين الدليل؟ فتقول له: قال النبي عليه الصلاة والسلام كذا وكذا، فيقول لك: لا تقل قال النبي كذا وكذا، فهذه سنة قد دخلها التحريف، فإما أن تأتيني بنص من كتاب الله، وإلا فلا حاجة لي في نصيحتك، ويزعم أنه مسلم، ويزعم أنه متبع، وهو يكذب بالوحي؛ ولذلك يقول لك: دعني من النبي وأقواله، فإن الأصل عندي أن الحل والحرمة في كتاب الله وإلا فلا، ولذلك دعا النبي عليه الصلاة والسلام على أمثال هؤلاء، والذي يقول هذا إما أن يكون منافقاً جاحداً زنديقاً، يتستر بقوله: ما كان في كتاب الله اتبعناه، وإما أن يكون جاهلاً يردد ألفاظ هؤلاء وكلمات هؤلاء وهو لا يدري أنها عين الكفر، فهو جاهل يقلد غيره، سمع الناس يقولون: لا شفاعة؛ فقال: لا شفاعة، سمع الناس يقولون: لا كيت ولا كيت ولا كيت من دين الله عز وجل؛ فسلك نفس المسلك، يقول مثلاً: لا عقاب، يقول: لا عذاب قبر، أي: أن القبر لا عذاب فيه ولا نعيم، وحتى يقول: إن الناس إذا ماتوا لا يبعثون! لماذا؟ لأنه سمع هذه المقالات تردد، وأدلتها في كتاب الله عز وجل، يقول الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، فكل ذكر في كتاب الله عز وجل، لكن من الذي يستنبط الفهم من كتاب الله عز وجل؟ لا بد أن يكون هناك علماء أجلاء مخلصون، ودعاة إلى الله عز وجل على علم وهدى وبصيرة ونور؛ حتى يعلموا ويربوا عامة الأمة، لكن عامة الأمة -للأسف الشديد- تركوا بيوت الله عز وجل، وتركوا مجالس العلم، وانشغلوا بالصحف والمجلات؛ وبالتالي فإنهم يتلقون دينهم عن هؤلاء الملاحدة، فما ذنب الدعاة إذاً؟ وما ذنب العلماء إذاً؟ إننا نقول: إن هؤلاء المثقفين أو أرباع المثقفين إنما أئمتهم الصحفيون، وهؤلاء الصحفيون أئمة ضلالة، وهؤلاء تبع وأتباع لهم، وسيأتي بعضهم لبعض بالتبرئة يوم القيامة، فيتبرأ كل واحد من صاحبه يوم القيامة، فإذا كانوا أخلاء وأصدقاء في الدنيا فإنهم أعداء في الآخرة: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فأهل التقوى لهم مسلك ومشرب واعتقاد يخالف هؤلاء.
قال عليه الصلاة والسلام: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته)، انظر إلى هذا التصوير النبوي، وكأنه يقول لهم: احذروا أن أرى واحداً منكم متكئاً على كرسيه، فيأتيه الأمر والنهي مما أمرت أنا به، أو نهيت أنا عنه، فيقول: دعنا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإنه قد دخله التحريف، ودخله الضعف، والرواة فيهم ضعف وخلل وغير ذلك، وإنما نتمسك بكتاب الله عز وجل! من الذي نقل إلينا كتاب الله؟ ومن الذي نقل إلينا سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ إنهم الرواة بدءاً بالصحابة رضي الله عنهم، وانتهاءً بهؤلاء الأجلاء العظماء الذين حافظوا على نقل كتاب الله، وحافظوا على تدوين سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فهم هم نفس الرواة، فإذا كنت تنكر السنة من باب أنه قد دخلها الضعف والزيغ والتحريف؛ فلزاماً عليك أن تنكر القرآن؛ لأن الذي حمل القرآن هو الذي حمل السنة، فلم تنكر هذا وتعتمد ذاك؟ ثم بناء على كلامك فإن القرآن قد دخله تحريف، ودخله الزيغ، ودخله التصحيف، مع أن الله عز وجل هو الذي تكفل بحفظ وحيه وحفظ دينه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فالذي يحفظ كلام الله هو الله عز وجل، والذي حفظ كلام الرسول عليه الصلاة والسلام هو الله عز وجل كذلك؛ ولذلك تجد في تفسير هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] أن كثيراً من المفسرين قالوا: بأن الذكر هو القرآن والسنة، وعلم الجرح والتعديل وعلم العلل وغيرها من العلوم التي تخدم السنة النبوية ما هي إلا نوع من أنواع حفظ الله عز وجل لهذا الوحي وهذا الدين، فالذي يزعم أن السنة قد دخلها التحريف نقول له: أنت مفتر وكافر، إلا أن تكون جاهلاً، فلم لم تقل هذا في القرآن؟ لأنه يعلم أنه إن قاله في القرآن كفر بإجماع أهل العلم؛ ولذلك فهو يحترز من هذا، فيذهب للطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم(5/3)
حديث المقدام بن معدي كرب (ألا إني أوتيت الكتاب)
[وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، إلا أن يوشك شبعان على أريكته يقول: عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرم فحرموه، ألا لا يحل الحمار الأهلي وذكر الحديث).
أحياناً الواحد يستشعر معنى هذا الكلام، وذلك عندما تذهب مثلاً إلى شخصية كبيرة جداً، وربما تكون هذه الشخصية عندها دكتوراه في الشريعة، أو لا يزال يحضر الدكتوراه، ومعه ليسانس في الشريعة الإسلامية، أو في علوم السنة أو غير ذلك، وتجده طويلاً وعريضاً في بدنه، بل قد تجد أن ارتفاع بطنه حوالي متر ونصف، فتقول له: السنة، فيقول لك: لا، سنة ماذا؟ أنا حضرت ماجستير في السنة، تقول لي: السنة؟! خذها واشبع بها، ويرد روايات في البخاري ومسلم، ويقول لك: هذا الذي تسمعه أهو كلام دخل مخك؟! فتقول له: هل العيب في السنة أم في عقلي أنا؟ فيقول لك: لا بد من اتفاق النقل مع العقل، أقول له: صحيح، لكن اتفاق النقل مع العقل السليم، وليس العقل الخرف كحالتك، فيقول لك: أتصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر؟ وقد كان هناك شخص يناقشني في سحر النبي عليه الصلاة والسلام، فقلت له: عيب، الحديث في البخاري، وتلقته الأمة بالقبول، ولم يتعرض له أحد من أئمة الإسلام بالنقد، والأمة مجمعة على صحة الحديث، فيقول لك: هذا كلام فارغ! فهل إجماع الأمة كلام فارغ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فهل الأمة لها ألف وأربعمائة سنة مجمعة على ضلالة، وأنت يا مغفل أدركت الحقيقة بزعمك؟ فيقول لك: دعنا من ذلك الحديث، هل أنت مصدق حديث الذبابة الذي في البخاري؟ فهو يعرف أنه في البخاري، فأقول له: نعم، وفي النهاية تضطر أن تقول له: إن الطب أثبت فعلاً أنه في أحد جناحي البعوض داء وفي جناحها الآخر دواء؟ فيقول لك: غير معقول، أين قال هذا الطب؟ فتقول له: قد بحث في مكان كذا، فيقول لك: إذاً أنا آمنت فعلاً.
يعني: أنت لا تؤمن إلا إذا بحث! والنبي والصحابة والعلماء والرواة، بل الأمة بأكملها لا تكفي! إلا قول طبيب من لندن أو من أمريكا أو من فرنسا أو من أي مكان آخر! ثم وهو يتحدث معك يجلس على الكرسي وبطنه أمامه، فهذا هو الذي صوره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان)، أي: عنده تخمة في بطنه وفي عقله، فيقول لك: لا نقبل السنة! فنقول له: إذاً ماذا تريد؟! إن معظم المثقفين معتزلة من حيث لا يدرون أنهم معتزلة، وعامة الأمة مرجئة من حيث لا تريد أن تكون كذلك، فإذا قلت لواحد من الأمة: صل، يقول لك: يا رجل! صلاة ماذا؟ أهم شيء القلب، هذا القلب في منتهى النظافة! ونسي أو لم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد كفره، وقد يقول: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج الزكاة تقليل للمال، والله لم يأمر بذلك، فينكر القرآن والسنة من حيث لا يريد هو أن ينكر، لكنه الإرجاء.
قال: [وقال المقدام: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أوتيت الكتاب وما يعدله)]، أي: السنة، ثم قال: [(يوشك شبعان على أريكته يقول: بيننا وبينكم هذا الكتاب، فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، وإنه ليس كذلك)]، والضمير في الحديث يقول أهل العلم: يعود على الكتاب، وقال بعضهم: يعود على القائل، وهو الأقرب من قول أهل العلم.
قال: (وإنه ليس كذلك)، أي: وإن الأمر ليس كما يزعم هذا الزاعم أنه متمسك بالكتاب؛ لأن من تمسك بالكتاب لزمه أن يتمسك بالسنة، فإما أن يؤمن بهما، وإما أن يكفر بهما.(5/4)
أثر عمران بن حصين في أن السنة مبنية لمجمل القرآن
قال: [قال حبيب بن أبي نضلة المالكي: لما بني هذا المسجد مسجد الجامع، قال: وعمران بن حصين جالس، فذكروا عنده الساعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا أحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن].
وعمران بن حصين صحابي، وانظر إلى هذا التابعي كيف يتجرأ عليه، ويقول له: يا أبا نجيد! أنتم تحدثون بأحاديث لا نجد لها أصلاً في كتاب الله عز وجل، فيلزمكم المخرج؟ قال: [فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة المغرب ثلاثاً، وصلاة العشاء أربعاً، والغداة ركعتين، والأولى أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: فممن أخذتم هذا الشأن؟ ألستم عنا أخذتموه؟ -يعني: ألستم أخذتم هذا عنا نحن معشر الصحابة؟ - وأخذناه عن نبي الله عليه الصلاة والسلام، وعنا أخذتموه، أو عمن أخذتم في كل أربعين درهماً درهم؟ وفي كذا وكذا شاة كذا وكذا، ومن كذا وكذا بعير كذا وكذا، أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأخذتموه عنا؟ قال: وهل وجدتم في القرآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]؟ وجدتم طوفوا سبعاً، واركعوا خلف المقام ركعتين؟ هل وجدتم هذا في القرآن؟ عمن أخذتموه: ألستم أخذتموه عنا، وأخذناه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأخذتموه عنا؟ قالوا: بلى.
قال: فوجدتم في القرآن: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام؟ أوجدتم هذا في القرآن؟ قالوا: لا.
قال عمران: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام).
قال: أوما سمعتم الله تعالى قال لأقوام في كتابه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:42 - 44] حتى بلغ: {شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].
قال حبيب: أنا سمعت عمران يقول: الشفاعة نافعة دون من يسبِّحون]، وفي رواية أخرى تشهد لها الرواية السابقة: [عن عمران أنه قال لرجل: إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعاً لا تجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحوها، ثم قال له: أتجد هذا في كتاب الله مفسراً؟ إن كتاب الله أحكم ذلك، وإن السنة تفسر ذلك].
قوله: (إن كتاب الله أحكم ذلك).
أي: أجمله، فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، فهذا إجمال، لكن عدد الصلوات، كيفية الصلاة، الجهر فيها، هيئاتها، الدخول فيها والخروج منها، ما يبطلها وما يفسدها؛ كل هذا إنما ورد في السنة، فأنتم إذا اكتفيتم بالقرآن أتقدرون أن تصلوا؟ إذا اكتفيتم بالقرآن أتحسنون الزكاة؟ أتحسنون الصيام؟ أتحسنون كيت وكيت وكيت مما أجمله القرآن؟
الجواب
لا، إذاً إنما أخذتم ذلك كله عن النبي عليه الصلاة والسلام.(5/5)
حديث ابن مسعود في لعن الواشمات بآية من كتاب الله
قال: [وعن علقمة بن قيس قال عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله].
واللعن هو الطرد من رحمة الله عز وجل، فهو على هلكة؛ ولعن الفعل يدل على أنه كبيرة؛ ولذلك من علامات الكبيرة أن يأتي لعن أو وعيد شديد أو إقامة حد في الدنيا، فكل هذه من علامات الكبيرة.
والواشمة: هي التي تصنع الوشم، وذلك كالعلامات الخضراء التي تكون في البدن من كحل أو غيره، فتجد الواحد يرسم على ذراعه أو على صدره قلب حبيبته مثلاً، ويكتب اسمها، ثم بعد هذا يطلقها، فيريد التخلص من هذا الوشم؟ فيحرق نفسه من أجل أن يذهب هذا الوشم، وقد حدث هذا الأمر، ولما قابلته قلت له: ألا تعلم أن هذا حرام؟ قال: لم أكن أعلم أنه حرام، فقلت له: بل هو حرام، فقال: سبحان الله، ما أحلى هذه السنة! قلت له: كيف؟ قال: هذه البنت أنا أسرت بحبها سبع سنين، وفي الأخير تزوجتها بشق الأنفس، وبعد أن تزوجتها بثلاثة شهور طلقتها، ولو دفعوا لي مال قارون لا يمكن أرجعها، وأنا أريد أن أتخلص من هذا الوشم نهائياً، لكن كيف؟ قلت له: اذهب للذي صنع لك هذا الوشم فهو الذي يزيله، قال لي: أنا لا أريد أي شيء يذكرني بها، قلت له: وأنا ماذا أعمل لك؟ ليس عندي أكثر من هذا، فاذهب لتميط هذا الأذى عنك، وتستغفر ربك؛ فعلمت بعد عدة أشهر من لقائي به أنه قد انتحر بالنار حرقاً، وترك رسالة يحث فيها الشباب على أن هؤلاء البنات نصابات، وأن الواحدة ليس لها وفاء وعهد، لذا يمكن أن تحب عدة أشخاص في وقت واحد، فهو ينصح شلته وأصحابه من الانجرار خلف البنات.
فالوشم هو: التأثير في البدن بتغيير بعض المواضع، بل بعضهم يكتب عنوانه على بدنه: فلان بن فلان الفلاني! وهذا من أكبر ما يرضي الشيطان، ولذلك عباد الشيطان الذين ظهروا -أبناء علية القوم- أبدانهم كلها من فوق إلى تحت مرسوم فيها رسومات وكاريكاتير أشبه بالشياطين، وعناوين وكلمات مقطعة وحروف ملخبطة، وحالتهم كلها لخبطة في لخبطة؛ لأن هذا كله من وحي الشيطان.
فـ عبد الله بن مسعود قال: (لعن الله الواشمة والمستوشمة)، والواشمة هي الفاعلة لذلك، والمستوشمة هي التي طلبت أن يفعل بها ذلك.
قال: (والمتنمصات)، والنمص هو ترقيق الحواجب، وللأسف الشديد أنه لا يزال إلى الآن، بل قد تجد المنقبات اللاتي يجلسن معنا الآن في المسجد يفعلن ذلك، فهذه نصيحة لهن ولغيرهن بأن هذا الفعل حرام، فلا تستحي المرأة أن تظهر بحاجب عريض، ولا ترققه بالحلاوة أو بالفتلة أو بغير ذلك، وكل هذا إنما هو مجلبة للعن ومطردة للرحمة، والمرأة الفاعلة لذلك إذا كانت عالمة فهي مستحقة للعن، وإذا كانت جاهلة وعلمت فيلزمها أن تتوب إلى الله عز وجل.
قوله: (والمتفلجات) له حكاية أخرى.
لذا فإن المرأة قد تكون لها أسنان كبيرة، وبالذات القواطع التي في بداية الفم، وهذا شيء يضايقها، فتزيد أن تظهر بأحسن مظهر وأجمل مظهر، كـ عمر الشريف، فتقوم بالتفريق بين السنتين، وهذا فن قائم بذاته في أمريكا وأوروبا، ففي أمريكا تجد محلات لو ترجمت ما هو مكتوب عليها وجدته: محلات التفلج، يعني: هم يعلمون أن هذا تفلج.
فتظهر المرأة وما بين السنين مقطوع ومجوف، وأول ما تفتح فمها تضحك لك بضحكة عريضة تشلك وتشل قلبك؛ لأنه فعلاً هو هذا الذي في الحديث: (والمتفلجات للحسن)، يعني: أنها لا تفعل هذا إلا لأجل أن تظهر بمظهر حسن، وأنت ستبقى تنظر إليها إلى أن تختفي عن الأنظار، والعملية كلها ما هي إلا دقائق أو أقل من دقيقة، يعني: عندما تظهر واحدة جميلة في الشارع، فإن هذه الواحدة الجميلة هي امرأتك، ومع امرأتك ما معها؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا نظر أحدكم إلى امرأة فأعجبته فليأت أهله؛ فإن معها مثل الذي معها)، أليس هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام؟ فالرجل هو الرجل، وإن تعددت الأشكال والألوان، والمرأة هي المرأة وإن تعددت الأشكال والألوان، فلا فرق بين رجل وآخر، ولا بين امرأة وأخرى إلا بتقوى الله عز وجل.
فأنت حينما تنظر إلى امرأة على هذا النحو من الحسن والجمال، جاهد نفسك لحظة، وصوب نظرك إلى الأرض، امتثالاً لأمر الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، و (يَغُضُّوا) فعل مضارع على اعتبار استمرار الغض، فالآن الشياطين تملأ الشوارع، يميناً وشمالاً وفوق وتحت، فماذا تعمل؟ تستمر في غض بصرك، وما هي إلا ثوان وهي خلف ظهرك.
فيأتي شخص ويقول: أنا متعلق بها جداً، فهي حتى بعدما تمر ينظر إليها، فأنت قد أصابتك مصيبة، وتحتاج إلى أن تعالج قلبك بالدعاء وقيام الليل والتقرب إلى مولاك سبحانه وتعالى، فأنت لا يمكن أبداً أن تتقرب إلى الله عز وجل ويضيعك، بل الله عز وجل أشد تقرباً لعباده من تقرب العباد إليه.
ولذلك قال في الحديث القدسي: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت منه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه با(5/6)
اتباع ابن عمر لآثار النبي عليه الصلاة والسلام في الأمور الاعتيادية
قال: [وعن عبد الله بن عمر أنه كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وحاله وأفعاله ويهتم به].
حتى الأفعال الجبلية، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بال في مكان يحرص عبد الله بن عمر أن يبول في نفس المكان، وإذا جلس واستظل بظل شجرة يحرص عبد الله بن عمر أن يستظل بظل تلك الشجرة؛ تبركاً بآثاره عليه الصلاة والسلام.
قال: [وعن نافع قال: كان ابن عمر إذا مر بشجرة بين مكة والمدينة أناخ عندها، ثم صب في أصلها إداوة من ماء، وإن لم تكن إلا تلك الإداوة معه، قال: وقال نافع: وأرى أن النبي عليه الصلاة والسلام فعله ففعله].
يعني: أن ابن عمر لم يكن معه إلا قربة ماء واحدة، والطريق طويل بين مكة والمدينة، لكنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام في نفس المكان عند أصل هذه الشجرة قد سقى الشجرة بإداوة من ماء كانت معه؛ فأراد عبد الله بن عمر أن يصنع نفس الصنيع، مع أن الطريق طويل وربما يعطش، لكن اتباع آثاره عليه الصلاة والسلام أحب إليه من هذا، وهذا منتهى الإيمان: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده وأهله وماله والناس أجمعين)، والرواية هذه من طريقين أو من حديثين.
قال: [وعن نافع قال: كان ابن عمر يتتبع آثار رسول الله عليه الصلاة والسلام فيصلي فيها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يصب تحتها الماء حتى لا تيبس].
قال: [وعن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: إني رأيت رسول الله فعل هذا ففعلت].
قال: [وعن عاصم الأحول قال: كان ابن عمر إذا رئي في طريق، كأنه ذكر كلمة من شدة اتباعه لأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم لصق بالحائط لصق]، أي: إذا قيل لـ عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع رأسه على هذا الجدار فإنه يضع رأسه على هذا الجدار.
وأنتم تعلمون أن من السنة لزق البطن والصدر بالملتزم الذي بين الحجر الأسود والباب.
[وإن قيل له: قعد قعد، وإن قيل له: مشى مشى] شدة اتباع.
[قال الشيخ ابن بطة: والله هذه أفعال العقلاء -يعني: أفعال عبد الله بن عمر - والمؤمنين، وأخلاق الأئمة الهادين المهديين الراشدين المرشدين، الذين من اقتفى آثارهم فاز ونجا ورشد واهتدى، ومن تفيأ بظلهم لم يظمأ ولم يضح، ومن خالفهم ضل وغوى، وغضب عليه رب السماء؛ فنعوذ بالله من الشقاوة والعماء، ومن الضلالة بعد الهدى].
قال: [وكان عبد الله بن عمر يحفظ ما يسمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا لم يحضر سأل من حضر عما قال رسول الله وفعل].
وهذه سنة، أي: أنك عندما تغيب عن درس يوم تذهب إلى صاحبك وترتب معه في المسجد، فتقول له: اليوم الذي لا أحضر فيه يا فلان تحضر أنت فيه، واليوم الذي أنا أحضر فيه تذهب وتشتغل فيه، وقد جاء في كتاب العلم عند البخاري: أن عمر بن الخطاب كان له جار من الأنصار يتناوبان العلم، فـ عمر بن الخطاب يذهب يوماً ويأتي بطعامه وطعام جاره، والجار يحضر مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يظل في الليل يعلم عمر ما قال النبي صلى الله عليه وسلم وما صنع، وفي اليوم الثاني يذهب الأنصاري إلى المعاش والرزق والسوق والتجارة، فيتكسب له ولـ عمر، وعمر يجلس في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الليل بعد العشاء يأتي يعلمه عمر: النبي قال، النبي عمل، النبي أمر، النبي نهى، النبي شرح.
قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب الحضور في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام.
فانظر إلى عبد الله بن عمر، هذا الشبل من ذاك الأسد، فقد كان إذا فاته مجلس ذهب إلى رفقائه الذين حضروا؛ ليسمع منهم ما فاته من النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وإذا لم يحضر سأل من حضر عما قال رسول الله وفعل، وكان يتتبع آثار رسول الله عليه الصلاة والسلام في كل مسجد صلى فيه].
يعني: أنه كان يصلي في نفس المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [وكان يعترض براحلته في كل طريق].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذ راحلته سترة، وكذلك كان عبد الله بن عمر، فقد كان يركب الدابة أو الحمار في السفر، فتحضره الصلاة فينزل، فيعرض الحمار ويتخذه سترة له.
قال: [كان يعرض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقال له في ذلك، فيقول: أتحرى أن تقع راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله عليه الصلاة والسلام].
أرأيتم كيف يكون الاتباع؟! وليس هو فقط، وليس من أجل أ(5/7)
أثر أبي بكر الصديق (لست تاركاً شيئاً)
[وعن عائشة قالت: إن أبا بكر رضي الله عنه قال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ].
أرأيتم أبا بكر رضي الله عنه؟ مع أن أبا بكر لا يمكن أن يزيغ؛ لأنه مبشر بالجنة، ومحكوم له بأنه من أئمة الهدى، بل هو أعظم إمام من أئمة الهدى بعد الأنبياء، يعني: لا يمكن أن يزيغ ولا يضل ولا يخرف، فإن هذا كان بعيداً عنه تماماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، وكل هذه الأوصاف أوصاف للخلفاء، ومع هذا فهو يخشى الزيغ والضلال إن ترك سنة صغيرة من السنن الجبلية التي لسنا مطالبين بها.
[قال الشيخ: هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه عليه الصلاة والسلام، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون من سنته، نسأل الله عصمة من الزلل، ونجاة من سوء العاقبة].
ابن بطة يقول هذا الكلام وهو في زمن بقية السلف!(5/8)
تحري سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولزومها عصمة من الضلال
قال: [وعن سعيد بن جبير قال في قول الله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: لزم السنة] أي: سنة النبي عليه الصلاة والسلام التي عليها جماعة المسلمين.
قال: [وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت سلمة بن الأكوع يصلي من وراء الصندوق].
وسلمة بن الأكوع من أجلة الصحابة ومن عظمائهم، وله آثار عظيمة جداً في مقاتلة المشركين، يعني: كان جيشاً لوحده، وآثاره عظيمة جداً في الصحيحين.
قال: [فقلت له: ما لي أراك تصلي هاهنا؟ قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى هذا المكان].
أي: يصلي في هذا المكان بالذات، فأنا أتحراه كما تحراه النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وعن عمر بن عبد الرحمن بن مظعون قال: (لما دَفن رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وسوى عليه التراب كانت صخرة قريبة من القبر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هاتوا هذه الصخرة، فثقلت على القوم، فقام النبي عليه الصلاة والسلام فأخرجها بيده حتى انتهى بها إلى رأس القبر فأثبتها رسول الله)].
يعني: أقامها عند رأسه.
قال: [وقال: وكان أهل المدينة يضعون ذلك على قبورهم، حتى كانت إمارة مروان، فإنه أمر بتسوية القبور، قال: فأزيلت الصخرة عن مكانها، فجاء ابن عمر مغضباً، فقال: ويحك يا مروان! أزلت شيئاً وضعه رسول الله بيده؟] وظل بـ مروان حتى أرجع مروان الحجر إلى مكانه، وكان مروان أميراً وخليفة، ومع هذا يقوم إليه عبد الله بن عمر فيأمره وينهاه إلى أن أرجع الحجر إلى مكانه.(5/9)
أثر سعيد بن جبير (رسول الله أعلم بكتاب الله)
قال: [وعن سعيد بن جبير أنه حدث عن النبي عليه الصلاة والسلام حديثاً، فقال رجل: إن الله تعالى قال في كتابه كذا وكذا].
أي: أن سعيد بن جبير يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام بحديث، فيقوم آخر ويقول: الظاهر أنه بين الآية والحديث تعارض، فيقوم سعيد بن جبير ويغضب غضباً شديداً، قال: [فقال: ألا أراك تعرض لحديث رسول الله بكتاب الله، ورسول الله أعلم بكتاب الله].
أي: أنا أرى أنك تضرب كتاب الله بسنة رسوله، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نقل إلينا هذا القرآن هو الذي قال هذا الحديث، وهو أدرى بكتاب الله وأعلم بكتاب الله منا، فليس هناك تعارض ولا تضارب بين القرآن والسنة.
وإذا كان هناك تعارض ولا بد؛ فإما أن يكون الخلل في السند الذي رويت به سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أو يكون الخلل في عقولنا نحن.(5/10)
أثر عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثيابه فنهاه
قال: [وعن عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرماً عليه ثيابه فنهى المحرم].
أي: أن شخصاً محرماً في الحج كان يلبس الملابس العادية، فنهاه أن يلبس إلا ملابس الإحرام.
قال: [فقال: ائتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي.
فقرأ عليه: {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]].(5/11)
أثر عمر بن الخطاب (سيأتي أناس يجادلونكم)
قال: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فجادلوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله].
أسمعتم هذا الكلام الجميل؟! سيأتي إليك شخص ويقول لك: القرآن، فقال: هؤلاء أهل الرأي وأصحاب الهوى، فإذا قالوا مثل ذلك؛ فعليكم بالسنن وأهل السنن؛ فإنهم أعلم بكتاب الله عز وجل.
وعن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن.
أي: دائماً القرآن يأتي بالمجملات والكليات والقواعد العامة، وهذه محتاجة إلى تحليل وتفسير وتفصيل، ونجد كل هذا في السنة.
إذاً: القرآن بحاجة إلى البيان؛ ولذلك أتى الأمر ببيان القرآن للنبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
فهنا النبي عليه الصلاة والسلام يقوم بمهمة البيان والتبليغ عن ربه، كما أن هذا البيان يكون أحياناً بالشرح والتفسير، وحمل المطلق على المقيد، وتفصيل المجمل وغير ذلك.
إذاً: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن؛ لأن بعض الناس يستعظم جداً هذا اللفظ مع أنه صحيح.
ولذلك [قال يحيى بن أبي كثير] وأحمد بن حنبل من بعده: [السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب قاضياً على السنة].(5/12)
أثر حسان بن عطية (كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي بالسنة)
قال: [وعن حسان بن عطية قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن.
وقال قتادة في قول الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، قال: القرآن والسنة].
والأمر في الآية موجه لزوجات النبي عليه الصلاة والسلام بالدرجة الأولى، ثم لسائر الأمة بالتدبر والتذكر والحفظ والتلاوة، والعمل بما يتلى من كتاب الله عز وجل ومن سنته عليه الصلاة والسلام.(5/13)
امتناع عمران بن حصين عن الحديث بسبب معارضة بشير بن كعب
قال: [وعن حجير بن أبي الربيع أنه سمع عمران بن الحصين يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحياء خير كله، فقال بشير بن كعب: إن منه ضعفاً ومنه وقاراً لله)].
فقال له بشير بن كعب: لا، فأحياناً يكون الحياء ضعفاً، ومنه وقار لله، أي: أن هذا ليس بحياء شرعي ممدوح، وإنما هذا ضعف وخور.
فمثلاً: لو أن متبرجة ارتدت النقاب بعد أن سمعت الشيخ يتكلم عن الحجاب والجنة والنار وغير ذلك، ثم قالت: أنا أستحي من الناس! وماذا سيقول عني الجيران؟ من هذه الطالعة والنازلة بالنقاب؟! فهذه المرأة تترك الحجاب حياء من الناس.
هل هذا يسمى حياءً؟ العرف سماه حياء، أما الشرع فلا يسمي هذا حياء، فالشرع حين تكلم عن الحياء إنما تكلم عن الحياء الشرعي، وأن الحياء خير كله.
[ثم قال عمران: والله لا أحدثكم بحديث اليوم].
أي: عقوبة لكم أن تحرموا اليوم من درس العلم، وهذا الكلام كان عليه أئمة السلف، فقد كان مجلس إسماعيل بن عياش لا يسمع به صوت، ولا يبرى فيه قلم، ولا يلتفت فيه أحد لأخيه، فإن التفت فيه أحد قام وتركهم، وكان يحضر مجلسه آلاف من الطلاب، وفي رواية: أن إسماعيل تهيأ للدرس، فلما جلس سمع رجلاً يضحك، قال: من الضاحك؟ قال الضاحك: أنا، قال: أتطلب العلم وأنت تضحك؟ فقال: وما لي لا أضحك؟ أليس الله عز وجل هو الذي أضحك وأبكى؟ -أرأيتم الفلسفة- قالوا: أنت ضحكت وربنا يضحك ويبكي، فأنت ضحكت وبقي منك البكاء فلم لا تبك؟! ثم قام إسماعيل وقال: والله لا أحدثكم شهراً.
فتصور أنه بسبب سوء أدب وقلة حياء واحد يُحرم الآلاف من العلم ومن سماع كلام النبي عليه الصلاة والسلام لمدة شهر كامل، وهذه عقوبة.(5/14)
بعض الآثار الواردة في من عارض حديث النبي بعقله
قال: [وعن عبادة بن الصامت أنه خرج مع رجل إلى أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسرة الذهب بالدنانير، وكسرة الفضة بالدراهم.
فقال: يا أيها الناس! إنكم تأكلون الربا].
مع العلم أن عبادة بن الصامت مشهور في الصحابة بشدته وغلظته في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهنا قال لهم: يا أيها الناس! إنكم تأكلون الربا، [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبايعوا الذهب إلا مثلاً بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة)].
قوله: (لا زيادة)، يعني: لا تفاضل، (ولا نظرة)، يعني: لا نسيئة، فلا بد من التقابض في المجلس.
قال: [فقال رجل: لا أرى الربا يكون في هذا إلا ما كان من نظرة].
أي: أنه يقول له: يا عبادة! أتيتنا البارحة، ثم أنت اليوم تقول: إننا نتعامل بالربا، كم عمرك يا عبادة؟ ثلاثون أو أربعون؟ نحن نتعامل بهذه المعاملة من قبل خمسين سنة فما أدراك أنت؟ وكأنك تحدث والدك بالضبط، تقول له: يا أبت! لا يصح أن تصلي بهذه الطريقة، إنك بهذا تنقر الصلاة نقر الغراب، وتقعي في صلاتك كإقعاء الكلب، فيقول لك: وما شأنك بي؟ أبسبب أنك حضرت في مسجد أهل السنة درسين أو ثلاثة تأتي وتقول: إن الصلاة كلها خاطئة، أتأتي تعلمني ولي خمسون سنة وأنا أصلي ولا أحد قال لي هذا الكلام؟! قال: [فقال رجل: لا أرى الربا يكون في هذا إلا ما كان من نظرة.
فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن رأيك، لئن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك عليَّ فيها إمرة.
فلما قفل لحق بالمدينة -أي: لما رجع إلى البلد رجع إلى المدينة- فقال له عمر رضي الله عنه: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقص عليه القصة، فقال: ارجع إلى أرضك وبلدك، ولا إمرة له عليك].
وهذا يدل على أن السائل كان مع معاوية.
والراوي لم يذكر أنه معاوية، مع أنها مفهومة، لكنه لم يذكره تأدباً.
وفي رواية البخاري: [ارجع إلى أرضك وبلدك ولا إمرة له عليك؛ فقبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك].
أي: أن أرضاً ليس فيها شخص من أمثالك يأخذ علمك؛ كادت هذه الأرض أن تهلك.
قال: [وعن عطاء بن يسار: (أن رجلاً باع كسرة من ذهب أو ورق -فضة- بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل، فقال الرجل: ما أرى بمثل هذا بأساً.
فقال أبو الدرداء: من يعذرني من فلان، أحدثه عن رسول الله ويخبرني عن رأيه؟! لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى الرجل: أن لا تبيع ذلك إلا مثلاً بمثل وزناً بوزن)].
هل تعرفو هذه المخالفات يا إخواني؟! نحن في زمان نتمنى أن تكون معاصينا متمثلة في ذلك، يعني: بعد ضياع الحكم وضياع الدين والشريعة بأكملها نتمنى أن تكون معاصينا على قدر ما أنكره الصحابة فيما بينهم، إي والله! وذلك مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه).
قال: [عن الأعرج قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول لرجل: (أتسمعني أحدث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا تبيعوا الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم إلا مثلاً بمثل، ولا تبيعوا منها عاجلاً بآجل، ثم أنت تفتي بما تفتي؟! والله لا يؤويني وإياك ما عشت إلا المسجد).
أي: لا يمكن أن أجتمع بك في مكان إلا في المسجد؛ لأنه لا فكاك لي من حضور الجماعة وأنت تحضر الجماعة، أما أن أجتمع معك في قافلة أو في رحلة أو غير ذلك، فلا يمكن أبداً.
قال: [وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الخذف)]، والخذف كنا نفعله قديماً ونحن نرعى الغنم، فنأتي بالعصا الطويلة التي نسوق بها الغنم، وننظر من الذي سيوصلها أبعد من الآخر؟ الذي يحرز مائة متر أو ثلاثمائة متر، وهذا الخذف قد نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (فإنه يفقأ العين ولا ينكأ العدو)، يعني: أن الخذف لا يذهب عنك العدو، بل قد يأتي في عين أخيك فيقلعها؛ فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الخذف، [وقال: (إنها لا تصطاد صيداً، ولا تنكأ عدواً، ولكنها تفقأ العين، وتكسر السن).
فقال رجل لـ عبد الله بن مغفل: وما بأس هذا؟ فقال: إني أحدثك عن رسول الله وتقول هذا! والله لا أكلمك أبداً].(5/15)
تعقيب المؤلف على الآثار الواردة في وجوب طاعة الرسول
[قال الشيخ ابن بطة: فاعتبروا يا أولي الأبصار، فشتان بين هؤلاء العقلاء السادة الأبرار الأخيار، الذين ملئت قلوبهم بالغيرة على إيمانهم، والشح على أديانهم، وبين زمان أصبحنا فيه وناس نحن منهم، وبين ظهرانيهم، هذا عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسيد من ساداتهم، يقطع رحمه، ويهجر حميمه، حين عارضه في حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحلف أيضاً على قطيعته وهجرانه وهو يعلم ما في صلة الأقربين وقطيعة الأهلين.
وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء سماه رسول الله عليه الصلاة والسلام حكيم هذه الأمة، وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم -يعني: يرحلون عن أوطانهم- وينتقلون عن بلدانهم، ويظهرون الهجرة لإخوانهم؛ لأجل من عارض حديثاً واحداً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتوقف عن استماع سنته، فيا ليت شعري! كيف حالنا عند الله عز وجل ونحن نلقى أهل الزيغ والضلال في صباحنا والمساء، يستهزئون بآيات الله، ويعاندون سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حائدين عنها وملحدين فيها، سلمنا الله وإياكم من الزيغ والزلل].(5/16)
ذكر طاعة الرسول في القرآن في ثلاثة وثلاثين موضعاً
[قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة الشرك، لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ؛ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو على شفا هلكة.
قال الشيخ: فالله الله إخواني! احذروا مجالسة من قد أصابته الفتنة؛ فزاغ قلبه، وعميت بصيرته، واستحكمت للباطل نصرته، فهو يتخبط في عشواء، ويعشو في ظلمة أن يصيبكم ما أصابهم؛ فافزعوا إلى تواب كريم فيما أمركم به من دعوته، وحضكم عليه من مسألته، فقولوا: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]].
قال: [قال رجل لـ مالك بن أنس: أحرم من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو من ذي الحليفة؟ فقال له: بل من ذي الحليفة.
فقال الرجل: فإني أحرمت أنا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]].
قال: [قال أبو مجلز: قلت لـ ابن عمر: إن الله عز وجل قد أوسع، والبر أفضل من التمر].
أي: إن الله عز وجل أمرنا بأن نوسع على أنفسنا وعلى عيالنا والفقراء، ولكن الأمر ورد بالتمر، قال: والبر أفضل من التمر.
قال: [فقال: إن أصحابي سلكوا طريقاً فأنا أحب أن أسلكه].
أي: إن أصحابي -وهم كبار الصحابة- سلكوا طريق إخراج التمر؛ فأنا أحب إخراج التمر.(5/17)
أثر عمر بن عبد العزيز (لا أرى لأحد منكم مع سنة رسول الله رأياً)
قال: [وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: لا رأي لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم].
أي: أول ما تسمعوا الحديث فقولوا: سمعنا وأطعنا، فلا أحد منكم يعارض الحديث بالرأي، ويعارض النقل بالرأي.(5/18)
أثر مكحول (السنة سنتان)
قال: [وقال مكحول: السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر، وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج.
قال الشيخ: وأنا أشرح لكم طرفاً من معنى كلام مكحول يخصكم ويدعوكم إلى طلب السنن التي طلبها والعمل بها فرض، والترك لها والتهاون بها كفر.
فاعلموا رحمكم الله أن السنن التي لزم الخاصة والعامة علمها، والبحث والمسألة عنها والعمل بها؛ هي السنن التي وردت تفسيراً لجملة فرض القرآن مما لا يعرف وجه العمل به إلا بلفظ ذي بيان وترجمة، كما قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، وقال: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:218]، وقال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
فليس أحد يجد سبيله إلى العمل بما اشتملت عليه هذه الجمل من فرائض الله عز وجل دون تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام].
وهذا من سنن الفرض الذي من تركه كفر، بخلاف سنن العادة، أي: ما كان من خاصة الجبلة التي خلق الله عز وجل عليها الخلق.
نكتفي بهذا القدر، سائلين الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله.(5/19)
شرح كتاب الإبانة - ذكر ما نطق به الكتاب بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة
حث القرآن الكريم على لزوم الجماعة ونهى عن الفرقة والاختلاف، وحذرنا من سلوك سبيل الأمم السابقة في اختلافها وتفرقها، وأعلمنا الله سبحانه أنه ما اختلف الذين من قبلنا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم وحسداً.(6/1)
باب ذكر ما نطق الكتاب نصاً بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ذكر ما نطق به الكتاب نصاً في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة].
هذا باب جديد ذكر فيه الآيات التي أمرت بالتزام الجماعة، والآيات التي نهت عن التفرق وترك الجماعة.
كما أنه أمر بذلك فيما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من الأمر بلزوم الجماعة وترك الفرقة، والأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين.
قال: [أما بعد: فاعلموا يا إخواني وفقنا الله وإياكم للسداد والصواب، وعصمنا وإياكم من الشتات والانقلاب! أن الله عز وجل قد أعلمنا باختلاف الأمم الماضين، وأنهم تفرقوا واختلفوا فتفرقت بهم الطرق حتى صار بهم الاختلاف إلى الافتراء على الله عز وجل، والكذب عليه والتحريف لكتابه، والتعطيل لأحكامه والتعدي لحدوده.
وأعلمنا تعالى أن الشيء الذي يكون سبباً في الفرقة بعد الألفة، والاختلاف بعد الائتلاف، هو شدة الحسد من بعضهم لبعض، وبغي بعضهم على بعض، فأخرجهم ذلك إلى الجحود بالحق بعد معرفته، وردهم البيان الواضح بعد صحته، وكل ذلك وجميعه قد قصه الله عز وجل علينا، وأوعز فيه إلينا، وحذرنا منه أن نقع فيه، وخوفنا من ملابسته، ولقد رأينا ذلك في كثير من أهل عصرنا، وطوائف ممن يدعي أنه من أهل ملتنا.
وسأتلو عليكم من نبأ ما قد أعلمناه مولانا الكريم، وما قد علمه إخواننا من أهل القرآن وأهل العلم وكتبة الحديث والسنن.
وما يكون فيه إن شاء الله تعالى بصيرة لمن علمه ونسيه، ولمن غفله أو جهله، ويمتحن الله به من خالفه وجحده، بألا يجحده إلا الملحدون، ولا ينكره إلى الزائغون، قال الله عز وجل].
يبدأ الآن في سرد الآيات التي تأمر بالائتلاف وتنهى عن الاختلاف والتفرق والتشرذم، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه الجماعة المقصود بها: هي جماعة الإخوان، أو هي جماعة التكفير، أو الجماعات الإسلامية، أو جماعة الجهاد.
كل هذا خبط عشواء، فإن إنزال هذه الأدلة على هذه الجماعات الكائنة القائمة على الساحة الآن أمر غير رشيد، ولم يفهمه أحد من السلف، ولا من المعاصرين من أهل العلم، ولم يقل بذلك إلا بعض أصحاب هذه الجماعات.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بالجماعة)، فتظن أن هذه الجماعة هي جماعتك التي تتجه إليها، أو تسمعه صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية).
فتقول: لابد لي من جماعة أنضم إليها وأوافقها، وأسمع وأطيع لها، وإلا فميتتي ميتة جاهلية.
والصواب أن هذه الآيات وهذه الأحاديث التي أمرت بلزوم جماعة المسلمين، تعني بالجماعة جماعة الإمام الأعظم، جماعة الخليفة الذي عينه المسلمون وعينه أهل الحل والعقد، هذا الخليفة وهذا الإمام الأعظم هو الذي يعين الولاة والأمراء والسلاطين، فهذا الخليفة هو الرجل الذي أمرنا بأن من أتى بعده ينازعه قاتلناه حتى قتلناه.
وما يفعله كل جماعة من الجماعات القائمة تجاه هذه الآيات والأحاديث، أمر يدعو إلى الحيرة والشتات والفرقة، مع أن الأصل الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والدعوة إلى الائتلاف وترك الاختلاف، ولكنك لو أنزلت هذه الآيات والأحاديث على كل جماعة أو على جماعة بعينها من هذه الجماعات؛ فإن كل الجماعات الإسلامية بعيدة عن هذه الآيات والأحاديث؛ فأين الحق وأين الباطل إذاً؟ ولذلك منتهى الكلام سيأتي معنا عند التعرض لذكر الأوامر والنواهي في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بلزوم الجماعة وترك الاختلاف.(6/2)
قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة)
[قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]].
هذه الآية من آيات سورة البقرة، وقد تكلم عنها الحافظ ابن كثير كلاماً رائعاً ممتعاً، وخير من يتكلم عن الاجتماع وترك الفرقة هو الحافظ ابن كثير، كما يتكلم عنه كذلك ابن تيمية عليه رحمة الله.
فيقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية نقلاً عن ابن عباس: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
وأنتم تعلمون أن آدم هو أول نبي بعث، أما نوح فهو أول رسول بعث.
يقول ابن عباس: كل أصحاب تلك القرون كانوا على الحق وعلى توحيد الله عز وجل الذي جاء به آدم حتى اختلفوا، فلما اختلفوا أرسل الله عز وجل الرسل مبشرين ومنذرين، فكان أول من أرسل نوحاً.
ولـ ابن عباس قول ثان، وهو: أن الناس بين آدم ونوح كانوا على الضلال المبين وترك التوحيد، حتى أرسل الله عز وجل إليهم نوحاً ليدلهم على التوحيد.
والرأي الأول أرجح.
وقال قتادة في قول الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال: كانوا على الهدى جميعاً، أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد والإيمان الصادق.
ولهذا قال تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:213]-أي: مع المرسلين- {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، أي: من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض، أي أن الحسد هو السبب الذي جعل بعضهم يبغي على بعض، وما أتاهم الحسد إلا بعد أن قامت عليهم الحجج بإرسال المرسلين وإنزال الكتب عليهم؛ ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الحسد بين أهل العلم -وفي رواية قال: الغيرة بين العلماء- أشد منها بين السيوف في أغمادها.
فإذا دب الحسد بين قوم لابد أن يبغي بعضهم على بعض؛ ولذلك ثبت في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد، لا أقول: إنها حالقة الشعر، ولكنها حالقة الدين).
والراجح في هذا الحديث أنه حديث حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون).
أي: نحن آخر الأمم، ونحن أول الأمم بعثاً يوم القيامة ودخولاً الجنة.
وإذا كنا في تعداد الرسل والأمم فنحن آخر أمة، أما من جهة البعث والحساب والجزاء ودخول الجنة فنحن أول الأمم.
قال: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا -يعني: غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا- وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفتم فيه هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى) وهذا اليوم يوم الجمعة.
ثم اختلفوا في يوم يتخذونه لأنفسهم؛ فاختلفوا اختلافاً عظيماً جداً، فاستقر رأيهم -أي: رأي اليهود- على اتخاذ السبت، واستقر رأي النصارى على اتخاذ الأحد، ولكن الله هو الذي تولى هداية هذه الأمة ليوم عظيم وهو يوم الجمعة؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يوم الجمعة هو خير يوم طلعت عليه الشمس، فالناس لنا فيه تبع، غداً لليهود وبعد غد للنصارى).
ثم يبين النبي عليه الصلاة والسلام فضائل هذا اليوم: أولاً: فيه صلاة الجمعة، وهي مجمع ومحشر لجميع المسلمين المكلفين.
الأمر الثاني: فيه خلق آدم.
الثالث: فيه مات آدم.
الرابع: فيه تقوم القيامة، وغير ذلك من فضائل هذا اليوم التي عددها شيخ الإسلام ابن القيم، وكذلك الإمام السيوطي من بعده في رسالة مستقلة.
وقال ابن وهب: عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] قال: اختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود(6/3)
قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)
وقال الإمام ابن بطة: [وقال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]].
فالذي كلم الله هو موسى عليه السلام، ونبينا عليه الصلاة والسلام في ليلة المعراج أيضاً كلم ربه.
قال: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، وهذا يعرف بحديث المعراج، وأن الله تبارك وتعالى جعل في كل سماء من السموات السبع أنبياء معينين، وهذا يدل على مراتب الأنبياء، وأنهم كذلك درجات.
قال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87]، أي: بجبريل عليه السلام، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)، أي: الذين جاءوا من بعدهم (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) أي: الحكمة والكتب السماوية، (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا)، يعني: بعد أن جاءتهم البينات اختلفوا، فقامت عليهم الحجج وانتشر فيهم العلم، فاختلفوا من بعد ذلك، {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253]، أي: لو أراد ربك ألا يقتتلوا لفعل، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].(6/4)
قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)
[وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]]، ولابد أن تعلم أن كل نبي ورسول أرسله الله إنما أرسل بالإسلام؛ ولذلك الدين المشترك بين جميع الأنبياء والمرسلين هو الأمر بعبادة الله وحده وترك الشرك.
فما من نبي أرسله الله ولا رسول إلا أمر أمته بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين، وهذا هو أصل الإسلام الذي أرسل الله عز وجل به الأنبياء والمرسلين.(6/5)
قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم)
[وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]].
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي: أحزاباً وجماعات وطوائف، فلست منهم يا محمد! في شيء، إن الله لن يحاسبك على تفرق اليهود، ولا على تفرق النصارى كما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة).
فهذه الأمة صارت فرقاً وشيعاً وأحزاباً، هل النبي عليه الصلاة والسلام سبب في ذلك؟ لا؛ لأنه قد حذر من الفرقة والاختلاف، وأمر بالاعتصام والائتلاف، ولكن هذه الأمة ركبت ما ركبه اليهود والنصارى والأمم السابقة من التفرق والتشرذم والاختلاف، فلما كان بهم شبه منهم وكان الأولون في النار؛ أخبر النبي عليه الصلاة والسلام من اتخذ الفرقة والتشيع والتشرذم في شريعته عليه الصلاة والسلام؛ أنهم سيجازون بدخول النار؛ ولذلك قال: (كلها في النار إلا واحدة).
وفي صحيح البخاري: عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات وديننا واحد)، يعني: وإن اختلفت أمهاتنا فلا يختلف ديننا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
فما من رسول إلا وقد أرسل بالإسلام، وإن اختلفت أمهاتهم، هذا أسود وذاك أبيض، هذا أحمر وهذا أصفر، هذا أعجمي وهذا عربي كلهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم، ومنازلهم ومراتبهم؛ إلا أنهم متفقون على وحدة الدين، وهي الأمر بعبادة الله تعالى وحده.
فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] أي: يا محمد! لا تخف ولا ترتجف، فهؤلاء لا يمتون إليك ولا تمت أنت إليهم {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159] أي: حسابهم على الله، فإنهم سيموتون ثم يبعثهم الله عز وجل، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] من التفرق والشيع.(6/6)
قوله تعالى: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق)
[وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93]].
الله عز وجل أنزل بني إسرائيل أحسن منزل، وأرسل إليهم أنبياء كثيرين؛ قال: {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس:93] أحل لهم الحلال وحرم عليهم الخبائث، (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ) أي لما أرسل الله تعالى إليهم الرسل، وأنزل معهم الكتب، وقامت عليهم الحجج العلمية والشرعية اختلفوا، {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:93].
من هذه الآيات وغيرها تعلم أن من اختلف في دين الله عز وجل اختلاف شهوة فحسابه على الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(6/7)
قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعدما جاءهم العلم)
[وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14].
الله عز وجل يتوعد ويهدد أنه لولا كلمة سبقت منه أن يؤجل حسابهم ليوم القيامة لحاسبهم على ظهر هذه الدار، ولكن سبقت كلمة من ربك أن يتركهم، وألا يقضي بينهم ولا يحاسبهم إلا في يوم الحساب الأعظم، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14].
ولذلك إذا فسد الأب فحري وجدير بالابن أن يسير على منواله، وإذا صلح الأب فحري وجدير بالابن أن يسير على منواله؛ لكن لا يمنع أن يكون عكس ذلك، فأين كان ولد نوح ووالد إبراهيم عليهما السلام؟ وأين كانت امرأة فرعون وامرأة لوط؟ فلا يلزم من هذا الأصل أن ينطبق، فالأصل أن يكون أبناء الصالحين صالحين: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26]، لكن لا يمنع أن تجد قصصاً في الواقع مخالفة لهذا؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [الشورى:14] أي: الذين أوتوا الكتاب من بعدهم ومن أصلابهم، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]، يعني: ليسوا على يقين كامل بأن هذه الكتب من عند الله، فلما يعملوا بها؛ لما عندهم من شك وريب.
[وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:4 - 5]].
[قال الشيخ: إخواني! فهذا نبأ قوم فضلهم الله وعلمهم وبصرهم ورفعهم، ومنع ذلك آخرين إصرارهم على البغي عليهم والحسد لهم إلى مخالفتهم وعداوتهم ومحاربتهم، فاستنكفوا أن يكونوا بأهل الحق تابعين، وبأهل العلم مقتدين، فصاروا أئمة مضلين، ورؤساء في الإلحاد متبوعين، رجوعاً عن الحق، وطلب الرئاسة، وحباً للاتباع والاعتقاد.
والناس في زماننا هذا أسراب كالطير يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدعي النبوة مع علمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لاتبعوه، أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعاً وشيعاً].(6/8)
ذكر الآيات التي تحذر من الفرقة والاختلاف وتأمر بلزوم الجماعة والائتلاف
قال: [فقد ذكرت ما حضرني من الآيات التي عاب الله فيها المختلفين وذم بها الباغين، وأنا الآن أذكر لك الآيات من القرآن الكريم التي حذرنا فيها ربنا تبارك وتعالى من الفرقة والاختلاف، وأمرنا بلزوم الجماعة والائتلاف.
نصيحة لإخواننا وشفقة على أهل مذهبنا].(6/9)
قوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً)
[قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]].
اعتصموا: فعل أمر، وحبل الله هو دين الله المتمثل في الكتاب والسنة، وهذا الأمر موجه لكل المكلفين، وليس لطائفة دون أخرى، ولا جماعة دون الثانية، وإنما لكل من أسلم وصار مكلفاً عاقلاً يدرك الخطاب، فلابد أن يعتصم بحبل الله المتين.
وقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] نهي يفيد التحريم.
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:103] أي: كنتم أعداءً من قبل محمد عليه الصلاة والسلام فألف بين قلوبكم، وأنتم تعلمون أن الأوس والخزرج كانت بينهما حروب قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، وهما قبيلتان عظيمتان لم يكن بالمدينة أعظم منهما، فقامت بينهما معارك بسبب ناقة من إحدى القبيلتين نزلت في أرض القبيلة الأخرى فأكلت منها، فتعاركوا واقتتلوا أربعين عاماً؛ ولذلك كان مجيئه عليه الصلاة والسلام رحمة لجميع الخلق: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] أي: عالم الإنس والجن.
ولذلك حدث في إحدى الغزوات أن كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! يعني: هلموا واجتمعوا.
وقال المهاجري: يا للمهاجرين! حتى اصطف الفريقان للقتال، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومشى بين الصفين، وهو ينظر تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ولم يتكلم إلا بكلمة واحدة قال: (دعوها فإنها منتنة).
(دعوها) أي: هذه العصبية الجاهلية، فالتعصب للمهاجرين والتعصب للأنصار دعوة جاهلية، ورائحتها نتنة؛ ولذلك استحيا الفريقان وانصرف كل إلى مكانه.
بسبب أكلة بعير تقوم الحرب أربعين عاماً، والله أعلم كم قتل فيها وكم سبي فيها، فما بالكم بكسعة رجل، فربما استأصلت شأفة المهاجرين والأنصار بسبب ذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام تكلم بكلمة واحدة كانت هي البلسم الشافي لكلا الفريقين: (دعوها فإنها منتنة).
ولذلك فإن التعصب لقومية معينة أو أرض معينة أو طائفة معينة كل هذا من نعرات الجاهلية، وخطره أنه يضعف الولاء لله عز وجل، ويضعف التعصب للكتاب والسنة.
فأنت لو تعصبت لجماعة معينة من الجماعات القائمة على الساحة، فإن ولاءك لله عز وجل يحتاج إلى مراجعة، بل التعصب ينبغي أن يكون للحق دائماً، والحق لم نعرفه إلا بقال الله وقال الرسول وأجمع العلماء فقط.
أما أن تتعصب لزعيم الطائفة أو شيخ المجموعة، أو أمير الجماعة أو غير ذلك، فاعلم أنك بمنأى عن كتاب الله وعن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فبعض الناس لو سب أميره فكأنه سب إلهه، يعني: يغضب لسب الأمير أعظم من غضبه لسب الله عز وجل، ولو كنت أنت في الشارع وكنت متعصباً لأمير ما، ووجدت الناس يسبون الدين فستقول: إن المجتمع كله فاسد، ولكن لو سمعت أنه يسب أميرك ويسب زعيمك لقاتلته قتالاً مستميتاً، ولا تكتفي بقولك: المجتمع كله فاسد، كما أنه لو سب أباك فإنك ستغضب له غضباً ربما لا تغضبه لو سمعت سب الإله بأذنيك، وهذا تعصب لأبيك أعظم من تعصبك لله عز وجل ومن غضبك وحميتك لله عز وجل، وهذا بلاء عظيم جداً.
ولو استعرضنا بعض مواقف الصحابة رضي الله عنهم لعلمنا يقيناً أنهم أحبوا الله تعالى ورسوله أعظم من كل شيء، أعظم من الولد والوالد والمال والناس أجمعين، فقد كان الواحد من أصحابه عليه الصلاة والسلام يسمح لنفسه أن يقتل أباه المشرك، وكان الوالد يقتل ولده، والمرأة تقتل زوجها، والزوج يقتل امرأته كل هذا في سبيل الله عز وجل، والرجل يترك ماله كله، ويرحل من مكة دار الكفر في ذلك الوقت إلى المدينة، حتى يقر النبي عليه الصلاة والسلام له بالربح الوفير العظيم يقول: (ربح البيع ربح البيع ربح البيع) لماذا؟ لأن هذا الرجل اشترى نفسه من المشركين بماله، فهان عليه المال ولم يهن عليه شيء من دينه.
فهؤلاء حقاً هم الذين تأهلوا أيما تأهل لأن يفتح الله تبارك وتعالى عليهم البلاد، وأن يفتح لهم قلوب العباد.
ولذلك نجد أن الإسلام انتشر في عهدهم انتشاراً رائعاً في شرق الأرض وغربها رغم قلتهم، ونحن رغم كثرتنا إلا أننا غثاء كغثاء السيل، بسبب حبنا للدنيا وكراهيتنا للموت كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
قال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:103].
وهو الإسلام الذي دعا إلى الجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، قال: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عم(6/10)
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا)
[ثم حذرنا من مواقعة ما أتاه من قبلنا من أهل الكتاب، مخافة أن يصيبنا ما أصابهم، فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
فأخبرنا أنهم عن الحق رجعوا، ومن بعد البيان اختلفوا].
فالواحد منا لابد أن يدرك أمراً بعقله، وهو أن الصحابة أحسن الناس بعد الأنبياء، وأحسن الصحابة الخلفاء الراشدون، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، لكن على أية حال فإن الصحابة هم أفضل خلق الله بعد الأنبياء والمرسلين من جهة الفهم، ومن جهة العلم والإيمان والعمل.
فهم أول من خوطبوا بخطاب الشرع، وكان بلغتهم، ففهموا خطاب الشارع، وما فاتهم من فهم سألوا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أمرهم على الجادة حتى ظهرت الفرق، فظهرت القدرية، وظهرت الشيعة، وظهرت الخوارج وهذه الطوائف الثلاث هي أولى الطوائف في الإسلام، واتخذت كل طائفة من هذه الطوائف أصولاً وقواعد، هذه الأصول والقواعد خالفت كتاب الله من ناحية، وخالفت سنة النبي عليه الصلاة والسلام من ناحية أخرى، والذي يفهمها سلف الأمة.
فالأمر فيهم كما قال ابن مسعود: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد عليه الصلاة والسلام، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة.
فهل يعقل أن ربنا تبارك وتعالى أخفى الاعتزال وهو حق على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأظهره لـ واصل بن عطاء؟ إن واصل بن عطاء كان من تلاميذ الحسن البصري وانشق عنه في أوائل المائة الثانية، فهل يعقل أنه فهم فهماً أفضل من فهم الصحابة؟! لو بحثت شرقاً وغرباً لن تجد هذا القول الذي سمعناه.
وفي هذا الزمان أناس يقولون: النقاب حرام، فأخذت أبحث في كتب أهل العلم الموثوق، وبحثت في كتب أهل البدع، حتى في كتب الشيعة والقدرية والخوارج والضلال والفساق والفلاسفة، فلم أجد أحداً منهم يقول: النقاب حرام، فمن أين أخذت هذا؟ كل ما فيها أن هذه المسألة هي محل خلاف على قولين اثنين لا ثالث لهما: إما أنه فرض واجب، وإما أنه سنة مستحبة.
فعندما يأتي رجل بعد (1420) سنة مرت على هذه الأمة ويقول: النقاب حرام؛ فهذا قول ثالث لم يأت به أحد من أهل العلم، وإنه لجدير أن نذكر كلام ابن حزم: إذا اختلف السلف والأئمة على قولين فلا يحل لمن أتى بعدهما أن يأتي بقول ثالث؛ لأنه لو قلت: إنه من الممكن وجود القول الثالث، فإنك ستقول: إن السلف اختلفوا في مسألة على وجهين، ولم يكن الحق من وجهين، ودل على أنهما ضلا عن معرفة الحق.
ولذلك قال: إذا اختلف السلف في مسألة على قولين فلا يحل لمن أتى بعدهم أن يأتي بقول ثالث، وإلا لكان ظالماً.
حذرنا الله تعالى من اقتراف ما اقترفه أهل الكتاب من قبلنا فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
فلا تتشبهوا بهم حتى لا يصيبكم من العذاب العظيم ما أصابهم، فأخبرنا أنهم عن الحق رجعوا، ومن بعد البيان اختلفوا.(6/11)
قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)
[وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]]؛ ولذلك (خط النبي عليه السلام خطاً في الأرض، ثم جعل عن يمينه خطوطاً، وعن يساره خطوطاً، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]-أي: هذا الخط المستقيم يشبه الصراط الذي أتيتكم به- أما هذه السبل التي عن جنبي الصراط فإنها سبل الشيطان، وعلى رأس كل واحدة منها شيطان يدعو إليها).
قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] أي: التي على جنبي الطريق، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} [الأنعام:153] أي: فتبتعد بكم عن سبيل الله عز وجل، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، أي: هذه وصية الله تبارك وتعالى لكم.(6/12)
قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً)
[قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]].
يا محمد! إنه شق على المشركين أن تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل، وترك ما كانوا يعبدون ويدعون.
[وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32].
فهل بقي -رحمكم الله- أوضح من هذا البرهان، أو أشفى من هذا البيان؟](6/13)
إخبار الله أمة محمد بأنه خلق خلقاً للابتلاء والفرقة وتحذيره سبحانه من متابعتهم
[وقد أعلمنا الله تعالى أنه قد خلق خلقاً للاختلاف والفرقة، وحذرنا أن نكون كهم لهم -أي: أن نتمثل بصفاتهم- واستثنى أهل رحمته لنواظب على المسألة أن يجعلنا منهم، فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119].
ثم حذر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع أهل الأهواء المختلفين وآراء المتقدمين، فقال عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49]-أي: يا محمد! إذا أتاك الخصمان فاحكم بينهما بما أنزل الله- {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:16 - 19].
وقال عز وجل فيما ذم به المخالفين: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68].
وفي قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7].
وفي قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
وفي قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].
وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام:159].
وفي قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:105].
وفي قوله: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:53].
ونحو هذا في القرآن كثير، قال ابن عباس: أمر الله تعالى المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله عز وجل.
وقال ابن المهاجر: سئل عيسى بن مريم عن الفرقة والاختلاف ما يوقعهما بين الناس؟ قال: البغي، والحسد، وما يلائمهما من المعصية، وما يريده الله تعالى بالعامة من النقمة].
ثلاثة أشياء: بغي، حسد، معاص يكون من نتيجتها أن تنزل اللعنة والغضب من الله عز وجل فتأخذ العامة؛ لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر اليوم، ورضوا به غداً كما فعل بنو إسرائيل.
هذه بعض الآيات الواردة في الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة والاختلاف، والأمر باعتقاد الحق المبين، والبينات التي جاء بها المرسلون، خاصة نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يأتي من يزعم أنه على حق وأنه متمسك بالإنجيل مثلاً، فكل الكتب السماوية السابقة محرفة ومبدلة ومغيرة إن وجدت، وهذا ما تم إلا بفضل الله عز وجل، حتى لا يبقى كتاب صحيح ولا شرع ولا وحي نزل من السماء محفوظ بحفظ الله إلا القرآن الذي أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو السراج الذي يضيء للناس حياتهم الشرعية والدنيوية، فبه إنارة الكون، وبه إنارة القلوب بنور الوحي ونور الإيمان المؤدي إلى جنة الله عز وجل.(6/14)
الأسئلة(6/15)
بيان معنى الفرقة ومدى إطلاقها على كل جماعة في الساحة
السؤال
ما معنى الفرقة؟ وهل يطلق على كل جماعة على الساحة اسم الفرقة، وما هي ضوابط ذلك؟
الجواب
هذه الجماعات التي على الساحة ليست بفرق، وإنما هي تكتلات وجماعات وطوائف لا علاقة لها بهذه الفرق التي توعدها النبي عليه الصلاة والسلام بالنار، وإنما تختلف عنها اختلافاً كلياً وجزئياً؛ لأن كل فرقة من الفرق التي بين النبي عليه الصلاة والسلام أنها في النار لها قواعد وأصول تخالف قواعد وأصول أهل السنة والجماعة، بل تضادها.
فليست هذه الجماعات الدعوية التي على الساحة الآن من الفرق، إلا بالنظر إلى كل شخص على حدة في داخل هذه الجماعات.
إن هذه الجماعات ما هي إلا جماعات دعوية، وليست فرقاً لها معتقدات وأصول، وهذه الجماعات لم تكن موجودة إلا بسبب الظروف السياسية التي تمر بها بلدان الإسلام شرقاً وغرباً، فتقوم في كل بلد جماعة تنظر من منظور معين فترى أن الإصلاح لابد أن يكون من القمة.
إذاً: فهي نظرة إصلاحية لا نظرة اعتقادية، ومنها من ترى إصلاح القاعدة وبإصلاحها تنطلق الهمم، ومنهم من يرى أخذ الظالم أخذاً شديداً وكف الظالم عن ظلمه، ومنهم من يرى أن سبيل النجاة هو بطلب العلم، وهذا أرجح المناهج، بل أصح المناهج اتباعاً لأهل السنة، إذا لم يكن في مقدورنا في وقت من الأوقات تغيير المنكر باليد فلا بد من تغييره بالعلم والدعوة إلى الله عز وجل، وأنتم تعلمون مكانة العلم ومنزلة العلم، وأن أمة بغير علماء، ودعوة بغير علماء، ليست في حقيقتها دعوة سديدة صحيحة، ولذلك فالدعوة السلفية الآن بإمكانك أن تعد لها عشرات بل مئات العلماء، وأنهم يأخذون بنواصي الشباب إلى الله عز وجل عن طريق طلب العلم، ما أمكنهم إلى ذلك سبيلاً.
أما من يرى رؤيا غير ذلك فلا بد أن يراجع هذا الكلام، خاصة والواقع يثبت فشل جميع المناهج إلا طلب العلم.
تصور لو أن هؤلاء الناس في كل الأرض شرقاً وغرباً قالوا: يا ناس! يا علماء! تفضلوا من باب: (الجمل بما حمل) اعملوا، فإنك تحتاج إلى آلاف العلماء في حين أنه ليس عندك عالم واحد، وفي كل أمر من الأمور تحتاج إلى رجل من أهل العلم، وفي كل مسجد تحتاج إلى رجل من أهل العلم.
إن وزارة الأوقاف في مصر ضمت (65000) مسجد، فتجد معظم المؤذنين لا يحسنون الأذان والإقامة، وأنا أذكر مرات ومرات أن واحداً لو أقام الصلاة أو أذن على غير ما تقتضيه اللغة والشرع أمر الشيخ محمد بن شقرة -وهو شيخي وأستاذي- بإعادة الأذان وإعادة الإقامة؛ لأنه يعتبر أن هذا الأذان كأن لم يكن وقع فهو باطل، وهذه الإقامة وقعت باطلة، ثم لما كلمناه في ذلك في موطن عمله وهي وزارة الأوقاف قال: هؤلاء أكثر من ثلاثة وثلاثين شخصاً من بلاد العرب تقدموا للأذان في المساجد لم يفلح واحد منهم، وكان الشيخ يطلب من كل واحد أن يؤذن؛ فما ارتضى منهم إلا واحداً فقط وقال: هذا الأذان صحيح، والباقون جميعاً يلحنون لحناً جلياً في الأذان.
فتصور أننا نحتاج للأذان في كل مسجد لواحد تقبل يديه حتى يؤذن أذاناً صحيحاً، هذا في المؤذن ناهيك عن الصلاة، فمن الأئمة من يصلي بالناس وليس له طعم ولا رائحة، ولا يعرف أن يتكلم حتى كلاماً عادياً، أول ما يدخل الصلاة يقول: الله وأكبر بصوت عال! فكيف أصلي خلفه؟ فلحنه جلي وتبطل به الصلاة، والقرآن كذلك يلحن فيه، فهو ينتقل من لحن إلى آخر.
إمام في قرية من القرى تقدم ليصلي بالناس المغرب، فصمت ثم ركع، فالناس قالوا له: لماذا لم تقرأ؟ فالتفت وقال: نسيت، ثم قال: الله أكبر، ثم انتقل ليقرأ الفاتحة وما أدراك ما الفاتحة! قال: بسم الله الرحمن الرحيم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) حتى أتم الحديث ثم ركع.
فبعد أن سلم من الصلاة، قلت: الله أكبر الله أكبر وأقمت الصلاة مرة أخرى، فقالوا: ما هذا يا شيخ؟! قلت: أصلاً أنا أتيت من مصر وأحب أن أصلي الفرض مرتين.
وبعد أن انتهيت من الصلاة بهم مرة أخرى قلت لهم: أنتم تعلمون أن قراءته ليست هي فاتحة الكتاب وليس من أصل القرآن، وإنما قرأ حديثاً.
وتصور أن مسجداً مثل هذا ليس فيه إمام ولا مؤذن ولا فراش، فبعض الناس يستهين بالعلم.
فالشاهد يا أخي الكريم! من
السؤال
أن هذه الجماعات الدعوية التي على الساحة ما هي إلا جماعات نظرت نظرة إصلاحية للمجتمع والنهوض بالمسلمين إلى الإسلام الحق، وكل واقف على ثغرة اجتهد من وجهة نظره.
وقد بلغني أن أحد الدعاة قال: إن الجمعية الشرعية وجماعة التبليغ فرقتان فقلت: عجباً أن يتفوه رجل من عامة الناس بهذا الكلام، فضلاً أن يصدر هذا الكلام من رجل ينسب نفسه إلى العلم، أن تكون الجمعية الشرعية التي قامت منذ أكثر من خمسين عاماً تدعو إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلى إقامة السنن ونبذ البدع ومحاربة الشرك فرقة، وكذلك جماعة التبليغ، فكيف تكون هذه فرقاً؟ أمر عجيب جداً! نعم.
عندهم أخطاء وعندهم سلبيات، لكن هل هذه السلبيات تجعلها فرقة من الفرق التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم بالنار؟ لا يمكن، وإني أبرأ إلى الله عز و(6/16)
حكم الانتساب إلى الجماعات الإسلامية المعاصرة
السؤال
هل الجماعات الموجودة على الساحة الآن تنزل تحت الحديث: (كلها في النار إلا واحدة)؟ وهل يأثم الذي ينضم إلى هذه الجماعات؟
الجواب
أما نزولها تحت الفرق فلا، ولكني أنصح دائماً بالتمسك بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
وأما إن كنت منخرطاً في إحدى هذه الجماعات، فإن الإيمان لابد أنه في قلبك ضعيف، فإن كان إيمانك قوياً فاحرص على اتباع الحق، سواء أتى هذا الحق من جماعتك أو من غيرها.
إننا كلنا نعيش حياة الواقع الإسلامي بين المسلمين، والعداوة الواقعة بين الجماعات الإسلامية يا إخواني أمر مذموم، ومن العدل والإنصاف أنه لو كان الحق في رأيهم، وقد صح عن الله وعن رسوله، فلو قال به حتى اليهود لأخذت به؛ لأنه حق، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها.
يا إخواني؛ لما كنا في السبعينات منخرطين في إحدى الجماعات لم نكن نقبل من أحد شيئاً وإن كان صحيحاً.
يعني: بلغ بنا الأمر في بغض الأزهر أننا كنا نرد عليه أي قول يقوله، وإن كان عليه دليل! وهذا في الحقيقة غلو، فالحق لو أتاني من طريق يهودي أشكره عليه، ولذلك أنتم تعرفون عبد الله بن سلام قال للنبي عليه الصلاة والسلام: هي ثلاثة أشياء أسألك فيها، فإن أجبت فأنت نبي، وإن لم تجب فأنت كذاب.
قال: ما أول طعام أهل الجنة؟ وما هي أول أشراط الساعة؟ وكيف ينزع الولد؟ وهذه الأسئلة الثلاثة حق، ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل له: أنت يهودي فلا يمكن أن أجيبك! بل أجابه وقال: (أول علامات الساعة نار تحشر الناس في المشرق أو إلى المشرق، وأول طعام أهل الجنة زيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها).
فعرف أن هذه الإجابات لا يجيب عليها إلا نبي؛ لأنه عرف ذلك من واقع كتب أهل الكتاب السابقة، ولذلك آمن فوراً، وانتفع بالنبي عليه الصلاة والسلام وبدينه.
وأنا دائماً أريد أن أقول: إن التعصب للجماعات يضعف الولاء.
والحمد لله أن السلفية ليست جماعة، وفي الأصل لا يمكن أن تكون السلفية جماعة، لأن جذورها وأصولها تمتد إلى زمن الصحابة، بل الصحابة هم أصل السلفية، وأصل الالتزام بالكتاب والسنة، وهم أصل الفهم للغة.
فلا يصح أن أقول: إن السلفية جماعة، ولذلك من زعم أن السلفية جماعة فزعمه هذا باطل يجب أن نرد عليه.
وكل جماعة يلزم لها أمير، والأمير يلزمه الأمر، والأمر يلزمه سمع وطاعة، فإن تنكرت للسمع والطاعة استلزم ذلك التأثيم، وكل هذه المؤهلات لا تصلح إلا مع الخليفة، أو مع من يعينه الخليفة، وأين هذا الخليفة؟ هل أحد منا يستطيع أن يظل في بيته آمناً إلى صلاة الفجر؟ وهل هناك أحد منا ينام في سريره أو في مخدعه يأمن على نفسه حتى طلوع الشمس؟(6/17)
حكم ختان الإناث في الإسلام
السؤال
ما هو حكم الختان في الإسلام؟
الجواب
حكم هذا قد أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ودعا إليه، والحديث في الصحيحين وغيرهما، والذي يقوم بهذا العمل امرأة حاذقة طبيبة ماهرة، تأخذ القدر الزائد حتى لا تصاب البنت بشهوة زائدة، ولا تنهك العضو كاملاً حتى لا تصاب المختونة ببرود جنسي، كما في قوله عليه الصلاة والسلام لـ أم عطية: (أشمي ولا تنهكي) يعني: خذي الجزء الزائد ولا تأخذي العضو كله.
ففي هذا الوقت احذر أن تسلم بدنك لواحد لا يفهم شيئاً أبداً.
وكذلك في مسألة الحجامة، فإن بدنك كله شرايين وعروق ودماء وغير ذلك، فقد يكون هناك شخص غشيم جاهل لا يعرف الحجامة يعبث في بدن الإنسان فيقتله.
فتجد أتباع الملاحدة الخارجيين في مصر هنا يتكلمون في المجلات والجرائد والصحف.
يقولون: هذا هو التشدد، وهذا ليس صحياً: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] نحن الذين جعلنا أنفسنا فتنة لهم، فهم ينتظرون أي ثغر يدخلون من خلاله للطعن في الإسلام.(6/18)
شرح كتاب الإبانة - ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة
الاجتماع هو سر قوة الأمة؛ إذ به تصون كرامتها، وتقيم دينها دون خوف من أحد، وبه ترد كيد أعدائها، أما التفرق والتشرذم فلا يأتي إلا بالويلات والنكبات على الأمة، ويجعلها ضعيفة أمام عدوها، عاجزة عن تحقيق أهدافها، ولذلك حث النبي عليه الصلاة والسلام على الالتزام بالجماعة، وشدد النكير والعقوبة على دعاة الفرقة والشتات.(7/1)
باب ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
أما بعد: في الدرس الماضي ذكرنا الآيات من كتاب الله عز وجل، والتي تحذر من الفرقة والشتات والتفرق والتشرذم، وبيان خطر ذلك، والأمر بلزوم الجماعة.
ودرس اليوم متمم لدرس الأسبوع الماضي من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك آثار سلفنا رضي الله تعالى عنهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم الجماعة والتحذير من الفرقة]:(7/2)
حديث أبي هريرة: (ترك السنة الخروج من الجماعة)
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ترك السنة الخروج من الجماعة)].
والجماعة إما أن يقصد بها المعنى العام وهي جماعة أهل السنة، وإما أن يقصد بها ما عليه سواد المسلمين من اعتقاد صحيح.
فإما أن يقصد بالجماعة صحة الاعتقاد في الله عز وجل، أو لزوم جماعة المسلمين، أي: لزوم الأمير ومن معه.
والأمير بالمعنى العام: الخليفة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ترك السنة هو الخروج من الجماعة)، بمعنى أنه يجب على كل مسلم أن يلزم الخليفة، وأن يلزم إمارته وولايته وطاعته إلا في معصية الله عز وجل، فمن ترك ذلك وتنكب هذا فإنه قد ترك السنة.
وفي هذا بيان أهمية الجماعة، وبيان أهمية التزام منهج أهل السنة والجماعة تحت راية الإمام أو الخليفة، وأن من خالف ذلك فإنما خالف سنة النبي عليه الصلاة والسلام.(7/3)
حديث أبي هريرة: (من ترك الطاعة وفارق الجماعة)
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك الطاعة وفارق الجماعة ثم مات فقد مات ميتة جاهلية)].
فقوله: (من ترك الطاعة) أي: طاعة الإمام والأمير والسلطان.
وقوله: (وفارق الجماعة) أي: جماعة أهل السنة، فمات على هذه الحال فميتته حينئذ ميتة جاهلية؛ لأن أهل الجاهلية لا إمام لهم ولا أمير ولا سلطان، بل كل إنسان منهم إلهه هواه، وأما المسلم في داخل الجماعة فإنما يأتمر بأمر الأمير وينتهي عما نهاه عنه الأمير والسلطان والخليفة، فالذي ينشق عن الإمام ويخالفه ويشق عصا الطاعة ثم يموت وهذه حالته، فإنما يشبه موتته بموت رجل من أهل الجاهلية.
وهذا الحديث روي بطرق متعددة وبأسانيد مختلفة، منها ما رواه [أبو هريرة نفسه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات على ذلك فميتته جاهلية)].
وفي رواية عنه [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من اعترض أمتي لا يحتشم من برها ولا فاجرها، ولا يفي لذي عهدها، فليس مني، ومن خالف الطاعة، وفارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يدعو إلى عصبية، أو يغضب للعصبية، فمات فميتته جاهلية)].
وهذا الحديث حديث صحيح، وهو عظيم جداً، وقد اشتمل على جملة من الفوائد والأحكام.
أولها: قوله: (من اعترض أمتي لا يحتشم من برها ولا فاجرها)، أي: من خرج على جماعة المسلمين لا يرعى فيهم إلاً ولا ذمة، ولا يميز بين البر والفاجر، وإنما خرج عليهم جميعاً بالقتال والسلب، أو شق عصا الطاعة، أو فارق جماعتهم.
وقوله (لا يحتشم) بمعنى: لا يستحي ولا يألو جهداً في الخروج عليهم ومخالفتهم بشتى أنواع المخالفة.
وقوله: (ولا يفي لذي عهد بعهده)، يعني: لا يعبأ بالمواثيق والعهود التي أبرمها مع آحاد هذه الجماعة، فهو لا يفي بالعهد، ولا يستريح لإمامه، ولا يفي له.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فليس مني)، أي: من فعل ذلك فليس مني.
وربما فهم بعض الناس كما فهم الخوارج من قبل أن قول النبي عليه الصلاة والسلام في أي حديث (ليس مني من فعل كذا) أي: أنه ليس من المؤمنين حقاً، بل إنه بذلك قد خرج عن حد الإسلام ودخل في حد الكفر، وليس الأمر كذلك إلا في حالة واحدة، وهي إذا استحل ذلك وقامت الحجة عليه بحرمة النفس، يعني: قامت عليه الحجة بحرمة قتل المسلم وإهراق دمه فقال: بل هو حلال الدم، فمن فعل ذلك فهو كافر خارج عن حد الإسلام، وداخل في حد الكفر، وأما من قاتل فقتل أو قتل، أو من أراق دم أخيه المؤمن أو المسلم غير مستحل لذلك؛ فهذا من أكبر الكبائر، فقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر، ولكنها لا تخلد فاعلها في النار؛ لأنها كبيرة، فإن تاب منها قبل أن ينالوا منه يلزمه دفع الدية، وإلا فالأصل في القتل العمد القصاص، والقتل الخطأ فيه الدية، وديته على العاقلة، أي: على عشيرته وقبيلته لا عليه هو.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (من اعترض أمتي لا يتحاشى برها ولا فاجرها، ولا يفي لذي عهد بعهده فليس مني) أي: ليس من أخلاقنا ولا عاداتنا وسلوكنا، وإنما شريعتنا تخالف ذلك وتنهى عنه وتحذر منه، وتعد عليه بالنار في الآخرة، أو بإقامة الحد في الدنيا.
فقوله: (ليس مني من فعل كذا) أي: ليس من هدينا ولا من طريقتنا، ولا يحمل على ظاهره إلا في حالة الاستحلال بعد قيام الحجة عليه، وأما غير ذلك فلا، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد نقله غير واحد، وقد بلغ نقلته المئات، ومن قال بغير ذلك فقد قال وتفوه بغير سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (ومن خالف الطاعة) يعني: أتى بالمعصية.
(وفارق الجماعة) أي: صار وحده، أو تحيز وتميز هو ومن معه لمجادلة الجماعة الكبرى، أي: جماعة الإمام، فهذا يسمى محايداً، ولم يخرج على الإمام على مر التاريخ طوله وعرضه إلا الخوارج.(7/4)
الطرق الشرعية لنصب الإمام
السلطان إما أن يتعين تعييناً شرعياً، أو يتعين تعييناً جبرياً، ولا يخلو حاله من هذين.
فإما أن يوليه أهل الحل والعقد ويتولى ولاية صحيحة من جهة الشرع، فيكون أميراً بالترشيح والانتخاب الذي يسميه الشرع بالبيعة، أي: بالبيعة الحقة، وهي بيعة أهل الحل والعقد، كما بويع أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، وبايعه بعد ذلك الناس في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه إحدى الطرق في تعيين الإمام أو الخليفة، وهي أعظم الطرق وأحسنها.
وإما أن يتولى السلطان ولاية جبر واستفزاز، بمعنى: أن يفرض عليك فرضاً، وما فرض بهذه الطريقة إلا لأنه ملك القوة والعدة والعدد والعتاد.
فالأول طاعته واجبة بلا خلاف بين أهل العلم؛ لأحقية ذلك له من جهة الشرع.
والثاني طاعته واجبة بلا خلاف بين أهل العلم، لكن لا لكونه مستحقاً ذلك من جهة الشرع، وإنما للضرر الناتج عن حربه ومجابهته والخروج عليه.(7/5)
محاسبة الرعية للولاة في عهد السلف
كان الواحد من سلفنا رضي الله عنهم إذا تولى ولاية يقوم آحاد الناس فيقول له: من أين لك هذا؟ وكيف لبست هذا الثوب؟ ومن أين لك المال الذي معك؟ وكان عامة الناس يحاسبون ولاتهم وأمراءهم وخلفاءهم على النقير والقطمير، وكانوا يعيشون في أمن وأمان؛ لأن الله تعالى هو الذي أمنهم، كما أنه هو الذي تولى تعيينهم برضا منه، وهو الذي بث في قلوب الخلق تبجيله واحترامه وتعظيمه، ولما قال عمر رضي الله عنه وهو يخطب الناس على المنبر: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا، قام أعرابي وقال: لا سمع لك ولا طاعة، قال: ولماذا؟ قال: من أين لك هذا الثوب الذي تلبسه؟ وكان عمر يوزع أثواباً قصاراً، أي: ما يكفي لتفصيل ثوب قصير، وكان عمر قد جمع إلى ثوبه -أي: إلى حظه من القماش- نصيب ولده عبد الله، فقال عمر: قم يا عبد الله! فبجل أباك، فقال: إني وهبت أبي حظي، فجعلهما ثوباً واحداً، فقال الأعرابي: الآن نسمع ونطيع.
ولو أن الأمة الآن بأسرها قالت لأحد ملوكها: من أين لك هذا؟ لما تورع هذا الحاكم عن إحراقها عن آخرها دون أن يعير هذا السؤال جواباً.
وهذه ولاية إجبار.
فالطاعة في ولاية الإجبار لا لأحقية الوالي من جهة الشرع، وإنما مخافة الفتن الناجمة التي تشق وحدة المسلمين.
فالطاعة في الحالين واجبة إلا فيما حرمه الله ورسوله، لكنها تختلف في أن الطاعة في الأولى طاعة بحب ورضا، وفي الثانية مخافة الاستبداد وإراقة الدماء.(7/6)
علة النهي عن الخروج على الإمام
والشاهد من هذا: أن الخروج على الإمام في كل الأحوال خطره محقق ومحدق بالأمة من كل جانب نتيجة الخروج، وربما يفهم البعض أنني إذا تكلمت عن الخروج أن هذا يعني السكوت عن بيان الحق وفضح الباطل، فأقول: بل هاتان المسألتان متباينتان، فإن ترك الخروج لا يمنعنا من قول كلمة الحق وإظهار وجه الفساد، فهذه مسألة وتلك مسألة أخرى، فالخروج لا يقره عاقل لا في الولاية الشرعية ولا في الولاية الاستبدادية، وأما إظهار الحق ورد الباطل فيجب على كل الولاة وعلى كل إنسان، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد كلمة حق -أو قال: كلمة عدل- عند سلطان جائر)، يعني: يحكم بالجور أو الظلم وتعدي الحد، والحد هنا هو حد الشرع، فإذا تعدى الحاكم أو السلطان أو الأمير أو الوالي حده الذي رسمه له الشرع فيجب إيقافه ممن وجب عليه إيقافه، وليس من كل أحد، وإنما من أهل العلم الذين أوجب الله تبارك وتعالى عليهم هذا الحق.
قال: (ومن ترك الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية)، يعني: عصبية، كأن يقاتل لأجل بلدته أو لأجل عشيرته أو لأجل أن يقال: شجاع أو عملاق أو جريء، أو غير ذلك من هذه المصطلحات، فهذه كلها ما دامت ليست في الله عز وجل فكلها عمية وجاهلية.
قال: (ومن قتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب للعصبية فمات على هذه الحال فميتته جاهلية).(7/7)
التحذير من مفارقة الجماعة والخروج عن طاعة الإمام
قال: [عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة، وخرج عن الطاعة فمات، فميتته جاهلية)].
إذاً: الخروج عن الطاعة المقصود به الخروج عن طاعة ولي الأمر، وولي الأمر إما أن يكون من العلماء أو من الأمراء؛ لأن أولياء الأمور بإجماع أهل السنة هم العلماء والأمراء، والأمراء بمعنى الخليفة الأكبر ومن ولاه؛ لأن الأصل أن جماعة المسلمين هي جماعة واحدة، وسواء شرقت أو غربت فهي جماعة واحدة، فلا يكون عليها إلا خليفة واحد، وهذا الخليفة لا بد أنه يولي ولاة وأمراء وسلاطين على الأمصار والبلدان، فطاعة هؤلاء الولاة والأمراء والسلاطين الذين ولاهم الخليفة إنما هي من طاعة الخليفة، وطاعة الخليفة من طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله عز وجل، فانظر إلى تسلسل هذه الطاعة، وأنها في الأصل طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتنزل هذه الطاعة على الأمراء الموجودين الآن.
والجماعات الموجودة الآن ليست فرقاً، ومن قال بأنها من الفرق فقد فقد عقله، ولا يدري ما يخرج من رأسه، فهي ليست فرقاً، كما أنه ليست واحدة منها هي الجماعة الأم، أو هي الجماعة التي يجب أن تبايع، بل لك أن تنخرط في أي منها، بشرط أن يكون الولاء لله تعالى ورسوله، وليس لهذه الجماعة، وإن كان الذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم في باب الجماعة أن ترك الجماعة بأسرها أمر أفضل من الأول؛ لأن الانخراط في سلك هذه الجماعات يضعف الولاء لله عز وجل، ويجعل الشخص يعادي إخوانه من الجماعات الأخرى، وينظر إليها شزراً ربما أكثر من النظر إلى اليهود والنصارى، بل إذا سألته عن حكم المعاملة مع اليهود والنصارى أجابك بكل ثقة أنه يتعامل معهم دائماً من باب أن الله تعالى قال ذلك، ولكنه لا يقبل أن يتعامل مع أخيه المؤمن من جماعة أخرى؛ لأنه تربى في داخل جماعته على العداء والبغض لكل من لم يكن في جماعته، ولا يمكن أن يكون هذا ديناً.
ونحن نعتقد أن هذه الجماعات سلاح ذو حدين؛ لأن كل جماعة تقف على ثغر من ثغور الإسلام، وربما وجد فيها فساد عظيم، وقد تأمر الجماعة بالصلاة والمحافظة عليها، وهذا وجه حسن، ولكن الوجه القبيح الذي ربما لا يصمد أمامه الوجه الحسن هو أن هذه الجماعات تعادي بعضها البعض، وهذا كلام عظيم جداً.
ولذلك على الواحد منا أن يدعو ربه حتى في نومه أن يؤلف بين هذه الجماعات جميعاً تحت راية واحدة، وتحت مذهب واحد، وهو مذهب السلف الصالح؛ لأنه المذهب الصحيح، وهو مراد الله عز وجل ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام من سنته، وأما المناهج الأخرى فربما فيها من الخلل على قدر ما فيها من الصواب، بل وربما يكون خللها أعظم من صوابها، ولذلك أنا أعتقد اعتقاداً جازماً منذ أواخر السبعينات أن الانضمام بأي جماعة من هذه الجماعات إنما هو تضييع للوقت والجهد، بينما الانشغال بطلب العلم على يد أناس لا ولاء لهم ولا انتماء لهم إلا لله ورسوله وأصحابه الكرام، فهذا هو المنهج السديد الذي أدعو إليه فيما يزيد عن عشرين عاماً إلى يومنا هذا.
وأسأل الله تعالى أن يوفقني إلى ذلك.
قال: [(من فارق الجماعة وخرج عن الطاعة فمات فميتته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يحاشي مؤمناً لإيمانه -أي: لا يترك مؤمناً لإيمانه- ولا يفي لذي عهد بعهده؛ فليس من أمتي، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية أو يقاتل للعصبية، فقتلته جاهلية)].(7/8)
حديث عمر: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة)
[وعن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد)]، يعني: كلما كثرت الجماعة كانت في مأمن من خطر الشيطان والفتن وغير ذلك.
ربما يدور في أذهان بعض الحاضرين سؤال وهو: أنني دائماً أدعو لجماعة الإمام الأعظم الذي هو الخليفة، حيث إنه لا خليفة الآن، ولا بد للمؤمن أن يكون في جماعة أو مع جماعة، فيد الله مع الجماعة كما جاء في الحديث، فأي جماعة الآن نكون معها؟ وأقول: الجماعة الآن حقاً هي جماعة الكتاب والسنة، وهم أهل العلم المتحلون بكل خير، الملتزمون بمراد الله عز وجل من كلامه ومراد الرسول عليه الصلاة والسلام من كلامه، الداعون لذلك، والعاملون بذلك، وليس لهم من دعوتهم ولا علمهم مطلب ولا هوى ولا بدعة إلا أنهم يدعون إلى الله عز وجل، وأما أن يدعو رجل إلى مذهب أو إلى جماعة، أو إلى نهج انتهجه، أو إلى عصبية أو حمية أو غير ذلك، فليس هذا من دين الله عز وجل، وإنما الجماعة هي جماعة الكتاب والسنة على نهج وهدي السلف، هذه الجماعة التي نريد أن تنخرط في سلكها، فهي قد اتخذت لنفسها المنهج الذي قال الله عز وجل فيه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، أي: عقيدة وشريعة.
وهذه العقيدة هي عقيدة النبي عليه الصلاة والسلام وعقيدة أصحابه الكرام والخلفاء الراشدين، وأما الشريعة فهي ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما هذه الفرق التي فارقت جماعة المسلمين وجماعة الأئمة والخلفاء الراشدين، فليست من دين الله عز وجل من قريب ولا من بعيد، بل إنها قد انحرفت عنه انحرافاً، وتحقق فيها وعيد النبي عليه الصلاة والسلام.(7/9)
حديث عمر: (أكرموا أصحابي فإنهم خياركم)
[عن عبد الرحمن بن عبد الله قال: قدم عمر الجابية -وهي قرية من قرى الشام- فقام فينا خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قمت فيكم، فقال: (أكرموا أصحابي)].
وقالت عائشة رضي الله عنها: أمروا بالاستغفار لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فسبوهم، أي: فلم يستغفروا لهم، بل سبوهم وشتموهم.
فنحن مأمورون بالاستغفار لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، اللهم اغفر لهم وارحمهم.
قال: [(أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر فيكم الكذب)]، أي: بعد هذه القرون الخيرية، كما قال عليه الصلاة والسلام: [(فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى يحلف الرجل وإن لم يستحلف، ويشهد وإن لم يستشهد، ألا من أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن معهما الشيطان، ومن ساءته خطيئته فهو مؤمن)].
يعني: علامة الإيمان أن من عصى الله تعالى وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم، فاستاء بهذه المعصية وتفطر قلبه وحزن حزناً بالغاً عليها؛ فهذا دليل على صدق الإيمان.
ولذلك لما أتى الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! إن أحدنا تحدثه نفسه بالشيء لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتفوه به، قال: أوقد فعلها الشيطان؟) وفي رواية مسلم (أوقد وجدتم ذلك؟ ذاك صريح الإيمان).
وكما قال النووي وابن حجر عليهما رحمة الله: إن هذه وسوسة الشيطان في ذات الله عز وجل، فتجد الرجل يفكر في نفسه ما لو أنه يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (أوقد فعلها؟) يعني: الشيطان قد فعلها وضحك عليكم؟ وأنتم ساءتكم هذه، مع أنه حدثته به نفسه حديثاً، ومرت عليه مرور الكرام ولم تستقر في القلب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فتقولون: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فتقولون: الله، فيقول: من خلق الجبال؟ فتقولون: الله، فيقول الشيطان: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا)، وفي رواية: (وقولوا: آمنا بالله ورسوله).
وقوله: (فاستعيذوا بالله) أي: لدحر الشيطان وطرده، فالاستعاذة تطرد الشيطان.
وقوله: (وانتهوا) أي: جاهدوا أنفسكم ألا يستقر هذا الوسواس في قلوبكم، وأن يكون مجرد خاطر خطر في القلب ومر ولم يستقر في القلب.
وقوله: (وقولوا: آمنا بالله ورسوله) تحديد من النبي عليه الصلاة والسلام لعلاج هذا الداء الفتاك العظيم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ذاك صريح الإيمان)، أي: إذا ساءتك هذه المعصية ولم تفرح بها.
وصاحب الأمراض القلبية يتمنى بزعمه أن لو يجد متشابهاً في القرآن فيقف عنده، وقد نبهنا الله تعالى أن هؤلاء هم مرضى القلوب والعقول، الذين يتتبعون المشتبهات، وأما المسلم فإنه يؤمن بها ويمرها كما جاءت ولا يحملها إلا على أحسن المحامل، بخلاف المريض من أهل الشبهات ومن العامة والجهلاء.
وكلام الله تعالى واحد، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
فلما لم يكن فيه اختلاف دل على أنه من عند الله عز وجل.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (ذاك صريح الإيمان) أي: خوفك البالغ مما وقع في قلبك أو خطر على قلبك أكبر دليل على أنك رجل صالح مؤمن، وكذلك عندما تفعل المعصية ثم تتوب إلى الله عز وجل فوراً، وترجع إليه حالاً، وتستاء غاية الإساءة مما بدر منك.
وقد قال حنظلة: (يا رسول الله! نكون بين يديك كأننا نرى الجنة والنار، فإذا خرجنا من عندك وعافسنا الزوجات وانشغلنا بأموالنا اتهمنا أنفسنا بالنفاق)، يعني: عندما نكون في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فكأنا نرى الجنة والنار حقيقة، فإذا خرجنا من مسجده النبوي الشريف وانشغلنا بأمور الدنيا غاب عنا بعض التصور الذي نجده في مجلس العلم مع النبي عليه الصلاة والسلام، وبهذا اتهموا أنفسهم بالنفاق، وليسوا كذلك، ولذلك قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لو ظللتم على ما أنتم عليه لصافحتكم الملائكة).
وأمر جبلي فطري أن الإنسان حينما ينشغل بشيء يغيب عنه أشياء، فـ عمر بن الخطاب مثلاً كان يجعل نفسه جملاً لأولاده ويقعد في ساحة البيت وغير ذلك، ولو أن عمر في هذه اللحظة تصور أو تذكر النار لما مازح أبناءه، وهذا من رحمة الله عز وجل بالخلق.(7/10)
حديث النعمان بن بشير (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)
[وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)]، أي: جماعة الإمام.
وكل جماعة تأخذ هذه الأحاديث وتنزلها على نفسها، ولو أن هذه النصوص قد وردت في كل جماعة من هذه الجماعات الموجودة على الساحة، فلا بد وأن الأمة قد أجمعت على الباطل منذ قرون عديدة، وأول الجماعات هذه كانت سنة (1926م)، ولم توجد جماعة قبل هذا إلا الجماعة الأم، وقد سقطت الجماعة الأم سنة (1924م)، وكانت متمثلة في الخلافة العثمانية، فأتت فكرة إنشاء جماعة مسلمة قوية تسد الفراغ، يعني: أن القضية في أولها كانت نواياها حسنة، ثم صارت هذه الجماعة كغيرها من الجماعات السابقة التي تأخذ الولاء والبراء فيما بينها بعد أن قامت على غير أسس، ثم وضعت لها بعد ذلك الأسس، ثم أصبحت جماعة شيعية، وبعد هذا جماعة اعتقادية، وبعد هذا فرقة من الفرق وغير ذلك.
فهذه الجماعات سلكت نفس المسلك وإن لم تكن فرقاً، فهي قامت أولاً لأجل أن تحافظ على الكيان الإسلامي للمسلمين بعد أن سقطت الخلافة، ثم دعت بعد ذلك كل جماعة لنفسها، وادعت كل جماعة بأنها الجماعة الحقة، وهذا يلزم من جهة ثانية أن تكفر أو تفسق كل جماعة الأخرى، وهذا وجه من وجوه تفرق الأمة.(7/11)
حديث: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)
[وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)].
وهذا نفس الحديث الأول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
وهو حديث صحيح.
فمن خرج علينا الآن يقول بقول لم تقل به الأمة منذ قرون متعددة، ويقول: هذا دين الله عز وجل، فهو مخترع مبتدع في دين الله عز وجل، لا تجوز موالاته ولا موافقته على ما أحدثه.
فإن كان من أهل الاجتهاد والعلم فهو مأجور أجراً واحداً، أما إذا كان دون ذلك فهو إنسان مبتدع.
فالأمة لا تجتمع على ضلال، لكن قد يكون الضلال موجوداً في بعض الأفراد، ولا يقصد من هذا النص نفس الضلال مطلقاً، وإنما بمعنى آخر، فقد تجد بعض الأمة ليسوا على الحق، بل على الضلال المبين، وقد يكونوا في ضلال في فهم النصوص ولا يرجعون إلى كلام أهل العلم، وإما في ضلال في استخدام دين الله عز وجل للحصول على كرامة أو أموال أو وجاهة أو غير ذلك.
وهذا أيضاً نوع ضلال.
ولا يعني هذا الضلال أن الحق قد خفي والتبس على الأمة، بل الحق ظاهر عند غير هؤلاء، وهذا معنى (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، أي: لا يعم فيها الضلال في وقت من الأوقات ولا في بلد من البلدان، بل لا بد من قيام أحد أبناء الملة بالحجة في كل زمان ومكان، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42].
قال: (فإن رأيت اختلافاً فعليك بالسواد الأعظم).
وهذا الشق بالذات ضعيف، بل ضعيف جداً، وفي إسناده مناكير، وأما معناه فربما يكون صحيحاً، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم، والسواد الأعظم ليسوا عامة الناس ورعاع الناس، وإنما السواد الأعظم علماء الأمة؛ لأن بعضهم يتصور أن السواد الأعظم هم العوام، والعوام لا عبرة بهم ولا حكم لهم نهائياً، فالعوام شر القطيع، وإنما المقصود بالسواد الأعظم في النصوص هم السواد الأعظم من أهل العلم؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع السواد الأعظم من العلماء على الضلال، بل قد يكون في أفراد العلماء، وأما في المجموع فلا.
وفي حديث ابن مسعود: الحق ما عرف المسلمون، والباطل ما لم يعرفه المسلمون، أو بمعنى هذا الكلام.
قال الشيخ الألباني وغيره من أهل العلم: (المسلمون) أي: علماؤهم.(7/12)
حديث: (يد الله فوق الجماعة)
وقال: (يد الله فوق الجماعة، فمن شذ لم يبال الله بشذوذه).
وقوله: (يد الله فوق الجماعة) الأصل إجراء هذا النص على ظاهره وعدم تأويله، وإن أولته فلا بأس بذلك بشرط أن يكون الأصل إجراءه على ظاهره، ومن العلماء في زماننا من لم يتصور قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، مع أنه من أهل السنة ويدعو إلى السنة، ولكنه كما يقولون: لكل جواد كبوة، وقال في قوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) أي: قدرة الله فوق قدرتهم، وأن المراد باليد القدرة، ولا شك أن قدرة الله فوق قدرتهم، ولكن هذا لا يمنع إجراء النص على ظاهره، وأن يد الله فوق أيديهم.
فقال: وكيف نفهم أن يد الله فوق أيديهم؟ فقلت له: كما تفهم أن السماء فوق الأرض بغير عمد، كما نقول: فلان فوق فلان، أي: في الرتبة والمنزلة والقوة والمكانة والعظمة والوجاهة، ويلزم من هذا أنه كان فوقه، فقوله تعالى: ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) أي: هي فوق خلقه، ولكن تثبت اليد لله على ما يليق بكمال الله عز وجل.
فوقف عند هذا وقال: أنا لا أتصور هذا النص إلا مؤولاً.
وهو قد قضى حياته في نشر عقيدة السلف، فهذا يغفر له ذلك إن شاء الله بين يدي الله عز وجل؛ لأن الأصل فيه الاستقامة، وربما يكون قد قال هذا الكلام فيكم، أو أن أحداً منكم سمعه إن لم يكن كثير منكم سمعه، وأظنه إن شاء الله سيرجع.
قال: (فمن شذ)، أي: من فارق الجماعة (لم يبال الله بشذوذه) وفراقه لهذه الجماعة.(7/13)
حديث (من فارق الجماعة شبراً)
[وعن علي رضي الله عنه قال: من فارق الجماعة شبراً فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه]، والربقة هي الحبل الذي فيه عقد، فكأن الإسلام كالحبل الذي فيه عقد، وفي الحديث: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فيكون أوله نقضاً الحكم، وآخره الخشوع في الصلاة).
ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه، وهذا الحديث محمول على الوعيد الشديد جداً لمن خالف جماعة الإمام.
[وقال حذيفة: من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه].
وهذا قول يؤيد قول علي رضي الله عنه.
[وقال حذيفة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من فارق الجماعة شبراً فارق الإسلام)].
وهذا الحديث فيه نظر، ففي أحد رواته ضعف يسير.(7/14)
حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات)
[عن أبي الحارث الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات فذكر الحديث بطوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس كلمات أمرني الله بهن)، أي: بخمس خصال وخمس واجبات.
(بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله).
فالجماعة مأمور بها، وكذلك السمع والطاعة والجهاد في سبيل الله والهجرة، أي: الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان، لا من مكة إلى المدينة؛ لأن الهجرة من مكة نسخت إلى يوم القيامة.
[وقال النبي عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: (أنا آمركم بخمس: بالسمع، والطاعة، والجماعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلا أن يراجع)]، أي: إلا أن يرجع إلى الجماعة.(7/15)
حديث: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً)
[عن عبد الله قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً -أي: خطاً مستقيماً- وخط عن يمينه وعن شماله خطوطاً -أي: خطوطاً معوجة يميناً ويساراً- ثم قال: هذا صراط الله مستقيماً، وهذه السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)].
فصراط الله المستقيم هو هذا الخط الذي صوره ومثله النبي عليه الصلاة والسلام بخط مستقيم، والانحراف عن هذا الخط يعني الانحراف عن الإسلام والهدى ومنهاج النبوة، فكلما انحرف المرء عن هذا الخط انحرف عن الإسلام، ويزيد انحرافه عن الإسلام حسب انحرافه عن هذا الخط؛ لأنه يبتعد عن الإسلام بقدر غلوه وتماديه في هذا السبيل الذي سلكه بعيداً عن صراط الله المستقيم.
[ثم تلا ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]].
وجاء ذلك أيضاً عن ابن عباس وجابر بن عبد الله، فقد قال [جابر رضي الله عنه: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً هكذا أمامه -يعني: خطاً مستقيماً- فقال: هذا سبيل الله، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال: هذه سبل الشيطان، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم قال هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153])].(7/16)
حديث: (من عمل لله في جماعة فأصاب تقبل الله منه)
جاء في رواية [ابن عباس قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من عمل لله في جماعة فأصاب تقبل الله منه)]، أي: من عمل لله وهو في داخل الجماعة تقبل الله منه، [(وإن أخطأ غفر الله له)] وبهذا تعلم بركة العمل في الجماعة.
فلو أوكل إلى شخص معين أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة العمل، فعمل هذا مجلة، وهذا انشغل بالخطابة، وهذا بكذا، فهؤلاء انشغلوا في المصلحة العامة للمسلمين، وهذا العمل صورته صورة عمل جماعي، فالعمل الجماعي على هذا النحو مشروع بلا خلاف بين أهل العلم، بل حتى الحيوانات والحشرات والدواب تعمل عملاً جماعياً، حتى النمل والنحل تعمل عملاً جماعياً، ولا يلزم أن يكون لها أمير معين من قبل الخليفة.
فالعمل الجماعي الذي يكون لله عز وجل لا يشترط له إمارة ولا بيعة ولا سمع ولا طاعة، فحينما يقوم واحد بأمر الدعوة مثلاً، ويتعاون مع غيره من الدعاة أو الشيوخ، فهذا عمل جماعي.
وهذا لا يستلزم بالضرورة أنني أسمع وأطيع له، ولو أنه أميري لما كان يوجد شيء اسمه حر في هذه الحالة.
ولو أن قاضياً تعين للقضاء فكان يذهب إلى المحكمة ويضع رجلاً على رجل ويقول: أنا لست قاضياً، ولن أحكم بين الناس، ولن أفصل في المنازعات؛ لم يصح هذا، بل يأثم عليه؛ لأن الذي عينه على القضاء هو الخليفة أو الأمير.
ولو أنه حكم نفسه بين الناس ولم يتعين عليه التحكيم، بل الناس اضطروا إليه؛ فهذا التحكيم ليس ملزماً له، بخلاف القضاء، فالقضاء ملزم، وله سلطة تنفيذية، وأما هذا فبإمكانه أن يمتنع عن التحكيم من غير أن يأثم.
فالعمل الجماعي إذا كان بصورة اتفاقية بين الناس لإتمام عمل مشروع كالدعوة إلى الله عز وجل، فلا بأس بذلك ولا حرج، وهذا العمل لا يستلزم أمر الإمام.(7/17)
حكم الإمارة في السفر والإمارة في الحضر
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم).
فإمارة السفر إمارة مسنونة ومشروعة، واختلف فيها أهل العلم هل هي واجبة أم مستحبة؟ والراجح أنها مستحبة، وهناك من قال: إنها واجبة؛ لورود النص بها، ولم يقس الحضر على السفر إلا اثنان من أهل العلم ابن تيمية في الفتاوى ثم الشوكاني، فقالا: الإمارة في الحضر جائزة قياساً على الإمارة في السفر، بل الإمارة في الحضر من باب أولى؛ لأن الإمارة في السفر تنتهي بانتهاء السفر، وأما الحضر فإنما دعت إليها ضرورة العمل إلى ما لا نهاية، ولم يوافقهم على ذلك أحد.
ثانياً: إن الذين يركنون إلى كلام ابن تيمية ومن بعده كلام الشوكاني أصحاب هوى، فقد كانوا قبل أن يعلنوا أنهم جماعة يردون على ابن تيمية والشوكاني، وبعد أن أعلنوا أنهم جماعة قالوا في نهاية أمرهم بكلام ابن تيمية وكلام الشوكاني، وهذا يدل على وجود الهوى.
ثالثاً: إن ابن تيمية ومن بعده الشوكاني قالا بجواز الإمارة في الحضر، وهم يقولون بوجوب الإمارة في الحضر، وشتان بين الجواز وبين الوجوب، فـ ابن تيمية والشوكاني لم يقولا بالوجوب، وإنما قالا بالجواز إذا دعت الحاجة والمصلحة إلى ذلك.
والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يربي أصحابه على ذلك، واليوم مثلاً نجد أهل مسجد معين يقولون: لا بد من الجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد، والذي يتخلف يدفع جنيهاً، وهذا الجنيه يوضع في صندوق المسجد، أو يقولون: يلزم كل واحد فينا بأن يصلي الليلة في بيته، فإن لم يقم يعزر بدفع مبلغ كبير، أو بأن ينام على ظهره في المسجد ويرفع رجليه ويجلد عشر جلدات تعزيراً، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يضرب من أجل هذا، ومن لم يكن له وازع من قلبه فلا خير فيه، والذي يسمع النص ولا يتأثر به ولا يعزم من داخله على التزامه فلن ينفع معه الضرب، وإن لم يقتنع تماماً بقولك فلن يقتنع به بعد الضرب، بل سيزداد منه بعداً، وهذه الطريقة التي يعملونها في المساجد هي طريقة في غاية النكارة، ولو سمع الصحابة بهذا لماتوا ضحكاً مما وقع بنا، فأنت ليس عليك إلا أنك تذكره، فإن كان من أهل الذكرى انتفع بها، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
فالذي ليس معه إيمان بالشيء ولا ينتفع بنصيحة فلا خير فيه، وأما أنك تعزره وتؤدبه ثم تهجره فلا، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل).
ولم يضربه أو يعلقه في المسجد وغير ذلك، فلما سمع عبد الله هذه الكلمة ما ترك قيام الليل لا في حضر ولا سفر، ولا في غزوة ولا حرب، فالحر تكفيه الإشارة، والعبد تقرعه العصا، وكان هذا في الماضي، وأما في هذا الوقت فالحر نفسه لا تقرعه العصا.(7/18)
معنى العمل لله في الجماعة
[قال ابن عباس: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من عمل لله في الجماعة فأصاب تقبل الله منه، وإن أخطأ غفر الله له)].
فقوله: (من عمل لله) يعني: أن يكون هذا العمل خالصاً.
والسلف إما زمناً وإما معنى، يعني: أن السلف رضي الله عنهم عند الإطلاق نعني بهم أصحاب القرون الخيرية، وهم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين والأئمة المتبوعون، فهؤلاء هم سلفنا، لكن كلمة (سلف) لها معنى آخر، وهو المنهج، يعني إما أن يكون سلفي الزمن وإما سلفي المنهج، فالسلف عند الإطلاق يعنون به سلفية الزمان الأول وسلفية المنهج، وليس كل من تقدم سلفياً، فالفرق الباطلة ظهرت في القرن الأول الهجري، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وهذا لا يعني أنهم من خير القرون، وإنما يعني أن جل أصحاب هذه القرون هم خير الناس، بخلاف من شذ عنهم وبخلاف من فارقهم، فقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم).
هؤلاء سلفية الزمن والمنهج، ثم يأتي بعد ذلك سلفية المنهج، فـ ابن تيمية كان سلفياً وكذلك ابن القيم وابن نصر المروزي، وغيرهم من أهل العلم قديماً وحديثاً إلى يومنا هذا من الدعاة الذين لا علاقة لهم بهذه الجماعات الموجودة على الساحة، إلا الالتزام بالكتاب والسنة على نهج السلف الصالح، فهؤلاء سلفيو المنهج، وهم الجماعة سواء عرفتهم أو لم تعرفهم، وهم شيء واحد، وقد كان الواحد منهم -أي: في القرون الخيرية- يرسل السلام إلى صاحبه في المغرب وهو في المشرق؛ لأنه يعلم أنهما شيء واحد لاتحاد المنهج، وهذه هي في حقيقتها الجماعة.
وقوله: (وإن أخطأ)، أي: في عمله لله في الجماعة (غفر الله له).
ثم قال: [(ومن عمل لله في الفرقة؛ فإن أصاب لم يقبل الله منه، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار)].
وهذا كلام ابن عباس.(7/19)
حديث النواس بن سمعان: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً)
[روى النواس بن سمعان عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سور وأبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط ولا تعوجوا -أي: لا تتبعوا هذه السبل- وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فالصراط الإسلام، والسور هو حدود الله، والأبواب المفتحة هي محارم الله، وذلك الداعي على الصراط هو كتاب الله، وأما الداعي من فوق الصراط فواعظ الله في قلب كل مسلم)].(7/20)
حديث معاذ: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم)
[عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ السيرة والقاصية والناحية، فإياكم والشعاب -أي: إياكم أن تتفرقوا في الشعاب- وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد)]، أي: وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد.
[وقال عبد الله: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما يكرهون في الجماعة خير مما يحبون في الفرقة].
وقصر الصلاة في موسم الحج في عرفة ومنى ومزدلفة يجوز حتى لأهل مكة وأهل منى، وهذه رخصة من الله عز وجل، وعثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان خليفة وصلى في مسجد الخيف في منى في موسم الحج، فأتم الصلاة، وترك هذه السنة مجتهداً ومتأولاً، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود؛ لأنه حق يجب ظهوره، وبعد أن أنكر عليه صلى معه وأتم، وعثمان كان متأولاً، فأصر على تأويله، فقد كانت له أرض وأهل بمكة، فقال: أنا من أهل مكة، وظن أنه لا رخصة له لكونه من أهل مكة، فاستمر على ما يعتقد، ولما كان هو الإمام كان يلزم الناس أن يصلوا بصلاته ويتمون كما هي السنة كذلك، فلما أتم ابن مسعود خلف عثمان قيل له: يا أبا عبد الرحمن! ألا تدري أن السنة قصر الصلاة؟ قال: نعم، قال: لم صليت خلفه أربعاً؟ قال: الخلاف شر.
ولو كان أحدنا مكان عبد الله بن مسعود لكان فضح عثمان على المنبر، ولألب عليه جميع المسلمين، ولانشق بجماعة وصلى بهم في ناحية من المسجد، ولكن عبد الله بن مسعود رغم وضوح الحق عنده إلا أنه خالف ما عنده من حق؛ لأنه لو صلى أربعاً لا تبطل صلاته، وما دام أنها لا تبطل فلنصل معه بدلاً من إحداث مشكلة، وتقسيم المسلمين فريقين في موسم الحج، فالاختلاف شر.(7/21)
قول مجاهد في معنى آية: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)
[قال مجاهد: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] قال: البدع والشبهات]، أي: لا تتبعوا البدع والشبهات فتفرق بكم عن سبيل الله عز وجل.
[وقال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتم الإسلام فلا ترغبوا عنه يميناً ولا شمالاً، وعليكم بالصراط المستقيم، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء.
فحدثت الحسن بذلك فقال: صدق والله ونصح -أي: صدق للأمة ونصح لها- فحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت: يا بني! أنت حدثت بهذا محمداً، تعني: أخاها ابن سيرين؟ فقلت: لا.
قالت: فحدثه إذاً].
[وقال الأوزاعي: حدثنا أبو عمار قال: حدثني جار كان لـ جابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاء جابر يسلم عليَّ، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً)].(7/22)
حديث ابن عمر: (من خلع يده من طاعة)
وعن نافع وسالم عن عبد الله بن عمر قال: [جاء ابن عمر إلى عبد الله بن مطيع فلما رآه قال: ألا أحدثك بحديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟ سمعته يقول: (من خلع يده من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)].
وهذه البيعة هي بيعة الخليفة الأعظم، وليست بيعة هؤلاء، وقد قابلت رجلاً كبيراً -عليه رحمة الله- من علماء المسلمين الأجلاء، وكان من أفذاذ أهل العلم في الحديث والفقه، وله في الحديث والفقه مصنفات عظيمة جداً، وقلت له: يا شيخ! هل بايعت أحداً؟ قال: نعم، في رقبتي يا بني بيعة لفلان، قلت: ولما مات فلان هل بايعت من بعده؟ قال: لا.(7/23)
حديث عرفجة: (إنها ستكون هنات وهنات)
[وقال: عرفجة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها ستكون هنات وهنات، فمن جاءكم يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه كائناً من كان)]، يعني: إذا كان أمر الخليفة قائماً ومعه جماعة المسلمين، ثم ظهر شخص يقول: أنا خليفة، فاضربوا عنق الثاني كائناً من كان، وهذا عند العلماء بالإجماع، كما نقله النووي وابن عبد البر وغيرهما، أي: اضربوا عنقه إذا لم يندفع إلا بالقتل، أما إذا أمكن دفعه بغير القتل فادفعوه بغير القتل ويحرم عليكم قتله.
يعني: إذا كان الخليفة قائماً وقد بويع له ثم أتى آخر يقول: أنا الخليفة، وإذا كنتم بايعتم فلاناً، ففلان وفلان وفلان بايعوني، فأنا كذلك خليفة، فيجب أن يرد هذا الرجل عن بدعته التي أتى بها، فإن رد بالترغيب والترهيب والتهديد وغير ذلك، فلا يحارب بغير هذا ولا يدفع بغيره، وإذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل وجب على الخليفة الأول وجماعته قتله، وليس على أفراد الناس.
نكتفي بهذا القدر.
ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه!(7/24)
شرح كتاب الإبانة - ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة [1]
الاعتصام بالسنة والتوحيد من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده المسلمين، ففيه الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة، ولن تسعد الأمة المحمدية إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، والائتلاف وعدم الاختلاف، وترك محدثات الأمور والبدع والضلالات التي ليست من الإسلام في شيء.(8/1)
فضل الاعتصام بالسنة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
في الدروس الماضية تكلمنا عن ذم الفرقة والاختلاف، والأمر بالاتفاق والائتلاف من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، قال في كتابه العظيم الممتع وهو ما طبع بعنوان: الفرقان بين الحق والباطل، وهو غير كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ لكن الثاني مشهور أكثر من شهرة الأول، وكلاهما جزء قد استل من الكتاب الأم وهو: مجموع الفتاوى.
قال ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه: (الفرقان بين الحق والباطل): فخير للمرء أن يلقى الله تعالى مؤمناً، ولو كان مبتدعاً من أن يلقاه على الكفر البواح.
أولاً هذا الكلام لا يفهمه إلا ابن تيمية ومن مثله أو فوقه، كما أن هذا الكلام لا يقبله إلا من شرح الله تعالى صدره للحق.
يقول ابن تيمية: بعض الشر أهون من بعض، فلأن يلقى الله تعالى رجل مسلم متشيع أو قدري أو معتزلي أو أشعري أو غير ذلك من أصحاب هذه الفرق، خير من أن يلقاه كافراً كفراً بواحاً، وهذا الكلام في غاية القبول، وابن تيمية يقول هذا الكلام في المرتبة الثانية، أما المرتبة الأولى فهي ما نقل عن أبي الأسود الدؤلي وميمون بن مهران وغير واحد من السلف أنهم قالوا: والله لا ندري أي النعمتين علينا أعظم: أن هدانا الله للإسلام، أم عصمنا في الإسلام إلى سنة وتوحيد.
أي أن كثيراً من السلف قالوا: والله لا ندري أي النعمتين لله عز وجل علينا أفضل من الثانية: أن من الله تعالى علينا بالإسلام فأسلمنا، أو أن الله عصمنا في الإسلام إلى سنة، فلم نزغ ولم ننحرف، نحن لا نعرف أي واحدة أعظم من أختها، هل الإسلام أعظم من الثبات على الحق، أو أن الثبات على الحق في الإسلام أعظم من الإسلام نفسه.
فالذي يتكلم عنه ابن تيمية إنما هو في الرتبة الثانية، أما الرتبة الأولى فهي أن تكون مسلماً صاحب حق، وهذا الحق لا يعرف إلا من خلال قال الله وقال الرسول وقال الصحابة.
أي: فهم الصحابة من قول الله شيئاً، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
ولذلك كل الفرق الضالة والجماعات لا تخلو من انحراف عن النهج السديد في هذا العصر الراهن، والجماعات ليست فرقاً، لكن كل واحدة من هذه الجماعات انحرفت عن كتاب الله وعن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ولو شيئاً يسيراً.
أما هذه الفرق الضالة فقد انحرفت، بل وأبعدت بانحرافها إلى أقصى درجات الانحراف؛ ولذلك هي الفرق التي خالفت أصل الرسالة وأصل الشرع الذي جاء به الله تعالى من السماء على لسان رسوله الكريم، فهذه استحقت الوعيد بالنار، أما هذه الجماعات فعلى قدر انحرافها، إلا أننا نرجو الله تعالى أن يغفر لهذه الجماعات؛ لحسن ظنها ولجهدها المبذول في سبيل نصرة الإسلام على نهج النبي عليه الصلاة والسلام.
أقول هذا مع إثبات الانحراف لهذه الجماعات، أو لمعظم هذه الجماعات؛ ولذلك فإن من سعادة المرء الناشئ ألا يرتبط بجماعة من هذه الجماعات، بل يرتبط بالكتاب والسنة، وإن ادعت كل جماعة أنها على الكتاب والسنة، لكن هيهات، مع قول الشاعر: وكل يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا فكل يقول: إنا على الكتاب والسنة، وليست العبرة بادعائك الكتاب والسنة، أو بسيرك حقيقة وفق قول الله وقول الرسول، ولكن العبرة من الذي فهم قول الله وقول رسوله، هل فهم فهم الجماعة، أم فهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة بن الجراح وعبادة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وغير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم.
إذاً: العبرة ليست في اعتمادك على آية أو حديث، وإنما العبرة في اعتمادك على فهم السلف لهذه الآية ولهذا الحديث.
ولذلك هذه الجماعات في لحظة صدق مع الله عز وجل، ولحظة صفاء فردي؛ لابد أن تراجع حساباتها من أول الأمر إلى آخره، فإن كانت صادقة مع الله عز وجل، فإنها ستراجع منهجها الذي أسست عليه، وأعتقد أن المناهج التي أسست عليها هذه الجماعات ووضعها زعماؤهم القدامى، تختلف عما عليه الجماعات الآن، فإن أي جماعة من هذه الجماعات قد وضع لها قائدها الأعظم ومؤسسها الأول نهجاً علمياً هو نهج سلفي لا محالة، لكن إذا نظرت إلى هذه الجماعات الآن وجدت أنها لا علاقة لها بالعلم لا من قريب ولا من بعيد، مع أن إمامها الأول إنما ابتغى أن تصل هذه الجماعة إلى ذروة العلم، ولكن من أتى بعده خالف نهجه شيئاً ف(8/2)
باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها وفضل من لزمها
قال ابن بطة رحمه الله: [باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها، -أي: بالسنة- وفضل من لزمها]، أي: لزم السنة وجماعة المسلمين.(8/3)
حديث العرباض بن سارية: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)
[قال عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي: أتينا العرباض بن سارية رضي الله عنه، وكان من الذين أنزل الله فيهم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]]، يعني: كان رجلاً فقيراً، ولكنه كان محباً للجهاد.
فكان يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليحمله، -أي: ليجهزه للقتال- فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أجد ما أحملكم عليه، اذهبوا إلى فلان لعله يحملكم، فيذهبون إليه فيحملهم، ثم يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقولون له: قد حملنا فلان، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله).
قالا: [فدخلنا فسلمنا عليه فقلنا: أتيناك زائرين وعائدين]؛ لأنه كان مريضاً، [ومقتبسين] أي: متعلمين العلم، [فقال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا)]، أي: بوجهه، وهذا من السنة لمن صلى إماماً بقوم أن يقبل عليهم بوجهه، ويستدبر القبلة.
[قال: (ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون -أي: دمعت دمعاً شديداً- ووجلت -أي: خشعت- منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع)] هذه الموعظة ليست على منوال المواعظ السابقة.
[قال: (فكأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ -ماذا تأمرنا وتوصينا؟ - فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً)]، وهذا مثال وإن كان محالاً إلا أنه ضربه للزوم الطاعة إن تولى الإمام، فقوله عليه الصلاة والسلام: (الأئمة -أي: الخلفاء- من قريش) معناه: أنه لا يجوز أن يتولى أمر المسلمين خليفة ليس قرشياً، وإذا دعت الضرورة إلى أن يتولى غير الإمام أمر المسلمين فلابد أن يكون حراً، لا أن يكون عبداً فضلاً عن عبد حبشي مجدع الأطراف، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: حتى وإن تولى عليكم عبد حبشي مع أنه محال، لكن إن تولى عليكم فاسمعوا له وأطيعوا، أو ربما يكون الإمام الذي بمعنى الخليفة هو الذي عين الوالي والأمير على مصر من الأمصار وكان عبداً.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً)]، يعني: فتناً كثيرة وقتلاً وهرجاً، وبعد أن وصف الداء وصف عليه الصلاة والسلام الدواء، فقال: [(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)]، هذا أحد شقي العبادة، إذا ظهرت الفتن: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء) أي: تمسكوا بهديي وهدي الخلفاء الراشدين الذين هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رغم أنف الرافضة ورغم أنف الشيعة، وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم خلفاء راشدون مهديون، وأمرنا بالتمسك بسنتهم، وقد انعقد الإجماع على أن الخلفاء الراشدين إذا أجمعوا على مسألة أو على أمر من أمور الشرع فإجماعهم حجة كقال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وإياكم ومحدثات الأمور -أي: البدع في الدين- فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].(8/4)
أقوال معاذ بن جبل في وجوب لزوم السنة وترك البدعة
قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: أدركت أبا الدرداء ووعيت عنه، وأدركت عبادة -أي: ابن الصامت - ووعيت عنه، وأدركت شداد بن أوس ووعيت عنه، وفاتني معاذ بن جبل، فأخبرني يزيد بن عميرة أنه كان يقول في مجلس يجلسه: الله حكم قسط -أي: عدل- تبارك اسمه، هلك المرتابون -أي: الشاكون في ذلك- إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتبعوني؟ ثم يقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره].
انظروا، يعني: أنه ينتشر تيار العلم حتى يقرأ القرآن من لا يستحقه؛ لأنه ما قرأه إلا لأجل أن يتصدر به المجالس، أو يترأس به الناس، أو ليتشرف به الزمان، أو ليحصل بالقرآن على ملذات الدنيا وشهواتها، وأنتم تعلمون أن هذه الكراسي فتن، وهي التي حذر منها النبي عليه الصلاة والسلام، فقديماً كانت تعلم إمامة الرجل بعلمه وتقواه، فلم تكن هناك مناصب ولا كراسي ولا مسئوليات إدارية وغير ذلك، وإنما أعطي أحمد بن حنبل الإمام بعلمه وتقواه رحمه الله، وكذلك الشافعي وكذلك مالك وسفيان والبخاري ومسلم وغير واحد، بل هم ألوف مؤلفة في كل عصر من عصور سلفنا، كيف عرفت إمامة هؤلاء؟ هل لأنهم تولوا مشيخة الأزهر؟ أو لأنهم كانوا نواباً لرئيس الدولة، أو كانوا قضاة وأمراء؟ لم يكن من ذلك شيء، بل إنهم كانوا يفرون من ذلك فرارهم من الأسد، بل كانوا يعتبرون أن عملهم الذي كان سراً إذا ظهر على الناس كان ذلك من باب الرياء، وكان الواحد منهم إذا أراد أن يعمل لله عملاً أسره، فإذا اطلع عليه إنسان أخذ عليه العهود والمواثيق ألا يتكلم بهذا إلا بعد أن يموت إن أراد أن يتكلم، وبذلك كافأهم الله تعالى بحسن إخلاصهم بمن يبرز لنا بعد موتهم ما قدر رأوه من إخلاصهم وعملهم وعبادتهم.
أما الآن فالرجل تُعرف إمامته كذلك بدينه وعلمه وتقواه وصلاحه، لكنه قد أبى قوم إلا أن يقتحموا أبواب السلاطين؛ تارة للرياسة، وتارة للرفعة، بزعمهم أن الرياسة والرفعة في طرق أبواب السلاطين، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ومن اقترب من السلطان افتتن)، أي: وقع في الفتنة، فسار الواحد منهم على الجادة والاستقامة في قوله وعلمه وعمله، حتى إذا تولى منصباً من هذه المناصب الزائلة غيَّر دينه واتبع هواه، وانقلب على أهل الصحوة يسبها ويلعنها، ويدعي أن أهلها خوارج العصر.
أقول: قد سمعنا من جل هؤلاء قبل تولي المناصب أننا خيرة الشباب، ولم تشهد العقود الماضية صحوة كما شهدها هذا العصر، وهذا بشهاداته وبشهادة المخلصين فيه إلى يومنا هذا، ولكن المنصب يغير القلوب ويغير النفوس؛ خاصة لمن أراد أن يحافظ على هذه المناصب.
ويكفينا فخراً أن هذه الصحوة إنما هي محض فضل الله عز وجل على هذه الأمة، فليس لأحد من البشر في هذا البلد فضل على هذه الصحوة، بل ابتداءً من شيوخ الأزهر السابقين إلى الشيخ الحالي لا يجرؤ واحد منهم وممن دونهم في هذه المناصب أن يدعي أن له فضلاً على الصحوة لا من قريب ولا من بعيد، بل استمدت هذه الصحوة قوتها وثباتها وتأييدها ونصرتها على أهل الباطل من الله عز وجل أولاً، ثم من العلماء الربانيين العاملين لله بتقى، سواء كانوا من أهل البلد أو من خارج البلد، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، سواء كانوا أمهات أو بنات، إنما وقف بجوار هذه الدعوة أناس من أهل العلم يريدون أن يعملوا لله عز وجل، لم تحركهم إلى ذلك شهرة ولا نسب ولا حسب، وإنما تحركوا بفضل الله عز وجل لإعلاء راية الإسلام.
إن أصحاب هذه المناصب من أهل العلم نحن نقر لهم بالعلم، ومن سلب العلم عنهم فإنما نطق بالباطل وأعان على الظلم، لكن الواحد منهم إذا دعي إلى محاضرة تثور حافظته ويجن جنونه إذا لم يحضر أحد لسماعه، فإذا دعي غيره من العاملين على الساحة حضر المئات بل الألوف واجتمعوا عليه؛ لما يعلمون من صدقه من قلوبهم، ولما علموا عليه من استقامة وحسن التزام.
فالأمور لا تطلب بعلم فحسب، فإن مؤهلات القبول بيد الله عز وجل؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الله عبداً أمر جبريل أن يحبه، ثم نادى جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله تعالى فلاناً أمر جبريل أن يبغضه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، ثم لا يوضع له القبول في الأرض).
إذاً: القبول بيد الله عز وجل، ولا علاقة له بغير الله.
قال: (قال: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتبعوني؟) أي: ما بالهم لا يجتمعون علي وقد تعلمت القرآن وتعلمت تفسيره وتأويله وناسخه ومنسوخه وغير ذلك مما يختص بالقرآن الكريم.
قال: (ثم يقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع(8/5)
حديث علي بن أبي طالب: (المتمسك بدينه في الهرج له أجر مائة شهيد)
قال: [ومن رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المتمسك بسنتي في دينه في الهرج -أي: في الاختلاط والفتن والقتل- له أجر مائة شهيد)].
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أنه يشهد له ما أخرجه مسلم من قوله عليه الصلاة والسلام: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)، أي: العبادة في القتل والفتن تعادل في الثواب هجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إلى الله عز وجل: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله).
قال: (العبادة في الهرج) ولم يقل: المشاركة في الهرج؛ ولذلك أنصح الشباب أنه لا يخلو عصر من العصور من فتن وخلافات وإشكاليات ومنازعات وخصومات بين الأكابر والدعاة والشيوخ، وربما يكون الحامل على ذلك الغيرة على دين الله عز وجل، وربما يكون الحامل على ذلك العزة بالإثم، وربما الحامل على ذلك الحسد، وربما يكون الحامل هو الإحراج من الإقرار بالخطأ وغير ذلك من الأسباب.
ويقول ابن عباس: كلام الأقران يطوى ولا يروى، أي: كلام الأقران الذين هم في منزلة واحدة ورتبة واحدة من العلم، فإذا تكلم بعض أهل العلم في البعض الآخر فيجب عليك أن تطويه ولا ترويه، ولا تشهر به، ولا تعتبره حجة على الخصوم والأقران في الناحية الأخرى، وإنما يجب عليك ألا تلتفت لمثل هذا، بل خذ الحق من كل من جاء به، وإن كان يهودياً أو نصرانياً، ورد الباطل على كل من جاء به وإن كان إماماً من أئمة المسلمين.
ولذلك يحدث لكثير من الشباب في هذا الزمان في هذا البلد وفي غيره؛ أنهم يتلقفون بعض السوءات والعورات التي تحدث من بعض الشيوخ، فيشعلونها ناراً وفتناً، ثم يشغلون أنفسهم بها، وهم بعد لم يتعلموا ما أوجب الله تعالى عليهم وفرض عليهم من صلاة وصيام وزكاة وحج وطهارة وغير ذلك.
وبئس ما تشغل المرأة به نفسها حينما تقول: أنا لا أدري أي الناس على الحق: فلان أو فلان؟ وهي بعد لم تتعلم كيف تخرج من بيتها، ولا تعرف إذا غسلت ولدها ومست عورته ما الذي يجب عليها، وإذا سألتها في أصول دينها تقول: ليس هذا الآن مهماً، المهم الآن أن نعرف أي الفريقين على الحق، وأي الفريقين أحق بالأمن، عجيب! والناظر في كلام أهل العلم يرى عجباً؛ يرى أهل العلم عندما صنفوا كتبهم إنما قدموا في أول كتبهم شرائع الإسلام، تكلموا عن العلم والإيمان، ثم تكلموا عن التوحيد والإخلاص لله عز وجل، وتكلموا عن الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج؛ والنكاح والطلاق، والرضاع والديون والكفارات، والأيمان، والنذور، وحينما ينتهون من ذلك قالوا: كتاب الفتن.
لكن الشباب اليوم يبدءون من حيث انتهى أهل العلم، فهذا يدل على أن النهج الذي سلكه طلاب العلم الآن نهج غير سديد.
يقول الإمام الذهبي نقلاً عن أبي علي الأبار أنه قال: نزلت بالأهواز يوماً فوجدت رجلاً قد حف شاربه، وأخذ عصاً في يده، واشترى كتباً، وتعين للفتوى أي: فرض على نفسه الفتوى، وقال للناس: الفتوى في حقي فرض عين، أرأيتم من الذي عينه؟ هو الذي عين نفسه، وللأسف الشديد أن الدعاة والشيوخ في هذا الزمان يعينهم تلاميذهم وأبناؤهم، بخلاف منهج السلف، فإن الواحد منهم ما كان يتكلم بشيء من العلم إلا إذا زكاه غير واحد من مشايخه، وممن تخرج هو على أيديهم ودرس عنده الكثير.
أما اليوم فإن شباب الصحوة هم الذي يرفعون فلاناً ويخفضون آخر، أمور كلها معكوسة، ومع هذا تدعي الصحوة أنها صحوة السلفية، وأنها صحوة مباركة، نعم هي سلفية ومباركة في جوانب، ولكنها في جوانب أخرى لابد أن تراجع حساباتها من الآن قبل فوات الأوان.
قال: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم عن الفتن ماذا يفعلون، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كونوا أحلاس بيوتكم)، والحلس: هو الذي يكون ملازماً وملاصقاً لعقر داره، يعني: لا يكفيك تماماً أنك تقف أمام بيتك وتلصق ظهرك به، بل لابد أن تكون داخل البيت وفي أصغر مكان في البيت، وهذا للمبالغة في الابتعاد عن الفتن، ولزوم النهي عن الخوض فيها، أنسيتم قول النبي عليه الصلاة والسلام في الفتنة: (كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.
قالوا: ماذا نصنع يا رسول الله؟! قال: كن كخير ابني آدم)، يعني: أنا بإمكاني أن أكون قاتلاً، فإذا دعا الأمر إلى القتل إما أن أكون قاتلاً أو مقتولاً ولا خيار ثالث لي، فعند ذلك أترك سبب الفتنة مكتوفة يداي حتى أقتل، فألقى الله تعالى كما لقيه أفضل ابني آدم حيث قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:29]، وأما أنا فلا أريد أن أكون من أصحاب النار.
وهذا الكلام لا يكون إلا في الفتنة، أما في الأحوال العادية فقد شرع الشارع الدفاع عن النفس ودفع الصائل، وإذا كان(8/6)
حديث أبي هريرة (من دعا إلى هدى)
[قال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)].
وهذا الحديث يساوي حديثه عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة -أي: في الإسلام-، فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
يتصور بعض الناس أن البدعة الحسنة هي السنة الحسنة، وأن البدعة إذا كانت حسنة فلا بأس بالتمسك بها والعمل بها والدعوة إليها.
أقول: إذا كان هذا في أعمال الدنيا وليس في دين الله عز وجل فيا حبذا ونعمت البدعة؛ ولذلك هذه المخترعات والمحدثات التي حدثت في عمارة الكون، إنما هي ضريبة العقل التي فرضها الله عز وجل على عباده، أما بدعة الدين فإنها ضلالة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وكل بدعة ضلالة)، أي: وكل بدعة في الدين ضلالة، وليست حسنة، بل فيها الوزر لمن ابتدعها ولمن سار عليها وهو يعلم أنها بدعة، وأنها ليست من دين الله عز وجل.
ولذلك يحتجون بقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها).
والحجة الثانية لهم قول عمر إن صح عنه: (نعمت البدعة).
لما جمع الناس على صلاة التراويح بعد أن أذن النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة أن يجتمعوا للصلاة في الليلة الأولى والثانية؛ فلما كثروا في الثالثة دخل بيته وتركهم، ثم استمر الحال على صلاة التراويح في البيوت في زمن أبي بكر وفي نهاية زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وردحاً من خلافة عمر، حتى جمعهم عمر على أبي بن كعب في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قيل له: إنها بدعة يا أمير المؤمنين! لم يفعلها قبلك أبو بكر الصديق.
قال: نعمت البدعة، واحتج بقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة)، وهذا احتجاج صحيح وبعد نظر من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
فإن مناسبة الحديث أن قوماً من مضر أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في مسجده جياعاً قد أثر فيهم الجوع فلما رآهم عليه الصلاة والسلام تغير وجهه؛ لِما رأى بهم من فقر وحاجة وجوع، فلمح النبي عليه الصلاة والسلام ولم يصرح حفاظاً على شعور القوم، فعرف أحد أصحابه في وجهه الغضب والتغير؛ فقام إلى بيته فأتى بما عنده من طعام وملبس وخبز، ووضعه على النطع -أي: على شيء مفروش- بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى الصحابة تهلل وجه النبي عليه الصلاة والسلام بصنيع صاحبهم قام كل منهم إلى بيته فأتى بما عنده، فوضعه في النطع وحملوه حتى كادت أيديهم أن تكل -أي: تعجز عن حمله- ويقول الراوي: بل قد كلت، أي: تعبت وعجزت عن حمل هذا النطع؛ لما اجتمع عليه من الطعام والشراب والملبس؛ فحينئذ قال النبي عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى أول من صنع ذلك: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة -أي: ابتدع فيه بدعة وهي سيئة- فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
إذاً: هل هذا الرجل الذي قام أولاً وأتى بما لديه من طعام وشراب قد ابتدع في الإسلام بدعة حسنة، أم أن أصل الصدقة قد جاء الحث عليها في الكتاب والسنة؟
الجواب
هذا الشخص لم يأت من عنده بشيء، وكذلك عمر احتج بهذا الحديث وقال: نعمت البدعة؛ لماذا؟ لأنه أحيا سنة كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأت هو بشيء من عنده، وإنما أحيا سنة موجودة في الإسلام على الحقيقة، (فمن سن في الإسلام): أي: من أحيا سنة في الإسلام جاءت في شرع الله عز وجل، فله أجر إحيائها، وأجر آثارها ومن تبعه فيها، ولا يتأثر أجر كل من تبعه، وفي هذا الحديث غنية.(8/7)
إحداث أمر ليس من الدين مردود لا يقبله الشرع
قال: [قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من فعل في أمرنا ما لا يجوز فهو رد)، وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)]؛ فقوله: (من سن في الإسلام سنة حسنة) لابد أن تضبطها بهذا الحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
فقوله: (من أحدث حدثاً): أي: ابتدع في دين الله بدعة ضلالة في الاعتقاد، وصارت لها أصول، كأصول الخوارج، وأصول المعتزلة، وأصول المرجئة، وأصول الرافضة وغير ذلك من هذه الأصول القديمة.
قوله: (أو آوى محدثاً): يعني: خبأه حتى لا يؤدب ولا يحاسب ويعاقب على ابتداعه في دين الله، فإن الذي يبتدع في دين الله عز وجل كأنه يتهم الله تعالى بأنه لم يكمل الشرع ولم يتم نعمته، ويتهم النبي عليه الصلاة والسلام بعدم البلاغ عن ربه.
ولذلك الشافعي رضي الله عنه ورحمه يقول: من ابتدع فاستحسن فقد شرع.
أي: من ابتدع في دين الله عز وجل، واستحسن ما ابتدعه فقد قال للناس: هذا شرع فالزموه ولا تتركوه.
ومن العجب العجاب أن هذا المجلس المسكين الذين يسمى بمجلس الأمة في بلد عربية إسلامية، أو مجالس الشعب، وإن شئت فقل: مجالس الشغب والتضييع، ومجالس الجهال أرباع المثقفين فيه الذين لا يعرفون كيف يتطهرون.
إن ابن تيمية لا يزال باقياً في الدنيا، هو باق بعلمه ودينه وعدله، أما هؤلاء فلا يعرفون شيئاً عن دين الله ولا عن أئمة الدين سلفاً، ومع هذا تجدهم يشرعون، ويقدرون الأيام والشهور لما اخترعوه وابتدعوه وفجروا به وحادوا الله تعالى ورسوله، ظناً منهم أن ما قد أتوا به هو في غاية الحسن وفي غاية الروعة، ولا يدرون أن هذا عليهم حجة؛ لأن من شرع فاستحسن فقد كفر.
فترى الواحد منهم يصلي ويصوم، ويأتي مجالس اللهو للراقصات والمغنيات واللاعبين والفئة الفاجرة في المجتمع.
حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
قوله: (في أمرنا هذا): أي في ديننا وفي شرعنا، فلا يحل لأحد أن يُحدث في دين الله ما ليس منه، لابد من وضع هذا الحديث مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) إلى آخر الحديث.
هذان الحديثان يمثلان قطبي الرحى في قبول العمل عند الله عز وجل: حديث يدعو إلى الإخلاص في القول والعمل، والثاني: يدعو إلى التحذير من الابتداع في دين الله عز وجل.
ومفهوم المخالفة هو الاستقامة على منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، وعدم الانحراف عن دينه وشرعه وسنته، وهذا كله يجمعه قول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، أي: إذا أراد أن يلقى الله تعالى على أحسن حال يجب عليه أمران: أن يعمل عملاً صالحاً، ولا يوصف العمل بالصلاح إلا إذا كان على منهاج النبوة، كما أنه لا يشرك بعبادة ربه أحداً، يعني: يكون مخلصاً في أداء هذا العمل المشروع المسنون، وألا يفعله إلا لله عز وجل.
إذاً: الإخلاص والمتابعة هما شرطا القبول عند الله عز وجل.(8/8)
حديث جابر في الأمر باتباع كتاب الله وهدي نبيه والتحذير من البدع
قال: [عن جابر بن عبد الله قال: (خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال على إثر ذلك، وقد علا صوته واشتد غضبه واحمرت وجنتاه، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم أو مساكم)]، وهذا حاله عليه الصلاة والسلام إذا خطب، خاصة إذا ذكر الجنة والنار، يعلو صوته، ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه، وتحمر وجنتاه، كأنه منذر جيش يقول: (أنا النذير العريان) ويقول: (صبحكم أو مساكم) أي: صبحكم العدو أو مساكم العدو، يعني: أقبل عليكم العدو بكرة أو غدوة.
ثم قال: [(بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والتي تلي الإبهام)] يعني: السبابتين أو السبابة والوسطى لتلاحقهما، وأنه لا فرق بينهما، وأنه ليس بعد السبابة إلا الوسطى، أو ليس بعد الوسطى إلا السبابة، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده حتى تقوم الساعة، قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، فبعد النبي صلى الله عليه وسلم الساعة، وبالتالي هذا نص يؤكد لنا أنه ما من أحد ادعى النبوة إلا وهو كاذب، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقوم الساعة حتى يدعي ثلاثون أنهم أنبياء)، وفي رواية: (حتى يدعي ثلاثون من أمتي أنهم أنبياء).
وأنتم تعلمون أن شبرا فقط فيها حوالي ثلاثين نبياً، والمعادي كان فيها من قبل ثلاث سنوات من يدعي النبوة، وأحمد صبحي منصور ادعى أنه نبي، وشيخه رشاد خليفة كان نبياً أولاً ثم ترقى حسب زعمه إلى أن أصبح إلها!! ولا يزال الأنبياء والآلهة في تقدم وفي كثرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنهم أنه سيظهر ثلاثون شخصاً يدعون النبوة؛ ولذلك ظهر في عصر النبي عليه الصلاة والسلام أنبياء كذبة، مثل الأسود العنسي ومسيلمة وغيرهما، وظهر في زمن التابعين وفي كل زمن وكل عصر، فعندما تعد المشاهير من هؤلاء الأنبياء ستجدهم ثلاثين أو ما يناهز الثلاثين، لكن غير المشاهير بالآلاف، بل إن شخصاً لو حفظ كلمتين يقول: أنا نبي.
إذاً: إما أن نحمل ذكره عليه الصلاة والسلام العدد في الرواية على مجرد الكثرة، مثلما تقول لصحابك: أين أنت يا أخي؟! قد أتيت إلى بيتك مائة مرة، في حين أنك أتيت إلى بيته ثلاث مرات أو أربع مرات، وإنما قلت هذا للكثرة، وهذا ليس من باب الكذب في شيء.
فإما أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (سيظهر في أمتي ثلاثون دجالون كذابون كلهم يدعي النبوة) على مجرد الكثرة ولا يقصد تحديد العدد، وإما أنه عليه الصلاة والسلام قصد أن هؤلاء الثلاثين إنما هم الذين يذاع أمرهم وينتشر بين العامة والخاصة.
الشاهد: قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تليها يعني: السبابة.
[ثم قال: (إن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها)]، يعني: شر شيء أن تحدث في دين الله ما ليس منه [(وكل بدعة ضلالة)].(8/9)
نصيحة عبد الله بن مسعود لأمة محمد بلزوم الجماعة وتقوى الله والصبر
[عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: عليكم بتقوى الله وهذه الجماعة]، أي: جماعة الإمام الذي هو الخليفة، فعند إطلاق لفظ الجماعة في المصطلحات الشرعية، إنما يقصد بها جماعة الخليفة، فإذا لم يكن للمسلمين إمام ولا خليفة فيكون أئمة المسلمين علماءهم.
قال: [فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة أبداً، وعليكم بالصبر].
أرأيت إلى الكلام الجميل؟ هذا الكلام والله دواء لما نحن فيه من داء، ولذلك هذه النصوص الشرعية لا تريد شخصاً يقرأ الكتاب بسرعة من أوله إلى آخره باسم أنه قرأ الكتاب فحسب، بل لابد أن تقف عند كل حرف خرج من في النبي عليه الصلاة والسلام قرآناً كان أو سنة، حتى تأخذ العبر وتعرف الأحكام، وتتخلق بأخلاق القرآن وأخلاق السنة النبوية.
هذا حديث لـ أبي مسعود.
يقول: (عليكم بتقوى الله)؛ لأنها رأس الأمر، قال: (وهذه الجماعة).
أي: الزموا جماعة الإمام وجماعة الخير ولا تخرجوا عليهم؛ لأنه لا يحل لأحد أن يخرج على جماعة الإمام، فمن خرج على إمامه مقدار شبر فمات على هذه الحال فميتته جاهلية، وفي الدرس الأول نبهت وقلت: لا يتصور شخص أن هذا الحديث يتنزل على الجماعات الموجودة على الساحة أبداً، هذا الحديث وغيره مما يتكلم عن جماعة المسلمين، إنما يتكلم عن جماعة الإمام الأعظم الخليفة.
قال: (عليكم بتقوى الله وهذه الجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة أبداً، وعليكم بالصبر)، ولماذا الصبر؟ أليس معي تقوى الله ومعي الجماعة، فلم أصبر؟ مع أن أهل الجماعة مجمعون على أن الصبر لا يلزم الجماعة؛ وذلك لأنها جماعة قوية، وتستطيع أن تفتك بغيرها من جماعات وتكتلات الكفر، فلم أصبر إذاً؟ الصبر هنا في حالة عدم وجود الإمام، كما في حديث حذيفة بن اليمان أنهم قالوا: (فإن لم يكن لهم يا رسول الله! جماعة ولا إمام؟)، ماذا نعمل حينئذ؟ قال أبو مسعود: [وعليكم بالصبر حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر].
أي: إذا تولى عليكم أحد وكان فاجراً فعليكم بالصبر، ومآله إما أن تستريح بإيمانك، وإما أن يريحك الله من فاجر.
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (مستريح ومستراح منه.
قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا ونصبها وتعبها، وإن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، فليس هناك أمر ثالث، هما أمران فقط، فالمطلوب مني الصبر، بدلاً من أن تدخل معه في معركة، ونهاية هذه المعركة خسران، هذا هو الواقع، وليس الواقع فحسب، بل هذا اعتقادنا من واقع دراستنا لأهل الكفر، ولو لم يكن في الأمر نص وارد، لكفانا الواقع المر الذي تمر به الأمة.
فالصبر في حال الضعف من أعظم العبادات لله عز وجل، أما إذا كنت في حال القوة فالجهاد من أعظم العبادات التي يتقرب بها المرء إلى مولاه؛ رفعاً لراية التوحيد وكلمة الله عز وجل.(8/10)
حديث: (عمل قليل في سنة)
قال: [قال سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: لزم السنة والجماعة]، (وَعَمِلَ صَالِحًا): أي: على منهاج النبوة، ((ثُمَّ اهْتَدَى)): أي بانخراطه في جماعة المسلمين والسواد الأعظم مع الناس.
[وعن الحسن البصري رحمه الله قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عمل قليل في سنة خير من كثير في بدعة)]، وهذا الحديث من جهة الرفع غير صحيح، وإنما ثبت موقوفاً من قول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة: (عمل قليل في سنة خير من اجتهاد كثير في بدعة).
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أحسن العمل أدومه وإن قل) يعني: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، شخص تأتيه الجلالة والنشوة في ليلة من الليالي فيقول: أنا من هذه الليلة سأقوم الليل، ثم يمسك المصحف بيده، ويصلي ثمان ركعات أو إحدى عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة نصف جزء أو ربع جزء، وبعد ذلك في الفجر لا يستطيع أن يتحرك ولا يتكلم، فإذا به ينام وهو ساجد، وتفوته صلاة الصبح وصلاة الظهر وصلاة العصر، ويوقظونه بعتلة بعد العصر! إنما كان يكفيك حينئذ ركعتان ثم ركعتان ثم ركعتان حتى تتعود على ذلك.
في كلية التجارة تقول منكراً: أربع سنوات في سنة؟! فإذا كان هذا التدرج في عمل الدنيا، فمن باب أولى أن يكون التدرج في عمل الآخرة؛ حتى يكتب لك الاستخلاف وأسباب النجاح، أما أن تقفز السلم قفزة واحدة فلابد أن تقع في الأرض، ثم لا يهيأ لك قفز السلم مرة أخرى في حياتك نهائياً؛ فخير العمل أدومه وإن قل.
ولذلك قال غير واحد من السلف: (عمل قليل في سنة)، أي: المحافظة على السنة وإن كان بقدر يسير (خير من أن تكون رأساً في البدعة)، يعني: عندما تكون تابعاً لسنة خير من أن تكون متبوعاً في بدعة، لكن ضعاف النفوس ومرضى القلوب لا يستريحون حتى يتصدروا في المجالس، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أشد تحذير.
قال: (من تعلم العلم ليجادل به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليتصدر به المجالس، فالنار النار) يعني: مصيره إلى النار.
فيا حسرة عبد عمل فيما يراه الناس عملاً صالحاً، فتراه يطحن نفسه بالليل والنهار ولكنه غير مخلص في هذا العمل، ثم لا يكون له في الدنيا ولا في الآخرة حظ من هذا العمل.
عبد لا يكاد يغمض له جفن؛ لأنه يعمل عملاً الأصل فيه أنه لله فيعمله لغير الله، لكنه يوهم العامة أن هذا العمل لله، ثم لا يكتب له القبول في الأرض، ولا يستر عليه يوم القيامة، بل يفضحه الله على رءوس الخلائق.
هذه مصيبة كبيرة، إذ يحدث هذا الشخص فتنة في الدين، ومشاكل مع أبيه وأمه، ومشاكل مع الإخوة، ومشاكل مع الشيوخ والعلماء والدعاة، لم يترك أحداً إلا وآذاه، كل هذا من أجل أن يشار إليه بالبنان.
يقول: أنا رجل صاحب دين، أمار بالمعروف نهاء عن المنكر، والله يعلم ما هو فاعل، إذ لا يخفى عليه سر سبحانه وتعالى، يؤتى به يوم القيامة بعد التعب والنصب في الدنيا فلا يجد له عملاً ألبتة، فلم التعب في الدنيا؟ إن أبا علي الأبار تعين للفتيا واشترى كتباً، وحف الشارب، وكأنه يقول: اسألوني، فقالوا له: ماذا تقول في أصحاب الحديث، الذين هم الطائفة الناجية المنصورة؟ قال: ليسوا بشيء، ولا يساوون شيئاً! سبحان الله! لا يهدأ له بال حتى يغتاب كل أحد؛ ليقال: فلان عالم، فلان رئيس، فلان زعيم، وهذا كله من الغدر بالنفس، فالمرء يغدر بنفسه، وإذا غدر بغيره ينصب له لواء يوم القيامة على رءوس الأشهاد، ويقال: هذه غدرة فلان، فما بالكم بالذي يغدر بنفسه، ويمكر بنفسه ويظلم نفسه؟!(8/11)
حديث: (لا يقبل قول إلا بعمل)
قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة)] أي: بموافقة السنة والتمسك بها والعمل عليها، وهذا حديث كذلك من جهة الرفع غير صحيح، ولكنه قول الفقهاء، وقول أئمة الدين قاطبة، إن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل، ولا يقبل عملاً إلا بنية، ولا يقبل قولاً وعملاً ونية إلا بموافقة السنة.
إذاً: إخلاص، وقول، وعمل، ومتابعة للسنة على منهاج النبوة، فلابد من طلب العلم على أصول موافقة لمنهج السلف، يتبع هذا العلم العمل؛ لأن من لم يعمل بما يعلم لم ينفعه علمه.
الرابعة: أن يكون هذا العمل على هدي النبوة، ويقصد به: العمل الصالح.
[وقال ابن مسعود: إني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وشر الأمور محدثاتها، وإن كل بدعة ضلالة)].(8/12)
حديث سفيان الثقفي: (قل آمنت بالله ثم استقم)
قال: [وعن سفيان الثقفي رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً)] يعني: قل لي قولاً واحداً لا تكثر علي، وهذا القول يكون جامعاً للخير مانعاً لدخول الغير فيه.
[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قل: آمنت بالله ثم استقم)].
فقوله: (قل: آمنت بالله) يشتمل على العمل والإخلاص، (ثم استقم) على منهاج النبوة.
هذا الحديث من أقل الأحاديث مبنى وأعظمها معنى، هذا الحديث يشبه فاتحة الكتاب، فأنتم تعلمون أن فاتحة الكتاب شملت الدين كله، ومن لم يعلم ذلك فعليه بكتب ابن تيمية وابن القيم، فهما من أعظم النعم على هذه الأمة، فإنه من تمسك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لكفى ذلك طلباً للعلم الشرعي، فإنك عندما تقرأ لـ ابن تيمية وابن القيم مهما كانت بك من بلايا ورذائل ونقائص تزال بإذن الله، فإن الآفات الموجودة في الأمة كلها مردها إلى أمرين: شبهة وشهوة، والشبهة تزال بالعلم، ولذلك إذا اعترتك شبهة وذهبت إلى شخص ليزيلها لا يزيلها، لكن إذا ذهبت إلى عالم أزالها، وإذا اعترتك شهوة فإنك تزيلها بسؤال أهل العلم وبتقواك وورعك، إذاً: الأمور كلها والأمراض كلها مردها ومدارها على أهل العلم، إما شبهة وتزال بجواب أهل العلم، وإما شهوة وزوالها بالتقوى والورع.
فهذا ابن تيمية ليس له توسع في السياسة، فهو رجل من أهل العلم فقط، ومع ذلك تعرفون موقفه من التتار، وكان رجلاً شديداً، بل لم تنجب الأمة في الشدة بعد عمر إلا ابن تيمية.
والعجيب أن كل من صنف في ابن تيمية ممن عاصره أو ممن أتى بعده قال: ما تكلم ابن تيمية في فن أو في علم من العلوم إلا وقال السامع أو القارئ: لا يحسن هذا الرجل إلا هذا الفن، يعني: بلغ الغاية في كل فن، وكان ابن تيمية إذا تكلم في الزهد والرقائق صدع القلوب.
وأنتم تعلمون أنه إذا ذكر الوعظ والزهد ولغة القلوب فزعيم ذلك ابن القيم، وابن القيم إنما استقى ذلك من شيخه ابن تيمية.
فإذا كان مرد الآفات كلها في دين الله إلى الشبهة والشهوة، فإنما يكفيك وحسبك من دينك وعلمك وورعك أن تقرأ لهذين الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم.
[قال: (قل لي يا رسول الله! في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك.
قال: قل: آمنت بالله ثم استقم)].
[وقال سلام بن مسكين: كان قتادة إذا قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال: إنكم قد قلتم: ربنا الله].
إن قتادة من أئمة أهل البصرة في زمن التابعين، كان إذا تلا هذه الآية: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا))، يقول لأصحابه: إنكم تقولون: ربنا الله.
إذاً: لم يبق إلا الاستقامة، وهذا كان منهجاً لأهل العلم عليهم رحمة الله.
يذكر أن إسماعيل بن عياش ضحك طالب في مجلسه، وكان لا يسمح أن يضحك طالب في مجلس العلم، فقال إسماعيل للطالب: أتضحك وأنت تطلب العلم؟ فقال الطالب: إن الله تعالى هو الذي أضحك وأبكى، فقال إسماعيل: إن كنت قد ضحكت فابك، لماذا تأخذ من الآية الضحك فقط؟ ونحن نوقن أن الله تعالى هو الذي أضحك، لكنه كذلك هو الذي أبكى، فلم يبك الرجل، قال: إما أن تبكي وإلا فلن أحدثكم شهراً، فكان البكاء صعباً، إذ كيف يجمع بين الضحك والبكاء في مجلس واحد؟ فحين لم يستطع البكاء قام إسماعيل بن عياش وما دخل مجلس العلم -وكان يحضره ثلاثون ألفاً- إلا بعد مرور شهر.
فأول شيء الأدب ثم العلم، وكم من إنسان تعلم العلم ولم يتعلم الأدب فلم ينتفع أحد بعلمه، كما يقول الحسن البصري رحمه الله: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم.
وقيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟ قال: أسمع بالحرف منه فأود لو أن كل جوارحي آذان فتنعم به.
قيل: كيف طلبك إياه؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره.
يعني: امرأة لديها ولد فتاه وضاع، كيف تطلبه هذه المرأة؟ لابد أنها تطلبه بجنون.
فكذلك الشافعي رحمه الله هو سيد المؤدبين في زمانه، يسمع بالحرف من الأدب فيرحل له الأقطار في طلبه، ولذلك كتب الله تبارك وتعالى له الذكر والثناء الحسن الجميل في الدنيا والآخرة.
يقول الشافعي: كنت أهاب أن أقلب الورقة في مجلس مالك مخافة أن أؤذيه بصوت تقليب الورقة.
أما الآن فالطالب يظل يقلب في الكتاب ويسأل الذي بجانبه: اشرح لي كلام الشيخ، وبعد ذلك يرد على الشيخ ويفاجئه بالفصاحة التام(8/13)
الأسئلة(8/14)
جماعة أنصار السنة والفرق الثلاث والسبعون
السؤال
بعض الناس تعتقد أن جماعة أنصار السنة المحمدية كأي فرقة من الفرق الثلاث والسبعين؟
الجواب
من أين أتيت بهذا؟ الذي أعتقده أن جماعة أنصار السنة المحمدية وجماعة الجمعية الشرعية، والسلفيين، من أقرب الجماعات للحق، وكلنا فينا ضعف ونقص يجبره الله تعالى ويغفره، لكن في جماعة أنصار السنة المحمدية الحق، وما ظهرت هذه الجماعات إلا لما رأت أن البدعة تنتشر في الأمة، فقامت هذه الجماعات تنظيمياً للدعوة إلى الخير.
إنك اليوم إذا أردت أن تخطب في المسجد الفلاني، يقال لك: هل معك رخصة؟ فمن أجل انطلاقة الدعوة كان لابد للدعاة من رزق، فقامت الجمعية الشرعية، وجماعة أنصار السنة المحمدية وغيرها من الجمعيات القريبة للحق أو التي على الحق مع ضعف فيها، لكن هذا الضعف ليس من شر وفساد في الاعتقاد الصحيح، لكن هناك بعض الخلل، وبعض الناس يذكر بعض فروخ العلمانية في هذه الجمعيات، لكن ليس هذا هو النهج العام لهذه الجمعيات، مع أنك تجد الآن في جماعة أنصار السنة المحمدية من يقول: إن حديث الذباب الذي رواه البخاري في الصحيح كلام لا أصل له، وعندما تذكر له حديث الذبابة كأن عقرباً لدغته، فيقول: هذا الحديث مكذوب، فعندما تحاول إقناعه يصول ويجول معك، ومرد صولته وجولته إلى العقل.
أما الجمعية الشرعية فبعض الزعماء فيها يذهبون إلى التأويل، لكن ليس هذا نهجاً عاماً للجماعة، وأنتم تعلمون أن رواد الجمعية الشرعية خاصة في أيامنا هذه من الشيوخ والدعاة بل وعامة المصلين، إنما هم على اعتقاد السلف الصحيح، فالدنيا تغيرت.
فالذي يقول: إن جماعة أنصار السنة المحمدية فرقة من الفرق؛ يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل.
وأذكر أن هناك بعض الشيوخ أو الدعاة قالوا: إن الجمعية الشرعية وجماعة التبليغ فرقتان ناريتان، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله! هذا كلام لا يصدر إلا من إنسان فقد عقله، أما أن يصدر من إنسان له عناية بالعلم وله اتصال بواقع الأمة فإنه إنسان من أساسه لا يمكن أن يكون من أهل العلم، وشيء غريب أن ينسب نفسه للعلم أو ينسبه الغير إلى أهل العلم.
فعلى أية حال هذه الجماعات سلاح ذو حدين: فيها وجه خير، وكل جماعة منها تقف على ثغرة من ثغور الإسلام.
أما وجه الشر: فهي أن هذه الجماعات تدعو في الغالب إلى نفسها، لا تدعو إلى الله عز وجل؛ ولذلك أثمرت هذه الدعوة تشدداً ومعاداة بين كل جماعة وأختها.
وهذا هو الوجه القبيح، وإني لأسأل الله تعالى في نومتي كما أسأله في قومتي أن يجمع وأن يؤلف بين قلوب المسلمين تحت راية واحدة، وهي راية النبي صلى الله عليه وسلم.(8/15)
حكم التسمية قبل الوضوء وحكم نسيانها
السؤال
ما حكم التسمية قبل الوضوء، وماذا علي لو نسيتها وتذكرتها في أثناء الوضوء، أو بعد الوضوء؟
الجواب
بعض الناس يتصور أنه لو نسي التسمية في أول الوضوء وتذكرها في أثنائه أو بعده قال: باسم الله أوله وآخره، فالرد عليه: أن هذا ليس طعاماً، وإنما هي عبادة من العبادات، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن يذكر اسم الله عليه)، اتفق جمهور أهل العلم على أن التسمية في أول الوضوء سنة، وليست واجبة، وهذا القول الراجح، ومن نسيها فلا حرج عليه.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(8/16)
شرح كتاب الإبانة - ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة [2]
كلام السلف رضي الله عنهم في لزوم السنة والجماعة، والمحافظة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من السنة كثير، وهو يدل على أهمية ذلك، وأنه عصمة من الزلل، والناظر في كلامهم رضوان الله عليهم يجد أنه يشهد له كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(9/1)
تابع باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها، وفضل من لزمها
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لا يزال الكلام موصولاً عن فضل الجماعة ولزوم السنة، وذكرنا في الدروس الماضية بيان ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وموعدنا في هذه الليلة مع ذكر بعض النصوص لبعض السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين في أهمية لزوم ذلك، والناظر في كلام السلف رحمهم الله -خاصة الصحابة منهم- يعلم علماً يقينياً أنه ما من قائل تكلم في هذا الباب بكلمة إلا ولها أصل يشهد له من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا شأن من عاين الأمر معاينة وعاش معه سنوات كثيرة، ولذلك الواحد منا إذا عاش عيشة معينة أدبية أو نفسية أو غير ذلك يتأثر بها مع مرور الوقت.
فالصحابة رضي الله عنهم لكثرة وطول ملازمتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، ولما كانت السنة وحياً من عند الله عز وجل كاد السلف أن ينطقوا بالوحي، وكادوا أن يكونوا أنبياء، لأنهم اعتادوا لسنوات طويلة ألا يتكلموا إلا بوحي السماء قرآناً أو سنة، ولذلك تجد كلام الصحابة أشبه بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، ويُشتاق لكل قول من كلامهم في لزوم السنة وأهميتها.(9/2)
حديث: (كان قتادة إذا تلا قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا))
فهذا قتادة وهو سيد من سادات التابعين [كان إذا تلا قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]] أي: شهدوا وأقروا بربوبية الله عز وجل، وبأنهم مربوبون لله عز وجل، ((ثُمَّ اسْتَقَامُوا)): على ما أقروا به.
[قال: إنكم قد قلتم: ربنا الله.
فاستقيموا على أمر الله].
أي: إذا كنتم أقررتم بالربوبية والألوهية؛ لأن الإقرار بالربوبية إذا جاء منفرداً شمل معه الإلهية، وإذا كان الإقرار بالإلهية منفرداً شمل معه الربوبية، أما إذا ذكر الإلهية والربوبية في نص أو في دليل فإن لكل واحد منها مدلولاً، فالإلهية لها مدلول والربوبية لها مدلول آخر، كما في قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فهذه الآية قد شملت الإلهية كما في قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ))، والربوبية كما في قوله: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ))، فهذه الآية قد تكلمت عن الإلهية وعن الربوبية في آن واحد، أما إذا قال العبد: (الحمد لله) فإنه قد أقر بالإلهية والربوبية على السواء، وإذا قال: ربنا الله، فإنه أقر بالربوبية والإلهية كذلك، وهذا في معنى قولهم: الإلهية والربوبية إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهذا كالإيمان والإسلام والإحسان.
قال: [إنكم قد قلتم: ربنا الله.
فاستقيموا على أمر الله وطاعته وسنة نبيكم، وامضوا حيث تؤمرون]، أي: استمسكوا بالعمل حيث قد أمرتم.
قال: [فالاستقامة]-أي: فاستقامة المرء على الإسلام [أن تلبث على الإسلام]- أي: أن تقر وأن تعمل بالإسلام [والطريقة الصالحة، ثم لا تمرق منها] أي: لا تخرج من الإسلام، ولا من طريقته الصالحة، [ولا تخالفها ولا تشذ عن السنة، ولا تخرج عنها، فإن أهل المروق من الإسلام] أي: أهل الردة والخروج عن الإسلام، [منقطع بهم يوم القيامة].
أي: منقطع بهم آخر الانقطاع، فلا يصلون إلى الله عز وجل.
قال: [ثم إياكم وتصرف الأخلاق]، أي: وابتعاد أخلاقكم عن أخلاق نبيكم، [واجعلوا الوجه واحداً، والدعوة واحدة، فإنه بلغنا أنه من كان ذا وجهين وذا السانين كان له يوم القيامة لسانان من نار].
هكذا قال قتادة رحمه الله، وهو من سادات التابعين، وتربى على يد أنس بن مالك.(9/3)
أثر ابن عباس: (عليك بالاستقامة)
[قال عثمان بن حاضر الأزدي: دخلت على ابن عباس فقلت: أوصني].
وأنتم تعلمون منزلة ابن عباس فهو من بيت النبوة، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه من كبار أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ممن بذل الغالي والرخيص في سبيل نصرة الإسلام والإيمان، وابن عباس هو ربيب بيت النبوة، وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين)، (علمه التأويل) أي: تفسير القرآن الكريم بمعرفة معانيه وأسراره وحكمه.
[قال عثمان بن حاضر لـ ابن عباس: أوصني.
قال: عليك بالاستقامة، اتبع ولا تبتدع].
قوله: (عليك بالاستقامة) أي: الاستقامة على أمر الإسلام، وعلى أخلاقه وآدابه وعقائده.
قال: اتبع أي: اتبع ذلك كله، ولا تبتدع من عند نفسك شيئاً، فإن من ابتدع في دين الله شيئاً، فكأنما اتهم الله عز وجل بالنقص في شرعه وعدم كماله، واتهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما بلغ عن ربه سبحانه وتعالى.(9/4)
أثر الزهري: (الاعتصام بالسنة نجاة)
[وعن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة]، والزهري من فقهاء المدينة، فإما أن يقول هذا عن متأخري أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أو عن كبار التابعين، كما كان يروي عن أنس بن مالك، ويقرأ عن كبار التابعين، وأي رواية عن الزهري يرويها عن بعض أهل العلم، فيقول: كان من مضى من علمائنا، فمعناه أنها عن الصحابة أو كبار التابعين يقولون: (الاعتصام بالسنة نجاة).
أي: التمسك والاستمساك بحبل الله المتين وبسنة نبيه الأمين نجاة من كل هلكة.
وحبل الله تعالى هو كتابه الكريم، وهو وحي السماء إلى الخلق أجمعين، فهذا الكتاب له طرفان، طرف بيد الله عز وجل، وطرف بأيدي الموحدين، كما جاء ذلك في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً سريعاً]، أي: يرفع رفعاً سريعاً، وتكلمنا في دروس مضت وفي خطب مختلفة أن قبض العلم لا يكون برفع العلم، وإنما يكون بقبض العلماء، فقبض العلماء علامة على نهاية الزمان، وقرب الساعة، وبئست هذه العلامة للناس، وبئس قوم يموت علماؤهم ويبقون هم بلا علم وبلا علماء، كيف يعيشون والعلماء هم منارات الهدى في كل عصر وفي مصر؟ فإذا مات عالم في قرية فأشبه بموت القرية بأسرها، وأنتم تعلمون أن العالم في القرية ينفع أهل القرية في أرواحها وفي عقيدتها، وفي الأخذ بنواصيها إلى الله، فهو كعين تنبع لهم بالماء وتغذيهم؛ لأن العالم يغذي الأرواح والقلوب، ويقيم الأفكار والعقول على كتاب الله عز وجل وعلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف الدنيا فإنها تغذي الأبدان، وشتان ما بين الجنتين.
قال: [والعلم يقبض قبضاً سريعاً، فنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وذهاب العلم ذهاب ذلك كله].
وعن الزهري قال: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً سريعاً، فنعش العلم ثبات الدين، وذهاب ذلك كله ذهاب العلماء.(9/5)
قول ابن مسعود (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)
[وقال عبد الله: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة].
وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد عايش الوحي، ولهذا الكلام عدة معانٍ، يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خير العمل أدومه وإن قل)، والصحابة رضوان عليهم لا يتكلمون بكلام إلا ولكلامهم أصل في كتاب الله أو في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقول ابن مسعود قد قاله غير واحد، ولكنه أول من قال هذا، قال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)، يعني: تداوم على العمل القليل الخيري المستقيم الصالح وإن كان قليلاً، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فهذا في مقدور كل إنسان أن يفعله، ومع هذا لا يفعله كثير من الناس، وأبناء الصحوة لا يفعلون هذا، بل كثير منهم يجيد العلو ووسائله، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بذلك لو كان عملاً صالحاً، لكنه كان يتهلل فرحاً لأصحابه ويستبشر لقدوم غائبهم، وغير ذلك من أخلاقه العالية عليه الصلاة والسلام.
يذكر أن أعرابياً كان يأتي من البادية ومعه طعام، فيهديه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان إذا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يستقبله بالبشر والترحاب، وذات يوم أتى هذا الأعرابي بغير ما كان يتزود به في كل مرة، فاستحيا أن ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام؛ فنزل في سوق المدينة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في السوق، فعرف الرجل، فأتى من خلف ظهره ووضع يديه على عينيه، وقال: (من يشتري العبد؟) وهو ليس عبداً، بل هو حر، فعرف هذا الأعرابي صوت النبي عليه السلام، قال: (يا رسول الله! إذاً: يجدني كاسداً) أي: لن يربح من ورائي شيئاً قال: (لا والله بل رابحاً) فبكى هذا الأعرابي فرحاً بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وبممازحته له عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يضاحك النساء والرجال على السواء، وهو من هو في منزلته، وهذا في حقنا يجوز مع من تكون محرماً له، أما من لم تكن كذلك فلا يحل لأحد مخافة الوقوع في الفتنة إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، أي: أن تكون تابعاً لغيرك في لزوم سنة، خير لك من أن تكون رأساً في البدعة.
هذا التفسير الثاني، الأول: ألا تحقر من المعروف شيئاً، وأن تداوم على العمل الصحيح الصالح وإن قل، والتفسير الثاني: لأن تكون تابعاً في الحق خير لك من تكون رأساً في الباطل، فحين نرى إنساناً مغموراً على التزام السنة خير من أن يتشبه بـ واصل بن عطاء وهو رأس الاعتزال، وأنتم تعلمون أن الخميني رأس في البدعة، فهل تريد أن تكون في منزلة الخميني رأساً في الشيعة، أم تريد أن تكون إنساناً مغلوباً مقهوراً وقد رزقت الحفاظ على السنة والعمل بالسنة، وإن لم يسمع بك أحد؟ أتريد أن تكون رأساً في البدعة أو أن تكون تابعاً في الحق؟ بلا شك أن تكون تابعاً في الحق.
وهكذا كان السلف رضي الله عنهم، كانوا يلتزمون بالسنة في كل حياتهم، حتى قال ابن المبارك إن استطعت ألا تحك قفاك إلا بأثر فافعل، فتصور أن السنة أقيمت إلى هذا الحد، ألا يتحرك أحدنا بحركة ولا يقرأ القرآن، ولا يفعل شيئاً إلا ومعه دليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فالعلة من الاتباع هو العصمة، أن يعصم الإنسان نفسه من الزلل، ويعصم نفسه من الزيغ والانحراف؛ لأن كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة رضي الله عنهم ليس فيه زيغ ولا انحراف، بل قد أتى بالحكمة من جميع الجوانب، فمن تمسك به فهو عن الزلل والانحراف أبعد، وإذا انحرف الإنسان عن كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإنه سريع إلى الوقوع في الانحراف والابتعاد عن الخير.(9/6)
أثر عمر بن الخطاب: (أيها الناس إنه لا عذر لأحد بعد السنة)
[قال الأوزاعي: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: أيها الناس! إنه لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها، ولا في هدى تركه، حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة وانقطع العذر]، هذا الكلام لو صح عن عمر -وهو غير صحيح- لاحتاج إلى مجلدات في شرح هذه الكلمات، ولكنه لم يقل: قال عمر، وإنما قال: بلغني أن عمر بن الخطاب، وهذا القول روي بلاغاً، والبلاغ منقطع، وهو علة في عدم ثبوت النص، لكن هب أنه ثبت من طريق آخر عن عمر رضي الله عنه، فمعناه العام: أن السنة قد ظهرت ظهوراً يجب على كل أحد أن يطلبها إن لم تذهب إليه، وهناك فرق بين مجتمع العلم فيه غالب، وبين مجتمع العلم فيه غير غالب، فلو أن شخصاً في السعودية الآن أو قطر أو الكويت أو غيرها من بلاد الإسلام يقول: أنا لا أدري أن الصلاة فرض من فرائض الإسلام، فهل يقبل منه ذلك؟ هل يقبل من أحد يسمع الأذان في اليوم خمس مرات أن يقول: أنا لا أدري ما الصلاة، أو لا أدري ما الزكاة؟
الجواب
لا يقبل منه في بلاد الإسلام، إنما يقبل من إنسان في بلاد الكفر قد أسلم حديثاً، وهو لا يعرف الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة ولا غير ذلك من فرائض وشرائع الإسلام، أما إنسان في بلاد الإسلام فقد قامت عليه الحجة بظهور السنة في كل هذا، فلا عذر له حينئذ.(9/7)
وصية عمر بن عبد العزيز لبعض عماله: (أوصيك بتقوى الله والاتباع وعدم الابتداع)
[وقال سفيان: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله] أي: بعض طلابه وأنصاره: [أوصيك بتقوى الله]، وهكذا كانت وصية الله للأنبياء والمرسلين، وهي وصية الأنبياء بلغتهم وأخلاقهم.
قال: [أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره].
أي: أخذ الدين شيئاً فشيئاً؛ لأن من أخذ العلم جملة فاته جملة، ولابد أن تعلم أن هذه سنة الله تعالى في طلب العلم، شخص الآن يأتي يريد أن يحصل على شهادة من شهادات الدنيا، يصبر على الدراسة في الجامعات والمدارس عشرين عاماً حتى يحصل عليها، وبعد أن يحصل عليها ربما لا تنفعه، ومع هذا تجده صابراً محتسباً، وربما صابراً غير محتسب، وفي طلب العلم الشرعي ربما يطلب العلم شهراً أو شهرين ثم يتطرق إليه الملل والنفرة، وإذا أشكل عليه علم من العلوم تجده ينصرف عنه بكليته ولا يختاره ولا يدرسه، كعلم أصول الفقه، أو علوم اللغة، أو علم مصطلح الحديث، فهذه علوم جافة تحتاج إلى تفصيل، فهب أنه رزق بأستاذ أو بشيخ لا يحسن التفصيل فتجده ينصرف ولا يثبت، وهو في الجامعة يدرس مواد لا قبل له بها ولا طاقة، ومع هذا يصبر عليها؛ لأنه قد وضع نصب عينيه أن يحصل على بكالوريوس كذا، ولا سبيل له إلى الحصول عليه إلا أن يصبر على المر في سنوات دراسته.
إذاً: فعلوم الشرع أولى بذلك كله، ولا سيبل لك إلى الاستقرار في العلم الشرعي إلا بطلب السهل والعسير، والصبر عليهما على السواء.
فقال: أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره.
أي: أن تأخذه شيئاً فشيئاً.
شخص يقول لك الآن: أن لا أفهم شيئاً من الحديث، فإنه يقول: عن وعن وعن ما هذا؟ فحتى أصل إلى قائل القول أكون قد نسيت الأول، ثم تجده ينصرف إلى أصول الفقه، فيجد أن هذا العلم هو عبارة عن طلاسم وكلام غير مفهوم، وهو أشبه بالسحر، هكذا يعبر عن علم أصول الفقه، ثم يتركه وينصرف إلى علم الاعتقاد، فيجد الشيخ الذي يدرس المادة يدخل في تفصيلات وفرعيات الفلاسفة، فيقول: لا يمكن أن يكون هذا ديناً، ثم ينتقل إلى العلم الرابع والخامس، ثم ينتقل من المسجد إلى الشارع، ومن الشاعر إلى المقاهي، ومن المقاهي إلى النساء، ومن النساء إلى الخمور وهكذا، لابد أن ينتهي به الأمر إلى الانحراف؛ لأنه لم يصبر ولم يحتسب في أمر الله، بل لابد أن يأخذ العلم قليلاً قليلاً.
ولذلك يقول الإمام الزهري: العلم نتف -يعني: قليلاً قليلاً- فمن رامه جملة -أي: فمن طلبه دفعة واحدة- فاته جملة.
فالذي يحفظ عشر آيات في اليوم أو خمس آيات يستطيع أن يحفظ في الغد مثلها، ويستطيع أن يحفظ بعد الغد مثلها، ويتقن الآيات في كل يوم ولا ينساها، أما من يحفظ ربع جزء أو ربعين أو ثلاثة أرباع أو نصف جزء أو جزءاً فإنه سرعان ما ينساه في الغد وفي الباكر مباشرة، فإذا أراد أن يحفظ شيئاً آخر وضم محفوظ اليوم إلى محفوظ الأمس وكان قدراً كبيراً لا يستطيع أن يحفظ بعد الغد جملة مستكثرة كما كان يحفظ في الأمس أو قبل الأمس.
فالعلم لابد أن يؤخذ قليلاً قليلاً، وقد ثبت عن كثير من السلف أنه حفظ القرآن في ثلاثة أشهر، بل قد جاء عن بعض السلف أنهم حفظوا القرآن من قراءتين -أي: من مراجعتين- أو ثلاث مراجعات عن ظهر قلب، لكن هدي السلف ليس كذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظون العشر الآيات، ثم لا يتجاوزونها حتى يعلموا ما فيها من أحكام وآداب وأخلاق ويعملون بكل هذا، ثم ينتقلون إلى عشر آيات أخريات، هذا منهج السلف في طلب العلم، أما من جلس مجلساً وقد شعر بنشاط وحيوية فيريد أن يحفظ ثلاثة أرباع أو أربعة أرباع من سورة البقرة في يوم واحد، فإنك فقط لو سألته عن معنى آية لا يعرفها، ولا يحل له أن يتكلم في معناها بغير علم مما ورد من كلام المفسرين، ثم هو في اليوم الثاني يكسل أن يراجع هذه الآيات، لماذا يكسل؟ لأنه قد أنهك نفسك بالأمس، فلم تبق عنده قدرة ولا طاقة ولا قوة كما كانت عنده بالأمس، فالعلم يا إخواني! نتف يؤخذ شيئاً يسيراً فشيئاً يسيراً؛ حتى يتمكن المرء من علمه.
ولذلك يذكر عن الشعبي والأوزاعي وغيرهما أنهم كانت تعقد لهم مجالس الحديث بالآلاف المؤلفة، حتى إنه كان يحضر للواحد منهم ثلاثون ألفاً، فيحدث بالحديث والحديثين والثلاثة، فإذا قيل له: حدثنا بالرابع أو الخامس، يقول: لا والله.
لقد أكثرت عليكم، تصور أن ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً يحضرون مجلس العلم، ثم لا يقومون منه إلا بثلاثة أحاديث، هل هذا قليل؟!
الجواب
ليس قليلاً، فقد كان الواحد من الصحابة يرحل للحديث الواحد من المدينة إلى مصر، ومن المدينة إلى الشام.
قال: [أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده فيما قد جرت به سنته، وكفوا مئونته، واعلم أنه لم يبتدع إنسان بدعة إلا قدم قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها]، إلا قدم عليها دليلاً أنها بدعة وأنها ليست من دين الله، [فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، واعلم أن من سن السنن قد(9/8)
تفسير سعيد بن جبير لقوله تعالى: (وعمل صالحاً ثم اهتدى)
[وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: لزم السنة والجماعة].
((عَمِلَ صَالِحًا)) أي: لزم السنة، ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: إلى التمسك بالجماعة وعدم الخروج عليها.
[وعن الضحاك في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: استقام] أي: على الإيمان والعمل الصالح بعد التوبة.(9/9)
أثر عطاء الخراساني: (ثلاث لا تنفع اثنتان دون الثالثة)
[وعن حسان بن عطية أنه سمع عطاء الخراساني يقول: ثلاث لا تنفع اثنتان دون الثالثة]، يعني: أن الأمر يلزم فيه ثلاث أشياء ولا يكفي شيئان، بل لابد من اجتماع الثلاث، إذا اختلت واحدة فإن الاثنتين لا تنفعان صاحبهما، قال: [الإيمان والصلاة والجماعة]، ونحن قد ذكرنا معظم الكلام الذي ورد عن السلف رضي الله عنهم: أن الصلاة من الإيمان، وأن تارك الصلاة مارق عن الإسلام، أما من يترك الصلاة بالكلية فإنه مارق عن الإيمان والإسلام.(9/10)
أثر ابن مسعود: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض)
[وقال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وإياكم والتنطع والتبدع والتعمق، وعليكم بالعتيق].
وهذه وصية جامعة.
قال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض)، أي: قبل أن يموت العلماء، و (إياكم) أسلوب تحذير، و (عليكم) أسلوب حث.
قال: (وإياكم والتنطع) وأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على المتنطعين فقال: (هلك المتنطعون ثلاثاً)، والتنطع: هو التعمق والتكلف فوق الحد، ودائماً أنا أقول لكم: إن العزيمة والشدة يحسنهما كل أحد، أما الرخصة فلا يحسنها إلا فقيه، (والنبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فهذا هو استخدام الرخصة في محلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام يستخدم العزيمة في موطن يحتاج إلى عزيمة، ويستخدم الرخصة في موطن يحتاج إلى الرخصة، أما أن تستخدم العزيمة دائماً في كل وقت وحين فإن هذا أمر ينخرط عقده ولا يصل.
أي: لا يصل بصاحبه إلى الله عز وجل.
وانظر إلى أي إنسان مستقيم دائماً تأخذه العزيمة بالعزيمة، وفجأة تراه نازلاً إلى الهاوية، اصعد يا فلان! يقول لك: لا أستطيع، لقد تعبت؛ لكن من أخذ في أمره بالرفق، وكلف نفسه من العمل ما يطيق لابد أنه سيستمر؛ لأن هذه سنة الله في الكون وفي الخلق، فمن سعادة المرء أن يوفق لشيخ أو عالم يأخذ بيديه ويعلمه منهجية السلف في العلم والعمل؛ لأن العمل يحتاج إلى جهد، فإذا بذل العبد مجهوداً فوق طاقته انقطع به الطريق.
قال: (وإياكم والتنطع والتبدع) أي: والابتداع، (والتعمق)، وهو بمعنى: التنطع، (وعليكم بالعتيق) والعتيق: القديم، يعني: إذا حزبك أمر فليس لك من عاصم إلا الوحي، ولا يوصف الوحي بأنه قديم، وإنما يقصد به الأمر الأول، أي: عليك بالأمر العاصم من كل قاصمة وزلة وانحراف، فإذا نزل بك أمر فلا تطلب رأي فلان ولا علان، بل اطلب حكم الله تعالى وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا هو الأمر الأول العاصم من كل فتنة.
[وقال محمد: كانوا لا يختلفون عن ابن مسعود في خمس]، أي: خمس أمور كانوا يروونها عن ابن مسعود، وكأن هذه وصية ابن مسعود دائماً لأصحابه؛ حتى وردت عنه بالتواتر أنه كان يقول: [إن أحسن الحديث كتاب الله]، وهذه المسألة من جهة العقل ليست محسومة، فعندنا في هذا الزمان من يعترض على الله بعقله، وكأنه يقول بلسان حاله: كلامي أحسن من كلام الله، أليس هذا حاصلاً؟ حال العلمانيين والمنافقين الموجودين الآن على صفحات الجرائد والمجلات والصحف أنهم يعترضون على كلام الله عز وجل، وعلى كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الاعتراض على آية من كتاب الله يقولون: أنتم لا تفهمونها فهماً صحيحاً، ومن هو ابن كثير هذا؟ ومن هو الطبري؟ ومن القرطبي؟ ثم بعد ذلك يطعنون في كتب المفسرين، وكلامهم هم فقط هو الصحيح، ومنظورهم للآية هو المنضبط، هكذا يزعمون ويدعون، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأنهم منافقون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وهم يعلمون أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، فلا يعقل أن معنى الآية يخفى على الأمة ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة ويظهر لواحد من هؤلاء الكلاب الموجودين في هذا الزمان، وإلا فالأمة في ضلال منذ ألف وأربعمائة سنة، والعلماء فيها لم يكن لهم قيمة ولا مذهب، ولم يفهموا هذه الآيات، بل خبطوا فيها خبط عشواء، وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد فقد عقله أو فقد قلبه، أو فقد قلبه وعقله على السواء مع الله عز وجل، فخرج من الإيمان بالكلية خاصة إذا كان يقصد ذلك، أما إذا كان يردد كلام هؤلاء عن جهل فهو على خطر عظيم، فهو إذاً على خطر في الحالين.
قال: [إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير السنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف على ذلك، وشر الأمور محدثاتها]، أي: محدثات الأمور وبدع الأمور في دين الله عز وجل.
وهذا بلاء.
قال: [وإن أكيس الكيس التقى].
أفضل الأعمال أن يأتي العبد تقياً لله عز وجل.
قال: [وإن أحمق الحمق الفجور]، سواء في القول أو العمل أو الاعتقاد.
هكذا حفظ أصحاب ابن مسعود عنه هذا الحديث.(9/11)
خطبة ابن مسعود: (إن أصدق الحديث كلام الله)
[وعن إياس]، وهو ابن معاوية بن قرة المزني القاضي المشهور، وهو من سادات التابعين، يروي [عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول دائماً في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن].
وهذا نهج المذكرين والوعاظ لو يعلمون صدق هذا الكلام وروعته، وهو كلام ابن مسعود سادس ستة في الإسلام، فهو من المسلمين الأوائل.
والمعروف أن في القرآن عشرات القصص والأمثال، وكذلك السنة قد امتلأت بالقصص والأمثال، والقصص تجد طريقها لقلوب الناس، خاصة قلوب العامة، بل تجد طريقها في قلوب العامة والخاصة، والقصص مسلية، لكنها ذكرت في القرآن والسنة للعبرة والعظة وتقريب المقال وغير ذلك، فيا ليت الوعاظ يلتزمون قصص القرآن الكريم وقصص سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.
والناظر في قصص القرآن وقصص السنة يجد أنها قد تصل إلى أكثر من (300) قصة، فلو أن كل واعظ انشغل بقصة من القصص فعلمها للناس، واستخرج منها العظات والفوائد والنكات، وأنزلها على واقع المسلمين اليوم، وطاف بها البلدان؛ لكان في هذه القصص الخير الكثير، لا كما يطوف بالقصص الصوفية والأولياء ويطوفون بالكلام الذي قد ورد في كتب الموضوعات والخرافيات وغيرها، وللأسف الشديد أن وعاظنا يرددون هذا الكلام على مسامع العامة؛ حتى صرنا أشبه بسلفية صوفية كما هو مصطلح أحد الزعماء الكبار.
يقول: دعوتنا سلفية صوفية.
كيف تكون سلفية صوفية؟! إن النار والجنة لا يمكن اجتماعهما قط؛ لأنه إما أن تؤثر السلفية في الصوفية فتستقيم، وإما أن تؤثر الصوفية في السلفية فتنحرف، أما اجتماعهما فمحال؛ فكيف تكون الدعوة موصوفة بأنها سلفية تارة وصوفية تارة أخرى؟! إلا أن يكون المراد بالصوفية الزهد، ولذلك حملناها على أصل معناها الذي وضعت له في مصطلح الصوفية.
فقوله: [إن أصدق الحديث كلام الله وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن، وأحسن السنن سنة محمد عليه الصلاة والسلام، وأصدق الحديث ذكر الله، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل موت الشهداء]، يعني: أحسن القتل هو أن تموت شهيداً في ساحة القتال، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله.
قال: [وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى]، يعني: أسوأ الضلالة الضلالة بعد الهدى، فالإنسان الذي نشأ في ضلالة هو أقل قبحاً ممن عرف الهدى ثم انحرف عنه، وفي الغالب أن من خالط الإيمان بشاشة قلبه لا يترك الإيمان رغبة عنه.
قال: [وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع].
يعني: أنفع العلم وأحسن العلم ما ينفعك في دنياك وآخرتك.
قال: [وخير الهدى ما اتبع]، أي: خير الهدى اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، [وشر العمى عمى القلب].
كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فشر العمى عمى القلب، ويتبعه عمى العقل، أما عمى البصر فربما يمدح المرء لأنه أعمى البصر، ولو لم يكن تمني البلاء مذموماً في الشرع لتمنى المخلصون الذين يتأذون بالمعاصي العمى؛ لأن المرء الآن لا يكاد ينظر في شرق ولا غرب ولا فوق ولا تحت إلا وتقع عيناه على ما يغضب الله عز وجل، فهذا أمر يحمل على طلب العمى في هذا الزمان، لولا أنا قد نهينا عن تمني البلاء، والعمى بلاء، فالمرء ربما يغبط على بلاء قد نزل به وإن كان عمى في بصره.
ثبت في الأثر أن صحابياً أصيب بالعمى، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يدعو له بذهاب البلاء عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك.
قال: يا رسول الله! بل أصبر)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصيب في حبيبتيه فصبر فليس له جزاء إلا الجنة)، والحبيبتان: هما العينان، أي: من أصابه العمى في عينيه فصبر على هذا واحتسب الأجر عند الله عز وجل فله الجنة.
قال: (وشر العمى عمى القلب).
فعمى القلب وعمى العقل التابع لعمى القلب من أعظم الأمراض الفتاكة بالشخص التي تودي به إلى جهنم والعياذ بالله، لكن إذا كان أعمى البصر، وقلبه قد عمر بالإيمان والتوحيد فهذا شيء عظيم جداً، أما أن يعمى القلب عن معرفة الحق فلا يكاد يميز بين الحق والباطل، بل ربما زعم أن الحق باطل وأن الباطل حق، بل ذهب يدعو إلى الباطل وينحرف عن الحق؛ فهذا منتهى العمى ومنتهى الضلالة.
وأنتم تعلمون أن ابن مسعود في مسجد الكوفة الكبير كان يذكر الناس عشية كل خميس، ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن أصحاب ابن مسعود قالوا له: يا أبا عبد الرحمن! إنا نحب كلامك فهلا ذكرتنا في كل يوم؟ فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) ي(9/12)
أثر ابن مسعود: (أنه كان يذكر كل عشية خميس)
قال: [إن ابن مسعود: كان يذكر كل عشية خميس، فيحمد الله ويثني عليه ويقول: إن أحسن الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وشر الرواية رواية الكذب]، يعني: شر الحديث الكذب فيه، [وسمعته يقول: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة]، والطاعة هنا لأولياء الأمور وللعلماء.
قال: [عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة].
فانظر إلى الكلام الجميل: (إن ما تكرهون في الجماعة) أي: في جماعة الإمام والخليفة خير لكم مما تحبونه حين تفرقكم.
قال: [وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئاً إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليه].
لابد.
أخرج البخاري في كتاب الأدب في باب إثبات تواضع النبي عليه الصلاة والسلام حديث أنس: (أن دابة النبي عليه الصلاة والسلام القصواء لم تسبقها دابة قط، فجاء رجل من الأعراب بدابته، وقال له: يا رسول الله! تسابقني؟ قال: أسابقك)، انظر النكتة التي استفادها البخاري من هذا الحديث، فبوب هذا الحديث: باب إثبات تواضع النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه وهو نبي ورسول رضي أن يسابق أعرابياً أتى من البادية، مع أن هذه القصواء لم تسبقها ناقة ولا جمل ولا حمار (قال له: يا رسول الله! تسابقني؟ قال: أسابقك، فسبقه الأعرابي.
فقال الصحابة: خلأت -عضبت- القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا، ما بلغ شيء تمامه إلا نقص)، أي: ما من شيء يرتفع إلا ومصيره النزول.
انظر في نفسك حيث كنت جنيناً، ثم وليداً رضيعاً، ثم طفلاً، ثم صبياً، ثم شاباً، ثم رجلاً فتياً قوياً، وبعدما تصبح فتياً قوياً يبدأ العد التنازلي مرة أخرى، كان هناك عد تصاعدي، واختلف أهل العلم في هذا، فمنهم من قال: يبدأ النزول بعد سن الأربعين، ومنهم من قال: يبدأ بعد سن الخمسين، ومنهم من قال: بعد سن الستين، فأياً كان اعتبر أن صفوة قوتك وشبابك من أربعين إلى الستين، وبعد الستين يبدأ العد التنازلي السريع لا محالة، ففي قوتك تفعل ما تشاء من خير أو شر، لكن الإنسان الذي بلغ تمام قوته، ثم بدأ ينزل بعد ذلك على حتفه، لابد أن يعمل ألف حساب لهذا اليوم الذي ينزل فيه، ولابد أنه نازل مهما طال به الزمان وعاش، وقد أعجبني جداً كتاب رجل سماه: انتبه فقد بلغت الأربعين، (ولقد أعذر الله عز وجل إلى امرئ بلغه الستين)، يعني: تكون فاجراً، تكون زانياً، تكون سارقاً، تكون قاتلاً، ليس لك في ذلك عذر واحد، فالله تبارك وتعالى مد في عمرك وأقام عليك الحجة منذ ستين عاماً، ولا زلت مصراً على المعصية؟ إنك على خطر عظيم جداً بين يدي الله عز وجل.
فقال ابن مسعود: [وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئاً إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليها، ثم يزيد وينقص إلى يوم القيامة، وإن هذا الإسلام اليوم مقبل].
والإسلام قادم لا محالة، والإسلام باق إلى قيام الساعة، لكنه يخبو أحياناً ويظهر أحياناً، حسب تمسك أهله به، والعاقبة للتقوى.
قال: [وإن هذا الإسلام اليوم مقبل، ويوشك أن يبلغ نهايته، ثم يدبر وينقص إلى يوم القيامة، وآية ذلك أن تفشو الفاقة]، يعني: علامات ذلك أن يكثر الفقر بين الناس؛ لبخل الأغنياء، وتركهم لأداء زكاة أموالهم وعموم الصدقات.
قال: [وتقطع الأرحام].
فمن منا أيها الإخوة يعرف رحمه ويعرف نسبه؟
الجواب
قليل جداً، حتى واصل الرحم فينا يصل من وصله ويقطع من قطعه، وليس هذا هو الوصل، بل إن الواصل من يصل من قطعه، أما ذاك الذي يقال له: صل أخاك فيقول: الذي يأتي إلي أذهب إليه، والذي لا يأتي إلي لا آتي إليه، فلا أحد أحسن من أحد، وهذا من مصطلحات الجاهلية التي كانت قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام نقولها نحن اليوم، فنحن في جاهلية عظيمة جداً، وأمثلنا وأحسنا من يصل أباه، أمه، أخاه، عمته، خالته، فإنه يصل المحارم دائماً، وهل هؤلاء فقط هم المحارم؟
الجواب
لا، بل هم أعظم من هؤلاء بكثير، فهناك صلة رحم عامة وهناك صلة رحم خاصة، وليس هذا وقت تفصيل ذلك.
قال: [وآية ذلك أن تفشو الفاقة، وتقطع الأرحام حتى لا يخشى الغني إلا الفقر].
الغني يخشى أن يخرج الزكاة ويفتقر، مع أنه يعطي الفقراء مقابل حق الله وحق الفقراء والمساكين في ذلك الذي فرضه الله عليه.
قال: [حتى لا يخشى الغني إلا الفقر، ولا يجد الفقير من يعطف عليه، وحتى إن الرجل ليشكو إلى أخيه وابن عمه، وجاره غنيُّ لا يعود عليه بشيء]، يعني: الواحد يكون له ابن عم وابن خال في بلد أخرى، فيقول له: يا ابن عمي! أنقذني ويا ابن أخي! أرسل لي خبزاً آكله، وجاره الذي ساكن بجواره المأمور بألا ينام وجاره جائع، والمأمور بأنه إذا طبخ لحماً أن يكثر المرق ويتعاهد الجيران، لا يعطيه شيئاً، فالواحد منا محتاج إلى صدقة تأتيه من بلدان بعيدة أو أماكن بعيدة، وجاره الذي فرض الشارع عليه حق الجوار، وأمره ألا ينام إلا(9/13)
شرح كتاب الإبانة - ذكر افتراق الأمم وعلى كم تفترق هذه الأمة
الافتراق سنة ماضية في الأمم إذا ابتعدت عن شرع الله عز وجل ونهجه، فقد افترق اليهود من قبل إلى فرق متناحرة متحاربة، ثم افترق بعدهم النصارى، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق أعظم مما افترق اليهود والنصارى، وأنه لا نجاة من ذلك إلا بالتمسك بهديه صلى الله عليه وسلم.(10/1)
باب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ذكر افتراق الأمم في دينهم، وعلى كم تفترق هذه الأمة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم لنا بذلك].
هذا الباب من أهم أبواب الاعتقاد، وهو ذكر افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حديث معاوية بهذا السياق رضي الله عنه: (وإنه سيخرج في أمتي أقوام يهوون هوىً، فيتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله).
وهذا الحديث من الأحاديث التي تجعل المؤمن على حذر ووجل من أن يكون في فرقة من هذه الفرق الضالة، وهذا يستلزم محاسبة العبد لنفسه دائماً، هل هو على منهاج أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة؟ أم أنه -من حيث لا يشعر- ضمن فرقة من هذه الفرق التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها في النار.
فاليهود افترقوا إلى إحدى وسبعين فرقة، والنصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمون افترقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة، وهذا بإخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
والناظر إلى هذا الحديث يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين).
ثم لو توقف عند هذا الحد فسيقول: إن تكملة هذا الحديث هو أن المسلمين لا يفترقون قط؛ لأن المسلم الأصل فيه أنه ليس صاحب هوى، وإنما هو صاحب اقتداء واتباع، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن اتباع الأهواء في هذه الأمة أعظم من بقية الأمم، بل إن هذه الأمة تزيد فرقة عن أصحاب الأهواء والبدع في أمة اليهود والنصارى.
وقد جعل هذا الباب لبيان هذه الفرق الضالة وبعض علاماتها، والحكم عليها بأنها في النار، وسنتعرض لبيان مذهب الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وبيان بعض علاماتها وأماراتها، وأنها ما سميت أو وصفت بالناجية إلا لنجاتها من النار، وما نجت من النار إلا لاتباعها سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
[قال الشيخ: قد كتبت في أول هذا الكتاب ما قصه الله عز وجل علينا في كتابه من اختلاف الأمم، وتفرق أهل الكتاب، وتحذيره إيانا كذلك، وأنا أذكر الآن ما جاءت به السنة، وما أعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم من كون ذلك؛ ليكون العبد على حذر من مجاراة هواه] أي: من إطلاق العنان لهواه، [ومتابعة بعض الفرق المذمومة، وكي يتمسك بشريعة الفرقة الناجية، فيعض عليها بنواجذه، ويضمها بجنبيه، ويلزم المواظبة على الالتجاء والافتقار إلى مولاه الكريم في توفيقه وتسديده ومعونته وكفايته، فإنا قد أصبحنا في زمان قل من يسلم له فيه دينه].
فـ ابن بطة يقول: إننا قد أصبحنا في زمان قل من يسلم له دينه، فما بالك لو أنه بعث في زماننا؟ قال: [والنجاة فيه متعذرة صعبة، إلا من عصمه الله وأحياه بالعلم]، ونحن دائماً نؤكد على قضية العلم.
فالعلم حياة للقلوب.(10/2)
شرح حديث (ستكون فتن يصبح الرجل بها مؤمناً ويمسي كافراً)
قال: [عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتن يصبح الرجل بها مؤمناً ويمسي كافراً، إلا من أحياه الله بالعلم)].
هذا الحديث بهذه الزيادة: (إلا من أحياه الله بعلم) فيه ضعف، والمحفوظ: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، أي: يبيع دينه بأقل القليل وأقل المتاع، وهذا في آخر الزمان.
وبعض أهل العلم حسن هذه الزيادة: (إلا من أحياه الله بالعلم).
وفتن آخر الزمان تتقلب فيها القلوب وتغلي كغليان الماء في القدر على النار، بحيث لا يستقر القلب على حال واحدة، فيصبح الرجل مؤمناً موحداً ويمسي على الكفر البواح الذي ليس بعده كفر، أو يصبح كافراً ويمسي مؤمناً.
وإذا علمت أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها سبحانه وتعالى كيف يشاء، زادك هذا معرفة بشدة حاجتك إلى الله عز وجل لأن يعصمك ويثبتك، والثبات على الإيمان أعظم من الإيمان نفسه، وأهم من الإيمان، ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولو أن الله نصرنا ولم نذكره تعالى بعد هذا النصر لكان هذا سبب الهزيمة، ولا قيمة لنصر تعقبه هزيمة، ولكن النصر المؤزر الثابت الذي لا يتزعزع هو النصر الذي يدوم ويستمر.
وقد كانت غزوة بدر مثار الحديث والإعجاب في العالم إلى يوم القيامة، وغزوة أحد رغم أنها كلها نصر إلا أن مخالفة الرماة رضي الله عنهم لأمر النبي عليه الصلاة والسلام ألحق الأذى والهزيمة بهم آخراً، ولهذا قال بعض أهل العلم: ليس في غزوة أحد أدنى هزيمة، لكن مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل الرماة تسببت في انهيار السهام عليهم من قمة الجبل -أي: جبل الرماة- مما أصاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأصاب أصحابه الكرام في سفح الجبل.
فالدوام والثبات والاستمرار على النصر أولى من مجرد النصر الذي تعقبه هزيمة.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال)، أي: أسرعوا بالأعمال الصالحة قبل قيام الساعة؛ لأنكم إذا كنتم في آخر الزمان ظهرت الفتن التي لا يصبر أمامها إلا من وفقه الله، ودليل ذلك: أنك تجد الرجل في معمعة الفتن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، وغيره يمسي كافراً ويصبح مؤمناً، وهكذا تقلب القلوب في هذا الزمان، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ دائماً من الفتن.
قال الإمام ابن بطة: [جعلنا الله وإياكم ممن أحيانا الله تعالى بالعلم، ووفقه بالحلم، وسلمنا وإياكم من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن].(10/3)
شرح رواية سعد بن أبي وقاص لحديث افتراق الأمة
قال: [وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقوا على بضع وسبعين ملة، ثم إن أمتي ستفترق على أو عن مثلها، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)].
والفرقة الناجية هي الجماعة، وإذا علمنا أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأن فرقة واحدة منها هي الناجية؛ فلنعلم أن هذه الفرقة الواحدة هم أهل السنة والجماعة، والطائفة المنصورة إما منهم وهو الراجح، أو أنهم هم هذه الطائفة أو هذه الفرقة بأسرها، وهذه الفرقة هم أهل الجنة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)، أي: فهي في الجنة.(10/4)
شرح رواية عبد الله بن عمرو لحديث افتراق الأمة
قال: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة)]، ثم بين أن هذه الواحدة [(ما أنا عليه اليوم وأصحابي)].
وهذه تسمى الفرقة الناجية، وهي التي تمسكت بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فالنبي عليه الصلاة والسلام بين المنهج الذي من سلكه كان من الجماعة، وهو ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.
ولذلك يقول بعض أهل العلم: الإجماع المعتبر هو إجماع الصحابة؛ لأنهم معصومون بمجموعهم، ولأنه لم تظهر فيهم البدع، وإنما ظهرت فيمن أتى بعدهم.
وابن سيرين عليه رحمة الله كان يقول: ما ابتدع عالم قط، أي: أن البدعة إنما أتت من الجهال، فالجاهل بالله عز وجل هو الذي أحدث الاختلاف في الدين، أو الاختلاف في الإلهية والربوبية، حتى أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما في ذات الله، أو في أسمائه وصفاته، وإما في النبوة والرسالة، بل حتى في الكعبة، فتجد بعض الفرق الضالة يقولون: نحن نؤمن بالله، ولكنا لا نعرفه، ونحن نؤمن بالرسول، وما دمنا لم نره فإنه لا يلزمنا اتباعه، إنما نؤمن به إذا لم نره، يعني: أنهم آمنوا به بمجرد النظر، ولكن هذا لا يلزمهم العمل بما أمروا به، هكذا يقولون، ويقولون: نؤمن بالقبلة والكعبة، ولكنا لا ندري أهي التي في مكة، أم في بلد غير مكة؟ وهؤلاء بلا شك كفار، وإن لم يكونوا كفاراً فلا أدري من يكون كافراً.
قال: (كلها في النار إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي)، أو ما أنا عليه اليوم وأصحابي، فبين المنهج لهذه الفرقة الناجية، وأنهم المتمسكون بكتاب الله عز وجل على مراد الله، وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة فهموا كلام الله على مراد الله، وفهموا كلام النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لهم أهواء ولا بدع.(10/5)
إشكال حول عدالة الصحابة والجواب عليه
البعض يقول: كيف نحكم بعدالة الصحابة جميعاً، مع أنهم ينسون كما ينسى غيرهم من البشر ويبتدعون كما ابتدع من أتى بعدهم، بدليل أن البدع إنما ظهرت في زمن علي بن أبي طالب، بل وفي زمن عثمان؟ وأقول: إن نسيان الصحابة أقل ما يكون، ولذلك أجمع النقاد على أن الثقة يهم أحياناً، وأن الضعيف يتقن أحياناً، فإذا وافق الراوي الضعيف في روايته أحد الثقات دلت موافقته على أنه ضبط هذا الحديث وأتقنه.
وكذلك الثقة يهم أحياناً كما أن الضعيف يضبط أحياناً.
والنسيان في طبقة الصحابة أقل ما يكون، وهذا أمر لا يجرح العدالة ألبتة، وهذا بإجماع أهل العلم.
الأمر الثاني: إن القول بأن الصحابة قد ابتدعوا في دين الله عز وجل، والاستدلال على ذلك بظهور البدع في زمن علي بن أبي طالب، وفي زمن عثمان رضي الله عنهما، كبدعة الخوارج والشيعة مثلاً، وهذه من أصول البدع بالإجماع، وقد ظهرت في الزمن الأول، وفي الحديث أن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة وقالا: لو لقينا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام نسأله عما ظهر في زمننا بالبصرة، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف بالكعبة، قال حميد: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فظننت أنه سيكل الكلام إلي، قلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون العلم- والمعنى: أنهم يطلبون العلم طلباً حثيثاً، ويتفقهون في العلم بأنفسهم لا على يد عالم، وإنما يطلبون دقائق المسائل، حتى استحقوا التعمق، يعني: كانوا في غاية التنطع في طلب العلم، فهم يطلبون دقائق المسائل ويتركون عظامها، ويقولون: إن الأمر أنف، وفي رواية: إنه لا قدر، وأن الأمر أنف.
قال: أوقد قالوها؟ يعني: هؤلاء قد ظهروا؟ قلنا: نعم، قال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني فهذه بدعة القدرية ظهرت على يد معبد الجهني في زمن الصحابة، لكن هذه الروايات لم تصرح أن هؤلاء المبتدعة هم من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وليس في الرواية تصريح بأن البدعة وقعت في الصحابة، وإنما وقعت في التابعين ومن أتى بعدهم، والصحابة هم الذين تصدوا لنبذ هذه البدعة وقمعها، وبيان أنهم كانوا على غير ذلك، وبينوا معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكل بدعة على حدة.
والصحابة رضي الله عنهم معصومون في مجموعهم بعصمة الله تعالى لهم، كيف لا والله تعالى أحبهم ورضي عنهم ورضوا عنه، وكيف يرضى الله تبارك وتعالى عن قوم قد غيروا دينه وبدلوا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يذاد أناس عن الحوض فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك -أي: ما بدلوا وما غيروا- فأقول: سحقاً سحقاً -أي: بعداً بعداً- لمن بدل بعدي).
فالتبديل والإحداث إنما ظهر في غير الصحابة، وإن كان هذا التغيير والنفاق قد ظهر في زمن الصحابة.
وأصول البدعة هي بدعة الخوارج، وقد ظهرت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أتى رجل وقال: (يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعطوا هذا الرجل حتى يرضى، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئي هذا من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
والخوارج كلاب النار، كما جاءت بذلك الأخبار عن السلف رضي الله عنهم.
فبعض البدع ظهرت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما على جهة الخصوص، ولم تظهر في زمن أبي بكر؛ لانشغال أبي بكر بالردة، ولا في زمن عمر رضي الله عنه، فـ عمر قمع هذه الفتن كلها، وما استطاع أحد أن يظهر بدعته؛ لشدة عمر وقوته، فقد كان عمر يؤدب من يخرج عن الجادة بضربه على أم رأسه بالجريد والنعال، فلما علم المبتدعة بذلك كل دخل جحره، ولم يخرجوا إلا في فترات الضعف والوهن والتفرق والشتات والشذوذ، فزمن القوة حافظ لدين الأمة بأسرها، وزمن الضعف مهين لأفراد الأمة كلها.
وقال عبد الله بن عمرو: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل)، يعني: مثل التفرق الذي وقع في بني إسرائيل من اليهود والنصارى تماماً بتمام، وسواء بسواء.
قال: (حذو النعل بالنعل، فإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة أو ملة، قال: وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل: ما هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، أي: التمسك بالهدي الأول، ونحن نحفظ قول(10/6)
شرح رواية معاوية بن أبي سفيان لحديث الافتراق
قال: [وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وكذلك سعد بن أبي وقاص قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها، ألا وكل فرقة منها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة).
وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: (حججت مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة أخبر بقاص يقص على أهل مكة من بني مخزوم، فأرسل إليه معاوية فقال له: أمرتك بهذا القصص؟ قال: لا، قال: فما حملك على أن تقص بغير إذني؟ قال: ننشر علماً علَّمَنَا الله.
فقال معاوية: لو كنت تقدمت إليك قبل مرتي هذه لقطعت منك طائفة -أي: لقطعت منك جزءاً- ثم قام حين صلى الظهر بمكة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني: الأهواء، وأنها كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة.
وقال: إنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)]، أي: تدخل تلك الأهواء في جزء من أجزاء أبدانهم، حتى ما تدع عرقاً ولا مفصلاً إلا دخلته وتمكنت منه، ثم شبه النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأهواء بكلب عض إنساناً فدخل فيه أثر عضة الكلب، وهذا الداء يسمى الكلِب بكسر اللام، يصيب المعضوض بسبب عضة الكلب، وإذا تمكن هذا الداء من هذا الإنسان فلا يخرج منه إلا بالموت، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تتجارى بهم تلك الأهواء)، أي: تدخل في كل أجزاء أبدانهم وعقولهم وأفكارهم وقلوبهم حتى تتمكن منها تمكن الكلِب من صاحبه، حتى يبدو منه في كل عرق ومفصل، أو لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً.
فهذه الأهواء والمحدثات في الاعتقاد -على جهة الخصوص- إذا تمكنت من العبد تمكناً على هذا النحو فإنه لا ينجو منها قط، إلا إذا شاء الله تعالى له النجاة، كما شاء الله تعالى نجاة بعض المتكلمين والفلاسفة وأصحاب المذاهب الهدامة والأفكار القبيحة الرديئة، كما هو الشأن في أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى الذي تاب من أشعريته، وبقي أصحابه على أشعريتهم؛ ظناً منهم أن الأشعرية هم أهل السنة، وأن الأشعرية هي السنة، وليس الأمر كذلك، بل الأشعرية انحراف عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي مناقضة لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام في العقيدة.
قال: [(وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلِب بصاحبه، فلا يبقي منه عرق ولا مفصل إلا دخله، ثم قال معاوية: والله يا معشر العرب! لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به)].
يعني: إذا تهاونا وتكاسلنا نحن العرب عن حمل دين الله عز وجل، وعن أن نأمر فيه بالمعروف وننهى فيه عن المنكر بشروطه المعروفة عند أهل العلم، وأن نحمل هذا الدين، ونغير به الأرض كلها؛ حتى يدخل هذا الدين في كل بيت وبر أو مدر؛ فمن يحمله؟ أيحمله العجم الذين لا يحسنون لغة العرب والقرآن؟ وقد اختار الله عز وجل نبيه من العرب، واختار أصحابه من العرب، وقلَّ أن يكون أصحابه من العجم، مع أنه لا فرق بين عربي وعجمي، ولا أحمر ولا أبيض، ولا أسود ولا أبيض إلا بالتقوى، كما أخبر الله تعالى في كتابه، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام في سنته.
فنشر هذا الدين يقع على عاتق العرب لأول وهلة، ولا مانع أن ينصر الله تعالى هذا الدين على يد رجل أعجمي، أو على يد مولى من الموالي لا على يد حر، وكل هذا إنما يتم بقدر الله عز وجل وقدرته، لكن كلف العرب أولاً أن ينشروا دين الله عز وجل، فإذا هم نفروا عن ذلك فغيرهم أولى بهذا النفور.(10/7)
شرح روايات أنس بن مالك لحديث افتراق الأمة
قال: [وعن أنس بن مالك في حديث طويل له رضي الله عنه عن عمر قال: (تفرقت أمة موسى عليه السلام على إحدى وسبعين ملة، منها سبعون في النار وواحدة في الجنة)].
وهذه الفرقة هم الذين تبعوا موسى في رسالته وفي شرعه حتى جاء عيسى عليه السلام، وحتى بعث محمد عليه الصلاة والسلام، ثم لا يقبل من أحدهم بعد ذلك اقتداءً بموسى؛ لأن موسى عليه السلام لو كان حياً في زمن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام لما وسعه إلا أن يكون تابعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام.
وكذلك النصارى فالفرقة الناجية منهم من كان تابعاً في حياته وفي حياة عيسى لعيسى عليه السلام، أي: في مدة بقاء عيسى مع بني إسرائيل، ونحن نعتقد أن عيسى حي رفعه الله تعالى إلى السماء، وأنه حي في السماء الآن، وسينزل في آخر الزمان.
قال: [(وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة: إحدى وسبعين ملة في النار، وواحدة في الجنة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: وتعلو أمتي على الفريقين جميعاً ملة واحدة)]، يعني: وتزيد أمتي في الافتراق على افتراق أمة اليهود وأمة النصارى بفرقة.
قال: [(ثنتان وسبعون ملة في النار، وواحدة في الجنة، قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: الجماعة).
قال يعقوب بن يزيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]، ثم يذكر في أمة عيسى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:65 - 66].
ثم ذكر في أمتنا: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181]].
[وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن سلام!)].
وابن سلام هو عبد الله بن سلام، وكان حبراً من أحبار اليهود في المدينة، قال: [(يا ابن سلام! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة)].
وهذه علامة وأمارة أصحاب الأهواء والبدع، فإنهم إذا اختلفوا كفّر بعضهم بعضاً، وضلَّل بعضهم بعضاً، وبدَّع بعضهم بعضاً، وفسَّق بعضهم بعضاً.
وأما أهل الحق فإنهم يخطئ بعضهم بعضاً، وهذا قد قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم وغير واحد من السلف، فقالوا: أهل البدع إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت كافر، وأهل السنة إذا اختلفوا قال أحدهم لصاحبه: أنت مخطئ، وشتان ما بين هذا وذاك.
فإطلاق التكفير علامة على أن من قال ذلك مبتدع، إن لم يكن حكمه موافقاً للشرع.
وأصحاب الكبائر عند الخوارج كفار، وغلاة الخوارج يكفرون بالذنب، سواء كان صغيراً أم كبيراً، يعني: أدنى معصية يفعلها العبد يكفر بها عند غلاة الخوارج.
والمعتزلة لهم قول كذلك في مرتكب الكبيرة، فهم يقولون: مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر، هذا حكمه في الدنيا، ولا أعرف كيف سيكون التعامل مع إنسان لم تبد هويته ولا يعلم أهو مؤمن أم كافر أم فاسق؟ وأما في الآخرة فإنهم يقولون: إنه مخلد في النار.
والخلود لا يكون إلا للكفار الأصليين، أو الذين طرأ عليهم الكفر، أي: الذين بدلوا دينهم وخرجوا من ملة الإسلام، وهم حكموا عليه في الدنيا بأنه ليس كافراً، وحكموا عليه في الآخرة بأنه مخلد في النار، فوصلوا إلى هذا التخبط، وهذا الكلام لا تصدقه عقول العجائز وصبيان الكتاتيب، ولذلك قال غير واحد من السلف: عليك بدين الصبي في الكُتَّاب والعجوز في البادية، واله عما سواهما، يعني: لا يضرك من خالفهما، وهذا الكلام أحرى أن يكتب بماء الذهب، وكلام السلف عصمة لكل أحد، بل هو حجة على كل أحد، فإذا انحرف الشخص فلينحرف ما شاء، فإنه لا عذر له بعد سماع هذه النصوص بين يدي الله عز وجل إلا أن يأتي ربه بقلب سليم.
قال: [(يا ابن سلام! على كم تفرقت بنو إسرائيل؟ قال: على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد على بعض بالضلالة، قالوا: أفلا تخبرنا لو قد خرجت من الدنيا فتفرقت أمتك على هذا)].
يعني: يا رسول الله! قد أخبرناك عن بني إسرائيل، فأخبرنا أنت إذا متَّ وخرجت من الدنيا إلام تصير أمتك؟ [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بني إسرائيل تفرقوا على ما قلت يا ابن سلام! وستفترق أمتي على ما افت(10/8)
شرح رواية عوف بن مالك الأشجعي لحديث افتراق الأمة
قال: [وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال)].
وقوله: (قوم يقيسون الأمور برأيهم) يدل على مخالفة هذه الفرقة الضالة لفرقة الحق الناجية في أصول الدين لا في فروعه.
وهذه الفرق تخالف في الحلال والحرام، فتجعل الحرام حلالاً، وتجعل الحلال حراماً.
والتفرق لا بد أنه واقع في الأمة، ولا حاجة إلى إثبات ذلك من قبل النقل؛ لأن النقل ثابت لا محالة بطرق متعددة كثيرة، والواقع يقول: إن التفرق قد حصل ووقع بالفعل، فلو لم يرد نص بإثبات وقوع التفرق في الأمة لآمنا بوقوع التفرق؛ لأنه قد وقع في المجتمع.
فإذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بوقوع التفرق في الأمة فنقول: إن هذا من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر عن أمر غيبي سيكون فكان، وهذا يدل على أن ذلك من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام.
الثانية: قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار)، والكفر لا يطلق على فرقة بأكملها، وإنما يغلب الكفر البواح على بعض الفرق، ونحن نحجم عن إطلاق لفظ الكفر على بعض الفرق، ولكن في الغالب غلاة الفرق كفار مارقون عن دائرة الإسلام، وأما عامة الفرق فإنه لا يحكم عليهم بالكفر حتى تظهر لهم الحجج والبينات.
والإمام الذهبي عليه رحمة الله يقول: والحمد لله أن عصمنا من هؤلاء وهؤلاء، وكنا في زمان غير زمانهم، يقصد زمن علي ومعاوية.
يقول: فما ذنب من نزل بالشام طفلاً رضيعاً على حب معاوية والمغالاة فيه، وذم علي رضي الله عنه، وما ذنب من نزل بالكوفة والبصرة طفلاً رضيعاً على حب علي رضي الله عنه والمغالاة فيه، وعلى ذم معاوية رضي الله عنه، أي: أنهم كالغنم السائمة أينما قيدت انقادت، لا علم لهم ولا فقه، وليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار) يقضي بأن جميع هذه الفرق في النار، ولا يلزم من دخولها النار الخلود فيها، إلا إذا كانوا قد مرقوا وخرجوا عن دائرة الإسلام فإنهم يخلدون، وأما غيرهم فإن دخلوها -وهم لا محالة داخلوها؛ لخبره عليه الصلاة والسلام- فلا يلزم من دخولهم الخلود، وإن جاء في بعض الروايات أنهم يخلَّدون في نار جهنم؛ فإن الخلود في لغة العرب محمول على المكث الطويل، لا دخولاً أبدياً سرمدياً.
وقوله: (كلها في النار) يلزم منه التفريق بين من كان كافراً وبين من كان عاصياً من أصحاب هذه الفرق، وكلهم يدخلون النار، ثم منهم من يخرج منها بعد أن يخلد فيها حيناً من الزمان، ومنهم من يمكث فيها أبداً، على حسب ما إذا كان قد كفر ببدعته أو لم يكفر ببدعته.
الثالثة: أن الفرقة لا يمكن أن تطلق على كل مبتدع، سواء كان واحداً أو جماعة أو طائفة من الناس، إلا إذا خالفت في الأصول والقواعد والكليات العامة للدين الإسلامي.
يعني: إذا خالف إنسان في فرع من فروع الشريعة فلا يقال: هو خارجي، أو شيعي، أو قدري، أو مرجئي، أو أشعري، ولا يقال ذلك إلا إذا خالف في أصل من أصول الشريعة، وكلية من كلياتها؛ فصارت هذه المخالفة علامة عليه وعلى منهجه وفكره، فهنا يستحق أن يلحق بإحدى هذه الفرق التي انتهج مخالفتها في هذه الكليات والقواعد العامة.
فإذا وافق شخص القدرية في بعض الفرعيات فإنه لا يكون قدرياً، وأما لو وافقها في الأصول العامة والكليات العظمى التي خالفت فيها هذه الفرقة أهل السنة والجماعة؛ فإنه يكون قدرياً، فبناء على مخالفتهم في هذه القواعد العامة والأصول الكلية استحقوا أن يكونوا فرقة ضالة، ولو وافقهم أحد في هذه الكليات والقواعد العامة يكون منهم.
إذاً: ليس كل من أحدث في الدين أو ابتدع بدعة في فرعية من الفرعيات يسمى فرقة، وإنما يعزر لأجل مخالفته أو يؤدب، وأما إلحاقه بالفرقة فلا.(10/9)
منهج جماعة التكفير
جماعة التكفير في هذا الزمان خالفوا في الأصول العامة والقواعد الكلية للشريعة الإسلامية، فاستحقوا أن يكونوا خوارج كأجدادهم؛ لأنهم تبنوا أصول أسلافهم من الخوارج في سالف عهدهم، فهذه الطائفة أولى بها أن تلحق بتلك الفرقة الضالة، فمنهم من يكفر ببدعته، ومنهم العامي الذي لا يكفر ببدعته.
وقد انتشروا في هذا الزمان انتشاراً أنتم تعلمونه وتعلمون أماكنهم، وقد وجد هذا الفكر طريقه في وسط الأحياء الراقية.
وهذا الفكر لا يزال إلى الآن مستمراً في إحياء منهج الخوارج، وإن زعموا أنهم قد تابوا، ولو أنا قبلنا منهم ذلك، فإن عملهم ومسلكهم الأخلاقي ينبئ أنهم لم يتوبوا من هذا الفكر، وهم يجمعون أنفسهم الآن، وقد دخل غيرهم في وسطهم، وهم لا يزالون على تنطعهم الأول في اهتمامهم بالفرعيات، وشغل الناس بها، وهذه المعاصي الظاهرة التي لا تعد من الكبائر يجعلونها من أعظم الكبائر، حتى قال أحدهم: إن الالتزام بالزي الإسلامي لازم لكل مسلم قبل إيمانه بالله، ولا أدري كيف يصدر هذا الكلام من إنسان له عقل، فضلاً عن تبني ذلك، فهو يقول: الالتزام بالزي الإسلامي أسبق في الوجوب من الإيمان بالله ورسوله! فلو كان هناك كافر مثلاً فهل نطالبه بأن يلبس الثوب والعمامة؟ وهل هذا كلام مقبول؟ فهؤلاء يضربون بالنعال، ولا يوقفهم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهم قد بدءوا الآن يرفعون عقائرهم مرة أخرى، فلا بد من ضبطهم وإثبات عوارهم وفسادهم الأخلاقي والعقدي في المجتمع؛ حتى يحذر الناس منهم.(10/10)
شرح أثر علي بن أبي طالب في افتراق الأمة
قال: [قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة، كلها في الهاوية وواحدة في الجنة].
وقوله: (كلها في الهاوية) أي: في النار، (إلا واحدة)، وهي الجماعة، وهم أهل السنة، وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وهم من كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وهذا يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا واحدة)، وهذا يدل على أن الحق واحد غير متعدد، خاصة في هذه الأمور العامة الكلية التي أجمع أهل العلم باستنادهم على ثبوتها من دين الله ضرورة، والتي لا يسع المسلم الجهل بها.
فمن قال من الناس -مثلاً- إن الله لم يفرض الصلوات الخمس، وإنما هما صلاتان في الصباح والمساء فقد كفر بذلك، ومن قال إن الله تعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، ونحن قد آمنا بالكعبة، ولكن لا أدري أهي التي في مكة أم أنها كعبة غيرها فقد كفر؛ لأن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يصح لأحد أن يدعي أنه يجهل ذلك، كمن يقول: أنا أعلم أن الله فرض علي صيام شهر في السنة، وهو شهر رمضان، ولكن لا أدري هل نحن في شهر رمضان أم لا؟ فهذا نعجز أمامه أن نثبت له أننا في رمضان.
وإذا كانت الشمس ساطعة وقال: أنا مؤمن بأن الله تعالى خلق الشمس، وأنها تشرق من المشرق، وتغرب في المغرب، لكني لا أدري هل هذه الشمس هي التي خلقها أم غيرها؟ وهو يقول هذا الكلام في الظهر، فكيف نثبت له أن هذه شمس؟ لن نستطيع إثبات ذلك؛ لأنه فقد بصره وبصيرته، وعلى أم عمرو السلامة.
فلو أنه نازع في أصل أصيل لا ينازع فيه أجهل الجاهلين فإنه لا حجة له عليه، وهذا يدل على أن الفرقة الناجية واحدة، وأن الحق الذي تستند إليه، والأصل الذي تتمسك به، والذي به نجت من النار ودخلت الجنة، هو كذلك واحد، وهو كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام وإجماع أهل العلم.
فهم لا يجتهدون بعيداً عن القرآن والسنة وإجماع العلماء، ولا يتكلمون كلاماً من أهوائهم ثم يقولون: هذا كلامنا وهذا اجتهادنا، فالاجتهاد حتى يكون معتبراً مقبولاً لا بد أن يبنى على أصول صحيحة من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا كيف نعرف أن هذا المجتهد أصاب أو أخطأ إلا برجوعه في اجتهاده إلى هذه الأصول الثلاثة، وموافقته الكتاب والسنة والإجماع، أو نعرف أنه أخطأ إلا بمخالفته للكتاب والسنة والإجماع.
فالخلاف نوعان: مذموم، واعتماده على الرأي.
وممدوح، واعتماده على المصادر الأصيلة في الإسلام، وهي الكتاب والسنة والإجماع.
فهذه الفرق فرق ضالة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنها ضالة، وأن ضلالها يؤهلها إلى الدخول في النار، ثم منهم المخلد، وهو الكافر، ومنهم غير المخلد، وهو الفاسق.
والخلود في لغة العرب يعني: المكث الطويل، والمجموعة المخالفة لما كان عليه السلف لا يمكن إطلاق الفرقة عليهم إلا إذا خالفوا في الأصول العامة والقواعد الكلية، وأما إذا خالفوا في فرع أو فرعين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، فلا يستحقون اسم الفرقة.
وقال بعض أهل العلم: إذا بالغوا في مخالفتهم للفروع استحقوا اسم الفرقة؛ لتهديمهم بهذه الفروع معالم الشريعة، ولهذا الكلام وزن، يعني: يمكن أن يكون مقبولاً، لكن الكلام الذي لا نزاع عليه أنه إذا وقعت المخالفة في الأصول العامة والفرائض الكلية وكانت علماً على هذه الطائفة، استحقوا أن يكونوا فرقة.(10/11)
الفرق بين الجماعة والفرقة
الذي أؤكد عليه أن الفرق قائم وضروري بين الفرقة والجماعة، أو الطائفة من الناس، وكثير من الناس يقولون: إن هذه الجماعات الدعوية التي أخذت على عاتقها واجب إصلاح المجتمع الإسلامي في الشرق والغرب بعد سقوط الخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك لعنه الله؛ فرق ضالة، وهذا الكلام في غاية الخطأ، وإن قال بعض أفراد هذه الجماعات ما قالته فرقة بعينها ألحق هذا الشخص بالفرقة الضالة التي تبنى هو أصولها، ولا أعتقد أن جماعة من هذه الجماعات الإصلاحية الدعوية على الساحة تتبنى مذهب الخوارج أو مذهب الاعتزال أو مذهب الإرجاء أو مذهب الرفض مثلاً، إلا الشيعة في إيران وغيرها.
والجماعة التي وردت في النصوص هي جماعة الإمام الأعظم، وأما اعتبار هذه الجماعات فرقاً، فهذا من أعظم الظلم؛ لأنه ليس ثمة جماعة من هذه الجماعات تبنت أصول إحدى الفرق الضالة.(10/12)
أصول الفرق الضالة ومرجعها
هذه الفرق وإن كانت ثنتين وسبعين فرقة إلا أنها في أصلها ترد إلى أربع فرق أو خمس، وهي: الرافضة أو الشيعة، والخوارج، والجهمية، وبعضهم كـ عبد الله بن المبارك يقول: إن الجهمية ليسوا من فرق الضلالة، وإنما هم كفار أصليون، لا علاقة لهم بفرق الإسلام.
ولذلك لما سأله يوسف بن أسباط: ما هذه الفرق التي ذكرها ابن عمر في حديثه؟ قال: الروافض، والخوارج، والمرجئة، والمشبهة.
قال: يا أبا عبد الرحمن! لم تعد الجهمية؟ قال: وهل سألتني عن الكفار؟ إنما سألتني عن فرق الضلالة، وأما الجهمية فإنهم كفار.
فهذا تصريح من عبد الله بن المبارك -وهو إمام الأئمة وسيد العلماء في زمانه- بأن الجهمية أتباع الجهم بن صفوان ليسوا من أهل الإسلام، وإنما هم من فرق الضلالة؛ لأنهم من أول يوم مرقوا وخرجوا عن الإسلام بالكلية.
فمرد الفرق إلى هذه الأربع أو الخمس، ثم تفرقت كل فرقة منها إلى فرق متعددة، وبلغت كل فرقة منها فوق العشرين أو دونها، حتى أصبح مجموع هذه الفرق كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتاب الفتاوى قال: فهذه الفرق بلغت في صدرها الأول اثنتين وسبعين فرقة.(10/13)
علامات الفرقة الناجية
الفرقة الناجية واحدة، ولها علامات وأمارات، فهم ليسوا أقواماً تحزبوا في أماكن وانحازوا فيها، وإنما استحقوا ذلك باتباعهم للسنة ونقدهم للبدعة ومحاربتهم لها، ونصرتهم للحق الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام.
ولذلك قال سفيان لـ يوسف بن أسباط: يا يوسف! إذا سمعت برجل من أهل السنة في المشرق فأرسل إليه السلام، وإذا سمعت به في المغرب فأرسل إليه السلام؛ فإن أهل السنة قلة.
أي: فإن علماء السنة الداعين لها المستمسكين بها قلة.
ولذلك قال عنهم: (طائفة)، قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
ولذلك سموا بالجماعة، وسموا أهل السنة؛ لأنهم متمسكون بالسنة، خاصة في الاعتقاد، والسنة هنا لا تعني حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هي في مقابلة البدعة في الاعتقاد، ولذلك يقولون: فلان سني وفلان بدعي وفلان على السنة وفلان على البدعة.
فالسنة عند إطلاقها في باب الاعتقاد أو كتب الاعتقاد تعني القيام على عقيدة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، وسموا بالجماعة لأنهم اجتمعوا على هدف واحد.(10/14)
من هم الفرقة الناجية والجماعة
اختلف أهل العلم من هم الجماعة؟ فقيل: هي جماعة الإمام الأعظم، أي: جماعة الخليفة ومن معه من الناس، وقيل: هي السواد الأعظم من الناس، وقيل: هي جماعة العلماء والمجتهدين، سواء كان معهم العامة أو ليس معهم العامة، وقيل: هي جماعة الصحابة على جهة الخصوص؛ لأنهم معصومون بعصمة الله لهم من الوقوع في إحدى هذه الفرق الضالة، فلما كانوا معصومين على هذا النحو الذي ذكرت استحقوا أن يكونوا هم الجماعة الذين تتمثل فيهم القدوة والأسوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم من كانوا على الحق وإن قلوا، ولذلك يقول ابن مسعود: الجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك.
والنبي عليه الصلاة والسلام بمجرد أن أرسله الله عز وجل قبل أن يدخل أحد في دينه كان وحده هو الجماعة، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه كان في زمانه وحده على الحق وهو جماعة، فقد كان الحكام والأمراء والعلماء وغيرهم من الكبار والصغار في زمن أحمد من المعتزلة، وقد حدا هذا ببعض أهل العلم أن يذهب إلى أحمد في بيته ويقول له: يا أحمد! أنت تقول: إن ما نحن عليه هو الباطل، وأن ما أنت عليه هو الحق، فلو كان ما نحن عليه هو الباطل فلِمَ أظهره الله على الحق؟ فقال أحمد: ومن قال لك بأنكم ظاهرون؟ ألا تدري أن الظهور هو انتقال القلوب من الحق إلى الباطل؟ قال: وقد انتقلت.
قال: ومن قال لك إنها انتقلت؟ أما أنا فقلبي مطمئن بالحق الذي هو عليه.
أي: يريد أن يقول له: ولو كانت القلوب كلها تحولت إلا قلباً واحداً فقط لم يتحول فإنه الحق، وإنه الجماعة.
وهذه الفتنة كانت في القرن الثالث، والإمام أحمد مات سنة (241هـ)، فهو يريد أن يقول له: أنا وحدي على الحق، ثم سرعان ما زال الباطل ولم يصمد أمام رجل واحد، والذي حارب المعتزلة في زمان أحمد هو الإمام أحمد فقط، والأمة كلها اعتبرت الإمام أحمد هو الذي كان على الحق في زمانه، والأمة بأسرها أو في مجموعها كانت معتزلة، ومع هذا ثبت الله تبارك وتعالى أحمد رحمه الله حتى ظهر دين الله عز وجل.
وقد جاءه شخص مشفق عليه يقول له: يا أحمد! قل هذه، وما الذي تخسره؟ فنظر أحمد إلى الآلاف التي وقفت في المشهد، وقال له: إن هذه المحابر تنتظر هذه الكلمة، يعني: تنتظر أن تزل قدم أحمد في هذا الموقف، فضحى أحمد بنفسه لأجل سلامة أمة، فاستحق أن يكون الصديق الثاني للأمة كما سماه بعض أهل العلم.
قال أحمد: فعبر رجل النهر ودخل علي، ولا أحد منهما يعرف الآخر، وفي طريقه إلى أحمد كان يسأل: أين أحمد؟ فدلوه على الإمام أحمد في السجن، حتى وصل إلى أحمد فقال: يا أحمد! اثبت؛ فإنك على الحق، وما هو والله إلا سوط واحد ولا تشعر بشيء بعده.
فالقضية قضية دين ودعوة وشرع، وقضية أن تذهب بنفسك وتبقى أمة وتعلو راية، فلا تكن أنت أول من يسقطها، ولا أول من يضيع العلم، ولا أول من يضيع الأمة، وأنت لو ذهبت فإنك تذهب إلى رب كريم.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد.(10/15)
الأسئلة(10/16)
مدى صحة الروايات الوارد فيها خصائص الفرقة الناجية
السؤال
ما صحة الروايات التي ذكرت في علامات الفرقة الناجية في أحاديث الافتراق؟
الجواب
معظم الزيادات التي وردت -وليست كل الزيادات- في حديث الافتراق في بيان الفرقة الناجية وما هم عليه زيادات ضعيفة، وأنا أقر بذلك، ولكن هذه الزيادات أجمعت الأمة على أنها من خصائص أهل السنة والجماعة.(10/17)
التعريف بالماتريدية
السؤال
وجدت في أحد المساجد كتاباً عنوانه: تأويلات أهل السنة من الماتريدية في الأسماء والصفات، وهو كتاب كبير، فمن هم الماتريدية؟
الجواب
الماتريدية هم أتباع أبي منصور الماتريدي، والماتريدية والأشعرية هما فرقتان، ولكن أدخلت الماتريدية مع الأشعرية أو مع المئولة؛ لأن أصولهم تكاد أن تكون واحدة.
والأزهر الشريف يدرس الأشعرية والماتريدية على أنهما مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا الكلام في غاية التدليس، فلم يكن أهل السنة والجماعة أشعرية في يوم من الأيام ولا ماتريدية، وإنما الأشعرية والماتريدية فرقتان من فرق الضلالة.
والله تعالى أعلم.(10/18)
حكم إجابة المستحلف، وحال نوال السعداوي
السؤال
إذا استحلفك أحد بالله فهل ترد عليه؟
الجواب
ليس من السنة الاستحلاف، والاستحلاف في طلب مثل هذا محل نظر عند أهل العلم.
وعند ذكر أهل العلم تنزل الرحمات، وعند ذكر أهل المعاصي تتنزل اللعنات، وهذا مجلس علم، فإذا ذكرنا فيه الكفار والمجرمين فإن الله تعالى يحفظنا من اللعنات، حتى وإن كان بيننا شقي، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ونوال السعداوي كتبت في الأسبوع الماضي مقالاً تبين فيه أن ختان الرجال ليس من الدين.
وأنا أرجو ممن نازع في ختان الإناث في السنوات الماضية والذين كانوا يقولون: لا داعي لمسألة ختان الإناث؛ لأن هذا إجرام، ويثبت ختان الرجال؛ أرجو منهم الرد عليها؛ لأنها منهم وهم منها، والرد المحلي أحسن من الرد الخارجي أو المستورد.
فأرجو من شيخ الأزهر ومن معه ممن حاربوا ختان الإناث أن يردوا على نفسهم وابنة عمهم نوال السعداوي.
ونوال السعداوي تتضايق جداً في هذا المقال وتقول: إنني أغضب غضباً شديداً حينما يقول لي شخص: يا حجة! ونحن والله لا نستحل أن نقول لها: يا حجة! حتى وإن حجت مراراً؛ لأنها لا علاقة لها بالإسلام، فكيف تحج؟ أو كيف يقبل منها حج؟ فهي مارقة خارجة، مستعدون لأن فـ نوال السعداوي ومن معها لا علاقة لهم بالإسلام ألبتة؛ لأنها قد أتت من الأقوال والأعمال ما يجعلنا نكفرها.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(10/19)
شرح كتاب الإبانة - ذكر فرق الشيعة
تعد الشيعة من أوائل الفرق ظهوراً في تاريخ الإسلام، وقد كان لها أثر سيئ في تفريق وإضلال كثير من الناس، وقد وقف لها سلف الأمة بالمرصاد، فبينوا ضلالها، وحذروا الناس منها، وهي أكثر من ثلاثين فرقة، ومردها جميعاً إلى أصول ثلاثة: غلاة، وزيدية، وإمامية.(11/1)
فرقة الخطابية من الشيعة ومعتقداتها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن الفرق التي ظهرت في الإسلام، وقد تكلمنا عن الفرقة الأولى وهي: الشيعة، وهي من أوائل الفرق ظهوراً، وبينا أن الشيعة إنما مردها جميعاً إلى أصول ثلاثة: فهم إما غلاة، وإما زيدية، وإما إمامية.
وتكلمنا عن بعض فرق غلاة الشيعة وقلنا: إن منها: السبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام.
ومنها: الكاملية، وهم أصحاب أبي كامل.
ومنها: البيانية، وهم أصحاب بيان بن سمعان.
ومنها: المغيرية، وهم أصحاب المغيرة بن سعيد.
ومنها كذلك: المنصورية، وهم أصحاب أبي منصور العجلي.
ومنها: الجناحية، وهم أصحاب عبد الله بن جعفر ذي الجناحين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومنها: الخطابية، وهم أصحاب أبي الخطاب الأسدي، واسمه: محمد بن أبي زينب الأجدع، مولى بني أسد، أبو إسماعيل، وقد قتله عيسى بن موسى والي الكوفة من قبل العباسيين في عام 143هـ.
وقد عزا أبو الخطاب الأسدي نفسه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق، فلما علم منه جعفر الصادق غلوه في حقه تبرأ منه، فلما اعتزل عنه ادعى الأمر لنفسه، وهو نفس ما فعله من قبل أبو منصور العجلي]، أي: أنه لما يظهر غلوه يتبرأ منه الإمام، ثم يزعم أن الأمر لنفسه بعد ذلك.
وهؤلاء الخطابية يقولون: إن الأئمة أنبياء أو رسل، وهذه أول بلية من بلاياهم، وهم يقولون: إن أبو الخطاب إمام، إذاً فهو نبي، ويزعمون أن الأنبياء فرضوا على الناس طاعة أبي الخطاب، أي: أن الأنبياء تنبئوا بنبوة أبي الخطاب، ولذلك أمر كل نبي قومه بطاعة أبي الخطاب، بل يزيدون على ذلك ويقولون: إن الأئمة آلهة، وهذا الكلام لا يستغرب منهم؛ لأن الذي يغالي في الإمام لابد أنه يضعه في موضع العصمة، وبالتالي لابد أن يثبت له النبوة، ثم إذا ثبت لأحد النبوة عند هؤلاء الفرق الضالة فاعلم أنه لابد أن يصل إلى مرحلة ادعاء الإلهية.
كما يزعمون أن الحسنين ابنان الله تعالى! وأن جعفر الصادق إله، لكنَّ أبا الخطاب أفضل منه ومن علي، ويستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم، والإمام بعد قتل أبي الخطاب هو معمر، ذهب إلى ذلك جماعة منهم، فعبدوا معمراً كما كانوا يعبدون أبا الخطاب، وقالوا -أي: المعمرية أتباع معمر خليفة أبي الخطاب -: إن الجنة هي نعيم الدنيا، والنار آلامها، أي: أنهم لا يؤمنون بالجنة والنار كما يؤمن أهل السنة، والدنيا عندهم لا تنتهي بقيام الساعة؛ لأنهم لا يؤمنون بالساعة، ولا يؤمنون بالبعث ولا بالنشور.
كما استباحوا المحرمات: من الخمر والسرقة والزنا وشرب الخمر وغير ذلك، وتركوا الفرائض من التوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من سائر الواجبات.
وقيل: إن الإمام بعد قتله هو بزيغ، ذهب إلى ذلك طائفة أخرى منهم، وقالوا -أي: البزيغية-: إن كل مؤمن يوحى إليه! أي: أن الوحي لا يزال ينزل على كل مؤمن، متمسكين في ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:145]، أي: إلا بوحي من الله، فلا تموت عندهم نفس قط إلا إذا أوحى الله تعالى إليها، ولو أوحى إليها: أن موتي؛ فهذا نوع من أنواع الوحي.
وزعموا أن في أصحاب بزيغ من هو خير من جبرائيل وميكائيل! وإذا كان هذا في أصحاب بزيغ وهو الإمام الثالث في هذه الطائفة من الخطابية بعد أبي الخطاب ومعمر؛ فما بالكم بـ بزيغ كيف يكون حاله؟! وهم لا يموتون أبداً، فإذا بلغوا النهاية رفعوا إلى الملكوت، وعلى أي حال فهذا مصطلح عندهم ربما عم به البلاء؛ لكن البلاء عندما أوصلوا بـ بزيغاً إلى مرحلة الإلهية، وبزيغ قد مات، وهم الذين دفنوه، فكيف يدفن إله، ومن دون الإله يرفع إلى الأعلى؟! فهذا كلام كله تخبيط.(11/2)
فرقة الغرابية من الشيعة ومعتقداتها
ومنها: الغرابية، ولقبوا بذلك لأنهم قالوا: كان محمد أشبه بـ علي من الغراب بالغراب، ومن الذباب بالذباب، وهذا مثل قبيح جداً؛ لأن الغراب عند العرب من الطيور الحقيرة، ولم يقولوا ذلك من فراغ، ولذلك ضربوا هذا المثل الحقير في مشابهة النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي بن أبي طالب، فقالوا: كان محمد أشبه بـ علي من الغراب بالغراب، والذباب بالذباب؛ لأنك لو أتيت بذبابتين أو غرابين فربما لا تكاد تميز بينهما.
كما قالوا: إن جبريل عليه السلام أُمر أن ينزل بالوحي على علي، لكن لوجود الشبه بين علي ومحمد أخطأ جبريل فنزل على محمد.
ولذلك هم يتقربون إلى الله -بزعمهم- بسب صاحب الريش، ويعنون بصاحب الريش: جبريل عليه السلام، فهم دائماً يلعنون جبريل عليه السلام.(11/3)
فرقة الذمية من الشيعة ومعتقداتها
ومنها: الذمية، ولقبوا بذلك لأنهم ذموا وسبوا وشتموا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأن علياً هو الإله، وقد بعث من يدعو الناس إليه، فدعاهم إلى نفسه.
أي: هم يقولون: بإلهية علي بن أبي طالب، وأن علي بن أبي طالب -باعتباره إلهاً- هو الذي بعث محمداً عليه الصلاة والسلام؛ ليدل الناس عليه، لكنه دل الناس على نفسه، وبالتالي يكون محمداً قد غدر وخان إلهه وهو علي بن أبي طالب.
وقالت طائفة منهم بإلهيتهما، أي: بإلهية محمد وعلي، وأظن قائل هذا القول من فرق المعتزلة، ولهم في التقديم خلاف مشهور، أي: هما إلهان، لكن أيهما أكثر إلهية من غيره؟ فمنهم من قال: محمد، ومنهم من قال: علي.
وقال بعضهم بإلهية خمسة أشخاص، وهذه فرقة ثالثة داخل الفرقة الأولى، فقالوا بإلهية خمسة: محمد، وعلي، ثم الحسن، والحسين، وفاطمة رضي الله عنهم.
كما يزعمون أن هؤلاء الخمسة شيء واحد، وأن الروح حالة فيهم بالسوية، أي: أن الروح الإلهية نزلت فتقسمت وتوزعت بين هؤلاء الخمسة بالسوية، فلا مزية لواحد منهم على الآخر، ولا يقولون: فاطمة؛ تحاشياً للأنوثة؛ ولأنهم يعتقدون أن الإله لا يكون أنثى، بل يعبرون عنها بأي رمز، ورموزهم في ذكر فاطمة كثيرة جداً.
فإذا كانوا يعتقدون أن الإله لا يكون أنثى، ويتحاشون عن ذكر الاسم ليقينهم بأنها أنثى، وأنها أم الحسن والحسين؛ فكيف يجعلونها إلهاً في الوقت نفسه؟!(11/4)
فرقة الهشامية من الشيعة ومعتقداتها
ومنها: الهشامية، وهي من هذه الفرق الغالية الكافرة، وقد اتفقنا من قبل أن الغلاة من كل فرقة كفار، وعليهم تتنزل النصوص المطلقة التي وردت في السنة، وفي آثار السلف رضي الله عنهم.
وهؤلاء هم أصحاب هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي، وقد زعموا أن الله تعالى جسد، واتفقوا على ذلك، ثم اختلفوا، أي: اتفقوا على أنه جسد، لكنهم اختلفوا في كنه هذا الجسد، فهم قد اتفقوا على الكفر، ثم تفرع وتغلغل كل منهما في كفره.
يقول هشام بن الحكم: الله تعالى طويل، عريض، عميق، متساو طوله وعرضه وعمقه، وهو كالسبيكة البيضاء الصافية، ويتلألأ من كل جانب، وله لون وطعم ورائحة! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
وأقول هذا الكلام وأنا في منتهى الحزن، وغاية الغم والنكد أن يقول أحد ممن ينسب إلى الإسلام هذا الكلام، ولولا إجماع أهل العلم على أن ناقل الكفر ليس بكافر، وأن أئمة الدين وأعيان الشريعة إنما نقلوا إلينا مقالة هؤلاء الملاحدة الكفار؛ ما نقلنا إليكم كلمة واحدة من هذا.
وهذه الصفات المذكورة ليست غير ذاته تعالى، فهو تعالى يقوم ويقعد، ويتحرك ويسكن، وله مشابهة بالأجسام، ولولاها لم تدل عليه، ويعلم ما تحت الثرى بشعاع ينفصل عنه إليه! أي: أن الله تعالى لا يعرف ما تحت التراب إلا بشعاع ينبثق منه إلى هذا الذي تحت الثرى.
وهو سبعة أشبار بأشبار نفسه، مماس للعرش بلا تفاوت بينهما، على وجه لا يفضل أحدهما على الآخر، وإرادته تعالى حركة هي لا عينه ولا غيره، وإنما يعلم الأشياء بعد وقوعها وحدوثها لا قبل ذلك، وهم بهذا يتفقون مع القدرية.
وعلمه بالأشياء بعد كونها لا قبله بعلم لا قديم ولا حادث؛ لأنه صفة والصفة لا توصف، وكلامه صفة له لا مخلوقة ولا غير مخلوقة؛ لما مر.
والأعراض لا تدل عليه، وإنما تدل عليه الأجسام؛ لما عرفت من مشابهته إياها.
والأئمة عندهم معصومون دون الأنبياء، وحجتهم في ذلك: أن النبي يوحى إليه، ويتقرب به إلى الله، بخلاف الإمام فإنه لا يوحى إليه، فوجب أن يكون معصوماً، وكذلك: أن الله تعالى هو الذي تولى حفظ ورعاية النبي، وهذا بخلاف الإمام، فإنه للزوم عصمته لابد أن يكون له ملك السماء.
وقال هشام بن سالم الجواليقي: الله تعالى على صورة الإنسان له يد ورجل، وخمس حواس: أنف وأذن وعين وفم، وله وفرة سوداء -أي: شعر أسود- ونصفه الأعلى مجوف ونصفه الأسفل مصمت، إلا أنه ليس لحماً ودماً! وقائل هذا الكلام يكفر بلا خلاف عند أهل العلم.(11/5)
فرقة الزرارية من الشيعة ومعتقداتها
ومنها: الزرارية، وهم أصحاب زرارة بن أعين، وهؤلاء قالوا: صفات الله تعالى حادثة، أي: أن الله تعالى كان ذاتاً بغير صفات، ثم اكتسب الصفات بعد ذلك، فلم يكن عليماً ثم صار عليماً، ولم يكن قادراً ثم صار قادراً، ولم يكن قديراً ثم صار قديراً، ولم يكن رازقاً ثم صار رزاقاً وهكذا، أي: أنها مستحدثه بعد أن لم تكن! تعالى الله عن قولهم العظيم علواً كبيراً.
وقبل حدوثها لم يكن لله تعالى حياة ولا علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر، فيلزم حينئذ ألا يكون حياً، ولا عالماً، ولا قادراً، ولا سميعاً، ولا بصيراً!(11/6)
فرقة اليونسية من الشيعة ومعتقداتها
ومنها: اليونسية، وهم أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي، مولى آل يقطين، وهم من جهة الشيعة، وقد صنف لهم كتباً في ذلك، أي: في تشبيه الله عز وجل، وهو الذي قال: إن الله تعالى على العرش تحمله الملائكة، وهو أقوى من الملائكة، مع كونه محمولاً لهم!(11/7)
فرقة الشيطانية أو النعمانية من الشيعة ومعتقداتها
ومنها: الشيطانية، وهم أصحاب محمد بن النعمان الملقب بـ شيطان الطاق.
وكذلك يسمون النعمانية؛ نسبة إلى صاحبهم محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول الملقب بـ شيطان الطاق، ويلقبه الشيعة بمؤمن الطاق! فانظر إلى تحريف الشيعة، فالعالم كله يسمونه: شيطان الطاق، لكن لما كان شيعياً ومنظراً من منظري الشيعة سموه: مؤمن الطاق! وهو ليس مؤمناً.
وقد صنف كتباً جمة للشيعة منها: افعل لم فعلت، ومنها: افعل لا تفعل.
ويذكر في هذه الكتب أن كبار الفرق أربع: القدرية، ثم الخوارج، ثم العامة، ثم الشيعة.
وقال هذا الشيطان: إن الله نور غير جسماني، ومع هذا هو على صورة إنسان، وإنما يعلم الأشياء بعد وقوعها لا قبلها.(11/8)
فرقة الرزامية من الشيعة ومعتقداتها
[ومنها: الرزامية، وهم أتباع رزام بن رزم، وهؤلاء ظهروا في خرسان في أيام أبي مسلم صاحب الدولة في ذلك الوقت، والذي كان على مذهب الكيسانية في الأول، ثم حاد إلى أبي العباس عبد الله بن محمد بن عباس وقلده أمره.
وهؤلاء قالوا: إن الإمامة بعد علي لـ محمد بن الحنفية، ثم لابنه عبد الله، ثم لـ علي بن عبد الله بن عباس، ثم لأولاده إلى المنصور، ثم حل الإله في أبي مسلم، وأنه لم يقتل، واستحلوا المحارم، وتركوا الفرائض]، واستحلالهم للمحارم لوحده كاف في الكفر؛ لأن أهل السنة متفقون على أن من أحل حراماً، أو حرم حلالاً متعمداً بعد قيام الحجة عليه؛ فإنه يكفر.(11/9)
فرقة المفوضة من الشيعة ومعتقداتها
[ومنها: المفوضة، ولقبوا بذلك لأنهم يقولون: بأن الله تعالى فوض الخلق كله إلى محمد] أي: أن الله قال: يا محمد! أنا فوضتك في أن تخلق الدنيا وما فيها! [وقال بعضهم: بل فوض ذلك إلى علي] أي: أنهم متفقون على أن الله فوض أمر الخلق إلى غيره، لكن منهم من قال: إن هذا الغير هو محمد، ومنهم من قال: هو علي، والمهم أنهم ينفون عن الله تعالى صفة الخلق؛ لأنه لم يخلق، وإنما فوض الخلق إلى غيره من المخلوقين.(11/10)
فرقة البدائية من الشيعة ومعتقداتها
ومنها: البدائية، أي: الذين جوزوا على الله البداء، والبداء مصطلح في غاية الأهمية نجده في كتب المتكلمين، كما تجد في كتب الأزهر إثبات الكلام النفساني لله عز وجل! فأنت رجل من أهل السنة تعلم أن الله تعالى يتكلم متى شاء، وكيف شاء، وبأي كلام شاء، ويتكلم المولى عز وجل بحرف وصوت، لا ككلام البشر، ويتكلم بكيفية تليق بجلاله وكماله، فأنت تعلم هذا الأمر ومؤمن به.
بينما تقرأ في كتب الأزهر: أن الله تعالى يتكلم بكلام نفساني، فما معنى: أن الكلام نفساني؟ إن كنت لا تعلم معناها فستمرها كما هي، ثم بعد ذلك عندما تكون في موطن المسئولية ستعلمها الغير، وبهذا تكون قد أسهمت في نشر الباطل وأنت لا تدري أنه باطل.
القول بالكلام النفساني لله عز وجل أمر في غاية البطلان والخذلان، وهو مصطلح عند الأشاعرة والماتريدية الذين يقولون: إن الله تعالى لا يتكلم بصوت ولا حرف، وأما أهل السنة فيعتقدون أن الله تعالى يتكلم بصوت وحرف، بينما الأشاعرة يقولون: لا يتكلم بصوت ولا حرف، وإنما هو كلام نفساني، أي: أن الكلام يدور في نفس الله عز وجل، مثل السر تماماً حينما يحيك في صدرك، ثم إن الله عز وجل يطلع جبريل عليه السلام على هذا الكلام النفساني فيعرفه جبريل، فإذا عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإذا عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإذا عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وهذا يعني في نهاية الأمر أن القرآن هذا كلام جبريل، وليس بكلام الله عز وجل! أرأيتم خطورة هذا المصطلح، ففي نهاية الأمر أن الله تعالى لا يتكلم، لكنه يدور في نفسه الشيء فيطلع عليه جبريل، ثم يعبر عنه جبريل من عند نفسه؛ لأن جبريل له شأن كبير، فهو يعرف كل اللغات، فإذا عبر بالعبرانية فهو التوراة، وإذا عبر بالسريانية فهو إنجيل، وإذا عبر بالعربية فهو قرآن.
وفي نهاية الأمر هذه الكتب السماوية من كلام جبريل لا من كلام الله عز وجل! والصواب: أن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت، ويتكلم بما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء، وأن كلام الله تبارك وتعالى لا ينفد ولا يفنى.
وأما أهل الباطل فإنهم يعتقدون أن الله تعالى لا يتكلم بحرف ولا صوت، وإنما له كلام نفساني.
وكذلك مصطلح: البداء، فإنك تجد بعض الفرق تجوُّز على الله البداء، أي: أن الله تبارك وتعالى يقول الشيء، ويأمر بالشيء، وينهى عن الشيء، ثم يعرض له ما كان جاهلاً به فيرجع عن أمره وينهى، فبعد أن نهى وهو يعلم أن هذا النهي فيه مصلحة للناس يبدو له بعد ذلك أن هذا النهي ليس فيه مصلحة للناس، بل فيه مفسدة، فيرجع عن نهيه، أي: أنه يفعل الشيء ثم يبدو له خلاف ما كان عليه في الأول، وهذا اتهام لله عز وجل بأنه ليس عظيماً ولا قديراً ولا حكيماً.
والذين جوزوا البداء على الله عز وجل هم من الفرق الضالة وليسوا من أهل السنة، ولا علاقة للنسخ ألبتة بالبداء، والنسخ محل نزاع بين أهل السنة، فمنهم من يقول به، ومنهم من لا يقول به، لكن الذي يقول به ليس من باب البداء على الإطلاق، وإنما هو باب آخر.
والبدائية لقبوا بذلك لأنهم جوزوا البداء على الله تعالى.(11/11)
فرقة النصيرية من الشيعة ومعتقداتها
[ومنها: النصيرية والإسحاقية، وهم موجودون في بلاد المسلمين، وأقول هذا الكلام لأن هناك فرقاً معاصرة موجودة، فإن كانت ليست موجودة عندك فهي عند غيرك، وأنت تذهب لغيرك وغيرك يأتي إليك، ثم أليس في بلادنا شيعة؟! عندما كنت في السنة الثالثة في الجامعة كان لي أصحاب شيعة، إلى أن قامت ثورة الخميني الإسلامية، وفي أثناء الثورة وقع تحت يدي كتاب: الحكومة الإسلامية للخميني، وهو مجلد صغير، فقرأته فوجدت نصفه كفراً، فعلمت أن هذا الرجل كذاب، وأنه مجرم أفاك، وأن هذه الثورة ليست ثورة إسلامية، بل هي ثورة شيعية، ومزقته وحذرت منها وأنا في الجامعة، فلما حذرت منها إذا بهؤلاء الأصدقاء الشيعة قد انقلبوا علي رأساً على عقب، وكانوا قبل هذه الثورة إذا اعترضهم شيء في دينهم استفتوا رجلاً من أهل العلم من أهل السنة، ثم أجدهم يخالفون الفتوى ويعملون بمعكوسها، وهذا مذهب الإمامية، إذ إن الإمامية على خلاف في الأصول والفروع مع أهل السنة، ولذلك استفتي الخميني من قبل طلاب جامعة القاهرة، فقيل له: ماذا نصنع إذا اعترضنا شيء في أمر ديننا أو دنيانا؟ فقال: إذا اعترضكم شيء في أمر دينكم فاسألوا عنه أحد الناصبة، فـ الخميني والاثنا عشرية الإمامية يسمون أهل السنة الناصبة؛ لأننا بزعمهم ناصبنا علياً العداء، ونحن في الحقيقة نحب علياً رضي الله عنه، لكن بغير إفراط ولا تفريط.
فقال: إذا اعترضكم شيء في أمر دينكم فاسألوا عنه أحد الناصبة -أي: أحد أهل السنة- ثم اعملوا بخلاف قوله! إنه حقد دفين، هذا الخميني الذي كان يمدحه ويثني عليه الكثير هنا في مصر، بل إن أعظم محافظة فتنت بـ الخميني هي المنصورة؛ إذ إنها أكثر محافظة فيها شيعة بعد القاهرة، وأنتم تعلمون أن أئمة التشيع في مصر وجودهم في المنصورة بعد وجودهم في القاهرة، لكن ليس لهم انتشار في المنصورة كما هو انتشارهم في القاهرة.
والنصيرية موجودة في سوريا، والزيدية وجودهم في منطقة من اليمن، والاثنا عشرية وجودهم الأول في إيران، ثم في العراق، والعجيب أن الزيدية والاثنا عشرية انتشروا انتشاراً عظيماً جداً في جنوب الحجاز، أي: في جنوب المملكة العربية السعودية، وأصبح لهم قوة وصولة وجولة لا يقف أمامها ملك البلاد ولا غيره.
كما لابد أن تعلموا أن الأسرة الحاكمة منذ قديم الزمان في سوريا نصيرية، وحافظ الأسد أنا أعتقد أنه لا علاقة له لا بالنصيرية، ولا بالنصرانية، ولا باليهودية، ولا بالإسلامية، فهو كغيره من الناس لا علاقة له بهذا كله، لكن أنا أقصد بالنصيرية هناك في سوريا في الشام، وحافظ الأسد ينسب إليها شاء أم أبى، وكذلك ولده الذي يحكم البلاد الآن هو نصيري.
فانظر إلى عقيدة هؤلاء فقد قالوا: إن الله تعالى تجلى في علي، فإن ظهور الروحاني في جسد جثماني أمر لا ينكر، وهذه العقيدة هي التي سماها الصوفية: عقيدة الحلول والاتحاد، أي: أن روح الإله حالة في روح فلان، أو حلت في فلان حتى صار فلان هو الإله، والإله هو فلان، وهذا هو الاتحاد، فصار كل منهما يدل على الآخر.
أما في جانب الخير فكظهور جبريل في صورة البشر، وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان في صورة الإنسان.
ثم قالوا: لما كان علي وأولاده أفضل من غيرهم، وكانوا مؤيدين بتأييدات متعلقة بباطن الأسرار قلنا: ظهر الحق سبحانه وتعالى في صورتهم، ونطق بلسانهم، وأخذ بأيديهم.
إذاً: فـ ابن حافظ الأسد عُين ملكاً أو رئيساً على هذه البلاد؛ لأن النصيرية يعتقدون أن روح الإله تحل في هذا الغلام؛ إذ إنه مؤيد بتأييدات السماء وبتأييدات الأرض.
وعليه فالذي اختاره عليهم هو الإله؛ لأن هذا معتقدهم، ومن هاهنا أطلقوا الآلهة على الأئمة، فهم يقولون: إذا حلت روح الإله في الإمام؛ مع اتحاد الإله والإمام باتحاد الروح فيهما؛ فلا بأس أن يكون الإمام إلهاً، ولذلك يقولون: من هاهنا أطلقنا الآلهة على الأئمة، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين؛ لأن هؤلاء شركهم ظاهر لا خفاء فيه، بل كانوا ينصبون له العداء، وأما المنافقون فإنهم أظهروا الإسلام، وشاركوا المسلمين في الأعمال الظاهرة، لكن علياً عرفهم فقاتلهم فقتلهم، وهذا يدل على أن علياً إله؛ لأنه يعلم السر وهو النفاق، وأما محمد فإنه ليس كذلك، بل عمل بالظاهر، فقالوا: إن محمداً حارب المشركين لظهور شركهم، وما استطاع أن يحارب المنافقين؛ لأنه لم يعلم النفاق فيهم، مع أن الله تعالى قد أطلعه على المنافقين بأسمائهم وأعيانهم وذواتهم، لكنهم ينكرون هذا كله.
وأن علياً قاتل المنافقين؛ لأنه عرفهم، وهذا يدل على أنه قد حلت فيه روح الإله، ولذلك يقولون: إن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الظاهر والله تعالى يتولى السرائر، ويقولون: إن علياً يعلم السرائر.
فلا يعقل أن هذه(11/12)
فرقة الإسماعيلية من الشيعة ومعتقداتها
[ومنها: الإسماعيلية، ولقبوا بذلك لإثباتهم الإمامة لـ إسماعيل بن جعفر الصادق، وهو أكبر أبناء جعفر الصادق، وقيل: لانتساب زعيمهم إلى محمد بن إسماعيل، وهؤلاء لقبوا بألقاب أخرى:(11/13)
من ألقاب الإسماعيلية: الباطنية
[منها: الباطنية، وحي الباطنية في القاهرة، وحي الإسماعيلية موجودان إلى اليوم، وأنتم تعملون أن الإسماعيلية والباطنية والفاطمية يسكنون الحي إلى يومنا هذا، ولهم أحياء تحفهم ومساجد تأويهم، ولا يأذنون لأحد قط من أهل السنة أو من غيرهم أن يدخل هذه المساجد إلا هم، ولابد أن يتدين بدينهم، ولذلك حينما تذهب إلى حي هؤلاء الإسماعيلية لا يأذنون لك بالدخول إلا إذا كنت رجلاً منهم، وهؤلاء كاليهود تماماً، فقد اشتروا الدور والمحلات والشوارع والطرقات بأغلى الأثمان؛ حتى تكون لهم دولة واحدة، وهكذا أخذوا بهذه الطريقة ثمان حارات، وهدوا ست عشرة عمارة وبنوها كنيسة! والباطنية لقبوا بذلك لأنهم يعتقدون أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن المراد باطنه لا ظاهره، وأن العمل بالظاهر يؤدي إلى ترك العمل بالباطن، وهو المراد، ويحتجون في ذلك بقول الله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، مع أن الآية حجة عليهم وليست لهم.(11/14)
من ألقاب الإسماعيلية: الحرامية
وكذلك يسمون بالحرامية؛ نسبة إلى إباحتهم المحارم والمحرمات، أي: أن الواحد منهم قد يقع على أي امرأة شاء سواء كانت من محارمه، أو ليست من محارمه بشكل عام، وكذلك إباحتهم المحرمات: من القتل، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، وكل هذا عندهم حلال، ولذلك سموا بالحرامية.(11/15)
من ألقاب الإسماعيلية: السبعية
وسموا كذلك بالسبعية؛ لأنهم زعموا أن النطقاء بالشرائع سبعة أشخاص من الأنبياء، وهم: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ومحمد المهدي هو سابع النطقاء، أي: أن محمداً المهدي عندهم نبي من الأنبياء؛ لأنه ناطق بالشريعة، وبين كل اثنين من النطقاء سبعة أئمة يتممون شريعة النبي السابق، ولابد لكل عصر من سبعة بهم يهتدى في الدين.(11/16)
مراتب الأئمة السبعة عند الشيعة الإسماعيلية
وهم متفاوتون في الرتب -وانتبه إلى قوله: متفاوتون في الرتب- فالإمام يؤدي عن الله تعالى، وهو غاية الأدلة إلى دين الله تعالى، فأحسن من يدلك على الله هو الإمام.
ثم بعد الإمام: الحجة، وانتبه إلى هذا الترتيب؛ حتى تعلم من أين أتى الإيرانيون بهذه الألقاب! فالشيعة قالوا: إن الخميني حجة -وهذا هو دينهم- وهو يؤدي عن الإمام؛ لأن الخميني اثنا عشري، وهو من أكابر علماء الشيعة بشهادة الألباني، وهذا من باب العدل في إثبات العلم له، لكن هل هو مجتهد؟ هذه قضية أخرى، فالثناء عن الرجل هو في باب واحد توغل فيه وهو علم الشيعة، أو علم التشيع.
وعلى أي حال فالحجة يكون بعد الإمام، وهو يؤدي عن الإمام، ولذلك نحن نعلم الآن أن الشيعة دائماً لهم إمام، وهم يحفظون إمامهم، وهو محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب سامراء وعنده من العمر أربع سنوات، وهذا هو الإمام الثاني عشر؛ لأنهم يتبعون الأئمة الاثني عشرية، وآخر الأئمة عندهم هو محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب سامراء بالعراق، وينتظرونه يوماً في كل عام بالخيل والطبول والزينة والبهرج وغير ذلك.
وإيران تعتقد أن الاتصال قائم بين الحجة -أي: الخميني - والإمام، فـ الخميني كان يؤدي عن الإمام.
وهم يقولون: صلاة الجمعة لا تجوز إلا خلف الحجة؛ لأنه يؤدي عن الإمام؛ لأن أصل المعتقد عندهم أن الجمعة تسقط عن الشيعي في غيبة الإمام، لكن إذا أدى عنه الحجة فلا بأس، وقبل هذا الحجة كان هناك كلب من الكلاب موجود اسمه: شاه إيران، وهو فعلاً شاة، حتى إن الشاة أنظف منه؛ لأن الشاة تؤكل وتحلب ويشرب لبنها، وأما هذا فكان مجرماً، وكان قبل وجود الخميني، والخميني كان مبعداً في فرنسا، وكان القائم على أمر الشيعة عموماً في إيران: شاه إيران، وهو لا يؤمن بالإمامة ولا بالحجة، بل لا يعرف أين يقف في الصف ليصلي.
ومصر بلد بابها وصدرها واسع ورحب، وهي ترحب بكل من يأتي إليها، ففيها الشيعي والشيوعي والملحد، يعني: فيها كل شيء، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولذلك فمصر سوف تظل على ثغر إلى يوم القيامة، أعني موحدي مصر سيظلون على ثغر إلى يوم القيامة، وموقفهم هو الصمود أمام الباطل إلى قيام الساعة، فهذه منطقة حساسة جداً، ولذلك الطمع فيها بالليل والنهار، وأنت الوحيد الذي تعمل غصة في حلقهم، وكل ملل الكفر والإلحاد والزندقة ممكن أن يضعوا أيديهم في أيدي أي شخص، إلا أنت فلا تضع يدك إلا في يد من هو على شاكلتك، ولذلك أنت تسبب إزعاجاً كبيراً جداً، فمرة يسمونك بالمتطرف، ومرة يسمونك بالإرهابي، ومرة يسمونك بالأصولي، ومرة يقولون: إنك تريد أن تصل إلى السياسة وإلى السلطة، وأن تحكم البلد، وتريد، وتريد، وكل هذا وهم يعلمون ويفهمون جداً أنك في أول أمرك وآخره صاحب الشأن، وهم أعلم الناس بشأن هذه الدعوة.
فالحجة يؤدى عن الإمام، ويحمل علمه، ويحتج به.
الثالث من مراتبهم: ذو مطة، مط مطة من العلم، أي: من علم الحجة.
الرابع: داع أكبر، وهو يرفع درجات المؤمنين! مع أنه في الحقيقة لا يرفع الدرجات إلا الله عز وجل.
الخامس: داع مأذون، أي: مأذون له في التصرف، فيأخذ العهود على المخالفين من أهل الظاهر، وقد قلت: إنهم يهتمون بالباطن؛ لأن الباطن هو المراد، وأما الظاهر في القرآن فغير مراد، وهذا يعني أن أهل الظاهر مخالفون لهم، فالداعي الآخر مهمته هي: أنه يأخذ العهود والمواثيق على أهل الظاهر المخالفين ليدخلهم في خدمة الإمام, أي: أن هذا دوره أن يعمل معك عهداً وميثاقاً.
والعهود والمواثيق كثيرة جداً في هذا الزمان، وأنا أتوقع أن العقود والمواثيق الآن يمكن أن تباع في السوبر ماركت خاصة عند الصوفية، وقد يأتي الواحد منهم فيقول لك: يا شيخ! أنا أعمل كيت وكيت، فتقول: هذا لا يجوز، فيقول لك: أنا لا أستطيع أن أرجع، فقد عاهدت، فتقول له: هل قال لك: المكان الفلاني لا تذهب إليه؟ هذا كذب، فيقول: أنا لو تركته فسيهلك أولادي وامرأتي وأبي وأمي، أرأيت إلى أين أوصله هذا؟! يعني: ما هو إلا خرقة في أيديهم يتصرفون فيه كيف شاءوا، وفي مثل هذه الحالات قد يستخدمون الجن، والسحر، والشعوذة وغير ذلك.
السادس: مكلب، وهو يستاهل هذا اللقب، وهو من ارتفعت درجته في الدين لكن لم يؤذن له في الدعوة، بل في الاحتجاج على الناس، فهو يحتج ويرغب إلى الداعي ككلب الصيد.
بمعنى: أنه لم يؤذن له في الدعوة العامة، بل يؤذن له في أنه يصطاد واحداً أو اثنين أو ثلاثة فيوصلهم إلى الإمام أو الشيخ، وهذه الألقاب لها سحر في القلوب، فلدى هذا الإمام والخليفة الراشد ألقاب كبيرة جداً، فحينما يسمعها الشخص يقول لك: إلى أين أذهب؟ فيقوم بأخذه ويذهب به إلى المأذون وهو الداعي، والذي سوف يقرأ عليه العهود والمواثيق، وبعد ذلك يسلمه إلى الذي فوقه، وهذا يسلمه إلى الذي فوقه وهكذا، فيكون عندهم درجات وترتي(11/17)
من ألقاب الإسماعيلية: البابكية
ومن الألقاب المرادفة للإسماعيلية بعد الباطنية، والحرامية، والسبعية: البابكية، وهم أتباع بابك الخرمي.(11/18)
من ألقاب الإسماعيلية: المحمرة
ومنها كذلك: المحمرة؛ للبسهم الأحمر في أيام بابك، أو لتسمية المخالفين لهم حميراً.(11/19)
من ألقاب الإسماعيلية: القرامطة
وكذلك: القرامطة؛ لأن أول من دعا الناس إلى مذاهبهم رجل يقال له: حمدان قرمط، أو حمدان قرمطة، وهي إحدى قرى واسط بالعراق، وأصل دعوتهم إبطال الشرائع؛ لأن الغيارية -وهم طائفة من المجوس- راموا عند شوكة الإسلام تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم؛ وذلك أنهم اجتمعوا وتذكروا ما كان عليه أسلافهم من الملك، وقالوا: لا سبيل لنا إلى دفع المسلمين بالسيف؛ لغلبتهم واستيلائهم على الممالك.
وهذا نفس الذي يصنعه اليهود الآن، حيث أيقنوا بأنه لا يمكن غلبة المسلمين بالسيف، وأن مواجهة المسلمين بالسيف سيجعل القاصي والداني يدافع عن دينه وعرضه ووطنه، فراموا إلى تغيير الشرائع عند ذلك، فغيروا وبدلوا دين المسلمين على أيدي أبناء لهم في بلاد المسلمين لا على أيديهم هم، وهذا وضع طبيعي جداً، ولذلك فما أشبه اليوم بالبارحة.
فقالوا: لكننا نحتال بتأويل شرائعهم إلى ما يعود إلى قواعدنا، ونستدرج به الضعفاء منهم.
ولذلك لا يمكن قط أن يدعوا العلماء، أي: لا يمكن لأي فرقة ضالة أن تدعو عالماً إلى دعوتها وإلى مذهبها، ودائماً تجد في أصول المبتدعة أنهم لا يدخلون بيتاً فيه سراج، ويقصدون بالسراج: العالم، وهذا أمر مشهور عند جماعة التبليغ، واسمحوا لي أن أفصح عن هذا.
فجماعة التبليغ يقولون: لا ندخل بيتاً فيه سراج، وإذا أتيت إلى جماعة التبليغ لوجدت أن من تعاليم الزعيم الأول الذي أسس هذه الجماعة وهو الكاندهلوي أنه يحذر أتباعه من أن يدخلوا بيتاً فيه سراج، ويقصد بالسراج: العالم؛ لأن العالم عنده من الحجج ما يستطيع بها أن يرد عليهم، وأن يثبت أن ما هم عليه ضلال.
فكذلك هؤلاء إنما يدعون الضعفاء، وهذا يوجب اختلافهم واضطراب كلمتهم، ورئيسهم في ذلك هو حمدان قرمط، ولهم في الدعوة مراتب، ولابد أن تدرك أن الذي بلغ مبلغاً عظيماً في الباطل لم يبلغه في يوم وليلة، وإنما تدرج في هذا الباطل درجة بعد أخرى، وسلماً بعد آخر، وفي كل درجة يمكث فترة من الزمان كفيلة باستمرار هذه الدرجة، ثم الإيمان بهذه الدرجة، أي: أن يصدق بما هو عليه، وإذا كان يعلم من قبل أنه باطل لكن بمكثه على الباطل فترة من الزمان يألفه، فإذا ألفه صدقه، وإذا صدقه دافع عنه، وإذا دافع عنه دعا إليه بعد ذلك.
ولذلك الباطل لا يمكن أن يستقر في القلب بين يوم وليلة، بل لابد من المكوث عليه فترة طويلة من الزمان؛ حتى يتأهل صاحبه إلى الدعوة إلى هذا الباطل.(11/20)
مراحل الدعوة عند القرامطة
فالقرامطة -وإن شئت فقل: الباطنية والإسماعيلية- لهم في دعوتهم مراحل: المرحلة الأولى: مرتبة الرزق، وهو تفرغ حال المدعو من جهة حاجته إلى الدنيا، وهذه طريق للنصارى الآن يستخدمونه خاصة في دعوتهم، فيذهبون إلى كثير من الشعوب وهم يعلمون أن هذه الشعوب مطحونة جوعاً، في الوقت الذي تلقى فيه المواد الغذائية والسلع وغيرها في المحيطات والبحار، وتترك هذه الشعوب الجائعة فريسة في أيدي النصارى، فإذا طلبت هذه الشعوب -تحت وطأة الجوع- طعاماً وشراباً ذهب القساوسة وذهب النصارى إلى هناك، وبينوا بعد ذلك محاسن الدين النصراني، ومحاسن الشريعة النصرانية، وإثبات أن عيسى نبي الله ورحمة الله، أو رحمة السماء إلى الناس وغير ذلك، ثم يقدمون لهم الطعام والشراب باسم المسيح، أو باسم مريم أو يسوع أو غير ذلك، مع جهل هؤلاء المطبق في دين الله عز وجل، فانظر إلى الجهل ويجمع إليه الجوع! ويجمع إليه تقصير المسلمين في حق إخوانهم في جنوب أفريقيا، ويجمع في مقابله دعوة علماء النصرانية إلى دين النصرانية! وقد بلغني بأنه وجد في إحدى البلدان العربية أن قسيساً مد رغيفاً إلى رجل فلما أراد هذا الرجل أن يتناوله قال له: أتؤمن بعيسى؟ قال: نعم، قال: أتؤمن بمحمد؟ قال: نعم، قال: ليس الرغيف لك، يجب أن تقول: الإيمان بعيسى، والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام في مقابل رغيف! وحتى في مصر يذهبون إلى بيوت الفقراء؛ فيقدمون لهم المساعدات والمعونات وغير ذلك.
المرحلة الثانية: ما يطلقون عليها بالأرض السبخة، أي: دعوة من ليس أهلاً لها، أي: أرض ميتة.
المرحلة الثالثة: مرحلة التأنيس، أي: استمالة كل واحد من المدعوين بما يميل إليه هواه وطبعه من رقص وخلاعة وغيرها، فإن كان يميل إلى الزهد زينوه في عينه وقبحوا نقيضه، وإن كان يميل إلى الخلاعة زينوها وقبحوا نقيضها؛ حتى يحصل له الأنس بهم، فإذا كان يشرب خمراً قالوا له: تعال إلى المسجد وكأس الخمر معك، وادخل المسجد بزجاجة الخمر.
ولذلك كتب بعض أهل العلم: أن مما يثبت أن الدخان حرام عند العامة: أن أحدهم لا يجرؤ أن يدخن في المسجد، ولو كان حلالاً زلالاً فما الذي يمنعه من أن يدخن في المسجد؟ وهذا قد يجده على زنا ولا يقول له: الزنا حرام، بل يقول له: عليك أن تفعل هذا على سطح المسجد، إي والله! لذا فالمهم عنده أنه يلم ويجمع، وليس من المهم التربية والتعليم، وغير مهم بناء الشخصية العلمية القوية التي تزلزل الجبال، لكن المهم بدل أن يكونوا اثنين أن يكونوا ألفاً، لكن هؤلاء الألف لا يثبتون عند أول صيحة.
المرحلة الرابعة: التشكيك في أركان الشريعة، فيقول له: ما قيمة هذا الكلام ((الم)) ((الر)) ((عسق))؟ لا يمكن أن يكون ديناً ولا قرآناً، ولا يمكن أن يكون هذا كلام ربنا عز وجل! والمدعو جاهل من الأصل فيصدق هذا الكلام، بل ويزيده تشكيكاً في دينه فيقول له: لم وجب قضاء صوم الحائض دون قضاء صلاتها؟ ولم وجب الغسل من المني دون البول مع أنهما يخرجان من سبيل واحد؟ ولم كان عدد الركعات بعضها أربعاً وبعضها ثلاثاً وبعضها اثنتين؟ إلى غير ذلك من الأمور التعبدية، فيشككونهم في هذه الأشياء، ويطوون الجواب عنهم؛ لتتعلق قلوبهم بمراجعتهم إياهم فيها، فيذهبون إليه ويقولون له: إذاً ما هو السبب؟ فيقول له: ليس هذا وقته، فلا يزال أمامك وقت، فانظر إلى هذا الكلام الفارغ! وربما يقول له: هذه المسألة كبيرة عليك! مع أنكم تعلمون أن البدوي كان يأتي من البادية وليس هناك رزق ولا تشكيك ولا تأنيس، فيدخل بجرأة على النبي عليه الصلاة والسلام فيقول له: أين محمد؟ فيقول له: أنا محمد، فيقول له: أنا أريد أن أسألك عن كيت وكيت وكيت، والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه بكلام مفهوم وواضح، ثم لا يستفسر منه عن شيء، وإنما يأخذ هذا الكلام ويذهب إلى قومه فيدعوهم بهذه الكلمات البسيطات.
لكن كلام هؤلاء الناس كلام فارغ، وقد استفادت منه جميع الطوائف والفرق حتى في العمل، فحينما تريد أن تذهب لتقابل رئيس مجلس إدارة أخرى فأول شيء تقابل الزبال، والزبال يعرف منك قضيتك من أولها إلى آخرها، فتقول له: أتيت إلى رئيس مجلس الإدارة في موضوع شخصي، وأنا صاحبه وأعرفه، فيقول لك: أنا آسف، أنت صاحبه، لكن هذا أيضاً للمصلحة، ثم يرفع الزبال قضيتك إلى رئيس الزبالين، ورئيس الزبالين يرفعها لعامل المطعم، وعامل المطعم يرفعها للسكرتير الأول، وبعد ذلك الثاني والثالث والرابع والنائب والذي فوق النائب، إلى أن تقول: حقيقة أنا أستقيل من هذه المصلحة، وقد قاربت أن تصل، لكنك قلت ذلك من الملل الذي أصابك.
وانظروا إلى الرجل الذي أتى فربط حماره بباب المسجد النبوي ودخل، وقبل أن يسلم أو يتكلم تنحى في المسجد وبال فيه، وبعد أن بال قال: أين محمد؟ قال: أنا، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فهل مر هذا بمراحل؟ لم يمر على عمر أولاً، وعمر سلمه إلى أبي بكر، وأبو بكر يسلمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،(11/21)
معاني المصطلحات الشرعية عند القرامطة
وحين يصلون إلى مرتبة اليقين يأخذون بالإباحة، والحث على التحلل من الدين، وتأويل الشرائع، فيقولون: الوضوء هذا عبارة عن موالاة الإمام! ولا ينكر النصوص الواردة في الكتاب والسنة؛ لأنه لا يستطيع ذلك، لكن يؤولها ويصرفها عن معناها المراد، ويقول لك أيضاً: التيمم عبارة عن الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة.
والصلاة: عبارة عن الناطق الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فيقول: الصلاة التي نصليها تتكلم! فتقول له: لا، فيقول لك: هنا نص على أن الصلاة تتكلم؛ لأنها تنهى، والذي ينهى هو الرسول، إذاً فالصلاة هي الرسول صلى الله عليه وسلم، ((إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))، أي: إن الرسول ينهى عن الفحشاء والمنكر.
والاحتلام: عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله، بغير قصد منه.
والغسل: عبارة عن تجديد العهد، أي: يكتب عهداً جديداً وعقداً جديداً.
والزكاة: عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين.
والكعبة: عبارة عن النبي عليه الصلاة والسلام.
والباب: عبارة عن علي.
والصفا: هو النبي، والمروة: هو علي.
والميقات: هو الإيناس، أي: الأنس.
والتلبية: إجابة المدعو.
والطواف بالبيت سبعاً: هو موالاة أئمتهم السبعة، وآخرهم محمد المهدي.
والجنة: هي راحة الأبدان عن التكاليف، أي: من الصلاة والصوم والزكاة.
والنار: مشقتها، أي: مشقة التكاليف.(11/22)
شرح كتاب الإبانة - ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه [1]
لقد أمر الشارع الحكيم بترك السؤال عما لا يعني، وترك البحث والتنقير والتنقيب عما لا يضر جهله ولا ينفع العلم به، وكان السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم يكرهون الكلام فيما لا فائدة فيه، والسؤال عما لم يقع، وكانوا ينهون عن ذلك، بل كانوا يحذرون ممن يفترض الأسئلة التي لم تقع، ومن مجالسته، وذكروا أن من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها.(12/1)
باب ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه والبحث والتنقير عما لا يضر جهله ولا ينفع علمه
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عودة إلى ما بدأناه من المحاضرات فيما يتعلق بمسائل الإيمان من كتاب (الإبانة) لـ ابن بطة وكنا قد شرحنا مواضيع من كتابه في بعض المحاضرات؛ لإلقاء الضوء على أصول بعض الفرق، وهذا الكتاب تناول أصول الفرق الضالة.
وموضوع اليوم هو من أخطر الموضوعات التي تمس العمل الإسلامي، والساحة الدعوية، فهو من الموضوعات التي ينبني عليها العمل، والتي يجب أن يتخلق بها السائر إلى الله عز وجل، وكذا طالب العلم، بل وكل مسلم عليه أن يتخلق بهذه الأصول التي سنتعرض إليها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ترك السؤال عما لا يعني].
يعني: إذا كان الأمر لا يعنيك فينبغي عليك أن تترك السؤال عنه؛ لأن هذا من حسن إسلامك وإيمانك.
ثم قال: [والبحث والتنقير عما لا يضر جهله، ولا ينفع علمه].
يقول أهل العلم في بعض الأمور: العلم به لا ينفع، والجهل به لا يضر، فلم تبحث عنه، وتنقب وتضيع العمر فيه، وتترك ما قد فرض الله عز وجل عليك معرفته، تترك الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغير ذلك، ثم تبحث في أدق المسائل التي لا يحاسبك الله عز وجل عليها يوم القيامة؟! ثم قال: [من قوم يتعمقون في المسائل، ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين] يعني: سواء حرصت على ذلك لنفسك، أو حرصت على صحبة من تخلق بهذا الخلق.
وهذا الباب يحذر من عدة مسائل: المسألة الأولى: السؤال عما لا يعني.
المسألة الثانية: التحذير من التنقير والتنقيب عما لا يضر جهله، ولا ينفع العلم به.
المسألة الثالثة: التحذير من صحبة قوم يتعمقون ويتشدقون في دين الله عز وجل، فإما أن تكون أنت الذي تصنع ذلك فتنتهي بنهي الله تعالى ورسوله لك، وإما أن تنتهي عن صحبة قوم تخلقوا بهذا الخلق.
إذاً: فهذه المسائل الثلاث من أعظم ما يمكن أن يتخلق به طالب العلم في هذا الزمن، وإلا ضاع وقته.(12/2)
أسباب خروج الناس عن السنة والجماعة إلى البدعة والشناعة
قال: [اعلموا إخواني! أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة].
أي: فكرت وتدبرت في الأسباب التي أخرجت أقواماً من عداد أهل السنة والجماعة، وأدخلتهم في عداد أهل البدع.
قال: [واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين] يعني: هناك سببان أديا بهؤلاء الأقوام إلى ترك الحق، والتنافس في الباطل.
قال: [أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا يعني، ولا يضر العاقل جهله، كما أنه لا ينفع المؤمن فهمه].
أي: النهي عن كثرة السؤال فيما لا يعني، وأما إذا كان السؤال مبناه على الفهم والعلم والعمل فلا حرج فيه شرعاً، بل هو واجب، يقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، بل يشرع كذلك للعالم أن يسأل عما يعلمه إذا كان القصد نشر العلم وبثه في الناس.
قال: [والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، بل وتفسد القلوب صحبته]، فلست فقط منهياً عن فساد قلبك أو تجنبك للفتنة، بل أنت مطالب أيضاً أن تجتنب أهل الأهواء بألا تصاحبهم، ولا تقترب منهم، بل تفر منهم فرارك من الأسد؛ لغلبة الفتنة، وانتصار الشر، وغلبة الفساد، وربما أثر عليك في قلبك فوقعت في المحذور.(12/3)
قول النبي: (اتركوني ما تركتكم)، ونهيه عن كثرة المسائل والاختلاف على الأنبياء
قال: [وسأذكر في هذين الوجهين ما يكون فيه بلاغ لمن قبل النصيحة، وكان بقلبه أدنى حياء إن شاء الله].
فيبدأ رحمه الله بحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم قال: [قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتركوني ما تركتكم)] , وهذا الخطاب في عمومه موجه للأمة كلها، وليس خاصاً بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(اتركوني ما تركتكم)] يعني: لا تجادلوني ولا تخاصموني ولا تسألوني حتى أبادركم بالعلم.
قال: [(اتركوني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاعملوا منه ما استطعتم)].
وجاء في الحديث: (قام رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام -لما فرض الله عز وجل الحج- فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت النبي عليه الصلاة والسلام، فأعاد عليه ثانية: يا رسول الله آلحج كل عام؟ فسكت، حتى أعادها عليه ثلاثاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم) يعني: لو رددت عليك بالإيجاب لكان الحج واجباً على كل مسلم في كل عام، والمعلوم قطعاً أن أحداً لا يقدر على ذلك، والحج فرض في العمر مرة، وما دون ذلك فهو نافلة.
ثم قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم)] يعني: إذا لم أحدثكم بشيء ابتداءً فلا تحدثوني وتنازعوني وتخاصموني وتحاجوني فيه؛ لأن هذا كان سبب هلاك الأمم من قبلكم: كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فسبب هلاك بني إسرائيل وسبب ضلالهم: أن الله شدد عليهم لما شددوا على أنفسهم.
فمثلاً: قصة البقرة، فقد فرض الله تعالى على بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، ثم سألوا عن هيئة البقرة، ولون البقرة، وصفات البقرة، ولو سكتوا من أول الأمر لكان يجزئهم ذبح أي بقرة، ولكنهم شددوا وتعنتوا حتى اختار الله عز وجل لهم بقرة واحدة لا مثيل لها، فبحثوا عنها ونقبوا عنها وتعبوا أيما تعب، ولما وصلوا إلى البقرة المعلومة المعينة المذكورة بأماراتها وأوصافها غالى صاحبها أيما مغالاة في ثمنها، فوقعوا في مشقة أخرى؛ لأنهم لم يسمعوا ويطيعوا من أول الأمر، بل جادلوا وكثرت أسئلتهم.(12/4)
النهي الشرعي في مقدور كل إنسان تطبيقه بخلاف الأمر
قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتركوني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم)] وهذا يدل على أن النهي الشرعي في مقدور كل إنسان؛ لأنه لم يستثن منه شيئاً صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: (فاجتنبوه) بخلاف الأمر، فإن الأمر أحياناً يكون أكبر من قدرة المكلف، وأحياناً يكون في مقدوره، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) ولم يقل: فائتوه كما قال في النهي: (فاجتنبوه)، ولم يقل في النهي: فاجتنبوا منه ما استطعتم، وإنما قال: (فما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أي: للدلالة على أن النهي في مقدور كل إنسان أن يبتعد عن المعاصي والمنهيات، وأما الأوامر فقد أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نصلي قياماً، وأمرنا الله عز وجل أن نصلي قياماً: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وهذا يدل على أن القيام في الصلاة واجب في الفرض على المكلف، وأما إذا عجز عن القيام لعلة أو مرض أو غير ذلك؛ جاز له أن يصلي قاعداً، أو على جنب، أو مستلقياً حسب قدرته؛ لأن القيام ليس بمقدوره، وهو من باب الأوامر.
قال: [وفي رواية عند مسلم وأحمد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم)]، وهناك: (بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم - أي: على أنبيائهم-، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا)].(12/5)
بيان أن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء فحرم من أجل مسألته
قال: [عن عامر بن سعد بن أبي وقاص رحمه الله عن أبيه سعد رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أعظم المسلمين جرماً رجل سأل عن شيء ونقر عنه لم يكن نزل فيه -أي: لم ينزل فيه قرآن ولا وحي-، فحرم من أجل مسألته)].
أي: أعظم الناس جرماً رجل يتنطع ويسأل، ويتعمق في قضية لم ينزل فيها تشريع، فينزل التشريع بتحريم هذه المسألة لأجل سؤاله، وإلا فالحرام ما حرمه الله عز وجل في كتابه، وما حرمه رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، والحلال ما أحله الله في كتابه، وما أحله النبي عليه الصلاة والسلام في سنته، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فلا تسألوا عن أشياء سكت عنها الشرع، إن تسألوا عنها وتجحفوا في المسألة وبدت لكم تسؤكم؛ وذلك بأن تحرم عليكم، فتقعون في الحرج والمشقة؛ بسبب أنكم تعمقتم وتنطعتم، ودخلتم فيما لا يعنيكم، وسألتم عما لم تكلفوا بالسؤال عنه.
قال الخطابي في كتاب (معالم السنن): (هذا في مسألة من يسأل عبثاً وتكلفاً فيما لا حاجة به إليه، دون من سأل سؤال حاجة وضرورة) يعني: أن الذي يسأل للتعلم والعمل لا حرج عليه في ذلك، وهو مأمور بذلك، وأما الذي يسأل تكلفاً وتنطعاً فهذا هو المعني بهذا النهي.(12/6)
النهي عن الاستعجال بالبلية قبل نزولها، فإن العجلة تشتت السبل
قال: [وعن معاذ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون فيهم من إذا قال سدد، أو من إذا قال وفق، وإنكم إن عجلتم تشتت بكم السبل هاهنا وهاهنا)].
هذا الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أن بعض أهل العلم قد حسنه، ولو اتفقنا على تضعيفه لقلنا كان عليه العمل في زمن الصحابة ومن بعدهم، وهذا الحديث ظاهره يقضي بأن المرء لا يسأل عن الشيء حتى يكون ويقع، أما أن يفترض المرء ويتصور أمراً لم يقع بعد، ثم يتكلف المسألة وسؤال أهل العلم هنا وهناك، كأن يقول: هب أن أمراً حصل وكان كيت وكيت، فماذا يكون الجواب؟ ألم تعلموا أن معظم الشر والبلاء الذي دخل في كتب الفقه وغيرها إنما هو من: أرأيت أرأيت، أرأيت لو كان كذا، ماذا يكون؟ وأرأيت لو كان كذا، ماذا يكون؟ ولكن أهل السنة والجماعة متفقون على ألا يتكلموا في أمر إلا إذا نزل وصار واقعاً، فإذا صار واقعاً قيض الله عز وجل له من يجتهد فيه، وإذا قيض له من يجتهد فيه سدده الله تعالى ووفقه.(12/7)
تحليف السلف للسائل عن وقوع المسألة من عدمه
قال: [وعن الصلت بن راشد قال: سألت طاوساً -وهو ابن كيسان - عن مسألة فقال لي: أكانت؟] يعني: أوقعت هذه المسألة التي تسأل عنها أم هو فرض جدلي فرضته أنت؟ [قلت: نعم -أي: أنها وقعت- قال: آلله؟ قلت: آلله] أقسم عليه عما إذا كانت هذه المسألة قد وقعت أو لم تقع، حتى أقسم أنها قد وقعت، قال طاوس: [إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل أنه قال: أيها الناس! لا تسألوا عن البلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هاهنا وهاهنا، وإنكم إن لم تسألوا لم تفتنوا؛ فإنه لا ينفك أن يكون في المسلمين من إذا قال وفق، أو من إذا قال سدد].(12/8)
بيان أن التنطع والتعمق مهلكة لصاحبه
قال: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)].
قال الخطابي: (المتنطع: هو المتعمق في الشيء، المتكلف للبحث عنه على مذهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم).
يعني: كأن يسأل شخص عن دقيقة من دقائق المسائل التي لا ينبغي أن تخطر على بال أحد، ومع هذا هو غير متفقه في أصول دينه، لا في أصول الإسلام: من توحيد وصلاة وصيام وزكاة وحج، ولا في أصول الإيمان: من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا الإيمان بملائكته والأنبياء، والجنة والنار، والقدر خيره شره، فيترك هذا كله ولا يسأل فيه شيئاً، ولم يتعلم الواجب والفرض الذي يضره جهله في أصول الدين في الإسلام والإيمان، ثم هو يبحث عن دقيقة من الدقائق، ويشغل حياته كلها بهذه الدقيقة، ويتنطع فيها.
فمثلاً: لو دخل شخص الآن المسجد وهو لا يعرف شيئاً عن صلاة، ولا عن صيام، ولا زكاة، ولا أي شيء، فأول ما دخل سمع الشيخ يتكلم عن دار الإيمان ودار الكفر، فمن حين خرج من هذه الخطبة جعل حياته كلها بحثاً عن دار الإيمان ودار الإسلام ودار الكفر، وتقابله بعد سنة أو بعد عشر سنوات أو بعد عشرين سنة وهو لا زال قائماً يبحث في أول موضوع سمعه مع أول دخلة دخلها بيتاً من بيوت الله عز وجل، هل ينفع هذا الكلام؟! هو يبحث عن دقيقة لا تعنيه أصلاً؛ لأنه قدم ما حقه التأخير، وأخر ما حقه التقديم، بل الذي أخره هو يجهله تماماً، ويتصور أنه غير مكلف بالبحث عنه، وهو الذي يبنى عليه العمل، وهو الذي يسأل عنه يوم القيامة.
فقوله: (هلك المتنطعون) هذا خبر من النبي عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق: أن كل من تنطع في دين الله فهو هالك.
ومعنى كلمة: (هلك) أي: انقطع به الطريق، ولذلك ما وجدنا متشدداً في دين الله عز وجل إلا ولا بد أنه ينقطع، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) يعني: كل من تنطع في الدين وتعمق فيه على غير ما ذكر؛ فلا بد أن يغلبه الدين وأن يرده، فإن كان من أهل التوفيق والسداد رده إلى أصل الديانة والحنيفية السمحة، وإن كان من أهل التعنت لا بد أن يبتلى.
وقد حدثني رجل عن آخر أنه رافق المتنطعين منذ عشر سنوات وزيادة وإلى الآن لم يهلك ولم ينقطع، حتى أخبرني صاحبه منذ ثلاثة أيام أنه ترك صحبة فلان، قلت: ولم؟ قال: لأنه يقول بضلال كل العلماء والشيوخ والدعاة على الساحة إلا ثلاثة، وهؤلاء الثلاثة هم فعلاً من أهل العلم، لكنهم على أية حال مغمورون؛ لأنهم لا يحبون الظهور، وهم من أهل العلم والحجة حقاً نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله.
وأما الحكم على جميع الشيوخ والدعاة والعلماء على الساحة بالضلال، وأنهم ليسوا من أهل الأصول ولا من أهل العلم على الحقيقة؛ فهذا بلا شك تنطع وغلو، بل هو غرور وكبر، حتى ذكر عن واحد من أكابر أهل العلم ممن ألان الله عز وجل له النصوص الشرعية كما ألان الحديد لداود عليه السلام، يقول هذا الغبي الأحمق: جلوسي على المقهى أحب إلي من بقائي في درس الشيخ محمد عبد المقصود.
فأقول: إن هذا الشخص إن شاء الله تعالى ليس أهلاً لحضور درس الشيخ ولا غيره، وإنما محله بإذن الله تعالى في المستقبل أن يبيع كتبه كما باع غيره كتبه، فقد سبقه المتنطعون والهلكى فباعوا مكتباتهم المجلد بجنيه واحد، وبلغ من حماقتهم أنهم باعوا من الكتاب الذي يضم عدة مجلدات مجلداً أو مجلدين، فهم ما باعوا الكتاب كله وإنما فرقوه في البيع، فرق الله تعالى شملهم.(12/9)
قلّة المسائل التي سألها الصحابة للنبي حتى قبض
قال: [وعن ابن عباس قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض -أي: حتى قبض النبي عليه الصلاة والسلام-، كلهن -أي: كل هذه المسائل الثلاث عشرة- في القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219].
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220].
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]].
إلى آخر مسائل الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرها الله عز وجل في القرآن على سبيل الجواب للأمة المباركة إلى قيام الساعة؛ لتنتفع بها، وليظهر الحكم في هذه المسائل من الحل والحرمة، والآداب والأحكام وغير ذلك.
ولم يذكر الراوي أكثر مما ذكر هنا، والمسائل في القرآن معروفة مشهورة.(12/10)
بيان حديثي: (إن الله كره لكم ثلاثاً)، و (نهى النبي عن الأغلوطات)
قال: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)]، فهذه الثلاث يكرهها الله عز وجل.
[وعن عيسى بن يونس قال: حدثني الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات).
قال عيسى بن يونس: الأغلوطات ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف].
يعني: البحث والتنقير عن مسائل لم يكلف المرء بالبحث عنها، أو الخصومات في الدين.
وبعض أهل العلم يسمي الأغلوطات: الخصومات في الدين، والمجادلات والمنازعات والاشتباكات التي تدور بين الشباب في مسائل لا علم لهم بها.
ومن أعجب الأعاجيب أن اثنين يختلفان في مسألة، وفي وجه الحق والصواب فيها، فيتبنى هذا رأياً والآخر يتبنى رأياً آخر، وكلا الرأيين ليسا من آراء أهل العلم، فيحتكمان إلى ثالث ليس من أهل العلم! فلا يردان الأمر إلى كتاب الله عز وجل، ولا إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا إلى اجتهاد أهل العلم، وإنما يتحاكمان إلى من هو أجهل منهما، فيكثر الخلاف؛ ولذلك يقول ابن حزم: لو سكت الجاهل لقل الخلاف.
وذلك أن الجاهل يأبى وتأبى عليه نفسه الأمارة بالسوء إلا أن يتكلم فيما لا يعنيه، وخاصة في دين الله عز وجل.
[عن عبادة بن نسي قال: (تذاكروا عند معاوية المسائل، فرد بعضهم على بعض -يعني: رد بعضهم على بعض حتى ارتفعت أصواتهم- فقال: ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات؟!).
وعن الصنابحي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات).
قال الأوزاعي: شداد المسائل وصعابها].(12/11)
ضرورة التأهل العلمي عند الدخول في المناظرات والجدال
وهناك مدرس كبير جداً يسمونه: فيثاغورس؛ باعتبار أن عنده رياضة عقلية فذة، فيسمونه باسم عالم كبير من علماء الرياضة فيثاغورس، قابلني وقال: أنا متخصص في مقارنة الأديان منذ اثني عشر عاماً، قلت: هل درست الدين الإسلامي؟ قال: نعم، قلت: ثم اليهودية والنصرانية؟ قال: نعم، قلت: ربنا يفتح علينا وعليك بالخير.
فلقيني بالأمس فقال: الدكتور الفلاني يقول: إن الإمام البخاري صنف صحيحه من ست عشرة نسخة كنسخ التوراة والإنجيل، فكيف نرد عليه.
فقلت له: وهل عنده أسئلة أخرى؟ قال: نعم، السؤال الثاني: قال: إن حديث الذبابة الذي أخرجه البخاري يغلب على راويه النكارة، قلت: والثالث؟ حتى عد سبعة أسئلة.
منها: إنكار شفاعة إبراهيم عليه السلام بالذات، قلت لماذا إبراهيم عليه السلام؟ قال: لأن إبراهيم صرح بأنه كذب ثلاث كذبات، قلت: غيره من الأنبياء صرح بمثل هذا، فلم منعت إبراهيم من الشفاعة بالذات؟! قلت له: لقد أخبرتني آنفاً أنك عالم كبير في مقارنة الأديان، فكيف تخفى عليك مثل هذه المسائل؟ ولو أن قسيساً في الكنيسة تناظر معك وألقى عليك هذه الأسئلة فماذا ترد عليه؟ قال: أنا ما عندي خبر غير هذا، قلت: إذاً ستفتضح حجتك أمام العالم في المناظرة، فتكون بذلك قد أفسدت على نفسك، وأوقعت المسلمين في الفتنة والحرج بانتصار هذا القسيس عليك، أليس كذلك؟ فسكت.
فقلت له: إنما مثلك كمثل رجل دخل المسجد فحرص أن يصلي الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والصبح ثنتين، ولا علاقة لك في دين الله عز وجل فيما لا يعنيك، كما أنه يحرم عليك أن تنظر في كتب أهل الكتاب، فخاصمني وامتنع عن محادثتي إلى يومنا هذا، وأنا من الأمس إلى اليوم قد ألقيت عليه السلام ثلاث مرات في المسجد المجاور لبيتي فلم يرد علي السلام! فهل مثل هذا ينفع أن يفرض نفسه على الأمة أنه عالم كبير في مقارنة الأديان؟! مثل هؤلاء السفهاء الذين في الجامعات يسمونهم: دكاترة وفقهاء في الأديان، وعلم الفلسفة، والمنطق، فيقدمون دراسة هذه العلوم على دراسة كتاب الله عز وجل، ويزعمون أن دراسة هذه المواد إنما هي مفاتيح لكتاب الله عز وجل، وهؤلاء المفتونون المجرمون آل بهم الأمر إلى محاربة الله تعالى ورسوله جهاراً نهاراً.(12/12)
ذم السلف لمن يجيء بشرار المسائل
قال: [قال الحسن: شرار عباد الله يتبعون شرار المسائل؛ يعمون بها عباد الله عز وجل.
وقال: إن شرار عباد الله قوم يجيئون بشرار المسائل؛ يعيبون بها عباد الله].
يعني: يعيبون بها أهل العلم، كأن يأتي إنسان ويسأل عما لا يعنيه، ويتعمد إحراج المسئول.
قال: [قال أحمد بن جناب المصيصي: سألت عيسى بن يونس عن قول الله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، فإن الحور العين يمتن، قال: فغضب عيسى من ذلك غضباً شديداً، فقال: لقد بعثرنا الحديث بعثرة ما بعثرها أحد -يعني: جمعنا الحديث جمعاً من كل قطر ومصر- ما بقي كوفي ولا بصري ولا مدني ولا مكي ولا حجازي ولا شامي ولا جزري إلا وقد لقيناه وسمعنا منه، ما سمعنا أحداً قط يسأل عن مثل هذا.
ثم قال: ما لكم ومجالسة أهل الأهواء ومحادثتهم؟].
أي: لماذا تجالسونهم وتتحدثون معهم؟ وكثير من الناس جرته الحمية في مجالسة أهل الأهواء، ثم يقع في نفس الهوى وفي نفس البلية، فمثلاً: يريد أن يجلس مع جماعة التكفير أو أي جماعة على بدعة معينة؛ ليتعرف على مداخل ومخارج البدعة، فنقول له: هل أعدت لكل بدعة دليلاً ينقض هذه البدع؟ وهؤلاء لا يعرفون شيئاً من دين الله شيئاً إلا ما ظنوا أنهم قد عقلوه من بدعتهم، فإذا بهذا الشخص يجلس أمام مناظرهم ومجادلهم فيلقي عليه الشبهة ثم الشبهة ثم الشبهة، وهو لا علم له أصلاً بدين الله عز وجل، ولكن أخذته العاطفة والحمية أن يناظر أهل البدع؛ حتى يردهم بزعمه عن بدعتهم، فإذا به بعد إلقاء الشبهات عليه، وعدم قدرته على رد هذه الشبهات؛ يشربها هو، ويشربها قلبه، ثم يتذبذب ويتشكك، فيلقون عليه بالشبهات الأخرى والحجج المتكررة التي لا جواب عنده على واحد منها، ثم إذا هو يرجع وقد شك فيما كان عليه من الحق، وأيقن بما قد سمعه من شبهات.
فنقول لهذا وأمثاله: أنت لا زلت بعد في بداية طلبك للعلم، ولست مطالباً بالمناظرة والمجادلة مع هؤلاء، وإنما المجادلة والمناظرة تكون من أهل العلم الأثبات لا من طلاب العلم المبتدئين في العلم.(12/13)
ذم السلف لمن يجالس أهل الأهواء فيتيه ثم يطلب من يجادله ليهديه
قال: [قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: كان ذلك الرجل إذا جاءه بعض هؤلاء أصحاب الأهواء يسأله قال: أما أنا فعلى بينة من ربي] يعني: مالك رحمه الله يحكي عن نفسه، لكنه يتورع أن يقول: أنا المعني، ولذا فقد جاء في غير كتاب أنه مالك، وفي رواية أنه ابن سيرين.
ولا مانع بتعدد الحوادث وأن السؤال وجه لـ مالك، ووجه لـ ابن سيرين.
فأتى رجل إلى مالك ليناظره في ربه، ويجادله في إلهه، [فقال مالك: أما أنا فعلى بينة من ربي -أي: لا أحتاج إلى مناظرة ومجادلة-، وأما أنت فشاك، فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه.
وقال: يلبسون على أنفسهم، ثم يطلبون من يعرفهم ويهديهم] يعني: هم الذين يوقعون أنفسهم في الشك والحيرة والتيه، ثم هم بعد ذلك يأتون فيسألون لأجل الهداية وغير ذلك.
[وعن سالم بن أبي حفصة قال: إن من قبلكم بحثوا ونقروا حتى تاهوا] يعني: تكلفوا البحث والتنقير عما لا يعنيهم حتى وقعوا في التيه والحيرة.(12/14)
تقسيم يحيى بن معاذ الرازي الناس إلى خمس طبقات، ومنها المتعمقون في الدين
قال: [وقال يحيى بن معاذ الرازي -وكلامه جميل أشهى من عسل النحل-: الناس خمس طبقات، فاجتنب أربعاً والزم واحدة].
لكن الإمام ابن بطة اختصر كلامه اختصاراً شديداً جداً، حتى إنه لم يذكر الطبقة التي يؤمر العبد بالتزامها، وهم أهل السنة والجماعة.
وأما الأربع التي أمر يحيى بن معاذ باجتنابها فلم يذكر منها ابن بطة إلا طبقة واحدة فقال: [والطبقة الرابعة: هم المتعمقون في الدين، الذين يتكلمون في العقول، ويحملون الناس على قياس أفهامهم، قد بلغ من فتنة أحدهم، وتمكن الشك من قلبه: أنك تراه يحتج على خصمه بحجة قد خصمه بها، وهو نفسه من تلك الحجة في شك].
يعني: أن هذا الشاك هو نفسه غير مؤمن بهذه الحجة، ولذلك إذا أتاه شاك آخر بحجة هي أقوى من حجته تحول إليها، وترك حجته السابقة التي قد خصم بها خصمه وانتصر عليه، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه خصومات أكثر التحول.
يعني: يتحول من دليل إلى دليل؛ لأنه لا يعتقد دليلاً واحداً، بل كلما رأى أن هذا الدليل أحسن وأجمل وأطيب من غيره تحول إليه.
قال: [وهو نفسه في تلك الحجة في شك، ليس يعتقدها ولا يجهل ضعفها، ولا ديانة له فيها، إن عرضت له من غيره حجة هي أوثق منها انتقل إليها، فدينه محمول على سفينة الفتن، يسير بها في بحور المهالك، يسوقها الخطر، وتسوسها الحيرة، وذلك حين رأى عقله أملى بالدين، وأضبط له، وأغوص على الغيب] يعني: دائماً يعتمد على عقله في التنقيب عن أمور الغيب التي لم يكلف بالبحث عنها.
ثم قال: [وأبلغ لما يراد من الثواب من أمر الله إياه، ونهيه وفرائضه الملجمة للمؤمنين عن اختراق الشذوذ، والتنقير عن غوامض الأمور، والتدقيق الذي قد نهيت هذه الأمة عنه؛ إذ كان ذلك سبب هلاك الأمم قبلها، وعلة ما أخرجها من دين ربها، وهؤلاء هم الفساق في دين الله عز وجل المارقون منه، التاركين لسبيل الحق، المجانبون للهدى، الذين لم يرضوا بحكم الله في دينه حتى تكلفوا طلب ما قد سقط عنهم طلبه، ومن لم يرض بحكم الله في المعرفة حكماً لم يرض بالله رباً، ومن لم يرض بالله رباً كان كافراً، وكيف يرضون بحكم الله في الدين وقد بين لنا فيه حدوداً، وفرض علينا القيام عليها، والتسليم بها، فجاء هؤلاء بعد قلة عقولهم، وجور فطنهم، وجهل مقاييسهم يتكلمون في الدقائق، ويتعمقون، فكفى بهم خزياً سقوطهم من عين الصالحين، يقتصر فيهم على ما قد لزمهم في الأمة من قالة السوء، وألبسوا من أثواب التهمة، واستوحش منهم المؤمنون، ونهى عن مجالستهم العلماء، وكرهتهم الحكماء، واستنكرتهم الأدباء، شكاكون جاهلون، ووسواسون متحيرون، فإذا رأيت المريد يطيف بناحيتهم فاغسل يدك منه ولا تجالسه].
يعني: إذا رأيت المبتدئ يطوف حولهم، ويحضر مجالسهم؛ فاغسل يدك منه، واعلم أنه لا خير فيه، فطالب العلم إذا ذهب عند المبتدع وصاحب هوى فاغسل يدك منه لا من صاحب البدعة؛ فإن هذا أمره مفروغ منه، ولكن اغسل يدك من ذلك الذي يحرص على مجالسته، واعلم أنه لا خير فيه.(12/15)
ذكر بعض المسائل التي لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها
قال: [قال ابن شبرمة: من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب فيها].
كان السلف رضي الله عنهم إذا ذكر القدر أمسكوا، وإذا ذكر النجوم أمسكوا، وإذا ذكر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أمسكوا، وهذه أمور متفق عليها، فما كان أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم في القدر قط، ولم يثبت أن صحابياً تكلم في القدر، وكل ما هنالك إذا سئل أحدهم عن القدر قال: إن الله على كل شيء قدير، فكل قارئ للقرآن يقرأ هذا، وكل مطلع في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يطلع على هذا، ولم يفسروا ويؤصلوا ويقعدوا لنا مسائل القدر التي كتبت فيها هذه الكتب التي لا نهاية لها، وإنما كانوا يؤمنون بالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله، كما جاء ذلك في تعريف الإيمان في غير ما حديث: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) أي: أنه من عند الله عز وجل، وأن الله على كل شيء قدير.
فالسلف خاصة الصحابة ما زادوا في القدر عن هذه الكلمات اليسيرات، ولو أنك أتيت الآن بأكابر المثقفين لنازعك في القدر أيما منازعة، وخاصمك فيه أيما مخاصمة، حتى يقول القائل: إذا كان الله تعالى قد قدر علي هذا العمل فلم يعذبني؟ وإذا كان الله تعالى قد كتب لي الجنة فلم العمل إذاً؟ لا بد أن يصل الأمر بمثقفي العصر إلى هذه المشكلة؛ لأن أسلافهم من القدريين ومن السالكين على غير هدى قد وجهوا هذه الأسئلة لسلف الأمة، ولذلك كان الصحابة إذا ذكر القدر أمسكوا، مع إيمانهم الجازم بأن كل شيء من عند الله، وأن الله تعالى كتب كل شيء من الخير والشر.
قوله: (وإذا ذكر الصحابة أمسكوا) أي: إذا ذكر الصحابة بما دار بينهم من خلاف؛ أمسكوا، وعلموا أن السنة في ذلك حب الصحابة أجمعين، والترضي عنهم أجمعين، وأن الله تبارك وتعالى غفر لهم ورضي عنهم، كما حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام في سنته في الصحيحين وغيرهما من الكلام فيهم وسبهم، وبين أن أحدنا لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه إلى آخر فضائل الصحابة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن هؤلاء لا بد أن ينشروا الفتن التي دارت بين معاوية وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ولا بد من الخوض في هذا، بل يخرج بعض من لا يفهم أمور الدعوة، ولا يفهم قدرات الخلائق على استيعاب هذا الأمر، فينشر على مسامع العامة ما دار بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أمرنا بالسكوت والترضي عنهم.(12/16)
الشيعة في مصر
وآخر الأمر أن الشيعة عليهم من الله ما يستحقون يريدون نشر التشيع في مصر، والتشيع لا يمكن قط أن يستقيم مع أخلاق المصريين وسلوكهم؛ لأن التشيع قام على سب الصحابة ولعنهم، والمصريون في الأصل لا يتفقون مع هذه الدعوة، أنتم تعرفون المصريين لو أن حماراً أو كلباً دفن في قبر، وقيل لهم: هذا المدفون هو رجل صالح لعبدوه؛ فقلوب المصريين جبلت على حب الصالحين وخاصة الصحابة، فتأتي وتقول للمصري: أبو بكر عليه لعنة الله، أو عمر عليه لعنة الله؛ فلا يستقيم هذا معه قط؛ ولذلك تجد دعوة الشيعة قديماً وحديثاً لم تلق رواجاً في مصر.
ومنذ عشر سنوات أو يزيد قليلاً ظهر هذا الكلب الذي يدعى حسن شحاتة، وهو إمام مسجد الجامعة في مقابلة الجامعة الجديدة، وقال ما قال في شأن الصحابة، خاصة في أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، قال كلاماً هو كفر بواح، ثم تألب الرأي العام والصحافة وغير ذلك في ذلك الوقت على هذا الكلب، وسجن مدة من الزمان، لكن لوساطة بعض الوجهاء الشيعة في لبنان قام بعضهم بزيارة لمصر خاصة لإخراجه من السجن، وخرج هذا الكلب، وأنا على يقين أن الحكومة المصرية تخشى التشيع، وتخاف من ظهوره وانتشاره في مصر؛ لأن الشيعة في إيران شكيمتهم قوية جداً.
والدرس الذي تلقاه صدام حسين من خميني إيران وشعب إيران لا يمكن أن تنساه الحكومة المصرية، ولا غيرها من الحكومات.
والآن تهاونت الحكومة المصرية مرة أخرى بعد أن أخذت موقفاً حاسماً منذ عشر سنوات فيما يتعلق بظهور الشيعة في مصر خاصة في المنصورة، فمنبع التشيع هو في المنصورة، وإن شئت فقل: المنصورة في المرتبة الثانية بعد حي شبرا في القاهرة.
وللأسف الشديد ظهرت مجلة في مصر من عدة أشهر، هذه المجلة اسمها: أهل البيت، وأهل البيت -يعلم الله- أنهم بريئون جميعاً ممن ينتسب إليهم من الشيعة.
فهذه المجلة إنما تتقرب إلى مولاها بزعمها بتكفير أبي بكر وعمر وعثمان، وردة عائشة رضي الله عنها، واتهامها بالفاحشة، وأن حادثة الإفك ليست حادثة وهمية، بل هي حادثة حقيقية، وأن عائشة حقاً وقعت في الزنا، هكذا قالوا، ولا تزال هذه المجلة تصدر على قدم وساق في كل شهر مرة على مسمع ومرأى من الحكومة المصرية، فلم لا تقوم الحكومة المصرية بمصادرة هذه المجلة ومعاقبة القائمين عليها؟ ماذا تنتظر؟ هل تنتظر أن يستفحل الأمر ولا يمكن علاجه؟! فكل ثلم يبدأ بعفن.
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر هل تنتظر الحكومة حتى يكون الشيعة في مصر بالملايين؟ إن شاء الله لا يكونون كذلك، لكن ولو كان واحداً فلابد من حربه، أما سمعتم أن صبيغاً الذي كان يتكلم ويتعمق ويتنطع في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لما سأل عن الذاريات والمرسلات وغير ذلك نظر عمر في وجهه فعلم أنه متنطع لا يقصد التعلم، فجلده وضربه، وقال: والله لو كنت حالقاً لضربت عنقك.
وربما يأتي هذا الدليل معنا في هذا الباب لأنه من مظانه.
إذاً: فهناك من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، كما لا يجوز للمسئول أن يجيب فيها، بل إذا سئلت في مسألة فقل: أثم هي؟ أوقعت؟ فإذا كانت قد وقعت فإن الله تعالى يسدد ويعين المجتهد في القضاء فيها أو الإفتاء فيها، وإذا لم تكن قد وقعت فيجب عليك أن تنهى السائل عن ذلك؛ لأن هذا ليس هو منهج السلف ولا منهج أهل السنة.(12/17)
ضرورة الكف عما كف الشرع عنه، وعدم الخوض فيه
قال: [مر القاسم بن محمد بقوم يتكلمون في القدر، فقال: انظروا ما ذكر الله تعالى في القرآن فتكلموا فيه، وما كف عنه فكفوا] أي: لا تذكروا القَدَرَ إلا بالقَدْرِ المذكور في كتاب الله لا تزيدوا عليه، ولا تخوضوا فيه؛ لأن هذا القول يؤدي إلى الحيرة، والتيه، والضلال والابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً.
قال: [وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: قال رجل: لقد دخلت في هذه الأديان كلها فلم أر شيئاً مستقيماً].
يعني: كأن هذا الرجل يقول: دخلت في القدرية والمعتزلة والمرجئة وغير ذلك من الفرق الكبار في زمن مالك فلم أر شيئاً منها مستقيماً.
[فقال رجل من أهل المدينة من المتكلمين: فأنا أخبركم لم ذلك؟ -أي: لم دخل هذا الرجل في كل الأديان ولم ير شيئاً منها قط مستقيماً- قال: لأنك لا تتقي الله، فلو كنت تتقي الله جعل الله لك من أمرك مخرجاً].
أي: نور بصيرتك، وهداك إلى معرفة الحق، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فالمهم أن يعقدوا قلوبهم على الهدى ويحبوه، ويبذلوا المهج في سبيل الوصول إليه، ثم الله تعالى يوفقهم لذلك بعلمه صدق نيتهم، أما من كان يتنطع ويتعمق ولا يريد الوصول إلى الحق؛ فإن الله تبارك وتعالى يضله، ويجعله يتيه في ظلمات الضلال هنا وهناك.(12/18)
بيان النبي أن الله تعالى سكت عن أشياء من غير نسيان رحمة بنا فلا نبحث عنها
قال: [وعن أبي ثعلبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم؛ فلا تبحثوا عنها، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64])].
هذه الأشياء التي سكت الله عز وجل عنها لا نتكلف نحن السؤال فيها؛ لأن الله تبارك وتعالى لما تركها تركها لنا من باب العفو، ومن باب المباحات، فمن فعلها كان له ذلك، ومن لم يفعلها فلا حرج عليه، فأما أن تتكلف البحث عنها، ومعرفة الحكم فيها؛ فإن هذا الأمر يسبب الحرج لصاحبه.(12/19)
آثار عن السلف في ردهم الافتراضات في الأسئلة، والسؤال عما لم يكن
قال: [وعن مسروق قال: سألت أبي بن كعب عن مسألة، فقال لي: أكانت؟ قلت: لا، قال: فأجمنا حتى يكون] أجمنا أي: أرحنا، والاستجمام بمعنى الراحة.
قال: [فأجمنا حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا رأينا].
يعني: لك أن تأتي بسؤالك الذي وقع، ولا تسأل عن غيره؛ لأنك منهي عن هذه الطريقة الجاهلية، فسؤالك الذي ينبني عليه العمل في سلوكك إلى الله عز وجل أنت مكلف به فقط دون سواه.
قال: [وعن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تسألوا عن أمر لم يكن؛ فإن الأمر إذا كان أعان الله عليه، وإذا تكلفتم ما لم تبلوا به وكلتم إليه].
يعني: يتخلى الله تعالى عنكم، ويكلكم إلى هذا، وربما أصبتم وربما خالفتم.
قال: [وعن خارجة بن زيد بن ثابت قال: سئل زيد بن ثابت عن شيء فقال: أكان هذا؟ فقيل: لا، فقال: دعه حتى يكون؛ فإنما هلك من كان قبلكم بأنهم قاسوا ما لم يكن بما قد كان، حتى تركوا دين الله عز وجل.
وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا لا يسألون إلا عن حاجة.
وعن الشعبي قال: سل عما كان، ولا تسأل عما لم يكن ولا يكون].(12/20)
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
قال: [عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)] يعني: من أصول الإسلام أن تترك كل شيء لا يعنيك من أمر الدين أو الدنيا؛ لأنه ليس كل أمر الدين أنت مكلف به.(12/21)
التمادي في الأسئلة والافتراضات قد يؤدي بالإنسان إلى السؤال عمن خلق الله
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟)].
يعني: إذا كنت ممن يسأل كثيراً فلا بد أن تصل إلى عين هذا
السؤال
( هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟) ولا بد أن تعلم أنك أضعف من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وأقل إيماناً؛ ولذلك حاك في قلوبهم وصدورهم هذا
السؤال
[ ( قالوا: يا رسول الله إن أحدنا لتحدثه نفسه بشيء لئن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أو قد فعلها؟ -يعني: أو قد غلبكم عليها الشيطان؟ - ذاك محض الإيمان)] أي: تحرجكم أن تتكلموا بهذا الكلام دليل على إيمانكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(وإن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ فتقولون: الله، فيقول الشيطان: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ قال: فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا، وقولوا: آمنا بالله ورسوله)].
يحدد عليه الصلاة والسلام علاج شبه الشيطان بالاستعاذة بالله عز وجل من الشيطان، والانتهاء، ومجاهدة النفس؛ حتى لا يستقر هذا الخاطر في القلب، بل يمر على القلب مروراً ولا يستقر فيه، ولا يتمكن منه، ثم بقولك: آمنت بالله ورسوله؛ لأن الشيطان يفر إذا سمع هذا الشيء.
فبين عليه الصلاة والسلام الجواب لهذا السؤال وعلاجه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/22)
شرح كتاب الإبانة - ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه [2]
لقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف بترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه، لكن العجب لقوم حيارى تاهت عقولهم في بنيات الطريق، وتركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر فيه والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به أنفسهم، وفرغوا له آراءهم، وجعلوه ديناً يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، وهؤلاء هم الزائغون الذين يجب الحذر منهم.(13/1)
تابع باب ترك السؤال عما لا يعني الدخول فيه والبحث والتنقير عما لا يضر جهله ولا ينفع علمه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لا يزال الكلام في الباب الذي بدأناه في الدرس الماضي موصولاً وهو: باب ترك السؤال عما لا يعني، والبحث والتنقير عما لا ينفع علمه، ولا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل، ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين.(13/2)
جلد عمر رضي الله عنه لصبيغ وأمر الناس بهجرانه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو عثمان النهدي: إن رجلاً كان من بني يربوع يقال له: صبيغ سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات، والنازعات، والمرسلات أو عن بعضهن، فقال له عمر: ضع عن رأسك -يعني: اكشف لي رأسك- فوضع عن رأسه فإذا له وفيرة -أي: لمة من الشعر- فقال: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك -أي: لقطعت رأسك- قال: ثم كتب إلى أهل البصرة: ألا تجالسوه، أو قال: كتب إلينا ألا تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه].
طاعة لولي الأمر الذي يحكم البلاد الإسلامية.
[وعن السائب بن يزيد أنه أتى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلاً سأل عن تأويل القرآن، فقال عمر: اللهم مكني منه، فبينما عمر ذات يوم جالساً يغدي الناس إذ جاءه رجل عليه ثياب فتغدى، حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:1 - 2]، فقال عمر: أنت هو؟ -أي: أنت الذي يسأل عن المتشابه- فقام إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب -أي: على قتب البعير- ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم، ثم ليقم خطيباً -أي: ثم ليقم هو فيكم خطيباً- ثم ليقل: إن صبيغاً كان برأيه كيت وكيت وكيت، وفعل به أمير المؤمنين كيت وكيت وكيت، فلم يزل وضيعاً -أي: صبيغ - في قومه حتى هلك، وكان سيدهم].(13/3)
تعليق المؤلف على فعل عمر مع صبيغ
قال الشيخ ابن بطة: [وعسى ضعيف القلب، قليل العلم من الناس إذا سمع هذا الخبر وما فيه من صنيع عمر رضي الله عنه؛ أن يتداخله من ذلك ما لا يعرف وجه المخرج عنه].
هنا يجلي ابن بطة رحمه الله حقيقة أمر صبيغ ويقول: إن المستمع لما وقع في القضية من أمير المؤمنين ربما يقول: هذا ظلم، فلماذا يضرب عمر صبيغاً وصبيغ لم يعد كونه سائلاً عن آيات في كتاب الله عز وجل؟ فهل الذي يتفقه في دين الله يقابل بالإنكار والضرب والإهانة والحمل على قتب بعير بغير جرم؟! إن الذي فعله أمير المؤمنين ظلم لا يليق بمقام الخلافة، فالمؤلف يريد أن يزيل الإشكال الذي يدور في ذهن ورأس المستمع لهذه القصة، فبين رحمه الله حقيقة الأمر وأن صبيغاً لم يكن سائلاً متفقهاً، وإنما كان يسأل سؤال المتعنت، ولذلك صبيغ لم يعهد عليه أنه سأل عما ينفعه من العلم، وإنما يسأل عن المتشابهات.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا سأل أحدهم عن المتشابهات -أي: في كتاب الله عز وجل- فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم).
فقوله: (فأولئك الذين سمى الله) أي: الذين يسألون عن متشابه القرآن، ويتركون الفرائض والأركان التي لا يسعهم جهلها، فهؤلاء هم الزائغون الذين ذكرهم الله تعالى في مطلع سورة آل عمران، فاحذروهم.
فـ عمر لما بلغه أن صبيغاً بالبصرة إنما يسأل عن المتشابهات فحسب؛ دعا عمر الناس لتناول الطعام عنده، فقام إليه رجل بعد أن فرغ من الطعام يسأله عن المتشابهات، فقال: أنت هو؟ أي: الذي بلغني خبرك، فقام إليه عمر وضربه؛ لا لأنه يسأل عن العلم أو عن تفسير القرآن، وإنما لأنه يسأل عن المتشابهات ويترك المحكمات.
قال ابن بطة: [لعل أحدكم إذا سمع هذا الخبر دخل في نفسه شيء مما فعله أمير المؤمنين بـ صبيغ، فيكثر هذا من فعل الإمام الهادي العاقل رحمة الله عليه، فيقول: كان جزاء من سأل عن معاني آيات من كتاب الله عز وجل أحب أن يعلم تأويلها لا أن يوجع ضرباً، وينفى ويهجر ويشهر به!] يعني: أهذا جزاء من طلب العلم؟! هكذا ربما دخل في نفس السامع.
ثم قال رحمه الله: [وليس الأمر كما ظن السائل الذي لا علم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب، وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم أجمعين؛ ليتفقهوا في دينهم، ويزدادوا بصيرة في إيمانهم، ويتعلموا علم الفرائض التي فرض الله عز وجل عليهم].
يعني: هذه كانت رحلة الناس من أقطار الأرض إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى الخلفاء الراشدين، وإلى أئمة العلم في الدين؛ لأجل أن يتعلموا أصول الدين، وما لا يسعهم جهله؛ لأن هذا هو الذي خاطبهم الله عز وجل به في كتابه، وسار عليه سلف الأمة.
ونحن نقول كلمة أحرى بنا أن نقف عندها مرات ومرات، خاصة في زمن كادت أن تهدم فيه الثوابت، وتزعزع فيه المحكمات، وتصير في قلوب العامة من المتشابهات، بل بعض المحرمات.
نقول: إننا نؤمن بما آمن به النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام، على فهم السلف، وكلمة: (على فهم السلف) هي كلمة تحتاج منا إلى وقفه، فهي كلمة عظيمة جداً، ولذلك لا يسعنا قط أن نقول بشيء أو أن نعمل شيئاً، أو أن نعتقد في دين الله شيئاً إلا وقد آمن به واعتقده السلف، وعمل به السلف، ومن عمل بغير ذلك أو اعتقد غير ذلك فإنما يعتقد ويعمل على غير ما كان عليه سلف هذه الأمة.
فتمسك السلف بشيء إنما هو عصمة لمن أتى بعدهم، فالسلف لم يسألوا عن هذه المتشابهات، وإنما آمنوا بها وأمروها كما جاءت بغير سؤال، وإن بدا منهم سؤال فإنما سألوا عنه للتعلم والتفقه في كلام الله عز وجل، وفي كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وأما أن يسأل الشخص عن شيء على سبيل التعنت والإحراج وغير ذلك؛ فهذا الشخص لا بد أنه مريض لا يصلح لطلب العلم.
ولذلك خشي الأئمة من السلف ومن أتى بعدهم من وجود أمثال هؤلاء في وسط العامة؛ لأنهم بإشاعة هذه المتشابهات لا بد أنهم يفسدون دين العامة، ولذلك عمل السلف رضي الله عنهم على استئصال شأفة هؤلاء، فـ صبيغ كان يسأل عن هذه المتشابهات، فضربه عمر بالجريد على رأسه حتى سال منه الدم، حتى قال صبيغ يعلنها صراحة: يا أمير المؤمنين والذي نفس صبيغ بيده لقد ذهب الذي كان في رأسي.
فهذا صبيغ يعترف أنه لم يكن يسأل تعلماً، وإنما سأل من باب إشاعة الشبهات، وزعزعة الثوابت في قلوب العامة، وجعل ما هو ركن ركين في دين الله ليس ركناً في قلوب العامة.
قال: [فلما بلغ عمر رضي الله عنه قدوم هذا الرجل المدينة، وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن، وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله، ولا يع(13/4)
سبب قول عمر: (لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك)
ثم قال: [فإن قلت: فإنه قال: لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك] أي: لقطعت رأسك، وهذا بلا شك قتل، وأنتم تعلمون أن القتل محرم، وأن المرء لا يزال في فسحة من دينه ما لم يسفك دماً حراماً، فلماذا عمر رضي الله عنه هم بذلك؟ ولما حجم عن قتله؟ هل لأنه ذو شعر؟ [أومن حلق رأسه يجب عليه ضرب العنق؟]
الجواب
لا، ولكن هذا كلام له مغزى وله أدلة سمعها عمر رضي الله عنه من النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [فإني أقول لك: من مثل هذا أتي الزائغون، وبمثل هذا بلي المنقرون، الذين قصرت هممهم، وضاقت أعطانهم عن فهم أقوال الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين، فلم يحسوا بموضع العجز من أنفسهم، فنسبوا النقص والتقصير إلى غيرهم].
وهذا موجود في كل زمان ومكان، تجد الواحد منا إذا عجز عن فهم نص نسب النقص إلى النص، وإذا عجز عن فهم فعل إمام من أئمة العلم والهدى والدين أو قوله سارع وبادر إلى الإنكار عليه، وذم قوله وفعله، بل ربما نسبه إلى الجهل، وتطاول عليه بما هو أبعد وأكثر من ذلك، وليس الأمر كذلك.
ثم قال: [وذلك أن عمر رضي الله عنه كان قد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج قوم أحداث الأسنان -أي: صغار السن- سفهاء الأحلام)].
يعني: يتصدرون الناس زعماً منهم أنهم ذوو أحلام، وذوو أسنان، وهم في الحقيقة ليسوا كذلك.
ثم قال: [(يقولون من خير قول الناس)] يعني: يتكلمون بأحسن الكلام وأجمله.
ثم قال: [(يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)] أي: لا يؤمنون بالقرآن، وإلا لو آمنوا بكتاب الله عز وجل لآمنوا به كله محكمه ومتشابهه.
ثم قال: [(يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)] يعني: يخرجون من الإسلام بعد أن دخلوا فيه كما يخرج السهم من الرمية.
ثم قال: [(من لقيهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله)] فالذي حكم عليهم بالقتل هو النبي عليه الصلاة والسلام، قال: من لقي هؤلاء الذين ذكرت علامتهم فليقتلهم، ومن قتلهم فأجره على الله عز وجل.
قال رحمه الله: [وفي حديث آخر: قال عليه الصلاة والسلام: (طوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه)].
(طوبى لمن قتلهم) لأنه من أعظم الجهاد، (وطوبى لمن قتلوه) لأنه جاهدهم، فتمكنوا منه فقتلوه، فهو عند الله شهيد.
[(قيل: يا رسول الله! ما علامتهم؟ قال: سيماهم التحليق)] يعني: هم يحلقون رءوسهم، وهذه علامة لهم.
ثم قال: [فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله -أي مسائل صبيغ - فيما لا يعنيه كشف رأسه] أي: كشف عمر رأس صبيغ؛ ليهتدي عمر أهو من الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بتلك العلامات: أنهم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، سيماهم حلق الرءوس.
فقوله: صلى الله عليه وسلم: (سيماهم التحليق) هذه هي العلامة الوحيدة الظاهرة، أي: أمارتهم بين الناس أنهم يحافظون على حلق رءوسهم بالموسى.
فلما جيء بـ صبيغ بين يدي عمر، وكان يسأل عن متشابه القرآن، قال عمر: لعله ممن حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام منهم، وبين لنا أماراتهم وعلاماتهم، فلما ضربه كشف عن رأسه، فلو وجده محلوق الرأس لقتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لمن قتلهم)، ولو قتله عمر فإنه يكون مأجوراً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل)، لكنه رأى أنه لم يكن ممن وصف النبي عليه الصلاة والسلام.(13/5)
انتفاع صبيغ بتأديب عمر رضي الله عنه له فلم يلتحق بالخوارج حين ظهروا
قال: [فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله فيما لا يعنيه كشف رأسه؛ لينظر هل يرى العلامة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصفة التي وصفها، فلما لم يجدها أحسن تأديبه؛ لئلا يتغالى به في المسائل إلى ما يضيق صدره عن فهمه، فيصير من أهل العلامة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، فحقن دمه -أي: لم يقتله؛ لأنه ليس بصاحب علامة- وحفظ دينه بأدبه، رحمة الله عليه ورضوانه.
ولقد نفع الله صبيغاً بما كتب له عمر في نفيه].
لأن عمر نفاه إلى البصرة، وقال: هذا صبيغ يا أهل البصرة لا بد أن يقوم فيكم خطيباً، فيفضح نفسه على الملأ، ويقول: كان برأسي كيت وكيت وكيت، حتى أدبني أمير المؤمنين وفعل بي كذا وكذا وكذا، ولا زال صبيغ وضيعاً حتى مات بعد أن كان شريفاً.
ثم قال: [فلما خرجت الحرورية -وهي فرقة عظيمة من فرق الضلالة- قالوا لـ صبيغ: إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا].
يعني: ذهب أصحاب السوء إلى صبيغ وقالوا: يا صبيغ لقد ظهرت فرقة تسمى: الحرورية -نسبة إلى مكان يسمى: حروراء، وهم خوارج، فهل لك يا صبيغ أن تلحق بهم، وأن تصير رأساً فيهم كما كنت رأساً من قبل؟ فانظر إلى رد صبيغ ماذا قال.
قال: [فقال: هيهات، نفعني الله بموعظة الرجل الصالح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه] يعني: نفعه الله تعالى بما أدبه به أمير المؤمنين؛ ولذلك قال: هيهات هيهات لقد نفعني الله بموعظة الرجل الصالح أمير المؤمنين.
قال: [وكان عمر قد ضربه حتى سالت الدماء على وجهه، أو رجليه أو على عقبيه.
ولقد صار صبيغ لمن بعده مثلاً وتردعة لمن نقر وألحف في السؤال].(13/6)
تحذير أبناء الصحوة من الاهتمام بالمتشابهات
اعلم أن الصحوة الإسلامية فيها مئات من مثل صبيغ، ولذلك هذا الكلام إن لم نستفد منه فلا قيمة له إذاً، فكثير من أبناء الصحوة يسألون ويلحفون في المسألة، وهذه المسألة الجهل بها لا يضر، والعلم بها لا ينفع، وإذا سألته في أصول دينه علماً وعملاً ستجده صفر اليدين، وإنما أدخل نفسه في مسألة لا تعنيه، وهذا كمن أراد أن يقفز النهر قفزة واحدة فسقط فيه، أو من أراد أن يقفز من الأرض إلى السطح فوقع على أم رأسه، فاندك في الأرض فمات؛ لأنه رام شيئاً وسلك له سبيلاً غير السبيل المستقيم، وأما سبيل طلاب العلم فإنهم يصلون إلى العلم شيئاً فشيئاً، حتى يصلوا في نهاية المطاف إلى دراسة المتشابهات بعد الإيمان بها، حتى يردوا ويذبوا عن دين الله عز وجل.
وأما أن يأتي إنسان في أول الطريق فيسأل عن المتشابه ولا علم له بالمحكم، فمن يكون هذا؟ أو يأتي طالب علم مبتدئ فيسأل عن مسائل الخلاف والفروع المختلف فيها، وهو بعد لم يعرف مسائل الإجماع، والمسائل المجمع عليها ينكر أهل العلم أشد الإنكار على من لا يعرفها، ومن تصدى لغيرها قبل بحثها، وقبل الوقوف عليها، ومعرفة أصلها وأدلتها، فهو يسأل عن الفروع وهو بعد لم يتعلم الأصول، ويسأل عن الخلاف وهو بعد لم يتعرف على محل الاتفاق عند أهل العلم، كل هذا خلط وخبط عشواء في طريق الطلب، فينبغي أن يتنزه عنه طالب العلم.
وبعض الطلاب يسألون عن مسائل كثيرة، وإذا لقيته هذا العام تجده يسأل عن مسائل كان يسأل عنها منذ أربع أو خمس سنوات، ففي أول دروسنا في مسجد التوحيد كان بعض الطلاب لا يحلو له إلا أن يسأل عن المتشابهات، أو عن الخلافيات، أو عن الفرعيات الدقيقة جداً، فإذا سئل عن مسائل في أصول العلم والأمور المتفق عليها والمجمع عليها بين أهل العلم تجده لا يعرف عنها شيئاً، ولا يعرف أصلاً هل هي من دين الله أو ليست من دين الله؟ أقول: إذا كان البحث في هذه المسائل واجباً فإنما هو واجب على أهل العلم المتبحرين فيه، وأما أنت كطالب علم مبتدئ فإن هذا لا يسعك، وليس من أمرك.
فمثلاً: الطفل الرضيع لو أطعمته أمه لحماً -وهو طعام، ولا يختلف أحد أنه طعام- فإنه يقتله، وكذلك هذه المسائل المتشابهات التي لا علم لك بها، ولست أهلاً لها إنما تقتلك ولا تنفعك، مع أنها علم، لكن الله عز وجل جعل لكل شيء قدراً، فهذه المسائل إنما يهتم بها أهل العلم الكبار، وأما أنت فلا.
والدفاع عن دين الله عز وجل واجب على كل مسلم، لكن كل على قدره، فهل أنت مطالب الآن أن تتصدى لفرقة من فرق الضلالة دفاعاً عن دين الله عز وجل؟
الجواب
لا، وأنك إذا فعلت ذلك أفسدت في دين الله عز وجل، بل ربما تكون سبباً قوياً في ظلم الظالمين، وأنا على يقين أنك ستنهزم أمام أصحاب الضلالة؛ لأنك لا تعرف مواطن الشبه التي يثيرونها عليك، وبالتالي إذا ألقيت عليك شبهة واثنتان وثلاث وأربع ولم يأت منك جواب مقنع، أو لم يأت منك جواب أصلاً على هذه الضلالات والانحرافات والشبه؛ اغتر العامة بكلام زعيم المبتدعة، فصدقوا كلامه، ووقع في قلوبهم أنه على الحق، فكنت فتنة للعامة بسبب الجهل، أو بسبب أنك تصديت لمسألة لم تتأهب لها بعد.
إذاً: فاعلموا أن العلم مراتب، ولكل مرتبة أهلها.
[وعن القاسم بن محمد: أن رجلاً جاء إلى ابن عباس فسأله عن الأنفال، فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل الفرس وسرجه، فأعاد عليه السائل، فأجابه ابن عباس بنفس الجواب، فأعاد عليه ثالثة، فأعاد ابن عباس الجواب عليه ثالثة، فقال ابن عباس: تدرون ما مثل هذا؟ هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر رضي الله عنه، أما لو عاش عمر لما سأل أحد عما لا يعنيه].
والآن تجد الواحد لأول مرة يدخل المسجد، ولا يعرف عن دينه أي شيء، ثم يتوجه إلى المحاضر ويقول له: أنا أريد أن أعرف الفرق بين الإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية والجهاد، والتوقف والتبين، والسلفيين وغير ذلك.
نقول لهذا: أنت لا تعرف كيف تصلي، والأصل أن تتعلم كيف تصلي، وكيف تتوضأ، فتجد كثيراً ممن يتوضأ يقدم ويؤخر، ويزيد وينقص، ويخبط في أصل العبادة، وهذا الأمر وجدناه وأنتم تجدونه هنا، وهو كثير جداً في بلاد الغرب، فمثلاً: في أمريكا وأوروبا تجد المسلم لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يعرف كيف يصلي، ويتعثر في أصول دينه، ومع ذلك تجد لحيته طولها ربع متر، وتراه يلبس العمامة، ويمشي في الشارع ومعه دفتر وقلم، وكلما قابل شخصاً ملتحياً أخرج القلم وفتح الصفحة وسأله، وهو لا يعرف أن الذي يسأله هو أيضاً أجهل منه، يقول له: أنا أريد أن أعرف ما هو الفرق بين الجماعة الفلانية وبين الجماعة العلانية؟ وما هي أخطاؤهم؟ وما هو الصواب الذي عندهم؟ فهو يقلب في الصفحات ويكتب الملاحظات، وفي الأخير يقول له: بعد أن استفدنا منك الفوائد العظيمة هذه اكتب لنا كلمة في هذا الدفتر من أجلي، فالمسئول مجهول، والسائل أجهل منه، فالقضية كلها ليس(13/7)
موقف الصحابة والسلف ممن يسألون فيما لا ينفع
قال: [قال علي بن أبي طالب يوماً: سلوني عما شئتم].
ويجوز للعالم المتبحر أن يصدر منه ذلك إذا تفرس في وجه الحاضرين أسئلة أو رسالة.
قال: [سلوني عما شئتم، فقال ابن الكواء -وهو رأس من رءوس البدعة-: ما السواد الذي في القمر؟ قال علي: فإن تلك لله -أي: لا يعلمه إلا الله- ألا سألت عما ينفعك في دينك وآخرتك؟! ذاك محو الليل.
وفي رواية: أنه سأله عن الحاملات وقراً؟ قال علي رضي الله عنه: ثكلتك أمك! سل تفقهاً ولا تسل تعنتاً، سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك].
قال الشيخ ابن بطة: [وهكذا مكان العلماء والعقلاء إذا سئلوا عما لا ينفع السائل علمه، ولا يضره جهله، فربما كان الجواب أيضاً مما لا يدركه السائل، ولا يبلغه فهمه منعوه الجواب، وربما زجروه وعنفوه].
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يستطيع أن يتكلم في القدر، ويحسن الكلام في القدر، ومع ذلك لم يجب في القدر بشيء.
وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما يحسن ذلك، ومع هذا ما كان يجيب في القدر بشيء؛ لأن من منهج السلف أنه إذا ذكر القدر أمسكوا عن الجواب؛ لأن هذا باب عظيم وباب شائك، وإذا تحدث فيه متحدث فلابد أن يمكث فيه الساعات الطوال حتى يبين أصل الإيمان بهذا الأمر، ثم يبين مراتبه ومسائله وأحواله للعامة، لكن إذا كان المقام لا يسمح فإن قطع الكلام فيه أنجى للعامة في اعتقادهم، وقد كان السلف يأمرون بالإيمان بالقدر؛ لأن الله أمر بذلك، وانتهت القضية عند هذا الحد.
وكذلك يستطيع السلف أن يتكلموا في النجوم، ولكنهم كانوا إذا سئلوا في النجوم ومنازلها ومساكنها أمسكوا، ويستطيع السلف أن يتكلموا في الصحابة، أي: في منزلتهم وفي فضلهم، وفي الفتنة التي دارت بينهم، لكنهم كانوا إذا سئلوا عن الفتنة أمسكوا.
فإذا كنا نحن نعرف أن نتكلم في الفتنة فهم أولى بذلك منا، لكنهم أمسكوا.
وهذا عمر بن عبد العزيز الإمام الراشد، إمام الهدى، لما سئل عن الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما قال: فتنة نجى الله تعالى منها سيوفنا، فلم لا ننزه عنها ألسنتنا؟! وكان سيقطع كل فتنة يمكن أن تدار إذا أجاب بغير هذا الجواب، ولكنه تكلم بهذا الكلام الوجيز في المبنى العظيم جداً في المعنى، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، فعبر رحمه الله بكلمات يسيرات عن معتقد أهل السنة والجماعة في الخلاف الذي دار بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم.(13/8)
آثار عن السلف في ترك السؤال عما لا يعني، وذم الآرائيين
قال: [قال ابن شبرمة: من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يجيب عنها] يعني: ليس لكل سائل أن يسأل عما دار في رأسه من محكم ومتشابه، ومن غث وسمين، وإذا فعل فيحرم على المجيب أن يجيب في كل شيء، وإنما يجيب في شيء ينفع السائل، وأما في كل ما يسأل عنه السائل فلا.
ثم قال: [وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً سدده، وجعل سؤاله عما يعنيه، وعلمه ما ينفعه.
وقال أيضاً: إياكم والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق] أي: الأمر الأول.
ثم قال: [وقال أبو يوسف: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم].
وهناك أناس لا يهدأ لهم بال إلا إذا انطلقت ألسنتهم بالكلام والفلسفة والمنطق، ومعرفة المقدمات والنتائج وغير ذلك، ويظنون أنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً عظيماً، وليس الأمر كذلك، بل هذا هو الجهل بعينه إذا لم يكن مضبوطاً بضوابط الشرع.
ثم قال: [وقال زيد بن علي لابنه: يا بني! اطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك].
يعني: أن الوقت والعمر لا يسع إلا لشيء واحد للنافع أو الضار، فإن انشغلت بالضار شغلك عما ينفعك، وإذا انشغلت بما ينفعك لم يبق وقت للسؤال عما يضرك، فإما هذا وإما ذاك.
ثم قال: [فإن في تركك ما لا يعنيك دركاً لما يعنيك، واعلم أنك تقدم على ما قدمت لنفسك، ولست تقدم على ما أخرت، فآثر -أي: فقدم- ما تلقاه غداً على ما لا تراه أبداً.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: إن ربنا تعالى أبدى شيئاً وأخفى أشياء] أي: أظهر لنا شيئاً وأخفى عنا أشياء، والعاقل من انشغل بما أبداه الله تعالى، وترك ما أخفاه الله عز وجل، فإن خالف هذا الناموس الكوني فلا بد أنه هالك.
ثم قال: [وبلغني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول: سؤال العبد عما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل له].
وقد جاءني سائل ومعه دفتر قد كتب فيه عدة أسئلة تصل إلى واحد وخمسين سؤالاً، ولا يمكن أن ينتفع بسؤال واحد منها.
فقال: السؤال الأول: ما اسم أم موسى عليه السلام؟ فقلت له: هل ستستفيد من هذا السؤال؟ هل أنت مطالب به ومتعبد به؟ وهل سيسألك الله عنه يوم القيامة؟ وتعبت معه كثيراً حتى أقنعته أن هذا السؤال لا ينبني عليه عمل العبد.
ثم أخرج الدفتر ووجه إلي السؤال الثاني: ما اسم كلب أهل الكهف؟! فالذين انشغلوا بأسماء وصفات الله عز وجل أنظف وأشرف منك بألف مرة مع انحرافهم؛ لأنهم انشغلوا بباب من أعظم أبواب الاعتقاد، وضلوا فيه، ولكن الأبعد انشغل بأسماء الحيوانات والنساء والطيور وغير ذلك، وذكر حوالي اثني عشر اسماً توجد في القرآن لا يلزمه معرفتها.
وتلك الأسئلة فيها عجائب، لكنه أخذ مني الدفتر عنوة لما ضحكت ضحكاً شديداً على بعض الأسئلة، وكان هذا قديماً، وليتني لم أضحك حتى آتي بالباقي.
إذاً: فهذا علمه لا ينفعني، وجهله لا يضرني، وهذا الشخص اتهمني بأنني أصد عن الله عز وجل، وعن ذكر الله، وقال: أليست هذه أشياء ورد ذكرها في القرآن، ونحن مطالبون بالتدبر والتفكر في القرآن ومعرفة آياته؟ فأقول: نعم، ولكن كان ينبغي أن يعلم الحلال والحرام، ومع ذلك لو سألته عن الكبائر والصغائر فإنه لا يعرف شيئاً؛ لأنه أخذ هذه المتشابهات التي لا تعنيه أصلاً وجعلها دينه فحسب.
ثم قال: [وقال طاوس: إني لأرحم الذين يسألون عما لم يكن؛ مما أسمع منهم.
وقال الشعبي: لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي صلى الله عليه وسلم لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك، يسألونك!].(13/9)
إكثار الأحناف من الرأي والقياس
وهناك أناس كثيرون يقول أحدهم: يا شيخ أنا وضعت أموالي في البنك الفلاني، فهل الأرباح هذه حلال أم حرام؟ لو قلت له: حلال، قال: افرض لو أني وضعتها في بنك آخر؟ وندخل بعد ذلك في دوامة كبيرة كلها افتراضات، أرأيت لو كان كذا لكان كذا وكذا، أرأيت لو كان كذا لكان كذا وكذا افتراضات.
ولذلك عيب على أهل الرأي وأصحاب المذهب الحنفي كثرة الآراء، فعندما تقرأ في أي كتاب من كتب الأحناف ستجد أن معظم الفقه افتراضات، فمثلاً: الساجد عليه أن يسجد على سبعة أعضاء: الوجه مع الأنف هذا عضو واحد، واليدين والركبتين وأطراف القدمين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرنا أن نسجد على سبعة آراب) أي: على سبعة أعضاء، لكن المذهب الحنفي حينما وقف على هذا الحديث قال: افرض أنه سجد على خمسة أعضاء فقط، رجل سجد ورفع أطراف القدمين، فيظل يفرض الافتراضات إلى أن قال: افرض أنه سجد على جبهته فقط دون أنفه، فهذا افتراض ليس له أي قيمة، بل هو مضيعة للوقت، وعبء وثقل في كتب الفقه، وكلام بلا فائدة، ولا يمكن أن يحدث قط، ولذلك من كثرة الافتراضات هناك افتراضات الواقع الآن يكذبها، ويقول: إنه لا أساس لها، كما قالوا أيضاً: افرض أن إنساناً صلى في أرجوحة لا هي معلقة في السماء ولا متصلة بالأرض، هل تصح صلاته؟ قالوا: لا، لا تصح؛ لأن الصلاة يلزمها السجود، والسجود لا بد فيه من المكان، وهذه أرجوحة معلقة في الهواء، والمفترض أنه يسجد على الأرض؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما جعلت لي الأرض مسجداً) يعني: يسجد فيها (وتربتها طهوراً، فأيما مسلم أدركته الصلاة فعنده طهوره وسجوده) أي: المكان الذي يسجد فيه، قالوا: وهذه ليست أرضاً وإنما هذه أرجوحة.
ثم قالوا: وهذا محال لا يتحقق، فإذا بهذا المحال الذي لا يتحقق تحقق الآن، فالطائرة مثل الأرجوحة، فهي تطير في السماء في هذا الوقت، فهم قالوا: ببطلان الصلاة في الأرجوحة، والآن الأحناف المتعصبون يلتزمون مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، فيقولون: إن الصلاة في الطائرة غير صحيحة، وإنما يجمع جمع تقديم قبل ركوب الطائرة أو جمع تأخير بعد النزول، فإذا كان السفر فوق الطائرة مقدار عشرين ساعة فهل أجمع خمسة فروض أم عشرة؟! هذا لا يصح.
وانعقد الإجماع من أهل العلم بعد ظهور الطائرات على أن الصلاة فيها صحيحة كالصلاة في السفينة سواءً بسواء، لكن المتعصبون الآن من الأحناف يقولون بالبطلان، وغيرهم يقولون بصحة الصلاة فيها مع الكراهة، ونحن نقول ليس بإمكاننا أن نتخلص من هذه الكراهة، لذلك فهي صحيحة مطلقاً.(13/10)
تعقيب ابن بطة على آثار السلف المتعلقة بترك السؤال عما لا يعني
قال: [فالعجب يا إخواني رحمكم الله! لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تلج محاضرهم في أودية الردى، تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به أنفسهم، وفرغوا له آراءهم وأوقاتهم، وجعلوه ديناً يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، أما علم الزائغون أن مفاتيح أبواب الكفر، ومعالم أسباب الشرك هو التكلف لما لم تحط الخلائق علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله، ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير، والأحمق الصغير، بقوته الضعيفة وعقله القصير أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب التي أرادها لنفسه سبحانه وتعالى، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله، ومخزون غيبه، وخفي أقداره، فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره، وقّلب فيه فكره، أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور؛ ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما ينهى عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده، والعجب كل العجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟! أما تعلمون أن الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟ فسبحان الله أنى تؤفكون! قال ابن الصواف: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: لو كلف الله هؤلاء ما كلفوه أنفسهم من البحث والتنقير؛ لكان من أعظم ما افترضه عليهم.
قال الشيخ: فالزموا رحمكم الله! الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، والمنهاج الأعظم من معالم دينكم، وشرائع توحيدكم، التي اجتمع عليها المختلفون، واعتدل عليها المعترفون، كما قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].(13/11)
مناظرة ابن عباس مع رجل يحاول معرفة أسرار الله في خلقه
قال: [قال أبو اليقظان: خرج رجل من أسلاف المسلمين يطلب علم السماء، ومبتدأ الأشياء، ومجاري القضاء، وموقع القدر المجهول، وما قد احتجبه الله عز وجل من علم الغيوب، التي لم ينزل الكتاب بها، ولم تتسع العقول لها].
قال: [حتى انتهى إلى بحر العلوم، ومعدن الفقه، وينبوع الحكمة عبد الله بن عباس، فلما انتهى بالأمر الذي ارتحل إليه، وأقدمه عليه؛ قال له: اقرأ آية الكرسي، فقرأها حتى بلغ قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، قال ابن عباس: أمسك؛ فقد بلغت ما تريد، فقد أنبأك الله أنه لا يحاط بشيء من علمه، قال له الرجل: يرحمك الله! إن الله قد استثنى فقال: {إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، فقال ابن عباس: صدقت، ولكن أخبرني عن الأمر الذي استثناه من علمه، وشاء أن يظهره لخلقه: أين يوجد؟ ومن أين يعلم؟ قال: لا يوجد إلا في وحيه، ولا يعلم إلا من نبيه، قال ابن عباس: فأخبرني عن الذي لا يوجد في حديث مأثور، ولا في كتاب مسطور، أليس هو الذي نبأ الله: لا يدركه عقل، ولا يحيط به علم؟ قال الرجل: بلى، قال ابن عباس فإن الذي تسأل عنه ليس محفوظاً في الكتب، ولا محفوظاً عن الرسل، فقام الرجل -وانتفع بكلام ابن عباس - وهو يقول: لقد جمع الله لي علم الدنيا والآخرة، فانصرف شاكراً لـ ابن عباس].
قال الشيخ: [فاتقوا الله يا معشر المسلمين! وانتهوا عن السؤال والتنقير، والبحث عما يشكك في اليقين، وليس هو من فرائض الدين، ولا من شريعة رب العالمين، ولا تثقل به الموازين، ولا تثق نفوسكم إلى استماع كلام المتنطعين، الذين اتهموا أئمة المسلمين، وردوا ما جاءوا به عن رب العالمين، وحكموا آراءهم وأهواءهم في الدين، ودعوا الناس إلى ما استحسنوه دون كتاب الله وسنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم].
فقد تقدم عن ابن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا هلك المتنطعون ثلاثاً).(13/12)
آثار عن السلف في كراهة القول في المسائل بآرائهم، وتعقيب المصنف عليها
قال: [سئل عطاء عن شيء؟ فقال: لا أدري، فقيل له: قل فيها برأيك، قال: إني لأستحي من الله أن يدان في أرضه برأيي.
وعن ابن سيرين أنه سئل عن شيء، فقال: أكره أن أقول برأيي، ثم يبدو لي بعد ذلك رأي آخر فأطلبك فلا أجدك.
وسئل ابن سيرين أيضاً عن شيء، فقيل له: ألا تقول فيه برأيك؟! فقال: إني أكره أن أجرب السم على نفسي.
وقال الأعمش: إنما مثل أصحاب هذا الرأي مثل رجل خرج بالليل فرأى سواداً، فظن أنها تمرة فإذا بها عقرب، فلما التقطها لدغته].
قال الشيخ: [الله الله يا إخواني يا أهل القرآن، ويا حملة الحديث! لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب، ومكنون العلوم؛ فإن الله جعل للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه].
يعني: أوكلوا أمره إلى أهل العلم المتبحرين المتخصصين فيه، ولا تنشغلوا به أنتم.
[ولا تحيطوا الأمور بحيط العشواء، حنادس الظلماء، بلا دليل هاد، ولا ناقد بصير، أتراكم أرجح أحلاماً، وأوفر عقولاً من الملائكة المقربين حين قالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]؟!] أي: أنهم أوكلوا أمر العلم فيما لا يعلمون إلى الله عز وجل.
ثم قال: [إخواني! فمن كان بالله مؤمناً فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة، والجادة السابلة -أي: المسلوكة- والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما نهي عنه؛ يقع -والله- في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتعدي لحدوده.
والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟ أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب ألا تقولوا على الله إلا الحق؟! فسبحان الله أنى يؤفكون].
أقول: والعجب أن هذا الباب لم يذكر في كتب الأدب، وإنما ذكر في باب الاعتقاد، وفي أبواب أصول الدين؛ لأن الأمر فيه جدل خطير، ففيه التحذير من قوم يتعمقون، وينقبون ويبحثون عما لا يعنيهم، والتحذير من صحبتهم، والاستماع إليهم وغير ذلك.
والناظر لأول وهلة إلى هذا الباب يرى أن كتب الأدب التي تذكر أدب طالب العلم؛ أولى بهذا الباب من كتب الاعتقاد، لكن لما كان هذا الأمر متعلقاً بالمتشابهات من كتاب الله عز وجل، وأننا لم نكلف بالبحث عنها، وإنما كلفنا بالإيمان بها، وإمرارها كما جاءت، وإن غاب عنا علمها لكن لا يغيب علمها عامة عن الأمة كلها، بل لابد أن يتكلم فيها أهل العلم، ويقولون فيها قولتهم بما يفتح الله عز وجل به عليهم.
وأما نحن صغار طلاب العلم، أو صغار أهل العلم فإننا لم نكلف بذلك، وحذرنا أيما تحذير من التدخل فيما لا يعنينا؛ لأن هذا أمر يؤدي في نهاية الأمر إلى التشكيك والحيرة في كتاب الله عز وجل، وهذا باب عظيم من أبواب الكفر، فلما كان هذا الأمر يؤدي بنا إلى الكفر أراد أهل العلم أن يحافظوا على هذا الأمر، فأوردوه ضمن كتب الاعتقاد؛ لعلاقته بالإيمان والكفر.
أسأل الله تعالى أن يحفظني وإياكم من التنطع والجدل والتعمق، وأن يرزقنا وإياكم التمسك بالدين.(13/13)
الأسئلة(13/14)
حكم وكيفية صلاة الفريضة في الطائرة
السؤال
ما حكم صلاة الفريضة في الطائرة؟
الجواب
تصح صلاة الفرد في الطائرة إذا لم يتمكن من الصلاة على الأرض؛ وإن كانت لغير القبلة، والأصل في صلاة الفريضة أنها تؤدى باتجاه القبلة، وعلى الأرض، لكن ذلك في الطائرة غير ممكن، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي النافلة على الدابة يوجهها تجاه القبلة حتى يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يدعها بعد ذلك تسير حيث شاءت، فحتى لو انحرفت عن القبلة في النافلة فإن هذا أمر لا يضره، وأما انحراف الدابة عن القبلة في الفريضة فإن هذا أمر لا يجزئ صاحبه، والله تعالى أعلم.(13/15)
حكم أخذ نسبة معينة من الآكلين في المطاعم زيادة في القيمة وتوزيعها على العاملين
السؤال
ما حكم العشرة في المائة أو الاثنين في المائة، أياً كانت النسبة التي تفرض على الآكلين في المطاعم زيادة في القيمة، ثم توزع بعد ذلك على العاملين؟
الجواب
جائز وحلال لا شيء فيه، ولا يستوي من أكل طعامه وانصرف ليأكل في بيته أو في سيارته، ومن جلس في المطعم فقدمت له زيادات في الخدمة من طعام وشراب وغير ذلك، فهذه النسبة ليس فيها حرج، والبقشيش إذا قدم بطيب خاطر من صاحبه -أي: من الآكل- وبغير أساليب ملتوية من العامل فإنه لا شيء فيه.
وأما إذا فعل العامل أفعالاً وتحرك بحركات يفهم منها انتزاع المال من جيب الآكل، فأعطاه المال بسبب هذا الطلب إما بقوله أو فعله؛ فإن الحرج كل الحرج فيه؛ لأنه ما أعطاه بطيب خاطر منه.(13/16)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم)
السؤال
كثير من الناس يسأل عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) ويقول: إذا كنا مأمورين بمخالفة المشركين، أو مخالفة غيرنا من سائر ملل الكفر ولا نقتدي بهم، ولا نتشبه بهم في الهدي الظاهر ولا الباطن؛ فاليهود والنصارى الآن يطلقون لحاهم فهل يجب علينا أن نحلق لحانا؟
الجواب
لا، وإنما ضبط هذا الدليل الذي يستدل به السائل: من تشبه بقوم في أصل عادتهم وديانتهم، وليس هو من ديننا، فيكون المعنى: من تشبه بهم في أصل دينهم، أو في أصل عاداتهم المخصوصة بهم وليس من ديننا فليس منا، أي: ليس ذلك من أخلاق المسلمين، وأما إذا قام النصارى في الصباح يصلون معنا في المسجد، ويقومون معنا شهر رمضان فهل نخالفهم حتى لا نتشبه بهم؟! لا؛ لأن هذا من أصول ديننا، فمن أراد أن يتشبه بنا فله ذلك، ولا ينفعه ذلك إلا بعد الإيمان بالله عز وجل، وأما إذا تشبه بنا قبل أن يؤمن فإن ذلك لا ينفعه؛ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
فلو أن شخصاً صلى أسبوعاً أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع ونحن نعرف أنه نصراني، وقلنا له: هل أسلمت؟ فقال: لا، إذاً فلماذا أنت تصلي؟ قال: أنا أتدرب على الصلاة، وأتعرف عليها، وأرى أحوال المسلمين في المساجد، فهذا لا ينفعه فعله ذلك، وهذه أفعال أهل الشبهات، فهو أتى يجربنا، فلو أن النصارى كلهم اجتمعوا واتفقوا في الكنيسة في كل حي أنهم ينطلقون إلى المساجد يصلون مع الناس، فهل نقوم نحن نخالفهم حينما نرى المسجد مليء بالنصارى ونترك الصلاة، ونقول: ما داموا يصلون فنحن مأمورون بمخالفتهم ولن نصلي؟! هل يصح هذا الكلام؟! لا.
إذاً فالأحاديث التي حذرت من التشبه بغير المسلم إنما ذلك فيما يخصه هو من أصل دينه، أو من أصل عادته، والله تعالى أعلم.
وكذلك الشارب؛ فقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث في الصحيحين وغيرهما بمخالفة المشركين بإعفاء اللحية، وحف الشارب، وأما حلق الشارب فلا، وأما حلق اللحية فحرام معلوم حرمته، وأجمع على حرمة حلق اللحية فقهاء الإسلام، ولم يخالف في ذلك أحد، حتى نقل غير واحد من أهل العلم إجماع الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل على وجوب إطلاق اللحية، وحرمة حلقها.
وهذا أمر لا يحتاج إلى إجماع؛ لأن هذا أمر معلوم علماً يقينياً عند أهل العلم.
فإذا كان النصارى قد أطلقوا لحاهم، وحفوا شواربهم، فهل يجوز أن نحلق لحانا، أو أن نحلق شواربنا؟! لا يجوز ذلك؛ لأن هذا من ديننا، فمن أراد أن يتشبه بنا فله ذلك، وإلا فنحن لا نتشبه بأحد من سائر ملل الكفر بما هو من عادتهم ودينهم، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحانك اللهم بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(13/17)
شرح كتاب الإبانة - التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب [1]
لقد حذر السلف الصالح من مصاحبة ومتابعة أهل البدع والأهواء؛ لأنهم أخطر على القلوب من ارتكاب الكبائر، فإن صاحب البدعة يظن أنه قد أحسن عملاً، فلا يوفق إلى التوبة وترك البدعة، بعكس صاحب الكبيرة فإنه لا يظن في نفسه أنه على خير، والندم والإقلاع عن المعصية أرجى له.(14/1)
باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان(14/2)
الفرق بين العلماء الراسخين في العلم والإيمان وبين غيرهم من المبتدئين في الرد على أهل البدع ومناظرتهم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: تناولنا في الدروس الماضية قضية مهمة جداً، وهي: أن المرء لا يتدخل فيما لا يعنيه، ودرس اليوم متمم لما مضى من أعمال، وهو يتعلق باختيار الصاحب والصديق، والهروب من أبناء السوء، وأصحاب البدع والأهواء.
ولأهل العلم من السلف كلام في غاية الروعة والجمال في هذا الباب، وكثير من الناس يتصورون أنه لا يضرهم أن يصاحبوا مبتدعاً، أو أن يتلقوا عن مبتدع، أو يناظروا مبتدعاً أو غير ذلك، مع أن هذا من أكثر أبواب الضلال والفساد التي يمكن أن تواجه طالب العلم، ولعل من الشبهات أن أهل العلم الكبار بعد أن حذرونا أيما تحذير من مصادقة ومجالسة أهل الأهواء والبدع؛ نراهم قد جالسوهم وناظروهم، وبينوا لنا عقائدهم الفاسدة وغير ذلك.
فالجواب على هذه الشبهة: أن لأهل العلم الكبار المتثبتين ما ليس لغيرهم من الطلاب الصغار المبتدئين، ففي الوقت الذي يحذرنا فيه أهل العلم من مجالسة أهل الأهواء، أو الإصغاء إليهم، أو إلقاء السمع أو غير ذلك؛ نجدهم يناظرون أهل الأهواء والبدع ويفضحون أمرهم، ويكشفون سترهم من باب النصيحة للأمة، ومن باب التفريق والتمييز بين الحق والباطل.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يحذر من دراسة الفلسفة والمنطق، مع أنه قد طالع كثيراً في كتب الفلسفة والمنطق.
وله قول شهير مشهور: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق، مع أنه سيد أهل المنطق في زمانه، وإنما تعلم ذلك لتثبته وقوة حجته وتسلحه بالعلم، فلم يكن يخشى عليه الاطلاع في كتب القوم، حتى ولو اطلع في كتب السحر ليرد على السحرة أمرهم؛ فإن هذا أمر جائز ومشروع له، وأما غيره من الطلاب المجتهدين فإن ذلك فيه خطورة عظيمة جداً عليه، وربما انقلب المرء رأساً على عقب من أول الطريق.
فهذا الباب يبين مذاهب السلف في هذه المسألة، وهو باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، ويفسدون الإيمان.(14/3)
آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل الأهواء وسماع كلامهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قد أعملتك يا أخي عصمني الله وإياك من الفتن، ووقاني وإياك جميع المحن؛ أن الذي أورد القلوب حمامها، وأورثها الشك بعد اتقائها، هو البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا تؤمن فتنته، وقد كفى العقلاء مؤنته، وأن الذي أمرضها بعد صحتها، وسلبها أثواب عافيتها، إنما هو من صحبة من تغر إلفته، وتورد النار في القيامة صحبته، أما البحث والسؤال فقد شرحت لك ما إن أصغيت إليه -مع توفيق الله- عصمك، ولك فيه مقنع وكفاية.
وأما الصحبة فسيرجع عليك بالنفع طالما إن تمسكت به نفعك، وإن أردت الله الكريم به وفقك، قال الله عز وجل فيما خص به نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره منه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
ثم أذكره ما حذره، وأعاد له ذكر ما أنذره فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
عن مجاهد في قوله تعالى: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:68]، قال: يستهزئون، نهى الله عز وجل محمداً أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا تذكر فليقم، وذلك قوله: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
وعن قتادة بن دعامة البصري في قول الله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، وإن نسي وقعد فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
وعن ابن عون قال: كان محمد بن سيرين يرى أن أسرع الناس ردة هم أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية أنزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:68].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)]، والخليل: هو الصديق والصاحب.
قال: [وعن عطاء قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: لا تجالس أهل الأهواء؛ فإنهم يحدثون في قلبك ما لم يكن فيه].
أي: أن لهم تأثيراً شديداً كالسحر في الخلق، فإذا دخل شيء من كلامهم وأهوائهم في قلب المرء أفسده، فنسأل الله عز وجل أن يحفظك منه.
[وعن طلحة قال: سمعت خصيفاً الجزري يقول: أشهد أن في التوراة مكتوباً: يا موسى! لا تجادل أصحاب الأهواء؛ فيمرضوا عليك قلبك بما يرديك فيدخلك النار.
وعن محمد بن النضر الحارثي قال: بلغنا أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى بن عمران عليه السلام: أن كن يقظاناً -أي كن حذراً متيقظاً- مرتاداً بنفسك أخداناً، فكل خدن لا يواتيك على مسرتي فاحذره].
أي: كل صاحب لك لا يصحبك على ما يحبه الله عز وجل، فلا تصاحبه؛ فإنه لك عدو، وهو يقسي قلبك.
وعن عطاء قال: بلغني أن فيما أنزل الله على موسى: لا تجالس أهل الأهواء فيحدثوا في قلبك ما لم يكن فيه.
وقال أبو قلابة -وهو عبد الله بن زيد الجرمي الإمام البصري الكبير-: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون].
أي: أن مجرد المجالسة له ولو مرة واحدة أنت منهي عن ذلك؛ فضلاً عن مناظرته ومجادلته وخصومته وغير ذلك، فمن باب أولى ألا تفعل ذلك؛ س لأن السلف لم يأمنوا علينا إذا فعلنا ذلك أن ننغمس في البدعة، وأن نتقرب من هواهم، أو يلبسوا علينا، أو يضعونا في دائرة الشك في الثوابت التي لدينا ومنها: شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وشفاعة الشافعين جميعاً، فهذه عقيدة استقرت في قلوب العامة والخاصة، حتى إن عامة الناس إذا تحدثوا قال بعضهم لبعض: صلوا على النبي، فهذه عقيدة مستقرة لدى العامة أن النبي عليه الصلاة والسلام شفيع لأمته، ووجد في الأمة من ينكر الشفاعة؛ لأن ثقافتهم إنما هي بالصحف والمجلات، ولم يتلقوا علمهم ودينهم من أهل العلم.
[وعن عمرو بن قيس الملائي قال: كان يقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك.
وعن أبي قلابة قال: قال أبو الدرداء: من فقه المرء ممشاه ومدخله ومخرجه ومجلسه].
أي: من العلامات الدالة على فقه الرجل، وعلى عقله واستقامته: النظر إلى ممشاه، أي: مع من يمشي، ومع(14/4)
التحذير من الدخول على الأمراء والسلاطين
قال: [ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه] أي: ولا تدخلن على أمير ولو زعمت أنك داخل عليه لتغير ما هو عليه من منكر، أو أن تعظه في مسألة أو غير ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن اقترب من السلطان افتتن).
ولذلك دخل رجل من أهل العلم في حلقة شيخ وكان السلطان قد أرسل صرة بها مال مع عامل له؛ فتلقاها الشيخ صاحب الحلقة وأنفقها في الطلاب ولم يأخذ منها شيئاً، فلما دخل عليهم ذلك الزاهد قال: يا فلان أقبلت هدية السلطان؟ قال: ألم تر كيف وزعتها؟ قال: أسألك بالله أقلبك عليه الآن كقلبك عليه قبل أن تأخذ الصرة؟ فقال الشيخ: لا والله، وهذه الشهادة مع أنه كان في غنى عنها، لكنه مع ذلك شهد على نفسه بأن قلبه قد تغير، فالاقتراب من السلطان فتنة عظيمة جداً.
ونحن نعلم أن بعض الشيوخ كان من أشد الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كان زعيماً لجماعة أسماها: جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأذكر أنه قال على المنبر في عام (1981م): إن لمصر إلهين: إله في السماء، وإله في الأرض، فإله الأرض هو مجلس الشعب والحكومة، ويرأسهم رئيس البلد ثم ما لبث أن تحول 180درجة، وصار يتمثل ويتصنع للرئيس ويقول: أنتم لا تعلمون علاقتي بالرئيس؛ إنها علاقة قوية جداً، وقد عرفته عن قرب، حتى طرد فخسر أمواله، وخسر دعوته، وخسر كل شيء.
وهذه سنة الله عز وجل فيمن طلب العلم لغير الله، وفيمن عمل لغير الله، فلابد أن يبتلى، وأعظم البلاء أن ينزل بدينه، فلو نزل بدنياه: بولده، ببدنه، بماله، بأهله فالأمر في كل هذا هين، وأما أن نزل البلاء بدينه، ولو أدنى شعيرة في دينه؛ فهذا الذي كان يستعيذ منه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (اللهم لا تجعل فتنتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) إلى آخر الدعاء الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام.(14/5)
الفرق بين طلب المحق للعلم وطلب المبطل والمبتدع له
[وقال إسماعيل بن عبيد الله: لا تجالس ذا بدعة -أي: صاحب بدعة- فيمرض قلبك، ولا تجالس مفتوناً فإنه ملقن حجته].
ولذلك فإن الطلاب الذين يطلبون العلم الشرعي لا يطلبون مسألة أو مسألتين أو ثلاثاً، وإنما يطلبون علماً أوله كتاب الله، وآخره آخر حديث حسن لغيره قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فدين الإسلام طويل عريض، تكلم به المولى عز وجل، وتكلم به النبي عليه الصلاة والسلام على مدار 23 سنة، فأنت مطلوب منك أن تدرس هذا، وليست المسألة متعلقة بقضية من القضايا، أو مذهب من المذاهب، فالرجل الذي يطلب العلم ينبغي عليه أن يطلبه بصورة عامة شاملة كلية؛ لأنه دين لا يتجزأ.
وأما من ابتدع -تبعاً لهواه- قضية من قضايا الشرع كقضية الجهاد مثلاً، أو قضية التأهيل، أو قضية الإيمان، أو غير ذلك فإنه يدرسها دراسة جيدة محكمة، فيعرف الشبهات التي ترفع إليه، ويحسن الجواب للرد عليها، فالذي يذهب ليناقش أمثال هؤلاء لابد أن يعلم أولاً من أين مخرجهم ومدخلهم وممشاهم، وما هي السبل التي يهتدون عليها، وما هي الشبهات التي يدسونها، وما هي ردود الأفعال لهؤلاء، لابد أن يلاحظ هذا كله حتى يستطيع الرد عليهم، ويظهر عوار هذه الفرقة، فإذا كان طالباً للعلم فله أن يتصدر، وأن يجادل ويخاصم؛ إظهاراً لدين الله عز وجل بإخلاص.
وأما الإنسان المفتون المغرور، الذي ليس عنده من العلم شيء، ولكنه يزعم أنه في كل واد من أهل العلم، ففي اليوم الفلاني يذهب ليجادل فلاناً، وفي اليوم الثاني يذهب ليخاصم فلاناً؛ فلا شك أنه يكون دائماً خاسراً خاطئاً غير ناصر لدين الله عز وجل ولا لشرعه، بل ربما كان هو أعظم سبب للفتنة في هذا المفتون، لأن عدم رده على هذا المفتون أو الزائغ يعطي انطباعاً أن هذا الزيغ حق، وأن هذا الضلال حق، فيتمثل به صاحب الضلال؛ زعماً أو ظناً منه أنه على الحق، وإذا كانوا على الباطل فما الذي يمنع هذا أن يرد عليهم، وأن يبين أنهم على الباطل.
فلما لم يبين وقع المفتون، بل جعله يتمسك أشد التمسك بفتنته وضلاله، وربما يكون الإنسان في أول الأمر يعلم أن هذا ضلال، لكن مع استمراره على الضلال قد يصدق نفسه.
وهذه تعتبر سنة كونية في الخلق، كالأحزاب التي تدور على الساحة، فإنها لا يخفى على المسئولين أنها فرقعات مفتعلة، وهم الذين فرقعوها وافتعلوها، لكن مع تقادم الأحداث والقيل والقال والأخذ والرد؛ تجد الرجل الآن يتفاعل ويتعامل مع الأحداث من واقع أنها أحداث حقيقية أحدثها وأوجدها أصحاب الافتراق أو غير ذلك، وإنما أحدثها الغير، فتعاملت مع الغير إما بأنه عدو أو خصم، فهكذا ربما يكون المبتدع أو الضال، فإنه يعلم في أول الأمر أن هذا هو الضلال، لأن هذا الباب شهرة، ويريد أن يشهر ولو بالشر، فمع بقائه في الشر مدة من الزمان يصدق أنه على الحق؛ لأنه قد ألف هذا الطريق هذا الضلال حتى كان يسيراً على قلبه؛ لأن الحق دائماً ثقيل على القلوب.
قال: [لا تجالس مفتوناً فإنه ملقن بالحجة]، أي: أن أصحاب البدع يحبون المناظرات لأجل أن يبدءوا بالمناظرة، فإذا فرغ صاحب البدعة من إلقاء ما عنده، وبيان أنه على الحق، ويزور في كلامه حتى يستقر أو يدخل في قلوب المستمعين، ثم بعد ذلك لا يسمح للخصم بالكلام، بل يستعرض الملل، وفي الغالب أنه ينصرف قبل أن يتكلم صاحب الحق، فلا يجد صاحب الحق من يناظره أو يخاطبه أو يجادله، فينصرف هو كذلك، فيكون صاحب البدعة هو الذي يتكلم، وأما صاحب الحق فإنه يرجع بذيول الخيبة والخسارة، والخسارة إنما تكمن في تأثر هذا الجمع باستماع كلام ذلك المبتدع أو الضال.(14/6)
تابع لتحذير السلف من مجالسة أهل البدع ومجادلتهم وسماع كلامهم
[وعن صالح بن مسمار قال: خرجت من البصرة على عهد عبيد الله بن زياد فسمعت المشيخة الأولى وهم يتعوذون بالله من الفاجر العليم اللسان] يعني: صاحب الحجة، وإن كانت حجته باطلة لكنه على أية حال يتخذ لها من الزخارف ما يجملها في أسماع السامعين.
[وعن المفضل بن مهلهل قال: لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته؛ حذرته وفررت منه].
أي: كنت على حذر منه؛ وفررت منه؛ لأنه منحرف عن السنة، فلا حاجة لك باستماع كلامه، فإنه يحدثك بأحاديث التمسك بالسنة في بدو مجلسه، ثم يدخل عليك بدعته، فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج منه؟! فهو يقيدك بالكتاب والسنة أولاً، ثم يبين لك أن ما عليه هو من الضلال والانحراف ليس ضلالاً وإنما هو سنة، فإن لم تشرب أنت هذه البدعة فلا أقل من أن يتزعزع الحق الذي في قلبك، فأنت مهزوم لا محالة.
[وعن هشام قال: كان الحسن البصري ومحمد بن سيرين يقولان: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم.
وقال الحسن: لا تمكن أذنيك من صاحب هوى فيمرض قلبك، ولا تجيبن أميراً وإن دعاك لتقرأ عنده سورة من القرآن؛ فإنك لا تخرج من عنده إلا بشر مما دخلت.
وعن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب! احفظ عني أربعاً: لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر احذر أن تتكلم فيه، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فأمسك -أي: إذا ذكرت الفتن التي دارت بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فالسنة أن تمسك فيها لسنانك ولا تتكلم- ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينفذوا فيه ما شاءوا، أي: فيصبوا فيه من الضلال والبدع ما شاءوا.
[وقال سعيد بن عامر: سمعت جدتي أسماء تحدث قالت: دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر! نحدثك بحديث، قال: لا].
وربما يقول قائلكم: وما الذي يضر ابن سيرين أن يسمع عنه حديثاً من أحاديث حديث النبي عليه الصلاة والسلام؟
و
الجواب
أنه لا يريد أن يسمع منهم شيئاً؛ لأنهم أصحاب هوى، والقلب يتقلب لأنه ملك لخالقه، فالإنسان دائماً يجعل حول قلبه حجاباً من الإيمان؛ حتى لا يقع في براثن الرذيلة، رذيلة الفكر والاعتقاد الفاسد.
[قالا: سنقرأ عليك آية من كتاب الله، فقال: لا، لتقومان عني أو لأقومن عنكما].
أي: إما أن تنصرفوا الآن، وإما أن أترك لكم المكان وأنصرف أنا.
ومحمد بن سيرين هذا إمام السنة في زمانه، وسيد أهل البصرة، العالم الذي كانت إليه الرحلة في زمانه، وزمن التابعين، ومع هذا ما كان يجادل أصحاب الأهواء والبدع.
[وقال هشام بن حسان: قال رجل لـ ابن سيرين: إن فلاناً يريد أن يأتيك ولا يتكلم -أي: أن رجلاً من أهل البدع يريد أن يجلس معك في المجلس، ولن يتكلم معك بكلمة- فقال ابن سيرين: قل لفلان: لا يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمة فلا يرجع قلبي إلى ذاته].
فإذا كان هذا حال ابن سيرين والحسن البصري وغيرهما؛ فنحن من باب أولى يجب علينا أن نتجنب أصحاب الأهواء والزيغ والانحراف.
[وقال معمر: كان ابن طاوس -واسمه عبد الله - جالساً فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم، قال: فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أي بني! أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع من كلامه شيئاً].
أي: يأمر ولده أن يدخل أصبعيه في أذنيه؛ مخافة أن يسمع كلمة واحدة من رجل معتزلي.
[وقال عبد الرزاق: قال لي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى: أرى المعتزلة عندكم كثيراً، قلت: نعم، وهم يزعمون أنك منهم، قال: أفلا تدخل معي هذا الحانوت؟ قلت: لا، قال: لم؟ قلت: لأن القلب ضعيف، والدين ليس لمن غلب].
أي: قلبي ضعيف، والدين ليس حجة لصاحب اللسان، فإذا كان صاحب فربما غلبني، لكن هل تعني غلبته لي أني على الباطل؟ فكم من إنسان على الحق يعلم أن الذي أمامه على الباطل، لكنه لا يستطيع ولا يملك الحجة.
[قال سلام بن أبي مطيع: إن رجلاً من أصحاب الأهواء قال لـ أيوب السختياني: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة، قال أيوب وجعل يشير بأصبعه: ولا نصف كلمة ولا نصف كلمة].(14/7)
العلة في عدم سماع السلف من أهل الأهواء
وقد يقول قائل: لماذا لم يسمع أيوب من هذا، فربما أنه كان يريد أن يسأله عن شيء يهتدي به؟ ف
الجواب
أن أيوب كان فقيهاً؛ وهو يعلم أنه سيقدم بمقدمة عظيمة، فلو أذن أيوب لنفسه أن يصغي سمعه إلى أهل البدع فربما أنه يتأثر به.
فالسلف رضي الله عنهم لم يتعرضوا لأصحاب الأهواء، وإنما أرادوا أن يبينوا للأمة ولطلاب العلم والعامة أن يحذروا أهل البدع، ولا يجالسوهم ولا يخالطوهم، ولا يؤمنوهم ولا يشاركوهم، ولا يسمعوا منهم ولا نصف كلمة، مع أن أحمد بن حنبل قد ناظر وجادل الجهمية والمعتزلة في زمانه، وفتنته معلومة مشهورة وهي: فتنة خلق القرآن، وغيرها من الفتن، وكذلك محمد بن نصر المروزي، وكذلك الإمام الشافعي مع بشر المريسي وغير واحد من السلف تصدوا لهؤلاء المبتدعين، وكشفوا سترهم، وفضحوهم أيما فضيحة على رءوس الأشهاد؛ لأن الله تعالى كلفهم بذلك، وفرض عليهم ذلك فرض عين؛ لأنهم بلغوا في العلم مبلغاً أهلهم لمثل هذا، فهل كل أحد في الأمة وطلاب العلم على هذا النحو؟
الجواب
لا.(14/8)
باب وجوب التصدي لأصحاب الأهواء وبيان أهوائهم وضلالاتهم للأمة(14/9)
أهلية المتصدي لأهل الأهواء
قال [باب: وجوب التصدي لأصحاب الأهواء وبيان أهوائهم وضلالاتهم للأمة].
إن العلماء الكبار هم الذين يتصدون لذلك وليس طلاب العلم، فطالب العلم اليوم قد يفتن بأن يظن أنه على شيء، وهو في حقيقة الأمر ليس بشيء، وهذه السنين القليلة ليست كافية ولا كفيلة لتوثيق العقيدة فضلاً عن معرفة الشبهات، والرد عليها في دين الله عز وجل، ثم يذهب ويفتي نفسه ويجيز لنفسه أن يجادل، وأن يخالط أصحاب البدع، ثم ما يلبث أن ينقلب رأساً على عقب، ويقول: الذي كنت عليه هو الضلال، والذي أنا عليه الآن هو الحق، والدليل على ذلك أن معظم الناس أشاعرة، وأن معظم العلماء أشاعرة، ولو كان مذهب الأشاعرة باطلاً فكيف انتشر في أهل العلم هذا الانتشار؟ والجواب عليه: أن الحق لا يعرف بكثرة الأتباع، وإنما يعرف الحق بمتابعة الكتاب والسنة، والواجب عليه التعرف على الحق أولاً، ولا يجيز لنفسه ذلك وإنما يجيزه العلماء، ولذلك من البلايا العظيمة جداً على الساحة الآن أن الذين كلفوا أن يقودوا الأمة إلى ربها هم الذين يقادون الآن، فالواحد منهم يحرص كل الحرص على أن يلقي على مسامع الناس ما يعجبهم وما يسرهم، وليس هذا طريق السلف ولا الخلف، وإنما طريق الخلف أن يرغم العلماء والمشايخ الناس إرغاماً على تعلم دينهم، وهم أدرى بدين الله عز وجل من هؤلاء العوام المستمعين، أو طلاب العلم الصغار المبتدئين، فكيف يزكي الطلاب الشيخ؟! فتزكية الصغير لا عبرة بها.
فهم يقولون: الشيخ الفلاني صاحب علم، وصاحب هدى، وصاحب سنة، فالذي يقول هذا لزاماً يكون من مشايخه، فهم الذين يأمرونه أن يجلس للتدريس والإفتاء، وليس المستمعون هم الذين يفعلون هذا، فـ مالك رحمه الله أو الشافعي أو غيرهما من أهل العلم لم يزكهم طلابهم، فالطلبة الآن هم الذين يزكون، فيرفعون هذا ويخفضون ذاك، ويقولون: هذا معتدل، وهذا مستقيم وهذا ضال! وهذا انتكاس عظيم جداً.
ومن أعظم الانتكاس كذلك أن تتخير شيخاً بعينه، فتأخذ عنه كل شيء وتقلده، فهذا مذموم في دين الله عز وجل، بل ينبغي عليك أن تسمع واحداً واثنين وثلاثة وأربعة وعشرة، وتختار أصحاب الهدى، وأصحاب الطريق المستقيم، وأصحاب السنة، ولا تسمع من صاحب فتنة، أو صاحب ضلال وانحراف وزيغ يعلم عنه ذلك قديماً وحديثاً، ولا تسمع ممن يغلب على ظنك أنه يبتغي شهرة، أو زعامة أو رئاسة، أو غير ذلك من هذه الأمراض القلبية التي نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياكم منها.
[قال ابن الحسين: إن طاوساً كان جالساً هو وطلق بن حبيب فجاءهما رجل من أهل الأهواء، فقال: أتأذن لي أن أجلس؟ فقال له طاوس: إن جلست قمنا، فقال: يغفر الله لك أبا عبد الرحمن! فقال: هو ذاك، إن جلست والله قمنا! فانصرف الرجل.
وعن عمرو بن ميمون قال: إياكم وهذه الزعانف الذين رغبوا عن السنة، وخالفوا الجماعة].
والزعانف: هي أجنحة السمك، فهم شرذمة شردوا؛ لأن الأصل هو البقاء على السنة، والاستقامة عليها.
[وعن سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد قال: {يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:68]، قال: يكذبون بآياتنا.
وعن عبد الله الرومي قال: جاء رجل إلى أنس بن مالك وأنا عنده فقال: أبا حمزة! لقيت قوماً يكذبون بالشفاعة، وبعذاب القبر، فقال: أولئك الكذابون، فلا تجادلوهم].(14/10)
وجود من يزعزع ثوابت الدين في هذا الزمان
وقد صنف رجل كتاباً في (300) صفحة في إنكار عذاب القبر، وهذه الـ (300) صفحة كلها ضلال، وعذاب القبر ثابت، وهو من عقيدة الموحدين، فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ومن أنكره أسأل الله تعالى أن يدخله في حفرة من حفر النار.
وكذلك الشفاعة من أنكرها أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى؛ أن يحرمه منها يوم القيامة.
ثم نسمع مثلاً خلاف العلماء، ورد الشيوخ بعضهم على بعض على المنابر وفي الدروس والمحاضرات على فرعية من الفرعيات، أذكر أن في سنة 1976م أو 1977م دارت حرب ضروس في الجمعية الشرعية على الذي كان تاركاً للصلاة ثم اهتدى؛ هل يقضي ما فاته أو لا يقضي؟ فقامت حرب ضروس استمرت ثلاثة أشهر، فهذا يرد على هذا وهذا يرد على هذا، ويأتون بأدلة من المحلى لـ ابن حزم، أو المغني، والمسألة هذه لو أثيرت لا أحد ينتبه إليها هذه الأيام؛ لأن الزعزعة أصبحت في الثوابت الكبيرة، كمسائل الإيمان والصلاة والصيام والزكاة والحج، حتى قال قائلهم: إن الحج ممكن أن يكون في أي يوم من أيام الأشهر الحرم.
فأصبحت في الثوابت الكبيرة: في أصول الإيمان وأصول الإسلام، وليس الفرعيات الدقيقة التي اختلف فيها أهل العلم والخلاف فيها معتبر، فالقول بهذا ليس ضالاً، والقول بذاك ليس منحرفاً؛ لأنه مسبوق بكلام أهل العلم، فالزعزعة في هذا الوقت والشك والحيرة والتيه والضلال أصبح في الثوابت التي لم يكن أحد منذ عشرين سنة يجرؤ أن يتكلم فيها، وفي هذا الوقت تصنف فيها مجلدات كبيرة جداً.
فتغطية الوجه إما أنها واجبة أو مستحبة، ولم يقل أحد بغير هذين الحكمين، فالذين قالوا بجواز الكشف هم الذين قالوا باستحباب التغطية، فالخلاف في الحكم وليس في العمل، إلى أن ظهر مسلم من المسلمين يفتي برأي فيقول: النقاب حرام وبدعة! ولا يوجد أحد قال بهذا من أهل العلم، ولا من أهل الجهل منذ أكثر من (1400) سنة، فهل الأمة أجمعت على الضلال؟ وهل القرون كلها ضالة؟ فهذا الكلام في منتهى النكارة والشذوذ.(14/11)
تابع تحذير السلف من أهل الأهواء
[وعن ابن شوذب قال: قال لي عقيل بن طلحة -وكان لـ طلحة صحبة- هل لقيت عمرو بن عبيد؟ وعمرو بن عبيد هو رأس الاعتزال، وقد كان معروفاً بالزهد، حتى إن الناس اغتروا به، والعوام دائماً لهم الظاهر، وأما أهل العلم فلهم نظرة أبعد من ذلك، فلما اشتهر عن عمرو بن عبيد الزهد وقع في حبائل فكره وانحرافه كثير من العامة.
[فـ عقيل بن طلحة سأل ابن شوذب: هل لقيت عمرو بن عبيد؟ فقال: لا، قال: فلا تلقه؛ لست آمنه عليك، وكان عمرو بن عبيد يرى رأي الاعتزال].
[وعن أبي إدريس الخولاني أنه رأى رجلاً يتكلم في القدر، فقام إليه فوطئ بطنه -يعني: وضع رجليه على بطنه- ثم قال: إن فلاناً لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه، فخرج الرجل من دمشق ماشياً إلى حمص]، يعني: هرب إلى بلد آخر ليبث فيها فتنة القدر.
[وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا تجالس أصحاب القياس؛ فتحل حراماً أو تحرم حلالاً].
والقياس المذموم الذي يذمه هنا الإمام الشعبي هو القياس على غير أصل، وأما القياس على الأصول العلمية التي قال بها أهل العلم فإن هذا هو القياس المعتبر والمحمود، وهو أصل من أصول الشريعة.
[وقال الزبرقان: نهاني أبو وائل شقيق بن سلمة الكوفي أن أجالس أصحاب أرأيت أرأيت]، وهؤلاء يسمون: الآرئيين.
[وعن ابن عون عن إبراهيم النخعي قال: لا تجالس بني فلان؛ فإنهم كذابون].
أي: منحرفون، والغيبة هنا جائزة؛ لأنه من باب النصيحة في الدين.(14/12)
المرء على دين خليله وجليسه
وعن الأعمش قال: كانوا لا يسألون عن الرجل بعد ثلاث: ممشاه، ومدخله، وإلفه من الناس].
يعني: إذا عرفوا عن الرجل مع من يمشي؟ ومع من يأكل؟ ومع من يخرج؟ ومن هم أصحابه وأصدقاؤه؟ إذا كان يمشي، ويصادق ويصاحب أصحاب الاستقامة، وأصحاب السنة؛ فإنه لا يسأل عنه؛ لأن المعلوم يقيناً أنه من أصحاب السنة.
[وكان الأوزاعي يقول: من ستر عنا بدعته لم تخف علينا ألفته]، يعني: أن الذي يحاول من أصحاب البدع أنه يخفي بدعته فإنه أصحابه هم الذين يخبروننا عنه.
[وقال يحي بن سعيد القطان: لما قدم سفيان الثوري البصرة جعل ينظر إلى أمر الربيع بن صبيح -والربيع بن صبيح كان قد رمي بشيء من الإرجاء أو القدر، فجعل سفيان ينظر في الأمر الربيع وقدره عند الناس- فسأل: أي شيء مذهبه؟ قالوا: مذهبه إلى السنة، قال: من بطانته؟ قالوا: أهل القدر، قال: هو قدري].
أي: لما كانت صحبته وألفته مع أصحاب القدر فإنه قدري وإن زعم أنه سني.
قال: [رحمة الله على سفيان الثوري؛ لقد نطق بالحكمة فصدق، وقال بعلم فوافق الكتاب والسنة، وما توجبه الحكمة ويدركه العيان، ويعرفه أهل البصيرة والبيان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118].
وقال الأصمعي: سمعت بعض الفقهاء يقول: إذا تلاحمت بالقلوب النسبة؛ تواصلت بالأبدان الصحبة].
قال الشيخ: [وبهذا جاءت السنة] أي: كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
وقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
[وعن ثابت أن ابن مسعود قال: لو أن الناس جمعوا في صعيد واحد كلهم مؤمنون وفيهم كافران، تآلف أحدهما إلى صاحبه، ولو أن الناس كلهم اجتمعوا في صعيد واحد كلهم كفار وفيهم مؤمنان؛ تألف أحدهما إلى صاحبه].
لأنها أرواح تطير وتهفوا فيقع بعضها على بعض، ولذلك فإن أصحاب المعاصي يحبون أن يمشوا لمع بعضهم، وأصحاب الطاعة يحبون أن يمشوا مع بعضهم، وكلنا نحب أن يكون أبناؤنا من أهل الطاعات، ويصادقون أصحاب الطاعات، فصاحب المعصية لو مشي مع خليله أعانه على المعصية، ولو يمشي مع مؤمن طائع ففي كل حين يسمع منه: هذا حرام، حلال، توجيه، تقريع، نصح، مراقبة.
إذاً: فصديقك الحق هو من صدقك لا من صدّقك، فعندما تعمل عملاً غلطاً يذكرك، وعندما تنسى الله يذكرك، وإذا ذكّرته قبل منك، وهذه هي الصحبة التي ينبغي على كل منا أن يعض عليها بالنواجذ لنفسه ولإخوانه.
[وعن ابن مسعود قال: الأرواح جنود مجندة، تلتقي تتشاءم كما تتشاءم الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف, ولو أن مؤمناً دخل مسجداً فيه مائة ليس فيهم إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل مسجداً فيه مائة ليس فيهم إلا منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه].
قال الشيخ: [هكذا قالت شعراء الجاهلية، كما قال طرفة: تعارف أرواح الرجال إذا التقوا فمنهم عدو يتقى وخليل وقال الفضيل بن عياض: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالي ويصادق صاحب بدعة إلا من النفاق]، أي: إلا على جهة النفاق.(14/13)
عدم التساوي بين مجالسة أهل الباطل وبين مجالسة أهل الحق
قال: [وقيل للأوزاعي: إن رجلاً يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع، فقال الأوزاعي: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل.
أقول: صدق الأوزاعي إن هذا رجل لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، وورد في السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] أي: نحن معكم، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14]، فهم مع هؤلاء ومع هؤلاء، لكنهم في حقيقة الأمر كما وصفهم الله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المنافق في أمتي كمثل الشاة العايرة)].
والعايرة: هي الساقطة بين الغنمين تصير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيهما تتبع، فهذه غنمة شردت وضلت من صاحبها، فصارت بين غنمين، هذه غنم لشخص وهذه غنم لشخص آخر، فهي تسير بينهما، فمرة تمشي مع هذه، ومرة مع تلك، لكنها متحيرة لا تدري أين يستقر بها المطاف.
قال: [كثر هذا الضرب من الناس في زماننا هذا لا كثرهم الله، وسلمنا وإياكم من شر المنافقين، وكيد الباغين، ولا جعلنا وإياكم من اللاعبين بالدين، ولا من الذين استهوتهم الشياطين، فارتدوا ماكثين، وصاروا حائرين].(14/14)
ضرر السماع من أهل البدع ومجالستهم
قال: [وعن ابن سيرين: أن رجلاً أتاه فسأله عن القدر، فقال ابن سيرين: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فأعاد عليه الكلام، فوضع محمد يديه في أذنيه، قال: ليخرجن عني، أو لأخرجن عنه.
قال: فخرج الرجل، فقال محمد: إن قلبي ليس بيدي، وإني لا آمن من أن يبعث في قلبي شيئاً لا أقدر أن أخرجه منه، وكان أحب إلي ألا أسمع كلامه أصلاً].
ولهذا يحذر أهل العلم من مجالسة أهل الأهواء والبدع.
[وعن ابن النضر الحارثي قال: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إليها].
فالذي عصمك من الكفر ابتداء وجعلك مسلماً هو الله، والذي عصمك في الإسلام لطريق السنة هو الله عز وجل، فلا تختر لنفسك أن تذهب بقدميك إلى أصحاب الأهواء والبدع يلعبون بعقلك وقلبك، فإن فعلت فاعلم أن الله تعالى يتخلى عنك، ويكلك إلى نفسك، فاحفظها أو ضيعها.
[وقال يوسف بن أسباط: ما أبالي سألت صاحب بدعة عن ديني أو زنيت].
يعني: أن سؤال أهل البدع عن شيء في الدين هو والزنا سواء، فسؤال أهل البدع معصية وكبيرة من الكبائر، كما أن الزنا كبيرة من الكبائر.
وأنا أزيد كلاماً فوق هذا الكلام وأقول: إن مساءلة أهل البدع ومصاحبتهم أشد من الزنا؛ لأن الواقع في هذه البدعة أو في هذا الهوى يعتقد أنه على السنة، وأنه على الحق، ولذلك لا يرجع عنه إلا من وفقه الله، بخلاف أصحاب المعاصي فإن الواحد يزني ويعلم أنه زنا، وأنه يحتاج إلى توبة، كما أن السرقة كبيرة، ورتب الشرع عليها حداً، فالسارق يعلم أنه سارق، ويعلم أنه عاص، ويعلم أنه بارتكابه الكبيرة فاسق قد فقد جزءاً كبيراً من الإيمان، لكن صاحب البدعة يتقرب بزعمه إلى الله عز وجل بهذه البدعة.
ولذلك يقولون: إن البدعة بريد الكفر، أي: البدعة تؤدي إلى الكفر، وصاحب البدعة أحب عند إبليس من ألف من أصحاب المعاصي؛ لأنه يعرف أن أحدهم من الممكن أن يتوب، وأما صاحب البدعة فأنى له التوبة! [وقال مسلم بن يسار: لا تمكن صاحب بدعة من سمعك فيصب فيها ما لا تقدر أن تخرجه من قلبك.
وقال الفضيل: صاحب بدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك، ولا تجلس إليه، ومن جلس إلى صاحب بدعة أورثه الله العمى] يعني: في قلبه.
[وقال الفضيل: إن لله ملائكة يطلبون حلق الذكر، فانظر مع من يكن مجلسك، لا يكن مع صاحب بدعة، فإن الله لا ينظر إليه، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة.
وقال: من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
وقال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قبله.
وقال: لا تجلس مع صاحب بدعة؛ فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة.
وقال ابن سيرين: لو أني أعلم أن أحدكم يقوم من عندهم كما جلس لم أبالِ.
وقال ابن عون: لا يمكن أحد منكم أذنيه من هوى أبداً.
وقال الثوري: ما من ضلالة إلا ولها زينة؛ فلا تعرض دينك إلى من يبغضه إليك].
فصاحب البدعة لا بد أنه يحسن لك وجهه القبيح، ولو قال: إنه قبيح؛ لم تقبل منه قبحاً، لا لأنه أثر على نفسه، وأثر على معتقده الزائف الضال، فهو يدخل عليك ببدعته مزينة ومزخرفة ومزركشة، وملونة بألوان جذابة، مرة بآيات من كتاب الله عز وجل على غير فهم سلف الأمة، ومرة بأحاديث لا يأخذونها بفهم السلف، فإذا كان للسلف فهم لآيات الله، ولأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا يحل لأحد أتى بعدهم أن يخالفهم فيما فهموه؛ لأنهم أصحاب اللغة، والبيان والفصاحة، وهم أصحاب اللسان الذي نزل به القرآن الكريم، وهم أفقه الناس وأعلم الناس بكلام الله، وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام.
فإذا كانت المسألة مسألة عقول وأفهام؛ فلا شك أن أفهام السلف خير من أفهام وعقول من أتى بعدهم، فلابد أن تعلم أن فهم السلف لنصوص الوحيين عصمة لك حتى تلقى الله عز وجل، فلا تحد عنه قط، والسلف عند الإطلاق هم أصحاب القرون الخيرية، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام بعد ذلك يشهدون ولا يستشهدون) إلى آخر الحديث، يعني: يتكلمون بغير علم.
[قال محمد بن الخضر الحارثي: إن أصحاب الأهواء قد أخذوا في تأسيس الضلالة، وطمس الهدى، فاحذروهم.
وقال المغيرة عن ابن السائب: قوموا بنا إلى المرجئة نسمع كلامهم.
قال المغيرة: فما رجعت حتى علق] أي: تعلق في قلبه شيء من كلام المرجئة، وكان ينبغي ألا يذهب وألا يسمع كلامهم.
[وقال الفضيل بن عياض: من تواضع لله رفعه، ومن كان مجلسه مع المساكين نفعه، وإياك أن تجلس مع من يفسد لك قلبك، ولا تجلس مع صاحب هو(14/15)
شرح كتاب الإبانة - التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب [2]
وردت الآثار الكثيرة عن السلف الصالح تحذر من صحبة قوم يمرضون القلوب؛ إذ إن صحبة هؤلاء عار يوم القيامة، ومجاورة الفاسقين أو اليهود أو النصارى خير من مجاورة هؤلاء، والسلامة كل السلامة في ترك مجالستهم، والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم.(15/1)
التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فلا يزال الكلام موصولاً في: باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، ويفسدون الإيمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة].
أي: صحبة الإنسان المتبلد الحس، الذي لا يهمه أن يعيش عيشة كريمة أو مهينة في وسط قوم؛ عار في وجه الصاحب والصديق في الدنيا ويوم القيامة، خاصة إذا كان هذا العار إنما يلحق المرء في دينه لا في أخلاقه وسلوكه؛ إذ إن أعظم العار أن يعير الإنسان في دينه.
قال: [وقال عون بن عبد الله: لا تجالسوا أهل القدر ولا تخاصموهم -أي: لا تناقشوهم ولا تجادلوهم-؛ فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض].
وهذه من علامات أهل البدع: أنهم يضربون القرآن بعضه ببعض، فتأتي له بآية فيأتي لك بآيتين، وتأتي له بآيتين فيعطيك عشراً، ولذلك أنتم تعلمون أن هذا خلق مذموم ذمه النبي عليه الصلاة والسلام، فقد خرج إلى أصحابه ذات ليلة ليخبرهم بليلة القدر، فوجد أن بعض أصحابه قد تلاحوا، أي: تخاصموا وتجادلوا في مسألة ما، فغضب لذلك غضباً شديداً، وقال: (أتضربون القرآن بعضه ببعض وأنا بين أظهركم! والله لقد خرجت لأخبركم بليلة القدر، فلما رأيتكما تتلاحيا ذهبت عني).(15/2)
تحذير السلف من مجالسة عمرو بن عبيد المعتزلي
قال: [وعن شعبة بن الحجاج أبي بسطام قال: كنت عند يونس بن عبيد فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله! تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد -وهو رأس الاعتزال- وقد دخل إليه ابنك؟ قال: ابني؟! قال: نعم.
فتغيظ يونس فلم أبرح حتى جاء ابنه، فقال: يا بني! قد عرفت رأي عمرو بن عبيد ثم تدخل إليه! فجعل الولد يعتذر، فقال: كان معي فلان -أي: من بين اعتذارات الولد أنه قال لأبيه: إن عمرو بن عبيد لم ينفرد به، وإنما كان معه فلان من الناس -فقال يونس: أنهى عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، ولئن تلقى الله عز وجل بهذا أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو بن عبيد].
أي: أنا أنهاكم عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، ومع هذا لو زنيت وسرقت وشربت الخمر أحب إلي من أن تلقى الله برأي عمرو بن عبيد، وأحب إلي من أن تلقاه تابعاً لمنهج الاعتزال ولهذه الفرقة الضالة، وليس في هذا تهوين من شأن المعاصي -السرقة، الزنا، شرب الخمر- وإنما هذا فيه بيان فظاعة البدع خاصة إذا كانت في أصل الدين.
[قال سعيد بن عامر: ما رأينا رجلاً قط كان أفضل من يونس.
وقال أيوب: ما عددت عمرو بن عبيد عاقلاً قط].
أي: ما ظننت في يوم أنه عاقل قط؛ لأنه كان يتكلم بكلام أهل القدر والاعتزال، وهو كلام لا يدل على سلامة العقل.(15/3)
آثار السلف في أن مجاورة الحيوانات المستقذرة خير من مجاورة أهل البدع
قال: [وقال أبو الدرداء: لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء وقد دخلوا في هذه الآية: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119]].
فهذه الآية أصلاً نزلت في الكفار، لكن أجراها أبو الدرداء على أهل البدع، فقال: وجه الشبه كبير جداً بين أهل البدع والضلالات وبين أهل الكفر، ولذلك لو جلست مع إنسان من أهل البدع فلابد أن تسمع منه كلاماً أحلى من العسل، بل ويثني عليك خيراً، فإذا قمت سلقك بألسنة حداد، وهذا شأنهم؛ لأن النفاق أسرع إلى الكافرين وأصحاب الأهواء، بخلاف أهل السنة فإنهم يتقربون إلى الله تبارك وتعالى بالصدق، ويعلمون أن الصدق طريق البر، وأن البر يهدي إلى الجنة.
قال: [وقال أبو موسى الأشعري: لئن أجاور يهودياً ونصرانياً وقردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني صاحب هوى يمرض قلبي].(15/4)
استحباب السلف أن يكون بينهم وبين أهل البدع حاجز وسد منيع
قال: [وقال الفضيل: أحب أن يكون بيني وبين المبتدع حصن من حديد].
هذا هو الفضيل بن عياض الذي لو جلس مع آلاف المبتدعة فإنهم لا يضرونه شيئاً، بل إن أهل البدع يهابون مجالسة الفضيل، ومع هذا فإنه يقول: لأن يكون بيني وبين أصحاب الأهواء حصن من حديد أحب إلي من أن تكون سبل المجاورة مفتوحة بيني وبينهم، وهذا مع سلامة معتقده، وصحة منهجه، وتبحره في العلم، وإيمانه العظيم وغير ذلك، فما بال الذي فقد المؤهلات التي كانت بين جنبي الفضيل، وأخذ يتصدى لهم، بل ويطالب بالتصدي لهم؟! إن هذا أمر على خلاف ما كان عليه سلفنا رضي الله عنهم.(15/5)
تفضيل السلف للحيوانات المحتقرة على المبتدعة
قال: [وقال شريك: لئن يكون في كل قبيلة حمار أحب إلي من أن يكون فيها رجل من أصحاب أبي فلان، يقصد رجلاً مبتدعاً بعينه].
وهذا يدل على جواز غيبة الفاسق المبتدع الذي يجاهر ببدعته؛ حتى يحذره الناس، وهذا من باب النصيحة في الدين، كما في هذا النص: أن الحمار أفضل وأشرف من أصحاب الأهواء والبدع؛ إذ إن للحمار منفعة عظيمة على الأقل، فتحمل عليه متاعك، ويحملك من بلد إلى آخر، وأما المبتدع فلا فائدة فيه، بل المضرة كلها تأتي من قبله، ولذلك فضِّل الحمار على أصحاب البدع.(15/6)
تحذير السلف من مجاورة أهل البدع في السكنى
قال: [وقال أحمد بن سنان: إذا جاور الرجل صاحب بدعة أرى له أن يبيع داره إن أمكنه ذلك].
أي: إذا كنت مجاوراً لرجل من أهل البدع فأحب إلى الله عز وجل أن تهجر هذا المكان، وهذا كان شأن أهل العلم حتى في مجرد المعصية لا في البدع والضلالة الكبرى فقط.
وقد جاء عن أحمد بن حنبل رحمه الله: أنه كان إذا دعي إلى عرس أو غيره فذهب فوجد معصية لله عز وجل ترك المكان وانصرف، وهذا في مجرد المعصية التي ربما لا تضر بصاحبها كثيراً مقارنة بأصول الابتداع في الدين، فإن هذا أمر شنيع أيما شناعة؛ لأن صاحب المعصية يفعلها ويعلم أنها معصية، وهو إلى التوبة أسرع، بخلاف صاحب الهوى والابتداع في الدين؛ فإنه يعتقد أنه على الحق، ولذلك يزداد صلابة وقوة وتمسكاً لبدعته، وقل أن يرجع إلا إذا وفق لرجل من أهل السنة يأخذ بيديه بعد طول عناء، فربما يوفق للتوبة وربما لا يوفق، والغالب أن أصحاب البدع لا يوفقون إلى التوبة، ولذلك جاء عند ابن ماجه وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)، أي: أن المطلوب أن يدع البدعة أولاً، ثم بعد ذلك يتقبل الله عز وجل منه، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فهم يتخيرون ويسلكون طريق الهداية أولاً، والله تعالى بعد ذلك يوفقهم إذا علم منهم حسن نيتهم، وتوجههم الصحيح إليه.
وقول أحمد بن سنان هذا شبيه بقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم، وذلك في معرض كلامه عن حرمة مشابهة أهل الكتاب، فقال: ويقرب منهم أهل البدع.
أي: لما تكلم عن حرمة بيع الدور والمحلات وغيرها للنصارى؛ قال: وجه الحرمة أنه يرفع شعار الكفر عليها، أي: يضع الصليب على باب البيت، أو يضع صورة اليسوع، أو صورة مريم رحمها الله، وهذا فيه إظهار لشعائر الكفر، ولذلك حرم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم أن يتعامل المسلم مع الكفار في أن يبيع له داراً، أو يمكنه من إظهار شعار الكفر.(15/7)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الاقتراب من المسيح الدجال أصل في التحذير من الاقتراب من أهل الشر
قال: [إذا جاور الرجل صاحب بدعة أرى له أن يبيع داره إن أمكنه وليتحول -أي: لينتقل إلى مكان آخر- وإلا أهلك ولده وجيرانه، فنزع ابن سنان بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع منكم بـ الدجال فلينأ عنه)، أي: من سمع منكم بظهور المسيح الدجال فليهرب عن مكانه الذي نزل فيه، (فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب فيتبعه لما يرى من الشبهات).
وأنتم تعلمون أن الدجال أعظم فتنة بين يدي الساعة؛ لما يرى الناس بأعينهم من فتنته التي لا يمكن أن يصبر عليها أحد، بل الناظر لأول وهلة فيما يأتي به الدجال يصدقه، فيزعم أنه نبي، ثم يزعم أنه إله، وفي زعمه النبوة خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه يزعم أنه إله، ويأتي بأفعال إنما هي من خصائص إلهية، ولكن الله مكنه من ذلك فتنة للناس، ولم يتركهم هكذا، وإنما بين لهم خطره، وبين لهم ماذا سيصنع، فإنه يجوب الأرض شرقاً وغرباً في أربعين، وخطوته عند منتهى بصره، وهذا شيء خارق للعادة.
والأمر الثاني: أنه يكون في إحدى يديه خبز، وفي الأخرى نار، فأما الذي هي نار فهي في الحقيقة خبز، وأما التي فيها خبز فهي النار، ويدعو الناس في وقت جذب وفقر وقحط أن يأكلوا من يده التي بها الخبز، فيطعمهم النار وهم لا يعرفون؛ لأن الناس تقبل على الخبز وتخاف من النار.
وهو يوقف على مشارف مكة والمدينة فلا يدخلهما، وهذه خاصية للبلدين الشريفين، فيخرج إليه عالم من علماء المدينة في آخر الزمان، فيضربه بالسيف حتى يسقط على الأرض فلقتين، ويمشي بين الفلقتين والناس ينظرون، وهو يقول: أما ترون؟ أي: أما ترون أن هذا الرجل قد شق نصفين؟ ثم يدعوه فيقوم، أي: يقول له: قم فيقوم، فيقف أمامه حياً، ولا يفعل هذا إلا إله وذلك قد سبقه إليه عيسى ابن مريم، لكن عيسى بن مريم إنما فعل ذلك بإذن الله وأمر الله وإرادة الله وليس من عنده، فـ الدجال فعل ذلك ليصدق الناس أنه إله؛ لأن الإله هو الذي يحي الموتى، فهذا قد أماته وأحياه في نظر الجهال، ولكن هذا العالم الذي خرج إليه قال له: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فأنت المسيح الدجال الذي حذرنا منك النبي عليه الصلاة والسلام.
فيذكر الإمام هنا أن مجاورة أصحاب الأهواء والبدع كالسعي خلف المسيح الدجال، وهو قريب، فهذه فتنة وتلك فتنة أخرى، ويجمعهما أنهما فتنتان.
والعجيب قوله: (فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب)، أي: أن الرجل يذهب إلى المسيح الدجال وهو على يقين أنه إنسان كاذب، (ثم ما يلبث أن يتبعه؛ لما يرى من الشبهات)، وهب أنه لم يتبعه فإنه لا يمكن أن يرجع من عنده سالماً، بل الشكوك والشبهات قد أكلت قلبه وعقله، ولذلك الواحد من أهل السنة الذي يتأهل للخصومات والمنازعات والمناظرات والمجادلات إنما يذهب فيعرض نفسه للفتنة، فيسمع الشبهات من أصحاب الأهواء، وبعد أن كان عنده يقين جازم أن هؤلاء على الضلال والبدعة فإذا به يرجع وقد اقتنع بكلامهم، أو على الأقل عذرهم فيما هم عليه؛ لما عندهم من الشبهات، والذي فيه خير يرجع متشككاً يبحث عن إجابة لهذه الشبهات إما في بطون الكتب، وإما بالاتصال بأهل العلم وغير ذلك، والمهم: أنه كلف نفسه ما لا يطيق، فأذل نفسه وأذل دينه في قلبه.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينبغي لأحدكم أن يذل نفسه، قالوا: كيف يذل أحدنا نفسه يا رسول الله؟! قال: يعرض نفسه لما لا يطيق)، فهذا باب من أبواب الذل: أن تتصدى لما لا تحسنه، ولذلك يقول العلماء: لو أن الجاهل سكت لقل الخلاف، أي: لو قال: أنا جاهل لا أعرف شيئاً؛ فسيقل الخلاف جداً، لكن قضية واحدة عرضت على مائة جاهل، ولكل جاهل فيها قول، وكل الأقوال مطرحة لا قيمة لها، إذ إنها كلام الجهال لا يبنى على دليل، ولو أن كل متخصص في فن يجيده تصدى له دون غيره لكان الأمر أحسن من ذلك بكثير.
قال: [وعن عمران قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه -أي: فليبتعد منه ما استطاع- فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، وما يزال به حتى يتبعه؛ لما يرى من الشبهات).(15/8)
تعقيب المؤلف على الآثار التي أوردها في التحذير من مجاورة المبتدعين
قال: [هذا قول الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق المصدوق، فالله الله يا معشر المسلمين! لا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم؛ فما زالت بهم المباسطة -أي: ينبسط بعضهم إلى بعض في المجالس- وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم].
أي: حتى مالوا إليهم وصاروا منهم، مع أنهم ذهبوا إليهم ليجادلوهم، وليستخرجوا مذاهبهم، ويعلموا ما عندهم من باطل للرد عليهم، ثم ما لبثوا أن وقعوا فيما وقعوا فيه؛ بسبب شبهات كانت أقوى منهم.(15/9)
شؤم الاقتراب من أهل البدع ومجالستهم والتحذير من ذلك
قال: [وعن المغيرة قال: خرج محمد بن السائب وما كان له هوى -أي: أنه كان صاحب سنة ولم يكن صاحب بدعة- فقال: اذهبوا بنا حتى نسمع قولهم -أي: قول القدرية- فما رجع حتى أخذ بها، وعلقت بقلبه.
قال: وعن البتي قال: كان عمران بن حطان رجلاً من أهل السنة المتمسكين الداعين إليها، فقدم غلام من أهل عمان مثل البغل، فقلبه في مقعد -أي: في جلسة واحدة- ويقال: إن انقلاب عمران بن حطان ليس على يدي هذا الغلام، وإنما على يد امرأة جميلة تزوجها، وكانت من أهل القدر -أي: ممن تنكر القدر- فقال عمران: أتزوجها وأجتهد عليها].
وهذه شبهة أيضاً لإخوة يتزوجون بنات متبرجات، والمهم أنها بنت جميلة، وشعرها أصفر، وعيونها خضر، ويقول: هذه هي عروسة المستقبل، وأما مسألة الحجاب والنقاب فهذه مسائل سهلة نستطيع أن نجتهد عليها إن شاء الله، وإنما أخذ بلبه وفؤاده جمالها، وإذا بها تجتهد عليه فيترك الصلاة والصيام والالتزام وكل شيء.
فـ عمران بن حطان قال: أتزوجها واجتهد عليها أيما اجتهاد، لكن الذي حصل أنها أخرجته من السنة وأدخلته في البدعة، وذلك بعد أن كان داعية إلى السنة وليس سنياً فقط.
وقوله: (فقدم غلام من أهل عمان مثل البغل).
هذه صفة مشتركة بين أهل البدع جميعاً، إما في عقله، وإما في بدنه.
قال: [وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي عبد الله بن بسر -وكان من الخاشعين، ما رأيت قط أخشع منه-: ليس السنة عندنا أن ترد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا تلكم أحداً منهم].
هذا هو منهج أهل السنة، لذا ينبغي علينا أن نحذر من أهل البدع، فلا أحد ينتخب واحداً منهم، ولا أقول: نذهب ننتخب الباقين، لا، فنحن نعتقد أن هذا المجلس مجلس كفري لا ينبغي لمسلم قط أن يشارك فيه، والإمام الشافعي يقول: من شرع فاستحسن فقد أشرك، فهذا المجلس ليست له أدنى مشروعية في دين الله عز وجل، لكن إذا تحتم الأمر اتركوا الناس ينتخبون من أرادوا، لكننا نحذر دائماً من أهل البدع، والصراحة أن هذا رجل من أساتذة الشيعة الكبار هناك، فلماذا يدخل المجلس؟ حتى يؤصل للتشيع في داخل المجلس، ويطالب بحقوق الشيعة في البلد، ونحن لا نتعرض لـ رجب ولا لغيره من رءوس الشيعة هنا، وإنما نحذر منهم من بُعد؛ التزاماً بما كان عليه سلفنا في نهجهم مع أصحاب البدع.
قال: [ليس السنة عندنا أن ترد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا تلكم أحداً منهم؛ حتى لا تفتن].
قال: [وعن أيوب أنه قال: لست براد عليهم بشيء أشد من السكوت].
أي: إذا أردت أن تغيض واحداً منهم فلا ترد عليه، حتى ينصرف في الأخير وهو محروق القلب.(15/10)
كتاب الإمام أحمد إلى رجل أراد أن يناظر المبتدعة بألايفعل
قال: [وكتب رجل إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله كتاباً يستأذنه فيه أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم، ويحتج عليهم]، وهذا الرجل مؤدب جداً، ويبدو أنه كان من أقران أحمد بن حنبل، أو من تلاميذه.
قال: [فكتب إليه أحمد فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا عليه من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك -أي: في نفس الوقت- وهم لا يرجعون -أي: عن بدعهم وأهوائهم- فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم، والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم، فليتق الله امرؤ، وليصر إلى ما يعود عليه نفعه غداً من علم صالح يقدمه لنفسه، ولا يكن ممن يحدث أمراً، فإذا هو خرج منه أراد الحجة].
أي: حتى لو نجا من الجلوس مع البدع فإنه سينجو وفي ذهنه شبهات القوم، فلا يسأل عن الحجة والدليل والبرهان، فما الفرق بينه وبين أصحاب الأهواء إلا درجة؟! فالشبهات قد استقرت عنده، لكنه لا يزال يرفض النهج كله، وإنما أصابته شبهات القوم، فهو يسأل عن الحجة.
قال: [فيحمل نفسه على المحال فيه، وطلب الحجة لما خرج منه بحق أو بباطل؛ ليزين به بدعته وما أحدث، وأشد من ذلك أن يكون قد وضعه في كتاب قد حمل عنه، فهو يريد أن يزين ذلك بالحق والباطل، وإن وضح له الحق في غيره، ونسأل الله التوفيق لنا، ولك والسلام عليك].
فانظر إلى نصيحة الإمام أحمد بن حنبل لرجل من أصحاب القرن الثالث، وهو من القرون الخيرة أصحاب العلم والفضل والعبادة وغير ذلك، وقد كان عندهم من الأعمال التي تحصنهم بين يدي الله عز وجل الكثير، ومع هذا كل منهم ينصح الآخر، والآخر هذا لا يقل عنه في الإمامة في الدين، فقد كان ينصحه بعدم الجلوس إلى أصحاب الأهواء، وكثير كثير جداً من أصحاب الأهواء إنما ذهب في هذا الهوى بسبب مصاحبة هؤلاء، ومصادقتهم، أو مجالستهم أو غير ذلك.
وأذكر قديماً سنة: (1974م) و (1975م) لما انتشر فكر التكفير في بلادنا، كنا نسمع عن جماعة التكفير، فحب الاستطلاع والاستشراف كان يدفع الواحد منا إلى أن يجلس مع هؤلاء، ومعلوم أن عندهم آيات وأحاديث معينة لا يتعدونها، فتخرج من عنده وتقول: والله إن كلامه حق، وبصراحة إن كلامه طيب، ثم يقول لك: أنا سأسافر يومياً لحضور الدرس معهم.
فأنا قلت في يوم من الأيام سنة 1976م -وأنا في الثانوية العامة بعد مقتل الذهبي بثلاثة أيام-: أحضر الدرس أنا وزملائي وأرد عليهم، فحضرت درساً لزعيم من زعمائهم وهو يشرح صحيح مسلم، فقال: الإمام النووي يقول في شرح حديث: (الحكمة يمانية والفقه يمان، أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً)، يقول: أهل اليمن.
المقصود بهم: أهل المدينة! وهذا كفر بالإجماع! فقلت له: ما الذي يكفره بهذا؟ هب أنه أخطأ، فهل يقال للمخطئ: أنت كافر؟ فقال لي: ما اسمك؟ فقلت له: معرفة اسمي وعنواني ليست قضية، فأنت تتكلم في العلم في هذا الوقت، قلت له هاتين الكلمتين، ولم أفق بعدها إلا بساعتين أو ثلاث إلا وأنا خارج المسجد، والمسجد مقفل ولا أحد بجواري نهائياً، فقلت: هذا هو الطريق، المطلوب أننا نشرب ولا نرد.
وبعد ذلك لما وقفت على كتاب الشريعة للإمام الآجري وهو يتكلم في نفس الباب: التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب، والتحذير من مجالسة أهل البدع، عرفت أن هذا هو الحق.
يا إخواني! أنا أحترم جداً كلمة: على منهج السلف؛ لأنها عصمة من الله عز وجل، فالذي عملوه نحن نعمله، وهم أعلم منا، بل هم أولى مننا بالعلم، وأفضل منا، وأعبد منا، وأتقى منا، وأعرف منا، وكل المؤهلات قد اجتمعت فيهم، وإذا كانت الأمة لا تجمع على الضلال فمن باب أولى ألا يجمع على الضلال أصحاب القرون الخيرية، وإذا كان الله تعالى بين أن الخير في هذه الأمة فالمخاطب بذلك أولاً هم الصحابة رضي الله عنهم، لذا فالمهم دائماً أن تجعل بينك وبين سلفك حبلاً ممدوداً متصلاً مرتبطاً بهم كل الارتباط، ولو حلت عقدة من هذا الحبل لانحلت عقدة من دينك، فلابد أن تتأكد من صلتك بسلفك.(15/11)
جملة من آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل البدع وسماعهم وزجرهم عن ذلك
قال: [وسمعت عبد الرحمن بن مهدي وذكر الصوفية فقال: لا تجالسوهم، ولا أصحاب الكلام، عليكم بأصحاب القماطر].
وأصحاب القماطر: هم أصحاب الدفاتر، وكأنه يريد أن يقول: عليكم بأصحاب الحديث؛ لأن أصحاب القماطر إنما معهم أحبار وألواح يكتبون فيها، وهي صفة أصحاب الحديث.
وإياكم ومجالسة أصحاب الأهواء، وأصحاب الكلام، وأصحاب التصوف، قال: [عليكم بأصحاب القماطر، فإنهم بمنزلة المعادن مثل الغواص هذا يخرج درة، وذاك يخرج قطعة ذهب.
قال: [وعن ابن سيرين: أنه كان إذا سمع كلمة من صاحب بدعة وضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: لا يحل لي أن أكلمه، حتى يقوم من مجلسه.
قال: وعن صالح المري قال: دخل على ابن سيرين فلان -يعني: رجلاً مبتدعاً- وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه -أي: هذا المبتدع-، فقال له ابن سيرين: أحب لك أن تقوم وإما أن نقوم].
أي: إما أن تنصرف أنت الآن وإما انصرفنا.
وأنا أريد أن أسأل سؤالاً: هل ابن سيرين لم يكن يستطيع أن يرد عليه ويلقمه حجراً؟ لا، فـ ابن سيرين تربية الصحابة، وهو من كبار التابعين في البصرة، فما الذي يمنعه أن يلقم هذا المبتدع حجراً إلا أنه علم أن الأصل عند سلفه من الصحابة هجران وترك مجالسة ومكالمة ومحادثة أصحاب الأهواء، فأراد أن ينهج سير أصحابه من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومن كبار التابعين.
قال: [وقال ابن عون: من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع].
يعني: فأهل البدع أمرهم معروف ومفضوح، لكن الخشية كل الخشية من إنسان يجالسهم؛ لأنه لا يأمن أن ينجرف في هواهم.
قال: [وعن يحيى بن أبي كثير قال: إذا لقيت صاحب بدعة قد أخذ في طريق فخد في طريق آخر].
وأنتم تعرفون حديث: (ما سلكت يا عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك)، وهكذا أصحاب البدع إذا رأيته في طريق فاسلك طريقاً آخر.
قال: [وعن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال: سألت أبا عبد الله عن رجل مبتدع داعية يدعو إلى بدعته: يجالس؟ قال: لا يجالس، ولا يكلم؛ لعله يتوب.
أي: ينبغي أن ينفض عنه جميع الناس؛ لعله يتأثر بذلك فيتوب].
قال: [وقال الإمام أحمد بن حنبل: أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يأنس بهم.
قال: [وعن أيوب السختياني أنه دعي إلى غسل ميت فخرج مع القوم، فلما كشف عن وجه الميت عرفه -أنه من أهل البدع- فقال: أقبلوا قبل صحابكم، فلست أغسله، رأيته يماشي صاحب بدعة].
أي: أنه ليس مبتدعاً جزماً، وإنما رأيته يماشي أصحاب البدع، ولذلك ترك غسله، والصلاة عليه، لا لكفره، وإنما لبدعته، وحتى يكون في ذلك أعظم زاجر للناس عن أن يماشوا، أو يجالسوا أو يحاكوا أصحاب البدع.(15/12)
بيان أن المرء يجالس ويألف من كان على شاكلته
قال: [وقال عبد الله بن مسعود: إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه، ومن هو مثله].
وفي الحديث: و (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
وقال الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فإن المقارن بالمقارن يقتدي وقال: [اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب من هو مثله.
قال شعبة: وجدته مكتوباً عندي فإنما يصاحب الرجل من يحب].
أي: وجد في كتاب مكتوباً عنده: إنما يصاحب الرجل من يحب.
[وقال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم -أي: برفقائهم وأقرانهم-؛ فإن الرجل لا يخادن إلا من يعجبه نحوه].
أي: من يعجبه طريقه ومنهجه ومسلكه.
وقال: [اعتبروا الناس بأخدانهم، المسلم يتبع المسلم، والفاجر يتبع الفاجر].
قال: وعن المدائني قال: قيل للبيد -وهو لبيد بن ربيعة العامري الشاعر الكبير- بعد ما أسلم: مالك لا تقول الشعر؟ -لأن لبيداً لما أسلم قلل جداً من الشعر- فقال: إن في البقرة وآل عمران شغلاً عن الشعر، إلا أني قد قلت بيتاً واحداً -أي بعد إسلامه-: ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح] والنبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب لذلك مثلاً فقال: (مثل الجليس الصلح وجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير)، مع أن نافخ الكير هذا ربما يكون في باب المعاصي، لكن الحديث محمول على جميع المعاصي والأهواء، (فأما الجليس الصالح -وهو حامل المسك- فإما أن تبتاع منه -أي: تشتري منه المسك والطيب- وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، وأما جليس السوء -هو نافخ الكير- فإما أن يحرق ثيابك)، فإنك لو جلست بجوار حداد ينفخ الكير فإنه لابد من شظايا تقع على ملابسك فتحرقها.
قال: [قال محمد بن عبيد الله الغلابي: كان يقال: يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة].
أي: أن أهل الأهواء عندهم قدرة فائقة على كتم عندهم من فكر وضلال وهوى، لكن الذي يفضحهم هو التآلف والصحبة، فتجد الواحد منهم يميل إلى إلفه وشكله، فإذا كان فلان يماشي فلاناً فلابد أن هناك شيئاً لازماً، ووحدة فكر بينهم؛ لأن الألفة والصحبة دائماً تفضح ما وراءها.
قال: [وقال قتادة: إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله، فصاحبوا الصالحين من عباد الله؛ لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم].
قال: [وقال مالك بن دينار: الناس أجناس كأجناس الطير، الحمام مع الحمام، والغرب مع الغراب، والبط مع البط، الصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله].
والصعو: طائر.
قال: [وسمعت مالك بن دينار يقول: من خلط خلط له، ومن صفى صفي له، وأقسم بالله لئن صفيتم ليصفين لكم].
أي: لئن أخلصتم في اتباع السنة فإن الله تعالى يوفقكم إلى ذلك.
قال: [قال الأوزاعي: يعرف الرجل في ثلاثة مواطن: بألفته، ويعرف في مجلسه، ويعرف في منطقه].
فهذه ثلاثة أمور تبين من هذا الرجل.
قال: [قال أبو حاتم: وقدم موسى بن عقبة الصوري بغداد فذكر لـ أحمد بن حنبل، فقال: انظروا على من نزل، وإلى من يأوي].
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما نزل المدينة نزل على بني النجار، وبنو النجار هم أفضل الأنصار، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على خيرة الأنصار، ولم ينزل على أي واحد منهم، وإنما نزل في بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
قال: [فقد فاض البحر العميق، فاستغني عن هذا التمييز والنظر والتدقيق، وفقدت تلك الأعيان، وصارت الزندقة يتفكه بها الأحداث والشبان، ظاهرة في السوقة والعوام، وصار التعريض تصريحاً، والتمريض تصحيحاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مسكنا الله وإياكم بعروته الوثقى، وأعاذنا وإياكم من مضلات الهوى، ولا جعلنا ممن باع آخرته بالدنيا؛ إنه سميع قريب].(15/13)
تابع آثار السلف في التحذير من مجالسة أهل البدع
قال: [وعن هشام بن عروة: أن عمر بن عبد العزيز أخذ قوماً على شراب -أي: جلسوا يشربون خمراً -ومعهم رجل صائم -والصائم لا يشرب شيئاً- فضربه معهم، فقيل له: إن هذا صائم.
فقال: قال الله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140].
قال: [وقال الفضيل: ليس للمؤمن أن يقعد مع كل من شاء؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]].(15/14)
من نعمة الله على الشاب والأعجمي أن يهتدي على أيدي أهل السنة
قال: [وعن أيوب بن سويد عن ابن شوذب قال: من نعمة الله على الشاب والأعجمي إذا نسكا -أي: إذا تدينا- أن يوفقا لصحب سنة يحملهما عليها].
لأن الأعجمي يأخذه من يسبق إليه.
وهذا الكلام يا إخواني! أحرى أن نقتدي به، فمن سعادة الشاب والأعجمي إذا دخلا في الإسلام أن يوفقا لرجل من أصحاب السنة يحملهما عليها، ويؤدبهما بآدابها، ويخلقهما بأخلاقها؛ لأن الغالب أن الشباب فيهم فورة وفتوة وقوة، ويحبون إظهار ذلك، فإذا لم تضبط هذه الشهوة في عقله وقلبه فلابد أنه سيفرط بها.
والأعجمي غالباً إنما يوفق للإسلام على يد صوفي أو شيعي أو مرجئ أو خارجي أو أشعري، وهذا وإن كان شراً إلا أنه أفضل من أن يلقى الله بالكفر البواح، فالإنسان لما يلقى الله تعالى متأولاً لبعض الصفات فهذا بلا شك أرحم من أن يلقى الله بالكفر البواح، وإن كان شراً.
ولذلك نجد شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: الفرقان بين الحق والباطل، وهو كتاب عظيم جداً، وننصح دائماً بقراءته، وقبل قرائته ننصح بالصبر عليه؛ لأن هذا الكتاب من أصعب عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو يؤصل فيه مذهب سلفنا رضي الله عنهم في الحق والباطل، وفي الخير والشر، وفي كثرة الذنوب وقلتها، وغلبة ذلك بالعمل الصالح، أو غلبته على العلم الصالح، فيقول: بعض الشر أهون من بعض، ولئن يلقى العبد الله تعالى ببدعة خير من أن يلقاه بالكفر البواح.
وهذا كلام جميل ومتين، وهو كلام أئمة فتح الله عليهم، لكن بلا شك أن أسعد الأحوال أن يوفق الإنسان لمن يأخذ بيديه إلى الله عز وجل أخذاً طيباً، أخذاً مباركاً، أخذاً مستقيماً، ولذلك يحرص أهل البدع دائماً على أن ينزلوا في أماكن فيها شباب متعجل ومتسرع، فيرى أن التغيير مثلاً لابد أن يكون باليد وبالسلاح وغير ذلك، وما عندهم قط إلا الحمية التي في الغالب تهلك صاحبها؛ لأنها غير منضبطة بأصول شرعية أو علمية أو سلفية، فسرعان ما يكلف هذا الساخن بخط يركبه فيودي به إلى الهاوية، إذ إن هذا أمر لا يعنيه، ولم يفكر فيه، والمهم أن الشيخ أمره بكذا، أو العالم أمره بكذا، ولو أنه علم أن كلمة (عالم) لا تطلق على كل أحد ما تبعه، وإنما هو أخ مثله تماماً، وربما سبقه إلى إطلاق لحيته، وتقصير ثوبه بعام أو عامين، ولا يلزم منه أن يكون طلب العلم، بل جلهم لم يطلب العلم، وليس عنده استعداد قط لطلب العلم، وإذا ذكر العلم تندر وتفكه بمن يهتمون بطلب العلم، وهذا أمر فيه سوء أدب شديد جداً مع طلب العلم الذي أمرنا به شرعاً.
قال: [وقال عمرو بن قيس الملائي: إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه].
أي: إذا رأيت الشاب في أول التزامه مع أهل السنة وأصحاب الاستقامة والفكر السليم؛ فارجو خيره.
قال: [وإذا رأيته مع أهل البدع فايأس منه]، أي: لا تؤمل عليه، ولا تعقد عليه الأمل؛ لأن الأمل فيه قليل إن لم يكن نادراً.
قال: [فإن الشاب على أول نشؤه.
قال: وسمعت عمرو بن قيس يقول: إن الشاب لينشأ، فإن آثر أن يجالس أهل العلم كاد أن يسلم، وإن مال إلى غيرهم كاد أن يعطب].
أي: يفسد ويتلف.
قال: [فرحم الله أئمتنا السابقين، وشيوخنا الغابرين، فلقد كانوا لنا ناصحين، وجمعنا وإياهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ولا جعلنا من الأئمة المضلين، ولا ممن خلف محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته بمخالفته، وجاهده لمحاربته، والطعن على سنته، وشتم صحابته، ودعا الناس بالغش لهم إلى الضلال، وسوء المقال].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(15/15)
الأسئلة(15/16)
حكم قطع التعامل مع اليهود والأمريكان
السؤال
كنت أجلس في المسجد فقال أحد الإخوة: لابد من مقاطعة الشراء من محلات مجدي ملت، وكنتاكي، وذلك بسبب ما يعاني منه إخواننا في فلسطين، وما تلاقيه إسرائيل من تأييد أمريكي، أرجو توضيح الأمر.
الجواب
يا أخي الكريم! إذا كنت تسأل عن حكم شرعي فيما يتعلق بالحل والحرمة؛ فالتعامل مع أهل الكتاب بيعاً وشراء حلال، لكن في حقيقة الأمر إذا كنا نقول بحل الأمر فلا يلزم منه تنفيذ ذلك، أي: لا يلزم منه أن نتعامل معهم، وإن كنا نعتقد أن التعامل معهم حلال، وإن اضطررنا إلى التعامل معهم كان بها، وإلا فلابد أن تعلم أن شراءك أو أن دفع جنيه واحد لأمثال هؤلاء يساوي شراء رصاصة لقتل إخوانك في شرق الأرض وغربها، فأنا في كل المحاضرات أدعو لمقاطعة اليهود والنصارى تديناً، وإن كنت أعتقد جواز التعامل معهم، لكن لابد أن تعلم أن التعامل معهم إنما هو تأييد لهم، ودحر وقتل لإخوانك في فلسطين وفي غيرها.
وأنتم تعملون بفضل الله عز وجل أن محلات سنتيبري قد تكبدت خسائر بلغت الملايين، وهذا من الله عز وجل أولاً، ثم من تسخير الله تعالى الدعاة لمحاربة هذا اليهودي الكافر الإنجلتري، وقد كتب على محلاته في إنجلترا: ممنوع دخول الكلاب والعرب! ونحن فعلاً كلاب وأوسخ من الكلاب لما يحصل لإخواننا في فلسطين هذا ونحن ننظر، فنحن لا نستحق أن نحيا كحياة الكلاب.
لكن على أية حال من جهة الحل والحرمة: هو حلال، وأنا لا أحب ذلك، وأظن أن هذا البلاء لو وجد في القرون الخيرية لأمرنا السلف وأهل العلم في تلك الأزمنة بذلك.
فهذا سنتبري -كما ذكرنا- بفضل الله أولاً ثم بدعوة الشيوخ بمقاطعته قد حصل له خسائر رهيبة، وهو جريء لا يضره ولا تهمه هذه الخسائر؛ لأنه مسنود من قبل معابد اليهود، ومن قبل الكنائس كذلك، وهو يهودي لكن غصب على النصارى أن يساعدوه؛ لأنهم يدركون -اليهود والنصارى- أن الحرب مع عدو آخر، فإذا تخلصوا -وهيهات أن يتخلصوا من هذا العدو- فإن الحرب تدور بينهما؛ إذ إن بينهم من العداء ما ليس بين المسلمين وبينهم، لكن فقه الدعوة وفقه الواقع عندهم يقول: لابد من الترابط ولو في الظاهر والأمور المادية؛ لأنهم يدركون أن العدو الأخطر على وجودهم على هذه الأرض هم المسلمون.(15/17)
نصيحة لمن يتخلف عن صلاة الفجر
السؤال
الأخ يشكو من تخلف بعض الإخوة عن صلاة الفجر.
الجواب
هذه بلا شك بلية عظيمة جداً ابتلى بها كثير من الإخوة، لذا لابد أن يعلموا أن أثقل صلاة على المنافقين هما صلاة العشاء والفجر، وأن صلاة الفجر بالذات فيها من الخير ما ليس في غيرها؛ إذ إنها صلاة مشهودة تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، وأن من صلى الفجر فكأنما قام الليل كله، وغير ذلك من فضائل وخير هذه الصلاة، فليحرص عليها جميع الإخوة.(15/18)
حقيقة حزب الله في جنوب لبنان
السؤال
ما رأيكم بقوات حزب الله الشيعي؟ ولماذا ينصرهم الله عز وجل على اليهود بجنوب لبنان؟! وما موقف المسلم منهم؟ وهل ندعو لهم؟ وهل يطلق عليهم: مجاهدون وشهداء؟
الجواب
على أية حال الحق حق، والباطل باطل، والتشيع باطل، ولا يلزم منه أن يهزمهم الله في كل موقع، وحزب الله في لبنان عندهم من الأخطاء العقدية ما ليس عند أهل إيران، وهم أشد تمسكاً بتشيعهم ربما من خميني إيران نفسه، وهم يعادون أهل السنة أيما عداء، فإذا نظرت إلى حربهم وإن شئت فقل: جهادهم المزعوم مع اليهود، فهذه والله يا إخواني! مسرحية يطول شرحها.
والمهم أن عداء حزب الله الشيعي لأهل السنة في لبنان أعظم من عدائهم لليهود، وقد صنفت في ذلك كتب، وقد كان الشرطة في عهد الدولة الفاطمية في مصر يدخلون بيوت أهل السنة، فإذا وجدوا فيها مصحفاً أحرقوه، وإذا وجدوا فيها كتاباً للبخاري أو مسلم أو موطأ مالك قتلوا صاحبه، فهل فعل هذا الإنجليز مثلاً لما كانوا في فترة الاحتلال في هذه البلاد؟! لم يكن ذلك.
لكن على أية حال النتيجة التي وصل إليها الحزب الشيعي في لبنان أمر طيب؛ لأن الحق أحق أن يتبع، والله تعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فلا شك إذا كان الترجيح بين الشيعة واليهود، فالشيعة أقرب إلينا، بل عامة الشيعة جهلة لا يعرفون شيئاً، ولذلك نقول: هم أقرب إلينا، وهم معذورون بنشوئهم في بقعة من الأرض لا تعرف إلا التشيع، وهذا بالنسبة للعامة، وأما بالنسبة للرءوس الكبار فإنهم غير معذورين، ولهم أحكام تختلف عن أحكام بقية عامة الشيعة، وهم بلا شك إذا احتاجوا إلى تأييد أو نصرة أو دعاء أو غير ذلك فعلنا، مع كرهنا لما هم عليه من بدعة وضلالة.(15/19)
حكم دخول المسلم كنيسة النصارى
السؤال
أنا أعمل في وظيفة حكومية، وفي يوم من الأيام دعاني أحد زملائي أن أحضر حفل خطوبة، علماً بأن هذا الحفل في الكنيسة، فهل يجوز دخول الكنيسة؟
الجواب
دخول الكنيسة لرجل من أهل العلم لدعوة من فيها إلى الإسلام جائز، وإلا فلا.(15/20)
توضيح حديث: (إن أبي وأباك في النار)
السؤال
هل يوجد حديث يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (أبي وأبوك في النار)، أرجو التوضيح؟
الجواب
الحديث أخرجه مسلم: (أتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: في النار، فولى الرجل مدبراً وهو يبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادعوه، فدعوه فقال: إن أبي وأباك في النار)، وهذا قطع منه عليه الصلاة والسلام أنه أباه في النار، وعلى أية حال نحن لا نحب أن نثير مثل هذه المسائل، ولكن إذا سئلنا عنها لا نألوا جهداً في بيانها، فالمقطوع به أن والد النبي عليه الصلاة والسلام كان مشركاً عابد وثن، وأنه مات على ذلك، وليس هو من أهل الفترة، أي: لم يكن موحداً على ملة إبراهيم، ولم يمت كما مات ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل وغيرهما من أهل الفترة الذين كانوا على ملة إبراهيم عليه السلام فقد كان مشركاً ومات على شركه.
ثم ما الفارق بين عم النبي عليه الصلاة والسلام، وبين أبي النبي عليه الصلاة والسلام، وبين جد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا فرق.
إذاً: فالمرء إنما يحاسب بعمله هو، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا فاطمة بنت محمد اعملي صالحاً فإني لا أغني عنك من الله شيئاً) فهذه ابنته التي هي أعز عليه من أبيه، ودائماً أولادي أعز علي من أبي، وهذه فطرة وضعها الله تبارك وتعالى في قلوب الخلق، فإذا كان الأمر كذلك فالمرء إنما يعرض وحده، ويحاسب وحده، ويدخل الجنة وحدة، أو يدخل النار وحده، فهذه أمور مقطوع بها.
ثم كونه في النار أو في الجنة؛ هذه مسألة بالنسبة لنا لا ينبني عليها عمل، والأحاديث التي رويت: (أن الله تبارك وتعالى إكراماً لنبيه أحيا والد نبيه، فآمن به ثم مات)، هذه أحاديث موضوعة ومكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم من الذي رآه وقد أحياه الله مرة أخرى، ثم آمن ثم مات بعد ذلك؟! فلم ترو لنا كتب الموضوعات حتى شاهداً على ذلك.
وعلى أية حال لا أحب الخوض في هذه المسألة؛ فإن قول النبي عليه الصلاة والسلام إذا صح فإنه ترد به أقوال كثيرة.(15/21)
من حلق لحيته بالموس لا يعد من أصحاب البدع
السؤال
هل من حلق لحيته بالموس يعد من أصحاب البدع؟
الجواب
لا، هو من أصحاب المعاصي.(15/22)
معنى قول الشافعي: من شرع فاستحسن فقد أشرك
السؤال
نقلت عن الإمام الشافعي قوله: من شرع فاستحسن فقد أشرك، فأحياناً الواحد منا يعمل عملاً فيقال له: حسناً أو خيراً، ويسر بذلك، فهل هذا تشريع؟
الجواب
لا، ولذلك قال الإمام الشافعي: من شرع، أي: من قال قولاً واعتبره شرعاً، وألزم الناس به، وحملهم على العمل بهذا القول، فهذا باب من أبواب التشريع، وأما إنسان يعمل خيراً أو يعمل عملاً صالحاً، والناس يقولون له: والله أنت جيد، وربنا يوفقك، وينصرك وغير ذلك، فيفرح بهذا الكلام، فهذا ليس من باب التشريع.(15/23)
حكم من قال لوالديه: لستما والديَّ
السؤال
سيدة تشاجرت مع أخيها بسبب التنصت على التلفون، فجاء الوالد والوالدة ليفضوا الشجار، فقالت لهما: لستما أبويّ، وقد متما في نظري، فما حكم هذه الأخت، وما واجبها نحو والديها، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
بلا شك أن هذه معصية كبيرة جداً أن تقول البنت لوالديها: لستما أبويّ، إذ إن هذه براءة، وهي كبيرة من الكبائر، وعليها أدلة من الكتاب والسنة، وأغلب الظن أنها قالت ذلك في وقت غضب شديد سيطر عليها، فهذه الأخت يلزمها الاستغفار، واستسماح والديها فيما صدر منها، وأن تعتذر لهما، وتبين عذرها في ذلك، وأن ذلك كان في وقت غضب لم تتمالك نفسها فيه بسبب معصية أخيها.(15/24)
حكم إجبار الرئيس لمرءوسه على إضاعة الصلاة
السؤال
أعمل في وظيفة حكومية مندوب شرطة، وقد يجبرني رءوسائى على إضاعة الصلاة، فماذا أفعل، علماً بأني لو تركتها سيكون مصيري إما السجن أو الغرامة المعضلة؟
الجواب
لو كان الأمر بيدك فبإمكانك أن تقدم الاستقالة ولا نرى غيرها، وإن كان هذا ليس بإمكانك، أي: ليس من حقك قانوناً أن تفعل هذا، أو أنك ستتعرض للمساءلة أكثر مما كنت تتوقع؛ فإنك تجمع في نيتك بين الفرضين، فتصلي الفجر في المسجد أو في البيت، والسؤال إنما ينصب على الصلوات الأخرى، فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس أن تجمع في نيتك بين الفرضين، أي: تؤخر الظهر إلى العصر، وتؤخر المغرب إلى العشاء إذا اضطررت إلى ذلك حسبما سألت، وإلا فالأصل ألا تضيع فرضاً حتى يدخل الفرض الآخر.(15/25)
ما يلزم فعله عند دفن الميت، وحكم تلقين الميت وهو في القبر
السؤال
أرجو توضيح ما ينبغي فعله عند القبر أثناء الدفن، وما حكم تلقين المتوفى وهو في القبر؟
الجواب
الذي ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان يقبر أصحابه ويقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله)، فإذا دفن على جنبه الأيمن متوجهاً إلى القبلة وفرغ من دفنه قام النبي عليه الصلاة والسلام على قبر هذا يدعو له خاصة، ويدعو كل واحد بما تيسر له من دعاء لهذا الميت، وأما الدعاء الجماعي فليس مشروعاً -إذا كنت تسأل عن هذا بالذات- لأنه حرمان لأجر كثير ممن شارك في الجنازة، ومخالف لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل)، ولو كان الدعاء الجماعي مشروعاً لدعا النبي عليه الصلاة والسلام وأمن أصحابه، وإنما يدعو كل واحد على حاله بما تيسر له.(15/26)
حكم الجلوس في أماكن أهل المعاصي
السؤال
عملي يضطرني للجلوس على ما تسمى بغرزة في الصباح، وأغلب من يجلس في هذا المكان مدخنون، وأصحاب بدع، وفيها الشيشة وما شابه ذلك، أرجو الإفادة.
الجواب
الإفادة أن هذا المكان لا يحل لك أن تجلس فيه؛ لأنك مع الوقت ستألف هذا المجلس، وتألف أصحابه، ثم بعد ذلك تشاركهم فيما هم عليه من معاصي.(15/27)
حكم من يقتل نفسه
السؤال
هل الذي يقتل نفسه يكون كافراً أم عاصياً؟
الجواب
يكون عاصياً ومرتكباً لكبيرة من أعظم الكبائر، فإذا كان من أكبر الكبائر قتل المرء لأخيه، أي: قتل المسلم لأخيه المسلم، فما بالك بقتل المسلم لنفسه؟! إن هذا من أكبر الكبائر، وأغلظ المعاصي، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فمات، فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)، والخلود في هذا الحديث: هو المكث الطويل لا الخلود الأبدي الذي يضاهي خلود الكافرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(15/28)
شرح كتاب الإبانة - ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الكلام [1]
لقد ذم الله سبحانه الذين يخوضون في آياته، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون من مجالستهم ومخالطتهم، فأصحاب الأهواء والخصومات قد باعوا دينهم، وتمت خسارتهم بكثرة خطاياهم، وانشغالهم بما لا يعنيهم حتى أكثروا التلون في الدين والتنقل والتحول، وواقع المسلمين اليوم يشهد بذلك.(16/1)
باب ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: الباب الذي نحن بصدده هو باب: ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام.
والمراء: هو الملاحاة والخصومات والجدال بالباطل، فإذا كان ذلك في دين الله عز وجل فإنه مذموم، بل هو أشد ذماً؛ لأن الجدال بالباطل في غير الدين أمر مذموم، فهو مذموم من باب أولى إذا كان في دين الله عز وجل، والخصومة والمراء والجدال لا يكون إلا في أصحاب الكلام والفلسفة، وأما أهل التقوى وأهل العلم الراسخون فيه فإنهم وقَّافون عند حدود القرآن، وحدود السنة الصحيحة.
ولذلك فهذا الباب متمم للبابين اللذين قبله، وأقوال أهل العلم في هذا الصدد كثيرة لا تكاد تنتهي، وما من كتاب أُلِّف في السنة -كهذا الكتاب الذي بين أيدينا- إلا وعقد فصولاً متعاقبة متتابعة في أهمية هذا الأمر، والتحذير منه، أي: أهمية الوقوف عند حدود القرآن والسنة، والتحذير من الخصومات والجدال والمراء والملاحاة في دين الله عز وجل بغير علم.(16/2)
الجدال وأقسامه
ولا بد أن تعلم -قبل البدء- أن الجدال منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم فالجدال المحمود هو كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، فمعنى (التي هي أحسن): قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء، وهي حجة أقوى من حجة الخصم.
فهذا هو الجدال بالتي هي أحسن.
وأما أن تقصد بهذه المجادلة وهذه المنازعة الباطل، أو الانتصار للرأي، أو العصبية لفلان أو علان، أو قومك أو عشيرتك، أو انتصاراً لرأيك؛ فإن هذا هو الجدال المذموم.
وأما ما يشهده بعض الناس، وخاصة في مكة والمدينة في موسم الحج والعمرة في رمضان، أنهم يؤجرون المنازل ويغلون جداً في أسعار السكنى أو غيرها، فإذا جادلتهم في خفض الأسعار قالوا: يا فلان! لا تجادل في الحج.
كل من ذهب إلى مكة في موسم العمرة في رمضان، أو موسم الحج في ذي الحجة فإنه لا بد أن يسمع هذه الكلمة، فيعتبرون أن طلب خفض أسعار السكن، ومراجعة الملَّاك في هذه البلاد في مثل هذا الشأن جدالاً مفسداً للحج، أو يؤثر على ثواب الحاج!! وهذا بلا شك فهم مغلوط لمعنى الجدال المذموم، ومعنى الجدال الممدوح، فنتفق أولاً أن الجدال المذموم هو الجدال في دين الله عز وجل بالباطل، والذي يبتغى به رد آيات الله عز وجل، ورد أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.(16/3)
بيان أبغض الرجال إلى الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخَصِم أو الألد الخصيم)، وفي رواية: (إن أبغض الرجال إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هو الألد الخصم).
والألد: هو الشديد، يعني: صاحب الخصومة الشديدة الذي يشار إليه أن فلاناً مجادل، وأن فلاناً منازع، وأن فلاناً مخاصم، فإذا كانت الخصومة والجدال والملاحاة علامة على شخص ما؛ فاعلم أن هذا الشخص إنما هو مبَغَّض إلى الله عز وجل، كما أنه مبَغَّض إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.(16/4)
تفسير الحسن البصري لقوله تعالى: (وهو ألد الخصام وبيان أنواع الكذب، وخطر الكذب على النبي
[وعن الحسن في قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]، قال: كاذب القول].
يعني: لا يقول قولاً صدقاً، وأنتم تعلمون أن الكذب في اللغة وفي الاصطلاح هو القول الذي لا يطابق حقيقة الواقع، سواء كان قائله متعمداً، أو مخطئاً، أو ناسياً، فيقال: إنه قول كاذب، لكن هل يأثم قائله بذلك؟ إذا كان متعمداً فإنه يأثم، وإذا كان غير متعمد لذلك فإنه لا يأثم.
والكذب منه ما هو مذموم أشد الذم، بل ذهب بعض أهل العلم إلى كفر قائله، كالكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، كما في قوله: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فلم يرد مثل هذا التهديد والوعيد في الكذب في حديث الناس، ولما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد).
وبهذا يتبين أن الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو دين يتعبد به إلى قيام الساعة؛ ولذلك لم يستو الكذب في حديث الناس مع الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنك لو كذبت على النبي عليه الصلاة والسلام فكأنك تقول: هذا دين الله عز وجل الذي قد أتى به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
وبالتالي يلزمكم أيها الناس! أن تتقربوا إلى الله بمثل هذا الكلام، وفي حقيقة الأمر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل هذا الكلام، بل هو مفترى عليه عليه الصلاة والسلام، ولكن من رحمة الله عز وجل ومن حفظ الله عز وجل لهذا الدين أن قيض لسنة النبي الأمين أناساً يذبون عنه، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فميزوا وغربلوا السنة غربلة، وميزوا وفرقوا بين ما صح وما ثبت عن صاحب الشريعة الغراء وما لم يثبت.
فتعبدنا الله عز وجل بما ثبت عن نبيه عليه الصلاة والسلام، وأما ما دون ذلك فإنه مردود لا يجوز العمل به قط، بل ولا حتى في فضائل الأعمال على أرجح الأقوال من كلام أهل العلم.
والكذب مذموم كله، وهو يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار.
والكذب كله ما ورد في الكتاب والسنة، بل ولم يذكر في لسان العرب إلا في معرض الذم، ولم يستثن منه الشرع إلا مواطن محددة، كالكذب على العدو؛ لأن الحرب خدعة، والكذب على الزوجة؛ لاستقامة الحياة، وهو الكذب فيما يتعلق بالثناء عليها، والحث لها، وقبول أعمالها وغير ذلك، كأن تقول لها مثلاً: أنت جميلة، وهي في حقيقة الأمر دميمة، وكأن تقول لها: طبخك أو طهيك ما أجمله وما ألذه، وهو في حقيقة الأمر تأنف منه الكلاب، لكن على أية حال لو أنك قلت ذلك لدامت العشرة، وطاب الخاطر، فمثل هذه المسائل أجازها الشرع لمصلحة أعظم من الكذب، وهو كذب لا يؤثر على دين الله عز وجل لا أخذاً ولا رداً.(16/5)
ما جاء في النهي عن ضرب الأدلة بعضها ببعض، وضرورة إرادة الحق في الجدل
قال: [وقال أبو أمامة: ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالتها التكذيب بالقدر].
يعني: ينفون عن الله عز وجل علمه بما كان، وأنه لا يعلم ما كان إلا بعد أن كان ووقع، فعلمه بعد أن صار حدثاً، وأما قبل صيرورته حدثاً واقعاً فإن الله لا يعلمه، ويزعمون أن الله تعالى لم يكتب مقادير العباد قبل أن يخلق العباد، فمن نفى علم الله عز وجل السابق ونفى الكتابة؛ فإنه كافر عند أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا.
قال: [وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل، كما قال تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]] يعني: مهنتهم الخصومة والملاحاة والجدال.
[وعن أبي أمامة قال: (بينما نحن نتذاكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ينزع هذا بآية، وينزع ذاك بآية)].
فانظروا إلى الملاحاة والخصومة! لا يريد أطراف الخصومة أن يصلوا إلى الحق، وإنما كل واحد يريد أن يصل إلى إثبات ما استقر عليه رأيه، وإن كان أمراً شرعياً في أصله، فتجد مثلاً بعض من الإخوة في الصحوة يتربون في قضية ما على رأي واحد، فهو يتبناها، لا لأنه درسها وقرأها وعرف أدلتها وتعبد بهذه المسألة، لكن لأن فلاناً من أهل العلم -المحبب والمقرب إلى قلبه- يميل إلى هذا الرأي؛ فهو كذلك يميل إليه بالعاطفة لا بعلم ولا بدراسة.
ولذلك فكثير من المسائل التي استقرت لديكم ينبغي مراجعتها، ودراستها دراسة علمية؛ حتى تعبد الله تعالى على بصيرة؛ لأن البصيرة هي العلم لا العاطفة.
فلو أننا أشرنا بالأصابع الآن إلى فلان وفلان من الناس الحاضرين وقلنا له: ماذا يترجح لديك في مسألة: كشف الوجه وتغطيته؟ فلا بد أنه يبادر إلى وجوب النقاب وتغطية الوجه.
فإن قلنا له: اذكر دليلاً من القرآن، ودليلاً واحداً من السنة، ورأي من هذا؟ هل هو رأي الجمهور أم غيرهم؟ لتوقف وسكت؛ وذلك لأنه منذ نعومة أظفاره في المساجد وفي طلب العلم استقر عنده رأي وتبناه، وهذا الرأي هو أن النقاب فرض لازم، فربما اعتقد أن كشف الوجه سفور وفجور، فهو يهاجم ويسب ويلعن الرأي الآخر.
والقائم على الرأي الآخر إذا سألته: من أين لك هذا؟ سكت، بل ربما هاجم.
ولو سألت فلاناً من الناس: ماذا تقول في صلاة الجماعة: أهي سنة مؤكدة أم واجبة، أم أنها شرط في صحة الصلاة؟ وهذه هي في صلاة الجماعة، ولكل مذهب أدلته، فماذا درست أنت من أدلة في هذه المذاهب كلها؟ ثم ما الذي ترجح لديك؟
الجواب
أنك تحفظ من أول الأمر أن صلاة الجماعة واجبة، فإذا قلنا: اذكر لنا دليلاً من الكتاب أو من السنة؛ فإنك لا تذكر، ولكنك تربيت على مثل هذا، فأنت ليس عندك استعداد للمناقشة والإقناع.
إذاً: إذا دخل مثل هذا في خصومة ومجادلة لإثبات الرأي الراجح من أقوال أهل العلم؛ أصر على رأيه؛ لأنه تربى عليه، ويصعب عليه جداً أن ينحرف عنه، وأن ينتقل إلى غيره؛ وذلك لأنه لم يدرس، ولما سئل في أول الأمر أظهر الذي ترجح لديه بالعاطفة والهوى، ومحبة للشيخ الذي أفتاه بذلك، فتجده يتعصب جداً ويغضب جداً، وربما يشتكي، وينقل هذا للغير.
بل وربما يشير إلى أن هذا الشيخ يقره، فصار يقول: إن صلاة الجماعة سنة، والمستقر عنده أنها واجبة.
وليس هذا من باب الجدال بالباطل، وإنما هو جدال بالحق، ولذلك نحن إذا فتحنا كتب الفقه -كالمغني والمجموع وغيرهما من الكتب- لوجدنا أن مسائل الإجماع في رأي معين أو علم قليلة جداً؛ ولذلك جمعت في كتيبات، وأما جل مسائل الفقه فمحل نزاع وأخذ ورد، وأصول تختلف من الجمهور إلى الحنفية وغير ذلك، وهم يبنون فتاواهم الشرعية على أساس هذه القواعد الكلية، أو الأصول العامة في علم أصول الفقه، فالأمر يحتاج إلى دراسة موسعة جداً، ورحابة صدر إذا كنا نتناقش لأجل الوصول إلى الحق.
ولذلك ينبغي أن يبتغي كل مجادل الوصول إلى الحق، كما كان السلف رضي الله عنهم يفعلون ذلك.
فـ الشافعي عليه رحمة الله يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
وقال: وما ناظرت أحداً قط إلا تمنيت أن يظهر الله تعالى الحق على لسانه ويده.
أي: على لسانه هو لا لسان الشافعي، مع أن لسان الشافعي من أطيب الألسن، وأعلم الألسن، لكنه تجرد لله عز وجل.
قال: ما ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه هو؛ لأن هذا فيه فائدة عظيمة جداً للإمام الشافعي، كون الشافعي يظهر له أن الحق مع خصمه، فهذا يدل على أنه قد علم أدلة لم تكن لديه، فلو علمها قبل المناظرة لقال بها.
وهو القائل: إذا تعارض قولي مع قول النبي عليه الصلاة والسلام فاضربوا بقولي عرض الحائط.
رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وهكذا كل عالم مخلص كتب له القبول عند الله عز وجل وعند المؤمنين، إنما كانت هذه سيرته، فهي سيرة طيبة في إرادة إظهار دين الله عز وجل، بغير تعصب لمذهب، ولا تعصب لقول ولا لشخص، وإنما التعصب دائماً لله عز وجل ولرس(16/6)
ضرورة التحلي بالعلم والحكمة في الدعوة إلى الله
وبعض الإخوة يقول: إذا كنا مأمورين بالدعوة إلى الله عز وجل؛ فكيف نوفق بين ما أُمرنا به وبين قولك: أننا لا نجادل ولا نماري ولا نخاصم ولا ندعو إلى الله عز وجل؟
و
الجواب
أنا ما قلت هذا القول، ولم يَفهم أحد تقريباً من كلامي أني قلت هذا، لكن لا بد أن تعلم أنك مأمور بالدعوة إلى الله عز وجل إذا كنت على مستوى ذلك، فتدعو إلى الله عز وجل، فكم من الناس -وربما يكون عنده علم- إذا دعا إلى الله كاد أن يفسد أكثر مما يصلح؛ لأن شرط الدعوة أن تكون بالحكمة، وبعض الناس لا حكمة عنده ألبتة، فعندما يأمر كأنه يأمر بالعصا والسيف، فلا يقبل منه ذلك، بل ربما تأخذ المأمور العزة بالإثم فيرد الحق الذي معك؛ لغلظتك وفظاظتك، والله تعالى يقول لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، فلما لم ينفضوا من حوله، بل التفوا حوله؛ تبين أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فظاً، ولا غليظ القلب عليه الصلاة والسلام، بل كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان يحرص عليهم أكثر من حرصه على نفسه وعلى أهله وولده عليه الصلاة والسلام، فمثل هذا هو الذي يدعو.
وكذلك لا يدعو أحد بغير علم، وأنتم تعلمون أننا نعيب على الإخوان الذين يدعون إلى الله بزعمهم بغير علم، فينشرون البدع، وينشرون الخرافات في العقيدة والعمل؛ فهذا أمر لم يكلفنا الله عز وجل به؛ ولذلك قال الله تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ)) على ماذا؟ ((عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا)) أي: النبي ((وَمَنِ اتَّبَعَنِي)).
فالذي يدعو إلى الله عز وجل لا بد أن يتحلى بالحلم ومكارم الأخلاق، ويكون عاملاً كذلك بما يدعو الناس إليه ويأمرهم به، ويكون منتهياً عما ينهاهم عنه، وكذلك يكون عالماً بالأمر الذي يأمر به، أو عالماً بالنهي الذي ينهى عنه.
فربما ذهب ينهى الناس عن أمر ويغلب على ظنه أنه حرام؛ فإذا به واجب، وربما ذهب يأمر الناس بعمل معين، وإذا به منهي عنه في الشرع؛ ولذلك فالعلم شرط في الدعوة إلى الله عز وجل.
فبهذه القيود وغيرها من القيود والشروط التي اشترطها أهل العلم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون الدعوة، أما أن يُفهم من كلامي ترك الناس للدعوة إلى الله عز وجل بالكلية؛ فهذا لا أقصده ولا أقوله قط.(16/7)
تابع ما جاء في النهي عن ضرب الأدلة بعضها ببعض بالجدل المذموم
[قال أبو أمامة: (فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صب على وجهه الخل)] يعني: لما خرج عليهم ووجد أن هذا يأتي بآية وذاك يأتي بآية، وكل واحد يأتي بالدليل الذي يستطيعه من باب نصرة رأيه على رأي الآخرين؛ غضب وكأنه صب على وجهه الخل.
فقال: [(يا هؤلاء! لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؛ فإنه يوقع الشك في قلوبكم، فإنه لن تضل أمة إلا أوتوا الجدل)].
وعند ابن ماجه بإسناد حسن: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)].
فاعلم أن الجدال والخصومة والمراء في دين الله بغير علم، وبغير هدى وكتاب منير؛ هو طريقك إلى ركوب الأهواء والضلالات والبدع.(16/8)
بيان أن الصالحين والموعودين بالجنة لا يجادلون في دين الله تعالى
قال: [وقال أبو الدرداء وأبو أمامة وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً؛ فطوبى للغرباء)].
وطوبى قيل: هي منزلة في الجنة، وقيل: هي شجرة في الجنة وقيل غير ذلك.
[قال: (فطوبى للغرباء، فقيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)] أي: يُصلِحون الناس حين فسدوا، أو يَصلُحون هم في وقت قد فسد فيه الناس.
[قال: (لا يمارون في دين الله، ولا يكفرون أهل القبلة بذنب)]، وهذه زيادة، وأصل الحديث عند مسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً).
وقوله: (قيل: من الغرباء؟) إلى آخر الحديث هي زيادات متنوعة وكثيرة جداً لم يصح منها من جهة الإسناد شيء إلا ما يشهد له بعض النصوص، كما جاء (قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل)، وقيل: (هم الذين يصلحون عند فساد الناس) وقيل غير هذا.
[وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم لمن ترك المراء وهو محق ببيت في ربض الجنة)].
قوله: (أنا زعيم): يعني: أنا كفيل ومسئول، وربض الجنة: هو ما حواليها.
[قال: (وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة)] أي: حوالي الجنة، فهذه ثلاثة بيوت لمن ترك المراء وهو محق؛ حتى لا يتمادى مع أصحاب الأهواء، وأصحاب الكلام، وأصحاب البدع؛ لأنه لو تمادى ربما وقع في قلبه ما يشككه، أو يعكر عليه صفوه.
فهذه دعوة للحفاظ على القلوب، والحفاظ على العقول، فإذا أنت لم تفلح في رد هذا الخصم؛ فلا أقل من أنك تشوش في معلوماتك وفي عقيدتك، وتراجع نفسك مرة أخرى، وهذه المراجعة الذي دفعك إليها هو بداية الشك الذي أوقفك عليه ذلك المجادل.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنا زعيم لمن ترك الجدال وهو محق ببيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى الجنة)، فهذه ثلاثة بيوت لمن ترك الجدال وهو محق.(16/9)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التخاصم والتنازع في القدر
قال: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، يعني: يتخاصمون في القدر، هذا ينزع بآية وذاك ينزع بآية- فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان -يعني: احمر وجهه وغضب غضباً شديداً لمَّا وجد ذلك- فقال: أبهذا أمرتم؟ أبهذا أوكلتم، تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا إلى ما أمرتم به فاتبعوه، وإلى ما نهيتم عنه فاجتنبوه)].
فهم قد أمروا بالإيمان بالقدر، لكن لما كان هذا أمراً شائكاً فالأصل فيه إذا ذكر الإمساك، (إذا ذكر القدر فأمسكوا)، وآمنوا به إيماناً جازماً، وسلموا له تسليماً مطلقاً.
فعلينا إذاً: أن نعرف الحلال لنعمله، ونعرف الحرام الذي لا خلاف فيه لنجتنبه، فإنه في القديم لم يكن أحد ينازع قط في حرمة شرب الخمر؛ لأن حرمته أمر معلوم يقيناً، وهذه المسألة بالإجماع، ولا ينبغي أن يكون فيها خلاف، وأما الآن فيأتي من يقول: يا أخي! دعنا من الخمر، أنا أتكلم عن (الوسكي) و (الشمبانيا)، والمشروبات الروحية، والمشروبات الكحولية، كيف تكون حراماً؟! وواحد آخر يقول: ولم هذه الأشياء محرمة إذا كانت الحكومة مرخصة لها؟! وكأن هذه الحكومة حامية الحمى! ألا ترى الزنا والعري والفجور وبيوت الدعارة، ماذا ستقول في هذه الأمور؟ أحرام أم لا؟ يقول لك: لا لا، هذه تصرفات شخصية فردية، وكذلك هذه الأمور مرخص لها، أرأيتم الفلسفة؟! فإذا دخل الأمر إلى هذا الحد فقاطع الجدال والخصومة، فهذا دين الله عز وجل، فهذا أمر حرام ظاهر الحرمة، فيمنع أن يتكلم فيه أحد.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر؛ حتى كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم أقبل علينا فقال: أبهذا أمرتم؟ أو بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؛ عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)] يعني: أؤكد عليكم ألا تتنازعوا في مثل هذا الأمر.(16/10)
الامتناع من الجدال والخصومات المؤدية إلى تكذيب القرآن
قال: [وعن أبي العالية قال: آيتان في كتاب الله ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر:4]].
إذاً: فالجدال من صفات الكافرين.
[وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]] أي: خلاف وتناحر ونفرة، ولذلك لن تجد أبداً اثنين من الجهلة جالسين يتكلمان في مسألة إلا وينصرفان على خلاف وتفرق في القلب، وهذا أكيد، فكل واحد منا قد دخل هذا الباب عدة مرات، وإن وافقه الخصم على ذلك قبل على مضض، وإن فارقه وتمسك بما عليه قام وبينهما قطيعة ربما لا تنتهي، ومردُّ ذلك كله إلى الجهل، فالاثنان مطلوب منهما أن ينصرفا إلى رجل من أهل العلم ليفصل بينهما، أو يعلمهما أصل هذه القضية من دين الله عز وجل كتاباً أو سنة.
وأما أن يستند كل واحد منهما إلى ظاهر آية أو ظاهر حديث؛ فيفهم منه دون أن يرجع إلى كلام أهل العلم، أو إلى خلاف أهل العلم في هذه المسألة؛ فإن هذا ما لا يعرفه أحد من السلف.
[وعن جابر قال: قال لي محمد بن علي -أي: أبو جعفر الباقر -: يا جابر! لا تخاصم؛ فإن الخصومة تكذب القرآن].
أي: لا تخاصم ولا تجادل؛ لأنها تؤدي إلى التكذيب بالقرآن الكريم، فأنت ستأتي بآية وهو سيأتي بآية، وهذا تكذيب بلسان الحال، لا بلسان المقال، فأنت لا تقول له: هذه ليست آية في كتاب الله، وإنما تقر أنها آية في كتاب الله، لكنك تريد أن تنتصر لرأيك؛ فترد العمل بما قد أتى به صاحبك من آيات وأحاديث، وتعمل جاهداً دائماً على رد كل الأدلة التي أتى بها خصمك؛ لعلة واحدة؛ انتصاراً لرأيك فقط ليس أكثر، ليس انتصاراً لدين الله عز وجل، وإن كانت أدلة الخصم أوضح من الشمس في رابعة النهار تقول: لا، أنا دليلي فقط هو الحق.
[وعن أبي جعفر الباقر قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإنهم الذين يخوضون في آيات الله، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:68]].
يعني: هذا يأتي بآية وذاك يأتي بآية، وكل إنسان يحاول أن يجمع أكثر عدد من الأدلة من القرآن والسنة؛ ليثبت صحة ما عليه هو، لا ليثبت أصل المسألة، أو يرجع إلى كلام أهل العلم وأفهام أهل العلم لهذه الآيات والأدلة، وإنما يجمع الأدلة ويحشدها حشداً لإثبات صحة ما عليه هو.(16/11)
دخول الشيطان على العالم في ساعة الجدال والخصومة
قال: [وعن مسلم بن يسار قال: إياكم والمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم].
يعني: لو مارى وخاصم عالم فإنه في هذه المرة ليس جاهلاً فهو عالم، لكن في لحظة ضعف منه أو غفلة تسلط عليه الشيطان، وجعله يناظر وينافح ويأخذ ويعطي، فأثبت أن ربا البنوك حلال، وأتى بأدلة أو شبه أدلة من هنا وهناك، وأتى بكلام لأناس مغمورين لا يعرف أحد أنهم من أهل العلم من القرون الأولى والقرون الوسطى إلى يومنا هذا، ثم يبلور من هذا كله رأياً: وهو أن الربا حلال، ويفتي بذلك للعامة، مع العلم أن هؤلاء العامة أفقه ممن قال بهذا الرأي، لكن لما أعجبهم هذا الرأي ووافق هواهم؛ قالوا به، وعملوا من خلاله، وهم إذا استوقفوا ليقسموا يمين الطلاق عما إذا كانوا يعتقدون صحة هذا القول من عدمه؛ فإنهم يقولون: إن هذا القول باطل عندما نضعه على المحك.
أذكر أن شخصاً وضع أمواله في البنك، وصار يأخذ فوائد -وإن شئت فقل: ربا هذا المال- للإنفاق على نفسه وعياله في كل شهر، فاستفتاني ولده فقلت: هذا المال حرام، والآثم في ذلك أبوك، وإذا كنت في حل من المعاش معه فيحرم عليك هذا، وإلا فكل هنيئاً مريئاً على قدر الكفاف، والإثم عليه.
فذهب ونقل إلى أبيه هذه الفتوى، فأتاني الأب في بيتي وقال: أنت تضلل الناس، وأنت تفعل كذا، وأنت تفعل كذا قلت: وما القصة؟ قال: قلت: كيت وكيت وكيت كيف تفتي بأن فوائد البنوك حرام؟ وهل أنت ند لفلان الذي يقول: إنها حلال؟ قلت له: أنا لست نداً، وأعوذ بالله أن أكون نداً، لكني أرتضي أن تحلف لي بقولك: امرأتي طالق امرأتي طالق امرأتي طالق؛ إذا كان هذا المال حراماً؟ قال: لا.
أنا لا أستطيع أن أحلف، قلت له: لماذا؟ قال: أنت تضعني في طريق ضيق.
قلت له: بما أنك تعلم أنه طريق ضيق ومغلق ومقفول فلماذا تدخله؟ إن الطريق المفتوح هو الذي يؤدي إلى الجنة، وأما المغلق ففي نهايته سقوط إلى الهاوية.
قال: يكفي الشهادة لله إذا كنت تريد أن تحلفني اليمين، ثم قال: امرأتي طالق امرأتي طالق امرأتي طالق إذا كنت أعتقد أن هذا المال حلال، بل أعتقد أنه حرام.
قلت: إذاً: يلزمك أن تذهب إلى صاحبك الذي قرنت بيني وبينه لتخبره بهذا.
قال: هذا لا يعتقد بقول أحد قط إلا بقوله هو.
يعني: أن العوام أنفسهم يفهمون هذه المسألة.
إذاً: لم يخالف هذا الفهم؟
الجواب
لأن الأمر يوافق هواهم، ويتصورون أنهم في منجىً بقولهم: (ضعها في رقبة عالم واطلع منها سالم!).
وهذا كلام باطل، وإنما إذا كنت فعلاً تريد الحق، وتبتغي الحق، فإنك تسأل أكثر من واحد من أهل العلم، ثم تأخذ بالأحوط، وحينئذ ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالماً، وهذا للجهال الذين ليس لهم نوع اجتهاد، ولا بحث ولا نظر في كتب وفي كلام أهل العلم وأدلتهم.
قال: [إياكم والمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وفيها يبتغي الشيطان زلته].
فيبدأ يزين له، ويزخرف له القول، وربما ذكره بالأدلة التي تعين على إثبات هذا الباطل الذي هو عليه.(16/12)
الخائضون في الباطل أكثر الناس خطايا يوم القيامة، وسبب اتباع الأهواء
[وعن عبد الله بن مسعود قال: أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل].
أي: هم أعظم الناس إثماً يوم القيامة.
[وعن عمرو بن قيس قال: قلت للحكم: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ -يعني: ما الذي جعل الناس يركبون الأهواء؟ - قال: الخصومات].(16/13)
أثر الخصومات والجدال في الدين على الأعمال
[وعن إبراهيم النخعي في قول الله عز وجل: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] قال: أغرى بعضهم ببعض في الخصومات والجدال في الدين].
فما من أحد من أهل الأهواء والخصومات إلا ويخاصم بالمتشابه، أما المحكم فلا، فدائماً تجدون أن طريق أهل الأهواء هو في المتشابه، فالمتشابه هو مادة الخصومات لدى أصحاب الأهواء، والأصل في مجلس العلم الاجتماع لا التفرق، والأصل في مجلس العلم أن له آدابه العظيمة، والجدال ليس منها، بل هو ينافيها.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)، ولم يقل ما تفرق قوم في بيت من بيوت الله، وإنما قال: (ما اجتمع)؛ فالأصل فيه الاجتماع.
وأنتم تعلمون حديث الثلاثة الذين دخلوا المسجد في حلقة علم النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (أما أحدهم فأعرض فأعرض الله عز وجل عنه، وأما الثاني فوجد فرجة فسدها فسد الله عنه، وأما الآخر فاستحيا؛ فاستحيا الله منه) فالأصل في مجلس العلم الاستفادة.
وأما الآن فتجد واحداً ينام على جنبه، وتجد آخر يشخر، وآخر يمد رجليه، والآخر يجلس على نصف رجل، بل كثير من الإخوة يجلس متكئاً على اليد اليسرى أو اليد اليمنى، أو يديه خلف ظهره كل هذا مما عم وطم، وإذا كان الواحد فيكم لا يعرف هذا، أو لا يعرف كيف يجلس في عموم جلساته -وخاصة في مجلس العلم- فكيف يكون طالب علم؟! قال: [لا أعلم أحداً من أهل الأهواء يخاصم إلا في المتشابه، أما المحكم فلا.
وعن معاوية بن قرة قال: الخصومات في الدين تحبط الأعمال].
أي: أن هذا باب من أبواب فساد العمل، فقد تعمل عملاً ثم تخاصم؛ فإذا بك عند الله كأن لم تكن قد عملت هذا العمل، فهي محبطة للأعمال، أي: لثواب الأعمال.(16/14)
أقوال عمر بن عبد العزيز في التحذير من الخصومات في الدين
قال: [وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل].
يعني: أكثر التحول، فكلما أتاه خصم لجج حجته أقوى من حجة المخاصم الأول تحول، حتى يتحول مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً وعشر مرات.
فتجده اليوم من الإخوان المسلمين، ويوم غد من جماعة التكفير، فلو أنه اتقى الله عز وجل في دينه ونفسه من أول الأمر؛ لوفقه المولى عز وجل إلى المذهب الحق الذي كلف به من قبل الشرع، وثبت عليه، واستقام عليه إلى أن يلقى الله، لكنه إنسان دخل بهوى، أياً كان نوع هذا الهوى؛ لأن الأهواء متعددة وكثيرة، ومن أجل ذلك عاقبة رب العزة تبارك وتعالى بكثرة التحول والتنقل، وربما يكون هذا الهوى هو حب الرئاسة، أو الزعامة، أو الظهور، أو الصدارة في المجالس، أو حب الكلام أو غير ذلك من الأهواء.
قال: [وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: من عمل بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح].
وهذه هي صفة النصارى، والله سماهم ضلَّالاً، والنبي عليه الصلاة والسلام بين أن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، فاليهود مغضوب عليهم لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى ضلال لأنهم عملوا بغير علم، والأصل في المسلم: أن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل.
ولا يسعك علم بغير عمل، كما أن العمل بغير علم الأصل فيه الابتداع في الدين، فالذي يعمل بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
قال: [ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن كثرت خصوماته لم يزل يتنقل من دين إلى دين، ومن نحلة إلى نحلة، ومن مذهب إلى مذهب؛ بسبب كثرة الخصومات].(16/15)
تحذير حذيفة لأبي مسعود الأنصاري من التلون في دين الله
قال: [وعن أبي مسعود الأنصاري أنه قال لـ حذيفة: أوصني! قال: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله؛ فإن دين الله واحد].
أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهذه وصية عظيمة جداً، فهو يقول له: أوصني يا حذيفة! فقال له: (إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف).
إننا الآن نجد إخوة أفاضل وملتحين وغير ذلك ولهم سنوات طويلة في حقل الدعوة، أو في حقل الالتزام، ثم بعد ذلك نفاجأ بأنه انزوى واختفى سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنوات فلا يراه أحد، فنذهب لزيارته فإذا به قد حلق لحيته، وتخلص من كل مظهر للإسلام على بدنه بعد أن كان من أشد الناس.
وأذكر بهذه المناسبة عندما كنا في الأردن أن رضوان دعبول صاحب مؤسسة الرسالة -وهي مؤسسة كتبية كبيرة مشهورة- كان صاحب دين، وصاحب أياد بيضاء على طلاب العلم، وأنا عملت معه عامين في مؤسسة الرسالة تحت إشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط في مكتب التحقيق بالأردن بعمان، وكان أحد إخواننا من مصر مقيماً معنا هناك في عمان، وكان يجهل كثيراً جداً على الشيخ الألباني في مجالسه، وأذكر أنه عندما قال الشيخ: إن بيع التقسيط حرام؛ قام عليه هذا الأخ ولم يبق من كلامه إلا أن ينطق بكلمة الكفر لشيخنا رحمه الله.
وكنت إذا ذهبت معه لنصلي في مسجد من المسجد ينطلق مسرعاً إلى الإمام قبل أن يكبر ويقول له: ماذا تقول في الإيمان؟ وماذا تقول في الإحسان؟ وماذا تقول في القرآن الكريم: هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ فكنت أقول له: يا أخي الكريم! لا يصح هذا، هذا الفعل من البدع، وهذا من الأهواء.
فيقول: لولا أني أعرفك لقلت فيك كلاماً غير ذلك، فكان معروفاً بشدته وحدته إلى أقصى حد، ودخل في باب التنطع من أوسع الأبواب.
فالشاهد من هذا: أني زرت مؤسسة الرسالة في عمان يوماً مع هذا الأخ، فقلت له: تعال نسلم على رضوان فقال على مضض: السلام سنة، سلم عليه، وأنا أعرف أن هذا الأخ غلطان؛ لأنه دائماً غلطان، فدخل في منتهى العبوس وسلم عليه، فقال له رضوان: ماذا بك يا شيخ فلان؟! لماذا أنت غضبان هكذا؟ هل أحد أغضبك؟ إن غضبت من الزوجة؟ نزوجك!! ويمازحه بخفة دم لا نهاية لها، فقال: اسمع يا رضوان! لا بد أن تعلم أنك من أهل النار، ولست من أهل الجنة، قال رضوان: لماذا؟! قال: أنت حليق، ولابس قميصاً وبنطلوناً، ولا تصلي جماعة في المسجد! فقلت له: إن هذا الكلام لا يصح، قال: وهل أنت تشك في أن هذا يكفر؟! قلت: لا.
أنا على يقين أن هذا لا يكفر، إن هذه المخالفات لا تكفر، بل هي معاص، فأنت الآن يا فلان! تقول بقول الخوارج، بل ربما لم يقل أحد على مثل هذه الأفعال الثلاثة من الخوارج: إنها كفر؛ فتكون قد أبعدت النجعة، وغاليت مغالاة لم يغالها الخوارج.
فغضب غضباً شديداً جداً وانصرف وتركني معه، فلم تكد تمر الأيام حتى أثبت لنا أنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فإما أن ترجع إلى أصل الدين، وهو الاعتدال والوسطية، وإما أن ترجع إلى ذروة الضلال، فلا تتمكن قط من الرجوع، وهذه سنة الله عز وجل في الخلق.
فمرت حوالي عشر سنوات وإذا بهذا الأخ يأتي إلى المسجد المجاور لبيته في شارع الهرم، وعند أن كبر الإمام ودعا دعاء الاستفتاح ثم قرأ الفاتحة سكت، ثم قرأ الآيات، وما إن فرغ من الصلاة إلا وقام عليه، وكاد أن يضربه ويفسقه ويبدعه؛ لأنه سكت بين الفاتحة وبين القراءة، وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم، والراجح: عدم السكوت، لكن لا يعالج الخطأ بمثل هذا، ثم انتظرني حتى أتيت في وقت متأخر من الليل وبات معي، فلما رأيته اندهشت؛ فقد كان لابساً ملابس ضيقة، و (كرفتة)، وحالقاً لحيته، وخلع العمامة، فقلت في نفسي: مادام أنك حكمت من قبل بأن هذا كفر لكني استحييت أن أكلمه.
ولما صلينا الفجر قال: أتيت لأن معي بعضاً من الكتب قد أعددتها للطباعة، ونريد أن نبيعها بما لك من صحبة مع بعض الناشرين، فقلت له: أنا أعرف ناشراً محترماً جداً، وهو الآن نازل في فندق الأمان، أنذهب إليه؟ فقال: لنذهب، قلت له: هو يصلي الفجر، ويقرأ الأذكار، ثم ينصرف إلى المعرض، فذهبنا إلى رضوان دعبول -وهو الذي كفره من قبل- فلما دخلنا عليه قال: أهلاً يا شيخ فلان! وما الذي ترتديه؟ ما الذي جرى يا شيخ فلان؟! ويشير إلى (الجلابية) التي يلبسها، ويقول: ما بك؟ قال: الضرورة، وتمر الأيام وقابلته على رصيف في محطة أتوبيس جالس، وبه من الغم ما الله به عليم، فقد جاء له جواب من مصر فيه: أن أباه قد تبرأ منه، وأمه تبرأت منه، وأخته تبرأت منه؛ فأشفقت عليه، وجلست بجانبه مخاطباً له: أنا أخوك فلان من مصر فجلس يسب مصر.
فالشاهد: أن الخصومات في دين الله عز وجل لها ضريبة ويحكم ذلك نيتك في نصرة دين الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما إذا دخلت في طريق مغلق فإن هذا لا ينفعك بين يدي الله عز وج(16/16)
أقوال إبراهيم النخعي ومالك وعطاء وعمر بن عبد العزيز في كراهة التلون في دين الله
[وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التلون في الدين، وقال: كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله عز وجل.
وقال مالك: الداء العضال التنقل في الدين.
وقال كذلك: قال رجل: ما كنت لاعباً به فلا تلعبن بدينك].
يعني: إذا كنت ولا بد لاعباً فالعب بأي شيء ولا تلعب بالدين؛ لأن التنقل من دين إلى دين، ومن مذهب إلى مذهب، ومن ملة إلى ملة لعب يؤدي بك إلى الهلكة، ولا يؤدي بك إلى النجاة.
[وعن عطاء قال: الساقط يوالي من شاء].
أي: أن الإنسان الساقط هو الذي يوالي من شاء، وأما الإنسان المعتدل المحترم فإنه يوالي الله ورسوله، ويوالي أهل العلم، فالإنسان الساقط المنحط علمياً وأخلاقياً وقلبياً يوالي كل يوم من راقت وتاقت نفسه إليه.
[وعن إسحاق بن عيسى الطباع قال: كان مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نرد ما جاء به جبريل عليه السلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام!! وعن معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس يوماً من المسجد وهو متكئ على يديَّ -يعني: خرج من المسجد متكئاً على يد معن بن عيسى -قال: فلحقه رجل يقال له: أبو الجويرية كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئاً أكلمك به وأحاجك، وأخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني، قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، قال مالك: يا عبد الله! بعث الله محمداً بدين واحد، وأراك تتنقل من دين إلى دين؟! قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل].(16/17)
ضرورة التأهل قبل مناظرة أهل البدع
وكلمة (مناظرة) لم تكن على ألسنة السلف إلا عند نصرة دين الله عز وجل، فمثلاً رد الإمام أحمد بن حنبل على الجهمية، وكذلك رد الإمام الشافعي على بشر المريسي، وكتب الله تعالى النصرة لـ أحمد وللشافعي على رءوس البدعة والضلالة.
ورد عبد الله بن عمر على معبد الجهني قال: بئس المعبد هو، رد عليه فيما يتعلق بالقدر.
ومن العجب أن يأتي الأصاغر فيقولون: تعال نتجادل تعال نتناظر! نتناظر في ماذا؟ إنك لا تحمل شيئاً من العلم؟ إنك لا تعلم كيفية الوضوء ولا تصلي ولا تصوم ولا! فحالتك منحطة، وتقول: أناظر؟ من تناظر؟ والأدهى من ذلك أن يأتي جاهل يضرب بأطنابه في الجهل إلى عالم ويقول له: أناظرك!! ولا يقول: أتعلم، ولا يأتي للتعلم فيسأل تعلماً ولا يسأل تعنتاً.(16/18)
الشيخ الألباني ومناظرته لبعض الجهاديين
وفي ذات مرة أتى رجل إلى الشيخ الألباني وقال: أناظرك، فقال له الشيخ الألباني: أنا أناظرك في مسألة الجهاد، وكان هو إخوانياً، ثم تحول في السجن فصار تكفيرياً، فلما خرج من السجن تحول عن التكفير إلى جماعة الجهاد، وقال للشيخ: أناظرك، فالشيخ قال له: المناظرة ليست سهلة، فلما ألح عليه وأصر قبل الشيخ المناظرة، فقال للرجل: هات الذي عندك، قال له: حججي كيت وكيت وكيت، والشيخ قال له: وأسئلتي على هذه الأدلة كيت وكيت وكيت أجب؟ فلما سمع الأسئلة خنس كالشيطان، ثم قال للشيخ: لا بأس! دعني أراجع ذلك، قال له: أحسنت: تفضل راجع.
فأخذ الشريط، وكان يأخذ سؤالاً واحداً من أدلة الشيخ ويسجله على الشريط، ويسجل رده على الشيخ في غرفة النوم، وأخذ يرد في الظلام، لكن الجهال عندما يسمعون الرد يقولون: ما شاء الله! إن فلاناً هذا أعلم من الشيخ الألباني، وقد حصلت بينهما مناظرة، وعندما رد فلان على سؤال الشيخ لم يستطع الشيخ التعقيب.
وكيف يعقب الشيخ وهو ليس موجوداً؟! فهذا الرجل رد عليه في غرفته، وأنزل الشريط إلى السوق، لكن الله عز وجل يجعل الغلبة والتأييد والنصرة لدينه على لسان الشيخ الألباني، فإنه عندما علم أن هذه الأشرطة قد سجلت ودبرت له بليل قال: أنا أبرأ إلى الله عز وجل مما نسب إلي في الشريط الفلاني والفلاني، ثم دعا على الفاعل، وحصل انتقام الله عز وجل لأوليائه، فقد هرب هذا الفاعل من سجن في مصر إلى الأردن، فلما ضيق عليه في عمان أمنياً هرب إلى السعودية، ثم جيء به من السعودية عن طريق الأمن؛ فقضى أعواماً عديدة في سجون مصر مرة أخرى، ثم خرج قريباً من هذه الأيام، أو يبقى له عدة أشهر.
فالذي يعرف أسلوب الشيخ في المناظرات والخصومات يعلم أن هذه الردود لا يسكت عليها قط، فالذين كانوا يسكنون معه في البيت بعمان هم الذين نقلوا للشيخ هذه المناظرة، وما كانوا يتصورون أن يتجرأ هذا الرجل على نشر هذه المفتريات والأكذوبات، فلما أرسلها إلى مصر وانتشرت في مصر عثروا على بعض أشرطة للشيخ، ففضح الأمر وفضح الفاعل، وهذا باب من أبواب دفاع الله عز وجل عن المؤمنين كما وعد في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].(16/19)
دينك هو رأس مالك فاحرص عليه من كل ما يكدره
[قال الحسن: رأس مال المؤمن دينه، حيثما زال زال دينه، لا يخلفه في الرجال، ولا يؤتمن عليه الرجال].
يعني: احذر أن تؤمن رجلاً على دينك؛ لأنه رأس مالك، وتصور لو أن عندك مائة ألف جنيه هل يعقل أنك تتركه عند شخص بسهولة وتقول له: انتبه لهذا المال؟! لا يمكن، بل إن حزمة الجرجير لا تأتمن عليها أحد، فلماذا تعرض دينك لمن يريد أن ينهش فيه؟! فدينك أعز عليك من كل شيء.
[قال هشام بن حسان: جاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني -أي: أنا على يقين مما أنا عليه- اذهب وتكلم مع آخر شاك في دينه] وأما أنا فقد أبصرت ديني ولا حاجة لي في أن أجادل أحداً فيه.
[قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: كان ذلك الرجل إذا جاءه بعض هؤلاء أصحاب الأهواء قال: أما أنا فعلى بينة من ربي، وأما أنت فشاك؛ فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه.
وقال مالك: وقال ذلك الرجل: يلبِّسون على أنفسهم ثم يطلبون من يعرفهم] يعني: هم الذين أدخلوا أنفسهم في الأهواء ومضلات الفتن، ثم يطلبون من الناس أن يعرفوهم الطريق الحق.
[وقال رجل لـ مالك: لقد دخلت في هذه الأديان كلها، فلم أر شيئاً مستقيماً، فقال رجل: فأنا أخبرك لم ذلك؛ لأنك لا تتقي الله، فلو كنت تتقي الله جعل لك من أمرك مخرجاً].
أي: أن هذا التيه والحيرة التي تعيشها هي بسبب البعد عن تقوى الله عز وجل.(16/20)
من أراد الله به خيراً أغلق عنه باب الجدال
[وقال معروف: إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب الجدل، وإذا أراد بعبد شراً فتح عليه باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل].
وبعضهم طوال النهار ينصب المجلس، ويظل يجادل ويخاصم ويناظر، فإذا قلت له: لم لا تعمل؟ يقول لك: ليس هناك وقت! [وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: القرآن هو الإمام، فأما هذا المراء فما أدري ما هو] لا هو إمام ولا مأموم، إنما الإمام هو القرآن الكريم.(16/21)
من كان كثير المراء والجدال فقد تمت خسارته
قال: [وقال هلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً يعجب برأيه؛ فقد تمت خسارته].
أي: إذا رأيت الرجل مجادلاً ومماحلاً ومخاصماً ويصر على ذلك؛ فاعلم أن خسارته قريبة جداً، هذا إن لم يكن بالفعل قد خسر خسراناً مبيناً.
[وعن يزيد بن أبي حبيب قال: إذا كثر مراء القارئ فقد أحكم الخسارة.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً].
وهذا النص قد شرحناه شرحاً مستفيضاً في كتاب الإيمان من صحيح البخاري عندما تعرضنا له.(16/22)
الجلوس مع أهل الخصومات والجدال عدوى ينبغي الحذر منها
قال: [وقال محمد بن واسع: رأيت صفوان بن محرز رأى قوماً يتجادلون قريباً منه؛ فقام ينفض ثيابه ويقول: إنما أنتم جرب إنما أنتم جرب]؛ فخشي أن يصاب أو أن يعدى بعدواهم.
قال: [وعن أبي إدريس الخولاني قال: لئن أرى في المسجد ناراً تضطرم -أي: من شدتها- أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا تغير].(16/23)
إفساد أصحاب الرأي والجدل والبدع لبيوت الله تعالى
قال: [وعن يونس بن عبيد قال: قال لي الشعبي: ما مجلس أجلسه أحب إلي من المسجد؛ إذ كنا نجلس فيه إلى أبيك، ثم نتحول إلى الربيع بن خثيم فيقرئنا القرآن، حتى نشأ هؤلاء الصعافقة].
والصعفوق: هو التاجر الذي ليس معه مال، فيدخل السوق ليبيع ويشتري وليس معه مال! فهو يقول: لم يكن هناك مجلس أحب إلى قلبي من الجلوس في بيت من بيوت الله، كنا نجلس نسمع لأبيك، ثم نتحول إلى الربيع بن خثيم، ثم إلى الثالث والرابع نتعلم؛ حتى ظهر هؤلاء المفاليس الذين لا علم عندهم.
قال: [والله لأن أجلس على كناسة أحب إلي من أن أجلس إليهم].
يعني: لو جلست على مزبلة أحب إلي من أن أجلس في مسجد وأصحاب الكلام فيه.
[وقال صالح بن مسلم: كنت مع الشعبي، فلما حاذينا المسجد -أي: كنا بحذاء المسجد وقبالته- قال: لقد بغض إلي هؤلاء الآرائيون هذا المسجد].
أي: أصحاب: أرأيت لو كان كذا ماذا يكون؟ أو لو كان كذا ماذا يكون؟ وغير ذلك.
قال: [لقد بغض إلي هؤلاء الآرائيون هذا المسجد حتى صار أبغض إلي من كناسة داري].
فـ الشعبي لم يقل ذلك إلا لأن هؤلاء أفسدوا أمر الشريعة، فهو لا يكره بيوت الله عز وجل، وإنما كان سبب كراهته دخول هذه البيوت تلك البدع التي أنشئت وأحدثت فيها، فمثلاً أنت الآن تمر على مسجد فيه قبر، فهل تريد أن تدخل فيه؟ هل تحب ذلك؟ فوجود القبر في هذا المسجد هو الذي بغَّض إليك المسجد.
أو هناك إمام مبتدع يؤم الناس في مسجد، فلا شك أنك تبغض هذا المسجد لأجل هذا الإمام، وهكذا لا يبغض المسجد لكونه مسجداً، وإنما يبغض لما أحدثت فيه من البدع.
نسأل الله تعالى أن يسلمنا وإياكم من كل بدعة وسوء، وأن يجنبنا وإياكم كل معصية.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وكل ذلك عندنا.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(16/24)
شرح كتاب الإبانة - ذم المراء والخصومات في الدين والتحذير من أهل الكلام [2]
لقد حذر السلف الصالح من مجالسة ومخاصمة وجدال أهل الباطل والبدع والأهواء؛ وذلك طلباً لسلامة القلوب، وحفظ الدين من الشك والاضطراب، فلا يصح لمسلم أن يذهب إليهم ويجادلهم إلا من كان له الأهلية في ذلك، وكان خبيراً بشبههم ومداخلهم، والحجج والبينات في الرد عليهم.(17/1)
تابع باب ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام(17/2)
التحذير من الآرائيين
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن صالح بن مسلم قال: كنت مع الشعبي فلما حاذينا المسجد قال: لقد بغّض إلي هؤلاء الآرائيون هذا المسجد حتى صار أبغض إلي من كناسة داري.
زاد ابن الصباح -وهو أحد الرواة في الإسناد- قال: وفي المسجد يومئذ قوم رءوس أموالهم الكلام، والجدال، والخصومات، والمماحلات في دين الله عز وجل بغير هدى ولا كتاب منير.
وقال عبدة بن سليمان: نهاني أبو وائل -وهو شقيق بن سلمة الكوفي تلميذ ابن مسعود أن أجالس أصحاب: أرأيت أرأيت]، يعني: الآرائيين.
[ولـ عمر رضي الله عنه قول عظيم جداً فيهم قال: إياكم والآرائيين؛ فإنهم أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا].
فهناك أمران: إما اتباع وإما ابتداع، فالمتبع دائماً رأس ماله: قال الله، وقال رسوله، وأجمع أهل العلم، فهذا هو رأس مال الأثري أو السني أو المهتدي.
وأما رأس مال المبتدع: قال فلان وقال علان، من غير رجوع إلى سبيل من كتاب ولا سنة ولا إجماع لأهل العلم.
ومن الناس من يقدم الرأي على السنة، وأقصد بالسنة الأثر، والأثر هو الدليل سواء كان في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع.
ومن الناس من يعجبه رأيه، ويجعله حاكماً على النصوص، وحاكماً على الأدلة، وهذا في الأساس شيمة أهل البدعة.
[عن الشعبي قال: ما من كلمة أبغض إلي من أرأيت أرأيت].
وربما يحمل هذا القول على الفرض الزمني، يعني: إنسان يسأل سؤالاً ولما يقع بعد؛ ولذلك مر بنا أن كثيراً من السلف كانوا إذا سئلوا في مسألة قالوا: أثم هي؟ يعني: هل وقعت؟ فإن قال السائل: نعم، أجابه فيها، وإلا قال: أجلنا عنها حتى تكون، فإذا كانت أعاننا الله عز وجل عليها.
يعني: لا نجيب عن مسألة لم تقع بعد، وفي هذا كراهة توجيه الأسئلة لما ليس له واقع في حياة الناس، وكثير من الإخوة تجده يسأل الشيخ مثلاً أو المفسر فيقول: ما هو الحل الشرعي في مسألة كذا وكذا؟ فيجيب الشيخ، فيقول: هب أن كذا كان كذا وكذا، فما الحل؟ فيجيب على النحو الثاني، قال: ولكنها كانت كذا وكذا فما الحل؟ ففي مسألة واحدة يطرح الطالب عدة أسئلة، وكل واحد منها لم يكن له علاقة ولا واقع في حياة هذا السائل، وهذا بلا شك كله مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام، وأئمة الدين.(17/3)
الأخذ بالشرع وترك ما دونه
[قال مالك بن مغول: لقيت الشعبي فقال: ما حدثوك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ به، وما حدثوك عن غيره من هذه الآراء فألقه في الحش.
وفي رواية عند ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، وكذا الخطيب البغدادي قال: فبل عليه.
أي: ما حدثوك عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً وسنة فخذ به؛ لأنه لا يسعك إلا الأخذ به، وما حدثوك عن غير السنة وغير الدليل والنص فألقه في الحش؛ لأنه هو الحل معهم؛ لأن الرأي يتغير ويتجدد وينظر فيه بخلاف النص، فالنص قاض على غيره، وهو الآمر الحاكم المسيطر المهيمن والقاضي، وكل هذا من خصائص النص، وأقصد بالنص الأدلة من كتاب وسنة وإجماع، وأما دون هذه الأدلة فاعلم أن الرجل يقول القول اليوم ويرجع عنه غداً، وما الآراء إلا اجتهادات في مسائل من باب الفتوى، والمعلوم أن الحكم غير الفتوى، فالفتوى تتجدد وتتغير بتغير الزمان والمكان والحال والواقع، بخلاف الحكم فإنه ثابت لا يتغير.(17/4)
الاجتماع للاختصام في دين الله سبيل إلى الافتراء على الله
قال: [وقال ابن عباس: ما اجتمع رجلان يختصمان فافترقا حتى يفتريا على الله عز وجل].
أي: أنهما يتجادلان ويتماحلان بغير برهان ولا دليل، وليس قصدهم الوصول إلى الحق، وإنما هو التشبه بما يسمى في واقع الناس وحياتهم: المناظرات والمجادلات والمخاصمات، والنصرة للمذهب أو للرأي أو للشيخ الفلاني، أو للآباء والأجداد، أو للأعراف والعادات، فإذا كان هذا هو الهدف من المناظرة والمخاصمة فما اجتمع اثنان لأجل هذا إلا جرهم هذا الخلاف وهذه الخصومة إلى أن يفتري كل واحد منهما على الله عز وجل.(17/5)
حرمان صاحب البدعة من التوبة حتى يدع بدعته
قال: [وقال الحارث العكلي: أيما رجلين جلسا يختصمان فليعلما أنهما في أمر بدعة حتى يفترقا].
أي: فليعلما أنهما قائمان على البدعة حتى يفترقا.
ويكفيك تهديد النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة، والطبراني بإسناد حسن.
والمراد هنا البدعة الكبيرة في الدين، والبدعة في اعتقاد المسلمين، فمادام قائماً عليها فإن الله تعالى يحول بينه وبين التوبة، وهذا تهديد ووعيد كبير ينبغي الحذر منه.(17/6)
من علامات الساعة اختصام الناس في ربهم
قال: [وعن ابن الحنفية رحمه الله قال: لا تقوم الساعة حتى تكون خصومة الناس في ربهم].
وهذا قد وقع، فقد اختلفوا في الله عز وجل في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، وهذا هو الافتراق في الأمة الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وربما يكون قد أخبر به ليس على سبيل التهديد، وإنما على سبيل الخبر الحتمي الذي لابد أن يكون، وقد كان.
فقال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة).
فالمعلوم قطعاً أن هذه الفرق إنما خالفوا في أصل الدين، وأصل الدين متعلق بذات الله عز وجل، وبأسمائه وصفاته، وأفعاله، كما أنه متعلق كذلك بأصول الإسلام: من الشهادة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ومتعلق بأصول الإيمان: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكذلك متعلق بالغيبيات: من البعث والنشر، والحساب والجزاء، والصراط، والجنة والنار، وكل هذا الذي ذكرناه وغيره من أصول الإسلام، وقد وقع النزاع فيه بين هذه الفرق الضالة من ناحية، وبين أهل السنة والجماعة من ناحية أخرى.
فقول غير واحد من أهل العلم: إن الساعة لا تقوم حتى تكون خصومة الناس في ربهم، فالخصومة قد وقعت، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم قد بحث هذه القضية بحثاً مفيداً موسعاً وبيّن أن جميع الفرق الثنتين والسبعين كلها قد ظهرت، ومن شاء أن يقف على كلامه فإن ذلك موجود في كتاب مجموع الفتاوى، ومنهاج السنة.(17/7)
مجالسة أصحاب الكلام والخصومات سبيل إلى إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة
قال: [وعن أحمد بن جناب قال: سمعت عيسى بن يونس وقد سأله رجل عن الحور العين، فغضب غضباً شديداً وقال: مالكم ومجالسة أصحاب الكلام والخصومات، لقد شهدت من رجل -قد سماه- مجلساً وألجأه قومه إلى الكلام حتى قال: ما خلق الله جنة ولا ناراً، وددت أني ما شهدته].
يعني: أن هذا الرجل كان على الاستقامة، ولكنه أذن لنفسه أن يجالس، وأن يماحل، وأن يخاصم أهل البدع وليس أهلاً لهذا، فجره ذلك إلى أن أنكر أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار، وهذا دائماً مصير من تصدى لأهل البدع بالكلام دون أن يؤهل لذلك، ولذلك حذرنا علماء السلف من مخاصمات ومجادلات أهل البدع، مع أنهم هم قد تصدوا للمناظرة والمجادلة والخصومة، بل والتأصيل للرد على أهل البدع؛ وذلك لأنهم تأهلوا لذلك، ولا أدل على هذا الفعل من أن عمر رضي الله عنه أخذ صحيفة بعد إسلامه من صحف أهل الكتاب، فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام في يده غضب غضباً شديداً، وقال: (أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب!)، أي: أمتنطعون، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فلم يُر عمر بعد ذلك آخذاً بصحيفة من صحف أهل الكتاب حتى صار إماماً كبيراً من أئمة الدين، وخليفة من خلفاء المسلمين، فتصدى لأهل البدع تارة بالضرب، وتارة بالإقناع والمناظرة؛ لأنه صار أهلاً، وأما في أول إسلامه فلم يتأهل لذلك بعد، ولم يطلب العلم بعد، وهذه الحادثة -حادثة الإنكار عليه- مكية، وحادثة التصدي لأهل البدع كلها حوادث مدنية، وهذا يدل على أن عمر لما تأهل عرف أنه يجوز له ذلك دون الحالة الأولى.
ونحن نجد كثيراً من الشباب الذي لا يحسن أصول الإيمان والإسلام؛ يتصدى لأهل البدع بالمناظرة والمجادلة وغير ذلك، وسرعان ما ينقلب فيتبنى رأي الخصم، يعني: يشرب البدعة شرباً في قلبه، ويدافع عنها ويتبناها، ويعمل لأجلها، وربما مات على ذلك، والسبب أنه خالف نصيحة السلف رضي الله عنهم في كراهة التصدي لهؤلاء قبل التأهل.(17/8)
مجالسة أصحاب الأهواء ممرضة للقلوب وسبيل إلى ضرب القرآن بعضه ببعض
قال: [وقال ابن عباس: لا تجالسوا أصحاب الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب]، أي: تسبب مرض القلب.
[وقال أبو عبد الله الملائي: لا تجالسوا أصحاب الأهواء؛ فإنهم يمرضون القلوب.
وقال مهدي بن ميمون: سمعت محمد بن سيرين وماراه رجل، ففطن له -ومحمد بن سيرين إمام من أئمة الدين، سيد من سادات التابعين، وهو تلميذ أنس بن مالك - فقال: إني قد أعلم ما تريد، ولو أردتَّ أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء].
فـ ابن سيرين نزه نفسه عن أن يماري وأن يخاصم أهل الأهواء مع قدرته على ذلك، ولكنه أنكر ذلك وقال: لو أنك تريد أن أخاصمك ما فعلت، فكأن ابن سيرين أراد أن يقول: لست مني ولست منك، فلا أهل الأهواء من أهل السنة، ولا أهل السنة كذلك من أهل الأهواء.
[وقال عون بن عبد الله: لا تفاتح أصحاب الأهواء في شيء؛ فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض].
وهذا مفتاح من مفاتيح أهل البدع وأهل الضلال؛ أنهم يأتون بآية، ثم يأتون بآية أخرى يظنون أنها معارضة للآية الأولى، ولو استدللت عليهم بنص من الكتاب أو السنة أتوك بنصوص ظاهرها التعارض، وهذا قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم ذات يوم، فقد جلسوا في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام يجادلون في كتاب الله تعالى، فهذا يرد بآية وذاك يرد بآيتين، فسمعهم النبي عليه الصلاة والسلام من داخل غرفة عائشة؛ فخرج عليهم فقال: (أتضربون القرآن بعضه ببعض وأنا بين ظهرانيكم؟!) يعني: هل هذا يكون منكم، ولا زلت أنا حي بينكم؟! فأنكر النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون هذا منهم، فاستغفروا ربهم، واعتذروا للنبي عليه الصلاة والسلام.
فالمعلوم أن هذه الخصلة من شيم أهل البدع لا من شيم الصالحين.
[وكان سليمان بن يسار إذا سمع في مجلس مراء قام وانصرف عنه]؛ لأنه لا ينبغي لصاحب سنة أو صاحب علم ودين أن يجلس في مجلس كله لغط وجهالة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من قوم جلسوا مجلساً، ثم لم يذكروا الله تعالى فيه إلا كان عليهم ترة يوم القيامة) والترة: هي الحسرة والندامة، فما من قوم جلسوا مجلساً إلا وجب عليهم أن يذكروا الله تعالى، وذكر الله تعالى لابد أن يقع في محل الرضا، لا في محل السخط والكراهية، فالجدال والخصومة والمماحلة والتفكه بكلام لا طائل تحته، ولا فائدة من ورائه؛ لا علاقة له بمرضاة الله عز وجل، والمجلس الذي انعقد على هذا النحو إنما هو وبال على أصحابه إلا أن يستغفروا الله تعالى فيه، ويتوبوا إليه منه، ويندموا على ما فعلوا، ثم يذكروا الله تعالى.(17/9)
وجوب الإيمان بالقدر والتحذير من مجالسة المكذبين به
قال: [وعن جبير بن نفير أنه كان يقول: إن التكذيب بالقدر شرك].
وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، وباب القدر من أعظم أبواب الإيمان، مع أنه من أيسر أبواب الإيمان، ولكن زلت أقدام كثير من الناس باب القدر.
قال: [إن التكذيب بالقدر شرك فتح على أهل الضلالة، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم].
أي: فلا تمازحوهم ولا تجادلوهم في هذا الباب على جهة الخصوص؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا ذكر القدر أمسكوا، أي: آمنوا به دون أن يخوضوا فيه، والسلف كانوا إذا ذكر أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أمسكوا عما شجر ووقع بينهم من مشاحنات وخلافات؛ فهم بشر، وكذلك إذا ذكرت النجوم أمسكوا ولم يتكلموا، وعلموا أن النجوم إنما هي خلق من خلق الله عز وجل.(17/10)
إحداث أهل السنة لبعض الألفاظ التي لم تكن عند السلف عندما اضطروا إليها للرد على أهل البدع
قال: [وعن ابن عباس قال: لا تجادلوا المكذبين بالقدر فيجري شركهم على ألسنتكم].
أي: من كثرة مجادلتهم ومناظرتهم ربما يجري على ألسنتكم بعض بدعهم، أو بعض كلامهم دون أن تشعروا بذلك.
وقد تجد في كتب السنة بعض الكلمات التي أمسك عنها السلف، ولم يتكلموا بها قط، واضطر أهل السنة اضطراراً إلى أن يقولوا بهذه الكلمات وهذه المصطلحات؛ للبيان.
وأضرب لذلك مثلاً: لما قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق، فإن السلف ما قالوا: مخلوق ولا غير مخلوق، وإنما قالوا: القرآن كلام الله، ولكن اضطر أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره من أهل العلم إلى أن يزيدوا في معتقدهم ما لم يأت عن السلف، فقالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلفظة: (القرآن كلام الله) هو كلام السلف الذي ورد إلى أهل القرن الثالث الهجري: قرن المعتزلة، وقرن أحمد بن حنبل وقرن الشافعي وغيرهم.
فقال الإمام أحمد وغيره: القرآن كلام الله غير مخلوق، فزادوا مصطلح (غير مخلوق)؛ للرد على من يقول بأنه مخلوق، وأما أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة والتابعين فلم يقولوا: إنه مخلوق أو غير مخلوق؛ وذلك لأن الأمر قد استقر عندهم: أن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، فلابد أن تكون الصفات مخلوقة، ولذلك لم يكن بهم حاجة إلى أن يقولوا: مخلوق أو غير مخلوق، فلما دعت الحاجة في الرد على أهل الضلال والبدعة من المعتزلة وغيرهم لما قالوا: إنه كلام الله لكنه مخلوق؛ كان من الواجب على أهل السنة أن يقولوا: هو كلام الله غير مخلوق.(17/11)
ضرورة التأهل عند الرد على أهل البدع ومناظرتهم
إن تحذير أهل العلم من مجادلة أهل البدع أمر عظيم جداً، وهم بهذه المصالح الواجب الأخذ بها إنما يحافظون على ألا تزل ألسنتنا وأقدامنا في مجاري ومهاوي أهل البدع، وهذا أمر لابد أن يتفطن له الشباب.
ومنذ ثلاثة أشهر أخذ أحد الإخوة بعض الكتب والرسائل، وذهب إلى مدينة نصر يناظر ما يسمون أنفسهم بالقرآنيين، فلقيته في الطريق؛ فسألته عن وجهته، وعما إذا كان يمكنني أن أخدمه بأن أدخله إلى المكان الذي يريد أن يذهب إليه، فقال: إنما أنا ذاهب لمجادلة ومخاصمة فلان وفلان، قلت: لمَ؟ قال: لأنهم يقولون بالقرآن فقط، وقد طبعوا كتاباً، وناولني نسخة من هذا الكتاب، وكان معه عدة كتب من كتبهم، وقال: الحمد لله قد ألممت بأفكارهم وكتبهم ومصادرهم وغير ذلك، وسينعقد بعد قليل المجلس لمناظرتهم، فنصحته مراراً ورجوته تكراراً، فأبى إلا أن يذهب فذهب، وإذا بهذا الرجل بعد أن رجع يقول: والله لقد ألقوا علي شبهات لم تكن في هذه الكتب، ولا في هذا المقرر، وبالتالي أجلنا هذا المجلس لبحث هذه المسائل، والرد عليها في المستقبل.
فقلت: إنهم يفعلون في كل مجلس بك مثلما فعلوا بك في المجلس السابق، وفي كل مرة ستضطر إلى الاعتذار عن الجواب؛ لأنك لا علم عندك.
وعلى أية حال هذه سمة من سمات أهل البدع؛ أنهم يُعنَون ويهتمون بمسألة واحدة، فيفتون على أصولها وعلى مدلولها وعلى أدلتها، ولذلك يتفوقون فيها أيما تفوق، فيجمعون الشبهات ويطرحونها على أهل الحق؛ فيقع فيها من لم يكن من أهل الحق محصناً بالعلم والإيمان.
ولا تزال المناظرة قائمة بين هذا الرجل -وهو من أهل العلم أحسبه كذلك- لكنه لم يتأهل لمناظرة هؤلاء.
فلابد أن تعلموا أن سيرة السلف كلها قاضية وشاهدة بأنه لم يتصد لأهل البدع أحد قط إلا من يشار إليه بالبنان في العلم، فلو أنك أتيت مثلاً على القرن الأول لوجدت أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أرسل للخوارج من يناظرهم أرسل ابن عباس، وابن عباس معلوم قدره في الدين، فهو حبر الأمة، فلم اختار ابن عباس مع أن جيشه كان فيه آلاف من الصحابة والتابعين؟
الجواب
لأنه كان فقيهاً، وانظر إلى الثمرة التي رجع بها ابن عباس: تاب على يديه أربعة آلاف شخص.
وهذا قد حدث في زمن عمر بن عبد العزيز كذلك، فـ عمر اختار أن يناظر هو بنفسه أهل البدع، وأنتم تعلمون أن عمر بن عبد العزيز كان من كبار أهل العلم، وحتى بعد الخلافة كان مشهوراً بالرواية والتحديث، فهو من أهل العلم الأفذاذ، وكان يتصدى بنفسه لأهل البدع.
فالمناظرة مهمة أهل العلم الأفذاذ الذين يرجع إليهم في الفتوى في زمنهم، ويشار إليهم بالبنان، فكان علماء السلف مع تأدبهم يناظرون، إلا أنهم كانوا يتهمون أنفسهم.
فالذي ناظر المعتزلة هو أحمد بن حنبل، والذي ناظر بشراً المريسي هو الإمام الشافعي وهؤلاء هم رءوس البدع، وقد تصدى لهم رءوس الهدى والسنة في أزمنتهم، وأما أنت يا أخي المسلم! فما زلت على أول عتبة من عتبات طلب العلم؛ فينبغي الاهتداء بالسلف حتى تصل إلى مرادك في طلب العلم؛ ليصلح علمك ويصلح شأنك، وأما إن كنت تتصور بأنك إنسان ذو لحية طويلة، ولابس قميصاً وغير ذلك، وأنك ماهر بكل شيء؛ فهذا بلا شك باب عظيم جداً من أبواب الكبر والغرور.
قال: عن ابن عباس أنه قال: لا تجادلوا المكذبين بالقدر؛ فيجري شركهم على أيديكم.(17/12)
أحوال صحابة رسول الله والتابعين إذا ذكر لهم شيء من القدر أو الجدال والخصومة
قال: [وقال أبو بلال الأشعري: سألت أنس بن مالك: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرون القدر؟ قال: إنه لم يكن شيء أكره إليهم من الخصومات، وكانوا إذا ذكر لهم شيء من ذلك نفضوا أرديتهم وانصرفوا].
والأردية: جمع رداء.
وكان من المحدثين من إذا سئل عن راوٍ لم يجب، كـ يحيى بن معين وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم من أهل العلم النقاد، فـ أحمد بن حنبل يضرب كفاًّ على كف، والبخاري لما يسأل عن راو سواء كان كذاباً أو وضاعاً يتحول إلى الناحية الأخرى؛ إعراضاً.
وكان يحيى بن معين إذا سئل عن أحد نفض ثوبه ثم قام، وقال: أخشى أن تنزل من السماء صاعقة، وأحرى أن تنزل الصاعقة الآن بذكر هؤلاء الكذابين الوضاعين الذين يفترون على الله الكذب وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام.
وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا ذكر القدر وغيره مما هو محل للجدال والمناظرة ينفضون أرديتهم، ثم يقومون فيسرعون؛ مخافة أن تنزل عليهم عقوبة من السماء.
[وقال إبراهيم النخعي: ما خاصمت قط]، يعني: لم يتعرض يوماً للجدال، وإذا تعرض له تركه وانصرف.
[وقال أهل العلم: ما خاصم وَرِع قط].
وكل هذا الكلام محمول على الجدال بالباطل، وأما الجدال لإظهار الحق فلا حرج فيه، كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، إذاً: فهناك جدال مذموم، وجدال ممدوح.
وكل كلامنا هنا في جدال أصحاب أرأيت أرأيت، والآرائيون هم الذين لا يعنون بالسنة والأثر، وإنما يعتمدون على عقولهم، ويقدمون عقولهم على النص والدليل، فهؤلاء الجدال معهم هو الممحق للبركة، والممرض للقلوب وغيرها.
[وقال جعفر بن محمد: إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق.
وقال وهب: دع المراء؛ فإنك لا تعجز أحد رجلين: رجل هو أعلم منك، فكيف تماري وتجادل من هو أعلم منك؟! ورجل أنت أعلم منه فكيف تماري وتجادل من أنت أعلم منه ولا يطيعك؟! فاقطع ذلك عنه].
فأنت في الجدال والخصومة في كل الأحوال مخطئ؛ لأنك إما أن تجادل من هو أعلم منك وأنت جاهل، أو أنك تجادل من أنت أعلم منه وهو أقل منك علماً ولا يطيعك، ففي كل الأحوال أنت لا تطيع ولا تطاع، فلابد أن يئول الأمر إلى الخسار والبوار.(17/13)
خوف عمر على الأمة من المنافق عليم اللسان
[وقدم الأحنف بن قيس على عمر في وفد عظيم؛ فسرح عمر الوفد واستبقى الأحنف].
وكان الأحنف هذا ذكياً عاقلاً فطناً، وكان ذا لسان يقطر عسلاً، حتى شهد له الكثير منذ طفولته باللباقة، وحسن صياغة الكلام وصناعته على أحسن وجه.
وكان يهضم نفسه دائماً، ويقدم مصلحة الجماعة على مصلحته الفردية، فلما قدم في الوفد على عمر [سرح عمر الوفد -أي: بعد قضاء حاجته- واستبقى الأحنف عاماً كاملاً بالمدينة.
ثم قال له: يا أحنف! أتدري لم أبقيتك؟ قال: لا.
قال: لأني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من كل منافق عليم اللسان، ولست منهم يا أحنف! فالحق بالوفد].
فـ عمر رضي الله عنه خشي أن يفتن الأحنف الناس بخفة لسانه، وصياغة ألفاظه؛ فاستبقاه عاماً كاملاً حتى يشعر الناس بعد مرور عام بمفارقتهم للأحنف، وأنه يمكن أن يحيوا ويعيشوا بدونه.(17/14)
توضيح قولهم: إن الدعوة لا تعلق لها بشخص معين
ولذلك نجد كثيراً من أبناء الصحوة في كل زمان يقولون: الدعوة لا تعلق لها بشخص معين، وهذا الكلام من جهة الموضوع كلام جميل، لكن واقع الناس غير ذلك، فصحيح أن الدعوة لا علاقة لها بالأشخاص، وأقصد بالأشخاص دعاتها وحملة رايتها، لكن واقع الناس غير ذلك، فهم يقولون: نحن لا نعبد الأشخاص، فالشيخ الفلاني والعالم الفلاني والداعية الفلاني والواعظ الفلاني جنود مثلي، والدعوة كانت قائمة قبلهم بغيرهم، وستقوم من بعدهم بغيرهم أيضاً.
إذاً: فالأشخاص يذهبون ويأتون والدعوة باقية وقائمة، لكن واقع الناس الآن أنهم يتعلقون تعلقاً تاماً بالأشخاص والدعاة، حتى سمعنا أكثر من واحد يقول: لو مات الشيخ الألباني ماذا سنعمل من بعده؟ ولو مات الشيخ ابن باز ماذا سنعمل من بعده؟ ولما مرض الشيخ ابن عثيمين رحمه الله وانتقل إلى مدينة عنيزة للعلاج قالوا: افرضوا أن الشيخ ابن عثيمين مات؛ ماذا ستعمل الأمة من بعده؟ فالله تعالى يبعث فيها من هو خير من الألباني، وخير من ابن باز، وخير من ابن عثيمين، فهؤلاء الثلاثة كانوا تلاميذ لمن هم خير منهم، كانوا تلاميذ لأئمة فضلاء حملوا راية الدعوة إلى الله عز وجل حملاً أعظم مما حملوه هؤلاء، فهؤلاء كانوا في القرن الرابع أو في القرن الخامس عشر هجري، فأين كانت الأمة على مدار أربعة عشر قرناً؟ هل كان فيها ابن باز والألباني وابن عثيمين؟ كان فيها هؤلاء وأعظم وأفضل من هؤلاء بعدة مرات.
والأمر قد تعقله وفهمه عبد المطلب، فقال: أما البيت فله رب يحميه، وما الذي يمنعك أن تقول: أما الدين فهو من الله عز وجل.
إن جعل الدعوة معلقة بشخص يجعلك تقبل منه الغث والسمين، والحق والباطل، والخير والشر؛ لأنك متعلق بهذا الشخص لا غيره، ولكنك لو جعلت الحق هو الذي أمامك لأفلحت وما خسرت، فكل هؤلاء يقاسون ولا يقاس بهم، يقاسون بالحق ولا يقاس الحق بهم.
فبلاء عظيم جداً أن تتعلق بالأشخاص، وهذا بلا شك ليس فيه أدنى مطعن في أحد، لكنه تصحيح للصحوة، وتصحيح للمسار والفكر؛ لأن تعلقك بالشخص يجعلك تنصدم أيما انصدام إذا مات، أو استبعد، أو سافر، أو مرض، ولكن الأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلف لي خيراً منها)، وهل نسيتم حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم)؟ يعني: أن مهمتهم أنهم مبينون للحق في الأمة إلى قيام الساعة، فهذه الفئة وهذه الطائفة لا يمكن أن تزول إلى يوم القيامة.
فكثير من الإخوة في مساجد معينة لما مات الشيخ الفلاني ترك المسجد بالمرة، ويقول: كنا نذهب من أجل فلان، والآن قد مات، فإلى أين نذهب؟ فنقول: اذهب إلى أي مكان، فلا يزال في الأرض منار للعلم والحق.
والأعجب من ذلك أن الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في الكويت استل من كتاب لـ ابن عربي ثلاثين ورقة، واستل من كتاب لـ ابن تيمية ثلاثين ورقة، وعقد مجلساً لاختبار وامتحان الإخوة في الكويت، فقال لهم: أريد أن أعرف أي المجموعتين أحق شرعاً؟ وسأل سؤالاً: ما تقولون في ابن عربي؟ ولابد أنك تجد من يقول: هو كافر، ومن يقول: وفاسق، أو مجرم، فهذه الأشياء يحفظها طلاب العلم ويعرفونها، وقد تربوا عليها، مع أنهم لم يقرءوا مرة ترجمة لـ ابن عربي، ويحفظون أيضاً أن ابن تيمية هو شيخ الإسلام، ولا شك أنه كذلك، وابن تيمية هو رافع راية التوحيد، ومنارة السنة وو وإلى آخره.
فكل كلام يأتي من الشيخ ابن تيمية فهو حق، وكل كلام يأتي من قبل ابن عربي فهو باطل، حتى وإن تلا كتاب الله غير مقبول منه؛ لأنه من أهل البدع! وبالفعل أخبرنا الشيخ أن 60 % من الممتحنين قالوا بأن الكلام الذي قاله ابن عربي -وهم لا يعملون أنه ابن عربي - كلام جميل وحق، فلما كان توزيع الجوائز قال لهم: هل تعرفون الورقة هذه لمن؟ قالوا: لمن؟ قال: هذا لـ ابن عربي، فالإخوة تفاجئوا، وتمنوا أنهم لم يقولوا ذلك.
فالحق يقبل من كل من أتى به، والباطل يرد على كل من جاء به، فالحق حتى وإن أتى من قبل كافر كفراً أصلياًّ وليس مرتداً فقط لابد أن يقبل.
فالواحد منا قد يسمع لشيخ واحد، وليس عنده أي استعداد ليتحول عنه، وربما يكون محقاً في ذلك من باب الفائدة أو من باب قلة من يستفيد منهم على الصعيد الآخر؛ لكن في نهاية الأمر لا يصلح أن يكون لك شيخ واحد، والأمر كما قال أحدهم: من كان له شيخ واحد كان كمن له امرأة واحدة، إذا حاضت حاض معها، وإذا نفست نفس معها، فلابد من تعدد المشايخ.
ويقول ابن المعتز: لا تعلم خطأ شيخك حتى تسمع من غيره.
فلا تعلم خطأ ش(17/15)
خوف عمر بن الخطاب على أمة محمد من جدال المنافق العليم بالقرآن
قال: [عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واواً ولا ألفاً] أي: مثل واحد من الذين حفظوا القرآن، يأتيه من أوله إلى آخره لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً؛ لأنه حافظ متقن، وهل هناك أحفظ لكتاب الله، وأقوم لكتاب الله من الخوارج؟ فالخوارج معروف عنهم أنهم يتقنون حفظ القرآن، ويقومون الليل، وينتصبون إلى صلاة الفجر، وهم أكثر الناس عبادة، فعبادتهم هذه ليست دليلاً على صلاحهم، ولذلك حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم).
قال: [إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واواً ولا ألفاً، يجادل الناس أنه أجدل منهم؛ ليضلهم عن الهدى، وزلة عالم، وأئمة مضلون].(17/16)
الورع يحمل صاحبه على ألا يخوض في الشبهات
قال: [وعن الضحاك بن مزاحم قال: كان أولهم يتعلمون الورع، أما إنه سيأتي عليكم زمان يتعلمون فيه الكلام].
يعني: السلف كانوا أول شيء يتعلمون الورع، والورع يحمل صاحبه على ألا يخوض في المشتبهات، وإنما يؤمن بها ويسلم، بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنهم لا يجادلون إلا في المتشابهات، ويخوضون فيها أخذاً ورداً، ليس لقصد الوصول إلى الحق فيه، وإنما لقصد إيقاع الشكوك والأوهام في قلوب عامة أهل السنة.(17/17)
تفسير مجاهد لقوله تعالى: (لا حجة بيننا وبينكم)
[وعن مجاهد في قول الله تعالى: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى:15] أي: لا خصومة بيننا وبينكم] أي: لا جدال ولا مناقشة بيننا وبينكم، وكأنه أراد أن يقول: لكم دينكم ولي دين.(17/18)
حكم جدال من يقبل الحق ويرجع عن الباطل
قال: [وعن ابن سيرين: أنه كان ينهى عن الجدال، إلا رجل إن كلمته يرجع].
يعني: يغلب على ظنك أن هذا الرجل يريد الحق، ويحرص عليه، ويتحراه ويبحث عنه شرقاً وغرباً، فإذا اجتمع إلى ذلك حسن ظن بهذا فجادله، وأما أن تجادل إنساناً ليس يطلب الحق، وإنما يغلب على الظن -لمناظرات كثيرة سبقت وقرائن كثيرة سبقت- أنه لا يناظر من أجل طلب الحق، وإنما يناظر لأجل أن يناظر، ويضل الخصم ويجره إليه؛ فيحرم عليك الدخول في هذا الجدال.(17/19)
الجدال والمراء من أسباب القطيعة وإفساد ذات البين
قال: [وعن عبد الله بن الحسن قال: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه -يعني: أقل مفسدة تأتي من قبله- أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة].
فكأنه يقول لك: احذر أن تخاصم أو تجادل؛ لأن الخصومة والمجادلة تفسد الصحبة القديمة، فإذا كان الجدل والمناظرة والمماحلة بالباطل يقدم على الصديق، فهذا يريد أن يغلب وينتصر لنفسه، وهذا جل أمره أن تكون له دائماً السيادة والريادة والغلبة على صديقه، فلابد أن يتأثر الصديقان بهذا الأمر، فإنه يعز على الصديق أن يكون في كل مرة مغلوباً، فالجدال يحل عقدة الصداقة القديمة، والإنسان يحرص على أن يكون غالباً لا مغلوباً، مع أن هذا يخالف ما كان عليه السلف.
فـ الشافعي رضي الله عنه ورحمه يقول: ما ناظرت أحداً قط إلا تمنيت أن يظهر الله تعالى الحق على لسانه.
أرأيتم الأدب؟! والشافعي صادق في هذا، فالسلف يقولون ذلك بصدق، كما قال بعضهم: لو كانت للمعاصي رائحة لما استطاع أحد أن يجالسني.
فعندما يقول هذا الكلام مثل الحسن البصري فإن هذا على سبيل الورع؛ فكان يعلم الأمة في زمانه الورع، وكان لا يؤخذ عليه مأخذة واحدة، فكل الذين ترجموا له لم يختلف أحد منهم في صلاحه وورعه وتقواه، لكن الآن من الناس من يجاهر الله بالمعاصي، وكلما تقلب صفحة تجدها أشد سواداً من التي قبلها، فقول أحدهم: (لو كانت للمعاصي رائحة ما استطاع) قول صحيح، لكنه لا يقول ذلك على سبيل الورع، وإنما يقول ذلك مجاهرة، بخلاف أن يقول هذا الكلام ابن سيرين أو الحسن البصري أو قيس بن أبي حازم أو عبد الله بن المبارك أو غيرهم فهؤلاء يقولون هذا الكلام ورعاً وتأدباً بين يدي الله عز وجل.(17/20)
المراء والجدال بين التقصير والمبالغة
قال: [وقيل لـ عبد الله بن الحسن: ما لك لا تماري إذا جلست؟ -يعني: حينما تجلس معنا في المجلس لا تتكلم ولا تناظر ولا تجادل؟ قال: ما تصنع بأمر إن بالغت فيه أثمت، وإن قصرت فيه خصمت].
يعني: لا خير فيما تصنعون؛ لأنه يدور بين أمرين: إما أن تنتصر، وهذا الذي يكلفك مزيداً من الخصومة التي يترتب عليها مزيد من الإثم، وإن قصرت فالخصم سيغلبك، وكلاهما شر، فأحدهما شر عند الله، والثاني شر عند الخلق.(17/21)
الجدال والمخاصمة سبب لقلة المروءة، وذهاب الكرامة
قال: [وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلت مروءته] مع العلم أن هذا أعرابي بدوي، لكنه رجل، يقول: من لاحى -يعني: من ناظر وجادل وخاصم- الرجال قلت مروءته [وهانت كرامته، ومن أكثر من شيء عرف به].
وأذكر بهذه المناسبة أن سفيان الثوري كان يجلس إلى رابعة العدوية، ورابعة العدوية شخصية حقيقية ترجم لها الذهبي في سير أعلام النبلاء، وهو من أهل العلم النقاد، فكان سفيان الثوري يكثر أن يذهب إليها، وإذا ذهب إليها ذم الدنيا وأهلها بين يدي رابعة، فقالت: يا سفيان! من أكثر من ذكر شيء أحبه.
فـ رابعة هذه معروفة بالزهد، وعندما يجلس معها سفيان يظل يذم الدنيا وأهلها، فقالت له: من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فأنت كلما تأتي تتكلم عن الدنيا وأهلها فقط، وهذا دليل على أنك تحب الدنيا، فمن أكثر من ذكر شيء فهو أحب الأشياء إليه.(17/22)
تعليق الإمام ابن بطة على ما تقدم من ذم المراء والخصومات في الدين
قال الشيخ: [فاعلم يا أخي! أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة، والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهو يتعلم، ودراية يتفكه بها، ولذة يستراح إليها، ومهارشة العقول، وتذريب اللسان بمحق الأديان، واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر، والمغالطة في القياس، وبهت في المقاولة، وتكذيب الآثار، وتسفيه أحلام الأبرار، ومكابرة لنص التنزيل، وتهاون بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة، وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة، وتوغير للقلوب، وتوليد للشحناء في النفوس.
عصمنا الله وإياكم من ذلك، وأعاذنا من مجالسة أهل الأهواء].
كل هذه البلايا بسبب الجدال بالباطل.
[وقال ابن أبي الزناد: أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس -يعني: من السلف- يعيبون أهل الجدل والتنقيب، والأخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، وحذرونا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبرونا أنهم على ضلال، وتحريف لتأويل كتاب الله، وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم، وما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كره المسائل وعابها، وعاب التنقيب عن الأمور وزجر عن ذلك، وحذره المسلمين في غير موضع، حتى كان من قوله عليه الصلاة والسلام في كراهية ذلك أن قال: (ذورني ما تركتكم)] يعني: إذا أخفيت شيئاً عنكم، أو لم أتكلم في اتباعه؛ فلا يجادلني ويخاصمني فيه أحد منكم.
قال: [(ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم)] يعني: لابد أن تعلم أن الجدال مهلكة، وأن الخصومة مهلكة.
قال: [(فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم -يقصد بني إسرائيل- فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) اجتنبوه كله؛ لأن النهي داخل في مقدور كل إنسان.
قال: [(وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)].
وأنتم تعلمون ذلك الرجل الذي قام وقال: (يا رسول الله! الحج كل عام؟ فسكت، فقام فسأل: الحج كل عام؟ فسكت، فقام فسأل: الحج كل عام؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت -أي: لو قلت: الحج كل عام لكان واجباً على كل مسلم أن يحج في كل عام- ولما استطعتم).
[فأي: امرئ أكب على التنقيب لم يعقل من هذا، ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءاً من مائة جزء مما بلغوا اليوم، فهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم؟ فهم كل يوم على دين ضلالة وشبهة جديدة، لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين، وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأثر الذي حضهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(17/23)
الأسئلة(17/24)
حكم إلزام الناس أنفسهم بأخذ الهدايا للأبناء والبنات في شهري رجب ورمضان
السؤال
هل هناك نهي عما اعتاده عامة الناس من الزيارات المحملة بالهدايا لأبنائهم وبناتهم في المناسبات كصيام رجب أو رمضان، وإن كان هناك نهي فهل هذا النهي منوط بتعظيم يوم لم يعظمه الله تعالى ورسوله، أم أنه يوم من أيام الإسلام؟
الجواب
لا شك أن هذا من البدع، وهذا معروف في الريف المصري بالذات، يقولون: هذا موسم، فأول رجب عندهم موسم، يعني: يلزم الأولياء أو الآباء أن يأخذوا هدايا عظيمة جداً ويهدونها لأبنائهم، وإن لم يفعلوا كانوا محل تعيير.
وهذا كله ليس عليه دليل، وأظن أنه قد أخذ شكل العبادة الملزمة للناس.(17/25)
الحكم على حديث (من قرأ قل هو الله أحد في يوم إحدى عشرة مرة)
السؤال
( من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في يوم إحدى عشرة مرة بنى الله له بيتاً في الجنة) هل هذا حديث صحيح أم لا؟
الجواب
هذا حديث غير صحيح.(17/26)
حكم سكن الرجل بزوجته في بيت يشترك معه فيه أخوه وزوجته
السؤال
لي أخت جاء لها رجل ليتزوجها، وهو عنده شقة شركة بينه وبين أخيه، حيث يسكن معه أخوه، وأخوه هذا متزوج، فهل يجوز هذا مع ملاحظة أن الشقة واسعة، لكن قد يقع شيء من الرؤية على الأزواج والمحارم في هذه الحالة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
إن الإسلام قد شرط أن يكون لكل زوجة مسكن يخصها، وأن يكون هذا المسكن مسكناً صحياًّ مناسباً للحياة من دخول الشمس ودخول الهواء وغير ذلك.
فإذا كان هناك رجلان متزوجين من امرأتين، وكلاهما يسكن في شقة واحدة، والحمام مشترك، وبالتالي سيكون المطبخ مشتركاً؛ فلابد أن يقع محظور من اختلاط، ونظر، ومباشرة، وأنتم تعلمون أن الإسلام من أسمى أهدافه أنه يدفع المفسدة ويجلب المصلحة، وهذا الاختلاط جلب للمفسدة ودفع للمصلحة، وهذا على غير أصل الشرع في بناء وإصلاح المجتمع الإسلامي؛ ولذلك لا يجوز للإنسان أن يسكن بزوجته في بيت فيه رجل آخر.(17/27)
حكم تدريس الرجال للنساء في حلقات القرآن
السؤال
هل يجوز عمل حلقة لتعليم القرآن للنساء، مع العلم بأن المعلم سوف يجلس بعيداً عنهن بحوالي مترين؟
الجواب
الحقيقة أن مساجد الجمعية الشرعية ابتليت بهذا، وأنا أريد أن أعرف سر شرط كشف المرأة وجهها أمام الشيخ، أو أن يجعل بين الشيخ وبين المتعلمة ستار، فلابد أنه سينظر إلى وجهها، وينظر إلى شكلية مخارج الحروف حين تخرج من لسانها؛ وكل ذلك بحجة أنه لا يوجد دليل صريح على مشروعية تغطية الوجه، مع أن أعظمها صراحة الأمر بغض البصر، وبالتأكيد هو لن يغض بصره.
وقد تأتي شبهة أخرى إذ يقول: إن هذا الثوب كثيف، فنقول: نعم، كثيف، لكنه جميل، فهذا الرجل الجميل تفتن المرأة به، وهل تتصورون أن الفتنة متعلقة بالعين فقط؟ بل إن فتنة الصوت أعظم من فتنة الوجه، فالرجل يسمع على التلفون مثلاً امرأة صوتها ناعم، وكذلك هي تتكلف الرقة في كلامها وتخضع في قولها، فلا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الفتنة لا علاقة له بالنظر، فأرجو أن يدرس النساء النساء فقط.
وأظن أن هذا إن شاء الله متوفر في كل حلقة، وفي كل مكان، وهذا من رحمة الله عز وجل بهن أنه جعل في كل حي أختاً حافظة للقرآن الكريم، وعندها شيء من السنن والفقه، فلا بأس أن يجتمع عليها النساء ويدرسن عندها.
فالأصل من الأخت أن تحفظ من القرآن، ومن السنة، ومن الفقه ما ينفعها في حياتها؛ لأنه مع أول مولود تنتهي أسطورة التعليم، وإذا أصرت على مواصلة تعليمها على هذا النحو فلابد أن يكون على حساب بيتها، وعلى حساب زوجها، وعلى حساب أولادها، ولست أقول: صدوا الأخوات عن طلب العلم، لا، لكنني أقول: تأخذ الأخت من العلم قدر ما يقيم لها دينها، وهذا يصلح على يد امرأة لا على يد الرجل، والله تعالى أعلم.(17/28)
حكم قراءة الضاد ظاءً في قوله تعالى (ولا الضالين)
السؤال
إمام مسجد عند قراءة الفاتحة يقول: (ولا الظالين) بدلاً من (ولا الضالين) أي: يقولها ظاء، فما حكم ذلك؟
الجواب
هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، ففي كتاب طبقات القراء للإمام الذهبي ذكر الإمام الذهبي في تراجم كثير من القراء وأصحاب الحروف: أن الواحد منهم كان يقرأ الضاد ظاء، لكنها ليست ظاء صريحة، وإنما هي بين الضاد والظاء، ولكنها تكتب ضاداً، فيقول: وهذه المسألة محل خلاف بين القراء، والراجح أنها تنطق ضاداً كما تكتب.
لكن على أية حال هذه المسألة فيها أخذ ورد بين الكثير من المختصين، حتى أحدثت فتناً عظيمة في مسائل كثيرة، والواحد منهم كان يصر على أن ينطق الضاد ظاء صريحة، وهذا لا يستقيم لا من جهة الخط، ولا من جهة المعنى مع كثير من الآيات التي فيها الضاد، فلابد من تحول المعنى، ويختلف تماماً عن مراد الله عز وجل.
ثم لو سلمنا أن نطق الضاد متفق عليه، وأن الظاء لفظ مختلف فيه، فأي الفريقين أولى وأهدى: المتفق عليه أم المختلف فيه؟ المتفق عليه، فأنت تدعي أن الضاد تنطق قريبة من الظاء، مع أن كلمة (قريبة من الظاء) مسألة تقديرية، فهناك خلاف بين من يقولون: تنطق ظاء، ومن يقولون: تنطق أخف وأقل من ذلك.
فالآن لو أنا قرأناها ضاداً فقط فهل هذا صحيح؟
الجواب
نعم، فإذا صححتم أنتم قراءتنا ونازعناكم في صحة قراءتكم فأي القراءتين أولى؟ بلا شك المتفق عليها، لكن كثيراً من الإخوة لا حكمة عنده ولا مراعاة للمفسدة والمصلحة، فهو يتكلف عند قراءتها الضوضاء إحداثاً للفتنة؛ وذلك لأنه يعلم أن من خلفه لا يراعي ولا يعتبر الخلاف، يعني: ليس عنده حكمة في وجود الخلاف بين أهل العلم.
وهذه المسألة قد كتب فيها بعض أهل العلم كالشيخ عبد الباسط هاشم، والشيخ عبد الله الجوهري، والشيخ عرفان وغيرهم، وصنفت رسائل عصرية في الرد على من قال بهذا الرأي، كما صنفت رسائل سلفية قديمة في الرد على هذا وبطلانه، وأنا لا أقول بالبطلان، وإنما أقول: هو مذهب مرجوح.(17/29)
تمييز المسجد الأقصى من مسجد قبة الصخرة
السؤال
ما الفرق بين قبة الصخرة والمسجد الأقصى؟
الجواب
هذه في الحقيقة مسألة مهمة جداً؛ لأن مسجد قبة الصخرة ترون قبته أحياناً تظهر فضية في الصورة، وأحياناً تظهر خضراء، فعلى مدار سنوات طويلة جداً أكثر من خمسين أو ستين سنة -أي: من سنة 1948م وإلى الآن- واليهود مجتهدون على أن يصوروا للأمة الإسلامية أن مسجد قبة الصخرة هو المسجد الأقصى، وفي الحقيقة مسجد قبة الصخرة ليس هو المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو مكان بجوار مسجد قبة الصخرة، فمسجد قبة الصخرة في جانب من جوانب المسجد الأقصى وليس من المسجد الأقصى، ودليل هذا أن اليهود أو أهل البدع عموماً وأهل الكفر والنفاق يصبرون على كفرهم وبدعهم كما صبر نوح على دعوة قومه وزيادة، لكن أهل الحق دائماً متعجلون، فهم يفهمون الحق ومع ذلك يسحب البساط من تحت أرجلهم بسبب استعجالهم، وأما أهل الباطل فإنهم يزينون هذا الباطل ويزخرفونه، ويصورن أن هذا هو الحق، ويتحملون في سبيل ذلك كل الأذى إذا وقع بهم أذى.
فاليهود يعملون ذلك؛ حتى إذا تسنى لهم هدم الأقصى هدموه، وقد زرعوا في قلوب الأمة وصدورها أن هذا ليس هو المسجد الأقصى، وإنما مسجد القبة الذي أنتم ترونه هو المسجد الأقصى، وكل هذا بفعل اليهود ومن جاراهم من أهل العداوة والنفاق، حتى إذا هدم الأقصى لم يتحرك أحد المسلمين؛ باعتبار أنه لا يزال الأقصى قائماً، وليس الأمر كذلك.(17/30)
حكم جلوس الحائض في المسجد
السؤال
هل يجوز للحائض أن تجلس في المسجد؟
الجواب
إذا دعتها الضرورة إلى ذلك وإلا فلا، والأصل ألا يجلس المسلم أو المسلمة في المسجد إلا على أكمل طهارة؛ لأنه يزاور ويجالس ملائكة الرحمن، ولا يخلو الأمر من ذكر أو تسبيح أو قراءة للقرآن، ولا خلاف أن المسلم يستحب له أن يكون على أكمل هيئة في ملبسه وبدنه من الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر، والخلاف هل للحائض والجنب المكث في المسجد؟ فالمسألة محل نزاع بين أهل العلم: فالجمهور على التحريم، والظاهرية على الإباحة، وإنما قالوا بالإباحة لضعف كل الأدلة التي اعتمد عليها جمهور الفقهاء.
وفي الحقيقة من جهة الحل والحرمة والجواز وعدمه أنا أميل إلى هذا الأصل، ومن جهة الاستحباب فأنا مع رأي الجمهور، وأنا ألزم نفسي ومن يدخلون في ولايتي أن يكونوا على أكمل طهارة عند أخذهم القرآن الكريم، أو قراءتهم فيه، إلا إذا دعت الضرورة كامرأة حاضت، وهي منتظمة في درس، فيمنعها الحيض من درسين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة إذا كان الدرس يومياً، ولا شك أن هذا الدرس إذا امتنعت منه المرأة أثر على ربط حاضرها العلمي بماضيها، مما يرهق المعلم الذي يضطر لأن يعيد لها هذه الدروس، وهذا مرهق له، فلا بأس إذا دعت الضرورة.(17/31)
حكم استعمال العطور التي فيها كحول
السؤال
هل يجوز استعمال العطور التي فيها كحول، أو الموجودة في المحلات حالياً، أو بيعها؟
الجواب
أخبرنا شيخنا الألباني أن هذا الأمر مختلف فيه، فمن العلماء من حرم العطور إذا مسها شيء من الكحول مهما كان قليلاً، ومنهم من قال بالتفريق بين القلة والكثرة، فإذا كانت نسبة الكحول المضاف إلى العطر قليلة لا تكاد تذكر فالأصل الحل، وإذا كان كثيراً بحيث يغلب على نظر الناظر أو لمس اللامس لهذا العطر أنه يطير فور خروجه من زجاجته أو قارورته؛ فالأصل فيه الحرمة؛ لغلبة الكحول عليه.
ولعل الرأي الثاني هو الذي يترجح لدي.(17/32)
حكم قول الرجل: أنا عندي كذا منذ الجاهلية.
وحكم بيع التلفزيون
السؤال
عندي تلفزيون قديم منذ الجاهلية هل يجوز أن أبيعه، وهو موجود عند الناس بكثرة؟
الجواب
كلمة الجاهلية الأصل فيها ألا تطلق إلا على الكفر أو الردة، فإطلاق ذلك باب من أبواب الخوارج، والمراد: الكفر، أو إطلاق لفظ الكفر على المعاصي، أو الجاهلية على المعاصي، ولا شك أن المعاصي معاصٍ، لكن الأصل أن يقول المرء: كنت كذا قبل الالتزام، ولا يقول: في الجاهلية؛ لأن الجاهلية عند الإطلاق تعني: الكفر والشرك.
وهذا التعليق ليس هو في معرض رد السؤال.
وأما بيع التلفزيون فقد طرحت هذا السؤال على الشيخ الألباني وقال: لا يجوز، وقال بحرمة اقتنائه كذلك، فقلت له: نبيعه للإخوان الملتزمين، فقال: إن الله لا يحب الفساد، هكذا أفادنا الشيخ يرحمه الله.(17/33)
الحكم على حديث (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً)
السؤال
ما صحة حديث: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة)؟
الجواب
هذا الحديث حسنه الشيخ الألباني.(17/34)
حكم العمل في الضرائب وشركات التأمين الأهلية
السؤال
ما حكم العمل في الضرائب، وشركات التأمين الأهلية، وكذلك مشاريع الصندوق الاجتماعي للتنمية؟
الجواب
أما العمل في الضرائب وشركات التأمين فالذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم أنه حرام، وهو باب عظيم من أبواب الربا.
وأما مشاريع الصندوق الاجتماعي فلا أعرف كيفيتها؛ ولذلك أعتذر عن عدم الجواب عن ذلك.(17/35)
حكم العمل في أماكن لا تخلو من شبهة
السؤال
ما حكم العمل في تشييد نادي الزمالك، وكذلك العمل في مشاريع مختلطة: فنادق وعمارات وأبراج سكنية؟
الجواب
هذا العمل لا يخلو من شبهة، والشبهات محلها الورع، فإن أردت أن تأخذ نفسك بالورع فعليك بتركها، وأما إذا عملت في مثل هذا فأظن أنه لا يجرؤ أحد أن يقول بحرمة ذلك، حتى ولو كان العمل في فندق بغير عمارات سكنية؛ وذلك لأن من الناس من يدخل إلى هذا الفندق ليشرب الخمر أو ليزني أو غير ذلك، وفي نفس الوقت تجد فيها المسلمين الملتزمين، مع أن بناء الفنادق في كثير من البلدان العربية والإسلامية إنما يدار فيها الخمر والعري والزنا وغير ذلك، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.(17/36)
لعبة الانتخابات والضحك على الذقون
السؤال
يقول: إن لله عباداً اختصهم لقضاء حوائج الناس، هل هذا حديث أم آية؟
الجواب
أنت لا تعلم هل هو آية أو حديث؟! ليس هو بآية ولا حديث، وإنما هو كلام مذكور في كتب الموضوعات منسوباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يصح ذلك.
وهذا الكلام كلام مرفوض، والناس يخرجون به في أيام الانتخابات! فهم حينما يريدون أن يحتجوا من السنة على مشروعية ما هم عليه فإنهم يحتجون بأحاديث موضوعة! ويثنون على شخص مع أنه كذاب ومبير، ويأتي إلى المسجد ولأول مرة نعرفه في المسجد في أيام الترشيح، فيدخل المسجد، ويصلي في الصف الأول، ويضع اليمين على الشمال، ويزيد خشوعاً وذلاً، ولا بأس أن يبكي أثناء قراءة الفاتحة، ثم يقول للشيخ: أخوكم في الله فلان الفلاني، فهؤلاء مفضوحون في تمثيلياتهم، فهو حين يمثل على المسرح فإنه سيجيد التمثيل تماماً، وأما في المسجد وهو يمثل الالتزام فإنه يصبح ممسوخاً جداً، وشكله غير مرغوب فيه، وتعرف أنه كذاب ودجال.(17/37)
شرح كتاب الإبانة - ذم الجدال والمتكلمين وترك آثار الصالحين
وردت آثار كثيرة عن السلف رحمهم الله تعالى في ذم الجدال والكلام، واتباع المتكلمين وترك آثار الصالحين، وما ذاك إلا لخطورة هذا المسلك على العبد في دينه ودنياه، ومن كان يزعم أنه متبع لآثار السلف تاركاً لابتداع الخلف فعليه بالوقوف على ما وقفوا عليه، فهم قد خاضوا لما كان الخوض مطلوباً، وامتنعوا لما كان الخوض ممنوعاً.(18/1)
ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين(18/2)
شرح أثر ابن الماجشون: (احذروا الجدل فإنه يقرب إلى كل موبقة)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً عن ذم الجدال والمراء والخصومات في الدين، والحث على التمسك بآثار الصالحين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو صالح -وهو كاتب الليث بن سعد -: أملى علي عبد العزيز بن الماجشون قال: احذروا الجدل؛ فإنه يقربكم إلى كل موبقة -الموبقات: المهلكات- ولا يسلمكم إلى ثقة].
أي: ليس له أجل ينتهي إليه، فمن دخل في طريق الجدال والكلام والخصومات فإن له بداية، لكن ليست له نهاية.
قال: [وهو يدخل في كل شيء، فاتخذوا الكف عنه طريقاً إليه].
أي: أن الجدال والخصومات بغير حق يجب أن تكف عنها.
قال: [فإن الجدل والتعمق هو جور السبيل، وصراط الخطأ، فلا تحسبن التعمق في الدين رسخاً].
أي: لا تتصور أنه لا يكون المرء راسخاً في العلم، أو ليس عالماً إلا بكثرة الجدال والمناقشة والخصومة والمراء وغير ذلك، بل هذا هو الجهل بعينه.
قال: [فإن الراسخين في العلم هم الذين وقفوا حيث تناهى علمهم].
أي: يقفون عند حد العلم الذي علمهم الله تعالى إياه، وأما ما دون ذلك فإنهم يؤمنون به على الظاهر، ويلقونه كما جاء ولا يخرجون عنه.
قال: [واحذرهم -أي: أهل الكلام- أن يجادلوك بتأويل القرآن، واختلاف الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجادلهم فتزل كما زلوا، وتضل كما ضلوا، فقد كفتك السيرة -أي: سيرة السلف الصالح رضي الله عنهم- مؤنتها، وأقامت لك منها ما لم تكن لتعدله برأيك].
أي: أن سيرة السلف رضي الله عنهم فيما يتعلق بالجدل والمناظرة وقيام الحجة على الخصم كفيلة أن تقف عندها ولا تتعداها؛ لأنهم خاضوا لما كان الخوض جائزاً، ووقفوا لما كان الخوض ممنوعاً، وإذا نت حقاً متبعاً لآثار من سلف، تاركاً لابتداع من خلف؛ فالسيرة الذاتية والعلمية لكل واحد من أئمة السلف قاضية بذلك.
قال: [ولا تتكلفن صفة الدين لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك].
فبعض الناس قد يتصور أنه قد أوجب الله تعالى في حقك أن تبين له صفة الدين، مع أنه ليس في حاجة لذلك؛ لأنهم يعرفون الدين بسمته وصفاته ومميزاته وغير ذلك.
لكنهم يريدون الجدال والمماحلة والخصومة؛ لأنهم وإن عرفوا أو علموا دين الله عز وجل، إلا أن هذه المعرفة لم تستقر في قلوبهم؛ ولذلك هم يريدون أن يظهروا ما عندهم من علم بالتأويل، وتحريف الكلم عن مواضعه.
فهذا يدل على أنهم أرباب ضلال، وهل تتصورون أن إبليس اللعين لم يكن يعرف قدر الله تبارك وتعالى؟ إنه يعرفه جيداً، ويعرف أنه المعبود الأوحد، ولا معبود بحق سواه، لكنه عصى وفرط وبغى، وقاس قياساً فاسداً أوقعه وأورده المهالك، فهذا لا يدل على أنه لم يعرف الحق من الباطل، بل هو يعلمه تماماً وجيداً، لكنه زاغ وضل وانحرف عن الصراط، بل كان إبليس من أكثر العباد عبادة قبل أن يعصي، فهل تتصورون أن إبليس كان يعبد معبوداً أو إلهاً لا يعرفه ولا يعرف قدره؟!
الجواب
كلا، فقد كان يعرفه جيداً.
وهكذا أهل الكلام؛ لأن إمامهم وسلطانهم هو إبليس، ومنه أخذوا، وعلى يديه تربوا، وأشربوا منهجه في الجدال والمخاصمة والمماحلة، فهم لا يريدون أن يصلوا إلى الحق ليعملوا به، أو ليتعبدوا به، وإنما يريدون أن يجادلوا لأجل الجدال فقط، أو للتشهي، أو للنصرة على الخصم، أو لكثرة الأتباع أو غير ذلك.
وعلى أية حال سمات أهل الحق كما أنها واحدة إلى قيام الساعة، فكذلك سمات أهل البدع والضلال واحدة إلى قيام الساعة.
قال: [ولا تتكلفن صفة الدين].
أي: لا تكلف نفسك أن تظهر الدين.
[لمن يطعن في الدين، ولا تمكنهم من نفسك]، أي: إذا أرادوا الظلم، وعرضوا عليك المجادلة والمناظرة، فلا تمكنهم من نفسك، فإذا جاءك عاص أو ضال مبتدع أو غيره وطلب المناظرة فهذا لا يجوز محادثته أو مناظرته إلا بشروط: الشرط الأول: أن يغلب على الظن أنه يبتغي الحق.
الشرط الثاني: ألا يأتي للمناظرة، وإنما يأتي للتعلم.
الشرط الثالث: أن تكون من أهل العلم المشهود لهم بذلك، وممن تعَيَّن عليه التصدي لإظهار الحق، وقمع الباطل.
فهذه ثلاثة شروط، فإذا تخلف شرط منها اختلت المناظرة، ويحرم عليك أن تتصدى لأهل البدع؛ حتى لا تصاب بما أصيبوا، ولا تزل قدمك كما زلوا، ولا تضل كما ضلوا.(18/3)
ضرر مناظرة أهل البدع والاستماع لهم
قال: [إنما يريدون أن يفتنوك، أو يأتوا بشبهة فيضلوك؛ فلا تقعد معهم]، كما قال الله تعالى: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
فإذا كانوا هم سعوا في كل واد لفتنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفتنة أصحابه الكرام، فكيف بك أنت يا مسكين! ولا علم لك، ولا معرفة لك بأساليب وألاعيب القوم، فأنت من باب أولى خليق وجدير بأن تقع في شباك أهل البدع إذا تعرضت لهم ولم تتأهل لذلك؛ لأنهم يريدون أن يفتنوك، أو يأتوا بشبهة فيضلوك، فقد تذهب لتدفع عنهم شبهة قد بلغتك؛ فإذا بشبه متتابعة متعاقبة يلقونها على مسامعك لم تستعد أنت لها؛ فتؤثر هذه الشبه في قلبك؛ فتكون أنت أحوج الناس إلى إزاحة هذه الشبه من قلبك، فأنت الذي ذهبت لتقيم عليهم الحجة فأوقعوك هم في شراكهم وحبائلهم وشبههم، حتى زعزعوا قواعد الدين الأصلية في قلبك.
ولذا فالمناظرة مع أهل البدع من أخطر ما يمكن، وحذار أن تتصور أنه خذلان أو ضعف أو خوف أو خور أن تعتذر عن لقاء القوم، بل هذا هو عين الاستقامة، فكثير من أئمة السلف مع إمامتهم، ووفرة علمهم لم يسمحوا قط بسماع كلمة واحدة، ولا حرف واحد من أهل البدع، كما قال ابن سيرين: والله لو قرءوا القرآن لم أسمعه منهم، أو تلوا علي حديثاً ما سمعته منهم.
مع أن قراءة القرآن وسماع الحديث لا شيء فيه.
فانظر إلى ابن سيرين وهو إمام أهل البصرة في زمانه، وسيد من سادات التابعين، وتلميذه أنس بن مالك رضي الله عنه، ومع هذا لم يكن يأذن لنفسه قط أن يسمع كلمة واحدة من صاحب بدعة، حتى لو كانت هذه الكلمات آية في كتاب الله، أو حديثاً من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.(18/4)
مناهج التلقي عند أهل السنة والجماعة
قال: [ولعمري! إن صفة الدين لبينة]، أي: إذا كانوا يريدون صفة الدين، فصفة الدين، ومعالم الدين، وسمات الدين، وخصائص الدين بينة وواضحة.
قال: [وإن سبله لواضحة، وإن مأخذه لقريب].
ومأخذ الدين من كتاب الله، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومن إجماع أهل العلم، وقياس صحيح يوافق العقل الصريح، ويوافق المنقول من كتاب وسنة، ويوافق كلام أهل العلم، فإذا كان كذلك فهو قياس صحيح، وإذا كان عكس ذلك فليس بصحيح؛ ولذلك فمصادر التلقي المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة هي: الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وما عداها مختلف فيها، والراجح أن هذه المصادر هي المصادر الأصلية التي يعتمد عليها المسلم في دينه، علماً وعملاً وعبادة وغير ذلك.(18/5)
اضطراب وشك أهل الباطل
قال: [وإن مأخذه لقريب لمن أراد الله هداه، ولم تكن الخصومة والجدل هواه، ولولا أن يأخذ الأمر من غير مأخذه، أو يتبع فيه غير سبيله؛ فإن الله تعالى لا بد كاشف عوراتهم، وإن حجتهم لداحضة، دانوا الله بغير دين واحد، بل دانوا بأديان شتى، يمسون على دين ويصبحون به كافرين].
يعني: يدينون الله تعالى في المساء بدين معين، فإذا أصبح عليهم الصباح اختلفوا فيما اتفقوا عليه بالأمس؛ فتفرقوا، فكفر بعضهم بعضاً، فهم يمسون على دين معين، ثم يصبحون بهذا الدين كافرين؛ لأنهم قد ضلوا السبيل، وضلوا منهج التلقي وهو الكتاب والسنة؛ فتلقوا هذا الدين الذي كفروا به بعد ذلك من وحي عقولهم، ومن وحي شياطينهم، وما وافق هواهم، ووافق شهواتهم، وأما إن وافق الكتاب والسنة، فإن هذا هو المصدر الحق، ولا يمكن أن يختلف؛ لأن الحق واحد، ومشكاة الحق واحدة لا تخطئ قط، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] أي: القرآن الكريم، فلما لم يجدوا فيه اختلافاً كثيراً ولا قليلاً؛ تبين أنه من عند الله عز وجل.(18/6)
ذم الشافعي لكل ما هو طريق إلى الكلام
قال: [قال الربيع بن سليمان المرادي: جاء رجل يناظر الشافعي في شيء].
والشافعي مع علو قدره، وعظيم منزلته يأتيه رجل من أهل الكلام ومن أصحاب البدع يريد أن يناظره في مسألة، فهل تعتقدون أن الشافعي يعجز أن يناقش أهل البدع جميعاً؟
الجواب
لا، فـ الشافعي إمام الدنيا في زمانه، ولم يكن أحد في الأئمة الأربعة، لا أبو حنيفة، ولا مالك، ولا أحمد بن حنبل يضاهي الشافعي في العلم، ولو كان التمذهب مشروعاً أو مسنوناً؛ لكان التمذهب بمذهب الشافعي من أوجب الواجبات، لكن التعصب لمذهب ما، وأخذ كل ما جاء عن صاحبه حقاً وباطلاً أمر مذموم، والممدوح لك أن تتمذهب بمذهب إمام معين، لكن لا يسعك اتباعه إذا أخطأ، وإنما يسعك مخالفته والأخذ بالحق.
وقد كان مجلسه رحمه الله تعالى يزدحم بالآلاف، فمنهم من يأتي ليستمتع بعلو إسناده، ومنهم من يأتي ليستمتع ببلاغته وفصاحته، حتى قال قائلهم -وهو إمام من أئمة اللغة-: كلام الشافعي في اللغة حجة، فهو رحمه الله تعالى إمام في البيان والفصاحة، وحجة على الأمة إلى قيام الساعة؛ لأنه من أنحى العرب، فقد تلقى لغته عن قبائل العرب كلها، ودفعت به أمه إلى قبيلة هذيل التي هي أعظم القبائل لغة وفصاحة وبياناً، فمكث بها الشافعي عدة أعوام حتى أتى على بلاغتها وفصاحتها، كما أنه محدث عظيم جداً، وأسانيده مرتفعة، وإن كان أحمد بن حنبل تلميذ الشافعي، إلا أن أحمد فاقه حديثياً؛ لانشغال أحمد بالحديث.
وأما الشافعي فكان جل اهتمامه بالفقه؛ ولذلك هو الفقيه حقاً، فيقدم في الفقه على كل الأئمة الذين تكلموا في الفقه إلى قيام الساعة، بخلاف أحمد، فإنه إمام الأئمة في زمانه في الحديث، وهكذا جمع القوم بين شتى فنون العلم: من الحديث، والفقه، واللغة، والتفسير، والقرآن وغير ذلك، لكن الواحد منهم اشتهر بعلم معين، وإن كان محصلاً لجميع العلوم الأخرى.
قال: [فقال الشافعي: دع هذا، فإن هذا طريق الكلام].
أي: أن هذا الذي تسلكه هو منهج أهل الكلام، ونحن عندنا سنة وأثر، وإنما أنصحك باتباع الأثر وترك الكلام وذمه.
قال: [وسمع الشافعي رجلين يتكلمان في الكلام، فقال: إما أن تجاورانا بخير، وإما أن تقوما عنا].
أي: إما أن تتكلما بخير، وإما أن تنصرفا عنا.(18/7)
تهوين الشافعي لسائر المعاصي مقارنة بعلم الكلام خلا الشرك بالله تعالى
قال: [وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لئن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك به، خير له من النظر في الكلام].
يعني: لو أن المرء ابتلي بكل كبيرة من الكبائر: كالسحر، والفرار من الزحف، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، وغير ذلك من سائر الذنوب والمعاصي؛ أحب إلى الله عز وجل من أن يبتلى بأن يتكلم في دين الله عز وجل بغير علم، أو أن يخوض في دين الله عز وجل على منهج أهل الكلام، وأصحاب الأهواء والبدع.
وليس في هذا الكلام دليل على أن البدع أو المعاصي محببة إلى الله عز وجل، لكن هذا الكلام خرج مخرج الزجر الشديد عن اتباع طريقة أهل الكلام، وسلوك منهج أهل البدع.(18/8)
تحذير الشافعي من ائتمان صاحب الكلام على الدين
قال: [وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: يا أبا موسى! لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما لو رأيت رجلاً ارتكب كل ما نهى الله عنه خلا الشرك؛ كان أحب إلي من أن أراه صاحب كلام، قال: قلت: يا أبا عبد الله! -وهذه كنية الإمام الشافعي - وتدري ما يقول صاحبنا -أي: هل سمعت ما قال صاحبنا؟ أي: صاحب يونس بن عبد الأعلى، وصاحب الشافعي، وهو الإمام العلم الجبل المصري الليث بن سعد عليه رحمة الله- الليث بن سعد؟ قال: وما قال؟ قال: لو رأيت صاحب الكلام يمشي على الماء لا تأمنن ناحيته].
ومن الذي يستطيع أن يمشي على الماء؟ لا أحد، لكن لو تصورنا أن هذه الحادثة الخارقة للعادة وقعت في حق المتكلم، فتجمع الناس حتى سار على سطحه، ونظر الناس إليه.
يقول الليث: لو رأيتم صاحب كلام على هذا النحو فلا تأمنوه على دينكم.
[قال الشافعي: بل الأمر أعظم من ذلك، لو رأيت صاحب كلام يطير في الهواء فلا تأمننه على دينك].
إذاً: فالقضية كلها متعلقة بالاستقامة؛ ولذلك يقول ابن تيمية عليه رحمة الله في المجلد الحادي عشر من الفتاوى: إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء؛ فلا تحكمن عليه حتى ترى عمله، فإن كان موافقاً للكتاب والسنة؛ فإنما ذلك كرامة من الله عز وجل له، وإلا فهو استدراج من الشيطان.
أي: أن هذا العمل من الشيطان وليس من الرحمن، وهذا الكلام أيضاً مذكور في كتابه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ومعناه: لو رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي في الماء، أو يأتي لك بأشياء هي كالسحر، بل السحر نفسه، حتى تكاد تجزم وتقسم أنك رأيت حقاً؛ فلا نحكم لهذا الرجل ولا عليه حتى نرى عمله هل هو مستقيم على منهج أهل السنة أم لا؟ فإن كان كذلك؛ فإن الذي جرى على يديه كرامة من الله تعالى له، وأنتم تعلمون أن كرامات الصالحين أمر مستقر في عقيدة المسلمين، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى قيام الساعة.
والله تبارك وتعالى يمن على من يشاء من عباده الصالحين بالخوارق للعادات كرامة لهم، كما تجري هذه الخوارق على أيدي الأبالسة، وعلى أيدي السحرة والأفاكين الكذابين، لكنها ليست كرامات، وإنما هي استدراجات من الشيطان.
قال: [قال أبو حاتم: حدثني بعض أصحاب الشافعي أنه سمع الشافعي يقول: كلمتني أم بعض أصحاب الكلام على أن أكلم ابنها ليكف عن الخوض في الكلام].
فالأم عقلت أن ابنها على ضلالة، فأتت إلى إمام المسلمين الإمام الشافعي، فقالت: كلم ولدي أن ينتهي عن علم الكلام.
قال الشافعي: [فكلمته ليكف عن الكلام، فدعاني إلى الكلام].
يعني: كلمته ليكف عن الهوى واتباع الشهوات، فدعاني هو إلى الخروج عن حد الاستقامة، والدخول في حد البدعة والضلالة.
قال: [وقال أبو حاتم: قال أبو ثور إبراهيم بن خالد: سمعت الشافعي يقول: ما ارتدى أحد الكلام فأفلح].
أي: ما سلك أحد سبيل الكلام والهوى؛ إلا ويخسر خسراناً مبيناً.(18/9)
منهج أصحاب الكلام تجاه المخالف
قال: [قال حسن بن عبد العزيز الجروي: كان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء، ويقول: أحدهم إذا خالفه صاحبه قال: كفرت، وإنما يقال فيه: أخطأت].
يريد أن يقول: إن أهل السنة -وهذا كلام قرره شيخ الإسلام ابن تيمية مراراً- أرحم من أهل البدعة بعضهم ببعض، فأهل السنة لهم حد يقولون فيه: لا يكفر من أصحاب الفرق الضالة إلا الغلاة الذين خرجوا عن أصول الديانة، أو بدلوا وحرفوا في دين الله عز وجل أو في هذه الأصول، وأما عامة أصحاب الأهواء والضلالات؛ فإنهم لا يكفرون بهذا.
وهذا بلا شك غاية الاعتدال من أهل السنة والجماعة، لكن لو تأتي الآن وتنظر إلى أهل البدع أنفسهم ماذا يقولون فينا؟ فالشيعة مثلاً هل يحكمون لنا -أهل السنة- بالإسلام؟
الجواب
لا، بل نحن جميعاً عن بكرة أبينا -جاهل وعالم- عندهم كفار وصابئة، حتى إنهم لا يسموننا قط أهل السنة، وإنما يسموننا: الصابئة أو الناصبة، وليس لنا عند الشيعة إلا هذان الاسمان: الصابئة أو الناصبة، وهذا مشعر بالكفر، فضلاً عن أنه في لحظة صدق وصراحة يصارحونا بهذا، لكن لما كان دينهم التقية والكذب والنفاق؛ فإنهم يخفون هذا في غالب أحوالهم وأوقاتهم.
وليس الأمر يقف عند ذلك، بل أكثر من ذلك، فإذا اختلف أهل البدع مع بعضهم البعض لم يقل أحدهم في صاحبه: إنك أخطأت، وإنما يقول له: إنك كفرت؛ ولذلك فالأحكام عند القوم: إيمان وكفر، ولا يعرفون طريقاً للفسق، وإنما عندهم -خاصة الخوارج- أن من ارتكب معصية فقد كفر بها، وغلاتهم يكفرون بالمعاصي كلها: صغيرها وكبيرها.
فالواحد منهم لا يقول لمن عصى: لقد عصيت، أو فسقت، أو أخطأت، وإنما يقول له: لقد كفرت، وليس هذا فحسب، بل إذا وقع الواحد منهم -ممن يصدرون الأحكام على الآخرين- في معصية كفر نفسه، وحكم على نفسه بالكفر، وألزم نفسه الدخول في الإسلام من جديد، وإننا نعلم أناساً كثيرين يعيشون بيننا في هذه الأيام وفي هذا العصر، بل وفي هذه المدينة يطلِّق الواحد منهم امرأته لمعصية وقع فيها؛ ظناً منه أنه انتقل من الإيمان إلى الكفر، وبالتالي لا تحل له امرأته حتى يشهد من جديد، ويعقد عليها عقداً جديداً بمهر جديد، وغير ذلك مما يلزم العقد الشرعي من ولي وشهود، وغير ذلك من سائر شروط أحكام العقد الشرعي الصحيح.
وأما أهل السنة فهم أرحم بأهل البدع من رحمة أهل البدع بعضهم ببعض، كيف لا وهم امتداد للنبي عليه الصلاة والسلام الذي بعثه ربه رحمة للعالمين، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين: لعالم الإنس والجن، للأبيض والأسود، للأعجمي والعربي، فقد نهج أهل السنة نهجه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم مأمورون باتباعه، والتخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
فإذا كنا حقاً نتابع النبي عليه الصلاة والسلام؛ فلا بد أن نتمثل أخلاقه، وآدابه، وأحكامه، وطريقته، ومنهجه، وكل ما يتعلق بأمر الدين والدنيا مما ورد إلينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في كتاب الله، أو في سنته الصحيحة.(18/10)
تعقيب الشيخ ابن بطة رحمه الله تعالى على موقف أهل الكلام من المخالف
قال الشيخ ابن بطة: [فأهل الأهواء في تكفير بعضهم لبعض مصيبون؛ لأن اختلافهم في شرائع شرعتها أهواؤهم، وديانات استحسنتها آراؤهم؛ فتفرقت بهم الأهواء، وتشتت بهم الآراء، وحل بهم البلاء، وحرموا البصيرة والتوفيق؛ فزلت أقدامهم عن محجة الطريق، فالمخطئ منهم زنديق، والمصيب منهم على غير أصل ولا تحقيق]؛ لأنهم ليس لهم منهج يعتمدون عليه، بينما نحن منهجنا القرآن والسنة وإجماع أهل العلم، والذي عرفنا بالقرآن والسنة هم أهل العلم من السلف، وهم أدرى الناس بكلام الله عز وجل.(18/11)
معنى السلفية وعلى من تطلق
ومعنى السلفية إجمالاً: اتباع السلف، وكلمة: (السلف) عند الإطلاق يقصد بها أهل زمن معين، وهم أصحاب القرون الخيرية الأولى، الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
والراجح أن أصحاب القرون الخيرية هم الثلاثة القرون الأولى، مع أن البدعة وقعت فيهم، فبدعة الخوارج وبدعة التشيع وبدعة القدرية -وهذه أسبق البدع ظهوراً في الإسلام- وقعت في نهاية القرن الأول، فهل هي المقصودة بالمدح؟
الجواب
لا، إنما المقصود بالمدح أصحاب القرون الخيرية الأولى، الذين وافقوا مراد الله من كتابه، ووافقوا مراد النبي عليه الصلاة والسلام من سنته: كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.(18/12)
الصواب في عبارة: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف
فإذا كان الأمر كذلك؛ فاعلم أن الكلام القائل: بأن كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف؛ كلام يحتاج إلى تدقيق وتحقيق، وأرى أن الصواب في هذا الكلام يقال: الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، سواء كان في القرن الأول أو الثاني أو الثالث أو العاشر أو المائة؛ لأن القرون الخيرية الأولى وقع فيها من البدع ما وقع.
فيكون انضباط هذا الكلام بقولنا: الخير كل الخير في الاتباع، أي: في اتباع السلف رضي الله عنهم.
وليست العبرة أن تحتج بكلام لله عز وجل، أو بكلام قاله النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أو في غيرهما مما صح عنه عليه الصلاة والسلام، لكن العبرة: مَن فهم هذا الكلام كما فهمت أنت؟ هب أنك تحتج بآية من كتاب الله لم يسبقك أحد إلى هذا الفهم إلا الجهم بن صفوان، فهل يكون هذا الفهم صحيحاً؟ وهل يكون المراد صحيحاً؟ لا، فهذا فهم جهمي للآية.
وأما لو كان الفاهم لمعنى الآية هو: أبو بكر أو عمر؛ فيا حبذا هذا الفهم، وهؤلاء هم حقاً سلف الأمة رضي الله عن الصحابة أجمعين، وعن الأئمة المتبوعين أئمة الدين، وأصحاب الاجتهاد المطلق في الفقه وأصول الدين وغير ذلك.(18/13)
استمرار المنهج السلفي إلى قيام الساعة
فالسلفية لم تنقطع عند أصحاب القرون الخيرة الأولى، بل السلفية من جهة المعنى مستمرة إلى قيام الساعة؛ لأن العبرة من سار على نهجهم إلى يوم الدين، فـ ابن تيمية ممن سار على نهج الصحابة وهو سلفي، وإن لم يكن من أصحاب القرون الخيرية.
وابن القيم سلفي؛ لأنه سار على نهج الصحابة، وإن لم يكن من أصحاب القرون الخيرية الأولى، وبالتالي فلا يخلو عقد ولا قرن من عالم وقائم لله بحجة على منهج السلف، والله تبارك وتعالى لا يمكن أن يترك الناس أو العباد بغير عالم يقيم عليهم الحجة؛ حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فاعلم أن الله تعالى له جنود ظاهرون على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم على ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها)، والذي أحسبه من المجددين في هذا الزمان وفي هذا القرن هو شيخنا العلامة الألباني، وكذلك شيخنا العلامة ابن باز، وغيرهما من أهل العلم ممن هو باق على قيد الحياة، نسأل الله أن يطيل أعمارهم، وأن يحسن أعمالهم، وأن يحسن خواتيمنا وإياهم جميعاً، ومنهم من مات ولا يقل في الفضل والعلم عمن ذكرناه.
فالسلفية لها معنى قديم متعلق بالقرون الخيرية الثلاثة، ومعنى حديث، أي: من جهة المعنى لا من جهة الزمن، وهذا مستمر إلى قيام الساعة، ولا يخلو منه عصر ولا مصر، فالذي أمرنا نحن به من قِبَل الله عز وجل، أو من قبل النبي عليه الصلاة والسلام، أو من قبل الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين، أو من قبل أئمتنا في هذا الزمان: أن نكون تبعاً لأهل العلم الصادقين المخلصين، المتبعين لآثار من مضى، لا المتبعين لأهوائهم، ولا المتبعين للجدال والكلام والخصومات والمراء والملاحاة؛ إذ كل هذا ليس منهجاً للسلف، بل قد ذموه ونقدوه وحذروا الأمة منه، بل وتعرضوا له بالنقد حتى بينوا زيفه، وبينوا عجزه وتقصيره، وبينوا فساده ومخالفته لهذا المنهج الذي أمرنا ألا نتلقى إلا منه وعنه، وهو الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم، والقياس الصحيح.
قال: [يقول أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: العلم بالكلام جهل، والجهل بالكلام هو العلم].(18/14)
بيان ضلال القرآنيين الطاعنين في السنة النبوية
إن مادة أصول الفقه من أعظم المواد إظهاراً لمراد الله تعالى ومراد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وهذه المادة أنا أحبها غاية الحب، وأستمتع بالنظر في كتبها أيما استمتاع، وإن الدارس لهذه المادة بمجرد النظر في كتاب الله يعلم المراد، أو يعرف توجيه الآية.
لكن قوماً اتخذوا هذه المادة منهاجاً، فقدموها على كتاب الله، وقدموها على سنة النبي عليه الصلاة والسلام، كما سبقهم إلى ذلك أبالستهم، مثل: القرآنيين.
فالقرآنيون يقولون: نحن لا علاقة لنا بالسنة! وهذا أمر عجيب جداً، كيف يفهمون القرآن بغير سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟! وهذه دعوى قديمة جداً، فقد ظهرت في زمن الصحابة، بل قد حذر النبي عليه الصلاة والسلام منها، ولا يزال قوم منهم يستترون، ويعبثون بأدمغة وعقول شباب الأمة.
وأذكر على سبيل المثال: الجاحد والمنكر للسنة جمال البنا، وهو أخو الشيخ الكبير العلم الشيخ حسن البنا رحمه الله، فهذا الرجل لم يكتف فقط بأنه أجهل من حمار أهله فيما يتعلق بالعلم، بل ذهب ليصنف مصنفات بلغت العشرات، يزعم أنه من المجددين، وهو لا يعلم شيئاً بالدين، وإنما منهجه الطعن في سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، وهو من مدرسة ابن خلدون، وهو رفيق الطريق، وصديق الهوى للمدعو الدكتور: مصطفى محمود، ونصر أبو زيد وحسن حسني، وهذا الملحد العلماني الكبير في كلية الآداب، وبقية الملاحدة في كلية الألسن؛ كل هؤلاء جمعتهم دار تسمى: دار ابن خلدون، هذه الدار التي تنفق عليها أمريكا، كما تنفق عليها إيران بغير حياء، بل بكل بجاحة.
والعجيب أن يلتحق بهذه الثلة الإجرامية المجرمة اسم لعلم من أعلام الدين وهو ابن الشيخ عبد اللطيف السوري الذي لا يخفى على أحد، وهو إمام من أئمة الذب عن السنة النبوية، وقد أفنى أبوه حياته في الدعوة إلى السنة ونبذ البدعة، وهذا اشتغل وجعل جل أمره واهتمامه إنكار السنة، ويزعم أنه قرآني فقط، فلا والله لا أنت قرآني، ولا أنت من أهل السنة كذلك، بل أنت من أهل البدع والضلال، وإنما يتكلم بكلام خفي؛ حتى لا يفتضح أمره، لكن الله تبارك وتعالى فضحه وكشف ستره، وهتك أمره على يد تلامذته رجالاً ونساءً، الذين تربوا على يديه إنكاراً للسنة، حتى أنكر بضع مائة حديث متفق عليهم عند البخاري ومسلم.
فكيف يكون هذا آدمياً؟! بل هو إلى الحيوانية أقرب، فقد تربى في بيت علم وفي بيت سنة، ثم هو ينقلب رأساً على عقب ليحارب السنة تحت مسمى أنه قرآني فقط، فلم لم يزعم أحد من الصحابة هذا الأمر؟ فهل هذا هو الخير الذي كشفه الله تعالى لك وستره على نبيه، وعلى أصحابه الكرام، وعلى أئمة الدين؟ إن الصحوة الإسلامية الآن تمر بمخاطر عدة من أخطرها: ما يحاك خلف الكواليس وخلف الأسوار في الطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
والعجيب أن بعض الشباب يقول: لا يعقل أن محمد بن عبد اللطيف يطعن في السنة، فلا بد أن نذهب إليه ونكلمه، فإذا ذهبت إليه إذا بك تمكث عنده، وتأبى أن تخرج من عنده؛ لأنك أصغيت أذنك لأهل الأهواء وأصحاب البدع، وخالفت ما حذرك منه سلف الأمة في هذه الكتب المسندة بأسانيد صحيحة، فلما خالفْتَ أوقع الله تبارك وتعالى عليك العقوبة؛ لأنه يعلم عدم صدقك، وعدم إخلاصك في الطريق، أو لعدم فهمك لمنهجية السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم في التعامل مع أصحاب الأهواء.(18/15)
تحذير هشام بن عبيد من الكلام
قال: [قيل لـ هشام بن عبيد حين أدخل على المأمون: كلم بشرا المريسي -أي: أن المأمون قال للإمام: ناظر بشراً المريسي هذا الضال- قال هشام: أصلح الله الخليفة، لا أحسن كلامه].
أي: أنا لا أحسن أن أتكلم معه، مع أن هشام بن عبيد كان من أئمة الدين، فلما طلب منه المأمون أن يكلم بشراً المريسي ويقيم عليه الحجة ويناظره ويسكته؛ اعتذر الشيخ عن ذلك، وقال: إني لا أحسن الكلام، [بل من يحسن الكلام عندنا فهو جاهل].
يعني: من يحسن أن يكون كهذا فهو عند أهل السنة جاهل، أي: جاهل بالأصول السلفية التي منها: ترك المناظرة والجدال مع أصحاب الأهواء والكلام.(18/16)
تحذير العتابي من الكلام والجدل وموقف المأمون من مناظرته مع بشر المريسي
قال: [وعن أبي علي محمد بن سعيد بن الحسن قال: دخل العتابي على المأمون وعنده بشر المريسي، فقال المأمون: ناظر بشراً في الرأي، فقال العتابي: يا أمير المؤمنين! قبل المناظرة فإنه لا يحمد المرء في أول وهلة على صوابه، ولا يذم على خطئه؛ لأنه بين حالين من كلام قد هيأه أو حصر، ولكنه يبسط بالمؤانسة، ويبحث بالمثاقبة، فقال له: ناظر بشراً في الرأي -أي: أن المأمون مصرٌّ على أن العتابي يناظر بشراً في الرأي- فقال العتابي: يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق].
أي: أنهم لا يتكلمون بصراحة، وإنما يلفون ويدورون، وديننا سهل وليس بصعب، والدليل على ذلك: أن الواحد من البادية كان يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيجلس في المسجد، ويسمع النبي عليه الصلاة والسلام، وبعدما يخرج النبي صلى الله عليه وسلم يقوم وينطلق إلى باديته، فكل كلمة سمعها قد فهمها.
لكن الآن تأتي لواحد يدرس الناس مادة أصول الفقه، أو مادة أصول الحديث، أو مادة اللغة العربية، أو يدرسهم معنى حديث، أو معنى آية، لكنه رزق شيئاً من الكلام والفصاحة والبيان، أو القواعد الكلية في اللغة العربية، أو في الدين أو غير ذلك، فتجده يتلاعب بهذه الألفاظ، وبهذا التراث الكلامي الذي لديه، حتى إن السامع يضرب كفاً على كف -ولا أقول: إنه يضرب كفه بوجهه- لأنه يحاول جاهداً أن يفهم كلام المتكلم، لكنه دائماً يبوء بالفشل، فإن علم المتكلم أن المستمع لم يفهمه؛ ازداد إعجاباً وفرحة بنفسه؛ لأنه يقول كلاماً على أعلى وأرقى مستوى، لدرجة أن أحداً لم يفهمه!! وهذا هو الجهل بعينه؛ لأن العلم النافع ما سمي نافعاً إلا لأن صاحبه قد انتفع به، كما أن المستمع له قد انتفع به أيضاً، فإذا كان لا ينتفع به أحد، ولا حتى المتكلم؛ لأن الذي يتقعر في كلامه، ويأتي بجمل حشوية في أثناء كلامه، ذلك يدل على عدم الإخلاص، والمرء إذا لم يكن مخلصاً في قوله وعمله فلا بد أن تنزل من السماء عليه عقوبة تدمره، عقوبة في ولده، في ماله، في امرأته، في نفسه، في صحته، في علمه الذي بين جنبيه وغير ذلك، لكن يرد على وجهه فينسي أن هذه عقوبة، وربما يصاب بأزمة نفسية يبقى بقية حياته مريضاً منها، ولا يذكر أن هذه عقوبة من الله نزلت عليه بسبب تفريطه في الإخلاص الذي هو مأمور به قبل تعلم العلم.
وكم من إنسان لم يكن مخلصاً في طلبه للعلم، ولم يدعوه العلم لطلب الإخلاص؛ فباء أمره بالفشل، واستحب العلم لحصول أعراض الدنيا من مال وكرسي ومتاع وزينة وسيارات وأبهة ومنصب وغير ذلك؛ لأنه رضي من دينه وعمله أن يكتفي بكرسي يجلس عليه، أو بمال يحوزه، أو بأكلة شهية، أو بامرأة جميلة، أو غير ذلك من أعراض ومتاع الدنيا؛ فهذا حظه من العلم.
بخلاف ما لو قرأت في كتب السلف وسير أهل العلم، كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، فوالله لكأنك تقرأ في سيرة الصديق رضي الله عنه، ولو أنك قرأت في سيرة الشافعي لكأنك تقرأ في سيرة عمر رضي الله عنه، فهؤلاء أئمة وأعلام بقيت سيرتهم نيرة تنير الطريق للسالك إلى يوم القيامة، مع أنهم ماتوا، وقوم بيننا أحياء يمشون على الأرض، لكنهم كالبهائم، فهم في عداد الموتى وإن كانت أجسادهم كأجسام البغال والحمير؛ لأن المرء بدينه، وإن المرء بإخلاصه، لا بتقعره بالكلام لإثبات العلم، أو بالمفاخرة والمباهاة وغير ذلك.
قال العتابي: [يا أمير المؤمنين! إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق، واختلافاً في آرائهم، وأنا واصف لأمير المؤمنين ما أعتقده من ذلك، لعل صفتي تأتي على ما يحاول أمير المؤمنين].
أي: سأحكي لك حكايتي كلها، وبعد أن أحكيها لك ستعلم صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إلى مناظرته، وبالتالي إذا عرفت صفتي وصفة هذا الذي تدعوني إليه؛ فأنت الذي ستقول: كف عن مناظرته.
قال: [إن أمر الديانة أمران -أي: أن أمر التدين لله على قسمان-: أحدهما: لا يرد إلا جحداً -لأنه قرآن- وهو الأصل المعروض عليه كل حجة].
أي: لا ينكر أحد منه آية إلا كفر؛ لأن الإنكار جحود.
قال: [وعلم كل حادث لا نرده أو لا يرد، من انتحله حجة عليه، فما وضحت فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها، أو سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اختلاف فيها، أو إجماع من العلماء، أو مستنبط تعرف العقول عدله؛ لزمهم الديانة به].
هو الآن يتكلم على مصادر التلقي، فيقول: إن مصادر التلقي هي: الكتاب، والسنة، وإجماع أهل العلم، والقياس الصحيح.
قال: [ولو كان هذا الكلام متفقاً عليه، واجتمع الناس على تأويل آية على نحو معين؛ فلا يحل لأحد بعد هذا الإجماع أن يخالف هذا التأويل].
وهذا الكلام كما أجريناه في القرآن نجريه في الحديث، ونجريه في الإجماع الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه؛ لأن الإجماع كالنص، بل لا ينعقد الإجماع إلا ب(18/17)
تحذير أبي يوسف من الكلام
قال: [قال أبو يوسف: لا تطلب ثلاثاً إلا بثلاث: لا تطلب العلم بالكلام؛ فإنه من طلب العلم بالكلام تزندق]؛ لأن الشرع يطلب من الأصول التي اتفقنا عليها، وأما أن تأخذه من علم الكلام أو من علم الفلسفة أو المنطق؛ فليس بعلم، بل هو زندقة وإلحاد.
ولذلك قال ابن تيمية: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق.
أي: أن الفلسفة تؤدي إلى المنطق، والمنطق يؤدي إلى الزندقة والإلحاد، ولذلك تجد معظم الملاحدة في هذا الزمان يحتجون بكلام الفلاسفة، والعجيب أنهم عندما يصنفون الكتب فإن معظم الأسماء التي في كتبهم هي أسماء أفرنجة ليسوا بعلماء، يقول لك: كيف والفيلسوف اليوناني قال كذا، والفيلسوف الإنجليزي قال كذا، والفيلسوف الفرنسي القديم قال كذا، والحديث قال كذا، فاعتمادهم كله على كلام الفلاسفة، وهذا يدل على أنه تلقى علمه عن هؤلاء.
فأنت في رحمة من الله عز وجل أن وفقك وعصمك في الإسلام بالكتاب والسنة، وأنك تتلقى علمك في بيوت الله تعالى من القرآن والسنة والإجماع والقياس، وأما غير ذلك فألقه في الحش ولا حرج عليك؛ لأنه ليس ديناً ولا علماً، بل هو زندقة وإلحاد.(18/18)
التحذير من طلب الغنى بالكيمياء وبيان معنى الكيمياء
قال: [ولا تطلب الغنى بالكيمياء؛ فإنه من طلب الغنى بالكيمياء افتقر].
وفي الحقيقة أن هذه المسألة معماة عندي، وأنا لا أحسن الكلام فيها، غير أن بعض أهل العلم سمعته يذكر رأيه ويقول: المقصود به السحر، إذ إن الساحر يستخدم مواد كيماوية وغير ذلك، فيأتي بعناصر مكونة للذهب، أو بعناصر مكونة للفضة؛ لأن هذا مصدر المال، أو هذا أصل المال: الذهب والفضة، فهو يأتي بعناصر كيميائية بإضافة أنساب منها إلى أنساب أخرى معينة، وهذا الخليط يخرج ذهباً وفضة، أو معدناً يباع ويشترى، فمن طلب الغنى بالكيمياء أفقره الله عز وجل.(18/19)
الجرأة على العلماء لا تأتي إلا من الجهال
قال: [وجاء أبو بكر الأصم -وهو فعلاً أصم- إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئت أناظرك في الدين].
عاملك الله بما تستحق! ألم تجد إلا عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام الشافعي، فـ عبد الرحمن بن مهدي تورع، وأحمد بن حنبل تورع، وهؤلاء هم أئمة الدنيا، ودائماً الجرأة لا تأتي إلا من جاهل أو غبي، ولذلك قال عبد الله بن المعتز: لا يتصدر إلا فائق أو مائق.
والفائق: هو المتفوق، فيكون له صدر في الأمة، وصدر في الناس، وعلم يشار إليه؛ لأنه طول عمره وهو رجل فاضل ومحترم، يحافظ على وقته، ويذاكر ويحفظ، ويستمع كلام أهل العلم، ويحاول أن يحصل العلم من مصادره؛ حتى يكتب له التفوق والتصدر في الناس، وإن لم يبغ هو التصدر لكن الناس يقدرونه، مع أن علماءنا ليس أحد منهم من أهل الدنيا، أو صاحب منصب، وما فرض علينا علمه من خلال منصبه.
وأما أصحاب المناصب فهم أكبر سلاطين في الدنيا، لكن لما يدخلوا علينا نقول لهم: لا نريدكم؛ لأن عندنا أناساً أحسن منكم، وأنظف منكم، فنتلقى عنهم، وأنتم لستم أصحاب دين، بل أصحاب انحراف، والانحراف ثابت عنكم، وقد كنتم مستقيمين قبل الكرسي، وبعد الكرسي تغيرت أحوالكم، ومن أجل ذلك كلامكم عندنا غير معتمد، مع أنهم في العلم أناس جيدون، فهم ليسوا جهلة، لكننا لا نثق في علمهم أو في فتاواهم.
فمثلاً: عندنا الشيخ الألباني رحمه الله، وابن باز وغيرهم من أهل العلم، هؤلاء أناس كتب لهم القبول والصدارة في العالم كله كافرهم ومؤمنهم، وليسوا أصحاب كراسي ووجاهات، ولا عندهم من الأموال الكثيرة لكي نتملق لهم من أجل أن نأخذ من دنياهم.
بل أنا أذكر مراراً أن الجهلة كانوا يأتون إلى عمان الأردن، ويجهلون أيما جهل على الشيخ الألباني، حتى هم كثير من الطلاب أن يضربوهم؛ لأنه لا يمكن مناقشة العالم بهذا الأسلوب أبداً.
فمثلاً: جاء رجل من مصر إلى عمان الأردن، وصلى الجمعة عند الشيخ الألباني في مسجد صلاح الدين في الدوار الرابع عند الشيخ أبي شقرة، وبينما أنا صاعد المسجد سمعته يقول: أين الأخ الألباني؟! فقلت له: لا يصح هذا يا فلان! من الخطأ أنك تخاطب عالماً مبرزاً في الأمة بلقب الأخ، فهل تدخل على أبيك فتقول له: يا أخ فلان؟! أو على أمك وتقول لها: يا أختي؟! المهم خرج الشيخ الألباني من المسجد الله يرحمه ويحسن إليه، فقال له: يا شيخ! أنا جئت لك من مصر مخصوص، قال له: لماذا؟ قال له: أنا ذهبت أقدم في الجامعة الإسلامية فقالوا: لا بد أن تأتي بتزكية من الشيخ الألباني، فقال له: قالوا لك: تزكية من الشيخ الألباني؟ قال له: نعم، قال له: ولكن أنت أول واحد ينقل إلي أن هذا الطلب من الجامعة موجه إليّ، وإلا فالأصل أنهم يقولون: اذهب وائت بتزكية من شخص معتبر عندهم وكفى، لكن أنهم عينوا لك الألباني فعجيب، قال: نعم عينوا الألباني، فقال: طيب يا أخي! إن التزكية شهادة، فكوني أشهد لك أنك من أهل الاستقامة في العلم والعمل والعقيدة وغير ذلك أمر مهم جداً، ثم قال له: أليس الواجب علي ألا أشهد إلا بما علمت؟ فقال الرجل: أنا الحمد لله أخ مسلم جئت من مصر، فكيف تردني؟ وهل كان النبي عليه الصلاة والسلام يرد سائلاً؟ وأخذ يناقش بجلافة وقلة أدب مع الشيخ، ثم طلب من الشيخ المال الذي أنفقه في سفره إليه، فقال له الشيخ: ومن أين آتي لك بفلوس؟ هل أنا قلت لك: تأتي؟ فقال له: إما أن تعطيني الشهادة أو تعطيني الفلوس.
ثم إن الإخوة الذين هم مختصون بهذه الأشكال قاموا وصرفوه من الشيخ، ثم أتى إلى هنا ولم يتعلم لا في الجامعة ولا في المدرسة، ولا يزال إلى الآن يحمل حملة شعواء على الشيخ الألباني.(18/20)
قوة الشيخ الألباني في الحق وعدم محاباته لأقربائه
مثال آخر: ولده عبد المصور الذي تغيب في أمريكا عدة أعوام، هذا الولد إذا نظرت في وجهه استحييت من فرط أدبه، جاء عبد المصور من أمريكا وذهب إلى الجامعة، فقالوا له: ما معك تزكية وأنت ابن الشيخ الكبير؟! اذهب وأحضر إجازة من والدك؛ لأن هذا عندنا إجراء روتيني لا بد من استيفائه.
فجاء إلى والده -ونحن جلوس في بيته- وتلطف غاية التلطف في طرح قضيته على والده، فالشيخ الألباني قال له: تريد تزكية؟ قال: نعم، قال: ائتني بورقة وقلم، ونحن أخذنا الأمر عادياً وطبيعياً أنه سيعطي لابنه إجازة، فكتب في الورقة: أما بعد: فهذا ولدي عبد المصور بن محمد ناصر الدين الساعاتي تغيب عني منذ أربعة عشر عاماً في بلاد الكفر، ولا أدري عن دينه ولا خلقه شيئاً، والسلام.
فأخذها عبد المصور وأطبقها، ثم وضعها في جيبه ولم يقرأها حتى انصرف عن والده، فسألناه بعد ذلك عما كتب أبوه، فأخرج الورقة وقرأها علينا، وقال: هو محق في ذلك؛ لأنه بالفعل الإنسان يتغير في يوم وليلة، ويتغير في لحظة، وأنا قد تغيبت عنه، فالولد التمس لأبيه هذا، وهو يعرف منهجية أبيه وشدته في الحق، فالتمس له العذر، لكن ذاك المصري لا، حتى وإن كان طالب علم، لكن بمجرد أنه يريد منك شيئاً فلا بد أن تعمله له وإلا سيغضب منك.
والشيخ يا إخواني قد وضعناه في مئات المرات الحرجة مع الجامعة الإسلامية، فأخ من الإخوة يأتي ويلح ثم يلح، ولا شيء غير الإلحاح، فتحت ضغط الأخ وإلحاحه يكتب له الشيخ تزكية إلى الجامعة الإسلامية، ثم يذهب الأخ هناك فيأتي بالموبقات والكبائر، فالجامعة ترسل رسالة للشيخ الألباني تقول له: لا ترسل إلينا أحداً من قبلك بعد ذلك، إي والله! والشيخ قد أطلعنا على مثل ذلك عدة رسائل من الجامعة موجهة إليه، وفي النهاية قال: أنا جعلت المسئولية على عاتق الغير، فيزكيه الغير، وأنا على تزكيته في نفس الورقة أزكيه؛ حتى يخلع مسئوليته أمام الجامعة.
ثم وقع في نفس الحرج وزيادة، فالآن نحن يا إخواني! لا نزكي أحداً قط حتى وإن كنا نعرفه، لكن الأخ يأتي يلح مئات المرات، حتى يلحق الواحد في بيته وفي شارعه وفي سوقه وفي كل مكان، ولا يكون أمامنا إلا التزكية، فهل ترضون أن نزكي واحداً منكم، ثم من ورائه فوراً أتصل بالشيخ وأقول: له كذا وكذا وكذا، فلا تعتمدها يا شيخ؟! أيصح هذا؟! نرجع إلى أصل كلامنا وهو: أن منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة يكون من القرآن والسنة والإجماع والقياس، وما دون ذلك فليس بمنهج، وما دون ذلك فهو الكلام والأهواء والجدل والملاحاة والخصومات، وليس هذا هو منهج السلف رضي الله عنهم.(18/21)
احتقار الإمام ابن مهدي لأصحاب الكلام والجدل
قال: [قال: جاء أبو بكر الأصم إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئت أناظرك في الدين، فقال: إن شككت في شيء من أمر دينك فقف حتى أخرج إلى الصلاة، وإلا فاذهب إلى عملك، فمضى ولم يثبت].
أي: بالنسبة لي فديني مستقر وكامل، ولا أحتاج فيه إلى مناظرة، وإذا كنت شاكاً في شيء من أمر دينك، فقف عند الباب ولا تدخل، حتى آتي إليك بعد أن أخرج إلى الصلاة، ثم سل عن مسألتك حتى أعلمك بأنك جاهل.
قال: [وقال أبو يوسف: العلم بالكلام يدعو إلى الزندقة، كما قال أبو يزيد السراج: قال لي أبو عمر الطويل: العلم بالكلام بمنزلة التنجيم، كلما كان صاحبه أزيد علماً كان أشد لفساده].
ولذلك حين يوصف الساحر بأنه معتق، فإن ذلك يعني: عتيق وقديم، أي: متمترس في الكفر والإلحاد والزندقة، وكل الأبالسة جنوده، بخلاف الساحر المبتدئ فلم يزل بعد غير متمكن، فمعه شيطان أحياناً يحضر له الحاجة ويفلح فيها، وأحياناً لا يفلح، فيحرج أمام المسحور، بخلاف الساحر القديم؛ فإنه يسحر ومعه أبالسة عدة، إن لم يأت هذا جاء آخر وهكذا، لكن هذا كفر، وإن رأيت أنه في الظاهر ينفع.(18/22)
ذم الإمام أحمد للكلام
قال: [وقال: أبو عبد الله أحمد بن حنبل: من أحب الكلام لم يخرج من قلبه -أي: من أحب الكلام واستهواه تمكن من قلبه، وتربع فيه ولم يخرج منه- ولا ترى صاحب كلام يفلح قط.
وقال: عليكم بالسنة والحديث، وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء؛ فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاماً لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تئول إلى خير قط، أعاذنا الله وإياكم من الفتن، وسلمنا وإياكم من كل هلكة.
وقال أبو الحارث: سألت أبا عبد الله فقلت: إن ها هنا رجلاً يناظر الجهمية ويبين خطأهم، ويدقق عليهم المسائل فما ترى؟ قال: لست أرى الكلام في شيء من هذه الأهواء، ولا أرى لأحد أن يناظرهم، أليس قال معاوية بن قرة: الخصومة تحبط الأعمال، والكلام الرديء لا يدعو إلى خير، لا يفلح صاحب كلام، تجنبوا أصحاب الجدال والكلام، وعليكم بالسنن، وما كان عليه أهل العلم قبلكم، فإنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل البدع، والجلوس معهم، وإنما السلامة في ترك هذا، لم يؤمر بالجدال والخصومات مع أهل الضلالة، فإنه سلامة له منه.
وقال كذلك أحمد بن حنبل: صاحب الكلام لا يخرج حب الكلام من قلبه، إنه لا يفلح، كلما تكلم بمحدثة حمل نفسه على الذب عنها].
يعني: كلما ذكر بدعة تكلف الدفاع عنها؛ لأجل إثباتها.(18/23)
غربة الدين في هذه الأزمان
والمعلوم أنه ما أحدثت بدعة إلا وأهلكت سنة، فتصور أن تنتشر البدع حتى تكون هي السنن في نظر الناس، ولذلك الآن إذا فتح الله عليك بالعلم، وذهبت إلى قرية من القرى تعلمهم الوضوء الصحيح فإنهم يضحكون عليك؛ لأنك في نظرهم يا ابن الجامعة! صغير، فمثلاً: أنت من مواليد الثمانين، فيقول لك: أنا عمري مائة سنة، فكيف تعلمني الوضوء؟! ووضوءه عبارة عن حفنة ماء يرش بها وجهه من الأمام، ثم يقف إماماً أو خطيباً في الناس! والعجيب أنه الوحيد في البلد الذي عنده إلمام، وأما أنت فلا، ويا ليت أنك تدخله في باقي متاهات العقيدة، أو في التوحيد، أو في الأسماء والصفات، أو في فروع العلم الدقيقة؛ فإنه بذلك يقول لك: فلان جاء بدين جديد، يعني: جاء به من باريس.
وكل واحد فينا من الفلاحين قد مر بهذه المرحلة، فقد كانوا يدعونني في قريتي -ووالدي موجود هنا يسمع- بـ حسن الكاذب، وكان الأهل والجيران والخلان هم الذين يحذرون أكثر تحذير، وهذا كان يذكرني بموقفهم من النبي عليه الصلاة والسلام في العهد المكي.
فتصور أن أدعى حسن الكاذب، فعندما يسمع أحد أن هذا حسن كاذب هل سيأتي أحد ويأخذ منه شيئاً؟ لا، ثم إنني تركت البلد، وقام بالدعوة من بعدي أناس، مع أننا كنا من أحسن الناس أدباً، وألطف الناس ممن سكن معهم، فلم يكن فينا عنف ولا حدة، وقد كان الواحد منهم يجلس على سلم الجامع ويشرب شيشة، فيقال له: يا عم! هات الشيشة معك وادخل فصل، فيقول: لا، أنا لا أصلي، ثم بعد انتهاء الصلاة يقول: يا ليت أني صليت معكم، لقد كسلت.
وآخر وجدته جالساً في بساطة المسجد الخارجية وراكن على جدار المسجد، فلما أنكرت عليه قال: أنا قيم المسجد! فهذا بلاء عظيم جداً.
وفي يوم من الأيام كانوا قد عملوا عرساً على سطح المسجد؛ عملته الجمعية الزراعية، وهذا العرس فيه من المنكرات ما الله به عليم، وفيه بلاء عظيم جداً، لكن من الذي سينكر! فأنا أقول: لو جاز أن يرسل الله تعالى نبياً؛ فإن مصر لا يكفيها إلا خمسة وعشرون نبياً من أولي العزم، ولا يكفيها شيخ ولا داعية إلى الله، مع أن الأصل فيهم الطيبة، لكن قلوب بعضهم أصلب من الصخر!(18/24)
نهي ابن سيرين عن الجدال إلا إذا كانت وراءه فائدة مرجوة.
قال: [وكان ابن سيرين ينهى عن الجدال، إلا رجلاً إن كلمته طمعت في رجوعه] فهذا شرط: أن يغلب على ظنك أنك لو كلمته أنه سيرجع، وإلا فلا.(18/25)
كلام الإمام أحمد في ذم الكلام
نختم هذا الدرس بكلام نفيس جداً للإمام أحمد بن حنبل، يقول أحمد بن حنبل: لا تجالس صاحب كلام وإن ذبَّ عن السنة؛ فإنه لا يئول أمره إلى خير.
أي: لا تجالس صاحب كلام وصاحب هوى وبدعة؛ حتى وإن تظاهر بأنه يدافع عن السنة، وهذا كلام واقعي، واذهب الآن إلى منكري السنة فإن أحدهم يقول لك: أنت فهمتني خطأ، نحن لم ننكر السنة، ولكن نقول: السنة هي فكرة في العقل؛ ولذلك لما اعتمدوا على عقولهم وجعلوا العقل حاكماً على السنن؛ صححوا أحاديث موضوعة، وردوا أحاديث متفق عليها؛ لأن القواعد التي وضعها أهل العلم ليست هي الحاكمة والحاسمة، وإنما الحاكم والحاسم هو العقل.
يقول لك أحدهم: أنت إذا تصورت أنني أنكر السنة فأنت مخطئ، فتقول له: يا أخي! أنت رددت حديث الذبابة وهو وارد في البخاري، فيقول لك: هل حديث الذبابة معقول يا أخي؟! وتقول له: كذلك أنت رددت حديث فقء موسى لعين ملك الموت، فيقول لك: وهل هذا حديث؟(18/26)
متى يجاب الإنسان إذا سأل عن بعض الأهواء والمحدثات
قال: فإن قال قائل: قد حذرتنا الخصومة والمراء والجدال والمناظرة، وقد علمنا أن هذا هو الحق، وأن هذا سبيل العلماء وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين، فإن جاءني ربي يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت، والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمس مني الجواب عليها، وأنا ممن قد وهب الله الكريم لي علماً بها، وبصراً نافذاً في كشفها، أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه، وأخليه وهواه وبدعته، ولا أرد عليه قبيح مقالته.
أي: قد عرفنا الحق في هذا المنهج، لكن افرض أن شخصاً جاءني فسألني عن هذه الأهواء المضلة، وأنا ممن وهب علماً، وأستطيع أن أقيم الحجة عليه؛ وهذا هو الشرط الثاني.
والشرط الثالث بعد ذلك: أنه يغلب على ظنك أنه سيقبل منك.
قال: فإني أقول له: اعلم يا أخي رحمك الله! أن الذي تبلى به من أهل هذا الشأن لن يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة: إما رجلاً قد عرفت حسن طريقته، وجميل مذهبه، ومحبته للسلامة، وقصده طريق الاستقامة، وإنما سلك طريقاً سمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم، وليس يعرف وجه المخرج مما قد بلي به، فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به، والشفاء مما أوذي به، أضف إلى علمك حاجته إليك حاجة الصادي إلى الماء الزلال، وأنت قد استشعرت طاعته، وأمنت مخالفته، فهذا الذي قد افترض عليك -أي: افترض الله تعالى عليك أن توفقه للرشاد والسداد، وأن تبين له الحق الذي يسأل عنه ويسترشد فيه- توفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين؛ وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإياك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي -أي: إياك أن تتكلف في أن تدخل في الرأي- والغوص على دقيق الكلام، فإن ذلك من فعلك -أي: إذا فعلته- بدعة، وإن كنت تريد به السنة، فإنَّ إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل، وكلامك على السنة من غير طريق السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك -أي: لا تداويه فتمرض أنت- ولا تطلب صلاحه بفسادك؛ فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره، ومن أراد الله وفقه وسدده، ومن اتقى الله أعانه ونصره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله(18/27)
شرح كتاب الإبانة - التحذير من الاستماع لأقوام يريدون نقض الإسلام وشرائعه
لأهل الباطل والبدع مسالك شيطانية للطعن في الإسلام، إذ إنهم في كل زمان ومكان يتجملون ويتلطفون جداً مع العامة، ويظهرون من حسن الخلق الشيء الكثير؛ حتى يغتر بهم العامة، ولذا فقد حذر العلماء من الاستماع لهم؛ لما في ذلك من ضرر يعود على المسلم في دينه ودنياه، والتصدي لهم هو واجب العلماء وأئمة الدين.(19/1)
التحذير من سماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام، ومحو شرائعه(19/2)
تستر أهل الباطل في طعنهم للإسلام وشرائعه بطعنهم في العلماء والرواة
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد.
فقد توقفنا عند باب: التحذير من استماع كلام قوم يريدون نقض الإسلام، ومحو شرائعه، فيكنون عن ذلك بالطعن على فقهاء المسلمين وعيبهم، وهذا هو المرض العضال، لكنهم لا يجرءون أن يطعنوا في أحكام الإسلام مباشرة؛ لأنهم لا يجدون آذاناً صاغية، فيسلكون مسالك شيطانية أخرى، منها: الطعن في علماء المسلمين، أو الطعن في الرواة، ولذلك تجد أن أكثر الصحابة يطعنون فيه هو أبو هريرة رضي الله عنه، مع أن أبا هريرة ليس هو راوي الحديث فقط، وإنما هو أكثر الصحابة رواية للحديث، وعنده المؤهلات الشرعية والعلمية التي أهلته لأن يكون أكثر الصحابة رواية لعلم النبي عليه الصلاة والسلام، فلما كان مغنم القوم بزعمهم الطعن في جل الشريعة؛ لأنها جاءت من طريق أبي هريرة، عند ذلك لم يمكنهم التصريح بذلك، فلجئوا إلى الطعن في شخصية أبي هريرة؛ لأن سقوط الثقة في الراوي هو سقوط لمروياته، فلما انبرت أقلام الكثيرين من علماء السنة للذب عن أبي هريرة وعن إخوانه من الصحابة رضي الله عنه؛ لجئوا إلى حيلة أخرى وهي الطعن في علماء المسلمين عامة؛ لأن الاختلاف وقع بينهم، والله عز وجل إنما أمر بالاتحاد ونبذ الفرقة وذمها.
فقالوا: الحق واحد، وما اختلفوا إلا لأنهم ليسوا على طريق الحق، وليسوا على طريق الاستقامة، ولو كانوا كذلك لما اختلفوا! ولا شك أن هذه الشبهة في ظاهرها لا بد أن تدخل وتلتبس على أذهان وأفهام العامة من الناس، والعامة ليسوا أهل شبه، فمع أنهم القطاع العريض والعظيم في الأمة، لكنهم ليسوا مدار ثبوت الأحكام ونشرها، وإنما مدار ذلك على أهل العلم؛ لأنهم أصحاب العلم، وهم أهل الاجتهاد، وعليهم مدار الفتوى، فأولئك يريدون أن يشوشوا عقائد عامة المسلمين، وصغار طلاب العلم بصرفهم عن طريق السلف.(19/3)
واجب أهل العلم تجاه المسالك الشيطانية لأهل البدع ضد الدين
فالإمام ابن بطة عليه رحمة الله في هذا الباب يحذر من سماع كلام أهل البدع والزيغ والضلال وإن تجملت شبهاتهم، وإن كان كلامهم في ظاهره مقبولاً، فإنه يحذر منه أشد التحذير، ونجد كلام أهل العلم في تحذيرنا من سماع كلام أهل الزيغ والضلال والأهواء، ومع ذلك نجدهم قد تصدوا لهم، مع أنهم قد حذرونا أن نسمع مجرد سماع لكلامهم.
والتوفيق بين تحذير أئمتنا لنا من أن نسمع كلام أهل البدع وبين تصديهم لهم: أنه لا يتصدى لهم إلا أهل العلم، ويحمل تحذيرهم لعامة الناس، ولمن يظن أنه يقع في حبائلهم، وأما أهل العلم الذين أوجب الله عز وجل عليهم إظهار هذه الشبهات، والرد عليها، وتفنيد مزاعم أهل الباطل؛ فهذا من أوجب الواجبات عليهم، ولذلك تجد في كل عصر من ينصح الأمة ويحذرها من أهل البدع، وهو بنفسه الذي يفضح ألاعيبهم، ويكشف عوارهم، ويبين فساد أقوالهم؛ لأن هذا يتعين عليه هو، وأما عامة أهل العلم مثلاً وعامة الناس فمن الخطورة بمكان أن يصغي أحدهم إلى أقوال أهل البدع.
وأهل البدع في كل زمان ومكان يتجملون ويتلطفون جداً مع العامة، ويظهرون من حسن الخلق الشيء الكثير حتى يغتر بهم العامة، ولا أدل على ذلك من أن النصارى -وهم النصارى وليس بعد الكفر ذنب- يتجملون جداً ويتلطفون، ويستخدمون أعلى أساليب الدهاء والمكر والخداع في استرضاء المسلمين، حتى إننا نجد جهلة المسلمين يلتقون بهم، ويصرحون أحياناً بأن النصارى أحسن من المسلمين، هكذا نسمع، وهذا ما هو إلا نقلة من مكائد أهل البدع، فيستخدمه أحدهم إذا أراد أن يعطيك شكوكاً، أو يوهمك في أصول الشريعة، أو يصرفك عن طريقك الذي تسلكه، فيصرفك بطريقة لبقة جداً مهذبة، وإن شئت فقل: بطريقة مقنعة لأهل الإيمان، مقنعة لمن كان قصده مبدأ لا عقيدة فيها ولا شريعة ولا فقه ولا علم.
فكلامهم لا يقبله إلا عقل فارغ ليس فيه شيء من دين الله عز وجل، وأما أن هذا الكلام مقنع أو مستقيم على الأصول الشرعية التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح؛ فليس كذلك، فهذه هي الأصول التي بها نقبل وبها نرد الأخبار، فالإمام هنا يحذر من سماع كلام هؤلاء القوم.(19/4)
الاختلاف الممدوح في فروع الشريعة لا في أصولها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: قد ذكرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرقة، وتحذيره أمته ذلك، وحضهم إياهم على الجماعة، والتمسك بالسنة -وهذا قد سبق في الأبواب السابقة- وقلت: إن ذلك هو أصل المسلمين، ودعامة الدين -أي: التمسك والاعتصام بحبل الله المتين- وأن الفرقة الناجية هي واحدة، والفرق المذمومة نيف وسبعون فرقة -أي: كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين) - ونحن نرى أن هذه الفرقة الناجية أيضاً فيها اختلاف كثير، وتباين في المذاهب، ونرى فقهاء المسلمين مختلفين، فلكل واحد منهم قول يقوله، ومذهب يذهب إليه وينصره، ويعيب من خالفه.
فـ مالك بن أنس رحمه الله إمام، وله أصحاب يعملون بقوله، ويعيبون من خالفه، وكذلك الشافعي، وكذلك أبو حنيفة، وكذلك أحمد بن حنبل، كل واحد من هؤلاء له مذهب يذهب إليه وينصره].
لكنه يزيد فيقول: ويعيب من خالفه، ولم يثبت عن واحد من هؤلاء الأئمة أنه عادى من خالفه، لكن هذه الكلمة كالسم، وضعها لأجل أن تأخذها وتبني عليها الآمال في تساوي الاختلاف بين هؤلاء الأئمة، وبينهم وبين غيرهم من أهل البدع، فيقول: هذا اختلاف وذاك اختلاف، ولما وقع بين هؤلاء الخلاف فما المانع أن يقع بينهم مجتمعين وبين غيرهم ممن ينسبون إلى البدعة! فيهون بعد ذلك الخلاف الناجم بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع.
لذا لا بد أن تعلم أن الخلاف الذي وقع بين هؤلاء الأئمة إنما هو خلاف في الفروع لا في الأصول، فأصولهم في الاعتقاد والدين والشريعة واحدة، وإنما وقع الاختلاف بينهم في فروع الأحكام خاصة، وهذا الخلاف محل نظر عند العلماء، ولهم فيه مذهبان سنتعرض لهما في هذا الباب.
وأما أن يكون الاختلاف واقع بين هؤلاء الأئمة المتبوعين في أصول الدين والشريعة؛ فليس الأمر كذلك، فالذي يعاب على أهل البدع ليس هو اختلافهم فيما يتعلق بفروع الشريعة؛ لأنه من نوع اختلاف علماء المسلمين، وإنما الذي يعاب عليهم، واستوجبوا به النار خلافهم لكتاب الله عز وجل، ولسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإجماع المسلمين فيما يتعلق بأصول الدين لا بفروعه.
فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) فالصحابة -وهم أعلم الناس بالخطاب النبوي، وبمراد النبي عليه الصلاة والسلام- لما لم يصلوا إلى بني قريظة حتى كاد وقت العصر أن يخرج ويدخل وقت المغرب؛ اختلفوا: فبعضهم قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل ذلك على سبيل الأمر والإلزام، وإنما من باب الخبر والبشارة أننا سندخل بني قريظة قبل صلاة المغرب.
وبعضهم قال: نلتزم ظاهر النص، فلا نصلي العصر إلا في بني قريظة وإن دخل وقت المغرب.
فالذي أخذ الأمر على ظاهره لم يصل العصر إلا في بني قريظة بعد دخول وقت المغرب، والذي اعتبر أن هذا الكلام ليس أمراً وإنما هو خبر والمراد البشارة؛ صلى العصر في آخر وقته، ثم إنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أنكر وعنف أحد الفريقين، وإنما أجاز هؤلاء على ما فهموه، وأجاز هؤلاء على ما فهموه.
وهذا يدل على أن الاختلاف جائز، وأن الاختلاف سائغ، وما وقع الاختلاف إلا لاختلاف عقول المجتهدين، أي: أن النص واحد والاجتهاد فيه متعدد، وكل اجتهاد في النص مقبول، فهؤلاء لما حملوا الأمر على ظاهره كان كلامهم مقبولاً لا يرده أحد، ولذلك لم ينكر عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء لما فهموا فهماً آخر من النص، فهم لم يجتهدوا مع النص، وإنما وقع اجتهادهم في فهم النص، ولذلك فالاجتهاد عند أهل العلم نوعان: الاجتهاد مع وجود النص، والاجتهاد في فهم النص، فالثاني جائز؛ بل هو فرض كفاية، والأول باطل؛ لأنه لا اجتهاد مع النص.
والشاهد: أن هذا الخلاف مرده إلى أصل من الأصول وهي السنة، وإذا اختلف المجتهدان فالمصيب له أجران، والمخطئ له أجر واحد.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عند مسلم من حديث أبي هريرة، وعند البخاري من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فلم يجرمه ولم يؤثمه؛ لأنه إنما تعمد الحق واجتهد في الوصول إليه فأخطأ، فهو يأخذ أجر الاجتهاد وإرادة الحق.
وأما الأول فإنه أخذ نفس الأجر، وأجراً زائداً وهو إصابة الحق، والكل من عند الله عز وجل، فهذا أصاب من عند الله، وهذا لم يصب من عند الله بقدر كوني.(19/5)
الرد على شبهة: أن الحق واحد وقد اختلف الأئمة
قال: [ونرى قوماً من المعتزلة والرافضة وأهل الأهواء يعيبونا بهذا الاختلاف، ويقولون: إن الحق واحد، فكيف يكون في وجهين مختلفين؟!].
هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم: هل الحق في قضايا الخلاف واحد أم متعدد؟ ولا بد قبل الإجابة عن هذا السؤال أن نقول: الحق هذا ما المراد به: الحق في أصول الدين، أم في فروعه؟ فإذا قلنا: في أصول الدين؛ فلا بد أن يكون
الجواب
الحق واحد في أصول الدين وأصول الشريعة، وإذا كان الجواب في فروع الشريعة وفي مسائل النزاع والاختلاف بين أهل العلم فأقول: الحق فيها يمكن أن يتعدد، بدليل ما ذكرت من إمكان الصلاة في بني قريظة، فلو كان الحق فيها واحداً لأنكر النبي عليه الصلاة والسلام على الفريق الثاني الذي خالف، وهناك مئات الأمثلة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سيرة الخلفاء الراشدين تشهد بذلك، وسيذكر بعضها الإمام.
قال ابن بطة مجيباً عن شبهة هذا الذي التبست عليه أقاويل أهل الزيغ والضلال: [فإني أقول له في جواب هذا
السؤال
أما ما تحكيه عن أهل البدع مما يعيبون به أهل التوحيد والإثبات من الاختلاف؛ فإني قد تدبرت كلامهم في هذا المعنى، فإذا هم ليس الاختلاف يعيبون، ولا له يقصدون، وإنما هم قوم علموا أن أهل الملة وأهل الذمة والملوك والسوقة والخاصة والعامة وأهل الدنيا كافة إلى الفقهاء يرجعون، ولأمرهم يطيعون، وبحكمهم يقضون في كل ما أشكل عليهم، وفي كل ما يتنازعون فيه، فعلى فقهاء المسلمين يعولون، وفي رجوع الناس إلى فقهائهم، وطاعتهم لعلمائهم ثبات للدين].
أي: أن أهل الزيغ لما علموا أن عموم طبقات الأمة يرجعون إلى فقهائهم، ما كان منهم إلا أن سلكوا مسلك الطعن في الفقهاء الذين هم مرجع للأمة، وكأن لسان حالهم: لا بد أن أهدم وأصدع ذلك الجدار الذي تستند إليه، ولا بد أن ينهار هذا الجدار الذي تركن إليه، وليس بإمكانهم أن يطعنوا في الإسلام، لذلك طعنوا في فقهاء الأمة، حتى إذا انهارت مكانة العالم في نفسك وقلبك؛ فلا بد أن ينهار كل ما يأتي منه من فتوى وعلم، وتكليف وبيان وغير ذلك.(19/6)
كل يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي عليه الصلاة والسلام
ولا بد أن تعتقدوا قضية مهمة جداً وهي: أن علماء المسلمين ودعاة المسلمين هم في نهاية أمرهم بشر ممن خلق الله عز وجل، فليسوا أنبياء ولا ملائكة، وهذا يعني أنهم ليسوا بمعصومين، فيقع منهم الحق والباطل، والخطأ والصواب؛ لأن كثيراً من أجيال الصحوة ينظر إلى شيخه وداعيته على أنه معصوم، فإذا ذكر منه الخطأ سقط برمته مهما كثرت حسناته، والخصم في هذه القضية هو المدعو لا الداعية؛ لأنه داعية منطلق في طريقه، يصيب مرة ويخطئ أخرى، لكنه على أية حال يفهم القضية ويفهم أنه غير معصوم، ويلزم نفسه بالاستقامة، وما وقع منه من ظلم أو غيره فإنما وقع عن سهو، أو خطأ، أو غفلة، أو عقوبة أو غير ذلك، فلا تنصرف أنت عنه، بل الأمر كما قال مالك: كل الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، قال هذا في وسط جلة من أتباع التابعين، فإذا وقع العالم في خطأ لا يهدم عمله كله بخطأ واحد، فليس هذا المنهج حقاً، أي: ليس هدم عمل العامل هو طريق الاستقامة، وإنما طريق الاستقامة أن تأخذ من كل أحد ما أصاب فيه، وأن ترد على كل أحد ما أخطأ فيه.
وهذا كلام رائع جداً، وأروع منه أن تنزله من حياتك منزلة العمل لا منزلة الحفظ فقط، وهذه أصول درج عليها أهل السنة والجماعة منذ عهد الخلفاء الراشدين يستمر بإذن الله إلى قيام الساعة.
فالأمر هنا أن الطالب الذي ينظر إلى شيخه أنه القدوة والأسوة فإن سقط مرة سقط كله؛ أنا أنصح هذا الطالب نصيحة مشفق ألا يقرب من شيخه قط، وإنما يأخذ منه خيره في مجلس العلم، وأما أن يلزمه ويصاحبه ويذهب معه ويعود معه ويأكل ويشرب وينام ويسافر ويعود معه، فيرى منه ما يرى هو من نفسه، فيقول: لا فرق بيني وبينه! فيقع هذا الإنسان في قلبه ما لا ينتفع بعد ذلك به، فأنا أنصحه والحالة هذه: أن يلزم بيته، وأن يلزم مجلس العلم ولا يقترب من الشيخ إلا أن يصافحه وينصرف، ولو ترك مصافحته لكان أولى؛ حفاظاً على الانتفاع بهذا الشيخ دائماً.(19/7)
العلة التي جعلت أهل الأهواء يتكلمون في الفقهاء والعلماء
قال: [وكل ذلك ففيه غيظ لأهل الأهواء واضمحلال للبدع، فهم يوهون أمر الفقهاء، ويضعفون أصولهم، ويطعنون عليهم بالاختلاف؛ لتخرج الرعية عن طاعتهم].
وهذا كلام جميل، والذي يقع من بعض المشايخ من كلام بعضهم في بعض يكون التعامل معه بأن يؤخذ من كل شيخ أحسن ما عنده فقط، لأن الخطأ منهم وارد، لكن لا يمكن أن يكون ديدنه السباب والشتيمة؛ إذ لا يصبر على هذا الأذى من أي أحد فضلاً عن شيخ يتعامل مع كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أي: أنه قد يسب أحياناً، ويعلم الناس أحياناً، فخذ منه ما أصاب فيه من علم موافق للأصول، وخذ من الآخر العلم الذي وافق الأصول، وأما ما خالف الأصول فدعه، وعليك أن تصك أذنك عن سماع ما لا يليق بأهل العلم من سباب وغيره.(19/8)
شؤم بعض الطلاب في نقلهم للأخبار والإفساد بين العلماء
وللأسف الشديد أنا نجد في أجيال الصحوة في كل مسجد، وعند كل شيخ طلاب فتنة، يجيدون نقل الأخبار على جهة الإفساد، بل ويشعلون النار أكثر مما أراد الساب أو الشاتم، لذا فينبغي على كل شيخ أن ينزه لسانه، وأن ينزه دينه وعرضه عن الوقيعة في المسلمين، وهذا بلا شك هو قصد الدين، لكن هب أن واحداً أو اثنين أو عشرة سقطوا هذه السقطة، فينبغي تجنبها وعدم استمرارها وكأنها لم تكن، بخلاف من ينقلون الأخبار، فهؤلاء جزاؤهم عند الله عز وجل عظيم، والمستفيد من هذا الأمر هم أعداء الإسلام، بل هذا بالنسبة لهم صيد ثمين، وغنيمة باردة دون، فإذا ما وجدوا أن علماء المسلمين يطعن بعضهم في بعض فهذه بلا شك غنيمة قدمت إليهم على طبق من ذهب خالص، فيسهل الأمر عليهم، والواقع والحاصل أن هذا الطبق إنما قدم بألسنة العلماء والدعاة والمشايخ.
فالسعيد من ترك غيره وانشغل بنفسه، وكرس حياته في حفظ كتاب الله تعالى، وفي حفظ سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومعرفة الأحكام الشرعية من الحلال والحرام وغيرها.(19/9)
هدف أهل البدع من طعنهم على فقهاء وعلماء المسلمين
قال: [فهم يوهون أمر الفقهاء، ويضعفون أصولهم، ويطعنون عليهم بالاختلاف؛ لتخرج الرعية عن طاعتهم، والانقياد لأحكامهم؛ فيفسد الدين، وتترك الصلوات والجماعات، وتبطل الزكوات والصدقات والحج والجهاد، ويستحل الربا والزنا والخمور والفجور وما قد ظهر مما لا خفاء به على العقلاء.
فأما أهل البدع -يا أخي! رحمك الله- فإنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويعيبون ما يأتون، ويجحدون ما يعلمون، ويبصرون القذى في عيون غيرهم وعيونهم تطرف على الأجذاع.
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرى أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع أو الجذل في عينه)، فيرى أحدكم أقل الهفوات التي وقع فيها أخوه، ثم هو عنده من العيب كأصول النخل وأصول الشجر، لكنه لا يذكرها، فينسى ما عنده من عظائم ومن بلايا ويذكر هفوات أخيه، وكذلك أهل البدع ينظرون في فقهاء الملة وعلماء الشريعة إلى أقل الأخطاء، وينسون أنهم مخالفون لأصول الدين وأصول الشريعة، بل يتهمون أهل العدالة والأمانة في النقل، ولا يتهمون آراءهم وأهواءهم على الظن].
أي: أن الراوي يروي بيقين ومع هذا هو عند أهل الفرق مجتهد، وأهل البدع لا علاقة لهم بالنقل أصلاً، وإنما دينهم الرأي والنظر والظن والتخمين، فهم لا يرون هذه البلايا التي في أنفسهم، وإنما يتهمون الرواة مع أنهم أهل النقل.(19/10)
بيان أن أهل البدع هم أكثر الناس اختلافاً واضطراباً
قال: [وأهل البدع أكثر الناس اختلافاً، وأشدهم تنافياً وتبايناً، لا يتفق اثنان من رؤسائهم على قول، ولا يجتمع رجلان من أئمتهم على مذهب، فـ أبو الهذيل، وهو محمد بن هذيل العلاف المعروف، معتزلي كبير من أئمة الاعتزال -يخالف النظام - والنظام كذلك معتزلي إن لم يكن هو أكبر منظري المعتزلة في زمانه، بل لم ينجب الاعتزال أذكى منه مع سوء الاعتقاد-، وحسين النجار يخالفهما -أي: يخالف أبا الهذيل والنظام - وهشام الفوطي يخالفهم جميعاً، وثمامة بن أشرس يخالف الكل، وهاشم الأوقص وصالح قبة -وهذا شيعي- يخالفهم جميعاً، وكل واحد منهم قد انتحل لنفسه ديناً ينصره، ورباً يعبده، وله على ذلك أصحاب يتبعونه، وكل واحد منهم يكفر من خالفه -ما عدا الأصول لأهل الاعتزال-، ويلعن من لا يتبعه، وهم في اختلافهم وتباينهم كاختلاف اليهود والنصارى].
بينما الواحد من هذه الأمة عندما يخالف في مسألة من مسائل الأحكام فإننا نقول: يكفي أنه من أهل السنة، لكن لا نقره على الخطأ، ولا نبدعه ولا نفسقه، وإنما نقول: تأول في القضية الفلانية وخرج بها عن حد الاعتدال الذي عليه أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بفروع الأحكام، ولا نزيد على ذلك بلعنه ولا سبه ولا شتمه ولا تفسيقه وتبديعه فضلاً عن تكفيره، ولعلكم تذكرون أن الإمام الشافعي قال: الفرق بيننا وبين أهل البدع أن الواحد منهم إذا خالف صاحبه قال: كفرت، وإذا خالف أحدنا صاحبه قال: أخطأت.
فالمخطئ فينا مخطئ، ولا نزيد على ذلك، والمخطئ في أهل البدع مع بعضهم لبعض فاسق أو كافر، ولذلك قال شيخ الإسلام عليه رحمة الله: أهل السنة لأهل البدع أرحم من أهل البدع بعضهم لبعض؛ لأن الواحد منهم إذا خالف صاحبه قال: كفرت، والواحد منا إذا خالف صاحبه قال: أخطأت، إذاً فأهل السنة أرحم بأهل البدع من أهل البدع بعضهم ببعض، وهذا كلام في غاية الأهمية.
ولذلك ففي أهل البدع نوع شبه من قول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113].(19/11)
اختلاف أهل البدع كاختلاف اليهود والنصارى وأهل الشرك
قال: [فاختلافهم -أي: أهل البدعة- كاختلاف اليهود والنصارى؛ لأن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله، وفي الكيفية، وفي قدرة الله وفي عظمته، وفي نعيم الجنة، وفي عذاب النار، وفي البرزخ، وفي اللوح المحفوظ، وفي الرق المنشور، وفي علم الله عز وجل، وفي القرآن، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي مرسل، ولا ملك مقرب إلا بوحي من الله].
إذاً الاختلاف الذي ذكرناه الآن هو اختلاف في الأصول، وبالتالي من خالفنا في مثل هذا أو في بعضه استحق أن يكونوا من أهل الأهواء والبدع، وأما إذا خالفنا في مسألة تتعلق بالفروع الشريعة، أو بحكم من الأحكام العملية فلا يستحق عليه الوعيد بالنار، ولا يخرج من حد الاحتجاج.(19/12)
الرافضة أشد الناس اختلافاً وتبايناً وتطاعناً
قال: [وأما الرافضة فأشد الناس اختلافاً وتبايناً وتطاعناً، فكل واحد منهم يختار مذهباً لنفسه يلعن من خالفه عليه، ويكفر من لم يتبعه، وكلهم يقول: إنه لا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة، ولا جهاد، ولا جمعة، ولا عيدين، ولا نكاح، ولا طلاق، ولا بيع، ولا شراء إلا بإمام، فيعلقون كل هذا على وجود الإمام].
وأنا كنت أتصور أن هذا الكلام مبالغ فيه، لكن رأيت أن الشيعة كانت تكفر شاه إيران وهو ملكهم، ولم يكونوا يحجون إلى بيت الله الحرام، ولما تولى الخميني إيران أتت الأفواج بالملايين إلى مكة ليحجوا بيت الله الحرام، وأحدهم بل أكثر من واحد منهم صرح بأنه يعوض السنوات الماضية التي توقف فيها الجهاد والحج وصلاة الجمعة وغيرها مما يلزم فيها الإمام، فلما ظهر إمامهم رجعوا إلى العبادة التي توقفت على نزول الإمام، والمسلمون اليوم ليس لهم إمام، فهل يقول واحد منكم بتوقف صلاة الجمعة حتى يظهر الإمام أو خليفة عام للمسلمين أو المهدي المنتظر؟! وهل نعطل الجهاد مثلاً لعدم وجود الإمام أو الخليفة؟!
الجواب
لا، فالجهاد ماض إلى قيام الساعة في كل وقت إذا احتاج المسلمون إليه، والرافضة يقلدون أهل السنة في هذا الكلام.
قال: [وإنه من لا إمام له فلا دين له -هكذا يقولون-، ومن لم يعرف إمامه فلا دين له، ثم يختلفون في الأئمة، فالإمامية لها إمام تسوده -أي: تجعله سيداً عليها- وتلعن من قال: إن الإمام غيره بل وتكفره، وكذلك الزيدية لها إمام غير إمام الإمامية، وكذلك الإسماعيلية، وكذلك الكيسانية والبترية، وكل طائفة تنتحل مذهباً وإماماً، وتلعن من خالفها عليه بل وتكفره.
ولولا ما نؤثره من صيانة العلم الذي أعلى الله أمره، وشرف قدره ونزهه أن يخلط به نجاسات أهل الزيغ، وقبيح أقوالهم ومذاهبهم التي تقشعر الجلود من ذكرها، وتجزع النفوس من استماعها، وينزه العقلاء ألفاظهم وأسماعهم عن لفظها؛ لذكرت من ذلك ما فيه عبرة للمعتبرين، ولكنه قد روي عن طلحة بن مصرف رحمه الله أنه قال: لولا أني على طهارة لأخبرتكم بما تقوله الروافض].
وهذا الكلام خرج منه مخرج المبالغة في الإنكار على مقالات الرافضة والخوارج.
قال: [ويقول كذلك ابن المبارك: إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية]؛ لأن كلام الجهمية أشد قبحاً من كلام اليهود والنصارى، فكلام اليهود والنصارى رجس، وأما كلام الجهمية فهو أقبح من رجس.
قال: [ولولا أنك قلت: إن أهل الزيغ يطعنون على أئمتنا وعلمائنا وعلمائها باختلافهم، فأحببت أن أعلمك أن الذي أنكروه هم ابتدعوه، وأن الذي عابوه هم استحسنوه، ولولا اختلافهم في أصولهم وعقودهم وإيمانهم ودياناتهم لما دنسنا ألفاظنا بذكر حالهم].(19/13)
أقسام الاختلاف
ثم بعد ذلك يذكر الإمام ابن بطة أقسام الاختلاف وحكمه، فيقول رحمه الله: [فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين]، تعرض لمسألة الاختلاف وأقسامه حتى يبين لك أن الاختلاف نوعان، في أصول الدين، وفي فروعه، أما اختلاف أئمتنا الذي دخل عليك كشبهة فقلت لـ ابن بطة: لم تعيب يا ابن بطة على من تسميهم أهل الزيغ والأهواء لمجرد أنهم مخالفون لنا، مع أن الخلاف وقع في أئمتنا، فنحن نعيب عليهم ما وقعنا فيه، فـ ابن بطة يقول: لا، ليس هذا الكلام سليماً ولا صحيحاً، ومرد ذلك إلى معرفة نوع الاختلاف، وهو نوعان: اختلاف في العقائد والأصول، واختلاف في الفروع.
فأما الذي وقع فيه فقهاؤنا فهو الاختلاف في الفروع، وأما الذي وقع من أهل الزيغ والضلال فهو الاختلاف في الأصول، وإن اتفقا في مصطلح الاختلاف إلا أنه شتان ما بين الاختلاف الواقع بين فقهائنا في فروع الشريعة، وبين اختلاف فقهائنا وغيرهم من أهل الزيغ والضلال في أصول الشريعة وأصول الدين.
لكن أهل الزيغ لما أرادوا صرف القاعدة العامة عن فقهائها وعلمائها لم يذكروا هذه الأحكام، وإنما اكتفوا بما أسموه بالاختلاف، ونحن قد اختلفنا يا عامة الناس مع علمائكم، وهذا لا ينكر علينا؛ لأن فقهاءكم كذلك قد اختلفوا، فيلزمكم إذ تعيبوننا على هذا الخلاف أن تعيبوا أنفسكم، هكذا أراد أهل الزيغ أن يقولوا، وأن يلبسوا على عامة الناس فانتبهوا.
قال: [فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين: أحدهما: اختلاف الإقرار به إيمان ورحمة وصواب، وهو الاختلاف المحمود الذي نطق به الكتاب، ومضت به السنة، ورضيت به الأمة، وذلك في الفروع والأحكام التي أصولها ترجع إلى الإجماع والائتلاف].
إذاً هذا هو الاختلاف المحمود الذي لا ينكر، وهو اختلاف علماء أهل السنة.
قال: [واختلاف هو كفر وفرقة وسخطة وعذاب، يئول بأهله إلى الشتات والتضاغن والتباين والعداوة واستحلال الدم والمال، وهو اختلاف أهل الزيغ في الأصول والاعتقاد والديانة.
فأما اختلاف أهل الزيغ فقد بينت لك كيف هو وفيما اختلفوا فيه، وأما اختلاف الشريعة الذي يئول بأهله إلى الإجماع والإلفة والتواصل والتراحم؛ فإن أهل الإثبات من أهل السنة يجمعون على الإقرار بالتوحيد، وبالرسالة، بأن الإيمان قول وعمل ونية، وبأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومجمعون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله خالق الخير والشر ومقدرهما، وعلى أن الله يرى في القيامة، وعلى أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان ببقاء الله، وأن الله على عرشه بائن من خلقه، وعلمه محيط بالأشياء، وأن الله قديم لا بداية له ولا نهاية ولا غاية].
أي: ولا حد، واسم القديم قال بعضهم: ثبت هذا في بعض النصوص، لكن ثبوت هذا الاسم محل نظر عند المحققين، مع أنه قد استخدمه بعض من أبناء المسلمين، ولما كانت أسماء الله تعالى توقيفية كان ينبغي الوقوف عند ما صح في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبإمكاننا أن نستخدم اسم الأول مكان القديم؛ لأنهم أرادوا بالقديم الأول، والأول ثابت بالتواتر في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلم ندع ما ثبت بالتواتر وعليه إجماع المسلمين، وندخل في اسم آخر هو محل نزاع بين علماء المسلمين؟! ولفظة (أول) أقوى في الدلالة من القديم؛ لأن القديم قبله أقدم، أما الأول فليس قبله شيء، وبالتالي فنكتفي بالوقوف عنده.
قال: [بصفاته التامة، لم يزل عالماً ناطقاً سميعاً بصيراً حياً حليماً، قد علم ما يكون قبل أن يكون، وأنه قدر المقادير قبل خلق الأشياء].(19/14)
إجماع أهل السنة على خلافة الخلفاء الأربعة بالترتيب المعروف، واختلافهم في الأفضلية بين عثمان وعلي
قال: [ومجمعون -أي: أهل السنة- على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم السلام].
وقوله: عليهم السلام، من جهة الاصطلاح (عليه السلام) خاصة بالأنبياء.
قال: [وعلى تقديم الشيخين].
أي: لم يختلف أحد من أهل السنة فيما يتعلق بإمامة الأربعة الخلفاء الراشدين، وكذلك أجمعوا على أن الأول منهم هو أبو بكر، ثم عمر، والخلاف إنما وقع في الأفضلية لا في الإمامة بين عثمان وعلي، فبعضهم قال: عثمان أفضل من علي، وهؤلاء هم جمهور أهل السنة، وبعضهم قال: بل علي أفضل من عثمان.
وقيل: إن من قال ذلك فقد رجع عن هذا القول، لكن الشاهد: أن الإجماع انعقد على تقديم أبي بكر وعمر بغير خلاف، ووقع الخلاف -حتى وإن رجع بعد ذلك- في الأفضلية بين عثمان وعلي.
وهذا الخلاف في فرع من فروع الدين، وبالتالي فالمسألة تتعلق بالاعتقاد، إلا أن الخلاف فيها لا يبدع فيه صاحبها ولا يفسق.(19/15)
بعض الإجماعات عند أهل السنة والجماعة
قال: [وعلى أن العشرة في الجنة -أي: العشرة المبشرون بالجنة- جزماً وحتماً لا شك فيه، ومجمعون على وجوب الترحم على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار لهم، ولأزواجه وأولاده وأهل بيته، والكف عن ذكرهم إلا بخير، والإمساك وترك النظر فيما شجر بينهم، فهذا وأشباهه مما يطول شرحه لم يزل الناس منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا مجمعون عليه في شرق الأرض وغربها، وبرها وبحرها، وسهلها وجبلها، يرويه العلماء رواة الآثار، وأصحاب الأخبار، ويعرفه الأدباء والعقلاء، ويجمع على الإقرار به الرجال والنسوان، والشيب والشبان، والأحداث والصبيان، في الحاضرة والبادية، والعرب والعجم، لا يخالف ذلك ولا ينكره ولا يشذ عن الإجماع مع الناس فيه إلا رجل خبيث زائغ مبتدع محقور مهجور مدحور يهجره العلماء، ويقطعه العقلاء، إن مرض لم يعودوه، وإن مات لم يشهدوه.
ثم أهل الجماعة مجمعون بعد ذلك على أن الصلاة خمس، وعلى أن الطهارة والغسل من الجنابة فرض، وعلى الصيام والزكاة والحج والجهاد، وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، والربا والزنا، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، وتحريم شهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وما يطول الكتاب بشرحه.
فهم متفقون ومجمعون عليه؛ لأن هذا وإن كان متعلقاً بالشريعة لا بأصل الديانة، فهو أمر من أصول شرائعنا محل إجماع لم يخالف في ذلك أحد].
أي: لم يظهر في علماء المسلمين أو في علماء السنة من يقول مثلاً: الصلاة أربع فقط، ولو ظهر فلا بد أن ينتقل من أهل السنة إلى أهل البدعة فوراً؛ لأنه يقدح في الأصول، وليس هذا من منهج أهل السنة والجماعة، وإنما هذا مذهب أهل البدع، فمنهم من قال: الصلاة اثنتان: واحدة في أول النهار، والأخرى في نهاية النهار، ومنهم من يقول: الصلاة ما هي إلا الدعاء، ولا صلاة قط وينشرون هذا ويقولونه، وبالتالي فلا صلاة قط عندهم، وهؤلاء بلا شك هم أهل الزيغ والضلال.(19/16)
اختلاف أهل السنة لم يقدهم إلى الفرقة والشتات
قال: [ثم اختلفوا -أي: اختلف أهل السنة- بعد إجماعهم على أصل الدين، واتفاقهم على شريعة المسلمين اختلافاً لم يصر بهم إلى فرقة ولا شتات، ولا معاداة ولا تقاطع وتباغض، فاختلفوا في فروع الأحكام والنوافل التابعة للفرائض، فكان لهم وللمسلمين فيه مندوحة ونفس وفسحة ورحمة].
والسنن الراتبة للفرائض الخمس: اثنتا عشرة ركعة، ومنهم من يقول: هي عشر ركعات، وهذا الاختلاف ناشئ من حديثين: أحدهما: حديث عبد الله بن عمر، والثاني: حديث عائشة رضي الله عنها فيما يتعلق بسنة الظهر كم ركعات.
فمن قال بأن السنن الراتبة عشر اعتمد على حديث في الصحيحين، ومن قال: إنها اثنتا عشرة اعتمد على حديث في الصحيحين، فهل هذا الخلاف يفسق ويبدع به المخالف؟ لأنهما يردان إلى أصل واحد، وهو اعتبار ما ورد من اختلاف في سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بهذه الجزئية.
قال: [ولم يعب بعضهم على بعضهم ذلك، ولا أكفره، ولا سبه ولا لعنه، ولقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحكام اختلافاً ظاهراً علمه بعضهم من بعض، وهم القدوة والأئمة والحجة، فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: إن الجد يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه الأب، فخالفه على ذلك زيد بن ثابت، وخالفهما علي بن أبي طالب، وخالفهم ابن مسعود.
وخالف ابن عباس جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل من الفرائض، وكذلك اختلفوا في أبواب من العدة والطلاق، وفي الرهون والديون والوديعة والعارية، وفي المسائل التي المصيب فيها محمود مأجور، والمجتهد فيها برأيه المعتمد للحق إذا أخطأ فمأجور أيضاً غير مذموم؛ لأن خطأه لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له النار كما جاء ذلك في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران) الحديث].(19/17)
كلام ابن بطة في اختلاف الفقهاء وأنواع الاختلاف غير المعتبر
قال الشيخ ابن بطة: [وكذلك اختلف الفقهاء من التابعين -أي: إذا كان الخلاف وقع في زمن الصحابة فمن باب أولى أن يقع فيمن أتى من بعدهم- ومن بعدهم من أئمة المسلمين في فروع الأحكام، وأجمعوا على أصولها، وتركت الاستقصاء على شرحها لطولها، فكل احتج بآية من الكتاب تأول باطنها، واحتج من خالفه بظاهرها، أو بسنة عن النبي عليه الصلاة والسلام، كان صواب المصيب منهم رحمة ورضواناً، وخطأه عفواً وغفراناً؛ لأن الذي اختاره كل واحد منهم ليس بشريعة شرعها، ولا سنة سنها، وإنما هو فرع اتفق هو ومن خالفه فيه على الأصل، كإجماعهم على وجوب غسل أعضاء الوضوء في الطهارة كما سماها الله في القرآن].
أي: أنهم أجمعوا على وجوب غسل الوجه، فليس هناك أحد من علماء المسلمين قال: ليس غسل الوجه شرطاً في صحة الوضوء.
قال: [واختلافهم في المضمضة والاستنشاق، فبعضهم ألحقها بالفرائض، وألحقها الآخرون بالسنة].
إذاً ستقول: إذا كان ربنا سبحانه وتعالى قد أمر بوجوب غسل الوجه، فلم وقع الخلاف إذاً؟
و
الجواب
أن هذا اختلاف في الأفهام للنص، فلو كان هناك واحد فهم النص فهماً بعيداً جداً لا يمكن أن يحتمله النص؛ فسنقول: هذا الفهم خطأ، ولا يمكن أبداً أن يساعده الدليل، فاستنباطه للنص بهذا الفهم خطأ؛ لأن النص لا ظاهراً ولا باطناً يشهد له، لكن لو كان الاجتهاد يحتمله النص، فحينئذ يكون هذا الخلاف معتبراً، والخلاف المعتبر لا إنكار على المخالف فيه، وإنما ينكر على الخلاف غير المعتبر.
وهو وجهان: الوجه الأول: أنه خلاف مع النص، أو خلاف ضد النص.
والوجه الثاني: أنه خلاف لا يحتمله النص.
فبعد أن أجمع علماء المسلمين على وجوب غسل الوجه في الوضوء؛ اختلفوا في المضمضة والاستنشاق: فبعضهم قال: المراد: ظاهر الوجه دون باطنه، ثم اختلفوا: هل باطن الأنف وباطن الفم من الوجه أم من غير الوجه؟ واعلم أن العلماء لم يختلفوا على جواز المضمضة والاستنشاق، وإنما اختلفوا في التكليف الشرعي للأمر هل هو الوجوب أم الاستحباب؟ فبعضهم قال: المضمضة والاستنشاق مستحبان؛ لأنهما ليسا من الوجه، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام العملية قد بينت أنه كان يتمضمض ويستنشق، لكن لم يرد أن ذلك كان على سبيل الإلزام والحث، فيبقى الأمر على الاستحباب.
وبعضهم قال: المضمضة والاستنشاق واجبان، أي: أن الأنف والفم باطنهما من الوجه، ومما يؤيد ذلك استمراره عليه الصلاة والسلام على المضمضة والاستنشاق، ولو لم يكونا من الوجه لتركهما النبي عليه الصلاة والسلام ولو مرة واحدة.
فالكلام الأول وجيه لا نرده، والكلام الثاني أوجه، وهو الذي يحتمله النص احتمالاً ظاهراً.
لكني أريد أن أقول: إن الخلاف في أن المضمضة والاستنشاق ليسا من الوجه اختلاف يحتمله النص، ولذلك وقع الاختلاف بينهم بعد أن أجمعوا على وجوب غسل الوجه.
قال: [وإجماعهم على المسح على الخفين، وهذه مسألة من المسائل العلمية، وقد دخلت في مسائل الاعتقاد لمخالفة فرقة من فرق الضلالة لأهل السنة والجماعة، ثم صارت علماً على فرقة من فرق الضلال وهي الشيعة.
ولما اتخذتها الشيعة ديناً لهم كان لزاماً الرد عليها من قبل أهل السنة والجماعة، إذ إنها من مسائل الاعتقاد ومن مسائل العمل في آن واحد.
والإجماع حاصل عند أهل السنة والجماعة على جواز المسح على الخفين، لكن الاختلاف وقع في كيفية المسح: هل المسح على ظهر الخف فقط، أم على ظاهره وباطنه؟ والراجح في هذه المسألة: هو المسح على ظاهر الخف؛ لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان المسح على أسفل الخف أولى؛ لأنه مماس بالأرض أو بالنجاسة أو ما يمكن أن يكون كذلك.
وأما الذين قالوا: المسح على ظاهر الخف وباطنه، فربما لم يبلغهم ذلك، أو ربما قالوا بالمسح على باطن الخف من باب الاحتياط والاحتراز، مع علمهم بحديث علي بن أبي طالب، وربما قالوا بالظاهر والباطن جمعاً بين الرأيين.
ثم اختلف القائلون بالمسح على ظاهر الخف وباطنه في الكيفية، فبعضهم قال: الماسح يضع كفيه في الماء فيضع مؤخرة كفه عند أطراف أصابعه من فوق، ويده اليسرى في باطن كفه على هذا النحو والنسق، ثم يجريهما حتى يرتفع بها.
ورأي آخر عندهم يقول: إنما يضع طرف أصابع يده اليمنى على أطراف أصابع رجله، وأما يده اليسرى فتكون من فوق الكعبين، ويمشي بهما على شبه دائرة، يعني: يضع أطراف أصابعه على قدمه هكذا ويده الشمال في مؤخرة القدم، ويأتي بهما هكذا مسحاً.
وبإمكاننا أن نقول في هذه القضية: خطأ وصواب؛ لأن الاختلاف إما معتبر، أي: راجح ومرجوح، وإما خطأ وصواب، لكن العذر أن المخطئ قوله مرجوح لموافقته للأصول، وما وقع منه الاختلاف إلا في فرع من الفروع التي لا يبدع بها ولا يتهم.(19/18)
اختلاف داود وسليمان في الحكم
قال: [ولقد أخبر الله عز وجل في كتابه عن نبيين من أنبيائه بقضية قضيا جميعاً فيها بقضائين مختلفين، فأثنى على المصيب وعذر المجتهد، ثم جمعهما في الثناء عليهما، ووصف جميل صنعه بهما فقال عز وجل: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78]]، والنفش لا يكون إلا بالليل.
يعني: واحد عنده زرع، وآخر عنده غنم، فوقعت الغنم في الزرع، فعرض الأمر على داود وسليمان، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] يعني: أن سليمان -وهو ابن داود- أصاب أكثر من أبيه في هذه القضية؛ لأن داود عليه السلام حكم فيها بحكم وهو أنه حكم بالغنم لصاحب الحرث؛ عقوبة لصاحب الغنم، فلما تركوا داود مروا على سليمان فأخبروه بما قضى به أبوه، فقال: لي قضاء يخالفه، وذهب بهم إلى والده -وكلاهما نبي من أنبياء الله- فقال: بلغني أنك قضيت في أمر هؤلاء بكيت وكيت، قال: نعم، قال: ولكني أقضي فيها بخلاف ما قضيت، أقضي أن يأخذ صاحب الحرث الغنم ينتفع بأصوافها وأوبارها وألبانها، ويأخذ أصحاب الغنم الحرث حتى ينبت ويصير كما كان قبل أن تنفش فيه الغنم، فإذا كان كذلك أخذ صاحب الحرث حرثه، وأخذ صاحب الغنم غنمه.
فأثنى الله تعالى على هذا القضاء فقال: ((فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا)) أي: سليمان وداود ((آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا))، ولم يقل: أخطأ داود، وإنما لما أراد داود أن يصل إلى الحق فأخطأ أثنى عليه، ولم ينف عنه العلم والحكمة، وإنما أثبتهما له، مع أن سليمان أعلم وأفهم وأحكم منه.
ولقد جاءت السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بمثل اختلافهما في نحو هذه القضية، فعن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بينما امرأتان معهما ابناهما، إذ جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت كل واحدة لصاحبتها: إنّما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى) فهذه نفس القضية، والقضاء هنا لداود عليه السلام، فتعجل القضاء فقضى به للكبرى، (فمرتا على سليمان بن داود فقصتا عليه القصة، فقال: ائتوني بالسكين أشقّه بينهما) فهذا القضاء إنما احتمله ذكاء سليمان عليه السلام، إذ إنه في الحقيقة لا يريد أن يشقه؛ لأنه ذلك لا يصح؛ لأنه إن شقه مات، وكان قاتلاً لنفس بغير نفس.
قال: (فقالت الصغرى: يرحمك الله! هو ابنها)، ولا يمكن أن تقول المرأة هذا إلا إذا كان ولدها، فلئن يتربى في حجر غيرها خير من أن يموت، قال: (فقضى به لها)؛ لعلمه أنها أمه.
قال أبو هريرة: فوالله ما سمعت بالسكين إلا يومئذ، وكنا نقول: المدية.
قال: [فهذا رحمك الله! اختلاف الأنبياء عليهم السلام في الأحكام نطق به الكتاب، وجاءت به السنة، فماذا عسى أن يقوله أهل البدع في اختلافهم؟!].(19/19)
الخلاف بين الصحابة والتابعين
قال: [وأما الخلاف بين الصحابة والتابعين فقد قال عمر بن عبد العزيز: ما يسرني لو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو لم يختلفوا لم تكن رخصة].
وهنا كلام كبير جداً ذكره الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم، حيث إنه ذكر باباً عظيماً جداً وهو الباب الرابع والخمسون فقال: جامع بيان ما يلزم الناظر في اختلاف الفقهاء.
وذكر بعد هذا الباب مباشرة: باب ذكر الدليل من أقاويل السلف على أن الاختلاف خطأ وصواب، وأنه يلزم طلب الحجة عنده، وذكر بعض ما خطأ فيه بعضهم بعضاً، وأنكره بعضهم على بعض عند اختلافهم.
وكأنه يريد أن يقول: إن الخلاف بين الفقهاء ليس على نسق واحد، وهم كذلك موقفهم من الخلاف ليس واحداً، بل هم أصحاب مذاهب، وهما المذهبان السابقان، فبعضهم يقول: الحق واحد لا يتعدد، ولا بد أن يصحح أحد الرأيين ويخطأ الرأي الثاني.
وبعضهم يقول: بل الخلاف راجح ومرجوح.
والشاهد من هذين البابين أنه ذكر الأدلة الكثيرة التي لا ترد على أن الخلاف أحياناً يكون معتبراً بقسميه، ويكون الأمر فيه راجحاً ومرجوحاً.
ومعنى ذلك: أن الخلاف صواب فيما يتعلق بوقوعه في بعض المسائل كما ضربت لكم مثلاً بالصلاة ببني قريظة، إذ لو كان أحد الاجتهادين خطأ لما سكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام ولبينه؛ لأن الأمر لا يحتمل التأخير في البيان، فلما سكت دل على أن ما وقع منهما مع الاختلاف كله صواب، وعليه فيجوز تعدد الحق.
وبعضهم قال: الحق واحد، ولا بد من الذهاب إلى أحد الرأيين ورد الثاني، واستشهد بمسائل قد اختلف فيها أهل العلم من الصحابة وغيرهم، وأنكر بعضهم على بعض.
فهذه الأدلة فعلاً أخطأ فيها المخالف، وإني لا أسرد نفس الأدلة بعد أن أحلتك إلى الباب الرابع والخمسين والباب الخامس والخمسين من جامع بيان العلم وفضله، وإن ذهبت إلى هناك وقرأت هذين البابين لوجدت علماً غزيراً جداً.
قال: [اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران العلم، فجعل عمر ربما جاء بالشيء يخالف به القاسم، فجعل ذلك يشق على القاسم، فتبين ذلك لـ عمر -أي: علم عمر أن حججه قوية، فربما شق ذلك على القاسم وغضب وتغير- فقال له عمر: لا تفعل فما أحب أن لي باختلافهم حمر النعم].
أي: أن اختلاف الصحابة إجمالاً أحب إلي من حمر النعم؛ لأن عمر يرى أن اختلاف أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام رحمة.
قال: [وقال المعلى بن إسماعيل: ربما اختلف الفقهاء وكلا الفريقين مصيب في مقالته].
فاختلاف أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا كان مبناه على فهم الدليل فلا شك أنه رحمة، أما إذا كان أحدهما فهم فهماً خالف فيه الدليل ظاهراً وباطناً فلا شك أنها ليست رحمة، بل لا بد من ثبوت خطئه، وأيضاً لو قرأت البابين اللذين أحلتك إليهما لوجدت أدلة ذلك.
قال: [وقال أبو عون: ربما اختلف الناس في الأمر وكلاهما له الحق].(19/20)
اختلاف الفقهاء يقال فيه: أخطأت، لا كفرت
قال: [فاختلاف الفقهاء يا أخي -رحمك الله- في فروع الأحكام, وفضائل السنن؛ رحمة من الله بعباده, والموفق منهم مأجور, والمجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور, وهو يحسن نيته, وكونه في جملة الجماعة في أصل الاعتقاد والشريعة مأجور على ذلك، وإن تأول متأول من الفقهاء مذهباً في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، وقعد عنه فيها الإتباع؛ كان منتهى القول بالعتب عليه: أخطأت].
إذاً يقال للمخالف: أخطأت، إذا خالف مسألة مجمع عليها، ولا شك أن مخالفة الكتاب والسنة أولى في تخطئته من مخالفته للإجماع؛ لأن الإجماع لا ينعقد إلا بدليل أو أمارة من الكتاب والسنة، وحينئذ لو خالف الكتاب والسنة فإثبات خطؤه أولى من مخالفته للإجماع، وفي كل قد أخطأ.
والصورة الثانية من صور الخلاف: لو أن العلماء اختلفوا في الرأي اختلافاً مسوغاً فهل يقال في هذا الخلاف: إنه ليس برحمة؟ لا، بل هو رحمة، وهو خلاف رأي.
ولذلك إذا اعتقدت أن الخلاف صواب وخطأ؛ فلا بد أنك ستقف في كل يوم على عشرات المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين أهل العلم، ويترجح لديك اليوم ما تبطله أنت غداً، فمثلاً: مسألة: هل قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الصلاة الجهرية أم لا؟ فمنهم من يعتقد وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام، ومنهم من يعتقد أن قراءة الإمام لهم قراءة، فهذا الخلاف ليس مرده إلى الهوى، وإنما إلى الدليل، فإذا كان مرد الخلاف إلى فهم الدليل فلا يقال للمخالف فيما ذهب إليه: أخطأت، وإنما كل واحد يلزمه العبادة بما ترجح لديه إن كان طالب علم.
فأنت باعتبارك طالب علم لك نظر وبصيرة في الدليل، وقد أتيت بأصل المسألة وأدلتها، ونظرت في أقوال الفقهاء فترجح لديك وجوب القراءة، فلا يسعك بعد أن ترجح لديك وجوب قراءة الفاتحة أن تترك القراءة خلف الإمام، بل تبطل صلاتك لتركك ركناً متعمداً، وإن ترجح لديك بالدليل أن قراءة الإمام تجزئ عن قراءة المأموم فلا يسعك القراءة، فإن قرأت فهو سنة بلا شك، لكن لو أنك تركت القراءة لاعتقادك أن قراءة الإمام تحل محل قراءتك لا تبطل صلاتك.
فلو أن اثنين يقفون في الصف، أحدهما: يعتقد الوجوب، والثاني: يعتقد عدم الوجوب، وكلاهما أدرك الإمام على حال معين، فهذا يقوم ويأتي بركعة، وذاك لا يأتي بركعة، وهذا هو خلاف الاجتهاد الذي بني على دليل واحد، أو على أدلة معناها واحد؛ لأنك طالب علم، فلا يسعك أن تقلد، بل لا تبرأ ذمتك إلا بالنظر في الدليل، والعمل بما ترجح لديك، وهو دين الله تعالى في حقك.
وأما العامي الذي ليس له نظر، ولا يعرف فهم الدليل؛ فهذا يلزمه بل يجب عليه تقليد مفتيه إذا غلب على ظنه أن هذا المفتي مستقيم، أي: إذا غلب على ظنه أن هذا الرجل صاحب صلاح ودين وعلم، فالعامي لا يعرف ما هو الدليل، ولا من أين أتى الشيخ بهذا الكلام، ولا كيف ترجح لك هذا، فهو عامي لا يعرف شيئاً، فهو يقلد هذا المفتي.
ولذلك انظر إلى الخليفة لما أرسل إلى الإمام مالك وقال له: مر طلابك أن ينسخوا من الموطأ نسخاً حتى أرسل بها إلى الأمصار؛ ليعملوا بها، قال: لا تفعل يا إمام المسلمين! فإنهم قد بلغهم من العلم ما لم يبلغنا، وبلغنا ما لم يبلغهم.
فدل هذا على أن كلاً يعمل بما بلغه.
والعلماء قالوا: إن هذه من أعظم مناقب الإمام مالك، وليست منقبة عادية، إذ إن الإمام مالك يسمح بوقوع الاختلاف في الفروع من هنا وهناك، وأن كلاً يعمل بما بلغه من علم.
قال موسى الجهني: كان إذا ذكر عند طلحة الاختلاف قال: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة.
أي: أن الاختلاف يقع من الفقهاء، وهو باب من أبواب السعة، وباب من أبواب الرحمة.
قال الشيخ: [فالإصابة في الجماعة توفيق ورضوان، والخطأ في الاجتهاد عفو وغفران، وأهل الأهواء اختلفوا في الله، وفي الكيفية، وفي الأبنية -أي: مباني الإسلام الخمسة- وفي الصفات، وفي الأسماء، وفي القرآن، وفي قدرة الله، وفي عظمة الله، وفي علم الله، تعالى الله عما يقول الملحدون علواً كبيراً].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(19/21)
شرح كتاب الإبانة - إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن الأمم التي قبلها من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة؛ وذلك حين تبتعد الأمة عن المنهج القويم، وتفقد هويتها وشخصيتها، فتبحث عما يكملها عند غيرها من أمم الكفر، فلا تجد عندهم إلا الضلالة والبعد عن الله، فتتبع خطاهم في طريق لا يزيدها إلا بعداً وانغماساً في ظلمات التيه والغواية.(20/1)
باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
مع درس جديد من كتاب الإبانة لـ ابن بطة، وهو: باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ركوب طريق الأمم قبلهم، وتحذيره إياهم ذلك.
في أدلة هذا الباب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة -وهي أمة الخير- لابد أنها تنحرف عن سلوك طريق الخير وتركب طريق الشر، وطريق الشر إنما هو في التزام غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهو هدي الأمم السابقة وأخلاقها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أطلعه ربه على أن هذه الأمة لابد أن تنحرف عن المسار الطبيعي الذي خلقت له، حذر أمته من هذا البلاء العظيم، ومن فقدان هويتها؛ لأن لكل أمة هوية، فإذا فقدت أمة من الأمم هويتها فإنها تنسلخ من هديها تماماً وتذوب في بقية المجتمعات، حتى تتشبه ببقية هذه المجتمعات التي تخلقت بأخلاقها، أو سلكت سبلها واستنت بسننها.
ولأجل هذا صرح النبي عليه الصلاة والسلام بخطورة ذلك، وأن ذلك تمييع للشخصية الإسلامية، وبالتالي هو ذوبان للمجتمع المسلم في بقية مجتمعات الكفر والضلال.(20/2)
حديث شداد بن أوس: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن)
ولما كان هذا أخطر أمر وأعظم وباء يمكن أن ينزل في المجتمع المسلم بأسره؛ حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث، ففي حديث [شداد بن أوس أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة)] يعني: لتتبعن سنن من كان قبلكم.
أي: هديهم وأخلاقهم وطريقتهم في كل شيء مهما دق وجل، فإنكم تبحثون عنه وتنقبون عنه وتعملون به، وتتركون سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر زائد عن البدع، أي: هو فوق البدع بدرجات، فالتخلق بأخلاق الأمم السابقة لابد أنها أمم الكفر؛ لأنه ليس هناك أمة مسلمة على وجه الأرض بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام إلا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فكونه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) أي: من الكفار.
وفي رواية: (فارس والروم يا رسول الله؟! قال: ومن الناس إلا هم؟) يعني: هؤلاء الذين تقلدونهم أنتم، أما فارس فقد أسلموا على عوج، وأما الروم فأسلموا ثم خرجوا، حتى صارت الروم الآن دار كفر بعد أن كانت دار إسلام أو شبه دار إسلام لإسلام معظم أهلها في وقت من الأوقات، ولكنها رجعت دار كفر، كما كانت تركيا كذلك دار إسلام في يوم من الأيام، ولكنها بسقوط الخلافة العثمانية التي اتخذت تركيا مقراً لها ثم سقطت سنة (1924م)، ورجعت مرة أخرى تركيا دار كفر بعد أن كانت دار إسلام.
فالصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لتتبعن سنن الناس حذو القذة بالقذة، قالوا: يا رسول الله! فارس والروم؟)؛ لأن هاتين الدولتين أعظم مملكتين في زمنه عليه الصلاة والسلام، قوة فارس وقوة الروم، وكانوا يقولون: هما قوتان لا تغلبان، والنبي عليه الصلاة والسلام، بل القرآن الكريم ذكر بأن هذه القوى قوى هشة لا تثبت أمام جحافل الإيمان وقد كان هذا غير مرة.
فهنا لا أقول: فارس والروم الآن؛ لأن الروم الآن صارت ضعيفة أمام القوى العظمى، فقد كنا كذلك نقول: أعظم قوتين في العالم هم الروس والأمريكان، فسقطت الروس، وانشقت إلى دويلات كثيرة بعضها أضعف من بعض، حتى كاد زعيم الروس الأعظم أن يبحث عن عمل يتكسب منه قوت يومه.
وما هذا إلا لتعلموا أن الأمور كلها تجري بمقادير الله عز وجل، وأن الله تعالى يذل من يشاء ويعز من يشاء، فهذه الدولة التي لم يكن أحد يتصور أنها تنهزم أو تضعف في يوم من الأيام، إذا بها تكون أمة ذليلة في ركاب أمريكا، ولا تزال القوة باقية في أمريكا، لكنها قوة تستند إلى الكفر كذلك، وتعتمد على الضلال، بل تقبل بالكفر والضلال والانحراف عن منهج الله سبيلاً لها، وأسطولاً لها، وسنة الله تبارك وتعالى الكونية أبت أن تكتب البقاء والنصر المؤبد لأمثال هؤلاء.
فأمريكا في قبضة الله عز وجل، إذا شاء الله تعالى أن يذلها أذلها، في وقت لا يمكن لأحد أن يذكرها ولو بزلزال أو بركان، وهذا بإذن الله عز وجل، كما أن كل شيء بيده سبحانه وتعالى.
فهذه القوة أنا أعتقد أنها قابلة للانهيار في أي وقت من الأوقات، كما أن من زار هذه البلاد أو هذه الولايات، ورأى ما فيها من فساد، علم يقيناً أن عمر أمريكا الافتراضي أوشك على الانتهاء.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائماً: إذا انهارت أمريكا كما انهارت روسيا من قبلها، بل وانهارت أوروبا كلها، فما هي الأمة القوية، وبأي شيء تتقوى؟ هل هي أمة الإسلام؟ أم تنهض أمم الكفر مرة أخرى؟
الجواب
أن كل أمة رسمت لها الدساتير لتقوى بها، وقد قويت وقامت، وبين أيدينا دستور لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكننا فرطنا فيه، ومعذرة إذا عبرت عن القرآن والسنة بالدستور وهو اللفظ الدارج وإن كنت لا أحبه.
فهنا الأمة الإسلامية ملكت مقومات الحضارة، ومقومات السيادة والريادة، ولكنها تخلت إما بفعلها وإما رغماً عنها؛ ولذلك ترى الآن المسلمين حكاماً ومحكومين على السواء يأبون ويرفضون أن يحكموا وأن يساقوا بأحكام الشرع، ليس هذا في الحكام فحسب، وما دامت الدفة في صالحك فإنك تقبل الإسلام على العين والرأس، وإذا كان الإسلام حاكماً عليك فإنك تهرب منه مهما طالت حياتك، ومهما طال انتظارك للدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية المزعومة.
ولذلك وقع في الأمة من البلاء والفساد ما لا يمكن لعاقل أن يتصور معه تمكين هذه الأمة في يوم من الأيام، والله تعالى وعدنا، وقبل أن يعد شرط علينا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ونصر الله تعالى بالتزام شرعه، وما دمنا أبعد الناس عن شرع الله فلن ننتصر، فاليهود والنصارى درسوا كتاب الله تعالى، ودرسوا سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما علموا أنه المنهج القويم الذي من تمسك به قام وثبتت أقدامه في الأرض، عملوا بالدين الإسلامي في الوقت الذي تخلينا نحن فيه عن دين الإسلام.
ولذلك هم الآن رواد لنا، وكثير من المسلمين يعتبرون اليهود والنصارى -وإن شئت فقل بلاد الغرب- القدوة(20/3)
حديث أبي واقد: (اجعل لنا ذات أنواط)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو واقد الليثي: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين -أي: ناحية حنين- ومررنا بالسدر -شجرة- فقلت: يا رسول الله! اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها)].
ينوطون: أي يعلقون أسلحتهم على شجرة، فلما مروا بشجرة قالوا: يا رسول الله! اتخذ هذه لنا ذات أنواط، يعني: ائذن لنا أن نتخذ هذه الشجرة لتعليق سيوفنا عليها، وهذا أمر مباح؛ لكنهم قالوا: (كما للكافرين ذات أنواط)، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقطع العلاقة كلية بما هو خاص بأخلاق اليهود والنصارى.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم)] يعني: هدي الذين من قبلكم وأخلاقهم.
انظر إلى طلب الصحابة رضي الله عنهم، أن تكون لهم شجرة يعلقون عليها سيوفهم، وهذا أمر مباح، لكنهم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكافرين، أي: تشبهاً بهم ولو في الأمر المباح قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر!) وهو تكبير استنكار عليهم إنكم تقولون نفس مقولة بني إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138].
فالتشبه بالكافرين ربما أدى بكم في نهاية الأمر وتقادم العهد والزمان إلى أن تقولوا لأمرائكم وعلمائكم: اجعلوا لنا إلهاً كما كان لبني إسرائيل إلهاً.(20/4)
حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن بني إسرائيل)
قال: [وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن بني إسرائيل شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو كان الرجل من بني إسرائيل دخل جحر ضب لتبعتموه)].
فبنو إسرائيل كانوا أصحاب حضارة في ذلك الوقت، ودائماً الإنسان يتطلع إلى الحضارة ويظن أنها التقدم، لكن الحضارة الحقة والتقدم المتين هو التمسك بشرع الله وحبل الله، والاعتقاد بكتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا هو التقدم حقاً؛ لأن الغاية من التقدم هي السعادة في الدارين، ولا سعادة إلا في دين الله عز وجل والتمسك به، والاعتصام بحبله المتين.
هب أن واحداً حاز على أعظم التقنيات، ولكنه كان كافراً ومات بعد هذه الاختراعات التي سعد بها غيره، فماذا له عند الله عز وجل يوم القيامة وقد مات على كفره؟ ليس له إلا النار.
فقد شقي في حياته الدنيا ليسعد غيره، أما في الآخرة فليس هو من أهل الجنة، بل هو من المخلدين في نار جهنم.
وأصل التقدم الحضاري والرقي الفكري والاجتماعي أن يؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، فأي شيء لا يؤدي إلى هذا الغرض لا يكون تقدماً في حقيقة الأمر، وإنما يراه تقدماً من لا بصر له ولا بصيرة، ويرى أننا متخلفون، ولذلك تجد كثيراً من الكتاب والصحفيين وغيرهم من المفتونين بما عليه أوروبا الآن وأمريكا من تقدم تكنولوجي متعلق بالحياة الدنيا، وسيزول هذا التقدم كله قبل قيام الساعة حتى يرجع الناس إلى الإبل والحمير، وإلى القتال بالعصي والسيوف والنبال، لابد أن تفنى هذه الحضارة، ويرجع العالم كله إلى ما كان عليه وقت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: لا يبقى إلا السعادة الحقة، وهي التمسك بالكتاب والسنة، هذا هو البحث الحقيقي عن مرضاة الله عز وجل.
هذا يذكرني برجل كل همه أن يتزوج امرأة جميلة مهما كانت أخلاقها وسلوكها وديانتها، المهم أن تكون جميلة، وهذا الجمال يوماً ما لابد أنه سيزول، فإذا كان سوء الخلق باقياً وسوء المعتقد باقياً، وكل صفات المرأة باقية فإنه يزول جمالها، وهو الذي كنت تبحث عنه، فإذا كنت من الآن تبحث عن هذا التقدم فاعلم أنه زائل، وسيبقى لك شرار الصفات، وهي التخلق بأخلاق هؤلاء، وبحثك عن تقليدهم في كل كبير وصغير، في النقير والقطمير؛ حتى تذوب في أخلاقهم وفي سلوكهم وفي معتقدهم، وإذا بهم ينسلخون منك ويتبرءون منك يوم القيامة كما يتبرأ الشيطان من أتباعه؛ ولذلك كانت السعادة الحقة في التزام شرع نبينا عليه الصلاة والسلام.(20/5)
حديث أبي هريرة: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها)
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذن أمتي بأخذ الأمم والقرون قبلها، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قيل: يا رسول الله! كما فعلت فارس والروم؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ومن الناس إلا أولئك؟)].
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يعلق على هذا الحديث فيقول: هذا خبر، أي: هذا خبر عن أمر مستقبل سيقع في الأمة، فلو أنك أتيت مثلاً وقلت لابنك: يا بني! أنت الآن ذاهب لتصلي الجمعة، فليس هناك داع لأن تلبس البدلة والكرفتة والبنطلون، وإنما يستحب لك في مثل هذا اليوم أن تلبس الثوب الأبيض، يقول: أنا أستحي من زملائي، وأستحي من المجتمع، وهذا الذي تعودت عليه، ويبدأ يناقشك واحدة واحدة، حتى يعتقد في المستقبل أن ما يلبسه أفضل مما يلبسه غيره.
وهذا كلام خطير؛ لأنه يؤدي إلى ما هو أخطر منه؛ لكن ربما تهون هذه القضية أمام تخلقه بأخلاق غير المسلمين في الباطن، والشكل له تأثير في الجوهر، فالجندي الذي يلبس بدلة الجندية يشعر بالفتوة والشهامة والقوة، وكذلك الذي يتشبه بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام في ظاهره يحجبه هذا الظاهر عن كثير من المعاصي.
فإذا أراد أحد أن ينطلق بلا لوم في المعاصي حلق لحيته وغيَّر من منظره ومن زيه؛ لأنه يعلم أن الناس لا يدعونه بهذا الشكل، ولو تشكل بأشكال أخرى غير الشكل المطلوب لما لامه الناس، تصوروا لو أني في مثل حالتي هذه دخلت السينما، من الذي يأمرني وينهاني؟ الذي داخل السينما كلهم سينظرون إلي نظراً مزرياً، فيأتي إلي شخص ويقول لي: حرام عليك، اتق الله، ويذكرني بالله وهو معي في نفس المجلس؛ لأن منظري وشكلي لا يتناسب مع هذا، في الوقت الذي استجاز هو لنفسه أن يبقى في هذا المكان، وربما اصطحب معه عشيقته، لكن مجرد دخولي أنا السينما أمر منكر، أما بقاؤه هو في السينما أو في النادي أو غير ذلك ومعه عشيقته -والله أعلم بالمفاسد التي تتم بعد ذلك من شرب الخمر والسكر أمر لا ينكر على عامة الناس؛ لأنهم لم يعلنوا راية الالتزام، فكأنه أبيح لهم ما حرم على غيرهم، وهذا وضع طبيعي في الناس.
ولذلك فإن الشكل له تأثير في القلب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم)، مع أن تسوية الصفوف أمر ظاهري، فما علاقة هذا الظاهر بالقلب؟ وجرب هذا بنفسك، لو أنك تعودت وفعلت ذلك تديناً وعبادة، ووضعت قدماً جوار قدم من يقف بجوارك، فكلما وضعت قدمك بقدمه ضم إليه قدمه، هل سيتغير قلبك عليه؟ نعم يتغير؛ لأنه لم يعنك على طاعة من الطاعات، ولم يلتزم سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام، فلابد أن تخرج من الصلاة وأنت لا ترغب أن تنظر إلى وجهه، وهذا يدل على أن الإسلام كل لا يتجزأ، وإن كان هو على شكل درجات ومراتب، ولكن في نهاية الأمر كل هذه الدرجات والمراتب داخلة في حد الإسلام، وفي حد الإيمان.
قال: قال ابن تيمية: هذا خبر تصديقاً لقول الله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69]، ولهذا شواهد في الصحاح والحسان، وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة، فإن كثيراً من أحوال اليهود قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى العلم، وكثيراً من أحوال النصارى قد ابتلي به بعض المنتسبين إلى الدين، كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم أنزله على أحوال الناس، يعني: تكون أنت عالماً بالدين الذي أنت عليه، فإذا علمت دين الإسلام وما هو المراد منه، وما هو المطلوب منك تجاه هذا الدين، ثم أسقطت ما عندك من علم على واقع الناس؛ لوجدت أن الناس في واد وأن الدين في واد آخر، هكذا أراد شيخ الإسلام أن يقول.
قال: وإذا كان الأمر كذلك، فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، وكان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس؛ لا بد أن يلاحظ أحوال الجاهلية، وطرفي الأمتين: المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، فيرى أنه قد ابتلي ببعض ذلك، والصادق مع نفسه يتوقف مع نفسه في كل قول وفعل ونية وغير ذلك، ويفهم الإسلام أولاً، ثم لابد هو مع هذا العلم سيجد أنه قد تخلق أو تشبه ببعض أخلاق اليهود والنصارى، وهذا أمر يجعل كل واحد منا يكون حريصاً على نفسه، يراقبها ويعاتبها ويلومها ويوبخها على كل مخالفة انحرف بها عن سلوك الشرع القويم.
وانظروا إلى قوله: (لتتبعن سنن بني إسرائيل شبراً بشبر، وذراعاً بذراع)، فهذا تشبيه المراد منه ملازمة التشبه بهم؛ لقوله: (شبراً بشبر) يعني: يمشي خلف اليهود خطوة بخطوة، أو يمشي المسلم خلف اليهودي حتى في طريقة المشي، إذا رفع رجله رفع رجله مثله ووضعها في أثر قدم اليهودي.
قال: (وذراعاً بذراع حتى إذا دخلوا ج(20/6)
حديث حذيفة: (لتركبن سنن بني إسرائيل)
قال: [وقال حذيفة]، وما أدراكم ما حذيفة؟! أدرى الناس بالفتن في زمانه، عالم بأخبارها، كما أنه خبير بالمنافقين في زمنه، وكانت له اهتمامات خاصة بهذا الجانب، لكن شتان بين ما كان يهتم به حذيفة من الفتن وما يهتم به بعض طلاب العلم الآن من الفتن، فهذا باب وذاك باب آخر، أما حذيفة فكان حريصاً على أشراط الساعة، والفتن التي تكون بين يدي الساعة، يحددها ويصف لها الدواء، أما بعض طلاب العلم الآن فالفتنة خامدة أو مخمودة، ومع هذا هو أحرص الناس على إنشائها وإشعال نارها حتى تستفحل وتكبر ولا يكون لها دواء، ثم هو حينئذ يستريح.
قال: [قال حذيفة: لتركبن سنن بني إسرائيل، حذو القذة بالقذة، وحذو الشبر بالشبر، حتى لو فعل رجل من بني إسرائيل كذا وكذا فعله رجل من هذه الأمة، فقال له رجل: قد كان في بني إسرائيل قردة وخنازير فهل يكون فينا هذا؟ قال حذيفة: وهذه الأمة سيكون فيها قردة وخنازير].
قال: [وعن حذيفة قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وليصلين النساء وهن حيض، ولينقضن الإسلام عروة عروة، ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم].(20/7)
تعليق ابن بطة على أحاديث الإعلام بأمر الفتن
قال: [قال ابن بطة رحمه الله: فلو أن رجلاً عاقلاً أمعن النظر اليوم في الإسلام وأهله، لعلم أن أمور الناس تمضي كلها على سنن أهل الكتابين وطريقتهم، وعلى سنة كسرى وقيصر، وعلى ما كانت عليه الجاهلية، فما من طبقة من الناس وما من صنف منهم، إلا وهم في سائر أمورهم مخالفون لشرائع الإسلام وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، مضاهون فيما يفعل أهل الكتابين والجاهلية قبلهم، فإن صرف بصره إلى السلطنة وأهلها وحاشيتها، ومن لاذ بها من حكامهم وعمالهم، وجد الأمر كله فيهم بالضد مما أمروا به، ونصبوا له، في أفعالهم وأحكامهم وزيهم ولباسهم، وكذلك في سائر الناس بعدهم من التجار والسوقة، وأبناء الدنيا وطالبيها من الزراع والصناع والأجراء والفقراء والقراء والعلماء إلا من عصمه الله.
ومتى فكرت في ذلك وجدت الأمر كما أخبرتك في المصائب والأفراح، وفي الزي واللباس والآنية والأبنية والمساكن والخدام والمراكب والولائم والأعراس والمجالس والفرش والمآكل والمشارب وكل ذلك، فيجري خلاف السنة والكتاب بالضد مما أمر به المسلمون وندب إليه المؤمنون].
ومما يدل على ذلك أن الذين يصنفون مصنفات في كيفية العمارة القديمة تجد البيت نفسه مكشوفاً تماماً، ففي هذا الوقت وأنت تمشي في الشارع تجد الحرمات مكشوفة، وعندما تدخل منزلاً فيه حديقة، تجد أن أول شيء يقابلك من الباب المطبخ، وكان المطبخ من قبل بجوار غرفة الاستئذان، لكن في هذا الوقت أصبح المطبخ وغرفة الاستئذان شيئاً واحداً، فإذا دخل الضيف خرجت المرأة بأحدث زيها وأجمل زينتها من أجل أن تعمل للضيف كوب شاي، ولا سبيل لها إلا أن تمر فتسلم وتصافح، وربما جلست للمسامرة والمؤانسة، ثم انطلقت إلى مكان إعداد الشاي وغيره، حتى في المباني في داخل البيوت قد تشبهنا بالكافرين.
قال: [وكذلك من باع واشترى، وملك واقتنى، واستأجر وزرع وزارع، فمن طلب السلامة لدينه في وقتنا هذا مع الناس عدمها].
أريد أن أقول شيئاً: هل تستطيع أن تأتي لي بعمل في هذا الوقت لا شبهة فيه؟ أو هل يعمل أحد منكم عملاً لا شبهة فيه؟
الجواب
لا أحد، وهذا من البلاء العظيم الذي حل بالأمة، وكأن الأمة لابد أن تأكل الحرام رغم أنفها، بل حتى الذي يخرج بالسلامة لا يتمكن من ذلك.
قال: [ومن أحب أن يلتمس معيشة على حكم الكتاب والسنة فقدها، وكثر خصماؤه وأعداؤه ومخالفوه ومبغضوه فيها، فالله المستعان، فما أشد تعذر السلامة في الدين في هذا الزمان، فطرقات الحق خالية مقفرة موحشة، قد عدم سالكوها واندفنت محاجها، وتهدمت صواياها -أي: علاماتها وأعلامها- وفقد أدلاؤها -جمع دليل- وهداتها، قد وقفت شياطين الإنس والجن على فجاجها وسبلها تتخطف الناس عنها، فالله المستعان، فليس يعرف هذا الأمر ويهمه إلا رجل عاقل مميز قد أدبه العلم، وشرح الله صدره بالإيمان]، أما غير ذلك فلا.
ولذلك دائماً نقول: طلب العلم نجاة من الهلاك، فالسبيل الوحيد لمن أراد أن ينجو مما حل بالعالم من خراب وفساد وضلال هو طلب العلم؛ لأنه العاصم بأمر الله.
فطلب العلم نجاة من كل هلكة، فمن أراد أن ينجو وأن يرتفع بأنفه، ويعلو بنفسه على واقع العالم المر الباطل فليتعلم العلم، وبغيره لا يمكن لك أن تنجو من البلاء الذي نزل بالكون.(20/8)
إنكار الصحابة تغير الناس في لزوم السنة من بعدهم(20/9)
أثر عبد الله بن بسر: (لو نشروا من القبور ما عرفوكم)
قال: [وعن زيد بن ضمير الرحبي قال: سألت عبد الله بن بسر وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حالنا من حال من كان قبلنا؟] هذا ابن ضمير من التابعين كأنه يقول: اعقد لنا مقارنة بين حالنا نحن في زمن التابعين وبين حال من قبلنا؟ قال: [قال عبد الله بن بسر: سبحان الله! لو نشروا من القبور ما عرفوكم، إلا أن يجدوكم قياماً تصلون].
يعني: لو أن الصحابة بعثوا من قبورهم فنظروا في وجوه التابعين وفي بلاد المسلمين، ما عرفوا أن هؤلاء مسلمون، ولا عرفوا أن هذه البلاد إسلامية، إلا في وقت صلاة الجماعة؛ لأنه لا يصلي على هذا النحو إلا المسلمون، فلو لم يناد الإمام أو المؤذن بالصلاة، ودخل الناس المسجد، لا يكاد الصاحب أن يعرف المسلمين إلا بهذه الشعيرة.(20/10)
أثر أنس: (ما من شيء كنت أعرفه على عهد النبي إلا قد أصبحت له منكراً)
قال: [وعن أنس قال: ما من شيء كنت أعرفه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد أصبحت له منكراً]، كل ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام أدركه أنس، فرأى الأخلاق والصفات التي لم يجد منها شيئاً في زمن التابعين؛ ولذلك كان يبكي كثيراً على هذا؛ لأنه أنكر أخلاق التابعين.
قال: [إلا أني أرى شهادتكم هذه ثابتة]، يعني: تقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهكذا كان يقول الصحابة رضي الله عنهم، فأنتم تشابهونهم في أصل الشهادة، لكنكم لا تعملون مقتضى هذه الشهادة كما كان يعمل بمقتضاها صحابة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [فقيل له: يا أبا حمزة! فالصلاة؟ قال: قد فعل فيها ما رأيتم].
يعني: قد انحرفتم عن هديه عليه الصلاة والسلام وعن سنته فيما يتعلق بالصلاة، وربما يكون أنس بن مالك أبو حمزة رضي الله عنه أشار إلى رفع الخشوع منها، والخشوع يا إخواني وإن كان عملاً قلبياً إلا أن القرائن الظاهرة تدل عليه، هب أن رجلاً دخل في صلاة فنقرها نقر الغراب، لا يكاد يتم فيها فاتحة الكتاب، ولا يكاد يستوي ظهره حتى يسبح ثلاثاً ولا حتى واحدة، فهذه كلها قرائن تدل على أن هذا الإنسان لم يصل صلاة صحيحة، فضلاً عن أن يكون خشع في صلاته؛ ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً أن يعيد الصلاة مرة أخرى، قال: (ارجع فصل فإنك لم تصل) لما وجده ينقر صلاته، حتى اعتذر إلى النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا يحسن أكثر من ذلك، فعلمه النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة، وأذكار الصلاة، والحديث فيها طويل، وهو المعروف عند أصحاب الحديث بحديث المسيء صلاته.
قال: [وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، قلت: ما يبكيك؟ قال: ما أعرف شيئاً مما كنا عليه إلا هذه الصلاة وقد ضيعت].
إذا كانت هذه المقولة من أنس بن مالك فلا غرابة أن يقول أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: دخلت مائة مسجد وصليت فيها ونظرت إلى أهلها، فما وجدت واحداً يصلي صلاة كصلاة رسول صلى الله عليه وسلم.
بلاء عظيم جداً نزل بالأمة في زمن التابعين، فما بالكم بهذا الزمان؟!(20/11)
أثر أبي الدرداء: (والله ما أعرف فيهم من أمر محمد)
قال: [وعن أم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء وهو غضبان.
قلت له: ما أغضبك؟ قال: والله ما أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً]، أي: هذا المظهر الوحيد من مظاهر الإسلام: أن صلاة الجماعة لا تزال قائمة، أما بقية شعائر وشرائع الإسلام فالناس عنها في غفلة، الناس في واد وشرعهم في واد آخر.
قال: [وعن ابن عباس: أنه كان يتمثل بهذا البيت: فما الناس بالناس الذين عهدتهم]، يعني: ليس هؤلاء هم الناس الذين عشنا في أكنافهم.
قال: [فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت تعرف](20/12)
تعليق ابن بطة على ما ورد عن الصحابة من إنكار تغير الناس في لزوم السنة
قال ابن بطة: [هذا يا إخواني -رحمنا الله وإياكم- قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن بسر، وأنس بن مالك، وأبي الدرداء، وابن عباس، ومن تركت أكثر ممن ذكرت، فيا ليت شعري! كيف حال المؤمن في هذا الزمان؟ وأي عيش له مع أهله، وهو لو عاد عليلاً -يعني: لو زار مريضاً- لعاين عنده وفي منزله وما أعده هو وأهله للعلة والمرض من صنوف البدع ومخالفة السنن، والمضاهاة للفرس والروم وأهل الجاهلية ما لا يجوز له معه عيادة المرضى؟] يقول: حتى المريض العليل عنده من البدع والمخالفات والبلايا المخالفة للكتاب والسنة ما يجعل العائد له يرجع ولا يعوده، مع أن المريض دائماً هو في أمس الحاجة إلى أن يتقرب إلى الله عز وجل، وهكذا حال الإنسان دائماً يلجأ إلى الله تعالى في وقت ضره، ويعصي حين يدفع عنه الضر.
قال: [وكذلك إن شهد جنازة، وكذلك إن شهد إملاك رجل مسلم]، تصور أنك ذاهب لاتباع جنازة، فبين كل فترة وأخرى تسمع من يقول: وحدوه، فلا يصلح هذا، وهذا ليس من السنة، وليس من الهدي.
كما أنك تجد مشايخ ودعاة وعلماء يشتغلون فقط بالدعاء الجماعي والتأمين الجماعي، وهذا ليس من هديه عليه الصلاة والسلام، فلم يثبت قط أنه دعا على المقابر جماعة، وإنما كان يقول: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل)، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة، فلو أن الدعاء على هذا النحو مشروع لكان هو أولى بالدعاء من أصحاب التأمين، ولكنه أمر كل واحد أن يدعو حتى لا يحرم نفسه الدعاء، إذ إن الدعاء من أعظم العبادات، بل هو أصل العبادة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، فحينئذ لو سكت الناس جميعاً ودعا واحد وأمن الناس، فكأن الداعي للميت واحد فقط، ولو انفرد كل إنسان قدر أن تنحر جزور وتسلخ ويوزع لحمها -وهذا لا يكون إلا في ساعة من الزمان- لانتفع بها الميت في قبره، وكان هؤلاء جميعاً شفعاء يومئذ، ولو أنك أنكرت وقلت: يا إخواني! كل واحد يدعو في نفسه للميت لقالوا: نتبعك أنت أم فلاناً وفلاناً، وهؤلاء ليسوا من أهل البدع، بل هم من أهل السنة، أو يقولون: هؤلاء مشايخكم ودعاتكم وعلماؤكم يفعلون هذا! ونقول: هذا فيه مخالفة للشرع، لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، إنما وعظ مرة عليه الصلاة والسلام، والموعظة تختلف عن الدعاء، الموعظة تذكير للمؤمن بمآله، وأنه لا يبعد أن يكون في نفس اليوم في نفس المكان وفي نفس المقبرة، فالموعظة تختلف عن الدعاء، فلا بأس بالموعظة على المقابر، على أن لا يكون هذا ديدناً حتى لا يدخل في حد البدع، أما الدعاء بالإفراد فإنه مسنون مع كل دفن.
قال: [وكذلك إن شهد له وليمة، وكذلك إن خرج يريد الحج، عاين في هذه المواطن ما ينكره ويكربه، ويسوءه في نفسه وفي المسلمين ويغمه]، في كل مناحي العبادات والعادات تجد انحرافاً عن الشرع، فإذا أردت أن تضع الأمر نصابه قوبلت بالإنكار والردود والملامة، وربما الاعتداء والضرب والشتائم، لا يمكن أبداً لهذه الأمة أن تفيق إلا أن ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
قال: [فإذا كانت مطالب الحق قد صارت بواطل، ومحاسن المسلمين قد صارت مفاضح، فماذا عسى أن تكون أفعالهم في الأمور التي نطوي عن ذكرها؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون ما أعظم مصائب المسلمين في الدين وأقل في ذلك المفكرين!].
وقال: [أنشدني شيخ من أهل العلم بالبصرة في جامعها: الطرق شتى وطرق الحق مفردة والسالكون طريق الحق آحاد لا يطلبون ولا تبدو مآثرهم فهم على مهل يمشون قصاد والناس في غفلة عما يراد بهم فكلهم عن طريق الحق حواد] يعني: يحيدون عن طريق الحق.
قال: [غمر الناس يا إخواني! البلاء، وانغلقت طرق السلامة والنجاء، ومات العلماء والنصحاء، وفقد الأمناء، وصار الناس داء ليس يبريه الدواء.
نسأل الله التوفيق والعصمة والسداد].
قال: [قال عبد الله رضي الله عنه: يأتي على الناس زمان يمتلئ فيه جوف كل امرئ شراً، حتى يجري الشر ولا يجد مفصلاً ولا يجد جوفاً يلج فيه].
أي: يدخل الشر في كل مكان من بدنه -عياذاً بالله- حتى يبحث عن مدخل وعن جوف فلا يجد؛ لأن البدن كله بجميع أجزائه امتلأ شراً، وامتلأ فساداً وضلالاً.
قال: [لا جعلنا الله وإياكم من أهل الشر، ولا جعل لأهل الشر علينا سبيلاً.
وقال أبو الدرداء: لو أن رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمه]، أي: كان يعيش هم الإسلام ويهمه ما يقع بالمسلمين من بلاء وانحراف عن الطريق والصراط، [ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئاً].
سوكل هذا يحتاج إلى دراسة العلم دارسة متأنية حتى يعلم حقيقة الإسلام، وحقيقة كونه مسلماً، ثم إذا وقف على حقيقة الإسلام فأنزلها على واقع المسلمين اليوم لعلم أن البون شاسع جداً بين المسلمين وبين الإسلام، فهل من رجعة إلى الله عز وجل؟ وهل من توبة إلى الله عز وجل؟(20/13)
نداء للعودة إلى الإسلام وإلى التمسك بتعاليمه وشرعه
ولا سبيل إلى التمكين والنصر، والسيادة على الأمم كلها إلا بالتمسك بدين الله عز وجل وحبله المتين وكتابه القويم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] هل هناك دستور في الأرض كلها يهدي للتي هي أقوم؟ كنا من قبل نقول: هذه الدساتير الوضعية لا تصلح إلا في أرض نبتت فيها هذه القوانين، فلا يصح أن تحكم بلاد المسلمين بقانون فرنسا، ولا بقانون انجلترا، ولا بقانون أمريكا؛ لأن هذه القوانين لا تناسب الفطرة كما قلنا من قبل، وكنا من قبل ندرس هذا الكلام ونلقنه حتى غيرنا هذا المعتقد، وعلمنا أنه لا يصلح فرنسا ولا أمريكا ولا أوروبا ولا العالم كله إلا الإسلام، حتى هذه القوانين التي نبتت في أراض كفرية لا تصلح لهذه الأرض، ولا تصلح لنفس الأراضي، إنما يصلح للعالم كله بره وجوه وبحره الإسلام وتعاليم الإسلام، وبغير الإسلام الناس كلهم في حيرة وضلال كافرهم ومؤمنهم.
فلابد من العودة إلى الإسلام حتى إذا تمسكنا بتعاليمه وشرعه تميزت شخصياتنا، وبالتالي تميز مجتمعنا فكان مجتمعاً له سمات، وله الخصال والصفات التي يتميز بها عن غيره من بقية المجتمعات، أما بهذا الوضع فلا يمكن إطلاقاً، ونحن دائماً نقول هذا الكلام وندندن حوله، ونتمنى لو أننا انتبهنا إليه، لكن القضية -يا إخواني- أن بعضكم يتصور باعتباره أتى إلى المسجد، وصلى صلاة الفرض وزكى وحج واعتمر أنه قد أدى ما عليه، وليس هذا هو دين الله عز وجل؛ ولذلك علماؤنا كثيراً ما يقولون: من وقف على حقيقة الإسلام علم أنه في واد والإسلام في واد آخر.
إذاً: الذي يصلي ويصوم ويزكي ويحج لم يعلم بعد حقيقة الإسلام؛ لأن الإسلام أعمق من ذلك بكثير، وهذا أشبه بإنسان لا فهم له، لكنه إذا سمع النداء ذهب إلى المسجد، وإذا أتى رمضان أخرج زكاة ماله؛ لأنها قد وجبت، وإذا أتى موسم الحج انطلق إلى المسجد الحرام، لكنه لا يعرف من الدين أكثر من ذلك، وليس في حياته طفرات ولا نقلات، فإذا دعوته إلى الالتزام وفهم المعاني الحقيقية للشرع يقول: أنا الحمد لله حياتي جيدة، هل تدعوني للصلاة؟ أنا أصلي، للصيام؟ أنا أصوم، للزكاة؟ أزكي، وأنا في كل سنة أحج، لكنه يقع في عظائم الأمور ويقع في المنكرات والبوائق؛ لأنه لم يتعلم الحلال والحرام، ولم يتعلم المعاني اللطيفة.
يا إخواني! كتاب الزمخشري وكتاب الزركشي في التفسير رغم اعتزالهما إلا أن الواحد منهم يدندن على مواطن الجمال في كلام الله عز وجل، وأنا لا أنصح بكثرة القراءة فيها حتى لا يقع المرء في سوء المعتقد الذي في هذين الكتابين، وإنما الذي يميز بين الغث والسمين في هذا الباب فيستحب له ينظر حتى يعلو ويزداد إيمانه بمعرفة المعاني الدقيقة، والأسرار النفيسة لكلام الله عز وجل من واقع هذا الكلام، أو من واقع هذه التفاسير.
يأتي مدرس لغة عربية -لا أقول مفسراً- فيفسر الآية لطلاب المدرسة تفسيراً جديداً، فيظهر ما في هذه الآية من إعجاز أو بيان أو فصاحة أو بلاغة يعجز عنها أي إنسان، فإذا ظهر وجه الإعجاز ازددت حباً وشوقاً إلى الاطلاع في كتاب الله عز وجل بالليل والنهار، أما الإنسان الذي يقرأ القرآن من أوله إلى آخره لا يكاد يميز، ولا يعرف حلاله ولا حرامه، فهذا إنسان لم يشعر بعد بجمال الشريعة، ولا بحلاوة الدين، وحلاوة كلام رب العالمين، وكذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
الواحد منا ربما أخذ صحيح البخاري ليرويه، وسرده سرداً فيقرأ كل يوم مائة صفحة أو مائتين، يقرأ في هاتين المائتين خمسمائة حديث، فيقرأ البخاري في أسبوع واحد، لكنه لم يتوقف عند كل حديث ليعلم ما المراد من هذا الحديث، وما هو المطلوب منه، إنما كان غرضه سرد القراءة، كمن يحرص أن يختم القرآن كل ثلاث، فهو لا يتذوق العلم إلا أن يكون قد ذاق حلاوة القرآن من قبل، وعلم أسرار القرآن، فإنه يتذكر حلاوة القرآن طيلة قراءته وسرده للآيات، أما إذا كان لا علاقة له بهذا، ولا ماضي له في أن يبرك عند ركب أهل العلم فيتعلم تمام السنة؛ فإنه لا يظفر بجمال الدين ولا بحلاوة الشريعة، وكم من حديث حفظناه وقرأناه، وإذا سئلنا عنه سردناه، لكننا لا ندري المراد منه، حتى إذا وقعنا في بلاء، وبصرنا طفل من أطفال المسلمين بسؤال عن قوله عليه الصلاة والسلام كيت وكيت وكيت، حينئذ نشعر جداً بحلاوة السنة، وأن فيها النجاة، والتمسك بها عصمة من كل بلاء.
ولعلي ذكرت لكم من قبل قصة وقعت في قريتي: أن رجلاً كان يبني بيتاً، وآخر كان يبني في مقابله بيتاً له، واختلفا على الطريق، وكانا أول من بنى في هذا الشارع، فجاء من يحدد سعة الشارع، فإذا بهما يختلفان، هذا لا يريد أن يترك، وذاك لا يريد أن يترك، فألهمنا الله عز وجل بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعاً).
فقلت لهم: يا إخواني! أنتم مستعدون أن تتحاكموا إلى شرع الله وإلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: نعم.
فقلت لهم: صح أن النبي(20/14)
الأسئلة(20/15)
حكم دلالة النصراني على مكان يؤدي فيه حفل زفاف
السؤال
نصراني يسأل عن مكان معين؛ لكي يدعو أحد أقرانه إلى حضور حفل زفاف بالكنيسة، فهل أدله؟
الجواب
نحن ننصح السائل إذا كان موجوداً بيننا أن يسلم وجهه وقلبه لله عز وجل، وإذا لم يكن متزوجاً فنحن بإذن الله تعالى نسعى له في تزويجه بمسلمة بعد إسلامه وإيمانه، كما أننا نذكر هذا النصراني أنه ليس على دين؛ لأنه لا دين بحق إلا دين الإسلام، فإن يسلم يؤته الله تعالى أجره مرتين، وإن يكفر فالنار مثواه، أما كنيسة فإننا لا نحكم بالدلالة عليها، إنما نحكم بالدلالة على بيوت الله عز وجل، وأما الكنائس والبيع فليست من بيوت الله عز وجل، بل هي بيوت كفر وضرار.(20/16)
بيان عقوبة من تطلب الطلاق من زوجها من غير حق
السؤال
امرأة طلبت الطلاق ثم رجعت في طلبها، فهل يتحقق فيها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في الحرمان من الجنة؟
الجواب
كأن هذه المرأة لما طلبت الطلاق طلبته بغير حق، و (أيما امرأة طلبت الطلاق من زوجها من غير ما بأس، فالجنة عليها حرام) كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، أما كونها تابت عن هذا الطلب ورجعت واعتذرت إلى زوجها، فإن الله تبارك وتعالى يتوب على من تاب.(20/17)
حكم من نذر نذراً ولم يوف به
السؤال
شخص نذر نذراً ولم يوف به، ماذا عليه من الإثم إذا لم ينو فعله بعد ذلك؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) فإذا كان هذا نذر طاعة فيجب على الناذر أن يوفي بما نذر به، وإذا فرط فيه مع القدرة عليه فإنه آثم إثماً عظيماً عند الله عز وجل، أما إذا كان غير قادر على إنفاذ نذره أو أنه لا يملك ما يوفي به ندره، فإن ذلك في ذمته حتى يتيسر له، فإذا لم يتيسر فلا حرج عليه، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.(20/18)
حكم من أخرج كفارة يمين قبل الحلف ثم حلف على شيء آخر
السؤال
دفعت كفارة يمين ثم علمت أنه ليس علي فيه كفارة، ثم مضى زمن وجاءت علي كفارة يمين؛ فهل هذه تجزئ؟
الجواب
لا.(20/19)
حكم أخذ مال فيه شبهة وحكم بيع الملابس الضيقة للمتبرجات
السؤال
أخي يبيع لتاجر مستلزمات الخمار والحجاب والنقاب، وأغراض النساء الداخلية، وفي نفس المحل يبيع شرابات الموضة القصيرة الشفافة، والبلوزات الضيقة، وهذه البلوزات الضيقة يبيعها للمتبرجات الغير منتقبات، وسيعطيني مبلغاً مقداره خمسمائة جنيه مساعدة منه في شراء غرض أثاث في زواجي، فهل نقوده هذه حلال أم حرام؟ وهل آخذها رغم احتياجي لها؟
الجواب
على أية حال هذا المبلغ هنيئاً مريئاً لك؛ لأن غاية الأمر أن مال أخيك فيه شبهة، والمال المشتبه حلاله وحرامه إذا غلب عليه الحل فهو حلال، وباب الورع مفتوح، فإذا أراد أحد أن يتورع عن التعامل بالمال الذي فيه شبهة فهذا بلا شك أولى، وأنا أنصح السائلة إذا كانت حاجتها ماسة إلى ضرورات النكاح فلا بأس أن تأخذ من المال، أما إذا أخذت هذا المال لشراء كماليات لا قيمة لها فالأولى ترك ذلك، كما أنصح أخاها -وهو محل السؤال- أن يلتزم بما لا شبهة فيه، وألا يبيع ما يمكن أن تتبرج به النساء؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
بيع هذه الملابس الشفافة أو المخالفة للشرع إذا خرجت بها المرأة في الشارع فلا شك أن ذلك حرام، ولذلك في مثل هذه القضايا ينبغي على البائع أن يستر هذه الملابس التي تتبرج بها النساء في الشوارع، أن يسترها في مكان ولا يبديها إلا لأهلها المستحقين لها إذا طلبوها، أو أنه لا بأس أن يعرضها عرضاً، فلو ذهب أخ مثلاً بزوجته عند رجل يبيع هذه الملابس، فلا بأس أن يقول البائع: عندي ملابس داخلية، وعندي فساتين وغير ذلك، ويطلعه على ما عنده، أما إذا أتت امرأة على أحدث موضة فالمعلوم أنها إذا سألت عن شيء من ذلك أو أخذته شراء فإنها ستلبسه وتخالط به نفس الرجل في الغد، وتخالط به الناس جميعاً في الشوارع، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما امرأة خرجت من بيتها مستعطرة فكأنما استشرفها الشيطان) وفي رواية الترمذي: (فإنما هي كذا وكذا يقول أبو هريرة: يعني: زانية)، هذا بمجرد أن المرأة وضعت عطراً أو ما يقوم مقام العطر كالمكياج والبترة وغير ذلك مما له رائحة أو لون يلفت الأنظار، فحينئذ يحرم على هذا البائع أن يبيع لأمثال هذه المرأة شيئاً من ذلك.(20/20)
حكم الخطأ في قراءة الفاتحة في الصلاة
السؤال
هل اللحن في الفاتحة يبطل الصلاة بتغيير الحركات بدون قصد، وإذا قرأ المأموم الفاتحة خطأ أو كان بها لحن فهل تجزئ عنه قراءة الإمام، وإذا أخطأ الإمام في حركات الفاتحة فهل صلاة المأمومين باطلة؟
الجواب
اللحن الجلي خاصة في فاتحة الكتاب يبطل الصلاة، قولاً واحداً بين أهل العلم لا أعلم في ذلك خلافاً.
فلو قال الإمام: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتُ عليهم، غير المغضوب عليهم؛ فهذا لحن جلي، وهذا اللحن تتغير به المعاني، وتبطل به الصلاة، ولا سبيل إلى صحة الصلاة على هذا النحو خاصة، وإن أخطأ أعاد الصلاة بمجرد الخطأ، أو إذا كان هناك من يصحح له في داخل الصلاة، فإذا تمت الصلاة على هذا النحو وجب إعادتها على الإمام والمأموم، أما إذا كان المأموم جاهلاً لا يحسن فاتحة الكتاب فيجب عليه أن يتعلم، ويعفى عن جهله وخطئه بالقراءة بها طيلة فترة تعليمه، فإذا تعلم وأخطأ ولحن لحناً جلياً في فاتحة الكتاب وجب عليه أن يعيد الصلاة.(20/21)
حكم تقبيل الرجل من عقد عليها قبل البناء بها
السؤال
هل يجوز تقبيل المعقود عليها فقط؟
الجواب
هل أنت تضمن أن تتوقف عند هذا الحد؟ المعقود عليها يا أخي الكريم! تختلف عن المبني بها سواء فيما يتعلق بحق العاقد تجاهها، أو بحق المعقود عليها تجاه الزوج، كما أن تقبيلها انتهاك لحرمة الولي، وهناك شروط كثيرة جداً متعلقة بالخطبة أولاً ثم العقد ثم البناء، ولكل واحدة من هذه أحكام كثيرة؛ ولذلك المعقود عليها زوجة تحل من وجوه وتحرم من وجوه أخرى، فلو تمت هذه القبلة لوقعت مفاسد عظيمة، وما كنت أحب أن أتكلم في هذه القضية، لكن فساد المجتمع الذي استشرى واعتقاد بعض المتنطعين من طلاب العلم أن ذلك جائز؛ جعلني أتكلم في ذلك، فمن الناس من يقول: هذه امرأة، والعقد زواج، فيحل لي منها كل شيء، فأقول: إذا كان يحل لك منها كل شيء، فلم لا تنقلها إلى بيتك بمجرد العقد؟ واسمحوا لي أن أقول: هناك حالات كثيرة جداً ترخص فيها العاقد، فأتى المعقود عليها وهي في بيت أبيها فحملت، ثم غير العاقد رأيه في إتمام هذا الزواج، فلك أن تتصور هذا البلاء، وعندما حدثت واحداً من هذه الأشكال قال: وماذا علي في ذلك، أهو حرام؟! قلت: تعريض هذه المرأة للألسنة الحداد في المجتمع أليس حراماً؟ قال: ومالي وما للناس؟ قلت: النبي عليه الصلاة والسلام احتاط لكلام الناس، فقال لـ عائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم)، يعني: عمل بكلام الناس، ولما أشير إليه بقتل المنافقين قال: (أتريدون أن يصبح الناس فيقولون: إن محمداً يقتل أصحابه؟)، فهؤلاء تظاهروا بالصحبة وهم كفار منافقون، ولكن ظاهر الأمر أنهم مسلمون، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم لقال الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، فترك قتلهم للمفسدة العظيمة التي يمكن أن تنجم عن هذا القتل.
فتصور لو أن امرأة جامعها العاقد ثم غير رأيه في ذلك، لكن هذه المرأة حملت من هذا الجماع، فأنا لا أقول: إنه زنا، لكن أقول: إن العاقد تعدى حده وليس له الجماع في فترة العقد، وإنما الجماع في ليلة البناء، وهذا الكلام عليه أدلة من الكتاب والسنة، ومن واقع أفعال السلف رضي الله عنهم أجمعين.
فهنا لو أن المرأة حملت وتقادم حملها حتى بلغت الشهر الخامس أو السادس أو السابع ولم يتيسر أمر الزوج لإتمام البناء، لا يوجد شقة لا يوجد نقود حتى يشتري غرفة نوم مستهلكة، فهو فقير لا يملك شيئاً؛ فماذا يقول الناس عن هذه المرأة؟ هل يقولون: إن هذه المرأة جامعها زوجها، أم يقولون: إن هذه المرأة زانية؟ لابد أنهم يقولون: زانية؛ ولذلك عمر رضي الله تعالى عنه يقول: من عرّض عرضه لكلام الناس فلا يلومن إلا نفسه، فلماذا أنا أعطي للناس هذه الفرصة؟ بل يجب أن أرتفع عن هذا الأمر الذي أرى أنه باطل، وأنظر إليه بعيني.
كما أنه بلاء عظيم جداً حينما تكون هناك اثنتا عشرة مسلمة متزوجات من نصارى، وهذا في مدينة مصر، طبعاً هذا النكاح لا أقول: نكاحاً فاسداً، ولا نكاح شبهة، بل هذا النكاح باطل لم ينعقد من أصله، ويجب التفريق بين هؤلاء النسوة وبين هؤلاء النصارى.(20/22)
النصح بدراسة بعض الكتب في علوم القرآن
السؤال
دلني على كتاب في علوم القرآن الكريم؟
الجواب
هناك كتاب للزركشي، وكذا كتاب للسيوطي، فكتاب الزركشي: البرهان في علوم القرآن، وكتاب السيوطي: الإتقان في علوم القرآن.(20/23)
حكم قول المرء إن الله موجود
السؤال
هل يجوز أن أقول: إن الله موجود، وهل هي من الكلمات التي تخالف العقيدة؟
الجواب
إن هذا المصطلح لم يكن معروفاً عند السلف، لكن الحرج أن تقصد بقولك: (موجود) أنه مفعول، أي: أن الله لم يكن ثم كان؛ لأن موجود على وزن مفعول أي: مخلوق، وكلها على وزن واحد، فإذا كان هذا المعنى هو المقصود فهو بلا شك كفر ظاهر، أما إذا كنت تقول (موجود) بمعنى: واجد، وهذا الكلام ما أكثره في لغة العرب: مفعول بمعنى: فاعل، فإذا كان هذا هو القصد والغرض فلا بأس به، والأولى تركه؛ لأن هذا المصطلح لم يكن يعرفه السلف.(20/24)
حكم ترقيع غشاء البكارة
السؤال
ما حكم ترقيع غشاء البكارة -أي: إعادته مرة أخرى- مع العلم أنها عملية سهلة جداً، ويستطيع أن يقوم بها طالب في السنة الثالثة من كلية الطب؟
الجواب
السائلة نظرت إليها من جهة أنها عملية سهلة، من جهة معالجة البلاء الذي نزل بها، أو أنزلته هي بنفسها، لا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الغش والتدليس، أن يتزوج رجل امرأة على أنها بكر، ولها غشاء بكارة صناعي، حتى إذا دخل بها فض غشاء البكارة، ونزل منها الدم، وليس هو الغشاء الأول لها، فهذا بلا شك باب عظيم جداً من أبواب الغش، وهذا عيب لو اطلع عليه الزوج بعد البناء لجاز له أن أن يفسخ النكاح؛ لأن هذا عيب مؤثر في الزواج، كما لو أن امرأة تزوجت رجلاً فوجدته عنيناً -أي: لا يقدر على جماع النساء- فهذا غش أم لا؟ وإذا تزوجت امرأة رجلاً على هذا النحو فهل لها الحق في طلب الفسخ فوراً مع الاحتفاظ بجميع الحقوق الزوجية أم لا؟
الجواب
لها الحق؛ لأن هذا عيب مؤثر في إتمام الزواج، وأنت ستتزوج امرأة على أنها حرة محصنة عفيفة، فإذا بها غير ذلك، فهذا بلا شك عيب عظيم جداً، يهتك حرمة البيت من أول لحظة؛ فليست القضية متعقلة بأن هذه عملية سهلة أو صعبة، القضية أعظم من ذلك.(20/25)
حكم جمع أكثر من نية في صوم نافلة
السؤال
هل يجوز جمع أكثر من نية في صيام النافلة؟
الجواب
نعم.
تعدد النيات في النوافل أمر جائز، وهذا مذهب جماهير العلماء.
فمثلاً أنت تصوم ستاً من شوال يوم الإثنين والخميس بنية الجمع بين الست من شوال وبين سنة الإثنين والخميس، كما أنك تصلي ركعتين في المسجد بنية تحية المسجد، وبنية السنة القبلية، وسنة الوضوء وغير ذلك، كل هذا جائز لك.(20/26)
حكم رد السلام على المرأة في حالة عدم خشية الفتنة
السؤال
هل يجوز رد السلام على المرأة في حالة عدم خشية الفتنة؟
الجواب
يجوز على أن يكون سراً، على اعتبار أن هذا السلام قد ألقي، ورد السلام مع خشية وجود الفتنة لا يجوز؛ لأن درء الفتنة هو من رفع الضرر عن العبد، فينبغي أن يرد السلام ليتحقق في حقه الواجب، ولكنه يخفض به صوته حتى لا تتأثر المرأة بصوته.(20/27)
حكم مصافحة الرجل زوجة خاله
السؤال
هل يصح لي أن أصافح زوجة خالي؟
الجواب
لا يصح لك ذلك؛ لأنها امرأة أجنبية عنك، بل لا يصح لك أن تجلس معها ولا أن تنظر إليها.(20/28)
حكم التحدث مع الأجنبيات وحكم مخالطة النساء الرجال
السؤال
هل التحدث مع الأجنبيات في التلفون أو غيره محرم، وما هو الضابط إن لم يكن محرماً؟
الجواب
إن التحدث مع الأجنبيات في التلفون أو في غير التلفون مرهون بالحاجة والضرورة، والضرورات تقدر بقدرها، ولا يجوز لأحد أن يتعدى حد الضرورة رجلاً كان مع امرأة أو امرأة مع رجل، والزيادة على حد الضرورة تحرم على المتكلم والمستمع، وأكثر من يخالف في ذلك النساء على الهاتف، وكان نساء السلف لا يتكلمن مع الرجال إلا على قدر الضرورة فقط، والمرأة التي عندها دين ينبغي عليها إذا حضرت إلى المسجد لتسمع الدرس أن تنصرف بعد الدرس وقبل أن ينصرف الرجال، وأي امرأة تدخل المسجد مع زوجها تواعده قبل انتهاء الدرس أو فور انتهاء الدرس في مكان بعيد خارج نطاق المسجد، على نفس الشارع، أو قارعة طريق بعيد؛ حتى لا تزاحم الرجال في الدخول والخروج، هذه المرأة المحترمة التي عندها دين وعندها أخلاق، وتربت في بيت أبيها وأمها، أما امرأة تزاحم، وتخرج وتشتري وتبيع، وتخالط الرجال وترفع صوتها فهذه أخلاق عجيبة! ونحن ما تربينا على هذه الأخلاق، إنما تربينا على أننا كنا نذهب إلى أصدقائنا وزملائنا أيام الابتدائية والإعدادية؛ فإذا رأتنا المرأة التي تقف أمام بيتها ونحن في أول الشارع تدخل بيتها وتغلق بابها، هذه الأخلاق التي تربينا عليها من قبل، بغير ديانة وبغير فقه ولا شرع، فما بالك لو طبق الخلق دين الله عز وجل؛ لكان ذلك في قمة التمام والكمال!(20/29)
حكم جمع الرجل بين المرأة وزوجة أبيها
السؤال
هل يجوز الجمع بين الزوجة وزوجة أبيها؟
الجواب
نعم.
يجوز، امرأة ماتت أمها فتزوج أبوها امرأة أخرى ثم مات عنها، فبقيت هذه المرأة زوجة لرجل، فأراد الرجل هذا أن يتزوج في وجود هذه المرأة تحته زوجة أبيها، يجوز له ذلك؛ لأنها ليست زوجة أبيه هو، ولا هي عمتها ولا هي خالتها، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما نهى أن يجمع الرجل بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها، أما زوجة أبيها فيحل له أن يجمع بينها وبين هذه المرأة، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم.
أقول قولي هذا.
وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(20/30)
شرح كتاب الإبانة - إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية وأمره العقلاء بلزوم بيوتهم
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ستظهر فتن كقطع الليل المظلم، وحذر منها أشد تحذير، وأمرنا بالفرار منها إلى البيوت، وكسر السيوف، وتفادي الشر أينما كان، وقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزة بينة من معجزاته وعلامة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان القدوة الحسنة في كيفية التعامل مع هذه الفتن.(21/1)
باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية، وأمره بلزوم البيوت ولزوم العقلاء بيوتهم
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى: [باب إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أمته أمر الفتن الجارية، وأمره لهم بلزوم البيوت وفضل القعود، ولزوم العقلاء بيوتهم، وتخوفهم على قلوبهم من اتباع الهوى، وصيانتهم لألسنتهم وأديانهم].
هذا باب في غاية الأهمية، ويتعلق غالبه بموقف المسلم من الفتن، أي: إذا قامت فتنة عامة فماذا يكون على المسلم أن يتصرف، وكيف يتصرف والحالة هذه؟ الفتنة العامة بخلاف الفتن الخاصة، فالفتنة الخاصة لكل مسلم أن يتصرف فيها بمقتضى الشرع، لكن الفتن العامة هي البلاء العام الذي ينزل بالمسلمين يستأصل شأفتهم.(21/2)
بيان كيف يتصرف المؤمن مع الفتن العامة
فماذا على المؤمن؟ وكيف له أن يتصرف والحالة هذه؟ فمن الفتن العامة الفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم، كما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فماذا ينبغي أن يكون حال المسلم الذي ليس طرفاً بينهما؟ الأمر كما قال أهل العلم: إن المسلم حينئذ على ثلاثة أقسام: القسم الأول: إذا كان من أهل النظر والاجتهاد، فتيقن أن الحق مع فلان دون الآخر؛ فيجب عليه أن ينصر صاحب الحق.
وإذا ترجح لديه أن الآخر هو الذي معه الحق، فينبغي عليه أن ينصر الآخر؛ لأن هذا هو الذي تجب الإعانة في حقه، وأما إذا لم يترجح له أيهما على الحق؛ فينبغي أن يتوقف، لا يلحق بهذا ولا بذاك، هذا لمن كان له نظر واجتهاد.
أما لو أنه قعد ولم ينظر ولم يجتهد في الأمر في حال الفتنة العامة؛ فبلا شك هذا موقف، وحالة أحسن من سابقتها، حتى لو كان صاحب اجتهاد ونظر، ولكنه آثر ألا يجتهد، وألا ينظر في هذه القضية، ويلزم بيته، ويكون حلس بيته؛ فهذا بلا شك أفضل له بكثير، وأنجى له من الأمر الأول.
أما عامة الناس فلا عبرة بعملهم وبأقوالهم، والواجب في حقهم أن يلزموا بيوتهم، وأن يسمعوا كلام أهل العلم وأن يطيعوا، هذا فيما يتعلق بالفتنة العامة في الزمن الأول.
من الفتن العامة التي نزلت بالمسلمين حديثاً فتنة العراق والكويت.
في الحقيقة يا إخواني! إذا وقعت فتنة عامة، أي: بلاء عام نزل بأهل الإسلام؛ فإن الأصل فيه أن الذي يتصدى له ويجتهد فيه هم أهل العلم الثقات الأثبات المجتهدون، لا طلاب العلم فضلاً عن عامة الناس، وإذا قلت: (لا طلاب العلم) فلا أقصد جموع الملتحين؛ لأن غالب الملتحين ليسوا طلاب علم ابتداء، فإذا قلنا: طلاب علم، أي: من هم دون العلماء.
أما عامة طلاب العلم وعوام المسلمين من الإخوة وغيرهم؛ فلا يحل لهم أن يتفوهوا ببنت شفة فيما يتعلق بفتنة عامة نزلت بالمسلمين.
وهذا على خلاف ما رأيناه وسمعناه منذ عشر سنوات في فتنة العراق والكويت وبلاد الحجاز وغيرها، واستقدام الكفار إلى ديار المسلمين.
الأصل: أن أهل العلم يتكلمون ونحن نسمع ونطيع، لكن هذه الفتنة التي نزلت بالمسلمين كان آخر من تكلم فيها أهل العلم، ليس لأنهم تقاعسوا ولم يؤدوا الواجب الذي أنيط بهم، ولكنها العجلة من الجهال وعامة الطلاب أن تصدروا، وكلفوا أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به، فمنهم من أفتى بالجواز، ومنهم من أفتى بالمنع، ومنهم من توقف وغير ذلك.
حتى الذي اجتهد وتوقف جعل نفسه في دائرة التوقف، وهذا نوع من أنواع الاجتهاد كذلك، يعني: هو اجتهد فتوقف، والأصل ألا يجتهد، بل الأصل ألا يخطر على باله شيء؛ لأن هذه ليست مهمته.
كما لو أنك رأيت مريضاً يتلوى من الألم، هل تفكر أن تجري له عملية وأنت لست طبيباً؟
الجواب
لا، لا تفكر في ذلك؛ فيلزمك أن تمسك في أمر الشرع، وكذلك عما لم يكلفك الله تعالى به.
فنجد في هذه الفتن عامة أن الكل يسأل، والكل قد انشغل بحكم الشرع في هذه القضية، ليس لأنه يريد أن يعلم حكماً شرعياً، ولكنه يريد رأياً معيناً وفتوى بعينها، فإذا سمع غيرها اعترض، وربما أساء الأدب مع مفتيه، وهذا بلا شك خروج عن حد الشرع، وعن المألوف عند أهل العلم من الآداب التي يجب أن يتخلق بها طلاب العلم.
فهذه آثار ذكرها الإمام ابن بطة في هذا الباب تبين حال المسلم إذا نزلت فتنة عامة، فكيف يتصرف؟(21/3)
حديث محمد بن مسلمة أن الفتنة لا تضره
قال: [قال أبو بردة بن أبي موسى الأشعري: لما قتل عثمان رضي الله عنه خرج محمد بن مسلمة] وهو رجل من كبار الأنصار ومن كبار الصحابة، [قال: خرج إلى البرية فضرب بها خباء، وقال: لا يشتمل علي مصر من أمصارهم حتى تنجلي بما تجلت].
أي: حتى تنقشع هذه الغمة، ومقتل عثمان رضي الله عنه كان بلية ورزية، وأي رزية نزلت بالأمة، أن يقتل خليفة راشد، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وهو زوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، وله من المنزلة ما له، رجل تستحي منه الملائكة، وله من الفضل والعلم والورع والذكر والعبادة بل هو من المبشرين بالجنة صراحة.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة) وغير ذلك من فضائله رضي الله عنه، فكونه يقتل وعلى يد المصريين بتحريك من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي زعم ظاهراً أنه أسلم، وليس الأمر كذلك.
فخرج محمد بن مسلمة بعد مقتله وضرب لنفسه خباء في الصحراء، وقال: لا أدخل بلداً قط حتى تنقشع هذه الغمة، مع أن ابن مسلمة قد بشر في غير ما نص منه عليه الصلاة والسلام أن الفتنة لا تضره.
يعني: لو بقي في المدينة -وهي محل مقتل عثمان بن عفان - لما كان داخلاً في الفتنة، أو متخوضاً فيها، ولكنه آثر أن يبتعد عن الفتنة كلها، فانظروا إلى موقف هذا الصحابي الجليل الفقيه العالم العابد؛ يهرب من الفتنة كالهروب من الأسد وزيادة.
أما نحن فبجهلنا وجرأتنا نرى الفتنة خامدة نائمة، فنكون أول من يوقظها، دائماً نلج فيها، الواحد منا يسأل عن فتنة بعينها شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، حتى يدخل فيها برأسه.
كان لي أخ من ليبيا يحضر معنا منذ أعوام مضت في مسجد التوحيد لا يسألني إلا عن فتنة، ونصحته مراراً، قلت له: يا فلان! أرجو أن تستغل بقاءك هنا، أرجو أن تطلب العلم، الطريق الذي أنت فيه ليس هو الطريق الصحيح السليم، وكم نصحته مراراً حتى استبعد من البلاد، وذهب إلى بلد من بلاد أوروبا، وقد حدثني في الأسبوع الماضي رجل أتى من عنده، فقال: إنه فتن تماماً، وترك الصلاة والصيام، لم يصم رمضان الماضي، وأخذ يشرب الخمر ويأتي النساء.
يا إخواني! سنن الله تبارك وتعالى الكونية لا تتبدل ولا تتغير، الله تعالى إذا أمرنا فخالفناه فإن جنود الله كثيرة، يسلط عليك جنداً من جنده يهلكك وأنت لا تدري.
فهذا اختار طريقاً ليس هو طريق الطلب، وليس هو طريق العلم؛ فعاقبه الله تعالى بأن فتنه في دينه، كيف لا وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟! هذا نموذج من نماذج متعددة كثيرة في مصر وفي غيرها، الذي يتنكب عن شرع الله لا بد أن تنزل به عقوبة آجلاً أو عاجلاً، وهو يتأول هذه العقوبة ويخفى عليه أنها نزلت من السماء بسبب انحرافه.
وصدق النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
الذي يتنطع في الدين لا بد أن يرجع إلى الطريق الجادة والاستقامة إذا كان صادقاً موفقاً مسدداً، وإلا فلا بد أن ينقطع به الطريق، ويضل السبيل.
قال محمد بن مسلمة: (لا يشتمل علي مصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة بما تجلت)، أي: بما نزلت به من بلاء.
قال: [وعن حذيفة قال: (ما أحد تدركه الفتنة إلا وأنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الفتنة لا تضره)].
كأنها خاصية لـ محمد بن مسلمة رضي الله عنه.
قال: [وعن ابن ثعلبة قال: سمعت حذيفة يقول: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتنة: محمد بن مسلمة، قالوا: فخرجنا من الكوفة فإذا فسطاط -أي: خيمة- خارج منها، وإذا فيه محمد بن مسلمة، فأتيناه فسألناه عن ذلك، فقال: ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصارهم]، أي: لا أريد أن أساكن أهل الفتنة في ديارهم، ولا في بلادهم، [حتى تنجلي الفتنة التي دخلوا فيها].(21/4)
حديث سعد بن أبي وقاص في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه
قال: [وقال سعد بن أبي وقاص عند فتنة مقتل عثمان: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ستكون فتنة: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي.
قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي أو بسط إلي يده ليقتلني؟ قال: كن كابن آدم الذي قال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29])].
ولعل شبهة تطرأ على بعض العلماء، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد)، ليس هناك أدنى تعارض بين هذين؛ لأن هذا الحديث في الفتنة الخاصة، أما الأحاديث التي بين أيدينا ففي الفتنة العامة.
فلو أن رجلاً دخل عليك ليغتصب امرأتك؛ وجب عليك الدفاع عنها وعن عرضك: إما أن تقتله، وإما أن يقتلك.
وإذا أراد أحد أن يأخذ مالك حتى وإن كان مسلماً، فدخل عليك بيتك، فقاتلك ليأخذ مالك؛ فقاتلته، فإن قتلك فأنت شهيد، وإن قتلته فلا دية ولا قصاص عليك، فهذا كله في الفتنة الخاصة، أما الفتنة العامة فاهرب منها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
وإن دُخِلَ عليك في بيتك فسلم نفسك للقتل، لا شيء عليك، بل أنت مأجور غير مأزور، وأما المأزور فهو الذي قتلك، هذا في الفتنة العامة؛ ولذلك قال له: (أفرأيت إن دخل علي بيتي، أو بسط إلي يده؟) فماذا كان الجواب؟ كان جواب سعد بن أبي وقاص أن قال: كن كابن آدم الأول الذي قال: ((مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ))، يعني: اقتلني إذا كنت تريد ذلك.(21/5)
حديث أبي بكرة في كيفية التصرف مع الفتن العامة
قال: [وعن أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ستكون فتن، ثم تكون فتنة؛ ألا فالماشي فيها خير من الساعي إليها، والقاعد فيها خير من القائم فيها، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، فإذا نزلت فمن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن كانت له إبل فليلحق بإبله)].
انظر إلى هذا الحديث وجماله وروعته، يقول: إذا نزلت الفتنة العامة وأنت صاحب غنم؛ فانشغل بغنمك، تصور لو أن فتنة عامة نزلت الآن -نسأل الله السلامة- فماذا يكون؟ كل الناس يدعون أعمالهم ويتحولون للتفكير في هذه الفتنة، مع أنهم غير مطالبين بهذا، إنما المطالب بهذا هم العلماء.
الآن إذا أتيت لأجهل الجهلاء، وهو شخص راسب في الابتدائية، وكل ما في الأمر أنه إنسان ملتح، ولابس ثوباً أبيض، فإذا نزلت فتنة عامة أو خاصة لا فرق في ذلك عنده؛ لأنه لا يميز بين الخاصة والعامة، لكنه يجعل نفسه مسئولاً أن يفتي في هذه النوازل؛ ولذلك يقول العلماء: لو سكت الجاهل لقل الكلام، لكن إذا نزلت نازلة تجد فيها ألف فتوى في كل حي؛ لأن كل واحد يقول ما يريحه، كما لو سئل عالم من العلماء في مسألة وحوله طلاب، لوجدت أن هذا الطالب يفتي فيها برأيه، وذاك يفتي فيها برأيه، والثالث برأي ثالث، وكل واحد من الموجودين -إلا من رحم الله- يفتي فيما سمع من فلان بفتوى معينة على حسب اجتهاده.
والعالم لم يتكلم بعد، ينظر إليهم ويتعجب من سوء الأدب، مندهش من هذه الأخلاق الرديئة، والسؤال إنما وجه إلى العالم، والذي أجاب مجموع الطلاب، أمر عجيب جداً، أخلاق لا تتناسب حتى مع اليهود والنصارى، فضلاً عن المسلمين، فضلاً عن طلاب علم.
فينبغي على الجميع أن يتأدب بآداب العلم وأهله قبل أن يطلب العلم، فكم من إنسان طلب العلم وفقد الأدب، ففقد معه كل شيء.
قال عليه الصلاة والسلام عن هذه الفتن: (القاعد فيها خير من القائم، والماشي خير من الساعي، والمضطجع خير من القاعد).
كأنه يحض الناس جميعاً ألا يلجوا في هذه الفتن، وكلما تأخر المرء كان أفضل من غيره الذي تقدم وولج في هذه الفتن، ونصح كل واحد أن يلحق بعمله، وإن لم يكن له عمل إلا على غنمات أو إبل، أو أرض، أو زرع؛ فلينشغل بها ولا علاقة له بهذا.
تصور أن هذا الحديث يوجه إلى أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه، أو يوجه إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لكن هذا تشريع عام للأمة كلها.
قال: [(فقال له رجل من القوم: يا نبي الله! جعلني الله فداك، أرأيت من ليس له غنم ولا أرض ولا إبل؟ قال: فليأخذ سيفه، ثم ليعمد إلى صخرة، ثم ليدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة)].
شخص ليس عنده غنم ولا إبل ولا زرع، يعني: جالس يفكر بالنوازل والبلاء، ماذا يصنع يا رسول الله؟! قال: يأخذ سيفه الذي أعده، ثم يأتي إلى صخرة قوية ويضرب بحد سيفه هذه الصخرة حتى يفسد سيفه؛ لأنك لو أتيت بالسكين وطفقت تضرب به البلاط أو الحائط بحده الذي يقطع؛ فإنه لا بد أن تكسر السكين؛ ولذلك قال: يأخذ سيفه فيضرب به الصخرة أو الحجر حتى يفسد لينجو حينئذ؛ لأن العرب ما كان يدخلون في قتال إلا ومعهم سيوفهم ورماحهم، وغير ذلك من آلات الحرب التي أعدوها لهذا الغرض.
إن الفتنة أمر عجيب جداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: أعدوا لها ما استطعتم، وإنما قال: اكسر سيفك والزم بيتك؛ هذا هو فقه الفتن، أن ينجو الإنسان منها بقدر الطاقة ويهرب منها.
أيها الأخ الكريم! لك أن تتصور أن الفتنة هي عبارة عن سبع ضارٍ لم يطعم منذ أيام أو أسابيع، ثم أطلقوا هذا السبع عليك، فماذا يكون عملك؟! فينبغي أن يكون فرارك من الفتنة أعظم من فرارك من هذا السبع؛ لأن السبع مهما أكل سيأكل بدنك، أما الفتنة فإنها تأكل قلبك، وتأكل دينك، وهذا أخطر من أكل بدنك؛ لأنك لو مت مع سلامة قلبك، أو سلامة دينك؛ لكنت من الناجين.
أما لو مات دينك، ومات قلبك وأنت حي، فأنتم تعلمون أن أكثر أهل الأرض على هذا النحو: أجسام كالبغال، وقلوب حمقى مغفلين، لا يحلون حلالاً، ولا يحرمون حراماً، لا يعرفون لماذا خلقوا؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: [(ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! اللهم هل بلغت؟! قال: يا رسول الله! جعلني الله فداك، أرأيت إن أخذ بيدي مكرهاً حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إلى إحدى الفئتين، فيحذفني رجل بسيفه فيقتلني، فماذا يكون من شأني؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يبوء بإثمك، فيكون من أصحاب النار)].
يقول: يا رسول الله! تصور لو أني لزمت بيتي وكسرت سيفي كما أمرتني، وأتى رجل وأكرهني، وأخذني من يدي حتى وضعني في الصف وأنا كاره، فأصابني سهم فقتلني، فماذا علي؟ قال: ليس عليك شيء، قال: فماذا على الذي أكرهني؟ قال: (يبوء بإثمك؛ فيكون من أصحاب النار).(21/6)
حديث عبد الله بن مسعود في كيفية التصرف مع الفتن
قال: [وعن عمرو بن وابصة الأسدي عن أبيه] وأبوه وابصة الأسدي من كبار الصحابة، [قال: إني لفي داري بالكوفة، إذ سمعت على باب الدار: السلام عليكم أألج؟].
وهذه العبارة كانت معروفة عند العرب، أما في الإسلام فيقال: أأدخل؛ ولذلك (أتى رجل النبي عليه الصلاة والسلام فقال بعد أن طرق الباب: أألج؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس: اذهب فعلمه كيف يستأذن، فقال أنس للطارق: إذا أتيت قوماً فاطرق عليهم ثلاثاً وقل: أأدخل)، أي: لا تقل: أألج، لكن هذا الطارق الذي طرق على وابصة قال: [أألج؟ قلت: وعليكم السلام.
فلج]، أي: فادخل.
[قال: (فدخل فإذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أية ساعة زيارة هذه في نجد الظهيرة؟)]، ما الذي أتى بك في عز الحر، وليست هذه الساعة ساعة يتزاور فيها الناس، بل هذا وقت قيلولة وراحة، فقال: قد وقع أمر عظيم، ونزلت بلية عظيمة، آل علي النهار، فذكرت من أتحدث إليه.
قال وابصة: (فجعل يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب، والراكب خير من المجري، قتلاها كلها في النار، فقلت: يا رسول الله! فمتى ذلك فينا؟ قال: أيام الهرج.
قلت: وما أيام الهرج؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه)]، علامة من العلامات، أيام الهرج، والهرج: هو الفتن والافتراق والاختلافات والقتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك علامة قال: (حين لا يأمن الرجل جليسه).
يعني: يجالس الرجل أخاه، لكنه يحذر منه كل الحذر، [(قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: اكفف يدك ونفسك، وادخل في دارك، قلت: أرأيت إن دخل علي داري؟ قال: فادخل بيتك)]، الرجل لو دخل في بستانه أو حديقته اللاحقة للبيت فقد دخل داره.
قال: فإذا دخل علي داري؟ قال: (ادخل بيتك)، أي: ادخل المكان الذي أعد لأهل البيت، [(قلت: أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال: فادخل مسجدك)]، والمسجد: هو المكان الذي اتخذه الرجل في بيته مكاناً لصلاته وسجوده.
قال: [(فادخل مسجدك واصنع هكذا، وقبض بيمينه على الكوع)]، يعني: ضم إليه يده ولم يطلقها؛ أي: حتى لا تؤذي الداخل، ولا تقاتل بها الداخل، كأنه يقول له: اضمم إليك جناحك، واضمم إليك نفسك، وكف لسانك وكف يدك.
قال: [(وقل: ربي الله حتى تقتل على ذلك)]، أي: على هذه الحالة، فالنبي عليه الصلاة والسلام هنا يدل على النجاة بلا شك.
والفرق بين الفتنة العامة والفتنة الخاصة: أن الفتنة الخاصة هي فتنة الرجل في ماله، وفي أهله، وفي ولده، وفي زوجه، وبينه وبين أهله.
أما الفتنة العامة: فهي التي تنزل على عموم المسلمين، ليست متعلقة بكل شخص على حدة.(21/7)
أحاديث أبي موسى الأشعري في أن هناك فتناً كقطع الليل المظلم
قال: [وعن زيد بن وهب قال: أتينا أبا موسى الأشعري فذكر الفتنة، فقال: القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فتركناه وأتينا حذيفة].
وأنتم تعلمون أن حذيفة متخصص في باب الفتن وأشراط الساعة.
قال: [وأتينا حذيفة فقال: أتتكم الفتنة السوداء المظلمة المحبطة، ما أبالي في أيتها رأيتك.
وربما قال: عرفت وجهك، قتلاهم قتلى الجاهلية.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة -أي: قرب قيام الساعة- فتناً كقطع الليل المظلم)].
انظر إلى هذا التصوير! الفتن كقطع الليل، وشبه الليل بالقطع والأجزاء، كلما ذهبت قطعة كانت الثانية في إثرها، ظلمة وسواد.
قال: [(يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي؛ فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة؛ فإن دُخِلَ على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم)].
(فإن دخل على أحد منكم)، أي: في بيته، فليكن موقفه من هذا أن يسلم نفسه، حتى ولو كان ذلك للقتل؛ لأن هذا هو النجاة، وهذا هو الخير.
قال: [وعنه قال عليه الصلاة والسلام: (إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)].
هل تتصور هذا التقلب؟ رجل في أول النهار مؤمن، وفي آخره كافر، وفي آخر النهار مؤمن وفي الصباح كافر، لك أن تتصور هذا التقلب في أثناء الفتنة، فأنت في هذه الفتنة ملزم أن تدخل بيتك، وأن تغلق عليك بابك، وإذا دخل عليك بهذه الفتن العامة؛ فلا بأس أن تكون أنت المقتول، [(قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: كونوا أحلاس بيوتكم)]، فمهمتك في هذه الفتنة أن تدخل بيتك.
والأحلاس: جمع حلس، والحلس: هو الغطاء الملاصق لظهر البعير.
فكأنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يقول: إذا وقعت فتنة فالزموا بيوتكم ولا تشاركوا فيها.(21/8)
أحاديث الضحاك بن قيس والمقداد في تقلب المرء في دينه أثناء الفتن
قال: [وعن الحسن: أن الضحاك بن قيس كتب إلى قيس بن الهيثم: سلام عليك! أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، فتناً كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع قوم خلاقهم -أي: حظههم من الآخرة- ودينهم بعرض من الدنيا).
وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياناً)].
قلب ابن آدم أسرع في تقلبه من القدر إذا وضعت على النار فوصلت درجة الغليان، فانظروا إلى الذي بداخل القدر من تقلب واختلاف، فكذلك قلب ابن آدم، بل أسرع في تقلبه من القدر إذا استجمعت غلياناً.
قال: [وقال: (إن السعيد لمن جنب الفتن، يرددها ثلاثاً)].
وهذا الكلام لا يخرج إلا من النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: لا يصلح أن يكون إلا كلام نبوة: (إن السعيد لمن جنب الفتن)، أي: السعيد حقاً هو الذي يتجنب الفتنة، أو أن الله تعالى يلهمه أن يتجنب هذه الفتنة، أو يبعده عنها، هذا هو السعيد حقاً، ردد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً.
قال: [وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن المقداد بن الأسود الكندي قال: جاءنا المقداد لحاجة فقلنا: اجلس عافاك الله حتى نطلب لك حاجتك، فجلس ثم قال: العجب من قوم مررت بهم آنفاً يتمنون الفتنة، يزعمون ليبلينهم الله فيها ما أبلى رسوله وأصحابه].
وهذا دائماً أيها الإخوة! هو ما تحدثنا به أنفسنا، نقول: نحن لو كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام لنصرناه وعزرناه وأيدناه.
أولاً: ماذا ستفعل مما فعل الصحابة؟ ولو أن الله تعالى علم فيك خيراً لجعلك من أهل ذلك القرن، فنحن لم نر النبي عليه الصلاة والسلام، لكننا آمنا به، وإيماننا يحتاج إلى إيمان آخر، وتصديقنا للنبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى تصديق؛ لأننا نأخذ من الدين ما وافق أهواءنا وأفئدتنا وأمزجتنا، هذا لا يصدق أن يكون من مؤمن إلى قيام الساعة، فضلاً أن تتمنى أن تكون من أهل القرن الأول، وأن تكون من أصحابه رضي الله عنهم.
فقال المقداد: (عجبت لقوم مررت بهم الآن قبل أن آتيكم يتمنون الفتنة؛ يزعمون أنهم لو وقعوا في الفتنة لأبلوا فيها بلاء حسناً كما أبلى النبي وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين).
قال: [والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن السعيد لمن جنب الفتن ثلاثاً، ولمن ابتلي فصبر فواها، لايم الله لا أشهد على واحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم بما يموت عليه، لحديث سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياً)].(21/9)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو كيف يتصرف عندما يكون بين حثالة الناس
قال: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس)].
والحثالة: هي ما يسقط من قشر الشعير والأرز، أو هو الحشف الرديء من التمر، أو سائر المطعومات.
قال: (كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟)، أي: في سقط الناس ورعاعهم، ليس فيهم أهل تقوى ولا أصحاب دين ولا غير ذلك، فماذا تصنع؟ [(قال: قلت: يا رسول الله! كيف ذاك؟)] سؤال فيه تعجب! أي: هل يبلغ الأمر بالناس إلى أن يكونوا حثالة؟ [(قال: مرجت عهودهم وأماناتهم؛ فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)].
يعني: اختلط الحابل بالنابل، واختلط الطيب بالخبيث، ولم يعرف الحرام من الحلال، وإن عرفوه لم يلتزموا الحلال، ولم ينتهوا عن الحرام؛ أمور كلها تداخلت، فكان الليل فيه نهار، والنهار فيه ليل، اؤتمن فيها الخائن، وخون فيها الأمين، وكذب فيها الصادق، وصدق فيها الكذوب، وغير ذلك كما هو واقع المسلمين اليوم.
إن أحاديث هذا الباب علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، أخبر بالأمور الغيبية التي تكون فكانت، وتعيشها الأمة منذ زمن بعيد، ولا زالت تعيشها وتغرق في هذا البلاء.
ٌ [(قال: قلت: فما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟! قال: اتق الله! وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك خاصتك، ودع عنك أمر العوام)].
أرأيت العلاج؟! النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اتق الله! هذه أول وصية، وهي وصية الله تعالى للأنبياء والمرسلين: (اتق الله، وخذ ما تعرف)، الذي تعرف أن الشرع قد عرفه فالزمه.
(ودع ما تنكر) أي: الذي أنكره الشرع فأنكره واتركه، ولا تعمل به، (واجتهد في خاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام)، فهذه خمس وصايا نبوية للخروج من الفتن.(21/10)
بيان معنى قوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)
قال: [وعن أبي أمية الشعباني قال: (أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]؟ فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر)]؛ لأن هذه الآية لم يفهمها كثير من الناس، حتى قرأها أبو بكر رضي الله عنه فقال: إنكم تقرءون هذه الآية فتفهمونها على غير وجهها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ))، أي: بعد أدائكم لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضركم شيء.
وبعض الناس يفهم هذا أنه ملازمة البيوت، وترك الدعوة إلى الله عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول: ما لي وما للناس وقد ضلوا، والله تعالى أمرني بخاصة نفسي! نقول: ومن خاصة نفسك أن تعتذر إلى الله عز وجل بتبليغ الناس دينهم، وحملهم على المعروف، ونهيهم عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضرك إذا ضل الناس، ولم تنفعهم دعوتك.
قال: [(ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً)]، البخيل الشحيح الذي يطاع، [(وهوى متبعاً)]، كل واحد يتبع هواه، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43].
[(ودنيا مؤثرة)]، الدنيا مقدمة على الدين، [(وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك، ودع أمر العوام؛ فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قال: يا رسول الله! خمسين منهم؟ قال: بل منكم)].
ففي هذه الأيام وفي هذه الفتن الذي يأتمر بأوامر الشرع، وينتهي بنواهيه، ويدعو إلى الله تعالى، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويلزم الشرع ظاهراً وباطناً؛ له أجر خمسين من الصحابة.
وهذا لا يعني أنه أفضل من الصحابة، فلا أحد في الأمم كلها بعد الأنبياء والمرسلين أفضل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.(21/11)
إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هناك فتنة صماء بكماء عمياء
قال: [وعن الحكم بن مسعود البحراني أن أنس بن مزيد الأنصاري حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون فتنة بكماء صماء عمياء، المضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، ومن أبى فليمد عنقه)]، يعني: من أبى أن يجتنب الفتن فليدخل فيها، لكنه لا بد أن يعلم أنها ستستأصل شأفته وتأخذ عنقه؛ لأنه قد خالف الأوامر النبوية الآمرة والقاضية بأن يلزم بيته، ويكون حلس بيته، وأن يجتنب هذه الفتن، فلو استشرف إليها استشرفته، ولو مد إليها يده قطعتها، ولو مد إليها عنقه لقطعته كذلك، وهذا شأن الفتن عموماً.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرف له)]، أي: لو تطلَّعْت إليها تطلَّعَت إليك وأخذتك.
قال: [(ومن وجد منها ملجأً أو معاذاً فليعذ به)]، أي: من وجد منها فراراً وهروباً فليهرب.(21/12)
موقف الصحابة من الفتن والنهي عن الدخول فيها(21/13)
إرشاد عبد الله بن مسعود للناس في كيفية التصرف مع الفتنة
قال: [وعن جعفر بن برقان قال: حدثني بعض أصحابنا أن رجلاً من حمير كان يتعلم القرآن عند عبد الله بن مسعود، فقال له نفر من قريش: لو أنك لم تعلم القرآن حتى تعرف؟] يعني: يقولون له: لماذا تدخل على عبد الله بن مسعود؟ قال لهم: لأجل أن أتعلم القرآن، قالوا له: تعال تعلم الكلام والفلسفة والجدل والمنطق قبل أن تتعلم القرآن، فإنك لو تعلمت الكلام فلك أن تتعلم بعده ما تشاء فجعلوا الكلام أصلاً والقرآن فرعاً، وهذا بلاء عظيم جداً، مثلما أننا الآن نمر بأزمات فكرية وفساد دعوي في قطاع كبير من أبناء الصحوة، كل يتبع هواه، ويتبع رأيه، ويعرض عن النصيحة.
قال: [فذكر ذلك الحميري لـ ابن مسعود كلام القوم؛ فقال: بلى! فتعلمه؛ فإنك اليوم في قوم كثير فقهاؤهم قليل خطباؤهم، كثير معطوهم قليل سؤّالهم، يحفظون العهود ولا يضيعون الحدود، والعمل فيه قائد للهوى، ويوشك أن يأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، كثير سؤاله قليل معطوه، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود، والهوى فيه قائد للعمل]، أرأيت؟ هذا كلام صادر من ابن مسعود كأنه كلام نبي.
قال الحميري: [وليأتين علينا زمان يكون فيه الهوى قائداً للعمل؟]، يعني: هل يعقل أن يأتي على الأمة يوم من الأيام يكون هواها هو القائد للعمل؟ قال: [قال ابن مسعود: نعم.
قال: فمتى ذلك الزمان؟ قال: إذا أميتت الصلاة، وشيد البنيان، وظهرت الأيمان، واستخف بالأمانة، وقبلت الرشوة؛ فحينئذ النجاة النجاة.
قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكف لسانك، وتكون حلساً من أحلاس بيتك].
يعني: لو استطعت أن تكون خرقة ملاصقة لبيتك فافعل.
[قال: فإن لم أترك؟] اعتبر يا ابن مسعود! أنني جالس في البيت ودخلوا علي.
[قال: تسأل دينك ومالك، فاحرز دينك وابذل مالك].
يعني: إذا دخلوا عليك سيقولون لك: تعال.
شارك معنا في الفتنة أو أعطنا مالك، فيقول له: احرز دينك وادفع لهم مالك، فإذا كانت القضية قضية مال أو دين يحرز الدين ويبذل المال.
[قال: فإن لم أترك؟ أي: بعد أن أخذوا مالي كذلك لم يتركوني.
قال: تسأل دينك ودمك، فاحرز دينك وابذل دمك].
يعني: احفظ دينك ولا تشترك في الفتنة، وابذل لهم دمك إذا كانوا يريدون قتلك فدعهم وما يريدون.
[قال: قتلتني يا ابن مسعود!] يعني: وصلت معي إلى القتل.
[قال ابن مسعود: هو القتل أو النار].
أي: فماذا تختار، فـ ابن مسعود يقول: إن كلامي مبني على أمرين: إما أن تُقتل؛ فتكون من أصحاب الجنة.
وإما أن تَقتُل؛ فتكون من أصحاب النار.
[قال: هو القتل أو النار.
قال: فمن خير الناس في ذلك الزمان؟ قال: غني مستخفي].
ومعناه: أن يكون حلس بيته.
[قال: فمن شر الناس في ذلك الزمان؟ قال: الراكب الموضع المستقع]، يعني: الشديد البائن على الفتن.
قال: [وعن عبد الله بن رواع قال: ذكرت الفتنة عند عبد الله بن مسعود.
قال: أما أنا فإن وقعت دخلت بيتي، فإذا دُخل علي كنت كالبعير الثقال الذي لا ينبعث إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً].
قوله: (كالبعير الثقال) يعني: بعير كبير في السن، إذا جلس وبرك لا يقوم إلا ثقيلاً، وهذا معنى قوله: (لا ينبعث إلا كارهاً) تضربه ليقوم، وتستخدم معه كل الطرق كي يقف في مكانه، لكن لا يقوم إلا كارهاً، ولا يمشي إلا كارهاً لكبر سنه، هكذا يقول ابن مسعود: أنا في الفتنة أدخل بيتي، فإذا دُخل علي وحملوني على القيام؛ أقوم كما يقوم البعير الثقال، العليل، الكبير في السن، الذي لا يقوم لأول وهلة، ولا يقوم إلا كارهاً.
قال: [وعن ابن رواع قال: يا أبا عبد الرحمن! إنا نرى أموراً نخاف أن تكون لنا فتناً، فإن كان ذلك فكيف نصنع؟ فقال: تدخل دارك، قال: فإن دُخل علي داري؟ قال: تدخل بيتك، قال: فإن دُخل علي بيتي؟ قال: لا أحسبه إلا قال: ادخل مخدعك -أي: المكان الذي تنام فيه- فإن دخل عليك فكن كالجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرهاً، ولا يمشي إلا كرهاً.
وعن أبي الدرداء قال: نعم صومعة الرجل بيته]، أي: أحسن مكان للرجل عند الفتنة بيته، [يكف فيها بصره ولسانه، وإياكم والسوق؛ فإنها تلغي وتلهي].(21/14)
تتابع الفتن حتى يقول الناس إنها سنة
قال: [وقال مطرف: إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن عن دينه.
أي: لتصرف المؤمن عن دينه].
هذا شأن الفتن، فتجد الشخص طوال حياته وعمره في الفتنة الخاصة يسعى ويتحرك، ويصور له الشيطان أنه باحث عن الحقيقة، حتى سمى أحدهم نفسه سلمان الفارسي، فقلنا له: ما سبب تسمية نفسك بهذا الاسم؟ قال: لأنني باحث عن الحقيقة، ويقول: إن الله عز وجل ذكر في القرآن الذي هو منقول عندنا بالتواتر الأمر بإقامة الصلاة فقط، لكن أنا ما يدريني أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الظهر أربعاً، وصلى العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً؟ فهل يمكن أن نتفاهم مع هذا؟! قال مطرف: إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن عن دينه.
قال: [وعن حذيفة قال: إياكم والفتن؛ فوالله ما يشخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدمن، إنها مشبهة متصلة، حتى يقول الجاهل: هذه سنَّة].
ترد الفتن الأولى وراء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة، فتكون فتناً متلاحقة إلى أن يألف الناس حياة الفتن.
فتصور أن الفتن تنزل بك واحدة فالثانية فالثالثة فالرابعة فالعاشرة إلى أن تألف العيش طوال عمرك في الفتن، فتخرج من فتنة وتدخل في أخرى، فلما كثرت الفتن صارت هي الأصل، وهذا كالبدع تماماً، فالآن لو صدر قرار مثلاً من وزارة الداخلية ووزارة الأوقاف في وقت واحد بإلغاء القبور من المساجد، وإخراج الموتى منها ونقل عظامهم إلى المقابر، وتطهير المساجد كلها من الشرك والبدع وإقامتها على التوحيد؛ فإن ثلاثة أرباع الأمة سيظل يبكي ويولول ويقول: إنهم خربوا الدين وخربوا الدنيا، وعملوا كذا وكذا، فبذلك تنعدم السنن؛ يقول ذلك لأن السنة بالنسبة له هي البدعة، وطن نفسه على أنها هي البدعة، فلما أزيلت البدع قال: ما بال السنن قد غيرت؟ يقول ذلك لأنه تربى على البدعة، وتربى على الفتنة حتى صارت الفتنة أصلاً، وصارت البدعة أصلاً، فلما غيرت وبدلت البدع والفتن؛ قيل: ما بال السنن قد بدلت وغيرت؟ وليس الأمر كذلك، لكن لإلف الناس للبدع، فقد ألفوها وصارت عندهم أصلاً.
قال: [حتى يقول الجاهل: هذه سنة، وتتبين مدبرة، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسِّروا سيوفكم، وقطِّعوا أوتاركم].(21/15)
علامات الزمان الذي تظهر فيه الفتن
قال: [وعن قتادة: أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة، يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير].
وهذا يدل على أن هذه الفتنة بقيت مدة من الزمان طويلة، حتى إن الذي كان صغيراً أصبح كبيراً، والذي كان كبيراً أصبح شيخاً هرماً.
قال: [فتتخذ سنة]، أي: تتخذ هذه الفتنة سنة، [فإذا غيرت يوماً قيل: هذا منكر]، أي: إذا غير هذا البلاء قيل على التغيير: هذا منكر، [وقالوا: ومتى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: ذاك إذا قلَّت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقل فقهاؤكم، وكثر قراؤكم، وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة].
يذكر أمارات وعلامات لهذا التغيير وهذا التبدل.
متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (إذا قل أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم).
فأمراؤنا اليوم كثير وكثير، ومنهم من عمره إحدى عشرة سنة، أو تسع سنين، أو ثمان سنوات، وعندنا في مصر كل واحد أمير نفسه، ممنوع على أحد أن ينصحه أو يكلمه أو يغير عليه، ممنوع على أحد أن ينكر عليه، ممنوع على أحد أن يعلمه، كل واحد فينا حر لوحده.
قال: (وقل فقهاؤكم).
يدل على ذلك مشروع الثقافة الذي بين أظهرنا، ظل هذا المشروع الثقافي شهراً وهو يبحث عن سبعة من المشايخ! قال: (وكثر قراؤكم) وهاهم من الكثرة بمكان.
قال: (وتفقه لغير الدين) للرياء، للدنيا، للمال، للجاه، للشهوة، للسلطان لأي شيء.
إن الورقة الرابحة الآن أنه يكون إنساناً مثقفاً ويدرس، ويحفظ قليلاً من الآيات وقليلاً من الأحاديث، ويقرأ كتاباً في الفقه ويجلس في المجالس ليفتي، ولا يتحرج من شيء؛ وهو لا يعرف الصحيح من الضعيف، ولا المتواتر من الآحاد، ولا أي شيء من ذلك، كما أنه يحرص كل الحرص على أن ينجح في هذه السنة، فيعطونه شهادة بأنه أصبح عالماً، وهناك من يأخذ الليسانس، فإن قيل له: من أنت؟ قال: أنا فلان الأزهري، فيعطونه جزئية من البحث أو فرعية من فرعيات المسائل، حضَّر فيها وألف فيها أقوال الفقهاء قديماً وحديثاً، ورجح ما كان مرجوحاً حتى وإن خالف القرآن؛ لأنه لا بد أن يرجح حتى يكون مجتهداً، فيرجح ويأخذ الرسالة، فبمجرد أن يأخذ الرسالة لا يستطيع أحد أن يكلمه نهائياً؛ لأنه دكتور في الجامعة، وإن شئت فقل: هو الكور من غير الدال والتاء.(21/16)
وصية أبي هريرة لمن أظلته الفتن
قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: يا أيها الناس! أظلتكم فتن كأنها قطع الليل المظلم، أنجى الناس منها -أو قال: فيها- صاحب شياه يأكل من غنمه، أو رجل من وراء الدرب آخذ بعنان فرسه يأكل من سيفه].
إذا وقعت هذه الفتن المظلمة الكلحاء السوداء؛ فأنجى الناس منها: شخص يأخذ غنمه، ويذهب إلى المرعى ويذبح ويأكل.
أو شخص معه فرسه يستطيع أن يتكسب به.(21/17)
موقف التابعين من الفتن وتحذيرهم من الدخول فيها(21/18)
الحث على اعتزال الفتن والابتعاد عن صفها
قال: [وقال أبو عقيل: (قلت لـ أبي العلاء: ما كان مطرف يصنع إذا هاج هيج)]، يعني: إذا وقعت الفتنة، [قال: كان لا يقرب لها صفاً ولا جماعة حتى تنجلي عما انجلت.
وعن الفضيل بن عياض قال: الزموا في آخر الزمان الصوامع -يعني: البيوت- فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه، قال: وسمعت الفضيل يقول: حتى متى لا نرى عدلاً يسر به ولا نرى لدعاة الحق أعواناً ثم بكى الفضيل وقال: اللهم أصلح الراعي والرعية.
وعن ابن طاوس عن أبيه قال: لما وقعت فتنة عثمان قال لأهله: قيدوني فإني مجنون، فلما قتل عثمان قال: خلوا عني القيد، الحمد لله الذي عافاني من الذنوب وأنجاني من فتنة عثمان].
يدعي أنه مجنون من أجل أن ينجو من الفتنة، لما شعر بوقوع الفتنة، قال: قيدوني أنا مجنون، وطاوس بن كيسان هو من كبار التابعين، ومن سادة أهل اليمن علماً وعبادة ورواية.
فقيدوه ثم بلغه وهو في القيد أن عثمان قد قتل وانجلت الفتنة، فقال: فكوا قيودي انتهت الفتنة؛ لأنه مأمور أن يكون حلس بيته؛ فعمل بالأمر وترك الناس.
قال: [وعن سيار بن عبد الرحمن قال: قال لي بكير بن عبد الله بن الأشج: ما فعل عمك؟ قلت: لزم البيت منذ كذا وكذا، قال: أما إن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم].
وهؤلاء من أهل بدر، فيا أخي الكريم! من أنت بجانب أهل بدر؟ هل نحن الآن نصل إلى ما وصلوا إليه؟ هل نفهم أكثر منهم؟ إذا كانت المسألة مسألة أفهام وعقول، فهل عقولنا مقدمة أم عقول أهل بدر؟
الجواب
عقولهم وأفهامهم مقدمة على أفهامنا، فضلاً عن وجود الأوامر النبوية باعتزال الفتن فهؤلاء أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).
فهؤلاء مع تقدمهم وعلمهم وإخلاصهم في الصحبة وبلائهم البلاء الحسن مع النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا إذا سمعوا بفتنة لزموا بيوتهم حتى تنجلي.
قال: [فالفتن على وجوه كثيرة، ودروب شتى، قد مضى منها في صدر هذه الأمة فتن عظيمة نجا منها خلق كثير عصمهم الله فيها بالتقوى، وجميع الفتن المضلة المهلكة المضرة بالدين والدنيا فقد حلت بأهل عصرنا، واجتمع عليهم -مع الفتن التي هم فيها التي أضرموا نارها وتقلدوا عارها- الفتن الماضية والسابقة في القرون السالفة، فقد هلك أكثر من ترى بفتن سالفة وفتن آنفة، اتبعوا فيها الهوى، آثروا فيها الدنيا؛ فعلامة من أراد الله به خيراً، وكان ممن سبقت له من مولاه الكريم عناية، أن يفتح له باب الدعاء باللجاء والافتقار إلى الله عز وجل بالسلامة والنجا، ويهب له الصمت، إلا بما لله فيه رضا، ولدينه فيه صلاح، وأن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بأهل زمانه، مقبلاً على شأنه، قد ترك الخوض والكلام فيما لا يعنيه، والمسألة والإخبار بما لعله أن يكون فيه هلاكه، لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، فإن هذه الفتن والأهواء قد فضحت خلقاً كثيراً، وكشفت أستارهم عن أحوال قبيحة، فإن أصون الناس لنفسه أحفظهم للسانه، وأشغلهم بدينه، وأتركهم لما لا يعنيه.
[وقال سفيان: لما قتل الوليد بن يزيد، كان بالكوفة رجل يكون بالشام وأصله كوفي، سديد عقله، فقال لـ خلف بن حوشب لما وقعت الفتنة: اصنع طعاماً واجمع بقية من بقي، فجمعهم، فقال سليمان بن مهران الأعمش حينئذ للضيوف: أنا لكم النذير، كف رجل يده، وملك لسانه وعالج قلبه].
أي: أنا اليوم أنذركم، كفوا ألسنتكم، وأمسكوا بأيديكم، وعالجوا قلوبكم.
أي: لا تدخلوا في هذه الفتنة.
قال: [وقال سليمان بن عتيق لما وقعت الفتنة قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله، على نور من نور الله، رجاء ثواب الله].
انظروا إلى تفسير التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله -أي: على بصيرة- ترجو ثواب الله.
قال: [وأن تترك معاصي الله، على نور من الله؛ خوف عقاب الله].
إذاً: التقوى فعل وترك؛ فعل للطاعة ببصيرة وعلم، ترجو بها ثواب الله، وترك للمعصية لعلمك أنها معصية، وهذا هو النور من الله، تخاف عقاب الله عز وجل.
قال: [وقال سعيد بن جبير: قال لي راهب: يا سعيد! في الفتنة يتبين لك من يعبد الله ممن يعبد الطاغوت]، يعني: الفتن هي المحك.
قال: [وقال معقل بن يسار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كالهجرة إلي)].
والهرج: هي الفتن، فأن يلزم إنسان بيته في الفتنة، وأن ينشغل بطاعة الله تعالى: بقراءة القرآن والذكر والتسبيح والصلاة وغير ذلك، وأن يهجر هذه الفتنة؛ يكون كمن هاج(21/19)
الانصراف عن الفتن بالقلب
قال: [وقال إبراهيم: قال شريح: ما أخبرت خبراً ولا استخبرت خبراً منذ وقعت الفتنة، ولا أصيب من مال رجل ولا من دينه.
وقال لرجل: لو كنت مثلك ما كنت أبالي لو مت الساعة].
يعني: يقول: يا ليتني مثلك، مع أنه لم يتكلم، ولم يطلب من أحد أن يخبره بخبر الفتنة، ولم يصب من مال أحد ولا من عرضه، ولم يتكلم قط، وهو مع هذا يتمنى أن يكون كآحاد الناس الموجودين أمامه.
يقول: لو أني مثلك لتمنيت أن أموت الساعة؛ لأنك على خير.
قال: [وقال شريح: فكيف بقلبي وهواي ما التقت فئتان إلا وقلبي يهوى أن تظفر إحداهما].
يعني: رغم أنني ما أصبت من مال أحد ولا من عرضه وما تكلمت في أحد، وكما أنني كذلك لم أستخبر أحداً، ولم أخبر أحداً بشيء، إلا أنه إذا وقعت فتنة بين طائفتين هوى قلبي الظفر والنصر لإحدى الطائفتين، قال: هذه عقوبة وبلاء عظيم جداً.
فهذا النص يا إخواني! نص خطير جداً، ومخوف إلى أقصى حد، حتى الإنسان ينصرف عن الفتنة بقلبه فلا يفكر فيها، ولا تخطر بقلبه ألبتة، بل يلزم بيته لزوماً، كما [قال حذيفة: إن كان الرجل يتكلم الكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بها منافقاً، وإني لأسمعها اليوم من أحدكم عشر مرات]، كان الرجل يتكلم بها في عمره مرة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام فيعد بها من المنافقين، فما بالكم تتكلمون في كل يوم بهذه الكلمة عشر مرات؟(21/20)
الدخول على السلاطين وأثره على العلماء والدعاة
قال: [وقال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء].
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن).
فقوله: (من بدا جفا)، أي: من سكن البادية كان فيه شيء من الجفاء والغلظة، وهذا أمر معلوم مشاهد.
(ومن اتبع الصيد غفل)، أي: غفل عن الذكر والتسبيح والصلاة وغيرها؛ لأنه يهوى الصيد، فقد انشغل به واستحوذ على قلبه، مع أنه من المباح، لكن لا ينبغي الانشغال بالمباح عن الواجب.
(ومن أتى السلطان افتتن)؛ لأن إتيان السلطان مرهون بالفتنة، إلا أن يكون سلطان خير ودين وتقوى وصلاح، فيجب على أهل العلم حينئذ إعانته على مسئوليته، وعلى المهمة التي أنيطت برقبته، أما إذا كان غير ذلك فيحظر على الرجل أن يقترب منه، وإلا فالفتنة على باب بيته.
يذكر أن محمد بن واسع دخل على مالك بن دينار، وإذا برسول السلطان يعطي مالكاً صرة فيها مال، فقبل مالك هدية السلطان وأنفقها في الناس، ولم يأخذ منها شيئاً، فقال محمد بن واسع: أقبلت هدية السلطان؟ قال: أما رأيتني قد أنفقتها في طلاب العلم؟ قال: أسألك بالله أقلبك عليه بعد أن أخذت الصرة كقلبك عليه قبل أن تأخذها؟ قال: لا.
والله إني حمار.
وهذا فقه عظيم جداً؛ ولذلك أذكر أن أحد الدعاة قد أمات نفسه وهو حي، صعد المنبر في سنة (1981م)، وقال: إن لمصر إلهين: إلهاً في السماء، وإلهاً في الأرض، وهو مجلس الشعب، وكان يفتينا بأن حزب العمل والوفد وغيرها من الأحزاب أحزاب بدعية شركية، فإذا به يدخل في الحزب، ويدخل مجلس الشعب، فلما حدثناه في ذلك، قال: أنتم لا تدرون ما العلاقة التي بيني وبين فلان؟ إنها علاقة قوية نقية، وكلها خير، والرجل على صلاح وتقوى ودين وخلق؛ فقلنا له: لم كفرته آنفاً؟ إما أن تعرف عنه ما عرفته الآن، فتكون قد كفرت رجلاً أنت تعلم أنه على خير، وعلى دين، وإما أن تكون قد جهلت هذا؛ فتكون قد كفرت بغير علم، فأنت في حرج في الحالين.
فأرسل الله تعالى إليه جنداً من السماء، وهو جند الحب والبغض؛ فأبغضه شباب الصحوة وانصرفوا عنه تماماً، فهو الآن حي ميت، لا يتكلم بكلمة قط لله عز وجل؛ لأنها غير مسموعة تماماً، وهذه عقوبة نزلت من السماء.
وكان السلف رضي الله عنهم يتحرجون أشد التحرج من الدخول على السلطان، حتى وإن كان فيه نوع صلاح.
سفيان الثوري كان من أشد الناس هرباً عن بيوت السلطان، فقد دعاه سلطان الكوفة مرة، وأرسل إليه مرات ومرات فلم يأته، فحملوه حملاً حتى وضعوه على بساط السلطان، فدخل وجلس ولاطفه السلطان وكلمه بكلام يليق بمنزلة أهل العلم وكرامتهم، وطلب منه أن يتولى قضاء الكوفة، فقال: أنا لا أعرف القضاء، فلما ضغط عليه أظهر أنه مريض أو مجنون، فلما رأى ذلك منه السلطان، وعلم أنه لن يصلح معه أي حيلة قال: انصرف على أن تأتينا.
قال: أفعل.
قال: أتعد بذلك؟ قال: نعم.
فخرج سفيان الثوري وترك نعله، ثم عاد مرة أخرى ليأخذ نعله، ففطن لذلك أحد الجالسين وقال: يا فلان! إن سفيان لن يأتيك بعد ذلك، إنه قد وفَّى بما وعد، ودخل مرة أخرى.
أرأيتم الهروب من السلطان إلى أين يصل؟ هي والله فتنة عظيمة جداً.
قال: [إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ما معه منه شيء.
قيل: لم يا أبا عبد الرحمن؟! قال: لأنه يرضيه بما يسخط الله عز وجل عليه].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(21/21)
شرح كتاب الإبانة - تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يجادلون بمتشابه القرآن
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإصغاء إلى أهل البدع والأهواء؛ لأنهم يجادلون بمتشابه القرآن، ابتغاء الفتنة وابتغاء تحريفه، في حين أنهم يتركون المحكمات، وهذا مما يمحو نور آيات الله من قلب العبد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف في قراءة القرآن الكريم، وذلك لأن اللهجات العربية متعددة، وقد أنزله الله على سبعة أحرف رحمة بهذه الأمة، وكفى الله المؤمنين مئونة هذا الاختلاف بجمع عثمان رضي الله عنه له في مصحف واحد، وبقي اختلاف أهل الأهواء، فيرد عليهم العلماء.(22/1)
باب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن وما يجب على الناس من الحذر منهم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع باب جديد وهو: [باب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من قوم يتجادلون بمتشابه القرآن، وما يجب على الناس من الحذر منهم].
[قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} [آل عمران:7] إلى آخر الآية].
من القراء من وقف على قول الله عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، ومنهم من وقف على لفظ الجلالة، وهم جمهور القراء.
فهكذا التقدير: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، ومنهم من وقف على قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) ثم استأنف: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
وكلتا القراءتين لها وجه، ولكن الذي عليه جماهير القراء -بل جماهير علماء الأمة- أن الوقف الأفضل هو الوقف على لفظ الجلالة، ثم استئناف علم الراسخين في العلم، وإلمام الراسخين في العلم: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7].
فهنا إثبات أن في كلام الله عز وجل محكماً، وفي كلام الله عز وجل متشابهاً، فأما المحكم فلا إشكال فيه؛ لأنه محكم لا يستطيع أحد من أهل البدع أن ينازع فيه.
وأما المتشابه وما ظاهره تعارض فإنه لا تعارض في كلام الله عز وجل: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فلما لم يكن فيه اختلاف البتة دل على أنه من عند الله عز وجل.
فأما أهل البدع فإنهم يتجادلون بالمتشابه من كلام الله عز وجل، وكذا بما ظاهره التعارض من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الراسخون في العلم من أهل الإيمان والسنة، فإنهم يعملون بالمحكم بغير نزاع بينهم، ويؤمنون بالمتشابه ويمرونه كما جاء، ولا يردون على الله عز وجل شيئاً من كلامه، ولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من كلامه كذلك.
وسنعرف ما هو المحكم في كلام الله، وما هو المتشابه بإذن الله تعالى.(22/2)
بيان معنى قوله تعالى (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه)
[قالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي عليه الصلاة والسلام في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] إلى قوله الله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]؛ قال: (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله عز وجل فاحذروهم).
يعني: إذا رأيت واحداً يتجادل ويتماحل ويتخاصم بمتشابه القرآن، فاعلم أنه زنديق أو منافق أو ملحد، فاحذره وفر منه فرارك من الأسد.
وفي نفس الآية يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:7] أي: شك وضلال وحيرة وتيه ومرض {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] فهم دائماً لا يقصدون إلا المتشابه، ولا يسألون إلا عن المتشابه سؤال متعنت لا سؤال متعلم.
قال: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)) لماذا؟ {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] أي: تحريفه، يعني: يطلبون الفتنة.
ولقد رأيت أحد هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ يتتبع آيات القرآن الكريم المتعلقة بالشفاعة، ثم أخذ يتتبع آيات القرآن الكريم المتعلقة بعدة المرأة الحامل، وعدة المرأة المتوفى عنها، وبقية العدة في حق المرأة.
وقال: هذا تضارب في قول الله عز وجل؛ مما يستبين معه للناقد البصير أن هذا الكلام ليس هو من عند الله عز وجل! هكذا تصور أنه ناقد بصير، فهو والله فقد بصيرته وبصره؛ لأن الكلام كلام الله عز وجل.
[قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7].
فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: (هم أهل الجدل في القرآن، وهم الذين عناهم الله عز وجل فاحذريهم يا عائشة!)].
[وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه -أي: من القرآن- فأولئك ذكر الله عز وجل فاحذروهم)].
[وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً في نفس الآية: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الراسخون في العلم الذين آمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه)]، حتى تعلم علامات أهل الصلاح أنهم إذا جاءتهم آية محكمة عملوا بمقتضاها ومفهومها وظاهرها، وإذا أتتهم آية متشابهة فوضوا وسلموا أمرها إلى الله، مع الإيمان الجازم بأنها كلام الله عز وجل، والله تعالى لا يتكلم عبثاً.
[وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الذي يجادلون فيه -أي: في القرآن- فهم الذي عنى الله عز وجل فاحذروهم).
قال أيوب بن أبي تميمة السختياني: ولا أعلم أحداً من أهل الأهواء يجادل إلا بالمتشابه].
[وعن ابن عباس في قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7].
قال: المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه وحدود وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به].
فإذا كان الناسخ من المحكم فالمنسوخ من المتشابه، والناسخ محكم لأن الناسخ هو النص اللاحق للعمل به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها فإنها تذكر بالآخرة).
فقول جرير أو جابر رضي الله عنهما: (أن آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يتوضأ مما مسته النار) يدل على أنه كان يتوضأ أولاً من كل طعام أعد في النار، ثم نسخ هذا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل مما مسته النار وطهي عليها ولم يتوضأ.
وقد أعد العلماء كتباً للناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، والناسخ والمنسوخ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام.
فالناسخ من المحكمات والمنسوخ من المتشابهات، كما أن من المحكمات أيضاً الحلال والحرام والحدود والكفارات، وما يؤمن به المرء إيماناً جازماً، وكذلك من المحكمات الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أمر بأن يعمل به.
[فأما الذين في قلوبهم زيغ من أهل الشك فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم]، أي: يخلطون بين هذا وذاك، [ويلبسون] أي: على العامة، [كلام الله عز وجل، فيلبس الله تعالى عليهم، فأما المؤمنون فيقولون: آمنا به]، مهما لبستم يا أهل البدع! فلن يعدو الإيمان الجازم بأن هذا الكلام من عند الله عز وجل منه الناسخ ومنه المنسوخ.
[فيقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)، محكمه ومتشابهه]، أي: يقولون: المحكم من عند الله والمتشابه من عند الله.
[وعن الحسن في قول الل(22/3)
بيان أن صفات الله من المحكمات
كثير من الناس يعتقد أن صفات الله عز وجل من المتشابهات؛ اغتراراً بقول كثير من السلف: نؤمن بها ونمرها كما جاءت دون خوض فيها بتأويل أو تحريف أو تمثيل أو تكييف، فقالوا: هذا القول يشعر أن الصفات من المتشابهات، فمثلاً: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، ذهب أهل التمثيل والتشبيه إلى أن لله يداً كيد المخلوقات؛ لأن الله تعالى ما خاطب العباد إلا بما يدخل في أفهامهم وتدركه عقولهم، فلما قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] دل على أن له يداً، وهذه اليد مثلوها بيد الإنسان.
قلنا: هذا الكلام لا يستقيم لا من جهة النقل ولا من جهة العقل، والدليل على ذلك أن نقول: لم جعلنا يد الله تعالى كيد الإنسان خاصة؟ لم لا تكون كيد الحيوان أو الطير أو الحشرات؟ ولو سلمنا أنها كيد إنسان فهل يد كل إنسان كيد أخيه الإنسان؟
الجواب
لا، بل أحياناً تجد في يد الإنسان الواحد قصوراً في يد وطولاً في الأخرى، وضموراً في يد وسمنة في الأخرى وغير ذلك، فإذا كانت اليد في الشخص الواحد أحياناً تختلف، فكيف نقول بأن يد الله تعالى كالإنسان؟ فأي إنسان هذا الذي تشبه يده يد الله عز وجل؟! لابد أن نتوقف في الجواب.
الأمر الثاني: أننا لا نستطيع تكييف الذات العلية لله عز وجل، ونعجز عن وصفها؛ لأنها لم تر لنا، وليس لها مثيل نقيس عليه، ولو أني قلت: هل رأى أحد منكم إبراهيم؟ تقولون: لا، أقول: إن إبراهيم يشبه محمداً في العين أو الفم أو الأنف أو الوجه أو اليد أو الساق أو غير ذلك، فإذا قلت: إن إبراهيم شبيه محمد فقد فهم المخاطب أوصاف محمد وأوصاف إبراهيم، ومحمد معلوم لدينا، لكن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فلما لم يكن له مثيل من خلقه ولا شبيه من خلقه ولا كفؤ من خلقه، فلا يمكن معرفة الله تعالى عن طريق القياس، ولا رأينا الله تعالى في الواقع، وإنما يراه المؤمنون في الآخرة، كما أنه كذلك لا يمكن قياس الذات العلية على ذوات المخلوقين فإذا عجزنا عن كيفية الذات، لابد كذلك أن نعجز عن كيفية الصفات؛ لأن الصفات لازمة للذات.
والفريق الآخر المقابل للممثلة والمشبهة والمكيفة هم النفاة الذين قالوا في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]: لا يصح أن يكون لله يد، وفي مقدمتهم الجهمية، قالوا: لأن إثبات اليد لله تعالى تستلزم المشابهة، والله تعالى منزه عن ذلك، فلابد من تحريف الكلم عن مواضعه، ولابد من تأويل اليد هنا، فأولوها بالقوة، فلما أرادوا تنزيه الله عز وجل وقعوا في شر مما هربوا منه، وهو التعطيل.
لكن أهل السنة والجماعة اعتبروا أن الصفات من المحكمات؛ لأننا نثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله عليه الصلاة والسلام، على المعنى اللائق بالله عز وجل.
فالله تعالى أخبر أن له يداً وأخبر أن له قوة، فلا يستقيم قط أن أقول: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: قوة الله فوق قوتهم؛ لأنني لو قلت ذلك وأولت وحرفت النص عن ظاهره، للزمني تعطيل صفة اليد، بل أنا أثبت اليد على المعنى اللائق بالله عز وجل، وأثبت القوة كذلك على المعنى اللائق بالله عز وجل؛ لأنها من صفات أفعاله، والله تعالى واحد في أفعاله، كما أنه واحد في ذاته، وواحد في أسمائه، واحد في صفاته، فإذا أثبتُّ أن له قوة أثبت القوة التي لا علاقة لها باليد التي هي من صفات الذات لله عز وجل، أما القوة فمن صفات الفعل لله عز وجل، وقوة الله تعالى لا تدانيها قوة ولا تضاهيها قوة، فأثبت اليد على المعنى اللائق بالله، وأثبت القوة على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولم يخض أهل السنة والجماعة في معرفة كنه الصفة أو تكييف الصفة، وفوضوا كيفيتها إلى الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يعلم ذاته ويعلم صفاته على الحقيقة.
أما البشر فالواجب عليهم أن يؤمنوا بأن الله تعالى سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بأوصاف، وكذلك فعل رسوله عليه الصلاة والسلام، فيجب عليهم أن يؤمنوا بها ويمروها كما جاءت، يفوضون كيفيتها إلى الله عز وجل، أما علمها وحقيقتها فإننا نؤمن إيماناً جازماً أن الله تعالى له أسماء وله صفات.
فتبين بعد هذا العرض السريع أن صفات الله عز وجل من المحكمات وليست من المتشابهات، وهذه جزئية لو لم نخرج هذه الليلة إلا بها لكفى؛ لأن كثيراً من طلاب العلم -بل أهل العلم الذين يصنفون كتبهم- يزعمون أن الصفات من الآيات المشتبهات، وليس الأمر كذلك.
أما قول من قال: إن الصفات من المحكمات، فهو قول المحققين والمدققين من أهل العلم من المحدثين وغيرهم.(22/4)
تأديب عمر لصبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن
قال: [قال سليمان بن يسار: إن رجلاً من بني سعيد يقال له: صبيغ بن عسل قدم المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث له وقد أعد له عراجين النخل -جريد النخل- فلما دخل عليه جلس فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ، فقال عمر: وأنا عمر عبد الله، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين حتى شجه -أي: قطع لحم رأسه- فجعل الدم يسيل على وجهه فقال: حسبك يا أمير المؤمنين! فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي].
وهكذا كثير من الملاحدة، لكن لما لم يكن لدين الله عز وجل حماة في هذا الزمان، لا من الحكام ولا من المحكومين، لجأ أهل العلم الغيورون على دين الله عز وجل إلى الجدال ورد الشبهة، حتى إني لأعتقد أن كثيراً من المحاضرات والدروس وخطب الجمعة إنما هي رد فعل لكلام الملاحدة، على أية حال هو ضرب من ضروب العلم: لأن العلم أن أعلمك الشيء ابتداءً دون أن تسأل عنه حتى تعلمه، والوجه الثاني: أن تسأل عن شبهة طرأت عليك فأعلمك إياها وأردها عنك وأقيمك على الجادة، لكنه أمر مخجل جداً أن ينشغل أهل العلم الآن بالرد على هؤلاء الملاحدة، مما يدل على أن كل واحد من هؤلاء رفع عقيرته؛ لأن الراية الخضراء أمامه: افعل ما تشاء فهذا هو وقت استباحة المحرمات، ووقت الطعن في الثوابت التي تعلمها أطفال المسلمين قبل كبارهم! فنجد من ينازع في أصول الحج، وفي أصول الصلاة، وفي أصول الصيام، وفي أصول الزكاة، وهذه ثوابت لا يجوز زعزعتها من قلوب المسلمين رجالاً ونساءً، صغاراً أو كباراً، فنجد الآن من ينازع ويزعزع هذه الثوابت، حتى يأتي الرجل فيسأل عن شيء لا تملك أمامه إلا أن تضرب رأسك بالأرض أو بالحائط، كيف يسأل عن هذا؟! فيقول: الزنا قضية شخصية فلماذا حرمها الله عز وجل؟ فماذا تقول لهذا؟ هذا لا يصلح معه إلا عراجين النخل، لكن من يملك هذه العراجين الآن؟ لا أحد، فكأن حماة الدين في هذا الزمان يتامى لا أب لهم ولا أم، فقدوا كل سلطان على هؤلاء الملاحدة، بل لو غضبوا لله عز وجل وتمعرت وجوههم ولو مرة؛ لنسبوا إلى الجهاد والتطرف والتزمت وغير ذلك.
وعلى أية حال هذه خطط ظنوها محكمة، لكنها بإذن الله تعالى أوهن من بيت العنكبوت، والله تعالى هو الذي يحمي دينه، وأنا أذكر بهذه المناسبة مقولة عبد المطلب في مواجهه أبرهة الأشرم حينما أتى ليهدم الكعبة، فأخذ الإبل والمتاع، فخرج إليه عبد المطلب وقال: أما الإبل فهي لي وأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه، نعم.
فنقول: إن دين الله عز وجل هو دينه الذي ارتضاه وأنزله من السماء، وهذا الدين لا يزال ظاهراً، وطائفة قائمة يظهرونه إلى قيام الساعة، لا يضرها من خالفها من هؤلاء الملاحدة، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون، وهم على ذلك.(22/5)
إيجاد السبل في تعلم منهج السلف في الرد على الملاحدة
قال: [وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سيأتي أقوام يجادلونكم بشبه القرآن، فجادلوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل].
أناس سيأتونكم يقولون: الله تعالى يقول مرة: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل:9]، ومرة يقول: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، ومرة يقول: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40].
فيقول: هل هناك مشارق ومغارب؟ هو مشرق واحد ومغرب واحد، إذاً: فما معنى مشارق ومغارب؟ وإذا كانت المشارق والمغارب متعددة، فكيف يكون المشرق اثنين والمغرب اثنين؟ ولو أن ملحداً سألك هذا السؤال فماذا تصنع؟ فلابد أن تجيب بكلام أهل العلم، فتكون قد قرأت في الكتاب الفلاني من كلام أهل العلم كيت وكيت وكيت، وهذا هو طالب العلم؛ ولخطورة هذا الباب الذي نحن بصدده أفضل أن ندرس كتيباً صغيراً، مقداره (40) صفحة من القطع الصغير، لكنه من أمتع ما يمكن أن تقرأ في المتشابهات وكيفية الرد على الملاحدة، وهو كتاب الرد على الجهمية، وصاحب هذا الكتاب هو الإمام أحمد بن حنبل، وهو كتاب رائع، تقرأ فيه وأنت تبكي، من فرحتك برحمة الله بهذه الأمة أن جعل فيها هذا الإمام؛ لأن هذا الكلام كلام إنسان قد فتح الله عز وجل عليه يقينه.
هذا نور إلهي بثه الله تعالى في قلب هذا العبد، ولذلك إن شاء الله تعالى في الدرس القادم سنتناول هذه الرسالة حتى نعلم حلاوة العلم، والتلذذ في طلبه، ونعرف كيف نرد على الملاحدة، وكيف يفكر الملاحدة؟ وما هي مادتهم؟ مادتهم المتشابهات، هي عندهم متشابهات لكنها عند أهل السنة من المحكمات، وسأبين هذا بإذن الله تعالى في الدرس القادم.(22/6)
باب النهي عن المراء في القرآن
الباب الثاني: [باب النهي عن المراء في القرآن]، أي: في باب الخصومة والمماحلة.
[عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مراء في القرآن كفر)].
[وعن عبد الله بن عمرو قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوا المراء في القرآن.
فإن الأمم لم يلعنوا حتى اختلفوا في القرآن]، أي: في الكتاب الذي أنزل على نبيهم، [وإن مراء في القرآن كفر)].
[وعنه قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارءون في القرآن]، أي: يتجادلون في كتاب الله، [فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)]، أي: وما جهلتم منه فلا تسارعوا وتقولوا: هذا من المتشابه، بل قولوا: نحن لا نعلمه، فالذي تعلمه يقيناً وحقاً وصدقاً فقل به وأخبر به وعلم الناس، واعمل به أنت أولاً، والذي لم تبلغه العقول فينبغي أن تقول فيه: لا أعلمه، أو قل: الله أعلم.
[وعن أبي عمران الجوني قال: (كتب إلي عبد الله بن رباح: إن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]، أي: ذهب إليه في الهاجرة، [فقعدنا بالباب، فسمع رجلين اختلفا في آية من كتاب الله عز وجل، فارتفعت أصواتهما، فخرج صلى الله عليه وسلم من بيته مغضباً يُعرف الغضب في وجهه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بالكتاب)] يعني: فعلتم مثلما فعل الأولون، كانوا يضربون كلام الله بعضه ببعض، ويضربون آيات الله بعضها ببعض، فكان ذلك سبباً في هلاكهم، فلا تفعلوا فعلهم.
[وعن أبي أمامة قال: (بينما نحن نتذاكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية)]، في المجلس مذاكرة، كل واحد يتبنى في مسألة ما رأياً معيناً، فيأتي ليثبت صحة قوله بآية من كتاب عز وجل، والثاني يريد أن يثبت كذلك أن رأيه أصوب وأصح وأتم من رأي صاحبه، فيأتي بآية من كتاب الله عز وجل، فكأن هذا يضرب بآيته الآية الأولى، وذاك يضرب بآيته الآية الثانية، فهذا سبب لتضارب الآيات بعضها ببعض، وهذا جرى على يد الملاحدة والجهال، فمن كان جاهلاً فليكل العلم إلى الله عز وجل، ومن كان جاحداً أو منافقاً أو مبغضاً لكلام الله عز وجل يريد أن يحرف الكلم عن مواضعه؛ فليعلم أن لله تعالى جنوداً: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، تدافع عن كلامه، وتدافع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ينزع هذا بآية وهذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صب على وجهه الخل فقال: يا هؤلاء! لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه يوقع الشك في قلوبكم، فإنه لن تضل أمة إلا أوتوا الجدل)] يعني: أن الجدل علامة الضلال.
[وعن جندب بن عبد الله البجلي قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه)].
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) , وفي رواية: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)] أي: وإن أصاب.
وهذا من باب القول على الله تعالى بغير علم، ومن باب تأويل كلام الله عز وجل بغير علم حتى وإن أصاب الحق؛ وذلك لأنه يحكم على كل إنسان أن يتكلم وأن يتأول وأن يفسر كلام الله عز وجل بغير علم، فمن تكلم بالقرآن برأيه واجتهاده، وليس من أهل الاجتهاد، ولا من أهل النظر والدراسة والبحث؛ فإن هذا معتد متجرئ على كلام الله عز وجل، حتى وإن أصاب.
وإن ظن أن هذا ظاهر لكل أحد، وفسره بغير رجوعه لكلام أهل العلم، أو لسنة النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإن هذا مخطئ وإن أصاب المراد من الآية، أو من الحديث النبوي؛ وذلك لأنه لا يجوز له أن يتكلم في دين الله عز وجل إلا ببينة قوية، وعلم أكيد متين.
ألا ترون أن أحداً لا يجرؤ أن يصنع رسماً هندسياً لبناء عمارة، مع أن هذا أمر دنيوي لا يأثم فاعله، لكن تعارف الناس أن الذي يقوم بهذا العمل متخصص اسمه المهندس، كما لا يجرؤ أحد من عامة الناس وإن بلغ أعلى المراتب في الشهادات العلمية في الهندسة أو الكيمياء أو غير ذلك أن يدخل لإجراء عملية جراحية ليجري جراحة لإنسان، بل تراه يقول: ليس هذا عملي ولا تخصصي.
فإذا كان الناس يحترمون هذه التخصصات في حياتهم العامة وحياتهم الدنيوية، فما بال الجميع الآن يعتقد أنه قد بلغ مرحلة الاجتهاد، فتجد الغبي والأحمق والعالم والجاهل، والمتخصص وغير المتخصص، لا يبرح مجلسه إلا وقد أجاب في مسائل هو غير متخصص فيها؛ هل الأدب قد غاب عن كثير من الناس، أو عن عامة المسلمين؟ فلا يتكلم أح(22/7)
الأوجه التي ينصرف عليها المراء في القرآن
[قال ابن بطة: المراء في القرآن المكروه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتخوف على صاحبه الكفر، والمروق عن الدين ينصرف على وجهين].(22/8)
الوجه الأول قراءة القرآن على لهجات عربية متعددة، وكفى الله المؤمنين مئونته
[الأول: قد كان وزال وكفى الله المؤمنين مئونته، وذلك بفضل الله ورحمته، تم بجمع عثمان بن عفان رضي الله عنه الناس كلهم على إمام واحد باللغات المشهورة المعروفة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان سأل الله عز وجل في القرآن فقال له: أقرئ أمتك على سبعة أحرف وكلها سيان -يعني: على سبع لغات العرب- كلها صحيحة فصيحة، إن اختلف لفظها اتفقت معانيها، فكان يقرئ كل رجل من أصحابه بحرف يوافق لغته، وبلسان قومه الذي يعرفونه، فكان إذا التقى الرجلان فسمع أحدهما يقرأ بحرف لا يعرفه وقد قرأ هو ذلك الحرف بغير تلك اللغة أنكر على الآخر، وربما قال له: حرفي خير من حرفك، ولغتي أفصح من لغتك، وقراءتي خير من قراءتك؛ فنهوا عن ذلك، وأقر الله عز وجل جميع هذه القراءات وقيل لهم: ليقرأ كل واحد منكم كما علم، ولا تماروا في القرآن فيقول بعضكم: حرفي خير من حرفك، وقراءتي أصوب من قراءتك، فإن كلاّ صواب، وكلام الله حق فلا تنكروه، ولا يرد بعضكم على بعض، فيكذب بالحق ويرد الصواب الذي جاء عن الله عز وجل، فإن رد كتاب الله والتكذيب بحرف منه كفر، فهذا أحد الوجهين من المراء الذي هو كفر قد ارتفع ذلك والحمد الله، وجمع الله الكريم المسلمين على الإمام الذي جمع المسلمون من الصحابة والتابعين على صحته وفصاحة لغاته، وهو المصحف الذي جمع عثمان بن عفان رضي الله عنه المسلمين عليه، وترك ما خالفه، وذلك باتفاق من المهاجرين والأنصار وأهل بدر والحديبية الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وسأذكر الحجة فيما قلت، والله الموفق].
يذكر الحجة من حديث أبي بن كعب وهو في صحيح مسلم.
[قال أبي: (كنت في المسجد، فدخل رجل فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل رجل آخر فقرأ خلاف قراءة صاحبه، فقمنا جميعاً فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: قلت: يا رسول الله! إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل هذا فقرأ خلاف قراءة صاحبه، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءا لي.
فقرءا.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أصبتما)]، مع أن كل واحد منهما قرأ قراءة تختلف عن قراءة الآخر، ومع هذا فقد صوبهما النبي عليه الصلاة والسلام، [(فلما قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كبر علي ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الذي غشيني ضرب في صدري ففضضت عرقاً كأني أنظر إلى الله عز وجل فرقاً، ثم قال: يا أبي! إن ربي أرسل إلي فقال: أن اقرأ على حرف، قال: فوددت أن أهون على أمتي، فأرسل إلي: أن اقرأ على حرفين، فوددت أن أهون على أمتي فأرسل إلي: أن أقرأ على سبعة أحرف، ولكل ردة مسألة يسألنيها.
قال: قلت: اللهم اغفر لأمتي ثلاثاً، وأخرت الثالثة ليوم يحتاج فيه الخلق وحتى إبراهيم عليه السلام)].
هذا الحديث يبين أن النبي عليه الصلاة والسلام شفع عند ربه رحمة بأمته في اختلافهم في القراءة، فأذن الله تعالى له أن يقرأ على حرفين، ثم يقرأ على ثلاثة حتى قال: فاقرأ على سبعة، وهذه هي القراءات المتواترة، وما دونها شاذ لا اعتبار به.
[وقال أبو جهيم: (إن رجلين اختلفا في آية من القرآن فقال هذا: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألا النبي صلى الله عليه وسلم عنها؛ فقال: إن القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراءً فيه كفر)].
[وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة، فدخلت المسجد فقلت: أفيكم من يقرأ؟ فقال رجل من القوم: أنا، فقرأ السورة التي أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ بخلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! اختلفنا في قراءتنا فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، فليقرأ كل امرئ منكم ما أقرئ)] أي: فليقرأ كل امرئ منكم ما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم.
[وفي رواية أخرى عن ابن مسعود قال: (قلت لرجل: أقرئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني خلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقلت لآخر: أقرئني من الأحقاف ثلاثين آية، فأقرأني خلاف ما أقرأني الأول، فأتيت بهما رسول صلى الله عليه وسلم فغضب، وكان علي رضي الله عنه جالساً، فقال لهم: اقرءوا كما علمتم).
قال الشيخ ابن بطة: فهذا بيان المراء في القرآن الذي يخاف على صاحبه الكفر، وقد كفي المسلمون بحمد الله المراء في هذا الوجه بإجماعهم على المصحف، الذي من خالفه ند وشرد وشذ، فلم يلتفت إليه ولم يعبأ الله عز وجل بشذوذه].
فهذا الوجه الأول: الاختلاف في القراءة، وإنكار كل(22/9)
الوجه الثاني مراء أصحاب الأهواء والبدع في القرآن الكريم
الوجه الثاني: [وقد بقي المراء التي يحذره المؤمنون ويتوقاه العاقلون، وهو المراء الذي بين أصحاب الأهواء وأهل المذاهب المنحرفة والبدع الضالة، وهم الذين يخوضون في آيات الله، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، هذا التأويل لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم]، لكن أهل البدع والأهواء والمذاهب الضالة [يتأولونه بأهوائهم ويفسرونه بأهوائهم، ويحملونه على ما تحمله عقولهم، فيَضِلون بذلك ويُضِلُّون من اتبعهم عليه].
[قال الحسن: من فسر آية من القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر، وإن أخطأ محي نور تلك الآية من قلبه].
انظر إلى هذا التهديد والوعيد! من فسر آية من القرآن برأيه فأصاب -أي: أصاب الحق- ليس له في ذلك أجر، وإن أخطأ فنور هذه الآية يمحى من قلبه، لماذا هذا كله؟ لأنه قال على الله تعالى بغير علم، وهذا حرام: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
[وعن ابن الحنفية محمد بن علي قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله].
[وعن مجاهد قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام:68] أي: يكذبون بآياتنا].
[وقال ابن سيرين: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام:68].
قال الشيخ: المراء في القرآن والخصومة فيه، والتعاطي لتأويله بالآراء والأهواء لإقامة دولة البدع وابتغاء الفتنة بغير علم كفر وضلال.
نسأل الله العصمة من سيئ المقال].
[وقال عبد الله بن الزبير: لقيني ناس من أهل العراق].
ودائماً أهل العراق أهل فتن، وأيضاً أهل مصر.
قال: [لقيني ناس من أهل العراق فخاصموني في القرآن، فوالله ما استطعت بعض الرد عليهم، وهبت المراجعة]، أي: خفت أن يراجعوني في القرآن، [فشكوت ذلك إلى أبي الزبير]، يعني: شكا ذلك إلى والده، [فقال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم، وأخطئوا مواضعه].
فالخوارج يقرءون الآية ويفسرونها على أهوائهم، والشيعة يقرءون نفس الآية ويفسرونها على أهوائهم وعلى النحو الذي يؤيد بدعتهم.
وقد ورط أهل العراق مرة ابن الجوزي في درس، وابن الجوزي كان واعظاً، وشأن الوعاظ في كل زمان ومكان أنهم لا يحبون أن يميلوا ميلة واحدة ولو عن أصحاب الباطل؛ حتى يكسبوا جمهوراً عظيماً.
فـ ابن الجوزي عليه رحمة الله ما كان يحب أن يتعرض لمثل هذه القضايا، فسئل ذات مرة: أيهما أفضل: عمر أم علي؟ فتصرف بذكاء وقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته.
وسكت، فالشيعة قالوا: إنه يقصد علياً؛ وذلك لأن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم تحت علي، والآخرون قالوا: إنما يقصد عمر؛ وذلك لأن حفصة ابنة عمر كانت تحت النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا أهل البدع يتأولون الكلام على ما يؤيد بدعتهم، وإذا كان الكلام محمولاً على الوجه الآخر فإنهم لا يحملونه إلا على وجه واحد، وهو ما يؤيد بدعتهم.
[قال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم وأخطئوا مواضعه، فإن رجعوا إليك فخاصمهم بسنن أبي بكر وعمر، فإنهم لا يجحدون أنهما أعلم بالقرآن منهم.
قال عبد الله بن الزبير: فلما رجعوا فخاصمتهم بسنن أبي بكر وعمر، فوالله ما قاموا معي ولا قعدوا]؛ وذلك لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن أهل البدع يجادلونكم بمتشابه القرآن فخذوهم بالسنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا؛ لماذا؟ لأنهم قالوا بالرأي.
ولذلك [قال ابن عباس: إياكم والرأي فإن الله عز وجل رد الرأي على الملائكة، وذلك أن الله تعالى قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فقال الله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}(22/10)
الأسئلة(22/11)
الحث على قراءة بعض التفاسير الميسرة لكتاب الله عز وجل
السؤال
نريد أن نفرد درساً في معاني أسماء الله تعالى، هذا لأنه قد كفر قوم بالله، وهم من أهل الضلال والبدع؟
الجواب
أكثر من واحد يتكلم في صفات الله عز وجل وفي أسمائه، فقلنا: يجوز أن يجلس مجموعة من الإخوة ثم يقرءون سورة من القرآن، وكل واحد يقول ما خطر بباله من تفسير لآياتها، وما الذي يعجزهم لو أنهم أتوا بتفسير ابن كثير، وإذا قرءوا سورة أو ربعاً من سورة يتعلمون تأويل هذه السورة أو هذا الربع من كلام أهل العلم.
وإن أيسر تفسير وأوثق تفسير هو تيسير الكريم الرحمن للشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وهو في أربعة مجلدات بالخط الكبير، أو مجلد واحد مطبوع حديثاً يضم التفسير كله، وكذلك المصحف المفسر للشيخ حسنين مخلوف، لكن تفسير الشيخ السعدي أوثق وأيسر، وهو أيضاً يتكلم في العقيدة ويرد على أهل البدع، فيمكن أن يكون ورداً لأهل العلم، فهو كان عالماً سلفياً، يغفر الله للجميع، فلا بأس أن تجعل لك ورداً في كل يوم وليلة من كتاب الله عز وجل، وإذا كنت تؤم الناس في مسجد فالإمامة فرصة في أن تشتري هذا الكتاب بثمن زهيد من معرض الكتاب، وتقرأ بعض الآيات في صلاة الفجر مثلاً، ولا بأس أن تقرأ تفسيرها بعد الصلاة من هذا التفسير، فهو تفسير ميسر، واسمه: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.(22/12)
رد علي رضي الله عنه على الرجلين اللذين اختلفا في القرآن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل رد علي رضي الله عنه على الرجلين اللذين جاءا وقد اختلفا يعد تقديماً بين يدي الله ورسوله؟
الجواب
ألا تعلم أن معنى التقديم في قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] أي: لا تخالفوا كلام الله وكلام رسوله، فالتقديم بين يدي الله ورسوله هو المخالفة لقول الله وقول رسوله، وعلي بن أبي طالب رضي عنه لما اختلف هذان الاثنان بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام قام وقال: ليقرأ كل واحد منكما كما علم.
وهذا صح مرفوعاً عنه عليه الصلاة والسلام، فليس هذا تقديماً من علي رضي الله عنه بين يدي نبينا عليه الصلاة والسلام.(22/13)
لفظ (عليه السلام) مصطلح مخصوص بالأنبياء، وقد يكون لفظاً عاماً
السؤال
ذكر الإمام ابن بطة لفظ: (عليه السلام) بعد ذكر علي بن أبي طالب.
نرجو تبيين ذلك؟
الجواب
إن لفظ (عليه السلام) في الحقيقة هو له ولغيره من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والصالحين من التابعين وغيرهم عليهم منا الرحمة والسلام.
ولكن قلنا: إن هذا مصطلح مخصوص بالأنبياء، وتجوز بعض أهل العلم في إطلاقه على آل البيت أو على الخلفاء الراشدين أو غيرهم، لكن أن يطلق على آل البيت فقط فهذا بلا شك مخالف لجماهير علماء السنة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(22/14)
شرح كتاب الإبانة - أمثلة على تعلق أهل البدع بمتشابه القرآن للطعن في الدين
من أصول أهل البدع تعلقهم بمتشابه القرآن للطعن في الدين، وزعزعة الإيمان في قلوب عامة المؤمنين، ولذا فقد حذر العلماء من مجالسة أهل الأهواء والبدع واستماع شبهاتهم، وصنف أئمة أهل السنة كتباً نفيسة تدفع زيغ أهل الأهواء وشبهاتهم.(23/1)
موقف أهل السنة وأهل البدع من المتشابه في القرآن والسنة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: في الدرس الماضي تكلمنا عن التحذير من الخوض في متشابه القرآن، وقلنا: إن الله تبارك وتعالى أوحى بكلامه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام عن طريق جبريل عليه السلام، فكان من كلام الله المتشابه، ومن كلامه سبحانه وتعالى المحكم الذي لا يلحقه تأويل ولا نقص.
وعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالمتشابه: الإيمان به دون خوض فيه.
وفيما يتعلق بالمحكم كعقيدة غيرهم أنهم لا يتأولونه من باب أولى، بل يعملون به.
وقلنا أيضاً: إن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالمتشابه كما جاء، ويمرونه على المعنى اللائق بالله عز وجل، وذلك إذا كان هذا خاصاً بصفات المولى تبارك وتعالى.
أما أهل البدع فإنهم يطنطنون ويدندنون حول متشابه القرآن، ويشككون عامة المسلمين في دينهم، وفي كلام ربهم من واقع هذه الآيات التي يبدو فيها التشابه، ويقولون: هذا اضطراب في كلام الله؛ ولذلك يعتبرون هذا حجة على أن هذا ليس من عند الله عز وجل، والأمر ليس كذلك، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، أي: فلما لم يكن فيه أدنى اختلاف؛ دل على أنه كلام الله عز وجل، وكذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صح الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينه وبين حديث آخر -على هذا النحو- في الظاهر تعارض؛ فإنما ذلك مرده إلى العقل الذي يتعامل مع هذين النصين، فإذا صح النصان فلا بد من الجمع بينهما، ومشكاة الوحي واحدة: قرآن، وسنة، ولذلك قال حسان بن عطية رحمه الله: كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث كما ينزل عليه بالقرآن، والله تعالى زكى كلام نبيه فيما يتعلق بالوحي، فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، سواء كان ذلك في القرآن أو في السنة.
وعادة أهل البدع دائماً أنهم يقفون عند المتشابه من القرآن ومن السنة على خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة.
فأردنا أن نذكر أمثلة متممة ومبينة وموضحة فيما يتعلق بتعلق أهل البدع بمتشابه القرآن، إذ إن أهل البدع جعلوا التعلق بالمتشابه بوابة للطعن في كلام الله عز وجل، وزعزعة الإيمان في قلوب عامة المؤمنين والمسلمين.
وقد اخترنا رسالة فيها نماذج طيبة، وهي منسوبة للإمام أحمد بن حنبل، وعنوانها: الرد على الزنادقة الجهمية.
وفيها: الجزء الأول: الرد على الزنادقة، ثم بعد أن فرغ من شبه الزنادقة رد على شبه الجهمية، قال عبد الله بن الإمام أحمد: هذا ما أخرجه أبي رحمه الله في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن، وتأولته على غير تأويل، أي: صرفوا هذه الآيات عن ظاهرها، وعلى غير ما أراد الله تعالى منها.
قال الإمام: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم! هؤلاء العلماء ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس يشبهون عليهم؛ فنعوذ بالله من فتن المضلين.
انتهت مقدمة الإمام.(23/2)
قوله تعالى: (بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب)
ثم يبدأ في المسائل التي أثارها الزنادقة: المسألة الأولى: قال أحمد في قول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
قالت الزنادقة: فما بال جلودهم التي عصت قد احترقت وأبدلهم جلوداً غيرها، فلا نرى إلا أن الله يعذب جلوداً لم تذنب حين يقول: (بدلناهم جلوداً غيرها)! فشكوا في القرآن، وزعموا أنه متناقض.
قال الإمام: إن قول الله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56]، ليس معناه: جلوداً غير جلودهم، وإنما معناه: جددنا لهم نفس الجلود، أي: أن جلودهم التي احترقت أحياها الله تعالى وأعادها مرة أخرى، فهي نفس الجلود التي كانت تكسو عظامهم في وقت ارتكابهم للذنوب، واستحقوا بموجبها العذاب والحرق، فكلما احترقت جلودهم أرجعها الله عز وجل، وجددها لهم مرة أخرى.
وهناك مسألة أخرى لم يذكرها الإمام، وهي: أن العذاب ليس على الجلود فقط، بل على الجلود والأبدان والنفوس والأرواح، وكما أن عذاب القبر يقع على هذا كله، فكذلك عذاب جهنم من باب أولى.(23/3)
قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون) وقوله: (عند ربكم تختصمون)
المسألة الثانية: قوله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:35 - 36].
ثم قال في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31].
ففي الآيتين الأوليين أثبت أنه لا كلام ولا خصومة مطلقاً، وفي الآية الثالثة: أثبت أن الخصومة قائمة، فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟! فزعموا أن هذا الكلام ينقض بعضه بعضاً؛ فشكوا في القرآن.
قال الإمام: أما تفسير: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ} [المرسلات:35]، فهذا أول ما تبعث الخلائق، أي: لا ينطقون ولا يتكلمون بكلمة واحدة، بل هم يدعون ويبعثون من قبورهم، فهذا أول ما جمعت الخلائق على مقدار ستين سنة، فلا ينطقون ولا يؤذن لهم في الاعتذار بين يدي الله عز وجل حتى يقدموا المعذرة، ثم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون، فذلك قول الله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، أي: الآن أبصرنا العذاب وعقلناه؛ فارجعنا إلى الدنيا فإننا سنعمل صالحاً، فإذا أذن الله عز وجل لهم في الكلام فتكلموا اختصموا في ذلك، وذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31]، أي: عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم يقال لهم بعد ذلك: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق:28]، أي: انتهت الخصومة الآن، فكل منكم يلوم الآخر ويلقي بالملامة عليه، فإن العذاب مع هذا القول سار، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نوقش الحساب عذب).(23/4)
قوله تعالى: (عمياً وبكما وصماً) وقوله: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة)
وأما قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97]، وفي آية أخرى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50].
ففي الآية الأولى: أنهم عمي وبكم وصم.
وفي الثانية: ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، فقالوا: كيف يحشرهم الله يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً، وفي موضع آخر ينادي بعضهم على بعض؟! أي: موضع لا كلام فيه، وموضع فيه كلام، كيف يكون ذلك؟ فشكوا في القرآن من أجل ذلك.
قال الإمام أحمد: أما تفسير: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44]، مع قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50]، فإنهم أول ما يدخلون النار يكلم بعضهم بعضاً، وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ويقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [إبراهيم:44]، ويقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، فهم يتكلمون حتى يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، أي: اسكتوا، ولا يتكلم منكم أحد؛ فصاروا فيها عمياً وبكماً وصماً، أي: يتكلمون أولاً، ثم يضرب عليهم البكم والصم والعمى، وينقطع الكلام ويبقى الزفير والشهيق؛ فهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة من قول الله تعالى.(23/5)
قوله تعالى: (ولا يتساءلون) وقوله: (يتساءلون)
وأما قوله: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، وفي آية أخرى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50].
فالآية الأولى: أثبتت أنه لا أنساب بينهم، وأنه لا يسأل أحدهم الآخر.
والآية الثانية: أثبتت هذا التساؤل: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، فقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟! فشكوا في القرآن من أجل ذلك.
قال الإمام: أما قوله عز وجل وعلا: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، فهذا عند النفخة الثانية إذا قاموا من القبور، فلا يتساءلون ولا ينطقون في ذلك الموطن، فإذا حوسبوا ودخلوا الجنة والنار؛ أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.(23/6)
قوله تعالى: (ما سلككم في سقر) وقوله تعالى: (فويل للمصلين)
المسألة الثالثة: قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]، وقال في آية أخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4].
فقالوا: إن الله قد ذم قوماً كانوا يصلون، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، وقال في قوم: إنهم إنما دخلوا النار لأنهم لم يكونوا يصلون؛ فشكوا في القرآن من أجل ذلك.
وانظروا إلى أهل البدع كيف يشككون في القرآن؟! وما علموا أن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] مرتبطة بما بعدها، لكنهم أخذوها فقط، فقالوا: الصلاة إما مذمومة وإما ممدوحة، فقلنا: هي ممدوحة، فقالوا: فلم يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]؟ ووقفوا عند هذه الآية، ولم يذكروا قوله بعدها: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]، وإنما اجتزءوا من السورة هذه الآية فقط! و (ويل) هو وادٍ في جهنم كما هو معلوم من أقوال كثير من المفسرين.
ثم قالوا: إذا كانت هذه الصلاة ممدوحة فلم جعل الله تعالى للمصلين الويل، وإذا كانت كذلك فلم جعل الله تعالى لهم دركة من دركات النار وهي وسقر، فقال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].
فقالوا: الله تعالى عذب المصلين في كل الأحوال، فإما أن يدخلهم سقر؛ لأنهم لم يصلوا، وإما أنه أدخلهم الويل لأنهم كذلك قد صلوا، فيقولون: هذا ليس من الكلام المحكم لله عز وجل.
وهذه طريقة أهل البدع دائماً، أي: أن طريقة أهل البدع الخيانة في العلم، وترك الأمانة في العلم، فإذا أرادوا أن يستدلوا لشبهتهم ولأهوائهم بدليل من الكتاب أو من السنة، أو حتى من أقوال أهل العلم؛ إنما يأخذون من الكلام ما يتفق مع بدعتهم ولو في الظاهر، ويتركون سياق الكلام الذي يخدم القضية برمتها.
فقال الإمام: أما قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، فعنى بها المنافقين، {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5]، أي: يؤخرون الصلاة حتى يذهب وقتها.
قال: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:6]، أي: إذا رءوهم صلوا، وإذا لم يروهم لم يصلوا، فهم لا يصلون إلا رياءً وسمعة.
وأما قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43]، أي: من الموحدين المؤمنين.
فهذه ردود على هذه الشبهة.(23/7)
قوله تعالى: (خلقكم من تراب)، وقوله: (من طين)
المسألة الرابعة: قول الله عز وجل: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20]، ثم قال: {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} [الصافات:11]، ثم قال: {مِنْ سُلالَةٍ} [المؤمنون:12]، ثم قال: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، ثم قال: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14].
فهم يشكون في كلام الله عز وجل فيقولون: هذه ملابسة، أي: هذا الكلام مشكل متشابه، ينقض بعضه بعضاً.
قال الإمام: هذا بدء خلق آدم، فقد خلقه الله من تراب، ثم من طينة حمراء وسوداء وبيضاء، من طينة طيبة وسبخة، وكذلك ذريته: طيب وخبيث، أسود وأحمر وأبيض، ثم صار ذلك التراب طيناً؛ فذلك قوله: (من طين)، فلما لصق الطين بعضه ببعض صار طيناً لازباً، أي: متماسكاً.
ثم قال: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، أي: مثل الطين إذا عصر انسل من بين الأصابع.
فأنت إذا أخذت قطعة من الطين فجعلتها في يدك، ثم عصرتها؛ انسل الطين من بين أصابعك.
ثم نتن هذا الطين فصار حمأً مسنوناً.
أي: خلق الله الخلق من الحمأ، فلما جف صار صلصالاً كالفخار، يقال: صار له صلصلة، أي: جرس كصلصلة الفخار، وله دوي كدوي الفخار، فهذا بيان خلق آدم.
وأما قوله: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8]، فهذا بدء خلق ذريته من سلالة، أي: النطفة إذا انسلت من الرجل لا من آدم؛ لأن آدم لم يخلق من نطفة، وإنما خلق من طين.(23/8)
قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب)، وقوله: (رب المشرقين)
المسألة الخامسة: قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل:9]، وقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، فشكوا في القرآن وقالوا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم لله عز وجل؟! أما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء:28]، فهذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار، فقد أقسم الله بمشرقه ومغربه؛ لأنكم تعلمون أن الأيام والليالي على مدار السنة يطول فيها النهار ويقصر فيها الليل، أو يقصر فيها النهار ويطول فيها الليل، فقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل:9]، أي: رب مشرق هذا اليوم الذي يستوي فيه الليل والنهار، فيكون النهار اثنتي عشرة ساعة، ويكون الليل اثنتي عشرة ساعة، فأقسم الله تعالى بهذا اليوم، والله تعالى يقسم بالعظيم من مخلوقاته، بخلاف المخلوق، فلا يقسم إلا بالله أو بأسمائه أو صفاته.
وأما قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17]، فهذا أطول يوم في السنة وأقصر يوم في السنة.
فإذا قلنا: إن أيام السنة ولياليها تدور بين الطول والقصر؛ فلا بد أن هناك يوماً هو أقصر أيام السنة، ولا بد أن هناك ليلاً هو أقصر ليالي السنة.
ففي هذا الموطن أقسم الله تعالى بأقصر أيام السنة، أو بأطول أيام السنة.
وقوله: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج:40]، أي: مشارق السنة ومغاربها.
وهذا ما شكت فيه الزنادقة.(23/9)
قوله تعالى: (وإن يوماً عند ربك)، وقوله: (تعرج الملائكة والروح إليه)
المسألة السادسة: قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أي: في أيامكم، وهذا يوم يساوي ألف سنة مما نعد.
وقال في آية أخرى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، فهذا أيضاً يوم يساوي ألف سنة مما نعد.
وقال تعالى في آية أخرى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4].
فأثبت أن اليوم عند الله عز وجل يساوي ألف سنة مما نعد، كما أثبت أن الملائكة والروح تعرج إليه في يوم يساوي خمسين ألف سنة، فقالوا: كيف يكون هذا الكلام محكماً وهو ينقض بعضه بعضاً؟ قال الإمام في قوله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أي: أن هذه الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض كل يوم كألف سنة.
وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5].
قال: ذلك أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويصعد إلى السماء في يوم كان مقداره ألف سنة، وذلك أنه من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، فهبوطه خمسمائة وصعوده خمسمائة، فذلك ألف سنة.
وأما قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، قال: لو ولي حساب الخلائق غير الله عز وجل ما فرغ منه في يوم مقداره خمسين ألف سنة، لكن الله تعالى يفرغ منه في نصف يوم من أيام الدنيا، وذلك قوله تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، أي: سرعة في الحساب.(23/10)
قوله تعالى: (والله ربنا ما كنا مشركين) وقوله: (ولا يكتمون الله حديثاً)
المسألة السابعة: قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22]، إلى قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، أي: أنهم أنكروا عند الله عز وجل أنهم اتخذوا شركاء وأنداداً له سبحانه وتعالى.
وقال في آية أخرى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42].
فهذه الآية صرحت أنهم لا يستطيعون إنكار ما كانوا عليه من شرك، بل يحدثون الله تعالى بما كانوا عليه من الشرك.
وعليه فالزنادقة شكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض.
قال الإمام: أما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، وذلك أن هؤلاء المشركين إذا رءوا عفو الله عن أهل التوحيد يقول بعضهم لبعض: إذا سألنا نقول لم نكن مشركين، فلما جمعهم الله وجمع أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دونه قال لهم: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22]، ثم قال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
فلما كتموا الشرك ختم الله على أفواههم وأمر الجوارح فنطقت بذلك، وذلك قول الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.
وانظر إلى الإمام فإنه يقول: هذا تفسير ما شكت، ولم يقل: ما تأولت، ولا ما توهمت، ولا ما جهلت، وإنما يقول: هذا تفسير ما شكت؛ لأن عادة أهل البدع الشك، كما قال المخبول طه حسين: الأصل عندي في كتاب الله الشك حتى يتميز لي، أي: أنه يشك في كلام الله؛ لأنه تربى على منهج الملاحدة والزنادقة.(23/11)
قوله تعالى: (إن لبثتم إلا عشراً) (ما لبثوا غير ساعة) (إن لبثتم إلا يوماً)
أما قوله عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]، أي: يوم تقوم الساعة ويبعث الناس من قبورهم يقسم المجرمون أنهم ما لبثوا في القبر غير ساعة واحدة، وقالوا: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103]، أي: يتهامسون فيما بينهم يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم أكثر من عشر، فطائفة تقول: ساعة، وطائفة أخرى تقول: عشراً، وقال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]، وقال: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، ومن أجل ذلك شك الزنادقة كم لبثوا؟ يوماً عشراً ساعة قليلاً يوماً.
فقوله تعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103] يقولون ذلك إذا خرجوا من قبورهم، وذلك إذا نظروا إلى ما كانوا يكذبون به من أمر البعث؛ لأن أول شيء تقع عليه أعينهم حين يبعثهم الله من قبورهم أنهم يرون ما كانوا يكذبون به في الحياة الدنيا، فيتجادلون ويختصمون ويتكلمون فيما بينهم، ويقول بعضهم لبعض: إن لبثتم في القبور إلا عشر ليال، ثم استكثروا العشر، فقالوا: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104]، أي: في القبور، ثم استكثروا اليوم فقالوا: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، ثم استكثروا القليل فأقسموا ما لبثوا غير ساعة من نهار، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.(23/12)
قوله تعالى: (قالوا لا علم لنا) وقوله تعالى: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم)
وأما قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، أي: ماذا كان موقف الأمم منكم؟ {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة:109]، هذا رد الأنبياء والمرسلين على الله عز وجل لما سألهم عن العلاقة التي كانت بينهم وبين أقوامهم.
وقال تعالى في آية أخرى: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]، فقالوا: كيف يكون هذا، يقولون: {لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة:109]، ثم يقولون: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]، فزعموا أن القرآن متناقض ينقض بعضه بعضاً.
يقول الإمام: أما قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، فإنه يسألهم عند أول زفرة لجهنم، فيقول: ماذا أجبتم في التوحيد؟ فتذهل عقولهم عند زفرة جهنم، فيقولون: لا علم لنا.
والذي يترجح لدي: أن الأنبياء إنما قالوا: لا علم لنا؛ تأدباً مع الله عز وجل.
ثم ترجع إليهم عقولهم من بعد فيقولون: ((هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ))، فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.(23/13)
قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة)، وقوله تعالى (لا تدركه الأبصار)
المسألة الثامنة: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103].
فقالوا: كيف يكون هذا؟ يخبر أنهم ينظرون إلى ربهم، وقال في آية أخرى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض لأجل ذلك.
قال الإمام: أما قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]، من النضرة والحسن والبياض والبهاء، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، أي: تعاين ربها عز وجل في الجنة، فهي تنظر إليه بأعينها، وهذا خاص بالمؤمنين دون غيرهم، وعلى هذا إجماع أهل السنة كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (هل ترون القمر ليلة البدر، ليس دونه غيم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترون الشمس في رابعة النهار؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته).
وفي رواية: (لا تضارون في رؤيته)، أي: لا يحصل لكم ضيم ولا غيم ولا اختلاف دون رؤيته، فكما أنكم ترون القمر في ليلة البدر حقاً مستديراً نيراً مضيئاً؛ فكذلك سترون الله عز وجل، وليس هذا تشبيهاً لله عز وجل بالقمر، وإنما هو تشبيه للرؤية بالرؤية، لا تشبيه للمرئي بالمرئي، وهذه جزئية في غاية الأهمية، ودائماً أهل السنة يدندنون حول هذا الأمر.
قوله: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر)، تشبيه للرؤية بالرؤية، لا المرئي وهو الله عز وجل بالمرئي وهو القمر، فالله تعالى ليس كالقمر، ولا نقول: إنه كالقمر، بل ذات الله تعالى وصفاته لا يعلم كيفيتها إلا هو، فنحن نؤمن بها ونثبتها لله كما أثبتها لنفسه كما يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى.
وأما التشبيه والتكييف والتمثيل فلا نقول به، كما لا نقول بالتعطيل والتحريف والتأويل من باب أولى.
أما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فالإدراك بمعنى الإحاطة، فأنت عندما تنظر إلي لا تدركني؛ لأنك تراني من أحد جوانبي، ولا تراني من كل جوانبي.
وإذا حملنا الإدراك على الرؤية فنقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، أي: في الدنيا، فلا تستطيع العين أن تنظر إلى الله تعالى، والله تعالى مرئي، لكن في الآخرة وليس في الدنيا، ولذلك لما سأل موسى عليه السلام ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولم يقل: أنا لا أُرى، وإنما قال: لن تراني، أي: لن تراني يا موسى وأنت في هذه الحياة الدنيا، {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، لكن الجبل لم يستقر، بل {جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وهذه آية من آيات الله عز وجل، لو قال الله تعالى لموسى: أنا لا أُرى؛ لكان هذا نفياً للرؤية في الدنيا والآخرة، لكنه قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، أي: لن تراني الآن وأنت في هذه الحياة، لكنك بعد موتك وبعثك ستراني يوم القيامة، وكذا تراني في الجنة.
فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، أي: لا تحيط به الأبصار حتى بعد أن تراه في الآخرة.
ومن فسر الإدراك بالرؤية حمل الآية على: لن تراني، أو لا تراه الأعين والأبصار في الدنيا.
فلا تعارض بين قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وبين قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
و (يومئذ) هو يوم القيامة باتفاق المفسرين وباتفاق أهل السنة.
ولم يختلف أهل السنة والجماعة في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وفي الجنة، أما الكافرون والمشركون فإنهم لا يرونه، بل يحجبون عن رؤيته.
ووقع خلاف بين أهل العلم من أهل السنة في رؤية المنافقين لله عز وجل: فبعضهم يقول: يرون الله تعالى رؤية ذل وصغار، أي: يعاقبهم الله عز وجل فينظرون إليه، ويسمح لهم بالنظر إليه تحسراً على ما كان منهم من نفاق.
ومنهم من يقول: بل هم كالكفار؛ لأنهم حقيقة كفار، فهم لم يؤمنوا بالله ولا برسوله، وهذه المسألة مما لا يبدع فيها المخالف.
فقال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، أي: في الدنيا دون الآخرة، وذلك أن اليهود قالوا لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء:153]، فماتوا وعوقبوا لقولهم: ((أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً))، وقد سأل مشركو قريش النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللّ(23/14)
قول موسى: (وأنا أول المؤمنين) وقول السحرة: (إن كنا أول المؤمنين)
المسألة التاسعة: قول موسى: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143].
وقال السحرة: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51].
فإذاً موسى قال: (أنا أول المؤمنين)، والسحرة قالوا: (إن كنا أول المؤمنين).
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] إلى قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، فقالوا: كيف قال موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، وقد كان قبله إبراهيم مؤمناً ويعقوب وإسحاق؟! وقالت السحرة وهم الذين آمنوا بموسى: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، وكيف جاز للنبي أن يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، وقد كان قبله مسلمون كثيرون مثل عيسى ومن تبعه؟ فشكوا في القرآن وقالوا: إنه متناقض.
و
الجواب
أن قول موسى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولا يراني أحد في الدنيا إلا مات، أي: صعق.
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، أي: أول المصدقين أنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات.
وقوله: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، أي: من هذا السؤال، فلا أسألك الرؤية مرة أخرى؛ لعلمي باستحالتها في الدنيا في حق المخلوقين.
أما في الآخرة فالعقيدة قائمة وثابتة أنه يراه أهل الإيمان، ويحجب عنه الكافرون.
وأما قول السحرة: {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، أي: أول المصدقين برسالة موسى عليه السلام، فالإيمان بمعنى: التصديق، وهذا معناه اللغوي، ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أي: بمصدق لنا.
وهذا بخلاف تفسير الإيمان عند أهل السنة والجماعة، إذ إنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.
ولذلك اغتر المرجئة بتعريف الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق فقط.
والجهمية قالوا: الإيمان هو العلم.
ومنهم من قال: الإيمان هو المعرفة.
ولا شك أن تعريف الإيمان على هذا النحو لا يصدق مع مذهب الاستقامة عند أهل السنة والجماعة؛ لأنهم -أي: المرجئة- يخرجون العمل عن مسمى الإيمان وحقيقته، كما أن الجهمية يجعلون إبليس من المؤمنين؛ لأنه كان يعلم ويعرف ربه حق المعرفة، فهم يقولون: الإيمان هو المعرفة، أو الإيمان هو العلم، لكن إبليس يعلم أن الله تعالى رب، ويعرف حقيقة الله عز وجل، ويعلم ذلك تمام العلم، فهل يصير بذلك مؤمناً؟! لذلك كانت هذه التعريفات للإيمان من جهة الاصطلاح كلها تعريفات منابذة لتعريف أهل السنة والجماعة.
وأحياناً الواحد منا يدخل في تحد، أو في مسابقة، أو غير ذلك، وهذا الكلام من كلام العرب، فيقول: لو أنك يا بني نجحت في الامتحان، وأتيت بدرجة (100%)؛ فأنا أول من يمنحك هدية، لكن سبقك إلى الإهداء غيرك، وكذلك قولي: لو أنكم فعلتم كذا وكذا لكنت أنا أول المطبقين، فلا يلزم أن أكون أول المطبقين على الإطلاق، لكن يلزم أنني من أوائل المطبقين لهذا الكلام، وغير ذلك من الأمثلة كثير، والمقصود هنا: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، أي: أنا أكون أول من يؤمن بهذا، ولا يلزم من ذلك الأسبقية المطلقة في الإيمان والتصديق، وإنما ذلك مثل ما تقول بالضبط: لو أنك يا فلان ذهبت إلى زيارة والديك فسوف تجدني أول من يدخل بيتك، ويحملك إلى والديك، وآخر مات أبوه وأمه فقال: الذي يمنعني من زيارتهما هو عدم وجود المواصلات، فقلت له: لو أنك مستعد لزيارة والديك فستجدني أول من ينتظرك بسيارتي عند بابك ليحملك إلى والدك، وعليه فإذا أبدى الموافقة فلا يلزمك أنك تكون أسبق الناس إليه، بل ربما سبقك غيرك.
إذاً معنى كلامي: لو أنك مستعد لزيارة والديك ستجدني على أتم استعداد لحملك.
وهكذا قول الأنبياء: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، وقول السحرة {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:51]، أي: من أوائل المؤمنين المتابعين المصدقين لهذا الوحي الذي نزل من السماء.
وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، أي: من أهل مكة، أو يحمل على كلامنا السابق، وهذا تفسير ما شك فيه الزنادقة.(23/15)
قوله تعالى: (أدخلوا آل فرعون)، وقوله: (فإني أعذبه عذاباً)
المسألة العاشرة: قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، وقال في آية أخرى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]، وقال في آية أخرى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].
قالوا: هذه الآيات كلها متناقضة؛ فشكوا في القرآن لأجل ذلك.
كيف يقول الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، أي: معناه أن فرعون ومن معه في أشد دركات العذاب، ثم يقول: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] ثم يثبت الله تعالى أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فكيف يكون فرعون ومن معه في أشد دركات العذاب؟ ثم كيف يكون المنافقين في الدرك الأسفل من النار؟ والمعلوم أن فرعون لم يكن منافقاً، بل كان كافراً كفراً بواحاً صريحاً.
قال الإمام: قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، أي: أشد العذاب في ذلك الباب الذي يدخلون فيه.
ولذلك نحن قلنا: إن الجنة لها ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب، ولكل باب منها دركات، وفرعون ومن معه يدخلون من باب واحد، فهم يدخلون أشد دركات العذاب من هذا الباب، والمنافقون يدخلون من باب آخر، لكنهم يكونون في هذا الباب الذين يدخلون منه في الدرك الأسفل من النار.
فهل بقي هناك شك؟ ليس هناك شك في ذلك.
قال: وقوله: {عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] وذلك أن الله تعالى مسخهم خنازير؛ فعذبهم بالمسخ ما لم يعذب سواهم من الناس.
وأما قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]؛ لأن جهنم لها سبعة أبواب: جهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية، أعاذنا الله وإياكم منها.(23/16)
قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) وقوله: (شجرة الزقوم طعام الأثيم)
أما قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، أي: أن الضريع هو طعام أهل النار، ثم بين أنهم كذلك يأكلون من شجرة الزقوم، فقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44].
وقوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، أسلوب حصر بإلا.
يفيد حصر الطعام لأهل النار في الضريع، لكن كيف يقول مرة أخرى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:43 - 45]، فأخبر أن لهم طعاماً غير الضريع؟! فشكوا في القرآن لأجل ذلك.
قال الإمام: أما قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6]، أي: ليس لهم طعام إلا من ضريع في ذلك الباب الذي دخلوا منه -كما قلنا تماماً في المسألة الأولى- وهذا الضريع ليس في الباب الآخر، وإنما الذي في الباب الآخر هو الزقوم، وهكذا كل باب له طعام، وهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.(23/17)
قوله تعالى: (أن الكافرين لا مولى لهم)، وقوله: (ثم ردوا إلى الله مولاهم)
المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
ثم قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام:62]، وهم مشركون كافرون، فكيف أثبت أن الله مولاهم الحق في الآية الثانية، وفي الآية الأولى قال: {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]؟ إن هذا تناقض يرد به القرآن، فشكوا في القرآن لأجل ذلك.
قال الإمام: أما قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد:11]، فالمولى هنا بمعنى: الناصر والمعين، أي: أن الله ناصر الذين آمنوا، ((وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ))، أي: لا ناصر لهم.
وأما قوله: ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ))؛ لأنهم في الدنيا اتخذوا أرباباً وآلهة باطلة أولياء من دون الله عز وجل؛ فكان أحدهم يوالي من يعبده من غير الله عز وجل، فيتخذه ولياً وحميماً وناصراً ومولى؛ فبين الله عز وجل لهم في الآخرة أنه لا مولى على الحقيقة إلا هو سبحانه وتعالى، وهذا مما شكت فيه الزنادقة.(23/18)
قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين)، وقوله: (وأما القاسطون)
المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]، وقال في آية أخرى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، فكيف يجعل الله تعالى القاسطين لجهنم حطباً، مع أنه أخبر أنه يحبهم؟! حتى تعلم أن أصحاب البدع دائماً جهلة بأصول اللغة، فهم أجهل من دوابهم التي يركبونها؛ لأن المقسط غير القاسط، فالله عز وجل أثبت أنه يحب المقسطين، وأثبت أن القاسطين هم حطب جهنم، فهم قالوا في هذا: كيف يكون هذا من الكلام المحكم؟ واعلم أنه ما من صاحب بدعة يجتهد عليك، ويشكك فيما أنت فيه إلا من واقع هذه الأمثلة، وإذا كان الحق واحداً، فالذي تسمعه في القرن الأول الهجري ستسمعه في اليوم الذي يسبق قيام الساعة، والكلام الذي نقوله نحن الآن أخذناه من أسلافنا، وليس من أقوالنا نحن.
وكذلك أنتم تبلغونه عني، وغيركم يبلغه عنكم، وهكذا؛ لأن الحق واحد لا يتعدد.
وأهل الباطل كذلك لهم شبهات وأهواء ومشارب فاسدة يتلقونها واحداً عن واحد، وخلفاً عن سلف، ولذلك انظر لأي إنسان من أهل البدع والأهواء، وقل له: هات ما عندك، فوالله لا يستطيع ولا يقوى أن يذكر لك شبهة لم يقل بها أحد من أسلافه، بل لا بد أن يذكر ما تقدمه به أسلافه، فلا تزال الشبة هي هي، ولا يزال الحق هو هو، فهذا له أبناؤه، وذاك له أبناؤه.
ولذلك عمد العلماء من أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان ألا يجيبوا عن أسئلة أهل البدع إذا كان ذلك الأمر يطرح على الملأ، وقد سأل واحد من أهل الأهواء والبدع مالكاً في مسألة فأطرق ولم يرد، فأعاد عليه، فأطرق ولم يرد، فأعاد عليه؛ فقال: يا فلان! سل تعلماًَ ولا تسأل تعنتاً، أي: أن الذي يمنعنا من الرد عليك ليس هو العي والجهل والعجز، وإنما أمرنا أن نضع العلم في أهله، فإن كان صاحب هوى لا يتكلم إلا في الفتن والشبهات وغير ذلك؛ فهذا خليق وجدير بأن لا يعلَّم، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والباطل عمره ومدته ساعة من زمان، فلا يصبر عليه صاحبه، وإنما تمل نفسه سريعاً، ولذلك أنا دائماًَ أوصي نفسي والآخرين على القوة والمتانة في حمل الحق والدعوة إليه بالليل والنهار؛ لأن أهل الباطل في هذا الزمان انتفشوا بصورة لم يسبق لها مثيل؛ لغياب الحاكم بهذا الدين وبهذه الشريعة، فتكلم كل ناعق بما عنده، ونضح كل قدر بما فيه، وأهل الحق قلَّ منهم من يتكلم، وهذه مفارقة عجيبة جداً، جديرة بأن تنزل عليهم من السماء صاعقة، لا أصحاب الباطل فحسب، بل تبدأ هذه الصاعقة بنا أهل الحق؛ لأن كثيراً منهم يعرف الحق ولا يتبعه، ويعلم أن هذا منكر ولا يجتنبه.
قال الإمام: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، أي: العادلون بالله الجاعلون له عدلاً من خلقه، فيعبدونه مع الله؛ ولذلك المقسط هو العدل، يقال: أقسط يُقْسِط فهو مقسط إذا عدل، وقسط يَقْسِط فهو قاسط إذا جار، فالقسط هو الجور والعدول عن الحق، والقاسطون هم الجائرون المائلون العادلون عن الحق.
وكنا من قبل نسمع: (يد القاسط في النار وإن عدل)، وهو حديث موضوع.
وليس في كتب الموضوعات، بل نحن الذين وضعناه، فالذي وضعه شخص منا، ومعناه في الحقيقة: وإن عدل عن الحق، فالكلام في هذا المتن مستو، لكن السند إلى النبي عليه الصلاة والسلام غير صحيح.
فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]، أي: العادلين القائمين بالحق وعلى الحق.
وقوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:15]، أي: المائلون عن الحق، وبذلك تنتهي هذه الشبهة.(23/19)
قوله تعالى عن المؤمنين: (بعضهم أولياء بعض) وقوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء)
المسألة الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
وقال في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فكان عند من لا يعرف معناه ينقض بعضه بعضاً.
قال الإمام: أما قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فالولاية هنا بمعنى: الإرث؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الأمر في أوله إخاءً بين المهاجرين والأنصار؛ فكان إذا مات أحد المهاجرين ورثه الأنصاري، وإذا مات الأنصاري ورثه المهاجري.
فكان الميراث يوزع على أساس الأخوة في الإيمان، وكان هذا أول الأمر، ثم نسخ في شريعة النبي عليه الصلاة والسلام بأن رد إلى الأنساب بعد ذلك.
وكان في ذلك الوقت من آمن وبقي في مكة ولم يهاجر ليس له حق في الميراث، فلا يأتي شخص مثلاً آمن ثم يبقى في مكة، وله أخ آمن وهاجر، فإذا آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا المهاجري وبين أحد الأنصار فمات المهاجري؛ فليس لأخ المهاجر في مكة إرث، بل إرثه لأخيه الأنصاري، دون من ترك الهجرة وبقي في مكة.
فكان هذا هو الأصل في أول الأمر، حيث ترتب على هذه المؤاخاة حقوق منها: الإرث، أي: ثبوت الإرث بإخوة الإيمان بين المهاجرين وبين الأنصار، وهذا حكم نسخ بقول الله عز وجل: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:6].
فقال: ((بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ))، فهذه الآية نسخت قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ} [الأنفال:72]، أي: من إرثهم، {حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، فانتهت بذلك هذه الشبهة.(23/20)
قوله تعالى لإبليس: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقول موسى: (هذا من عمل الشيطان)
المسألة الرابعة عشرة: قوله تعالى لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42].
وقال موسى حين قتل النفس: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]، وشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض؛ لأن موسى من عباد الله المخلصين، فكيف قتل هذه النفس، مع أن هذا من تسلط الشيطان، والشيطان لا سبيل له على المتقين؛ لقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]؟ والذي أريد أن أقوله: إن موسى قتل النفس قبل أن يكون نبياً، وهذا كفيل بإزالة الإشكال، وأهل الجاهلية منهم الصالح ومنهم الفاسد، وعلى أي حال فـ ابن كثير رحمه الله قد نقل الخلاف في هذه القضية، والذي ترجح لدى القرطبي وغيره: أن قتل النفس كان قبل البعثة، وأنه لم يرتكب نبي كبيرة قط بعد بعثته، وهذا الذي يترجح لدي؛ لإجماع أهل السنة والجماعة على ذلك؛ لأنكم تعلمون أن الأنبياء معصومون في تلقي الوحي، وفي تبليغ الوحي، ومعصومون من الكبائر، وليسوا كذلك فيما يتعلق بالصغائر، وهذا مذهب أهل الحق.
وانظر إلى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أما قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، أي: الذين استخلصهم الله لدينه، ليس لإبليس عليهم سلطان أن يضلهم في دينهم أو عبادة ربهم، لكن يصيب منهم من قبل الذنوب.
أما الشرك فلا يقدر إبليس أن يضلهم عن دينهم؛ لأن الله تعالى استخلصهم لدينه وعبادته.
وأما قول موسى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15]، أي: من تزيين الشيطان، كما زين ليوسف ولآدم وحواء وهم عباده المخلصون؛ فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.(23/21)
قوله تعالى: (اليوم ننساكم كما نسيتم)، وقوله (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى)
المسألة الخامسة عشرة: قول الله تعالى للكفار: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، واليوم هو يوم القيامة، وقال في آية أخرى: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52].
فأثبت الله تعالى في هذه الآية أنه لا ينسى، وفي الآية الأولى أثبت أنه ينسى.
قال الإمام: أما قوله تعالى: ((الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا))، فالنسيان بمعنى الترك في النار، فيكون التقدير: فاليوم نقذفكم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم، والإيمان بهذا اليوم.
وأما قوله: ((فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى))، أي: لا يذهب من علمه ولا حفظه، ولا ينساه المولى عز وجل؛ لأن النسيان صفة نقص لا تليق إلا بالمخلوق، أما العلم التام الكامل المطلق فهو صفة من صفات الله عز وجل.(23/22)
قوله تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى) وقوله تعالى: (فبصرك اليوم حديد)
المسألة السادسة عشرة: قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:124 - 125]، أي: كنت أبصر بعيني في الدنيا، فلم حشرتني هنا أعمى؟ وقال في آية أخرى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فكيف يحشره الرب أعمى؟ وكيف يثبت أن بصره في ذلك اليوم حديد؟ قالوا: كيف يكون هذا من كلام الله المحكم؟ فشكوا في القرآن لأجل ذلك.
قال الإمام: قوله تعالى: ((وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))، أي: أعمى عن حجته؛ لأن العمى نوعان: عمى البصر، وعمى البصيرة، وعمى البصيرة أشد من عمى البصر، فعبر الله عز وجل عن عمى البصيرة في يوم القيامة بالعمى.
وقال: ((رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى))، أي: لم حشرتني أعمى عن حجتي، وقد كنت بصيراً بها، أي: بحجتي، مخاطباً بها؛ فذلك قوله: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص:66]، أي: ضلت عنهم، والأنباء هي الكتب، فهم لا يتساءلون.
وأما قوله: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ذلك أن الكافر إذا قرب من قبره شخص ببصره، ولا يصرف بصره قط حتى يعاين جميع ما كان يكذِّب به من أمر البعث.
فلما عاين ببصره الذي ركبه الله تعالى فيه على نحو معين يدرك به الحقائق التي كان يكذب بها؛ قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22]، أي: بعد أن عاين الكافر ما كان يكذِّب به؛ قال الله تعالى كالمبكِّت له: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، أي: كشفنا عنك غطاء الآخرة، فبصرك حديد لا يصرف حتى تعاين وترى جميع ما كنت تكذب به من أمر البعث؛ فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة.(23/23)
قوله تعالى: (إنني معكما أسمع وأرى)، وقوله: (إنا معكم مستمعون)
المسألة السابعة عشرة: قول الله تعالى لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
وقال في موضع آخر: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، فقالوا: كيف قال: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا))، وقال: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}؟ فشكوا في القرآن لأجل ذلك.
قال الإمام: أما قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، فهذا من مجاز اللغة، يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، بصيغة الجمع، فيحمل على التعظيم، ومثله: قول الرجل للآخر: نحن نحبك في الله، وهو واحد، وإنما يقصد بذلك التعظيم.
وأما قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فكذلك جائز في اللغة، يقول الرجل الواحد للرجل: سأجري لك رزقك، أو سأفعل بك كذا وكذا.
هذه المسائل التي اختارها الإمام للرد على الزنادقة، وأما رده على الجهمية فهو رد طويل لا داعي له الآن، خاصة وأن الإمام يدخل في قضية خلق القرآن.
لكن الإمام هنا يقول: إذا سمع الجاهل قول هؤلاء الزنادقة؛ يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله.
وهذا دائماً مذهبهم، حتى يكسبوك للجهمية، وهم في الحقيقة معطلة ونفاة، إذ إنهم يقولون: نحن لا نثبت لله وجهاً ولا عيناً ولا يداً ولا ساقاً؛ لأننا لو أثبتنا نكون بذلك قد شبهنا الخالق بالمخلوق، فنحن ننزه الخالق عن مشابهته المخلوقين.
فهم الآن عطلوا الله تبارك وتعالى عن صفاته تحت ما يسمونه بالتنزيه، أي: نزهوا المولى عز وجل أن يشابه مخلوقاته؛ فوقعوا في شر من ذلك وهو التعطيل.
ومثلهم الأشاعرة ومن معهم من المتأولين، فقد أولوا الصفات.
أما الفريق الذي يقابلهم فهم الممثلة والمشبهة الذين يقولون: يد الله تعالى كأيدينا، ووجه الله تعالى كوجوهنا، وساق الله تعالى كسوقنا؛ حتى شبهوا الخالق بالمخلوق، لكنهم تأدبوا شيئاً ما، فقالوا: الله تعالى أفضل وأجمل ما يكون في المخلوق؛ فجعلوا الله تبارك وتعالى رجلاً جميلاً؛ لأنهم أثبتوا هذه الصفات على الحقيقة.
وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا: نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات والأسماء، لكننا نقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن على وجه لا يليق قط أن يكون بالمخلوقين، بل يليق بجلال الله تعالى وكماله وعظمته.
يقول الإمام: فإذا سمع الجاهل قوله؛ يظن أنه من أشد الناس تعظيماً لله، ولا يعلم أنه إنما يعود قوله إلى ضلالة وكفر، ولا يشعر أنهم لا يقولون قولهم إلا فرية في الله عز وجل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.(23/24)
الأسئلة(23/25)
الرد على شبهة أن قبر النبي وصاحبيه داخل المسجد
السؤال
كنت أنصح شخصاًَ من إخواني بعدم الصلاة في المساجد التي فيها قبور، فأثار شبهة وهي: وجود قبر النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبيه: أبي بكر وعمر في مسجد المدينة، ومع هذا لا قائل بترك الصلاة في هذا المسجد من علماء الأمة، فما ردكم على هذه الشبهة؟
الجواب
هذا كلام صحيح أنه لا قائل قط بترك الصلاة في مسجد المدينة، بل لا يقول ذلك إلا إنسان جاهل لا علم عنده.
أما الجواب عن هذه الشبهة: فإن القبر لم يبن في المسجد، ولم يبن عليه المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
والمسلمون لم يتخذوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسجداًَ ابتداءً، والعلماء يفرقون بين بناء المسجد على القبر، وبين أن يبنى المسجد أولاً، ثم يبنى بداخله القبر، فلا هذا ولا ذاك في قبر النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن الوليد بن عبد الملك رحمه الله لما أراد توسعة المسجد النبوي، ونحن لسنا في حاجة إلى توسعة مسجد ما، بخلاف حاجة المسلمين عامة في العالم كله إلى توسعة هذه المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال: المسجد النبوي، والأقصى، والمسجد الحرام.
فهذه المساجد في أمس الحاجة إلى توسعة في كل فترة من الزمن، ولذلك يقوم كل واحد في زمانه بتوسعة هذه المساجد شيئاً ما؛ لحاجة الناس.
ولك أن تتصور الآن أن النبي عليه الصلاة والسلام حج في حجة الوداع أو في عام الوداع -وهي حجته الوحيدة- وكان معه (114000) من المسلمين، وهذا عدد مهول في ذلك الزمان، ولا يزال العدد الآن في ازدياد؛ حتى وصلوا إلى ثلاثة ملايين.
وبلا شك لو كان المسجد الحرام على هيئته الأولى في زمن النبوة؛ فإنه لا يكفي لهذا العدد، ولذلك كانت هذه التوسعة أمراً لازماً ضروياً للحفاظ على حياة الناس، وأنت ترى في كل عام من مواسم الحج آلاف القتلى من الزحام، فلك أن تتصور أن هذه الأماكن النسكية كانت على هيئتها الأولى، فماذا كان سيصنع الناس؟! أقول هذا الكلام كالمقدمة إلى الضرورة الملحة التي جعلت الوليد بن عبد الملك بن مروان يوسع المسجد النبوي، ورغماً عنه دخل القبر في المسجد بسبب التوسعة، لكن بغير قصد، وائتني بمسجد من مساجد المسلمين عامة دخل فيه القبر بغير قصد، قبر الحسين دخل مسجد الحسين بقصد.
وهكذا كل المساجد التي فيها قبور دخلت القبور فيها بقصد، بل بوصية مكتوبة أو شفهية.
أما الذي حدث بقبر النبي عليه الصلاة والسلام فليس بقصد، فضلاً أن هذا المسجد له مكانة عظيمة، وهو محفوظ بحفظ الله.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد دعا فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).
فلا زلنا إلى يومنا هذا لا نرى عابداً لقبر النبي عليه الصلاة والسلام، بل ولا تجد شخصاً مثلاً يأخذ تراباً ويضعه على رأسه مثل ما يفعل مثلاً عند قبر الإمام الشافعي، وأنتم تعرفون أن قبر الإمام الشافعي إلى الآن له يوم في السنة يزوره الناس، فيأتي إليه عباد القبور من شرق الأرض وغربها، حتى رأيت أناساً من أوربا وأمريكا يأتون ليشتروا التراب من كنس المسجد في هذا اليوم بمائة دولار؛ لأنهم يعتقدون في هذا التراب! فهل رأيتم ما الذي يجري حول هذه القبور من الاستغاثة والنذر والذبح والاستعاذة والتضرع والذل والطواف؟ وهل رأيتم مثل هذا عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام؟ ثم إن الأصل تحريم الصلاة في المساجد التي فيها قبور لنفي شبهة الشرك، وليست هذه الشبهة قائمة عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا فارق من الفوارق بين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من المساجد.
الفارق الثاني: أن هذا القبر محفوظ أن يكون وثناً، وهناك فرق كبير جداً بين القبر وبين الوثن، فالوثن: هو ما عبد من دون الله، أما القبر فلا، ولذلك مكان دفن الموتى هو القبور لا المساجد، ثم وجود القبر في مسجد على هذا النحو الذي نراه يحوله من قبر إلى وثن؛ لوجود هذه العبادات حوله، وكلنا يعرف ما يحصل في القبور بشكل واضح، فهذه ليست قبوراً وإنما هي أوثان، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).
وأنتم تعلمون أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، فسيبقى قبره عليه الصلاة والسلام قبراً فقط، لا وثناً إلى قيام الساعة؛ بدعوته عليه الصلاة والسلام.
الفارق الثالث: أن هذا المسجد له خاصية، تختلف عن بقية المساجد، فشد الرحال إليه -أي: إلى المسجد النبوي- مشروع في الإسلام، والصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(23/26)
شرح كتاب الإبانة - كتاب الإيمان - مقدمة كتاب الإيمان
الإيمان قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، وهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وقد نزل القرآن بترتيب فرائض الإيمان، حتى اكتمل الدين وتمت النعمة، وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شعب مختلفة في المرتبة والأهمية، فمنها ما لو تخلف العبد عن الإتيان بها فلا يصح إيمانه، ومنها ما لو تخلف العبد عن الإتيان بها نقص إيمانه مع صحته في أصله.(24/1)
باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمع الجزء الخامس من كتاب (الإبانة) وهو جزء جديد وباب جديد يتعلق بالإيمان والإسلام، وقواعد الإيمان والإسلام وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالإيمان والكفر، وهو تقريباً سيكون أهم باب في هذا الكتاب، وما تقدم يعتبر كالمدخل لهذا الموضوع.
قال المؤلف رحمه الله: [الجزء الخامس من كتاب (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة) وهو الأول من الإيمان] يعني: هذا أول الكلام فيما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر.
قال: [وفيه ثمانية أبواب: الأول: باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن، وترتيب الفرائض وأن الإيمان قول وعمل.
الثاني: باب معرفة اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية.
الثالث: باب معرفة الإسلام وعلى كم بني.
الرابع: باب معرفة الإسلام والإيمان، وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
الخامس: باب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو، وأخلاق المؤمنين وصفاتهم.
السادس: باب كفر تارك الصلاة، ومانع الزكاة، وإباحة قتالهم وقتلهم إذا فعلوا ذلك.
السابع: باب ذكر الأفعال والأقوال التي تورث النفاق، وعلامات المنافقين.
الثامن: باب ذكر الذنوب التي من ارتكبها فارق الإيمان، فإن تاب راجعه] أي: رجع إليه الإيمان.
ثم يتكلم ابن بطة عليه رحمة الله في مقدمته لمعرفة أصول هذا الكلام، أي: أصول هذه الأبواب فيقول: [بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن بعونك، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الذي هو ربنا وبه نستعين، وإياه نسأل أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، الذي أنعم عليهم بهدى القرآن فاتبعوه واهتدوا، ومنَّ عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبسنته فسلكوا سبيله واقتدوا، متبعين غير مبتدعين، ومذعنين غير طاعنين، وموقنين غير شاكين ولا مرتابين، وهادين بدعوته غير ضالين ولا مضلين.
فسلموا عاجلاً -أي: في الدنيا- من السخط والشك والارتياب، واستحقوا آجلاً -أي: في الآخرة- الرضا وجزيل الثواب، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
وصلى الله على من ختم به الرسالة، وأكمل به الحجة، وأوضح به المحجة، وأرسله إلى جميع عباده كافة على فترة من الرسل، ودروس من العلم -أي: وذهاب للعلم- فأنقذ به من عباده من سبقت له الرحمة في كتابه، ففتح أبواب السماء برحمته، وجعله الداعي إلى الحق، والهادي إلى الرشد، والقائم بالدين، ذاك -والله- محمد المصطفى، ونبي الله المرتضى، خير خلقه نفساً، وأكرمهم طبعاً، وأطهرهم قلباً، وأصدقهم قولاً، وأكملهم عقلاً، وأشرفهم خلقاً، النبي الأمين الزكي المرضي، فدعا الناس إلى الإقرار بتوحيد الله ومعرفته، والبراءة من الأضداد والأنداد، وأن محمداً رسوله الصادق، من اتبعه اهتدى فنجا، ومن خالفه هلك وغوى، جعلنا الله وإياكم ممن سبقت له الحسنى، فعُصم من متابعة الهوى، وموافقة أهل الزيغ والردى، ووفقنا وإياكم لاتباع الكتاب والسنة اللذين الدين فيهما مشروع -أي: لا يشرع شيء في الدين إلا من خلال الكتاب والسنة-، والحكم فيهما مجموع، وخير العاجلة والآجلة فيهما موضوع، قد قطع بهما عذر كل معتل، وسد بهما فاقة كل مختل، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
أما بعد: وفقكم الله! فإني مبين لكم شرائع الإيمان التي أكمل الله بها الدين، وسماكم بها المؤمنين، وجعلكم إخوة عليها متعاونين، وميز المؤمنين بها من المبتدعين المرجئة الضالين، الذين زعموا أن الإيمان قول بلا عمل، ومعرفة من غير حركة].
يتكلم رحمه الله في هذه المقدمة بكلام صريح في نبذ عقائد الفرق الضالة، وتثبيت وتأييد عقيدة الفرقة الناجية، فقال: [وميز المؤمنين من المبتدعين المرجئة الضالين الذين زعموا -وهذا أصل اعتقاد المرجئة، ماذا زعموا؟ - زعموا أن الإيمان قول بلا عمل، ومعرفة من غير حركة] أي: إقرار بالقلب من غير عمل.
ثم قال: [فإن الله عز وجل قد كذبهم في كتابه وسنة نبيه وإجماع العقلاء والعلماء من عباده] أي: أن الله تعالى كذبهم في كتابه، ورسوله عليه الصلاة والسلام كذبهم في سنته، وإجماع العلماء على بطلان عقائد المرجئة، ولكنه يتكلم كلاماً مجملاً هنا؛ لأن التفصيل سيأتي معنا في أثناء الكتاب.
ثم قال: [فتدبروا ذلك وتفهموا ما فيه، وتبينوا علله ومعانيه، فاعلموا رحمكم الله أن الإيمان إنما هو نظام اعتقادات صحيحة].
يعني: الإيمان كالعقد الذي له حلقات مسلسلة.
ثم يقول: [بأقوال صادقة، وأعمال صالحة، بنياتٍ خالصة، بسنن عادلة، وأخلاق فاضلة، جمع الله فيها لعباده مصالح دنياهم وآخرتهم، ومراشد عاجلهم وآجلهم].
يعني: هذا هو مضمون الإ(24/2)
سبب إرسال الرسل وإنزال الكتب على الخلق
قال رحمه الله: [وذلك أن الناس قد جبلوا -في نقصان عقولهم وحجرها- عن الإحاطة بحقائق الأشياء، والوفاء بالإدراك لكل ما فيه الفائدة والمصلحة، ومن استيلاء شهواتهم واحتكام أهوائهم بعدت عليهم سبل مراشدهم، واستغمضت عليهم مخارج هداياتهم، وذلك موضوع كله في جبلتهم].
يعني: هم مفطورون ومجبولون على هذا.
ثم قال: [فلو وكل كل منهم إلى نظره وفكره ورأيه وتدبيره واختياره فيما يؤثر من السير والمذاهب والشيم والخلائق، لكان واجباً لا محالة أن يظهر عجزه عن كفاية نفسه، وحاجتها من أبواب الرشاد، وإعطائها حظها من دواعي الصلاح الذي فيه رضا خالقها ونجاتها من هلكتها].
يعني: الإنسان بطبيعته يعجز عن أن يقوم تجاه نفسه بما يصلحها في معاشها، الواحد منا أحياناً يختار باباً من الأبواب، أو شيئاً من الأشياء، ويظن بل يعتقد اعتقاداً جازماً أن مصلحته التي ليس دونها مصلحة في الحصول على هذا الشيء، فإذا نظر وقيم هذا الشيء من واقع الشرع علم أنه ليس في صالحه؛ ولذلك يحرمه الله تعالى بفضله ورحمته ومنِّه من الحصول على ذلك الشيء، والواحد منا أحياناً يسعى سعياً حثيثاً إلى نكاح امرأة معينة، ثم يفاجأ أنها خطبت أو نكحت لغيره، فربما يصدم في مشاعره وفي قلبه وفي شهوته وهواه، فإذا ما تزوج بامرأة أخرى فظهر صلاحها ودينها، ونظر هو إلى سيرة المرأة التي كان يحبها آنفاً، فإذا بها في غاية فساد الأخلاق مع زوجها التي تزوجته، فحينئذ يحمد الله عز وجل أن لم تكن هذه المرأة من نصيبه، وعلم الله عز وجل أن هذه المرأة لو تزوجها هذا الذي كان يحبها لكانت سبباً في فساد دينه وانحرافه عن الجادة، فاختار له الخير، لكن من الذي يعلم هذا الخير؟ الله عز وجل، وفر له ما يصلح دينه ودنياه، ولكن هذا العبد لأول وهلة لما فوجئ بأن هذه المرأة فلتت منه أصيب في قلبه، وظن أن الخير كله قد فاته، وإذا بالخير كله قد خزن له في زواج من امرأة أخرى.
وعلى هذا فقس كل حياتك، في واقع عملك، وتجارتك ومصنعك ومالك وأولادك وغير ذلك، ربما يتمنى المرء أن يرزق ولداً جميلاً أبيض، فيرزق بأولاد سود أو عندهم من الدمامة في خلقتهم الشيء الكثير والأُدمة وغير ذلك مما لا يرغب فيهم كثير من الناس، ثم يرزق بالولد الأبيض الجميل، فيكون هذا الولد هو مصدر تعاسته وشقائه، أما الأولاد الذين كره منظرهم ولونهم فهم أبر الأبناء به في كبره، فالله عز وجل علم أن الخير في هؤلاء، وأن الشر في ذاك الولد، فربما يحرم المرء ما يتمنى، ولأجل هذا جعل الله عز وجل لبعض الخلق بنين وبنات، وجعل لبعض الخلق البنات دون البنين والعكس في آخرين، ولم يجعل الله عز وجل لزوجين معينين أولاداً قط؛ لأن الخير فيما اختاره الله عز وجل.
فينبغي الإيمان والرضا والتسليم لقدر الله عز وجل، واعتقاد أن كل قدر الله هو خير كله، ومصلحة كله، وإذا وجد الخير فثم دين الله عز وجل وشرعه.
ثم قال: [فلما علم الله تعالى ذلك منهم كفاهم برحمته ورأفته المئونة] أي لما سبق في علم الله الأزلي مصالح العباد كفاهم ذلك، فاختار لهم.
ثم قال: [وأعظم بلطفه وجوده المعونة، فأمدهم في كتبه وعلى ألسن رسله بوظائف من الأمر والنهي، بين لهم فيها ما يأتون وما يذرون، ووفقهم إلى ما يرتكبون ويجتنبون، ليكون كل أحد من عباده المؤمنين -قويت خبرته في النظر والاختيار أو ضعفت، وكملت آلته في المعرفة والتمييز أو نقصت- معرضاً لحظ يصل إليه من مراشده، ونصيب يتوفر عليه من منافعه، فيكون الجميع منهم في ضمن فضله ورحمته اللذين وسعا كل شيء، كما وصف الله تعالى نفسه فقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
ولتكون حجته مع ذلك بالإرشاد والبينة لازمة لكل مأمور ومنهي].
يعني: الله عز وجل لم يخلقنا هملاً، ولم يخلقنا سدى، فإنه لما خلق الله تعالى الخلق أراد أن يقيم عليهم الحجة بمعرفة الخير والشر، فأمر ونهى في كتبه التي أنزلها على رسله، وركب فيك عقلاً تميز به بين الخير والشر، وبين الصالح والطالح، وبين النافع والضار؛ وبهذه الثلاثة الأمور قد أقيمت عليك الحجة، حتى إذا هلكت هلكت عن بينة، وإذا حييت بنور الهدى حييت كذلك على بينة، ولذلك قال الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] أي: بعد إقامة الحجة عليه: {وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] هذه الحجة مصدرها الهدى والنور الذي نزل من عند الله عز وجل في كتبه المنزلة على أنبيائه بواسطة جبريل عليه السلام.
إذاً: عندي الكتاب وعندي الرسول، ولدي العقل، ولذلك لا يكلف إلا العاقل البالغ، أما الصبي الذي لم يبلغ فليس محلاً للتكليف، وكذلك البالغ لكنه غير عاقل لعرض الجنون أو غير ذلك ليس مكلفاً، حتى إذا كان بالغاً عاقلاً مميزاً لا يكون مكلفاً ولا يأثم إذا كان مكرهاً وغير ذلك من الأعذار المانعة للحوق الإثم.
فالله عز وجل نفى عنك الإثم في كل هذا، وأثبت لك الإثم بعد(24/3)
تفاوت الناس في معرفة الأوامر والنواهي والفرائض
قال: [والدين وإن كان قد انتظم في نفسه جميع ما وصفناه، فليس يقف أو يقع الكل على موضع هذه الفضائل فيه؛ لكنهم يستبقون من أحكامه وشرائعه، وموضع هذه المصالح من مفروضه -أي: من فرائضه- وأوامره في ذلك، ويتفاضلون على حسب مراتب المعقول، وتوفيق البارئ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لهم].
يعني: ليس كل الناس يوفق إلى معرفة الأوامر والنواهي والفرائض، بل هذا باب وطريق طلب العلم.(24/4)
تابع باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل
قال: [باب معرفة الإيمان وكيف نزل به القرآن، وترتيب الفرائض وإثبات أن الإيمان قول وعمل].(24/5)
أثر ابن عباس في معرفة الإيمان
قال: [عن ابن عباس في قول الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]]، وإن كان في سنده ضعف، إلا أن الشواهد كثيرة تشهد لهذا المعنى، [قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم لا يزال أمرهم في ازدياد حتى أكمل لهم الله تعالى دينه، فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
قال ابن عباس: وكان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً].
وفي هذا إثبات أن الكافر يأتي بالعمل الصالح، لكن لا يثاب عليه إلا في الدنيا، أما في الآخرة فإنه لا ثواب له، يثاب على عمله الصالح في الدنيا، من الصدق ومكارم الأخلاق وحسن الضيافة وغير ذلك من أعمال البر والصلة وأعمال الصلاح كلها، وإذا أسلم كتب له ما كان قد عمل من عمل صالح في الجاهلية، وجوزي عليه في الإسلام.
ثم قال: [فلما نزلت سورة (براءة) نفي المشركون عن البيت -أي: طردوا عنه- وحج المسلمون فقط، لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك من تمام النعمة وكمال الدين، فأنزل الله عز وجل: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3] إلى قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]].(24/6)
أثر عثمان بن حنيف في معرفة الإيمان
قال: [عن عثمان بن سهل بن حنيف أنه سمع عمه عثمان بن حنيف يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامه بمكة يدعو الناس إلى الإيمان بالله، والتصديق به قولاً بلا عمل)] أي: في أول الأمر، وأنتم تعرفون أن التكاليف الشرعية نزلت في المدينة.
فإذاً: إقام النبي عليه الصلاة والسلام في مكة سنوات طويلة يدعو إلى الإيمان وتوحيد الله عز وجل، لم تنزل التكاليف بعد.
فقوله: (بلا عمل) أي: بلا عمل من أعمال الجوارح، وإلا فالإيمان نفسه عمل القلب، وعمل القلب بالاعتقاد والإقرار والإذعان، وكذلك هو عمل الجارحة وهو اللسان، أي: النطق بالشهادة، لكنه هنا تجّوز في اللفظ؛ لأنه يتكلم هنا عن أعمال الجوارح، أي: ولم يكن مطلوباً منهم عمل الجوارح.
ثم قال: [والقبلة إلى بيت المقدس، فلما هاجر إلينا -أي: إلى المدينة- نزلت الفرائض فنسخت المدينة مكة، والقول لها أم القرى، ونسخ البيت الحرام بيت المقدس، فصار الإيمان قولاً وعملاً] أي: أن الفرائض والأوامر والنواهي والحلال والحرام كل ذلك نزل في المدينة، والإيمان بعد أن كان قولاً بلا عمل صار قولاً وعملاً.(24/7)
أثر سفيان بن عيينة في معرفة الإيمان
قال: [قال: محمد بن عبد الملك بن مسلم أبو عبد الله المصيصي: كنا عند سفيان بن عيينة -وهذا في حديثه سنة (170هـ) فسأله رجل عن الإيمان فقال ابن عيينة: قول وعمل، قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله] يعني: يزيد إلى ما شاء الله لا منتهى لزيادته؛ لأن زيادة الإيمان متعلقة بالأعمال، فكلما ازداد المرء من العمل ازداد إيماناً.
ثم قال: [يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه، وأشار إلى إصبعه].
يعني: يزيد الإيمان في قلب العبد بسبب العمل والاعتقاد حتى يكون كالجبال الرواسي، وينقص بسبب ترك العمل حتى لا يبقى منه إلا ذرة أو شعيرة، أو لا يبقى منه شيء ألبتة.
ثم قال: [قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده] يعني: القول بأنه قول بلا عمل كان قولاً صحيحاً في أول الأمر، وفي صدر الشريعة في العهد المكي.
ثم قال: [إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله].
يعني: لم يكن مطلوباً منهم في العهد المكي غير التوحيد بلا عمل، تكاليف قلبية، من نبذ للأصنام، وهذا كله في الظاهر عمل، لكن يحمل كلامه على الفرائض والحدود، وعلى مباني الإسلام، وإن كان الإيمان والتوحيد في حد ذاته عملاً قلبياً يترجم في صورة ولاء وبراء لعبادة غير الله عز وجل.
قوله: (فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها) أي: إلا ما ينقضها.
وقوله: (وحسابهم على الله) أي: إذا نافقوا بهذا القول فحسابهم على الله، لكنهم إذا صرحوا بالإيمان والتوحيد بألسنتهم عصموا دماءهم وأموالهم، فكان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وأما هم عند الله عز وجل فهم منافقون كفار، يجازيهم الله عز وجل على النفاق النار، وهذا معنى قوله: (وحسابهم على الله).
ثم قال: [فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة] أي: لما استقر الإيمان والتوحيد في قلوبهم، وعلم الله تعالى صدق هؤلاء، ولم يكن عندهم نفاق؛ لأن النفاق إنما نشأ في المدينة، أما أهل مكة فليس عندهم نفاق، ولذلك كان الواحد منهم يعذِبه مولاه في قول التوحيد، وكان بإمكانه أن ينافق، ويخرج من أذى سيده ومولاه بأن ينطق بكلمة الكفر، وعنده في ذلك الرخصة، ومع هذا آثر العزيمة، فلم يكن ينطق بها حتى يسحب على بطنه تارة وعلى ظهره تارة في حر الرمضاء، وهو يقول: أحد أحد! ربما غلب على ظنه في ذلك الوقت أن العزيمة لها تأثير كبير في قلوب كل من رأى هذا العذاب؛ ولذلك أتى خباب بن الأرت رضي الله عنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو مسند ظهره إلى الكعبة، فقال: (يا رسول الله! ألا ترى ما قد نزل بنا؟) أي: من أذى هؤلاء المشركين، (ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا)، يطلب دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أن يرفع عنهم هذا البلاء، ولكن هذا الطلب للنبي عليه الصلاة والسلام أثار غضبه وحفيظته، كان مسنداً ظهره إلى الكعبة فجلس، كأنه يعلّم خباباً ومَن وراء خباب إلى قيام الساعة سنن الله الكونية، وأن الحرب دائرة رحاها بين الإيمان والكفر، وأهل الضلال وأهل الاعتدال، وأن ذلك سنة الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير، فالعداوة قائمة ومستحكمة بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من كان قبلكم كان يخد له الأخاديد فيوضع فيها، وينشر بالمناشير من رأسه إلى أخمص قدميه، حتى يلقى على الأرض شقين، لا يرده ذلك عن دينه).
ثم يبشر خباباً والحالة هذه الناظر إليها يقول: لا أمل قط في ظهور هذا الدين، يعني: تصور قلة المؤمنين في ذلك الزمان، وكثرة المعاندين المحاربين والكائدين لهذا الدين، وما نزل بهذه الثلة المؤمنة القليلة من التعذيب والفتك والضرب والطرد والتشريد بلا شك بحسابات جميع البشر يقول: لا أمل قط في ظهور هذا الدين، ولا خروجه من حيز مكة.
ثم تأتي البشارة وهي من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، قال: (وليظهرن الله عز وجل هذا الأمر -أي: هذا الدين- حتى لا يبقى بيت حجر أو مدر إلا دخله) أي: أخبار هذا الدين تدخل في كل بيت، وهل هناك بيت الآن على هذه الأرض لا يسمع بمحمد ودين محمد؟
الجواب
لا؛ ولذلك هذه بشارة عظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام ليطمئن أهل التوحيد والإيمان وأصحاب الدعوة إلى الله عز وجل على هدى وبصيرة من أهل السنة والجماعة أنهم ظاهرون إلى قيام الساعة.
ويدل على ذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) أي: من أهل البدع أو الشرك والكفر والإلحاد والقتال: (لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) وهي(24/8)
باب معرفة اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)
قال: [باب معرفة اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية] وهي: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].(24/9)
أثر عمر في معرفة اليوم الذي نزلت فيه (اليوم أكملت لكم دينكم)
قال: [عن طارق بن شهاب قال: (قال يهودي لـ عمر: لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) وعلمنا اليوم الذي أنزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيداً)] يعني: لكمال الدين وتمام النعمة، والرضا عن هذا الدين، فهي فرحة عظيمة جداً.
قال: [(فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والساعة، وأين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت؟ نزلت ليلة جمع، ونحن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في عرفات)] ليلة الجمع هي ليلة الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة، أي: نزلت بعرفات بعد غروب الشمس، ويقال لهذه الليلة: ليلة جمع؛ لمشروعية جمع المغرب والعشاء في المزدلفة، مع أن المغرب في يوم التاسع من ذي الحجة يؤذن له وأنت في عرفة، لكنك لا تصلي المغرب والعشاء إلا في المزدلفة، فتكون صلاة المغرب والعشاء في غير المكان الذي دخلت فيه وقت الأولى وهو عرفة، فهذه الآية نزلت ليلاً في عرفات ليلة جمع.
قال: [وعن طارق بن شهاب: (أن اليهود قالوا: لـ عمر: إنكم تقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: إني لأعلم حيث أنزلت وأي يوم أنزلت؟ أنزلت بعرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة).
قال سفيان: وأشك أكان يوم جمعة أم لا؟ يعني: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))]، لكن هذا الشك زال؛ لقول عمر في الطريق الثاني: (أنزلت يوم عرفة يوم جمعة).
وهذه الآية ليست آخر آيات القرآن نزولاً، وبعض أهل العلم قال: هي آخر آية نزلت، لكن جماهير أهل العلم على أن آخر آية نزلت على الإطلاق هي: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أما هذه الآية فهي آخر آية نزلت بمكة، نزلت في حجة الوداع في يوم عرفة، وكان يوم جمعة.(24/10)
أثر ابن عباس في معرفة اليوم الذي نزلت فيه (اليوم أكملت لكم دينكم)
قال: [عن عمار مولى بني هاشم قال: قرأ ابن عباس: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وعنده رجل من أهل الكتاب، فقال: لو علمنا في أي يوم نزلت هذه الآية جعلناه عيداً، فقال -أي: ابن عباس - لقد نزلت يوم عرفة، يوم الجمعة].
[قال عبيد الله بن محمد: لقد علم العقلاء من المؤمنين ومن شرح الله صدره ففهم هذا الخطاب من نص الكتاب وصحيح الرواية بالسنة، أن كمال الدين وتمام الإيمان إنما هو بأداء الفرائض والعمل بالجوارح، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، مع القول باللسان والتصديق بالقلب] هذا هو تعريف الإيمان عند أهل السنة.
فقوله: (لقد علم العقلاء من المؤمنين) الذين هم أهل السنة، بعد أن شرح الله صدورهم فهموا الخطاب من نص كتاب الله عز وجل، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام التي صحت عنه، أن تمام الدين وتمام الإيمان إنما هو بثلاثة أشياء: الأول: أداء الفرائض والعمل بالجوارح مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، مع القول باللسان والتصديق بالقلب، فقد جمع لنا هنا أصول الإيمان التي هي معتقد القلب، أي: عمله قولاً وفعلاً، ثم قول اللسان وعمل الجوارح والأركان.
ومراد ابن بطة هنا إثبات أن عمل الجوارح من الإيمان، للرد على المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول بلا عمل، قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
ثم قال: [وعلموا أيضاً المعنى الذي أنزلت فيه هذه الآية، ومراد الله تعالى فيها، واليوم الذي أنزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبان لهم -أي: لأهل السنة- كذب من افترى على الله، وعلى كتابه وعلى رسوله، وعلى صحابته والتابعين، والعقلاء من علماء المسلمين، فتأول هذه الآية بغير تأويلها، وصرفها إلى غير معانيها، وزعم أنها نزلت في غير المعنى الذي أراد الله بها، وفي غير اليوم الذي أنزلها فيه، فآثر هواه، وباع آخرته بدنياه، ويح من كان دينه هواه، فقد بارت بضاعته، وخسرت صفقته، خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين].
هذه مقدمة رائعة جداً في إثبات أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح والأركان، فمحل الإيمان القلب واللسان لمن كان قادراً على ذلك، أي: على النطق، والجوارح كذلك.
اختلف العلماء في تعلق الإيمان بالعمل، فأهل السنة والجماعة على أن العمل من الإيمان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة، أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
لو نظرنا في هذا الحديث لوجدنا قوله كما في مسلم: (أعلاه لا إله إلا الله) أي: أعلاه شهادة أن لا إله الله، والشهادة عمل اللسان، فالمرء يشهد بلسانه، فلو أن امرأً شهد بلسانه بهذه الشهادة ولم يعتقد قلبه صحة هذه الشهادة، فإنه يكون منافقاً بالإجماع.
إذاً: هذه الشهادة إن تلفظ بها الإنسان ولم يكن لها رصيد في القلب لم يكن مؤمناً، بل كان منافقاً، وحينئذ نقول: إن هذه الشهادة لا بد لها من النطق إذا كان صاحبها قادراً على النطق، وإلا فتكفيه الإشارة، أي: الإشارة إلى السماء، كما في حديث الجارية: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أين الله؟) وفي رواية: (فأشارت إلى السماء) أي: جهة العلو والارتفاع لله عز وجل، قال: لو لم يكن لهذه الكلمة التي صدرت على اللسان رصيد في القلب لا تقبل من قائلها إلا فيما يتعلق بأحكام الدنيا.
أما إذا كان يعتقد صحة هذه الكلمة بقلبه، ولم ينطق بها مع قدرته على النطق، فهل يثبت له الإيمان أو الإسلام؟ أنتم تعلمون أن أبا طالب كان يؤازر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يحوطه من جميع جوانبه، وحينئذ لما صرح أبو طالب في غير ما مرة أن ابن أخيه على الحق، وإنما الذي يمنعه من الدخول فيه قوميته، كان أبو طالب رجلاً قومياً يضمر القومية العربية، فمنعه ذلك من أن يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لا يقال: صبأ أبو طالب، وترك دين آبائه وأجداده؛ ولذلك لما علم النبي عليه الصلاة والسلام منه إيمانه الجازم بصحة رسالته، قال: (يا عماه! قلها كلمة أشفع لك بها عند ربي، فقال: لو لم تعيرني بها العرب لقلتها) فهو يؤمن بها في قلبه، لكنه لم يتلفظ بها، فهل تنفعه حينئذ؟ أنا الآن ضربت صورتين، الأولى: أنه تلفظ بها بلسانه ولم يعتقدها بقلبه، فهذا منافق، والمنافق كافر معلوم، ومن اعتقدها بقلبه ولم يتلفظ بها بلسانه فلا يقبل ذلك منه، بل هو باق على أصل كفره في الدنيا والآخرة، فهاتان صورتان لإثبات أن الإيمان لا بد فيه من اعتقاد القلب والنطق باللسان لمن كان قادراً على ذلك.
يأتينا دور العمل، فكلمة التوحيد لها شروط ومقتضيات، سنتعرض لها بإذن(24/11)
الأسئلة(24/12)
الرد على شبهة كون الله عز وجل خلق الخلق وجعل بعضهم معاندين للحق رافضين له
السؤال
لقد سبق في علم الله عز وجل أن هؤلاء الكفرة والملحدين لن يستجيبوا لرسوله، فكتب عليهم الشقاء الذي هم فيه، ولكن قد يقول القائل: هذه النفس العنيدة التي لا تستجيب للحق، أوليس الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها وأودعها في عباده، وجعلها متكبرة عنيدة تأبى الحق، ولو شاء الله سبحانه لجعلها نفساً صالحة طيبة تستجيب للحق إن جاءها، فكيف نرد على إشكالهم هذا؟
الجواب
هذا سؤال لا يعدو كونه شبهة من الشبهات، لكني أذكر لك مثالاً: لو أن غرضاً من الأغراض يؤدي إليه طريقان: أحدهما معبد ممهد، والثاني ليس كذلك، بل قد امتلأ بالشوك والحجارة الجارحة وغير ذلك، وأتينا بأقذر خلق الله وقلنا له: أمامك غرض يؤدي إليه هذان الطريقان، طريق سهل مرصوص معبد ممهد للسالكين، والآخر كما ترى قد امتلأ بالشوك والحجارة وغير ذلك من المعسرات، فعليك أن تصل إلى الغرض في مدة زمنية معينة، فماذا سيسلك هذا السالك؟ هل تتصورون أنه يدع الطريق الممهد؟ أنت يا أخي عندما تسير بسيارتك وأمامك طريق مكسر قريب، وطريق آخر ممهد وهو بعيد، فإنك ستسلك الطريق الممهد، وتقول: إنه طريق جيد نمشي عليه؛ لأن الطريق المكسر قد يكسر سيارتي ويكسر لي عظمي حتى وإن مشيت على رجلي، هل هذا الفعل الذي يقوله هذا الفاعل متعلق بالتمييز والإدراك، ممكن أن يأتي مجنون ويقول لك: أنا سأسلك هذا الطريق الذي به حفر، إنه حلو جداً وجميل جداً.
نقول: هذا إنسان غير مكلف، لكن هذا الفاجر العنيد قد بينا له أن الهدف أمامه وهو ينظر إليه، ويؤدي إليه طريقان: أحدهما قد امتلأ بالشوك، والآخر معبد ممهد مرصوص وجميل، فماذا على هذا الفاجر أن يسلك؟ هل هناك أحد من العقلاء يمكن أن يقول: سيسلك الطريق الذي امتلأ شوكاً، لا يمكن، ولو فعل لحكمنا عليه بالجنون.
وإذا كان الأمر هكذا في هذا المثل فلله المثل الأعلى، وقد أعذر الله عز وجل لجميع خلقه بأن أرسل لهم رسلاً، وهؤلاء الرسل كانت مهمتهم إثبات وحدانية الله عز وجل وربوبيته، وهداية الخلق إليه عز وجل الذي خلقهم ورباهم وتولى أمرهم وقام على شئونهم، وأنزل مع الرسل الكتب فيها الهدى والنور، هذا فيما يتعلق بالكتب والرسل، وجعل العباد مكلفين بشرط أن يكون عندهم عقل، فركب فيهم العقول التي تميز بين الخير والشر، بين النافع والضار، بين الحق والباطل، فعلموا أن هذا هو الحق، ولكنهم عاندوا من عند أنفسهم، كمن عاند وسلك الطريق الذي قد امتلأ شوكاً ليصل إلى الهدف، لكن هذا العنيد إن سلك طريق المعصية فإنه لا يصل إلى الجنة؛ لأنه لا حظ له فيها، كما أن سلوك هذا الطريق يؤدي به إلى النار التي خلقها الله عز وجل، وأعد لها من أعد من خلقه؛ لما سبق في علم الله عز وجل أن الحجة قد قامت.
ثم هذا السائل الذي يسأل هذا السؤال، لو أني قلت له: لو كان لك ولد وقلت له: يا بني! أنا سآتي لك بالطعام والشراب، وأذهب بك إلى المدرسة ذهاباً وإياباً، وآتي لك بالمدرسين، وأسعى لك في كل واد في سبيل تحصيل التفوق في نهاية العام، ولكن هذا الولد آثر العناد وعدم الانتباه والامتثال لكلام المدرسين، ولم يعبأ بكل ما صنعه معه والده، وفي نهاية العام حقق رسوباً شديداً، ماذا يكون موقف الوالد، يضربه؟ يشتمه؟ يوقع به أشد العذاب؟ كل ذلك يمكن أن يكون من الوالد، لماذا؟ لأن الوالد يرى أنه ما قصر، وأن هذه النتيجة ليست من قدر الله عز وجل الشرعي، إنما هي من قدره الكوني نسبة إلى تقصير هذا الولد.
إذاً: مرد ذلك إلى التقصير والعناد أم لا؟ وإلا فلماذا يضرب الوالد ولده؟ ونحن نؤمن أن الكل من عند الله، لكن ما كان من عند الله تعالى في ذات الخير والشرع والدين والمحبة، كل ذلك راجع إلى ما أمر الله تعالى به على ألسن رسله في باب المحبة والرضا والشرع، أما ما وقع من شر في الكون، فإنه وقع بسبب تقصير من العباد بعد قيام الحجة، فالله تعالى علم ذلك قبل أن يخلق الخلق، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (وإن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) الله تعالى لا يحب الكفر، والكفر موجود، فهل وجد الكفر في الكون رغماً عن الله عز وجل؟ حاشا لله، إنما وجد الكفر في الكون بإرادة الله الكونية القدرية، ومعنى إرادته الكونية القدرية أنه قدر ذلك وشاءه كوناً لا شرعاً، وإلا فالله تعالى قدر تقديراً شرعياً الإيمان الذي هو في مقابلة الكفر، وأحبه ورضيه، ولما علم الله عز وجل سلفاً أن عبده فلاناً الذي يخلق في الساعة الفلانية واللحظة الفلانية إذا كبر اختار طريق الضلال، وعبده الآخر إذا كبر اختار طريق الهداية، بعد إفراغ الأعذار لجميع العباد؛ تجد أن بعض العباد سيختار طريق الهداية، وبعض العباد سيختار عناداً طريق المعصية أو طريق الكفر والإلحاد، فأعد الله عز وجل لهؤلاء الجنة في نهاية أمرهم، وأعد لهؤلاء النار في نهاية أمرهم، فهل هذا عدل من الله عز وجل أم جور؟ عدل؛ لأن الله تع(24/13)
حكم من أدرك الإمام في الركوع
السؤال
من أدرك الركوع في الركعة الأولى، وهو يأخذ بمذهب أنه: (لا صلاة إلا بأم الكتاب)، فهل يلزمه أن يقوم بعد التسليم، أم تحسب هذه هي الخامسة، فتبطل معها الصلاة كلها، أم ماذا؟
الجواب
واضح أن السائل جاهل؛ لأنه إذا كنت صاحب مذهب فالأصل أنك تلم بفرعيات عظيمة.
أما قراءة الفاتحة خلف الإمام ففيها مذاهب: المذهب الأول: أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم في الجهرية والسرية.
والمذهب الثاني: قراءة المأموم ليست واجبة في حقه خلف الإمام في الجهرية.
والمذهب الثالث وهو مذهب الأحناف: أن قراءة المأموم للفاتحة ليست واجبة عليه لا في الجهرية ولا في السرية.
والذي يترجح لدي أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم في الجهرية والسرية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين وغيرهما: (لا صلاة إلا بأم الكتاب)، ولحديث أبي هريرة وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى بغير فاتحة الكتاب فصلاته خداج خداج خداج).
وأمر عمر المأمومين أن يقرءوا بها خلف الإمام، قال رجل: أأقرأ بها يا أمير المؤمنين وأنت تقرأ؟ قال: نعم، اقرأ بها في نفسك يا فارسي.
والأدلة كثيرة جداً على وجوب فاتحة الكتاب للمأموم في الجهرية والسرية.
أما إذا أدرك المأموم الإمام في الركوع فليركع معه وليعدها ركعة، ولا يطالب حينئذ بقراءة الفاتحة لفوات محلها، أي: لفوات وقت الوجوب، وهو إدراك القيام مع الإمام، والله تعالى أعلم.(24/14)
حكم الحج نتيجة الفوز بمسابقات وجوائز
السؤال
هل يصح الحج نتيجة الفوز بمسابقات وجوائز؟
الجواب
نعم يصح، إذا كانت مسابقة وأعلن أن الفائز فيها يكافأ بالحج، فلا حرج حينئذ أن يدخل من التمس في نفسه أهلية لهذا، فإذا فاز فهنيئاً له الحج.(24/15)
حكم معالجة المريض على حساب الدولة
السؤال
هناك امرأة مريضة تعالج على حساب الدولة، سواء كان في الداخل أو في الخارج، فهل هذا جائز؟
الجواب
نعم جائز، بل هو واجب على الدولة في حق الفقراء، إن لم تقم به الدولة يأثم جميع المختصين أو القائمين بهذا الشأن، فلا يصح أن يكون هذا العمل كله محسوبية، الذي له قريب في وزارة الصحة هو الذي يعالج، والذي ليس له قريب يموت، لا يصح ذلك، بل كل فقير غير قادر على النفقة أو العلاج أو التعليم أو غير ذلك، يجب على الدولة أن تقوم برعايته وحسن تدبير أمره، وإلا فيأثم جميع المختصين بذلك.(24/16)
حكم استبدال الأدوية الزائدة لمريض بدواء آخر لمريض آخر
السؤال
هل يجوز استبدال بعض الأدوية الزائدة التي يصرفها التأمين الصحي أو الدولة لمريضة بدواء آخر لأمها المريضة؟
الجواب
نعم يجوز ذلك؛ لأنها تأخذ حكم البنت من جهة أنها فرد من أفراد المجتمع، وأنها فقيرة ليس في إمكانها علاج نفسها.(24/17)
حكم لبس المرأة الذهب المحلق
السؤال
هل الذهب المحلق من الذهب المحرم على النساء؟
الجواب
لا.
ليس من الذهب المحرم، وأنا أعتقد أن مذهب شيخنا الشيخ الألباني رحمه الله مذهب مخالف لعلماء الأمة؛ ولذلك ليس محل اعتبار عندي، وأن الذهب كله حلال للنساء، حرام على الرجال.(24/18)
حكم الجهاد في فلسطين أو غيرها
السؤال
هل الجهاد في فلسطين أو غيرها فرض عين على الشباب في مصر أو غيرها؟
الجواب
الجهاد في الأماكن التي ترفع فيها راية الجهاد فرض كفاية على المسلمين لا فرض عين، فالجهاد فرض عين في نفس المكان الذي اعتدي فيه عليك، مثلاً: الجهاد في فلسطين فرض عين على الفلسطينيين هناك، وعلى من كان في فلسطين من غير أهلها فرض عين عليهم، ولا يكون فرض عين على من تلاهم من أهل البلدان إلا إذا عجزوا، فإذا عجز مجموع المسلمين من البلدين تعين على الثالث، فإذا عجزوا جميعاً تعين على الرابع وهكذا.
أما الجهاد على الشباب في مصر فليس فرض عين، وإنما هو فرض كفاية، وشرط فرض الكفاية: سلامة الطريق، وأنتم تعلمون أن الطريق غير سالم وغير آمن.
الشرط الثاني: أن يأذن الوالدان، وهذا شرط لصحة الجهاد في فرض الكفاية، فإذا لم يأذنا يأثم المجاهد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أرجع بعض أصحابه لخدمة والديه، ولو تعين عليه الجهاد لم يرجعه، وستأتي هذه المسألة بالتفصيل بإذن الله تعالى في كتاب الجهاد في صحيح مسلم.(24/19)
شرح كتاب الإبانة - الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [1]
لقد ذكر الله تعالى الآيات الكثيرة التي تثبت أن العمل الصالح من الإيمان، وأن المدح لا يكون إلا لمن آمن وعمل صالحاً، وأن العمل سبب في زيادة الإيمان أو نقصانه، وفي ذلك رد على الفرق المنحرفة كالمرجئة القائلين بعدم دخول العمل في مسمى الإيمان، أو الجهمية الذين جاءوا بأفحش من ذلك فقالوا بأن الإيمان هو المعرفة أو العلم دون النطق أو العمل.(25/1)
الآيات القرآنية في إثبات أن العمل من الإيمان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً في إثبات أن العمل من الإيمان، وكنا قد بدأنا هذا الموضوع في الدرس الماضي وتتمته في دروس متعاقبة بإذن الله.
قال الإمام ابن بطة: [واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم، ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل، والنية بالإخلاص، وأن كل ذلك من الإيمان حتى صار اسم الإيمان مشتملاً على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها عن بعض، ولا ينفع بعضها دون بعض، حتى صار الإيمان قولاً باللسان، وعملاً بالجوارح والأركان، ومعرفة -أي: إقراراً- ويقيناً بالقلب، خلافاً لقول المرجئة الضالة الذين زاغت قلوبهم، وتلاعبت الشياطين بعقولهم، وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته]؛ لأن المرجئة قالوا: العمل ليس من الإيمان، وأن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل.
[باب الآيات من كتاب الله عز وجل في إثبات أن العمل من الإيمان]، وأن اسم المدح لا يكون إلا لمن آمن وعمل عملاً صالحاً، لمن آمن بلسانه وقلبه وعمل بجوارحه، وأخلص العمل لله عز وجل، فهذا هو المستحق للمدح والمستحق للنعيم في الدنيا والآخرة.
[قال الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]] لم يقل: بشر الذين آمنوا أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وإنما قرن العمل الصالح بالإيمان.
قال: [{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25].
وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277]].
فقرن الإيمان بالعمل الصالح، والصلاة والزكاة من العمل الصالح، فهذا ذكر للخاص بعد العام لبيان أهميته، مع أن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يمكن الاستغناء عن ذكرهما بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، ولكن ذكر الخاص بعد ذكر العام، وهو العمل الصالح؛ لبيان أهمية الخاص.
فإذا قلت لك: لا تأخذ المال من جيبي ولا تأخذ هذا الجنيه، فهذا الجنيه يدخل ضمن المال، وأنا قد نهيتك عن أخذ شيء من جيبي مطلقاً والتنبيه على عدم أخذ هذا الجنيه بالذات للأهمية.
فهذا يسميه الأصوليون ذكر الخاص بعد العام من باب التأكيد عليه.
[وقال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].
وقال عز وجل: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] إلى أن قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء:173]، فقرن العمل بالإيمان {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173].
وقال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام:48]، أي: عمل عملاً صالحاً {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48].
وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42].
وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [التوبة:20] والهجرة عمل والجهاد عمل وقرنهما بالإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:(25/2)
اختلاف الفرق المخالفة لمنهج أهل السنة في تعريف الإيمان والرد عليهم
[قال الإمام: فتفهموا رحمكم الله هذا الخطاب، وتدبروا كلام ربكم عز وجل، وانظروا هل ميز الإيمان من العمل؟] يعني: هل جعل العمل شيئاً والإيمان شيئاً آخر؟ [أو هل أخبر في شيء من هذه الآيات أنه ورث الجنة لأحد بقوله دون عمله؟ ألا ترون إلى قوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ولم يقل: بما كنتم تقولون].
لأن المرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق.
والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة، ومنهم من يقول: الإيمان هو العلم.
وإبليس عليه لعنة الله يعرف جيداً أن الله تعالى إله واحد، ويعلم ذلك علماً يقينياً، فهل يكون بذلك مؤمناً؟ فالجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة أو العلم، ولا يشترطون النطق به.
والمرجئة يقولون: يشترط النطق باللسان الذي يدل على تصديق القلب، ويقولون الإيمان هو التصديق.
وكلاهما في غاية البطلان والفساد، لأن المرجئة يقولون: إذا صدق المرء بقلبه ونطق بلسانه فلا علاقة للعمل حينئذ بهذا الإيمان، ويكفي أنه نطق بالشهادتين، فيثبت له كمال الإيمان وتمامه، فإيمانه كإيمان جبريل أو كإيمان الملائكة الذين فطروا على عبادة الله عز وجل.
فلو أن الواحد صدق بلسانه وبقلبه فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان وإن ارتكب جميع الفواحش والمنكرات، والأمر أشد من ذلك ضلالاً عند الجهمية، فلو أنه ترك كل أمر وارتكب كل نهي، فلا يضره ذلك عندهم.
فالمرجئة يناقشون أهل السنة ويقولون: هل ينفع مع الشرك عمل؟ الجواب عند أهل السنة: لا ينفع؛ لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] من الكبائر والصغائر، فهي في مشيئة الله تعالى.
يقولون: كما لا ينفع مع الشرك عمل فإنه لا يضر مع الإيمان معصية، وانظروا إلى مدى قول المرجئة! فإن هذا كلام لا يستقيم أبداً.
[وقال الله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، ولو كان العمل لا يضر الإيمان زيادة ونقصاناً أو إزالة من الأصل، فكيف يحاسبهم الله تعالى ويجازيهم على إساءتهم العمل في حياتهم الدنيا.
قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31] ففرق الله تعالى بين المسيء والمحسن، وجعل الإساءة والإحسان متعلقين بالعمل، ورتب على هذا العمل ثواباً وعقاباً، أما من أساء فيعاقبه الله، وأما من أحسن في عمله فيجازيه الله عز وجل.
[ولم يقل: بما قالوا]، أي: بل قال: ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا)) لأنه قد قال كلمة الإيمان وفرغ منها ولكنه أساء العمل، ومع هذا فإنه داخل في المحاسبة والمجازاة، ولو كان العمل لا علاقة له بالإيمان فإن الله لا يحاسبه عليه، ويكفي أنه تلفظ بهذا الإيمان، فلما جازاه الله تعالى على عمله دل أن العمل من الإيمان.
[وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] ولم يقل: أحسن قولاً]؛ لأن القول لو كان هو المراد دون غيره، وأن العمل لا علاقة له؛ لما كان في محاسبة هذا العبد عدل، والله تبارك وتعالى متصف بكمال العدل، منزه عن الظلم والنقص.
[وقال الله تعالى في قصة الكفار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53]]، فالكفار يوم القيامة علموا أن سبب ورودهم جهنم ما كانوا يعملون، [ولم يقولوا: غير الذي كنا نقول]، أي: وإنما قالوا: {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53].
[وقال عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285]]، الإيمان بالكتب والرسل يستلزم الإيمان بالأمر والنهي عملاً وتركاً.
ومعنى أنك مؤمن بكتاب الله تعالى هو: أنك تعظم كتاب الله تعالى، وتشرف كتاب الله تعالى، وتحفظ كتاب الله تعالى، وتعمل بأوامره وتنتهي بنواهيه، وتؤمن أنه كله من عند الله، وهذا كله عمل.
ومن قال: أنا أحب كتاب الله ولكني لا أعمل بهذه الآية، فإنه يكفر بهذا القول، فلو أنه جحد أو أنكر آية واحدة من كتاب الله كفر بهذا حتى وإن عمل بها، لأنه تلفظ بلفظ الكفر، كمن يقول: أنا لا أؤمن أن الله تعالى حرم الزنا وإن كنت لا أزني، فقد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو يقول: الله تعالى لم يحرم الخمر وإن كنت لا أشربها، فالكفر يكون بالقول كما يكون بالعمل.
[فلم يفرد الإيمان حتى قال: ((كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ(25/3)
حكم من زعم أن شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان
قال المؤلف: [فمن زعم أن ما في كتاب الله عز وجل من شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان، وأن التارك لها والمتثاقل عنها مؤمن؛ فقد أعظم على الله الفرية].
ولو أن واحداً قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فهذا عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، ولكنه يقول: لا توجد صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا جهاد، ولا أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر، ولا ولا ولن أفعل شيئاً من ذلك، وأنا أزني وأشرب الخمر وأسرق وأقطع الطريق، وغير ذلك من سائر المعاصي والذنوب، وأنا متأكد أنني مؤمن كامل الإيمان، كيف ذلك؟ فمن لجهنم حينئذ؟ فيكاد الإجماع أن ينعقد على أن من ترك الصلوات الخمس كفر بالله عز وجل، بل ومنعقد عند الصحابة أن من ترك الصلاة كفر وخرج من الملة.
ولم يأت عن صحابي واحد أن من ترك الصلاة لا يكفر بها، ووقع النزاع فيما دون ذلك، بل وقع النزاع بعد عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
قال: [فمن زعم أن ما في كتاب الله عز وجل من شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان، وأن التارك لها والمتثاقل عنها مؤمن؛ فقد أعظم على الله الفرية، وخالف كتاب الله، ونبذ الإسلام وراء ظهره، ونقض عهد الله وميثاقه، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]].
فلو قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: الجهاد عمل يا رسول الله أم ليس عملاً؟ فسيقول لهم: الجهاد عمل، ولو قالوا له: اذهب أنت وجاهد؛ لأنه حينما كان العمل ليس من الإيمان فليس عندنا استعداد أن نشارك معك في هذه الغزوة، أو على الأقل نحن شاركنا معك في غزوة أو غزوتين، فتفضل أنت وحارب والله معك ويعصمك!! لو أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ترك الجهاد مع النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تتصورون أن القرآن ينزل بمدحهم؟ لا يمكن أبداً، وهذا يدل على أن العمل من الإيمان.
فتصور لو أن الجهاد في مصر مثلاً فرض عين، لأن اليهود دخلوا علينا وفوجئنا أن هناك رشاشات ودبابات مع جنود يهود أمام المسجد في هذا الوقت، فنقول: هيا لنجاهد، قالوا: نحن متأسفون، لأن الجهاد عمل، والعمل ليس من الإيمان على مذهب المرجئة؛ فأنا إن جاهدت أو لم أجاهد فأنا في الحالتين مؤمن كامل الإيمان فإذا كنت أنا في حال تركي للجهاد مؤمناً كامل الإيمان، فلماذا أجاهد؟ سأحرص على حياتي! فهذا القول قول المرجئة، وكلام المرجئة في الإيمان كلام بلا ذيل ولا يمكن ضبطه أبداً؛ لأنه كلام في غاية الفساد والبطلان.
[{لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
ثم قال الله تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82]] أي: فمن تولى عن نصرة النبي عليه الصلاة والسلام حياً أو ميتاً إذا تعين عليه ذلك؛ فهو فاسق.
وبعض أهل البدع الآن خرج بشبهات على السنة، حتى كاد أن يهلك الناس وأن يفتنهم في دينهم، وكان هناك عشرة من الناس بإمكانهم أن يدافعوا وأن يذبوا عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويبينوا مزاعم الأعداء وافتراءات المفترين، وأن يجلوا هذه الغمة عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يرشدوا الأمة إلى صالح عملها واعتقادها في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم تواطئوا واتفقوا على عدم الدفاع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فهم يصيرون بذلك من الفساق.
فلا بد من نصرة النبي عليه الصلاة والسلام حياً وميتاً.
[ثم قال الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]]، فبين أن الإيمان والعمل سواء بسواء يدخل تحت مسمى الدين، [ثم قال تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82] فجمع الله تعالى القول والعمل في هذه الآية، وقال: فمن زعم أنه يقر بالفرائض لكنه لا يؤديها ولا يعلمها، كما أنه مقر بتحريم الفواحش والمنكرات، ولا ينزجر عنها ولا يتركها، وأنه مع ذلك مؤمن؛ فقد كذب بالكتاب وبما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ومثله مثل المنافقين الذين {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فأكذبهم الله ورد عليهم قولهم، وسماهم منافقين مأواهم الدرك الأسفل من النار].
الإمام ابن بطة يقول: [على أن المنافقين أحسن حالاً من المرجئة]، وهذا كلام في غاية الأهمية، لأن المنافقين والمرجئة كلاهما قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، كلاهما زعم أنه مؤمن، فالمرجئة آمنوا بأفواههم ولم يعملوا -أي: لم تعمل جوارحهم- أما المنافقون فإنهم آمنوا بأفواههم وعملوا قال: و(25/4)
لا يقبل قول إلا بعمل
[وعن الحسن البصري رحمه الله قال: قال قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لنحب ربنا عز وجل]، والحب أمر قلبي، فزعم بعض الصحابة أنهم يحبون الله عز وجل، [فأنزل الله تعالى] آية أعظم ابتلاء واختباراً لمن زعم أن المحبة ظاهراً قال: [{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]] يعني: إذا كنتم صادقين في زعمكم وادعائكم المحبة، فاعلموا أن المحبة ليست كلاماً، وإنما المحبة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الممثل عملياً لكلام الله عز وجل وكلامه صلى الله عليه وسلم، [فجعل الله عز وجل اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم علماً لمحبته، وأكذب من خالفه، ثم جعل على كل قول دليلاً من عمل يصدقه أو يكذبه، يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من عباده الإيمان.
قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].
فأعلم الله تعالى نبيه في هذه الآية أن الإيمان بالله هو الإيمان بما أنزل عليه وبما أنزل على الذين من قبله من الرسل والأنبياء، وبما في كتبه من الشرائع والأحكام والفرائض، وأن ذلك هو الإيمان والإسلام، ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
ففي هذا دليل على أن الإيمان قول وعمل، لا ينفصل الإسلام عن العمل في هذه الآية، وذلك أن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لا يقبل قولاً إلا بعمل.
قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]] أطيب كلمة هي كلمة التوحيد، وهذه الكلمة لو قالها إنسان ولم يعمل بمقتضاها لا تنفعه، فلو أن إنساناً لهج بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكنه لم يعمل بمقتضاها، بل عمل بما ينافيها وينقضها، لا تنفعه.
أي: لو أنه قالها وهو كاره لها، أو قالها وهو غير عالم بحقيقتها، أو قالها وهو غير مخلص فيها فهناك ضوابط وشروط ومقتضيات لهذه الكلمة، أما لو فإنها مجردة لا تنفع.
[فأخبرنا الله عز وجل أنه لا يقبل قولاً طيباً إلا بعمل صالح، أو عملاً صالحاً إلا بقول طيب؛ لأنه قال في آية أخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97]، ولكن لو عمل عملاً صالحاً وهو مشرك لا ينفعه ذلك، فلا بد من العمل الصالح مع الإيمان، [{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
قال: فلا قول أزكى ولا أطيب من التوحيد، ولا عمل أصلح ولا أفضل من أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإذا قال قولاً حسناً أو عمل عملاً حسناً رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولاً حسناً وعمل عملاً سيئاً رد الله قوله على العمل، وذلك في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]].
[وعن أبي العالية رحمه الله قال في قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] قال: تكلموا بكلام الإيمان وحققوه بالعمل.
قال الربيع بن أنس: وكان الحسن يقول: الإيمان كلام، وحقيقته العمل، فإن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول] قول طيب.(25/5)
العبادة والإيمان
قال ابن بطة: [وحسبك من كتاب الله عز وجل بآية جمعت كل قول طيب وكل عمل صالح وهو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
فإنه جمع في هذه الآية القول والعمل، والإخلاص والطاعة لعبادته وطاعته والإيمان به وبكتبه وبرسله، وما كانوا عليه من عبادة الله وطاعته].
فالعبادة عمل، والعمل من الإيمان، [فلو كانت العبادة التي خلقهم الله لها قولاً بغير عمل لما أسماها عبادة وسماها قولاً، ولقال: وما خلقت الجن والأنس إلا ليقولون]، فكونه قال ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) دل على أن العمل من الإيمان، وأنه عبادة.
[وليس يشك العقلاء أن العبادة خدمة، وأن الخدمة عمل، وأن العامل مع الله عز وجل إنما عمله أداء الفرائض واجتناب المحارم، وطاعة الله فيما أمر به من شرائع الدين وأداء الفرائض، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:77 - 78].
فهل يخفى على ذي لب أو عقل سمع هذا الخطاب الذي نزل به نص الكتاب، أن اسم الإيمان قد انتظم التصديق بالقول والعمل والمعرفة، قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وقال الله تعالى لنبيه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فدل على أن الصلاة والحج والنسك والذبح والهدي، بل المحيا والممات عموماً كلها لله عز وجل.
وقال الله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام:71 - 72].
وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل الله تعالى به المرسلين وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: الصلاة ليست من الإيمان! وأن ترك الصلاة ليس شركاً! والله عز وجل يقول: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31]].
فهذا يدل على أن من ترك الصلاة قد أتى شعبة من شعب الشرك أو وقع في الشرك، [فجعل الله من ترك الصلاة مشركاً خارجاً من الإيمان؛ لأن هذا الخطاب للمؤمنين؛ تحذير لهم أن يتركوا الصلاة فيخرجوا من الإيمان ويكونوا كالمشركين.
قال عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
فقوله: ((مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)) فلم يفرق بين الإيمان وبين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤمن لم تنفعه الصلاة، ومن لم يصل لم ينفعه الإيمان، واستبدل بمحل الصلاة من الإيمان ونزولها منه بالذروة العليا، وأن الله تعالى فرضها بالطهارة بالماء، فلا تجزئ الصلاة إلا بالطهارة، فإذا عجز عن الطهارة بالماء فإنه يجب عليه أن يتطهر بالتراب عوضاً من الماء؛ لئلا يجد أحد في ترك الصلاة مندوحة، ولا في تأخيرها عن وقتها رخصة، وكذلك فرض الله تعالى عليهم الصلاة في حال شدة الخوف ومبارزة العدو، فأمرهم بإقامتها على الحال التي هم فيها، فعلمهم كيف يؤدونها، فلا يكون أحد أعظم جهلاً، وأقل علماً، وأضل عن سواء السبيل، وأشد تكذيباً لكتاب الله وسنة رسوله، وسنة الإيمان وشريعة الإسلام؛ ممن علم أن الله عز وجل قد فرض الصلاة وجعل محلها من الإيمان هذا المحل، وموضعها من الدين هذا الموضع، وألزم الله تعالى عباده إقامتها هذا الإلزام في هذه الأحايين كلها مع الضيق والشدة والعنت، وأمر بالمحافظة والمواظبة عليها على هذه الشدائد والضرورات، فيخالف ذلك إلى اتباع هواه، وإيثاره إلى رأيه المحدث الذي ضل به عن سواء السبيل، وأضل به من اتبعه فصار ممن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين، فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
قال الإمام: فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل]، أي: هذه الأدلة من الكتاب التي يثبت بها أن الإيمان قول وعمل، وأن الإيمان بلا عمل لا ينفع صاحبه، وأن العمل بغير إيمان لا ينفع صاحبه حتى يؤمن ويعمل صالحاً.
[وأن من صدق بالقول وتر(25/6)
الأسئلة(25/7)
حكم التعامل بالربا
السؤال
أخذت مالاً من بعض الناس على أني سأشغله لهم وأعطيهم على الألف أربعين جنيهاً، وأنا جاهل بأن هذا من الربا، فأخذت عشرة آلاف، وبعد ذلك علمت أنه ربا، وقد خسرت هذا المال في تجارة ثم تبت بعد ذلك إلى الله، والآن أنا أريد سداد هذا المال، والأبواب مسدودة في وجهي، وأبواب الحرام مفتوحة، وأخشى أن أضعف فهل من الممكن أن يسلفني أحد هذا المبلغ أو بعضه ثم أعمل جمعية بالباقي على أن يسدد أربعمائة جنيه في الشهر؟
الجواب
عندما لا تجد من يساعدك فهذا دليل على أنك فتحت باب الحرب بينك وبين الله، ولو كنت صادقاً فيما تقول وأنك لا تعلم أن هذا ربا، وأنك فعلاً لم تبدأ الحرب مع الله عز وجل؛ لأن الله تعالى قال في المرابين: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، فلم يعمل أحد قط بالربا إلا خسر كل شيء؛ لأنها حرب مع الله، ومن حارب الله لا بد أن يُهزم.
اليهود والنصارى يعلمون أن مثل هذا التعامل هو ربا، والعجيب أن أحداً من الناس في الأسبوع الماضي يقول لي: أنا وضعت مالي في بنك مصري وآخذ أرباحاً، فهل الأرباح هذه حلال أم حرام؟ فهو قابلني وأنا ذاهب لأصلي العصر فقلت له: حرام طبعاً، فقال: فأين أضع أموالي حتى آخذ المال الحلال؟ قلت له: ضعها في بنك فيصل أو في مصرف الإسلام الدولي.
قال: لا أستطيع، قلت له: على أية حال هم أعلنوا ورفعوا راية الإسلام، فإن كان شيء يخالف هذه الراية فهم مسئولون أمام الله عز وجل إلى أن اقتربنا من باب المسجد فقال: بعد إذنك، قلت له: أين تذهب؟ ألا تصلي؟ قال: أصلاً أنا! أرأيتم أصحاب الربا؟ أنا رأيت من هذا أنه يعلم أن هذا التعامل ربا، فالقاعدة التي لا تنخرم أن الغرم بالغنم، أنت شريك في المكسب وشريك في الخسارة، فتدفع مبلغاً شهرياً أربعمائة جنيه أو ثلاثمائة جنيه عن العشرة آلاف جنيه كل شهر، والأصل أن هناك تجارة لهذا المال، وهذه التجارة معرضة للمكسب والخسارة، والمكسب قد يكون قليلاً أو كثيراً، وفي كل الأحوال أنت وصاحب المال شركاء في هذا الربح كل على حسب نسبته، أنت بالعمل وهو بالمال، أما أن تأخذ ربحاً مقطوعاً ابتداء فتأخذ ثلاثمائة جنيه على العشرة آلاف جنيه كل شهر، وافرض أنني خسرت وأظل أخسر باستمرار، وافرض أن رأس المال نفسه خسر وتدمر وذهب عني فماذا أعمل؟ هل أضمنه؟ الأصل أنك أتيت لي بهذا المال لثقتك أنني ماهر في التجارة، وإلا فأنت لو أتيتني بمال وأنت تعلم أنني لا علاقة لي بالتجارة، فخسرت، فلا شيء لك، فالمطلوب منك كرجل صاحب مال أن تتحرى من يجيد إدارة هذا المال، لكن حينما تعطيه صاحب محطة وتقول له: شغله لي! كرجل ركب الباخرة فتعرف على رجل في سطح الباخرة، وأعطاه كل أمواله وقال له: عندي ثلاثون ألف جنيه، فأعطني طقماً صينياً وطقماً آخر إيطالياً وغير ذلك قال: إن شاء الله حينما ننزل أنا أعرف ابن عمي من سكان مكة، وهو يستطيع أن يأتيك بكل شيء وأنت قاعد، فأول ما نزلوا عند الحرم، وأنتم تعلمون أنه ممنوع أن يدخل أي شخص بأي شنطة، فقال صاحبنا: اعتمر واترك متاعك وأنا أظل عندها، وحينما تعتمر تأتي عند الشنطة وأنا أدخل لأعتمر، قال: أنا متعب جداً ومرهق جداً وابدأ أنت فاعتمر ثم ارجع، طبعاً صاحبنا لا يزال لم يدخل من باب الحرم والآخر أخذ الشنطة وتوكل على الله، وكان فيها ثلاثون ألف جنيه، فأول ما وجدته وهو يطوف فرحت وسلمت عليه، وحضنته واطمأننت عليه، وقلت له: متى أتيت؟ قال: أتيت الآن، ولا يزال ينتظرني رجل من وزارة الزراعة في الجيزة تعرفت عليه في سطح الباخرة عنده الفلوس وهو في الخارج، قلت له: تعرفت عليه وهو من وزارة الزراعة، وينتظرك في الخارج؟ أين ينتظرك في الخارج؟ لو سمحت اقطع الطواف ولنخرج لنأتي بالشنطة أو أظل عندها، لأني أعرفه، فهو معروف لدي وهو من إخواننا، ثم خرجنا نبحث عنه ثلاثة أيام، فلم نجده لا في وزارة الزراعة ولا الصناعة أبداً، فحينما رجعنا إلى مصر سألنا جميع الوزارات، وذهبنا إلى التأمينات على اعتبار أن فيها تأمينات الجمهورية كلها، أي أساميهم جميعاً تأتي بها، قال: لا يوجد أحد بالاسم هذا نهائياً على شاشة الكمبيوتر، قال: ماذا أعمل؟ قلت له: لا نقاش في أنك ضامن لهذا المال، فهو لا يضمن في حالة واحدة، وهي أن صاحب المال يعرف إمكانيات صاحبنا ويعطيه المال، صاحبنا هذا رجل من أهل الصلاح والتقوى، لكنه لا يؤتمن على قلم رصاص؛ ليس لأنه يسرقه فهو صاحب دين، فأتى صاحب الأموال وظل يحقق في القضية إلى أن أيقن أن إمكانيات صاحبنا هذا لا تسمح بائتمانه على جنيه واحد، فالله سبحانه وتعالى أكرمه، وقال له: أنا قد سامحتك.
الشاهد من أن هذا: لو أن أحداً من هؤلاء يسلفك، فأنا متأكد أنه لن يرجع إليه شيء أبداً، فهل منكم أحد مستعد أن يتبرع بعشرة آلاف جنيه؟(25/8)
حكم صلاة تحية المسجد
السؤال
تحية المسجد قبل إقامة الفريضة واجبة أو مندوبة أو مستحبة؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).
وجمهور العلماء على أن جمع النيات في النوافل جائز، فلو أنك دخلت المسجد، وقبل إقامة الصلاة ليس هناك وقت إلا لأداء ركعتين، فلا بأس أن تنوي بهما أنهما سنة الفجر القبلية -مثلاً- وتحية المسجد، وتحية المسجد هذه من السنن الراتبة، فمنهم من ذهب إلى الوجوب، ومنهم من ذهب إلى الاستحباب.
والذي ذهب إلى الوجوب قال بإثم تارك هاتين الركعتين مع القدرة، ومن ذهب إلى الاستحباب قال بالكراهة، أي: بكراهة ترك الركعتين.
والذي يترجح لدي أن صلاة تحية المسجد من السنن المؤكدة فيمكن الجمع بينها وبين بقية الرواتب أو السنن المندوبات، فأنت إذا دخلت المسجد وليس هناك بين دخولك وبين إقامة الصلاة للفريضة إلا وقتاً يسع صلاة ركعتين فاجمع النية في هاتين الركعتين، وإذا كان هناك وقت طويل فلا بأس أن تصلي تحية المسجد ثم تصلي السنة الراتبة.
وإن كنت أقول بأن صلاة ركعتين تجزئ في تحية المسجد حتى وإن كانت الفريضة، فلو أنك دخلت المسجد فوجدت الجماعة أقيمت فصليت ركعتين أو ثلاثاً أو أربعاً مع الإمام، فلست مطالباً بأداء ركعتين بعد الفراغ من الفريضة وهما تحية المسجد؛ لأن التحية سقطت بأداء الصلاة في المسجد أياً كانت هذه الصلاة.
ولذلك يذهب الظاهرية وبعض الحنابلة إلى أن وقوع العبادة في محلها تغني عن شقيقتها، فقوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر) أي: السنة، قالوا: فمن فاته صيام في رمضان فقضى ما فاته من رمضان في شوال، وكان ما فاته من رمضان ستة أيام، أجزأه عن صيام النافلة، لأنه حقق الصيام في شوال، وربما يكون هذا الكلام بعيداً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر في أول الحديث من صام رمضان كله، ثم أتبعه من النوافل بست من شوال.
الذي أردت أن أستشهد به أن بعض العلماء قال: المهم أن تقع العبادة في محلها وتغني عن مثيلتها، فأنت إذا أردت أن تصلي تحية المسجد وضاق بك الوقت، فلا بأس أن تجمع بين هذا وذاك في ركعتين اثنتين.(25/9)
صلاة ذات السبب في أوقات الكراهة
السؤال
هل تحية المسجد يكره أداؤها في أوقات معينة؟
الجواب
من ذهب إلى ترك الصلاة مطلقاً في أوقات النهي، وحمل النهي على الكراهة أو التحريم ولم يعتبر السبب؛ قال بترك الصلاة أبداً بين العصر والمغرب، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس وترتفع قدر رمح، ووقت الظهيرة فهذه الأوقات نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيها وعن أن نقبر فيها موتانا، فمن اعتبر النهي مطلقاً قال بحرمة أو كراهة الصلاة في هذه الأوقات أبداً.
والإمام الشافعي عليه رحمة الله قال: الصلاة في هذه الأوقات مكروهة إلا لسبب، كدخول المسجد وأداء التحية، والصلاة على الجنازة، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وغير ذلك من الأسباب فقال: النهي محمول على تحري الصلاة في هذه الأوقات، أما صلاة لها سبب فهو جائز؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر قريش! يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً دخل هذا المسجد فصلى فيه ركعتين في أي وقت شاء من ليل أو نهار) فقوله: (في أي وقت شاء) يشمل أوقات الاستحباب وأوقات الكراهة، وهذا الذي يترجح لدي، وإن كنت في حرج بالغ من الوقت الذي تصفر فيه الشمس؛ لأن هذا وقت كراهة شديدة إن لم يكن وقت حرمة؛ لأن الشمس تشرق وتغرب بين قرني شيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تتحروا لصلاتكم وقت طلوع الشمس ولا وقت غروبها، فإنما تشرق الشمس وتغرب بين قرني شيطان)، فالذي يصلي في هذين الوقتين فإنما يتشبه بعباد الشيطان على الحقيقة.
هذا النهي إنما يتعلق بالنوافل، أما الفرائض فلا تدخل تحت هذا النهي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن يخرج وقتها فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وهذا الذي يصلي ركعة قبل الصبح لا بد أنه سيصلي الركعة الثانية بعد خروج الوقت، ومع هذا اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على هذا النحو إدراكاً لها، وأنها صلاة أداء وليست قضاء، والله تعالى أعلم.(25/10)
حكم من قدم تحية المسجد على صلاة النافلة
السؤال
أتيت المسجد لصلاة الفجر قبل إقامة الصلاة بقليل، فصليت ركعتي تحية المسجد ثم أقيمت الفريضة فصليتها، ثم صليت بعدها ركعتي سنة الفجر؟
الجواب
كان ينبغي أن تصلي ركعتي الفجر قبل الصلاة، وتجمع بين النيتين.(25/11)
حكم تمزيق المصحف في حال الغضب
السؤال
ما حكم تمزيق المصحف متعمداً مع الغضب؟
الجواب
لو أنه وقف عند هذا الحد لقلنا كافر، أما قوله مع الغضب فنفرق كما فرق ابن تيمية عليه رحمة الله بين ثلاثة أنواع من الغضب، النوع الأول: الغضب البسيط، أي: لا بد للإنسان أن يغضب؛ لكنه غضب بسيط يملك معه المرء نفسه، أي: حينما يندفع يمسك نفسه ويكبح جماح نفسه، فهذا غضب بسيط.
النوع الثاني: غضب شديد لا يملك الإنسان أن يكبح جماح نفسه؛ ولكنه يدرك ما يقول.
النوع الثالث: غضب شديد جداً يُغلق معه المرء ولا يدري ما يقول، حتى لو ألقى ولده من شاهق فقيل له: لِم ألقيته؟ قال: والله ما ألقيته، وهذا الذي يسمى إغلاقاً، ولا طلاق مع إغلاق، فلو أن إنساناً بلغ في الغضب هذا الحد وهذه المرحلة، فإنه لو طلق امرأته مائة مرة فإنها لا تطلق، لأن هذا والمجنون شيء واحد، لقد فقد عقله تماماً.
والله عز وجل أخبر عن موسى عليه السلام أنه ألقى الألواح وفي نسختها هدى ونور، ألقى التوراة على الأرض من شدة غضبه حينما رأى أن بني إسرائيل عبدوا العجل من بعده، فعندما أتى إلى أخيه هارون وجد الناس قد اتخذوا عجلاً جسداً له خوار، حيث جمعوا الذهب من بني إسرائيل وصهروه وصنعوه عجلاً، وجعلوه في جهة الهواء، فإذا دخل الهواء فيه سمعوا صوتاً، وهذا هو الخوار؛ فلما رأى أن الذين قد كانوا آمنوا من بني إسرائيل يعبدون العجل والنبي بينهم، ولمجرد أن ذهب إلى طور سيناء ورجع مرة أخرى وجدهم يعبدون العجل في حياته! هذا يا إخواني إذا كنا نسمعه الآن أو نقوله ونستهين به؛ فهو عند الأنبياء لا يستهان به ولا يسكت عنه، فهو عندهم هدم للرسالة من أساسها، فغضب غضباً شديداً جداً حتى أخذ أخاه بلحيته يجره إليه فقال: يا ابن أم لا تشمت بي الأعداء فأنا لا أعرف شيئاً، ففي ثورة غضب موسى عليه السلام ألقى الألواح، فهذا غضب يبلغ درجة الإغلاق؛ فهذا الذي لا يؤاخذ به المرء حتى وإن كان نبياً، أما غضب هو أقل من ذلك فالمرء محاسب على فعله.
فانظر إلى هذه الثلاثة الأنواع من الغضب التي ذكرتها لك، وانظر من مزّق المصحف وكان مغضباً في أي درجة كان هو من هذه الدرجات الثلاث، ولكل من هذه الدرجات حكمه عند أهل العلم.(25/12)
حكم الغش في الدراسة
السؤال
أنا طالب في كلية الصيدلة، والدراسة عندنا فيها أشياء غير مفيدة وغير مهمة، وبالتالي يصعب حفظها جداً، فهل يمكن أن أصطحب معي أوراقاً فيها بعض هذه المركبات المتعسر علي حفظها؟
الجواب
يا أخي! هذا هو الغش بعينه، فأنا لا أجيز لك هذا أبداً.(25/13)
كفارة الطلاق في حال الغضب
السؤال
في حالة غضب قال لزوجته: أنت طالق، فما كفارة ذلك؟
الجواب
أي أنك حكمت أن هذا الطلاق لم يقع وتسأل عن الكفارة! إذاً: فأفت نفسك بالكفارة بعد ذلك.(25/14)
التفصيل في أن العمل من الإيمان
السؤال
الكلام في أن العمل من الإيمان، هل هو من أصل الإيمان أو من كماله، أو أن الأمر فيه تفصيل؟
الجواب
الأمر فيه تفصيل، وعند الكلام عن زيادة الإيمان ونقصانه سيأتي معنا هذا التفصيل.(25/15)
توحيد الحاكمية
السؤال
هل توحيد الحاكمية من أخص خصائص توحيد الإلهية؟
الجواب
إذا كنت تقصد معنى هذا الكلام فأنا أوافق عليه، أما إذا كنت تقصد أن التوحيد أنواع، منها: توحيد الذات، توحيد الأسماء والصفات، توحيد الأفعال، توحيد الحاكمية فأنا لا أوافق على أن توحيد الحاكمية من أنواع التوحيد، الحاكمية من خصائص المولى عز وجل، وأنه هو الحكم سبحانه وتعالى.
فالحكم هو الله، ومن قال بغير ذلك كفر بالله عز وجل.
وقد درجت الأمة على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة: توحيد الإلهية، توحيد الربوبية، توحيد الأسماء والصفات.
أما إذا كنت تريد أن تدخلني في دوامة أخرى، فعلى صفحات الجرائد جاءت منذ ثلاث سنوات، وكانت مثار حديث العلماء في هذه البلاد وفي غيرها؛ فأنا متأسف.
وفي الحقيقة أنا أنصحك بما نصح به السلف تلاميذهم: إذا كانت الفتنة نائمة فلا تكن أول من يوقظها، فقد قامت الفتنة ثم نامت؛ فلماذا تأتي أنت وتوقظها، فلا حكم إلا الله، وفعلاً الحاكمية هي من توحيد الله عز وجل ومن توحيد الإلهية، وإذا كنت تعتقد أن الإله الحق هو الله تعالى فهو كذلك الحكم الحق، لا يحكم العباد إلا هو سبحانه وتعالى، ومن حكم العباد بغير شرع الله فقد تحاكم إلى غير شرع الله، واتخذ نفسه إلهاً ومعبوداً من دون الله عز وجل.
فإذا كنت تعني معنى هذا الكلام فأنا أوافق عليه، أما إذا كنت تعني تقسيماً جديداً رباعياً لمعنى التوحيد، فأنا لا أوافق عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(25/16)
شرح كتاب الإبانة - الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [2]
الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، والسبب في زيادة الإيمان في قلب العبد هو عمل الجوارح، وقد وردت الآثار الكثيرة في أن العمل من الإيمان، خلافاً لما يعتقده المرجئة والجهمية من أنه لا علاقة للعمل بالإيمان.(26/1)
مراتب الإيمان بالمقارنة إلى العمل
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً في إثبات أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، والصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصيام من الإيمان، والجهاد من الإيمان، وسائر الأعمال من الإيمان.
فمن الأعمال ما هو أصل في الإيمان، ومن الأعمال ما هو واجب في الإيمان، ومن الأعمال ما هو مستحب في الإيمان.
وهذا يعني أن الأعمال التي هي من أصل الإيمان من تركها فقد خرج من الإيمان بالكلية وصار كافراً؛ كالصلاة على المذهب الراجح، ومن ترك الأعمال الواجبة في الإيمان فإنما أخل بالإيمان الواجب، ومن ترك الأعمال التي هي مستحبة في الإيمان فقد ترك ذروة الإيمان وكماله وتمامه المستحب.
ولذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) أي: فلا يبصر إلا بي، ولا يسمع إلا بي، ولا يمشي إلا بي، فإذا حقق العبد هذه الدرجة وهي الكمال المستحب، يكون قد بلغ ذروة الإيمان وكماله وتمامه، وذلك بأن يأتي بالأعمال المستحبة بعد الأعمال الواجبة والأعمال الأصيلة في الإيمان، فالإيمان بالمقارنة إلى العمل على ثلاث مراتب: إيمان أصلي، ثم إيمان واجب، ثم إيمان مستحب.
ولكل مرتبة من مراتب الإيمان أعمال تخصه، فمن فرط في أصل العمل الذي هو أصل الإيمان فلا يكون مؤمناً قط، بل لا يثبت له الإسلام.
وإذا قلنا: الإيمان قول وعمل، فالقول قول اللسان، بمعنى أن من كان قادراً على النطق بالشهادتين ولم ينطق بهما مختاراً؛ فإنه لا يثبت له إسلام، لأن الإيمان قول وهو لم يتلفظ مع القدرة على القول والتلفظ، ولكنه ترك ذلك مختاراً غير مكره.
والعمل عمل القلب من المحبة والرضا والقيام بمقتضيات هذه الكلمة وغير ذلك، ولذلك لو قال إنسان: لا إله إلا الله، فقد حقق القول، أما قول القلب فمحبة هذه الكلمة والرضا بها، والإيمان والتصديق والإقرار الجازم بها ولو أن ذلك كله انتفى عنده لا يثبت له الإسلام عند الله، ولذلك فالمنافقون في زمن النبوة قالوا كلمة الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكنهم أبغضوا هذه الكلمة، ومع هذا حققوا العمل، فكانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، بل ويجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم عند الله في الدرك الأسفل من النار، فهم أشد عذاباً من الكفار، أما في حكم الدنيا فهم مسلمون؛ لأنهم نطقوا بكلمة الإسلام ظاهراً.
فالإيمان قول وعمل، هذا القول وهذا العمل هو قول اللسان وعمل القلب وهو يزيد وينقص، فزيادة الإيمان ونقصانه متعلقة بالعمل.
أي: أن سبب زيادة الإيمان في قلب العبد هو عمل الجوارح، ولذلك إذا كان المرء محافظاً على الصلاة في الجماعة، محافظاً على أداء الزكاة، محافظاً على الحج في كل عام إن استطاع ذلك، محافظاً على النوافل وقيام الليل وقراءة القرآن وغير ذلك يشعر أن قلبه يحلق في السماء السابعة، ولو أنه فرط في شيء أو فاتته مثلاً صلاة الفجر وهو معتاد عليها في جماعة، فإنه يقوم في النهار وقد حشرج صدره، وضاق جداً، وشعر بالغم والهم طيلة النهار، وظن أن الدنيا قامت ولم تقعد؛ لأنه شعر بنقصان الإيمان في قلبه بفوات الطاعة التي اعتاد عليها، هذا الأمر يشعر به كل إنسان منا، والإيمان يزداد كما قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
هذه الآية تقول: إن أصل الإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان، ولذلك حينما عاب الله تعالى على الأعراب قال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، هذا الإسلام لا بد أن يكون معه ما يسمى بأصل الإيمان، لأن الإسلام لا يصح للعبد إلا إذا كان معه الإقرار والإذعان والمحبة والرضا.
ولذلك لو أن واحداً نطق بالشهادتين الآن ثم مات بعدها فوراً، نقول إن هذا مسلم معه أصل الإيمان؛ لأن الإسلام لا يصح إلا بأصل الإيمان، وهي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان، حتى يكون هناك فارق بينه وبين المنافقين؛ لأن المنافق لو شهد بالشهادتين وهو منافق ومات، يكون في النار؛ لأنه قالها نفاقاً.
كما يحدث للروس الآن؛ فهم قد عرفوا أصلاً من أصول الجهاد عند المسلمين، وهو أن واحداً منهم إذا وقع في عداد الأسر في جيش الإسلام نطق بالشهادتين فوراً، فهب أنه نطق بالشهادتين، ولنفترض أنه نطقها نفاقاً، فهو في النار؛ لأنه ما نطق الشهادة عن إيمان، وإنما نطقها نفاقاً، فهناك فرق بينه و(26/2)
الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق
وأما يومنا هذا؛ فإن شاء الله تعالى سوف نتكلم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبار أصحابه والتابعين الكرام، وفقهاء المسلمين بما فيه شفاء وكفاية وغنية؛ لإثبات أنهم كانوا يعتقدون أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان أعمال.
أصل الإيمان لا يتصور فيه النقصان، والفارق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، أن الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل التام، أما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان.
وقد قلنا إن الإيمان كالدائرة الصغيرة في وسط دائرة كبيرة هي الإسلام، فمن سقط من دائرة الإيمان لا يزال في دائرة الإسلام، ومثلنا بهذا.
لكن هذه الدائرة الصغيرة من دوائر الإيمان فيها مرتبتان من مراتب الإيمان: مرتبة مطلق الإيمان، ومرتبة الإيمان المطلق.
فالإيمان المطلق هو: الإيمان الزائد المتكامل المتناهي في الزيادة.
أما مطلق الإيمان فهو: أصل الإيمان.
ولا يتصور في مطلق الإيمان النقصان؛ لأن عقيدة أهل السنة أن مطلق الإيمان يزيد، فيبقى نقصان أصل الإيمان محل نزاع، والذي يترجح لي أن مطلق الإيمان لا يقبل النقصان؛ لأنه إذا قبل النقصان فإنما يكون إلى الزوال.
وبعض أهل العلم يقولون: إذا كان الإيمان هو التصديق، والأصل في الإيمان أنه إقرار وإذعان -لكن هذا على مذهب المرجئة الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق- فيقولون: لا يتصور نقصان الإيمان إلا إلى زوال.
وبعض أهل السنة يردون عليهم كـ ابن تيمية وغيره ويقول: بل نفسه يزيد وينقص، كما لو دخل علينا واحد وهو من الثقات فقال: هناك حرائق خلف المسجد، فنحن نصدقه لأننا نعلم أنه ثقة، لكن لو دخل ثانٍ وثالث ورابع وعاشر ومائة وكلهم أجمعوا على نفس خبر الثقة الأول، فلا شك أننا نزداد بذلك تصديقاً ويقيناً، وهذا الذي يسمى عند أهل العلم التواتر الذي يفيد العلم اليقيني.(26/3)
ما ورد في السنة مما يدل على أن الإيمان قول وعمل(26/4)
حديث علي في أن الإيمان قول وعمل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بالله يقين بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان)].
(الإيمان بالله يقين بالقلب) واليقين هذا يسميه بعض العلماء التصديق، لكن لفظ التصديق ليس محل اتفاق، إنما الذي هو محل اتفاق إقرار القلب، وهذا الحديث ضعيف، وكل الأحاديث التي وردت بهذا المعنى في الإيمان ضعيفة، لكن يشهد بعضها لبعض؛ خاصة وأن معناها محل إجماع أهل السنة والجماعة، ولما كان مقتضى هذا الحديث ومعناه محل إجماع ذكرته مع ضعفه، وقد جاء من حديث أنس وعلي بن أبي طالب وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الإيمان بالله يقين القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح والأركان).(26/5)
حديث وفد عبد القيس في السؤال عن الإيمان
قال: [وعن ابن عباس: (أن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع)]، وذلك حينما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأشهر الحرم وقالوا: يا رسول الله! إن بيننا وبينك كفار مضر ولا نخلص إليك -أي: ولا نأتيك- إلا في هذه الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به وندعو به من وراءنا، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتؤدي الخمس من المغنم)].
مبنى الحديث أو المراد من الحديث إثبات أن أعمال الجوارح من الإيمان؛ لأنه قال: (آمركم بالإيمان أتدرون ما الإيمان؟) ثم عرف الإيمان بما عرف به جبريل عليه السلام الإسلام، حينما قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً) فعرف الإسلام في حديث جبريل بالأعمال الظاهرة وهي أعمال الجوارح، وعرف الإيمان بالأعمال الباطنة وهي أعمال القلب؛ لأنه قال له: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه) كل هذه أعمال قلوب، والإسلام أعمال ظاهرة كما في حديث جبريل، وهذا أمر مقرر عندهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الإيمان هنا بأعمال الجوارح، ليدل على أن أعمال الجوارح من الإيمان.
قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتؤدي الخمس من المغنم)، فكل هذه أعمال جوارح، ومع هذا أطلق النبي عليه الصلاة والسلام عليها اسم الإيمان.
والإيمان والإسلام كالفقير والمسكين وغيرها من سائر المصطلحات التي تشبه المترادفات، إذا ذكرا في دليل واحد كان لكل منهما مدلول، أي أنه إذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد فلكل واحد منهما مدلول، كحديث جبريل حينما ذكر الإيمان مع الإسلام، فكان للإيمان معنى وللإسلام معنى آخر، أما إذا ذكر الإيمان وحده فإنه يشمل معه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده شمل معه الإيمان.
أما مصطلح الدين فإنه يشمل ذلك كله، ولذلك حينما تكلم جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان وأمارات الساعة وغير ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) لم يقل: أتاكم يعلمكم الإيمان والإسلام والإحسان وغير ذلك، وإنما قال: أتاكم يعلمكم دينكم، فمصطلح الدين يشمل كل ذلك.
وفي حديث ضعيف كذلك: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإسلام في القلب، وكلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون)].(26/6)
أحاديث أبي ذر وجرير بن عبد الله في تفسير الإيمان بالعمل
[وعن مجاهد (أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:177] إلى آخر الآية)].
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس) ولم يقل الإيمان، لكن هل الإسلام إذا ذكر وحده في هذا الدليل شمل معه الإيمان أم لا؟ أنا قلت إنهما إذا ذكرا جميعاً في دليل واحد كان لكل منهما مدلوله، وإذا ذكر واحد اشتمل على الآخر.
ففي حديث [جرير البجلي يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله)]، ولم يذكر شهادة أن محمداً رسول الله للزومها واقترانها؛ لأنه لا يقبل من أحد توحيد إلا إذا آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام [(وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)].
[وعن جرير قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وعلى فراق الشرك) أو كلمة هذا معناها].
وحديث [جرير قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا -أي: يسرع نحونا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأن هذا الراكب إياكم يريد، فانتهى إلينا الرجل فسلم، فرددنا عليه السلام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: من أين أقبلت؟ قال: من أهلي وولدي وعشيرتي قال: فأين تريد؟ قال: أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: قد أصبته! قال: يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت قال: قد أنذرت)].(26/7)
حديث معاذ في أن رأس الأمر الأعمال
[وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (رأس هذا الأمر -أي: رأس هذا الإيمان والإسلام- أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن قوام هذا الأمر)] أي: الشيء الذي لا يقوم هذا الأمر إلا به، ولا يثبت إيمان العبد ولا إسلامه إلا به، قال: [(إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن ذروة السنام من هذا الأمر الجهاد في سبيل الله، إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا هم فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)]، أي: إن قالوها نفاقاً قبلناها منهم وحسابهم على الله.(26/8)
حديث أبي هريرة في أنه لا قول إلا بعمل
وجاء [عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا باتباع السنة)].
هذا الحديث حديث ضعيف جداً، لكن هو عقيدة أهل السنة والجماعة التي اتفقت كلمتهم عليها: لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
أما قوله: (لا قول إلا بعمل) فاحتراز من مذهب المرجئة الذين يقولون: لا علاقة للعمل بالإيمان، وقد اضطروا أن يقولوا: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنه لا علاقة للأعمال بالإيمان عندهم، فيستوي عندهم من عمل جميع المحرمات وترك جميع المأمورات مع جبريل عليه السلام.
وأنتم تعلمون أن ترك الأمر وارتكاب النهي فسق وليس كفراً، ولو قلنا إن الوقوع في هذه الكبائر والمهلكات كفر، لوافقنا الخوارج في معتقدهم في تكفير مرتكب الكبيرة.
ولذلك فإن أهل السنة والجماعة متفقون على أنه لا قول إلا بعمل، أي: لا ينفع القول إلا ومعه العمل، ولا ينفع القول والعمل إلا بنية، وهي الإخلاص لله عز وجل.
ولا يمكن لرجل أن يقول قولاً وأن يعمل معه عملاً وأن يخلص نيته، إلا إذا كان ذلك كله على منهاج النبوة، وعلى الصراط المستقيم، وذلك احترازاً من البدع؛ لأن المرء ربما يقول قولاً ويعمل عملاً صالحاً وينوي بذلك إخلاصاً، لكنه يقع في البدع، فيقع في الشرك، أي: أن هؤلاء الذين يطوفون حول المقابر وغيرها بلا شك أننا نقول: هؤلاء أناس جاهلون مخلصون، فالواحد منهم يتصور أن عمله هو ذروة الإيمان، وأنه عمل صالح يتقرب به إلى الله، ويأتي بالعجول من الأماكن البعيدة إلى تلك القبور ثم يذبحها، لا شك أن هذا عمل كفري شركي، لكن لا يكفر به! وهناك فارق كبير جداً بين الحكم على العمل بأنه كفر وبين الحكم على العامل، أما العمل فباتفاق، لأن هذا ذبح أو نذر، والذبح والنذر عبادة يجب صرفها لله عز وجل، فإن صرفت لغير الله كانت كفراً وشركاً.
لكن المعطل لقيام هذا الحكم على العامل موانع أخرى، كقيام الجهل، فإذا كان عالماً بأن ما يعمله شرك كان مشركاً، أما إذا كان جاهلاً بذلك وهو يتصور أن هذه عبادة وهذا إخلاص لله وعمل صالح؛ فلا شك أن أحداً لا يجرؤ على إلحاق الكفر به.
فالعمل شرك، وهذا أمر مفروغ منه، أما العامل فيتوقف عن إلحاق الحكم به حتى تتحقق فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع.
هب أنه رجل مجنون عمل هذا، وأنت أطلقت عليه لفظ الكفر، والجنون مانع من إلحاق الحكم؛ لأن المجنون ليس مكلفاً، وكذلك الصغير لا يعرف شيئاً ولا يعقل شيئاً، والإكراه مانع كذلك.
فهذا الحديث المرفوع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بإخلاص لله عز وجل) هذا وإن كان حديثاً ضعيفاً إلا أن هذا صمام الأمان فيما يتعلق في الكلام عن الإيمان عند أهل السنة والجماعة.(26/9)
ما جاء عن الصحابة والتابعين في أن الإيمان قول وعمل(26/10)
أقوال علي وابن مسعود والسفيانين في أن الإيمان قول وعمل
جاء عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنها أنهما قالا: [لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة].
وكذلك جاء عن الحسن البصري.
[وقال الحميدي: حدثنا يحيى بن سليم قال: سألت سفيان الثوري عن الإيمان؟] وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة هما من أئمة أهل السنة، أما سفيان بن عيينة ففي مكة والمدينة، وأما الثوري ففي الكوفة.
سئل الثوري عن الإيمان؟ [فقال: قول وعمل].
وهذا فيه رد على المرجئة والجهمية.
فالمرجئة يقولون: الإيمان قول فقط، فلو أن إنساناً قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ كان كجبريل وميكائيل، وإن ترك جميع المأمورات وارتكب جميع المحرمات، مع أن هذا ينقض الإجماع الذي انعقدت عليه كلمة أهل السنة والجماعة من أساسه.
إبراهيم بن عيينة أخو سفيان بن عيينة حينما سمع أخاه يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال لـ سفيان بن عيينة قل: يزيد، فنظر إليه سفيان بن عيينة وقال: يا أحمق! بل والله ينقص الإيمان حتى لا يبقى منه في القلب شيء، أي: أنه يزول بالكلية.(26/11)
أقوال نافع الجمحي وعبيد بن عمير ووكيع والحسن ومجاهد والزهري في أن الإيمان قول وعمل
[وقال يحيى بن سليم: وسألت نافع بن عمر الجمحي، فقال: قول وعمل، وسألت مالك بن أنس، فقال: قول وعمل، وسألت سفيان بن عيينة، فقال: قول وعمل، وسألت جريجاً، فقال: قول وعمل، وسألت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقال: قول وعمل، وسألت الفضيل بن عياض، فقال: قول وعمل.
وقال الحميدي: وسمعت وكيعاً يقول: أهل السنة يقولون: قول وعمل، والمرجئة يقولون: قول، والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة].
إذاً: تعريف الإيمان عند أهل السنة: قول وعمل يزيد وينقص.
أحياناً يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، وأحياناً يقولون: قول وعمل وإخلاص وكلها معان واحدة ومردها إلى بعضها.
المرجئة يقولون: قول بلا عمل، أو أن العمل ليس شرطاً في الإيمان.
الجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة.
أي: أنهم لا يشترطون حتى مجرد التلفظ، فلو أن الإنسان عرف الله عز وجل بقلبه كان ذلك كافياً في إثبات كمال وتمام الإيمان عنده، حتى وإن ترك التلفظ مع القدرة عليه، وهذا كلام في غاية الفساد والنكران، بدليل أن إبليس عليه لعنة الله يعرف الله عز وجل، واعترف بربوبيته وإلهيته في غير ما آية من كتاب الله عز وجل، فهو الذي قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] أي: أنه معترف بأن الله هو الرب وعارف بذلك موقن به.
ولذلك ابن تيمية يقول: وعلى أصول مذاهب الجهمية فإن إبليس في قمة الإيمان.
فهذا من لوازم قول الجهمية، أعني أنه يجب عليهم أن يقروا بأن إبليس عليه لعنة الله في قمة الإيمان، فهو وجبريل وميكائيل والأنبياء والمرسلون في مرتبة واحدة من مراتب الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو المعرفة.
[وقال عبيد بن عمير الليثي: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يفعل، وعمل يعمل].
[وعن الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال].
كلها معان واحدة تصب في بوتقة تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة.
[وعن مجاهد قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص].
[وعن هشام عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل].
[وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله: قال الزهري: نرى أن الكلمة الإسلام، والإيمان العمل].
هذا الكلام ينبغي الوقوف عنده؛ لأن الزهري من كبار أئمة السنة.
فالإمام الزهري يقول: نرى أن الكلمة الإسلام، أي: أنه يثبت الإسلام للمرء بمجرد التلفظ والقول.
كأنه يقول: الإسلام هو قول.
قال: والإيمان العمل، أي أنه يثبت الإسلام عند الزهري لصاحبه بمجرد القول، ولا يثبت له الإيمان الواجب والإيمان المستحب إلا بالعمل، فجعل أصل العمل هو الإيمان، وجعل أصل الإيمان هو العمل، فهو لا يقول إن العمل متمم أو مكمل للإيمان، إنما يقول إن ذات العمل هو الإيمان، كما أن ذات الإسلام هي الكلمة، وهذا كلام في غاية الوجاهة.(26/12)
كلام الأوزاعي والثوري في أن الإيمان قول وعمل
[قال الإمام الأوزاعي -وهذا إمام الشام في زمانه، وسيد من سادات المسلمين- قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة.
وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين].
[وقال وكيع: كان سفيان يقول: الإيمان قول وعمل، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل].
[وقال سفيان: كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة للسنة].(26/13)
حديث البراء بن عازب في تفسير الإيمان بالصلاة
[وعن أبي إسحاق عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم]، وأنتم تعلمون الحديث الذي في الصحيحين حينما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة وصلى تجاه بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم أتى الأمر بتحويل القبلة إلى بيت الله الحرام، فأشفق الصحابة رضي الله عنهم على صلاتهم السابقة، وخافوا أن تكون هباء منثوراً هي وصلاة من صلى من إخوانهم الذين ماتوا، فقالوا: (يا رسول الله! هل صلاتنا لنا -أي: محسوبة لنا- أم أنها ضائعة؟ فأنزل الله تعالى قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]) أي: صلاتكم، فسمى الصلاة إيماناً، فالصلاة هي من أعمال الجوارح وليست من أعمال القلوب، ومع هذا سماها الله إيماناً.
وإذا رجعت إلى كتاب فتح الباري على كتاب صحيح البخاري لوجدت في كتاب الإيمان باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب الصيام من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان وذكر أعمال الجوارح كلها ليثبت أن الإيمان قول وعمل، أما من قال لا علاقة للعمل بالإيمان فقوله من أبطل الباطل.
[قال أبو رزين: (يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، والجنة والنار، والحساب والبعث، والقدر خيره وشره، فذلك الإيمان كما يحب الظمآن الماء البارد في اليوم الصائف يا أبا رزين)].(26/14)
حديث معقل بن عبيد الله عن قدوم سالم الأفطس بالإرجاء ونفور السلف منه
[وعن معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء]، وسالم الأفطس كان زعيماً من زعماء المرجئة.
قال: [فعرض ما معه من إرجاء، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً].
الكلام الجميل -يا إخواني- أنك إذا سمعت كلاماً منكراً فيجب عليك أن تنفر منه نفاراً شديداً، ولذلك فإن أهل العلم يحذرون من الجلوس إلى أهل البدع، فيقولون: إذا لقيت الرجل من أهل البدع ففر منه فرارك من المجذوم، أو فرارك من الأسد؛ لأنك لو سلمت نفسك للأسد فأكل بدنك، خير من أن تسلم نفسك لصاحب بدعة يأكل قلبك ويأكل إيمانك.
وقد استوعبنا هذا الباب استيعاباً عظيماً جداً لأهميته في دروس الاعتقاد.
[قال: فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً، وكان أشدهم نفاراً ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك، فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله ألا يؤيه وإياه سقف بيت إلا المسجد].
أي: أن عبد الكريم قال: والله لا يمكن أن أجتمع مع هذا المبتدع إلا في بيت الله فقط، ولا يؤيني وإياه سقف بيت قط إلا بيت الله.
[قال: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابه، فإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته قرأ هذا الحرف {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:110] قال: قلت: إن لي إليك حاجة فأخلنا]، أي: أني أريد أن أتكلم معك يا عطاء، فلو سمحت أريدك وحيداً بغير أن يحضرنا أحد.
[قال: فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين]، أي: يريدون أن يقولوا: إن أعمال الجوارح ليست من الإيمان.
[قال: أوليس الله عز وجل يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]]، إذاً: فالصلاة والزكاة من الدين.
أما قول هؤلاء إن الصلاة والزكاة وأعمال الجوارح ليست من الدين ولا من الإيمان؛ فهو قول فاسد، ويرد عليهم بهذه الآية.
[قال: فقلت له: إنهم يقولون ليس في الإيمان زيادة.
فقال: أوليس الله تعالى قال فيما أنزل: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173] قال: قلت له: إنهم قد انتحلوك]، أي: إنهم يفترون عليك ويقولون: أنت الذي علمتهم أن أعمال الجوارح ليست من الإيمان، كما أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهم افتروا هذا الكلام عن عطاء.
[فقال: إن ابن ذر دخل عليك يا عطاء في أصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقبلت هذا الأمر.
فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو ما كان هذا مني.
مرتين أو ثلاثاً.
ثم قال: ثم قدمت المدينة فجلست إلى نافع الفقيه مولى ابن عمر فقلت: له يا أبا عبد الله! إن لي إليك حاجة.
فقال: أسر أم علانية؟ فقلت: لا بل سر.
فقال: رب سر لا خير فيه، بل كثير من السر لا خير فيه.
قلت: ليس من ذاك، فلما صلينا العصر قام ويده بيدي وخرج من الخوخة -أي: من الباب- ولم ينتظر القاص]، أي: لم ينتظر مجلس القصاص.
[فقال: ما حاجتك؟ قلت: أخلني من هذا كان معه ولده عمر فقال له: تنح يا عمر حتى يتكلم عمك بما يريد.
قال: فذكرت له بدو أمرهم]، أي: بداية ظهور أمر هؤلاء المرجئة.
فقال نافع الفقيه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أُمرت أن أضرب بالسيوف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله).
قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونحن نشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل ذلك.
قال: فنتر يده من يدي -أي: جذب يده من يدي- وقال: من فعل هذا فهو كافر! قال معقل: ثم لقيت الزهري فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله! أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).
قال معقل: ثم لقيت الحكم بن عتيبة فقلت له: إن ميموناً وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا قولهم فقبلت قولهم.
قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلت: لا.
قال: دخل علي منهم اثنا عشر رجلاً وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد! أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية؟ فقال: (يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، أفترى أن هذه مؤمنة؟ فقال لها رسول الله عليه الصلاة و(26/15)
ذكر فقهاء التابعين ومن بعدهم ممن يقول الإيمان قول وعمل
[جرير بن عبد الحميد قال: الإيمان قول وعمل، والإيمان يزيد وينقص، فقيل له: كيف تقول أنت؟ قال: أقول: أنا مؤمن إن شاء الله].
فمسألة: أنا مؤمن إن شاء الله، تدخل تحت باب ما يسمى بالاستثناء في الإيمان؛ لأن قوله (إن شاء الله) استثناء، فهل يجوز للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أم يقطع بأنه مؤمن؟ هذا باب مستقل اسمه باب الاستثناء في الإيمان، أي: جواز الاستثناء من عدمه، وسنتعرض له بإذن الله تعالى في الدروس المقبلة.
[قال إبراهيم: وسئل الفضيل بن عياض وأنا أسمع عن الإيمان، فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان، والقبول بالقول، والعمل به.
وسمعت يحيى بن سليم يقول: الإيمان قول وعمل]، وكذلك ابن جريج وأبو إسحاق الفزاري وابن المبارك والنضر بن شميل ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سليم وابن شهاب والحسن البصري ومالك بن أنس ومحمد بن الطيب وهشام بن حسان وعبد الرزاق ومعمر وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وابن عيينة وأحمد بن حنبل وأبو داود السجستاني وغير واحد ذكرهم.
ولذلك [قال ابن بطة: سمعت بعض شيوخنا رحمهم الله يقول: سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ قال: هو قول ونية وعمل وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة].
هذا هو ملخص عقيدة أهل السنة والجماعة، فكلام سهل بن عبد الله التستري في الإيمان كلام رائع جداً، يكتب بماء من ذهب.
[قال الشيخ ابن بطة: وحسبك من ذلك ما أخبرك عنه مولاك الكريم بقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] أي: هذا هو الدين القويم.
فإن هذه الآية جمعت القول والعمل والنية، فإن عبادة الله لا تكون إلا من بعد الإقرار به، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا يكون إلا بالعمل، والإخلاص لا يكون إلا بعزم القلب والنية.
وأبو عبيد القاسم بن سلام كان من أكابر علماء السنة في زمانه، وله تصانيف عديدة ممتعة ورائعة، وقد ذكرت ترجمته في محاضرة سابقة، أكثر من ثلاث ساعات وأنا أتكلم عن مناقب هذا الإمام، فإذا أردتم التعرف عن واقع هذا الرجل فمن كتاب سير أعلام النبلاء، أو التاريخ الكبير للذهبي، فالتاريخ الكبير قد استوعب ترجمة هذا الإمام استيعاباً عظيماً جداً، وكتاب التاريخ الكبير للذهبي أكثر من مائة مجلد.
[قال القاسم بن سلام: هذه تسمية من كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص]، ثم يبدأ بعد ذلك بذكر أسماء من قال من السلف: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.(26/16)
ذكر بعض فقهاء الأمصار الذين روى عنهم القاسم بن سلام أن الإيمان قول وعمل
ثم ذكر أئمة أهل السنة وكلامهم في الإيمان من أهل مكة، ومن أهل المدينة، ومن أهل اليمن، ومن أهل مصر.
فمن أئمة أهل السنة [من أهل مصر والشام: مكحول الشامي والأوزاعي الشامي وسعيد بن عبد العزيز الشامي والوليد بن مسلم الشامي ويونس بن يزيد الأيلي المصري ويزيد بن أبي حبيب المصري ويزيد بن شريح المصري وسعيد بن أبي أيوب المصري والليث بن سعد المصري وعبيد الله بن أبي جعفر ومعاوية بن صالح وحيوة بن شريح وعبد الله بن وهب]، وهؤلاء مصريون.
قال: [وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة ميمون بن مهران ويحيى بن عبد الكريم].
ومن أهل الكوفة فلان وفلان، [ومن أهل البصرة الحسن البصري وابن سيرين وقتادة وبكر بن عبد الله المزني وأيوب السختياني ويونس بن عبيد وسليمان التيمي وعبد الله بن عون وحسان بن حسان وهشام الدستوائي وشعبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأبو الأشهب]، وغير واحد من هؤلاء.
[ومن أهل واسط: هشيم بن بشير وخالد بن عبد الله الواسطي وعلي بن عاصم ويزيد بن هارون وصالح بن عمر وعاصم بن علي.
ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم وأبو جمرة نصر بن عمران وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل وجرير بن عبد الحميد الضبي هؤلاء كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وهو قول أهل السنة والجماعة، والمعمول به عندنا، وبالله التوفيق].
قوله: (والمعمول به عندنا) أي: الذي نعتقده أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وقال أبو عثمان محمد ابن الإمام محمد بن إدريس الشافعي سمعت أبي -وهو محمد بن إدريس الشافعي - يقول ليلة للحميدي: ما تحتج عليهم بآية هي أحج من قوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]].
أي: الإمام الشافعي يذكر لشيخه الإمام الحميدي إذا ناظر المرجئة ذات يوم، وطلبوا منه آية في كتاب الله ما يحتج به عليهم.
فالمناظرة متعلقة بهل العمل من الإيمان أم لا؟ إذاً: الخلاف الذي بين المرجئة وأهل السنة في اعتبار أن الأعمال من الإيمان أم لا؛ فهذا هو بيت القصيد في مخالفة المرجئة لأهل السنة.
فالإمام الشافعي مع جلالته يكلم شيخه الإمام الحميدي صاحب المسند ويقول له: إذا ناظرت المرجئة ذات يوم فطلبوا منك آية في كتاب الله، فاحتج عليهم بقول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]؛ لأن الدين يشمل الإيمان والإسلام والإحسان.
[وناظر حرملة بن يحيى رجلين بحضرة الشافعي بمصر في الإيمان، فقال أحدهما: إن الإيمان قول، فحمي الشافعي من ذلك، وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فطحن الرجل وقطعه].
أي: قام عليه بالأدلة من الكتاب والسنة حتى أفحمه.
فالطحن في مذهب العلماء هو إفحام الخصم بالحجة.
[قال الشيخ ابن بطة: فهذا طريق الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين الذين جعلهم الله هداة هذا الدين، موافق ذلك لنص التنزيل وسنة رسوله الأمين، فنعوذ بالله من عبد بلي بمخالفة هؤلاء، وآثر هواه، ورد دين الله وشرائعه وسنة نبيه إلى نظره ورأيه واختياره، واستعمل اللجاج والخصومة يريد أن يطفئ نور الله {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]].
يبقى لنا إن شاء الله في الدرس القادم إثبات زيادة الإيمان ونقصانه من كتاب الله، ثم من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم من أقوال الصحابة والتابعين وسائر فقهاء الملة.(26/17)
الأسئلة(26/18)
التصرف في مال الربا
السؤال
توفي أخ لي من أبي وترك أولاداً يحتاجون إلى النفقة، وترك ديناً لبنك ولأشخاص معينين، ومبلغاً لمصاريف الجنازة والتجهيز والسرادق وغير ذلك.
فهل يجوز له أن يدفع مال الربا في هذه المصاريف؟
الجواب
يجوز له أن يدفع مال الربا للبنك؛ كأنه يقول: هذه بضاعتكم ردت إليكم، فهو ربا أخذ منكم ورد إليكم، ويستغفر لأخيه الذي مات.(26/19)
حكم العمل في الضرائب
السؤال
ما حكم العمل بالضرائب؟
الجواب
العمل في الضرائب حرام.
والسائل يسأل سؤالاً مهذباً في نهاية الأمر فيقول: وهل لو أخذت بقول من يبيح العمل في الضرائب، وقدمته على قولكم؛ فإني مؤاخذ بذلك ومحاسب عليه أم ماذا؟ ثم يقول: والله ما أريد إلا الوصول للحق في هذه المسألة؟ الشيخ: جزاك الله خيراً وقد صدقناك وإن لم تقسم؛ لأنك عندنا صادق ابتداء، في الحقيقة قولك: هل عليك من حرج إذا أخذت بقول غيري وتركت قولي؟ أقول: لا حرج عليك إذا لم تكن صاحب هوى، وأنت قد أقسمت أنك لست صاحب هوى بدليل أنك تريد الوصول للحق، والذي يريد الوصول للحق يكون أبعد الناس عن الهوى.
فإما أن تكون رجلاً من أهل العلم؛ لأن هذه مسألة لها تعلق بالعلم، أو طالباً من طلاب العلم يستطيع أن يقرأ في كلام أهل العلم وأدلتهم ويرجح بين هذا وذاك، فما ترجح في حقك فهو دين الله تعالى بحق، إذا كنت طالباً من طلاب العلم الذين لهم نظر وتمييز ونظر ثاقب في الأدلة، والموازنة بين أقوال أهل العلم.
فأقول: انظر في قولي وفي قول من سألتهم غيري، فإذا ترجح لديك قولي فهو دين الله تعالى في حقك يجب أن تعمل به، وإذا ترجح لديك قول الآخرين فهو دين الله تعالى في حقك، ولا حرج عليك أن تدع قولي، فأنت مسئول بين يدي الله عما غلب على ظنك أنه هو دين الله الذي نزل من السماء.
أما إذا كنت لست طالباً للعلم ولا لك نظر ولا بصر ثاقب تنظر في الأدلة وفي كلام أهل العلم، فواجب عليك أن تسأل من هم أعلم الناس لديك وأوثق الناس ديانة لديك، فإن استووا فالاحتياط في حقك أوجه.
إذا استوى عندك في العلم والديانة والصيانة من قال بالجواز ومن قال بالمنع، فلا شك أن القائل بالمنع في حقك أحوط؛ لأنه لا يختلف أحد أن المنع عن المشتبهات أحوط، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين والحرام بين، وبنيهما أمور مشتبهات) فلا أقل من أن تعد هذا الأمر من المشتبهات (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.(26/20)
شرح كتاب الإبانة - الإيمان قول وعمل يزيد وينقص [3]
الإيمان يزيد وينقص، وقد جاءت بذلك الأدلة الكثيرة من القرآن الكريم، ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والآثار الواردة عن السلف الصالح، ولا يخالف ذلك ولا ينكره إلا مرجئي خبيث، مريض القلب، زائغ البصر والبصيرة، قد تلاعبت به الشياطين، فأغوته عن الدين.(27/1)
باب زيادة الإيمان ونقصانه وما دل على الفاضل فيه والمفضول
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فهذا الجزء السابع من كتاب الإبانة لـ ابن بطة، وفيه أربعة أبواب: الباب الأول: في زيادة الإيمان ونقصانه.
الباب الثاني: في الاستثناء في الإيمان، أي: هل يجوز للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو يسأل الإنسان أخاه فيقول له: هل أنت مؤمن؟ وما موقف السلف من هذه القضية.
الباب الرابع: القول في المرجئة وما روي فيهم من إنكار العلماء في سوء مذهبهم.
فالباب الذي يعنينا في هذه الليلة، هو باب إثبات أن الإيمان يزيد وينقص.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [اعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل تفضل بالإيمان على من سبقت له الرحمة في كتابه -أي: في اللوح المحفوظ- ومن أحب أن يسعده الله عز وجل، ثم جعل المؤمنين في الإيمان متفاضلين]، أي: أن أهل الإيمان بينهم تفاضل، فهو عند فلان كثير وعند آخر قليل، فأهل الإيمان في إيمانهم يتفاضلون، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ثم جعله فيهم يزيد ويقوى بالمعرفة والطاعة، وينقص ويضعف بالغفلة والمعصية].
إذاً: الإيمان يزيد بطاعة الله عز وجل وبمعرفة الله تعالى والإيمان به، وينقص بالمعصية وبالبعد عن الله عز وجل.
قال: [وبهذا نزل الكتاب، وبه مضت السنة، وعليه أجمع العقلاء من أئمة الأمة، ولا ينكر ذلك ولا يخالفه إلا مرجئ خبيث قد مرض قلبه، وزاغ بصره، وتلاعبت به إخوانه من الشياطين، فهو من الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202].(27/2)
الأدلة القرآنية على زيادة الإيمان ونقصانه(27/3)
الآيات التي ورد فيها ذكر زيادة الإيمان أو الهدى أو التقوى
قال: [وأما ذكر الحجة في ذلك]، أي: في إثبات أن الإيمان يزيد وينقص: [ففي كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]] فقوله سبحانه: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) دليل على زيادة الإيمان، ولو كان الإيمان لا يزيد لم يكن لمنطوق هذه الآية أي دلالة، قال: [{فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]].
[وقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]].
فقوله: ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ)) هذا باب من أبواب الطاعة، أعني قراءة القرآن والذكر والتسبيح والتكبير، فإذا تلبس به العبد زاد إيماناً، {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [آل عمران:173].
[وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]].
((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا)) أي: طلبوا الهداية وتمنوها، واتخذوا السبيل العملي لتحقيق الهدى والتقى، فيمتن الله تعالى عليهم بأن يمنحهم الهدى وأن يزيد في تقواهم.
[وقال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]]، فالهدى هو الإيمان.
[وقال: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]]، أي: أن الله تعالى يهدي بهذا القرآن أقواماً ويضل به آخرين.(27/4)
قوله: (ولكن ليطمئن قلبي)
قال: [وقال عز وجل: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] يريد: لأزداد إيماناً إلى إيماني، بذلك جاء التفسير]، فقد أجمع المفسرون على أن الاطمئنان إنما هو طلب المزيد من الإيمان، لا أصل الإيمان.
وهذه الآية وردت في حق سيدنا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي))؛ فإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في أن الله تعالى هو الذي يحيي الموتى، ولذلك لم يطلب من ربه أن يريه بعث الموتى، وإنما طلب من ربه أن يريه الكيفية التي يبعث بها الموتى، فهو سأل عن الكيفية ولم يسأل عن أصل القضية، لم يقل: يا رب من الذي يحيي الموتى؟ لأن إبراهيم عليه السلام يعلم ذلك علماً يقينياً لا يحتاج إلى دلالة، وإنما سأل عن الكيف يا رب أنا أريد أن أرى ميتاً تحييه أمامي، حتى يزداد بذلك إيماني ويقيني، وهذا لا ينفي أصل الإيمان وأصل اليقين عنده، فهو على يقين تام بأن الله هو الذي يحيي الموتى ويحيي العظام وهي رميم، لكنه طلب مزيد الإيمان ومزيد التقوى بآية وعلامة أمامه، ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى))، فالله تعالى يسأله وهو أعلم به، حتى لا يأتي من بعد ذلك من يقول: إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في أن الله تعالى هو الذي يحيي الموتى، فالله هنا قطع هذه الشبهة فقال: ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى))، أي: أنا مؤمن، فإذا أتى من يقول إن إبراهيم كان شاكاً نقول له: قد سأله الله هذا السؤال ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ))؟ ((قَالَ بَلَى)) ولا يصح أن يكون إبراهيم كاذباً في هذا الجواب، ومن قال إن نبياً من الأنبياء يكذب فقد كفر؛ لأن الكذب كبيرة والأنبياء مبرءون من الكبائر معصومون منها، وفي الصغائر خلاف ونزاع بين أهل العلم، والراجح من الأدلة في الكتاب والسنة أن الأنبياء يقعون في صغائر الذنوب، ولكنهم سرعان ما يتوبون منها، فيكونون بعد التوبة أحسن من حالهم قبل الذنب.
فحينئذ قال الله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: ليزداد إيماناً.
[وقال سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال: ليزداد، يعني: إيماناً].(27/5)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا)
قال: [وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ} [النساء:136]]، فالله تعالى خاطب أهل الإيمان وطالبهم بزيادة الإيمان، أن يسلكوا السبل المحصلة لزيادة الإيمان في القلوب، بدليل أنه لم يقل لهم يا أيها الناس ولا يا أيها المسلمون، وإنما قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فأثبت لهم الإيمان، ((آمِنُوا)) أي: ازدادوا إيماناً بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل عليكم.
قال: [فلو لم يكونوا مؤمنين لما قال لهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، وإنما أراد بقوله ((آمِنُوا)): دوموا على إيمانكم وازدادوا إيماناً بالله وطاعة، واستكثروا من الأعمال الصالحة التي تزيد في إيمانكم، وازدادوا يقيناً وبصيرة، ومعرفة بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وقد يقول الناس بعضهم لبعض مثل ذلك، في كل فعل يمتد ويحتمل الازدياد فيه، كقولك للرجل يأكل: كل، تريد: زد أكلك]، أي: وهو في حقيقة الأمر يأكل؛ لكنك تطلب منه مزيداً من الأكل، أو اشرب يا رجل، وهو يشرب مثلاً (شاي) فتريد منه أن يشرب الآخر، أي: ازدد شرباً.
وهذا في الأمر الذي لا منتهى له، والإيمان لا نهاية له، ولذلك مهما زاد فيه الإنسان يطالب بالزيادة، بخلاف الأمر الذي له نهاية، لو أن واحداً جالس فأقول له: اجلس، يقول لي: أنا جالس، وآخر قائم فأقول له: قم، يقول لي: أنا قائم، فالقيام له نهاية والجلوس له نهاية.
فالأمور التي لها نهاية لا يطالب المرء فيها بالمزيد، أما الأمر الذي لا نهاية له فالإنسان مهما استزاد منه يطالب بالزيادة، فأعظم مثل لذلك هو الإيمان.
قال: [فالإيمان لا منتهى له، وهو شيء لا يقبل الحد، حتى الأنبياء أنفسهم يطالبون بالزيادة، بدليل أن الله تعالى فضّل بعض الأنبياء على بعض، وإنما ذلك بالإيمان، ولا يجوز أن يكون ذلك في الأفعال المتناهية كما قلت.
قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]] أي: بعض الأنبياء درجته فوق درجة بقية الأنبياء، بدليل أن تكليم الله عز وجل لبعض عباده شرف عظيم جداً، فالله عز وجل كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، فإن لموسى عليه السلام منزلة عظيمة جداً، ولإبراهيم منزلة عظيمة بهذه الخلة، ونبينا عليه الصلاة والسلام فوق ذلك كله، وقد حباه الله تعالى بما لم يؤته أحداً من الأنبياء.
ولذلك فإن الجعد بن درهم أنكر أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، كما أنكر أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، فأتى به خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى، وبعد أن خطب خالد خطبة العيد نزل وقال: أيها الناس! ضحوا فإني مضح بـ الجعد بن درهم، ونزل من المنبر، وقال له: ألست الذي تزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً؟ قال: أعتذر أو أتوب، قال: هذا بينك وبين الله، والذي أمرنا به هو قتلك، وذبحه في أصل المنبر؛ لأن الذي يقول إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً، لا بد أنه مكذب لله تعالى، ومكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ومكذب للصحابة الذين نقلوا إلينا هذا الكلام الرباني الإلهي.
وهذا الرجل اختلف أهل العلم فيه، فمنهم من قال: إنما قتله القسري درءاً لفتنته، ولئلا يتمثل به أحد، ومنهم من قال: بل يكفر بذلك، وإنما قتله خالد ردة، وهذا الذي يترجح لدي.(27/6)
الآيات الدالة على المفاضلة بين الرسل بسبب زيادة الإيمان
قال: [وقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55]]، إذا كان التفضيل بين الأنبياء والمرسلين بسبب الإيمان، فلأن يكون في أتباع الأنبياء والمرسلين من باب أولى.
[وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]]، أي: بسبب ما عملوا.
إذاً: مناط الزيادة والنقصان في الإيمان هو العمل.
[وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]]، أي: كلاً وعد الله تعالى دخول الجنة التي هي الحسنى، ولكن لا يستوون في الجنة، فبعضهم في الجنة في درجة أعلى من بعض، فالذين هاجروا وقاتلوا قبل الفتح، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم؛ فوق الذين آمنوا وهاجروا بعد الفتح.(27/7)
الآيات الدالة على تفاضل المؤمنين بزيادة الأعمال
قال: [وقال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95]]؛ لأن هؤلاء مستثنون؛ لأن الذي منعهم من الجهاد هو الضرر؛ سواء كان الحاجة أو المرض أو صغر السن أو الأنوثة أو غير ذلك [{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء:95]]، والتقدير: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، [{فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء:95]]، هؤلاء أحسن من هؤلاء بدرجة [{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95]]، والأجر العظيم هو {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]].
[وقال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]]، الذين هاجروا أفضل من الأنصار، وهذه الآية كانت حجة عمر رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة، حينما اختلف المهاجرون والأنصار فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتى عمر بن الخطاب فذكرهم بفضل المهاجرين وفضل سبقهم في الإسلام، وفضل هجرتهم من مكة إلى المدينة، ثم بين فضل الأنصار، وأنه لم يثبت لهم إلا بعد أن ثبت الفضل للمهاجرين لأنهم السابقون الأولون؛ قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} أي: والأنصار من بعدهم، [{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}].
إذاً الترتيب في الفضل: المهاجرون، الأنصار، التابعون لهم بإحسان جيلاً بعد جيل إلى قيام الساعة.
[وقال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]]، وهذه أعظم الدرجات.
قال: [فقد علم أهل العلم والعقل أن السابق -أي: من المهاجرين- أفضل من المسبوق، والتابع دون المتبوع، وأن الله عز وجل لم يفضل الناس بعضهم على بعض بوثاقة الأجسام، ولا بصباحة الوجه، ولا بحسن الزي وكثرة الأموال، ولو كانوا بذلك متفاضلين، لما كانوا به عنده ممدوحين؛ لأن ذلك ليس هو بهم ولا من فعلهم، فعلمنا أن العلو في الدرجات والتفاضل في المنازل؛ إنما هو بفضل الإيمان وقوة اليقين، والمسابقة إليه بالأعمال الزاكية، والنيات الصادقة من القلوب الطاهرة].(27/8)
الآيات الدالة على عدم المساواة بين الصالحين والفاسقين
قال: [قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21]]، يعني: هل يتصور الناس أننا نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء مع الذين اجترحوا واقترفوا السيئات؟ ومدار هذا أن العمل إيمان، [{سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]]، أي: إذا كانوا يتصورون أننا نسوي بين الذي عمل عملاً صالحاً والذي عمل السيئات، فهذا بلا شك من سوء الحكم.
ٌ [وقال الله عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]] يعني: هل يتصور أحد أن الفاجر والتقي عند الله سواء؟ لا يمكن ذلك، وكذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليسوا كالمفسدين في الأرض.
قال: [فهذا وأشباهه في كتاب الله يدل العقلاء على زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل المؤمنين بعضهم على بعض، وعلوهم في الدرجات.
وبمثل ذلك جاءت السنة -يعني: لتؤكد هذا المعنى- عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين.
ولو كان الإيمان كله واحداً لا نقصان له ولا زيادة، لم يكن لأحد على أحد فضل، ولاستوت النعمة فيه، ولا يستوي، وبطل العقل الذي فضل الله به العقلاء، وشرف به الحكماء والعلماء، وبإتمام الإيمان دخل الناس الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون في الدرجات في الجنان عند الله -أي: أنه بالإيمان دخل المؤمنون الجنة، فالدرجات بتفاضلهم- وبالنقصان منه -أي: من الإيمان- دخل المقصرون النار، فنعوذ بالله من النار.
وإن الإيمان درجات ومنازل يتفاضل بها المؤمنون عند الله، ومتى تأمل متأمل وصف الله للمؤمنين وتفضيله بعضهم على بعض، وكيف حزبهم إليه بالسباق]، أي: كيف حفز الله عز وجل المؤمنين للسباق إلى طاعته وزيادة الإيمان.
قال: [وبذلك فضل الله أوائل هذه الأمة على أواخرها، ولو لم يكن للسابقين بالإيمان فضل على المسبوقين، للحق آخر هذه الأمة أولها، وربما فاق عليه]، ولو لم يكن للسبق فضل لربما كان المتأخر أفضل من السابق، وبالتالي فلنا أن نقول إن التابعين أفضل من الصحابة، وإن أتباع التابعين أفضل من التابعين، وهذا كلام لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة.(27/9)
الآيات الدالة على زيادة الإيمان بالأعمال وتفاضل أهله فيه
قال: [قال الله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]]، فالله تعالى يحثنا على السبق في العمل الصالح حتى نحظى بمغفرته سبحانه وتعالى.
[وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجاتهم في السبق، ثم ثنى بالأنصار على سبقهم، ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان، فوضع كل قوم على درجاتهم ومنازلهم عنده سبحانه.
ثم ذكر ما فضل به أولياءه بعضهم على بعض، فبدأ بالرسل والأنبياء فقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55].
وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتأمل ذلك، فقال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ [الإسراء:20 - 21] أي: يا محمد [{كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21].
وقال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]]، والدرجة لا تطلق إلا على العلو، بخلاف الدركة فإنها تطلق على الأسفل، فالجنة درجات والنار دركات، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145] ولم يقل: في الدرجات السفلى أو في أسفل درجة.
[وقال تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3]]، أي: يوضع كل إنسان في درجته ومنزلته على حسب ما عنده من أعمال وإيمان.
[وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10].
وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]]، وهذه الآية صريحة في زيادة الإيمان وزيادة الدرجات.
[وقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95].
وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20].
فهذه درجات الإيمان ومنازله، تفاضل الناس بها عند الله، واستبقوا إليه بالطاعة بها.
فالإيمان هو الطاعة -أي: امتثال الأمر وترك النهي- وبذلك فضل الله المهاجرين والأنصار؛ لأنهم أطاعوا الله ورسوله، ولأنهم أسلموا من خوف الله، وأسلم سائر الناس من خوف سيوفهم].
أي: أنهم أسلموا ابتداء لأنهم خافوا الله تعالى، لكن الناس أسلموا بعد ذلك خوفاً من القتل، ولذلك المهاجرون والأنصار استحقوا السبق على سائر الناس لأنهم سابقوا إلى مغفرة من الله ورضواناً، وأسلم سائر الناس من خوف سيوفهم.
قال: [وفضل الله المهاجرين والأنصار بطواعيتهم لله ولرسوله.
وكذلك قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقال: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] يعني في سنن الرسول]، أي: في سننه وأحواله وأيامه صلوات الله وسلامه عليه.
قال: [وخلق الله الخلق لطاعته، إلا من سبق عليه القول في كتابه بشقوته، فقال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]]، وهذا أسلوب حصر وقصر.
[وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18]، وقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ} [النحل:49].
وقال الله تعالى للسماء والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
فالإيمان يا أخي -رحمك الله- هو القول، والعمل هو الطاعة]، أي: الإيمان هو قول اللسان وقول القلب، والعمل هو الطاعة، [والقول تبع للطاعة والعمل، والناس يتفاضلون فيه على حسب مقادير عقولهم، ومعرفتهم بربهم، وشدة اجتهادهم في السبق بالأعمال الصالحة إليه].(27/10)
الأدلة من السنة على ما ورد عن السلف في زيادة الإيمان ونقصانه
قال: [وقد شرحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضل أهله بعضهم على بعض].(27/11)
الأحاديث الدالة على تأثير المعاصي على الإيمان بالنقصان
قال: [من ذلك]، ما جاء [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى، حتى يعلوه الران)]، يعني: يختم على قلبه بهذا السواد.
[ابن عباس كان يقسم بالله لو أنكم شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أو أبيض، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود].
والمقصود عند جماهير السلف أن السواد والبياض أمر معنوي يتعلق بالبصيرة.
قال: [(إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14])] أي: بسبب ما كانوا يكسبون، علاه الران والسواد كما في [حديث حذيفة في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء؛ حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أبيض لا يضره شيء ما دامت السماوات والأرض، وقلب أسود مرباد -أي: معكر- كالكوز مجخياً -أي: منكوساً ومائلاً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)].
فهذا حديث مرعب ومخيف جداً، فالقلوب قسمان: قلب أبيض بنور الإيمان لا يضره شيء ما دامت السماوات والأرض، وقلب أسود كلما عرضت عليه فتنة أشربها؛ لأنه صاحب هوى وليس صاحب سنة، حتى يعلوه الران، فبعد ذلك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً للسواد الذي علاه، أطفأ الله تعالى عنه نور العلم والإيمان والبصيرة، فصار لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، بل ربما ظن أن المعروف منكراً أو أن المنكر معروفاً، أو ذهب ليأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
وهذه دركات وظلمات بعضها فوق بعض، نسأل الله السلامة لنا ولكم.
[وعن عبد الله بن عمرو بن هند الجملي قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الإيمان يبدو لمظة] أي: كشيء يلمظ لمظة، أي: يرى دقيقاً يسيراً.
قال: [إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، كلما زاد الإيمان زاد البياض -أي: كلما زاد الإيمان بزيادة العمل زاد معه هذا البياض، حتى يكون قلباً أبيض ناصع البياض- فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، كلما زاد النفاق زاد ذلك السواد، فإذا استكمل النفاق اسود القلب كله.
وأيم الله! لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود].
وهذا الإسناد فيه ضعف، إلا أن الروايات التي في الباب تشهد لهذا الكلام.
[وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا أذنب الرجل الذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا أذنب الذنب نكت في قلبه أخرى، حتى يكون لون قلبه لون الشاة الربذاء]، أي: الشاة المغبرة التي ليست إلى السواد ولا إلى البياض.
قال: [وعن مجاهد قال: القلب مثل الكف؛ إذا أذنب الرجل الذنب انقبض بعضه -ثم قبض أصبعاً- وإذا أذنب الذنب انقبض بعضه -ثم قبض أصبعاً، حتى قبض أصابعه كلها- ثم يطبع عليه، فكانوا يرون ذلك الران، ثم قرأ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]]، يعني: زيادة الذنب ليست من الطاعة، فصاحب الذنب يحب أصحاب الذنوب ويواليهم، ويعادي أصحاب الطاعة ولا يحب رؤيتهم، إذا بلغ العبد هذا المبلغ فليعلم أن هذا خطر عظيم جداً عليه.(27/12)
حديث حذيفة في نزول الأمانة في قلوب الرجال ورفعها
[وعن حذيفة رضي الله عنه]، وهو صاحب أحاديث الفتن، وكان يحرص حرصاً تاماً على معرفة ما سيقع بين يدي الساعة، وما سيقع في هذه الأمة من فتن، فكان يسأل عليه الصلاة والسلام دائماً عن ذلك، [قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، والعلماء اختلفوا في الأمانة، فقال بعضهم: هي التكاليف الشرعية، وبعضهم يقول: هي الأمر والنهي، وبعضهم يقول: هي الدين كله.
والراجح أن الأمانة هي الدين كله، وأصل الدين الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بالله هو الذي يدفع صاحبه إلى العمل الصالح، ولا بأس من جمع هذا كله في تفسير الأمانة هنا.
قال: [(حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر -أي: في أصل- قلوب الرجال)]، وذكر الرجال من باب التغليب، والأصل أن النساء يدخلن في هذا الخطاب.
قال: [(ونزل القرآن، فتعلموا من القرآن وتعلموا من السنة)].
ولذلك السلف رضي الله عنهم كانوا يتعلمون الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن تعلموه، وتعلموا السنة فازدادوا بها إيماناً، وهذا جاء صريحاً في حديث عبد الله بن عمر وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي.
[ثم قال حذيفة: (ثم حدثنا النبي عليه الصلاة والسلام عن رفعها)].
إذاً: الحديثان هما: الأول: عن فضل نزول الأمانة، وأن ذلك كان في جذر قلوب الرجال، والكلام هذا رأيناه عياناً، وهذا فيه إثبات خيرية وأفضلية أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
والحديث الثاني: عن رفع الأمانة، أي: كيف ترفع من قلوب الناس، وهذا لم يره حذيفة، وإن كان حذيفة من عند نفسه بالغ أنه في نهاية عمره قد رأى ذلك، وآخر عمر حذيفة بلا شك أنه أقل في الفضل من أول عمره؛ لأن حذيفة كان يعيش مع النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يعيش مع الخلفاء الراشدين فالأمر كان كله هناء وسعادة وإيماناً، لكن بعد ذلك دخلت الفتن بمقتل عثمان رضي الله عنه، وبالحروب التي قامت في نهاية زمن الخلافة وغير ذلك وهذه كلها فتن.
ولذلك حذيفة تأثر تأثراً شديداً بما أدرك من فتن، فقال: كنت أبايع كل من لاقيت أي: إذا أردت أن أبيع وأشتري فأبيع وأشتري من أي أحد من غير أن أسأل عنه، لأنه أحد أمرين: لو كان مؤمناً رده علي دينه ولن يغشني؛ ولو كان يهودياً أو نصرانياً رده علي ساعيه، والساعي هنا هو السيد والوالي.
أي: لو أنه باع من اليهود والنصارى وغشوه، فيستطيع أن يأخذ حقه مرة أخرى من السيد المسلم الذي هو ولي هذا اليهودي أو هذا النصراني.
قال: أما الآن فلا أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً، قيل له: هل الأمانة ترفع يا حذيفة؟ قال: نعم، ترفع حتى يقال للرجل ما أظرفه وما أعقله وما أجلده، وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.
وهذا حديث مخيف، وأظن أنني خطبت عنه في جمعة على هذا المنبر.
قال: [(ثم حدثنا عن رفعها، فقال: ينام الرجل النومة فتنزع الأمانة من قلبه، فيظل أثرها كأثر المجل)] وهو الأثر الخفيف اليسير، أو اللون المخالف للون الأصلي.
قال: [(كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبراً وليس فيه شيء)]، يقول: كما لو أتيت بجمرة فبدحرجتها على فخذك، لا شك أن هذا الموضع الذي دحرجت عليه الجمرة سينتفط ويعلو ويمتلئ ماء، هذا الماء لا ينتفع به ولا قيمة له، ولذلك قال: (كجمر دحرجته على رجلك فنفط) أي: فعلا وارتفع هذا الجلد وتكون تحته الماء، فيترك أثراً كالمجل، [(أو قال: كالوكت، ثم ينام الرجل النومة الثانية، فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المجل)] قال في الأولى: كالوكت وهو أثر يسير، والمرة الأخرى قال: كالمجل وهو عظيم وشديد.
وضرب له مثلاً كالذي يأخذ الفأس ولا عادة له بهذا الفأس، لأنه منعم مترف حينما تعطيه الفأس وتقول له: شطب لي هذا الرصيف، ما الذي سيحصل؟ فربما يموت كمداً من أول ما يبدأ الشغل، لكن حينما يبدأ يشتغل، فأول ما يخبط خبطتين بالفأس على الأرض تهش الجلود الداخلية وتتشقق وتحمر وتنزل دماً، ويبقى منظر اليد كلها مشوهة، فهذا بلا شك أثر عظيم، فكذلك الإيمان ينزع من القلب شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى في القلب إيمان.
فهكذا أصل نزول الإيمان كان في جذر قلوب الرجال، ولذلك أنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة -أي: فطرة الإسلام- فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) وفي رواية مسلم: (أو يشركانه) أي: يجعلانه مشركاً.
ولذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن أطفال المشركين؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) أي: أنه سئل عن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل البلوغ، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وبعض النصوص قد وردت في أن أطفال المشركي(27/13)
ما ورد عن الصحابة في زيادة الإيمان ونقصانه
قال: [قال أبو الدرداء: الإيمان يزداد وينقص]، وهذا قول أبي هريرة وابن عباس.
[وقال عمير بن حبيب: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه].
كأنه يقول: زيادته ونقصانه بالعمل، فإذا كان العمل طاعة ازداد به الإيمان، وإذا كان معصية نقص به الإيمان.
[وقال عبد الله بن عكيم: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً].
[وقال سعيد بن جبير: في قول الله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] أي: ليزداد إيماناً].
قال: [عن ذر بن عبد الله: أن عمر كان يأخذ بيده الرجل والرجلين في الحلق فيقول لهما: تعالوا نزدد إيماناً].
إذاً: ازدياد الإيمان ونقصانه كان أمراً مستقراً عند السلف، وكذلك [قال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة]، أي: نزداد إيماناً، لا أنهم كانوا كفاراً وكان يطالبهم بالإيمان كما فهم ذلك بعض الطلاب.
[وقال جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام غلماناً حزاورة -أي: صغاراً في سن واحدة- فنتعلم الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، فإذا نزل القرآن ازددنا به إيماناً)].
ٌ [وقال أبو الدرداء: كان ابن رواحة يأخذ بيدي فيقول: تعال نؤمن ساعة -أي: نزداد إيماناً- إن القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياً]، أي: أن القدر حين نضع فيه الماء، وحين تغلي يتقلب الماء بداخله، فكذلك القلب أسرع تقلباً، أي: أنه لا بد من تعاهد القلب.
حينما تكون عندك سيارة، فحينما تريد أن تسافر بالسيارة تنظر إلى الماء والزيت وغير ذلك كل هذا من باب المتابعة، فقلبك أولى بهذا، وحينما يكون عندك حيوان، ولو كان حيواناً حقيراً لكنه مأذون فيه شرعاً ككلب الحراسة وكلب الصيد والماشية، فالمطلوب منك شرعاً أن ترعى هذا الكلب طعاماً وشراباً ومأوى وغير ذلك، حتى لو مرض وجب عليك تطبيبه، والله تعالى شكر لامرأة بغي وجدت كلباً يلهث، فنزلت وملأت خفها من البئر فناولته فشرب حتى ارتوى، فشكر الله لها ذلك وأدخلها الجنة وهي بغي، والله تعالى أدخل امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
ودائماً الملاحدة لا تعجبهم مثل هذه الأحاديث، يقولون: هل يعقل أن باغية تدخل الجنة في كلب، وأخرى مؤمنة تدخل النار في هرة؟ فليست القضية قضية قطة، وإنما القضية أن هذه نفس، وأن المعذب بسببها قد قتل نفساً متعمداً، وكان بإمكانه ألا يفعل ذلك.
وكان ابن رواحة يأخذ بيده فيقول: تعال نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً.(27/14)
ما ورد عن التابعين في زيادة الإيمان ونقصانه
[قال يعقوب بن إبراهيم: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: أنا أقول إن الإيمان يتفاضل]، وهذا مذهب السلف، [وكان الأوزاعي يقول: ليس هذا زمان تعلم هذا، هذا زمان تمسك].
الإمام الأوزاعي من سادات الدنيا في زمانه تمسكاً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، كان إمام هدى وإمام سنة.
قول عبد الرحمن بن مهدي: أنا أقول أن الإيمان يتفاضل هذا قول ثابت عن الأوزاعي أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاضلون فيه، والأوزاعي وهو إمام الشام في زمانه دخل في معترك عظيم جداً مع الحجاج بن يوسف الثقفي فكانت فتنة عظيمة جداً، وتفرد الأوزاعي في زمانه بتكفير الحجاج، أي: أن الأوزاعي في زمانه وحده هو الذي تفرد بإطلاق الكفر المخرج من الملة على الحجاج بن يوسف الثقفي وكانت فتنة عظيمة جداً، أدت بالإمام الأوزاعي أن يقول هذا القول، وأن يقول: زيادة الإيمان ونقصانه كان من قبل، أي: في زمن التابعين وزمن الصحابة، أما في زمن الأوزاعي وهو من أتباع التابعين فقال: كل منا له قليل من الإيمان يجب أن يحافظ عليه، يعني: لا يطمع أحد في الزيادة، ولكن الذي عنده شيء من الإيمان يحافظ عليه هذا القول في ذاته يدل على أن الإيمان عند هذا الإمام يزيد، لأنه لو كان الإيمان عنده لا يزيد ولا ينقص لما قال: وهذا زمان تمسك.
أي: هذا الزمان يجب فيه أن يتمسك المرء بما عنده من دين، لأنه لو لم يكن عند الإمام لا يزيد وينقص فلماذا يتمسك به؟ فهو سواء تمسك به أو لم يتمسك لا يزيد ولا ينقص، فلو أن الإيمان عند الإمام لا يقبل الزيادة ولا النقصان فما قيمة التمسك به والمحافظة عليه؟ إذا كان حافظ عليه أو لم يحافظ عليه فهو لا يزيد ولا ينقص! فهذا القول من الإمام يدل على الغالب الذي وصل إلى الإمام.
[وقال الحسن في قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66].
قال: قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو فعل ربنا لفعلنا].
أي: لو أن ربنا أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا، [فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (الإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي)]، وهذا حديث مرسل، وهو من أحاديث الحسن المرسلة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
[قال ابن بطة: وفي هذا الحديث ما يدل العقلاء على تفاضل الإيمان وزيادته، ودرجاته في قلوب قوم دون آخرين، وذلك أن الله عز وجل حينما علم من تمكن الإيمان من قلوب قوم اختصهم بزيادته على آخرين، قال: ((مَا فَعَلُوهُ)) ثم استثنى المفضلين بالإيمان، فقال: ((إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)) كما قال في أصحاب طالوت].
و [أن أبا الدرداء كان يقول: من فقه العبد أن يعلم أمزداد هو أم منتقص؟]، أي: أن من فقه العبد مع ربه أن يعلم هو في زيادة أم في نقصان، [وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه؟] أي: من أين تأتيه وكيف تأتيه؟ والأفضل في معرفة نزغات الشيطان وسبله ومداخله: إغاثة اللهفان لـ ابن القيم، وتلبيس إبليس لـ ابن الجوزي، فهذا له طعم وذاك له طعم، وأساليب الشيطان لا نهاية لها، ولا يزال العلماء يصنفون ويكتبون يحذرون الأمة من مداخل الشيطان.(27/15)
ما ورد عن السلف في أن الإيمان ينقص
قال: [وقال ابن مسعود: ما رأيت ناقص الدين والرأي أغلب للرجال ذوي الأمر على أمورهم من النساء]، أي: ترى الرجل حازماً وعاقلاً وشديد الصرعة، لكنه ينهزم أمام النساء، مع أن المرأة في أصلها ضعيفة لكنها بفتنتها في قولها وفعلها تفتن الرجل الحازم الرأي.
[قالوا: يا أبا عبد الرحمن! وما نقصان دينها؟ قال: تدع الصلاة في أيام حيضها، قالوا: فما نقصان رأيها، قال: لا تجوز شهادة امرأتين إلا بشهادة رجل].
[وقيل لـ سفيان بن عيينة: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: أليس تقرءون {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13] في غير موضع من كتاب الله؟ قيل: فينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص].
والذي يدل على النقصان من السنة حديث أبي سعيد الخدري: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن)، والحديث مشهور ومعلوم.
والحجة الثانية حجة عقلية؛ لأنه ما من شيء يقبل الزيادة إلا وكان ناقصاً قبل ذلك.
فحينما تقول: إيمانك في زيادة، لا يدل على أنه كان زائداً، لكنه كان موجوداً فزاد، أو كان ناقصاً فزاد.
فزيادة الإيمان تدل على أنه كان ناقصاً، والشيء الذي يقبل الزيادة لا بد وأن يقبل النقصان.
[وقال سفيان الثوري: إن الإيمان يزيد وينقص، وأقول: إن الإيمان ما وقر في الصدر وصدقه العمل].
[وقال وكيع: الإيمان يزيد وينقص، وكذلك كان سفيان -أي: الثوري - يقول ذلك].
[وقال المروزي: سمعت أبا عبد الله وهو أحمد بن حنبل سئل عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل يزيد وينقص، قال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، قال: وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
ثم قال: هذا من الإيمان، وسمعته يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: الزيادة من العمل، وذكر النقصان إذا زنى وسرق]، أي: إذا عمل الطاعات زاد إيمانه، وإذا زنى وسرق وارتكب المعاصي والفواحش نقص إيمانه، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) إلى آخر الحديث.
فالنقص هنا ليس من أصل الإيمان، وإنما هو من كمال الإيمان وتمامه، وهذا يدل على أن الإيمان ينقص بالمعاصي ويزداد بالطاعات.
[قال أبو عبد الله: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقال: إنما الزيادة والنقصان في العمل كيف تكون حاله إذا قتل النفس؛ أليس قد أوجب الله له النار؟ كيف حاله إذا ارتكب الموبقات؟] [وقال: هشام بن عروة عن أبيه: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه]؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، فلا نافية لكمال الإيمان وتمامه، رجل كانت عنده الأمانة خامدة لا ينفى عنه الإيمان بالكلية، إنما ينفى عنه زيادة الإيمان.(27/16)
حكم مرتكب الكبيرة
قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلى آخر الحديث، وفي نهايته (والتوبة بعد معروضة)] أي: لمن لم يقم عليه الحد؛ لأنكم تعلمون أن مرتكب الكبيرة عند الخوارج مخلد في النار، وعند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لا هو مؤمن ولا هو كافر، فهذا حكمه في الدنيا، وفي الآخرة يكون من المخلدين في النار، وعند المرجئة لا تضره الذنوب كلها، لأن الأعمال صالحها وطالحها لا علاقة لها عند المرجئة بالإيمان، وعندهم أن إيمان جبريل كإيمان أفسق الناس، أو إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنه لا علاقة للعمل بالإيمان، ولا علاقة للإيمان بالعمل وهذا كله خبط عشواء، وكلام فاسد هالك.
وعند أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأن المسلمين لا يسلبون عن الفاسق الملي الأخوة الإيمانية، ولو أن واحداً زنى فأنت تبطن عنه ذلك في الباطن، وفي الظاهر تعامله على أنه مسلم، ما دام هذا الرجل من ملة محمد عليه الصلاة والسلام، فهو فاسق بكبيرته التي ارتكبها، ولا نسلب عنه مطلق الإيمان، وإنما نسلب عنه الإيمان المطلق، الذي هو الإيمان الزائد، وهناك فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق هو كمال الإيمان وتمامه، فهذه الأحاديث التي ورد فيها الوعيد لمرتكب الكبائر تنفي عنه الإيمان المطلق، أما مطلق الإيمان الذي هو أصله وقاعدته فيتصور نقصانه لا سلبه.(27/17)
أقوال السلف في تفاضل أهل الإيمان فيه
قال: [وقال محمد بن علي: هذا الإسلام -ودور دائرة كبيرة- ثم قال: اعتبروا أن الإسلام هو هذه الدائرة الكبيرة -ودور دائرة في وسطها أصغر منها- ثم قال: وهذا الإيمان، فإذا سقط المرء من هذه الدائرة الصغيرة التي هي دائرة الإيمان استقر في الدائرة الكبيرة التي هي دائرة الإسلام].
والإسلام لا بد أن يكون معه أصل الإيمان.
قال الشيخ ابن بطة: [وهذا القول من أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه من أوضح الدلائل وأفصحها على زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك أن الإيمان يزيد بالطاعات فيحصنه الإيمان، وينقص بالمعاصي فيحرق الإيمان، ويكون غير خارج من الإسلام، وذلك أن الإسلام لا يجوز أن يقال فيه يزيد وينقص]؛ لأن الإسلام لا يتصور فيه الزيادة ولا النقص، إنما الزيادة والنقص في الإيمان.
[قال ابن عيينة: الإيمان يزيد وينقص.
فقال له أخوه وهو إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد! لا تقولن يزيد وينقص، فغضب وقال: اسكت يا صبي -وفي رواية: يا غبي- بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء، وفي رواية قال: ينقص حتى ما يبقى منه مثل هذه، وأشار إلى فرث أنامله].
[وقال لوين: سمعت ابن عيينة غير مرة يقول: الإيمان قول وعمل، قال ابن عيينة: وأخذناه ممن قبلنا وأنه لا يكون قول إلا بعمل، قيل لـ ابن عيينة: يزيد وينقص؟ قال: فأي شيء إذاً؟] إذا كان الإيمان مرتبطاً بالعمل فلا بد أنه يزيد بالعمل.
[وعن الحسن قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ينزع منه نور الإيمان كما يخلع أحدكم قميصه، فإن تاب تاب الله عز وجل عليه)].
[وعن ابن عباس قال: إذا زنى العبد نزع منه نور الإيمان].
إن للطاعة في القلب نوراً، وإن للمعصية في القلب ظلمة، كما قال ابن عباس.
[وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم].
فهذا الكلام يقوله عمر رضي الله عنه، وعمر مع الأمة.
أرأيتم كلام الأقران بعضهم عن بعض؟ فهؤلاء أقران محترمون رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، والعلماء يقولون: كلام الأقران يطوى ولا يروى يعني: كلام الأقران بعضهم في بعضهم لا يلتفت إليه ولا يؤبه له ولا يؤمر به، لكن بلا شك أن الكلام الحسن والذكر الجميل أولى بالرواية من هذا التناحر، ولذلك كافأ الله عز وجل عمر رضي الله عنه بقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فيه قولاً عظيماً، قال حذيفة: لئن أعلم أن فيكم مائة مؤمن أحب إلي من حمر النعم وسودها]، يعني: لو كنت أعلم أن فيكم مائة مؤمن كما يريد الله، فهذا أحب إلي من أن تكون لي الأنعام والأبقار وغيرها من أموال العرب.
[فقال: ما بهاجرتنا -أي: قرية هجر- ولا بشامنا ولا بعراقنا مائة]، أي: هذه البلدان كلها ليس فيها مائة مؤمن كامل الإيمان، أي: على أعلى درجات الكمال والتمام.
[فقال: أفيكم رجل لا يخاف في الله لومة لائم، وما أعلمه إلا عمر بن الخطاب؟] أي: علامة الإيمان التام الكامل الذي قد بلغ القمة والنهاية، لو أن المرء بلغ إيمانه ذلك لو وضعوه في النار كما وضع إبراهيم عليه السلام في النار، لا يضره ذلك شيئاً.
حذيفة يقول لهم: أنا لا أعرف أحداً فيكم بهذا الوصف إلا عمر، وهذا حين تأدب عمر مع أبي بكر تأدب الناس معه والجزاء من جنس العمل.
[قال: فكيف أنتم لو قد فارقكم عمر؟ ثم بكى حتى سالت دموعه على لحيته].(27/18)
ما ورد عن السلف في التحذير من المعاصي وأنها تنقص الإيمان أو تحبطه
[وقال الحسن: ما يرى هؤلاء الناس أن أعمالاً لا تحبط أعمالاً، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]]، وهذه الآية ترد على من يقول إنه لا توجد أعمال تحبط أعمالاً، فهذه الآية تثبت أن رفعكم لأصواتكم على النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدمكم بين يديه، واعتراضكم على سنته بالجحود، وزعمكم أنها مخالفة للقرآن تارة وأنها غير صحيحة أخرى، وأنها لا تتفق مع العقل ثالثة، وأنها وأنها هذا كله تقدم بين يدي الله ورسوله ورفع للصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإذا كانت لكم أعمال صالحة فقد حبطت بهذا القول.
[وقال عبد الله بن عتبة بن مسعود حينما رأى رجلاً صنع شيئاً من زي الأعاجم قال: ليتق الله رجل أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر].
يعني: لأنه مطالب أن يخالف كل من لم يكن على ملة الإسلام.
[قال محمد بن عبد الرحمن: فظننته أخذ ذلك من هذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]].
[وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى عدي بن عدي رسالة بعض ما فيها: أما بعد: فإن للإسلام شرائع وحدوداً من استكملها استكمل الإيمان]، وهذا يدل على أن كل من أتى شرعة أو منهاجاً أو حداً من الحدود، يزيد إيمانه، قال: [ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش أبينها لكم].
أي: إذا عشت أبين لكم هذه الحدود وهذه الشرائع، قال: [وإن أمت، فالله ما أنا على صحبتكم بحريص].
ثم أتت روايات كثيرة جداً عن كثير من السلف تثبت أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
[قال حذيفة: ليأتين عليكم زمان يصبح الرجل فيه بصيراً، ويمسي وما ينظر بشفر].
[وقال أيضاً: إن الرجل ليصبح بصيراً ثم يمسي وما ينظر بشفر].
وهذا يدل على أن الرجل يصبح مؤمناً ويمسي كافراً كما في الحديث (يبيع دينه بعرض من الدنيا) أي: قليل.
[وعن عبد الله قال: يأتي الرجل رجلاً لا يملك له ولا لنفسه ضراً ولا نفعاً، فيحلف له أنك لذيت وذيت، ولعله لا يحلى منه بشيء، فيرجع وما معه من دينه شيء، ثم قرأ عبد الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} [النساء:49 - 50].
[وقال عمران بن حصين حينما رأى رجلاً في يده حلقة من صفر -يعني: من نحاس- قال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، يعني: أنا اتخذتها حتى تقوي ضعف بدني ووهنه، قال: أما إنها لن تزيدك إلا وهناً، ولو مت وأنت ترى أنها نافعتك لمت على غير الفطرة].
والنص الآخر لـ[ابن مسعود يقول فيه: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل له إليه الحاجة فيقول: إنك لذيت وذيت يثني عليه، وعسى ألا يحلى بحاجته بشيء، فيرجع وقد أسخط الله وما معه من دينه شيء].
فأنتم تعلمون أن معظم الشعب المصري بهذا الشكل هذا، حينما يكون له مصلحة عند واحد يذهب يقول له: يا سلام! أنت فيك كذا وكذا وكذا، وأنت الذي تملك النفع والضر، وأنت الذي بيدك أن تقضي هذه المصلحة أو توقفها، وأنت وأنت مع أن هذا كله ملك لله عز وجل، فهذا الحق لله يجعله هذا المنافق لغير الله تبارك وتعالى من خلقه الذين لا يملكون لأنفسهم في حياتهم نفعاً ولا ضراً، بل وبعض الناس يزيد فيجعل هذا في يد الأموات، فيتوسلون بالأضرحة ويطلبون منها الحاجات ودفع المضرات! وهذا ليس إلا لله عز وجل، وهؤلاء الموتى لا يملكون ذلك لأنفسهم وهم أحياء، فكيف يملكونه لغيرهم وهم أموات؟ وهم يعتبرون هذه الكلمات من باب المجاملة، بل هذا باب عظيم جداً من أبواب النفاق، كيف تزكي نفسك؟ وكيف تزكي غيرك وأنت تعلم أنه ليس أهلاً للتزكية؟ ولذلك الواحد يأتي يطلب شهادة أو تزكية للجهة الفلانية، ولو أن الشيخ لم يعطه فإنها تقوم الدنيا ولا تقعد على رأس الشيخ هل أنت تعتقد أن هذه شهادة أم لا؟ يقول لك: نعم هذه شهادة وأنت تسأل عنها يوم القيامة.
تقول له: إذا كنت تعرف أنني أسأل عنها يوم القيامة، هل أنا أعرفك؟ يقول لك: أنا صرت شيخاً مثلك تقول له: أنت بستاني لا أعرفك، اذهب للشيخ الذي يعرفك فيزكيك، يقول لك: الشيخ الذي بجوار بيتنا، والشيخ الذي يعرفني بيني وبينه مشاكل وخلافات.
إذاً: أنت إنسان قليل أدب لا تستحق التزكية، فأنت حكمت على نفسك أنك لا تستحق.
فالذي يجعلك تختلف مع الشيخ الذي بجوارك، يجعلك تختلف مع أساتذتك وشيوخك في الخارج، في الجامعة الإسلامية مثلاً أو جامعة أم القرى التي أتيت(27/19)
شرح كتاب الإبانة - معرفة الإسلام وعلى كم بُني
أهل السنة والجماعة يطلقون اسم الإسلام على الإيمان والعكس، وذلك عند الانفراد، فإذا جاء الاسمان معاً في سياق واحد، كان لكل واحد معنى، وذلك كما في حديث جبريل عليه السلام، فإن فيه بيان معنى الإسلام والإيمان وغيرهما.(28/1)
باب معرفة الإسلام وعلى كم بني
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: معرفة الإسلام وعلى كم بني].
والذي يجعلنا نتكلم عن ماهية الإسلام وما هو، يُلزمنا أن نعرف الإسلام لغة ثم نعرفه اصطلاحاً، فينبغي أن يضم إليه مصطلح الإيمان، فالكلام ليس فحسب على الإسلام، وإنما على الإسلام والإيمان معاً.
[قال سالم بن أبي الجعد: عن رجل قال: (قيل لـ ابن عمر: ألا تجاهد؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الإسلام بني على خمس كلمات: الإخلاص، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)].
وهذا الرجل كان كفيفاً، فقال لـ ابن عمر: ألا تجاهد؟ كأن ابن عمر قال له: لا.
وهذا الكلام محمول على طلب الجهاد في الفتنة، والمسلم العاقل الحازم إذا غلب على ظنه أن الحق مع إحدى الطائفتين وجب عليه أن يقاتل مع الطائفة التي غلب على ظنه -أو تيقن من باب أولى- أنها صاحبة الحق، ويحرم عليه أن يقاتل مع الطائفة التي في ظنه أو تيقن أنها جانبت الحق والصواب، وإذا لم يترجح لديه هذا ولا ذاك وجب عليه أن يكون حلس بيته، فيلزم بيته، ولا يشارك في هذه الفتنة.
فلعل هذا السائل الذي سأل ابن عمر أن يجاهد -يعني: في الفتنة- مع أحد الطائفتين، كأنه أراد أن يقيم الحجة على ابن عمر أن الجهاد أمره عظيم وخطير، فلم لا تجاهد إذاً يا أبا عبد الرحمن؟ فأراد أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر أن يبين له أن الجهاد في هذا الموطن ليس من مباني الإسلام ولا من أسسه وقواعده، إنما مباني الإسلام كما سمعها من النبي عليه الصلاة والسلام خمس: أولها الإخلاص، والإخلاص بمعنى التوحيد، ولذلك سميت كلمة التوحيد بكلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثم قال: (وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)، وتقديره: من استطاع إليه سبيلاً، فهذه مباني الإسلام، والجهاد ليس منها، ويقيناً فإن الجهاد رغم أهميته إلا أنه ليس من مباني الإسلام، إنما هو ذروة السنام الذي يحفظ الله تعالى به البلاد والعباد؛ فضلاً عن حفظ الدين.
وهذه المباني فرض عين على أهلها وأصحابها إلى قيام الساعة لا تزول قط، بخلاف الجهاد، فالجهاد فرض كفاية على الأمة بمجموعها، ولا يتعين إلا في حالات خاصة.
إذاً: مباني الإسلام فرض عين، فلا يصح أن يصلي أحد لأحد؛ لأن الصلاة فرض عين على كل مسلم عاقل بالغ، بخلاف الجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأمة في مجموعها، إذا جاهد بعضها سقط الإثم على الباقين، وإذا نكلوا ونكصوا جميعاً عن الجهاد حتى أُضِرَّ بالدين والدنيا فإن الجميع يأثم، أي: جميع من تعين عليه القتال والجهاد ولم يجاهد، كما أن الجهاد سيسقط في آخر الزمان، وآخر الزمان موعود بنزول عيسى عليه السلام من السماء وقتله المسيح الدجال فحينئذ تضع الحرب أوزارها؛ لأنه لا يكون ملة على الأرض إلا ملة الإسلام، وسيدعو عيسى عليه السلام بعد قتله الخنزير وكسره للصليب إلى دين وشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يكون هناك ملة إلا ملة الإسلام فحسب.
فحينئذ يسقط الجهاد، بخلاف هذه المباني فإنها باقية حتى قيام الساعة.
فـ ابن عمر أراد أن يقول: الجهاد ليس فرض عين علي؛ لأن فروض الأعيان معلومة، وقد جاءت في حديث سمعته عن النبي عليه الصلاة والسلام، ثم ذكر حديث المباني.
[وقيل لـ ابن عمر: ألا تجاهد؟ قال: إن الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله]، والتقدير: وأن محمداً رسول الله، للتلازم بين الشهادتين حتى وإن لم يذكر الشق الآخر من الشهادة في الرواية، فإنه معلوم يقيناً؛ لأن أحد الشقين لا يصح بغير صاحبه، فلو قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله ولم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر، ولو آمن بمحمد ولم يشهد بوحدانية الله عز وجل فكذلك هو كافر.
فقوله هنا: شهادة أن لا إله إلا الله، يعني: وأن محمداً عبده ورسوله، [وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)، هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول].
قال: ثم الجهاد بعد حسن]، يعني: الجهاد بعد هذه المباني أمر حسن.
وفي رواية [عن ابن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس)]، وكلمة (بني) للدلالة على أن المذكور من مباني الإسلام وأسسه وقواعده التي لا يقوم بدونها؛ لأنها كالقواعد الراسيات الراسخات في الأرض التي يبنى عليها البناء، وبغير هذه المباني والقواعد لا يقوم البناء، أو يقوم على ضعف فيه.
قال: [(بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن م(28/2)
باب معرفة الإسلام والإيمان وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم(28/3)
حديث جبريل في بيان أمور الدين من رواية عمر بن الخطاب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب معرفة الإسلام والإيمان، وسؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم].
وأنتم تعلمون هذا الحديث المشهور، وهو في الصحيحين من حديث [عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: جلوس عند النبي في مجلسه أو في مسجده، وهذا كان بالمدينة.
[(إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم)]، هذا الرجل هو جبريل عليه السلام، نزل في هيئة كانت مثار عجب من كل من رآه، لأن المدينة بعيدة المنأى عن البلدان المجاورة، ومن قصد المدينة من أرض الحجاز أو غيرها لابد أن يظهر عليه أثر السفر واتساخ ملابسه وشعث شعره وغير ذلك، ولكن هذا الذي أتى ليسأل عن أمور دينه، إنما هو رجل (شديد بياض الثياب) على غير عادة المسافر، (شديد سواد الشعر) على غير عادة المسافر الذي اغبر وجهه وتترب شعره وغير ذلك من آثار السفر، كما أنه ليس من أهل المدينة بدليل أن أحداً لم يعرفه.
قال: [(حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركبته تمس ركبته)]، يعني: ركبة جبريل عليه السلام لامست ركبة النبي عليه الصلاة والسلام لما جلس أمامه عليه الصلاة والسلام، وجبريل تصور في صورة رجل ولم يظهر في صورته الحقيقية التي خلقه الله عز وجل عليها، لأن أحداً من البشر دون الرسل لا يطيق ولا يقدر أن يرى ملكاً في صورته التي خلقه الله عز وجل عليها.
فجاء وجلس بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام [(حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه)]، يعني: جعلهما بمحاذاة ركبتيه.
[(ووضع كفيه)]، أي: وضع جبريل كفيه [(على فخذيه)]، والضمير يعود على جبريل، لأنه جلس جلسة المتعلم السائل، ومن سوء الأدب أن يضع السائل يده على كتف المسئول أو على ظهر المسئول أو على بطنه أو على فخذه، أو أن يسلم عليه من خلف ظهره، إنما الأدب ما فعله جبريل عليه السلام، فهو يعلم الصحابة إذا سألوا النبي عليه الصلاة والسلام كيف يسألون وكيف يقولون مرادهم من السؤال، وكيف يجلسون بين يدي أستاذهم وشيخهم صلوات الله وسلامه عليه.
[(ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، فقال: صدقت)].
من شأن السائل أنه جاهل بما يسأل، وهذا الذي دعا الصحابة أن يتعجبوا من تصديق السائل للمسئول بأنه صادق فيما أخبر.
عرف الإسلام بكلمة الإخلاص التي يحصن بها المرء دمه ونفسه وماله وعرضه، ثم الأعمال الظاهرة أعمال الجوارح، والأعمال المالية كالزكاة، والأعمال التي تجمع بين المال والبدن كالحج، فالصلاة من أعمال الجوارح، والزكاة متعلقة بالمال، والحج متعلق بالمال والبدن، فعرف الإسلام بالأعمال الظاهرة.
قال: (أن تشهد) والشهادة لا تكون إلا بلسان، إلا لمن عجز عن النطق فإنه يعدل عن النطق إلى الإشارة.
[(قال: صدقت.
فتعجبنا من سؤاله وتصديقه، ثم قال: فما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وحده، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبالقدر خيره وشره، قال: صدقت، فتعجبنا من سؤاله وتصديقه.
ثم قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، فتعجبنا من سؤاله وتصديقه.
قال: فأخبرني عن الساعة؟)]، أي: عن ميعاد ووقت قيامها [(قال النبي عليه الصلاة والسلام: ما المسئول بأعلم من السائل؟)]، يعني: أنا وأنت فيها سواء لا نعلمها؛ لأنها من علم الله عز وجل الخاص به الذي لم يطلع عليه أحد، لا ملك مقرب ولا رسول مرسل [(قال: فأخبرني عن أماراتها)] أي: علاماتها وأشراطها [(قال: أن تلد المرأة ربتها)] أي: سيدتها.
[وفي رواية: (أن تلد الأمة سيدها وربها)]، وهذه أمارة، وهي دلالة على كثرة السراري والإماء في آخر الزمان، وأن المرأة إذا كانت تحت حر وسيد فولدت له ولداً كان الولد سيد أمه تبعاً لأبيه؛ لأن ابن الأمة يكسب الحرية من حرية أبيه، أو ربما تكثر الإماء ويكثر بيعهن وشراؤهن في الأسواق حتى يشتري الولد أمه، فتكون أمة عنده، وهذا أيضاً من علامات الساعة.
قال [: (وأن ترى العراة الحفاة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)]، وهذه علامة ثانية، أن ترى البدو أي: الأعراب الأجلاف الذين قل مالهم ونفد زادهم، تفتح عليهم الدنيا فيبنون البنيان ويتطاولون فيه، وإذا كان ذلك فهو علامة على قرب الساعة [(قال: صدقت.
ثم انطلق، فلما كان ثالثة -أي: في الليلة الثالثة-، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! هل تدري من الرجل؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر د(28/4)
رواية أخرى لحديث جبريل عن عمر بن الخطاب
[وفي رواية: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ جاءه رجل هيئته مسافر وثيابه ثياب مقيم، أو ثيابه ثياب مسافر وهيئته هيئة مقيم، فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: نعم.
قال: فدنا منه حتى وضع يديه على ركبتيه فقال: ما الإسلام؟ قال: أن تسلم وجهك لله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، أخبره بعرى الإسلام، قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟)]، أي: لو أنني فعلت هذه المباني وأتيت بهذه العرى، أكون قد حققت الإسلام لله عز وجل على الحقيقة.
[(قال النبي: نعم.
قال: صدقت.
قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه)] أي: كيف يسأل الرسول ويقول له: صدقت.
[(قال: يا رسول الله! فما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله أو تخشى الله كأنك تراه، فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك.
قال: صدقت.
قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه! قال: يا رسول الله! فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالموت والبعث، والجنة والنار وبالقدر كله، قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: نعم.
قال: صدقت.
قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه)].
قال الحافظ ابن رجب: الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بالقلب وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النظر إلى وجه الله عياناً في الآخرة.
أي: الجزاء من جنس العمل، إذا استشعر المرء أن الله تعالى ينظر إليه ويراه، فإن الله يكافئه في الآخرة، بأن يحقق له الرؤية كما كان يتخيلها ويتصورها في الدنيا.
قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه) والكاف للتحويل والتشبيه، يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما في رواية أخرى عن أبي هريرة: (أن تخشى الله كأنك تراه).
وكذلك يوجب النصح في العبادة -والنصح بمعنى أن يخلص المرء في عبادة ربه- وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة بهذه الوصية، أي: أن يعبدوا الله كأنهم يرونه سبحانه.(28/5)
حديث جبريل في بيان أمور الدين من رواية أبي هريرة
[وفي رواية عن أبي هريرة قال: (تؤمن بالقدر كله خيره وشره)]، أي: وأن الخير والشر من عند الله عز وجل.
[(قال: صدقت.
قال: قلنا: انظروا كيف يسأله وكيف يصدقه.
قال: يا رسول الله! متى الساعة؟)] وهذا يبين المراد من قوله: (أخبرني عن الساعة) أنه قصد بهذا السؤال الميعاد والوقت، لا الكيفية ولا الهيئة ولا الصورة، وإنما قال له: [(متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ثم انطلق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل، فنظروا فلم يوجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: جاء جبريل يعلم الناس أمر دينهم، أو يعلم الناس دينهم)].(28/6)
حديث جبريل من رواية يحيى بن يعمر عن ابن عمر
[وقال يحيى بن يعمر: قلت لـ ابن عمر: إن عندنا رجالاً بالعراق يقولون: إن شاءوا عملوا وإن شاءوا لم يعملوا، وإن شاءوا دخلوا الجنة وإن شاءوا وإن شاءوا، فقال: إني منهم بريء وإنهم مني براء].
وهذا سبب سرد عبد الله بن عمر للحديث الطويل، فإن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري لما أتيا من البصرة إلى مكة قالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فوفقا إلى أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف حول الكعبة، قال يحيى بن يعمر: فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي.
أي: أيقنت أن حميداً سيدع تكليم عبد الله بن عمر إلي، أي لأجل أنه أفطن وأفصح منه بياناً، قال: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، قلت: أبا عبد الرحمن! إن أناساً ظهروا قبلنا بالبصرة يتعلمون العلم، أو قال: يقرءون القرآن ويتقفرون العلم.
ومعنى (يتقفرون) وفي رواية (يتفقرون) أي: يطلبون دقائق العلم ومسائله المستعصية، ويتتبعون خباياه وخفاياه، كما أنهم قائمون على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار.
يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف.
يعني: ينفون القدر، كما أنهم ينفون علم الله الأزلي؛ لأنهم يقولون: وأن الأمر أنف، يعني: أن الله تعالى لا يعلم العمل إلا بعد إيجاده، وبعد أن يعمله العبد، وهذا صريح معتقدهم، وهؤلاء هم شر خلق الله عز وجل، وقال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة) ينفون العلم عن الله عز وجل، يقولون: إن الله لا يعلم الشيء إلا بعد أن يكون.
فقال أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر: أوقد قالوها؟ إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني.
أي: لا أنا منهم ولا هم مني.
وهذا الكلام محمول على تكفيرهم وإخراجهم من الملة، والأمر كذلك؛ فإن من نفى علم الله عز وجل وقال: إن الله لا يعلم الأمر إلا بعد أن يكون، أو نفى قدرة الله عز وجل، أو نفى الكتابة الأزلية في اللوح المحفوظ؛ فلابد من كفره، وهذا أمر قد أجمع عليه العلماء.
قال الإمام النووي: وهؤلاء -أي: الطائفة من القدرية الذين قالوا: لا مشيئة لله عز وجل، وإنما المشيئة مشيئة العبد، وأن الله لا يعلم ما العباد إليه عاملون وصائرون إلا بعد أن يكون- قال النووي: هؤلاء الصنف من القدرية قد انقرضوا تماماً.
ولعل ذلك كان في زمان الإمام النووي، ولا يبعد أن يكون من هؤلاء أناس في هذا الزمان.
[قال يحيى بن يعمر العدوي: (قلت لـ ابن عمر: إن عندنا رجالاً في العراق يقولون: إن شاءوا عملوا وإن شاءوا لم يعملوا وإن شاءوا دخلوا الجنة وإن شاءوا وإن شاءوا، فقال: إني منهم بريء وإنهم مني براء)، ثم قال: (إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله عز وجل ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم.
قال: صدقت.
قال: فما الإحسان؟ قال: أن تخشى الله كأنك تراه، فإلا تراه فإنه يراك.
قال: فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟ قال: نعم.
قال: صدقت.
قال: فما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث من بعد الموت، والجنة والنار، والقدر كله.
قال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم.
قال: صدقت)].
[وفي رواية عن ابن عمر قال: (جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، فقال: ما الإسلام؟) إلى آخر الحديث]، ولكن هذا الحديث ضعيف جداً؛ لأنه يعارض الروايات السابقة أنه لا يعرفه منا أحد، ودحية الكلبي كان معروفاً لدى الصحابة.(28/7)
رواية أخرى لحديث جبريل عن أبي هريرة
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ملأ من أصحابه إذ جاءه رجل فسلم)]، وهذا يدل على وجوب السلام للداخل على القوم.
قال: [(فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الملأ)]، وهذا على وجه الاستحباب، وإلا فرد السلام على المذهب الراجح فرض كفاية، إذا رد البعض سقط عن الباقين، وإذا كان إلقاء السلام على العموم سنة مؤكدة، فإنه واجب على من دخل على قوم وهم جلوس، ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم ست، وذكر منها: إفشاء السلام.
أو قال: إلقاء السلام).
قال: [(فقال: يا محمد! ألا تخبرني ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والحساب، والميزان، والجنة والنار، والقدر خيره وشره.
قال: فإذا فعلت هذا فقد آمنت؟ قال: نعم.
قال: صدقت.
قال: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً لقوله صدقت)].
إذاً: التعجب فضلاً عن كثير من الصحابة إلا أنه كان من شأنه عليه الصلاة والسلام كذلك؛ لأنه لم يعرف جبريل، ولو عرفه لما تعجب.
قال: [(فقلت: يا محمد! ما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك.
قال: فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت؟ قال: نعم.
قال: صدقت.
قال: يا محمد! متى الساعة؟ قال: سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم! سبحان الله العظيم! ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ استأثر الله بعلم خمس لم يطلع عليهن أحداً، ثم تلا قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34] حتى ختم السورة.
ولكن سأخبرك بشيء يكون قبلها)]، أي: بأماراتها وعلاماتها التي تسبقها.
قال: [(حين تلد الأمة ربتها -وفي رواية: ربها- ويتطاول أهل الشاء -أي: رعاة الغنم والإبل والأبقار- في البنيان، وتصير الحفاة العراة على رقاب الناس)]، والحفاة العراة أي: الفقراء تفتح عليهم الدنيا حتى يكونوا على قمة الناس.
[(ثم ولى الرجل، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره طويلاً، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إليهم، ثم قال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم).
وفي حديث أحدهما: (أو جاءكم يتعاهد دينكم)]، وهذه الروايات التي وردت في بيان الإسلام وكيف هو.(28/8)
شرح الإمام النووي لحديث جبريل
هذا الحديث وهو المعروف بحديث جبريل الطويل، أنتم تعلمون أن هذا الحديث مخرج في الصحيحين، والإمام النووي له كلام رائع جداً ممتع إلى أقصى حد فيما يتعلق بشرح هذا الحديث، يتناول عدة مباحث: المبحث الأول: بيان ماهية الإيمان والإسلام.
المبحث الثاني: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيماني.
المبحث الثالث: هل الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ المبحث الرابع: هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أم لا؟ المبحث الخامس: بم يدخل الكافر في الإسلام؟ وبم يخرج المؤمن من الإسلام؟ المبحث السادس: الاستثناء في الإيمان.
المبحث السابع: حكم مرتكب الكبيرة، وهل هو من أهل القبلة أم لا؟ قال الإمام النووي: أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما.
يعني: هل بين الإيمان والإسلام عموم وخصوص أم لا؟ وهل كل مسلم مؤمن والعكس صحيح أم لا؟ فأنتم تعلمون أن الإيمان والإسلام بينهما عموم وخصوص، العموم أن كل مؤمن مسلم، وليس العكس، يعني: ليس كل مسلم مؤمناً أي: كامل الإيمان، وإلا فلابد أن يكون عند كل مؤمن قدر من الإيمان، وإذا قلت (قدر من الإيمان) يثبت به إسلامه، وقلنا: (ليس كل مسلم مؤمناً)؛ فهذا أمر يدعونا إلى ذكر مراتب الإيمان، فنفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق.
فمطلق الإيمان هو: الجزء الذي لا يثبت عند الله عز وجل إسلام أحد إلا به، مع أننا نعلم يقيناً أن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقد عصم بها نفسه ودمه وماله.
هب أنه شهد بالشهادتين تعوذاً وخوفاً من القتل، حقناً لدمائه وماله وغير ذلك، ولم ينعقد عليها قلبه، فهل يكون عند الله تعالى مسلماً؟
الجواب
لا، إنما هو منافق، والمنافق له في الدنيا حكم الإسلام بالشهادتين، أما في الآخرة فهو في الدرك الأسفل من النار.
إذاً: إذا جاء رجل بنفسه مختاراً مذعناً، وقال: أريد الإسلام، فقلنا له: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله عز وجل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأن عيسى هو رسول الله وكلمته وروحه إلى غير ذلك من أصول الإيمان والإسلام، فنطق وشهد بهذا؛ فهل يستقيم هذا الرجل أم هو في إيمانه كمن عاش في الإسلام عشرات السنين يصوم ويصلي ويزكي ويحج، ويفعل الطاعات، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ هل إيمان هذا الرجل كإيمان من مضى عليه عمر طويل ودهر مديد في الإسلام يعمل الطاعات ويبتعد عن المعاصي؟
الجواب
لا، لكن هذا الرجل الذي آمن الآن قد حصل مطلق الإيمان.
فإذا قلنا: إن هذا العبد الذي أتى وشهد الشهادتين، لابد أن يتوفر لديه أصل الإيمان ولو واحد من عشرة، لابد أن يعتقد ما شهد به في قلبه، وأن يجزم على ذلك قلبه، فإذا عمل الطاعات ازداد هذا الإيمان حتى يصل إلى قمته، فهذا الذي وصل إلى قمة الإيمان هو الإيمان المطلق، فلابد أن تفرق بين الإيمان المطلق، وهو كمال الإيمان وتمامه، وبين مطلق الإيمان.
فلو أن عبداً شهد الشهادتين بغير مطلق الإيمان، فهل يسمى مسلماً عند الله عز وجل؟ الجواب: لا يكون مسلماً، إنما هو مسلم عند الخلق، أي: تجري عليه في الدنيا أحكام الإسلام.(28/9)
نقل النووي لكلام الخطابي في معنى الإسلام والإيمان
فقال الإمام النووي هنا: بين الإيمان والإسلام عموم وخصوص.
أي: كل مؤمن مسلم، وليس العكس.
قال: وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من الإيمان، وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه، وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة، نقلاً عن الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق، في كتابه معالم السنن.
قال: ما أكثر ما يغلط الناس فى هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة والإيمان العمل، واحتج بالآية: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14].
فالله عز وجل أنكر على الأعراب ذلك، وقال: بل قولوا أسلمنا.
فنفي الله عز وجل هنا لإيمان الأعراب نفيٌ للإيمان المطلق الذي هو الإيمان الكامل التام؛ لأنه لو لم يكن في قلوبهم إيمان بما شهدوا به لكانوا منافقين وكانوا كفاراً، فالله عز وجل قال لهم: بل قولوا أسلمنا.
قال: وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد.
يعني: أن كل مسلم مؤمن وكل مؤمن مسلم، وهذا كلام خطأ كالكلام السابق تماماً، هذا على فرض ثبوته عن الإمام الزهري.
أما القائل الثاني، الذي قال بأن الإيمان والإسلام شيء واحد، فاحتج بقول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36].
قال الخطابي: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى أحد هذين، ورد الآخر منهما على المتقدم، وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المئين.
قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق.
الإمام الخطابي من عظماء وفحول أهل العلم، كما أن الذهبي كذلك في بابه، والحافظ ابن حجر في بابه، فهؤلاء أئمة علماء الاستقراء، إذا قال الخطابي: قلت، بعد ذكر خلاف العلماء في قضية ما، فعض على قول الخطابي بالنواجذ، واعلم أنه دين الله عز وجل الذي أنزله من السماء.
وكذلك قول الذهبي: قلت، وقول الحافظ ابن حجر: قلت وغير ذلك من كلام سائر علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم والتثبت والإمامة.
الخطابي يقول: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، يعني: لا يقال: كل مؤمن مسلم، ولا كل مسلم مؤمن، بل لابد من تقييد الكلام.
قال: وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها عليك.
يريد أن يقول: إن المسألة تحتاج إلى تقييد: إذا كان الإيمان أعلى من الإسلام فلابد أن يكون المؤمن مسلماً، وليس العكس، فليس كل مسلم مؤمناً؛ لأن الإيمان درجة أعلى من درجة الإسلام، فالذي يحقق المرتبة الدون لابد أنه يقصر عن المرتبة العليا، أما الذي حقق المرتبة العليا فلابد أن يحقق بالتبعية المرتبة الدون؛ لأنه لا يرتقي هذه الدرجة إلا وقد حقق ما قبلها وهو الإسلام.
ثم قال: وأصل الإيمان التصديق، والأصح من هذا القول الإقرار، أصل الإيمان هو الإقرار، وهو إقرار القلب واللسان، فهو عرف الإيمان بالتعريف اللغوي، كما في قول الله تعالى على لسان إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أي: وما أنت بمصدق لنا، فالإيمان بمعنى التصديق، فعرف الإيمان لغة بأنه التصديق.
أما الإيمان في الشرع فإنه إقرار القلب وإقرار اللسان، أي: الشهادة باللسان، وأن اللسان عبر عن مكنون القلب، وعما انعقد عليه القلب.
قال: وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد.
إذاً: الإسلام هو الاستسلام والانقياد والإذعان والخضوع والذل لله عز وجل.
فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، وهذا شأن المنافقين، كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون بيت الله الحرام، ويجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم غير منقادين في الباطن.
وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر، يعني: يكون عاصياً، هو يحب الله ويحب رسوله، ولا يرضى أبداً بالكفر، وأنتم تعلمون عندما يقول شخص لشخص: يا نصراني! فيقول الآخر: أعوذ بالله من الشيطان، لأنه يكره الكفر ويحب الإيمان.
وإذا بحثنا عن ظاهره نجده صاحب معاص، منها الكبا(28/10)
نقل النووي لكلام البغوي في معنى الإسلام والإيمان
وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله في حديث سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه، قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال.
يعني: الإسلام يطلق على أعمال الجوارح، وهي الأعمال الظاهرة التي يعملها المرء بجوارحه.
قال: وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد؛ لأنه قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالجنة والنار، والبعث بعد الموت، والجزاء والصراط، والثواب والعقاب، وبالقدر خيره وشره)، وهذه الأعمال من أعمال القلب.
إذاً: جعل النبي عليه الصلاة والسلام أعمال الإسلام هي الأعمال الظاهرة المتعلقة بالجوارح، وأعمال الباطن أعمال القلب المتعلقة بالإيمان، لا ينفي أن يكون المؤمن مسلماً؛ لأنه إذا آمن وعقد قلبه على شعب الإيمان فلابد أن يظهر هذا على جوارحه، وإذا أقر المسلم أو جاء المسلم بشعب الإسلام وخصاله ومبادئه، فلابد أن يكون ذلك مبنياً على حب الإيمان الذي في قلبه.
وخلاصة القول في ذلك: بين الإيمان والإسلام عموم وخصوص، فلابد أن يكون لكل مسلم أصل الإيمان أو مطلقه حتى يثبت إسلامه لا أقول يثبت إيمانه؛ أما الذي حقق الإيمان الكامل فقد حقق الإسلام من باب أولى.
قال: وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين.
يريد أن يقول: إن الدين هو عبارة عن الإسلام والإيمان والإحسان.
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فالدين يطلق ويراد به الجزاء، وقد يراد به العمل أيضاً، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:18] أي: ما يوم الجزاء.
وقال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] والدين هنا بمعنى العمل، وقال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أي: يوم الجزاء، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران:85] أي: عملاً يتقرب به إلى الله، {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل، وهذا هو الدين الحق الذي أرسل الله تعالى به رسوله؛ أن يترجم التصديق القلبي إلى عمل الجوارح.
هذا آخر كلام البغوي.(28/11)
نقل النووي لكلام الإمام الأصفهاني في معنى الإيمان وزيادته ونقصه
وأما الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم فقال: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عمل به ذلك فلا يزيد ولا ينقص.
فهو يريد أن يعرف الإيمان في اللغة: بأنه التصديق، وهو على هذا التعريف ليس فيه زيادة ولا نقصان، وهذا كلام يحتاج إلى نظر وتحرير، حتى لو عرفنا أن الإيمان في اللغة هو التصديق، فنقول: كذلك التصديق يقبل الزيادة والنقصان، فلو أن واحداً أخبرني خبراً وكان ثقة صدقته، ولو دخل رجلٌ آخر وأخبرني بنفس الخبر وهو ثقة ازددت تصديقاً لخبر الأول، حتى لو عرفنا الإيمان في اللغة بأنه التصديق فنقول: كذلك التصديق في اللغة يقبل الزيادة والنقصان.
قال: لأن التصديق ليس شيئاً يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه مرة، وهذا الكلام قد رددنا عليه.
قال: أما الإيمان في لسان الشرع فهو التصديق بالقلب والعمل بالأركان.
إن الكلام في مسائل الإيمان والكفر محل نزاع عظيم جداً على الساحة، فاسمعوا كلام أهل العلم.
قال الإمام الأصبهاني: والإيمان في لسان الشرع -يعني: الإيمان الاصطلاحي- هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، والأركان هي الجوارح.
إذاً: الأعمال داخلة في ماهية الإيمان وحقيقته ومسماه.
وإذا فُسِّر بهذا، أي: إذا اعتبرنا أن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح؛ فلابد أن نتصور تطرق الزيادة والنقص إليه؛ لأنه إذا كان هو إقرار القلب وعمل الجوارح، فمعنى ذلك أن الإيمان يتوقف عليهما، فلو أن الإيمان ضعف في القلب نقص، ولو زاد في القلب ارتفع، كما أن العامل لو عمل بطاعتين ازداد إيماناً على قدر هذه الطاعات، ولو أنه نقص من هذه الطاعات نقص إيمانه على قدر نقصان عمله.
إذاً: زيادة الإيمان ونقصانه متعلقة بالعمل، ومن الأعمال ما ينقض الإيمان من أصله، ومن الأعمال ما يؤثر على الإيمان الواجب، ومن الأعمال ما يؤثر على كمال الإيمان وتمامه.
فعندي الآن ثلاث مراتب: إيمان أصلي، وهو أصل الإيمان في القلب، لابد من توفر هذا القدر من الإيمان حتى يثبت به الإسلام، ولو كان ذلك قبل أن أعمل عملاً مطلقاً، ولذلك من نطق بالشهادتين مؤمناً بهما ثم مات يكون مؤمناً، لكنه لم يحقق كمال الإيمان وتمامه، لأن ارتباط الكمال والتمام بالعمل، وهو لم يعمل، ربما يجازيه الله عز وجل فضلاً من عنده درجات الكُمَّل الذين أتوا بالأعمال على وجهها وزيادة، وهذا فضل الله تعالى ورحمته يؤتيها من يشاء من عباده.
أما هذا فقد حقق أصل الإيمان الذي يدخل به في مسمى الإيمان وإن لم يكن بلغ تمامه وكماله؛ لأن ذلك مرهون بالعمل، وهناك أعمال واجبة في الإسلام يقابلها الإيمان الواجب، فإذا أدى العبد هذه الأعمال الواجبة فقد حقق الإيمان الواجب، وهذه المرحلة الوسطى من مراحل الإيمان.
وإذا أتى العبد بالنوافل والمستحبات والمندوبات وغير ذلك، وحافظ عليها، فقد حقق كمال الإيمان وتمامه، وهو الإيمان المطلق.
إذاً: فمراتب الإيمان ثلاث، يقابل هذه المراتب أعمال.
المرتبة الأولى: وهي مرتبة مطلق الإيمان وأساس الإيمان وقاعدة الإيمان، وجزؤه الذي لا يثبت للمرء الإيمان إلا به، وهو المصاحب لنطقه بالشهادتين وإقراره واعتقاده القلبي بما نطق به لسانه، وبغير هذا الجزء من الإيمان لا يكون مؤمناً على الحقيقة، بل يكون منافقاً.
المرتبة الثانية: مرتبة الإيمان الواجب، يقابلها الأعمال الواجبة في الإسلام، إذا أداها فقد حقق الإيمان الواجب الذي يأثم المرء بتركه.
أما كمال الإيمان وتمامه ومطلقه فإن ذلك متعلق بالمستحبات والمندوبات وغير ذلك من أعمال النوافل.
قال: والإيمان في لسان الشرع: هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة، أن العمل داخل في مسمى الإيمان.
قال: فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو: أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان، هل يسمى مؤمناً مطلقاً أم لا؟ والمختار عندنا: أنه لا يسمى به، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)؛ لأنه لم يعمل بموجب الإيمان فيستحق هذا الإطلاق.
هذا آخر كلام صاحب كتاب التحرير.
ولو سلمنا أن الإيمان هو التصديق فإنه يتطرق إليه الزيادة والنقصان، وهذا غير مقصود في الشرع.
والمرجئة قالوا: الإيمان هو التصديق.
وإذا كان الإيمان هو التصديق فلا يتصور نزول التصديق إلا إلى الشك، فيقولون: الشاك ليس مؤمناً، وهو كذلك، لكن التصديق يتصور فيه الزيادة أو النقص، وقد ضربت لذلك مثلاً، وكذلك جاء في كتاب الله عز وجل أمثلة عن سيدنا إبراهيم وكيف مات وغير ذلك، ولا يتصور مسلم أن إبراهيم عليه السلام كان كافراً، ومع هذا قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، فإبراهيم عليه السلام سأل عن الكيفية، هل إبراهيم عليه السلام لا يوقن أن الله تعالى يحيي الموتى؟ فإبراهيم يوقن ذلك، ويوقن أن الله ت(28/12)
نقل النووي لكلام ابن بطال في زيادة الإيمان ونقصانه
وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الآيات في كتاب الإيمان عنده.
قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] فقوله: ((مَعَ إِيمَانِهِمْ)) يعني: الأصل هو الإيمان، ثم ازدادوا عليه إيماناً آخر.
إذاً: عندنا أصل الإيمان وهو مطلق الإيمان، ثم الإيمان المطلق وهو الإيمان الزائد.
{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] يعني: أن معهم قدراً من الإيمان، وازدادوا عليه إيماناً بالعمل.
وقول الله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]، وقال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وقال تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة:124]، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة:124]، فقد أثبت لهم الإيمان، {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124].
إذاً: المرء يكون معه أصل الإيمان، وكلما نزلت آية آمن بها وأقر وصدق أنها من عند الله وعمل بها؛ ازداد بذلك إيماناً.
وقال تعالى: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، وقال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
قال ابن بطال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص، واعلم أن أي شيء يقبل الزيادة فلابد أن يقبل النقصان، ولذلك قال إبراهيم بن عيينة لأخيه سفيان لما قال: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: يا أبا محمد! قل يزيد، قال: اسكت، إنما ينقص حتى لا يبقى منه شيء.
إذاً: الزيادة والنقصان في الإيمان متصوران، ومادام الإيمان يقبل الزيادة فلابد أن يقبل النقصان، هذا شيء طبيعي جداً، حتى في حياة الخلق، فالذي يقبل الزيادة لابد أن يقبل النقصان؛ لأنه قبل أن يزيد كان ناقصاً.
قال: فإن قيل: الإيمان في اللغة هو التصديق، ف
الجواب
أن التصديق يكمل بالطاعات، وهذا الكلام الذي قلته يحتاج إلى نظر أولاً؛ لأنه قال: إذا كان الإيمان هو التصديق فلا يتصور فيه الزيادة ولا النقصان؛ لأنه لا يزيد، يعني: هل سيصدق مرتين أو يصدق ثلاثاً؟ هو تصديق واحد، كما أنه لا يقبل النقصان؛ لأنه لا يقبل النقصان إلا إذا شك، والشاك ليس مؤمناً أصلاً، فهذا يعتبر التعريف اللغوي، مع أنه من جهة الشرع يحتاج إلى نظر، ولذلك قال ابن بطال: إذا كان الإيمان في اللغة هو التصديق، ف
الجواب
أن التصديق يكمل بالطاعات، يعني: حتى التصديق يقبل الزيادة، ويكون بالطاعات كلها.
فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص، فمتى نقصت أعمال البر من المستحبات والمندوبات نقص معها كمال الإيمان.
ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً وتماماً، هذا توسط القول في الإيمان.
يعني: هذا هو القول المعتدل فيما يتعلق بتعريف الإيمان.
وأما التصديق بالله تعالى ورسوله فلا ينقص، ولذلك توقف مالك رحمه الله في بعض الروايات عن القول بالنقصان، إذ لا يجوز نقصان التصديق؛ لأنه إذا نقص صار شكاً وخرج عن اسم الإيمان.
وقال بعضهم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان وزيادته مثل جماعة أهل السنة، وقول مالك في ذلك مشهور، لكنه قال: الإيمان بالله ورسوله هو التصديق الذي لا يتصور معه النقصان.
لأنني مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام، والإيمان بالرسول هو التصديق بأنه أرسل من عند الله عز وجل، أيصح أنني في يوم من الأيام أشك في أن الله تعالى أرسله؟ لو شككت لحظة واحدة في أن الله أرسل محمداً لكفرت بذلك.
فقالوا: إنكار مالك أن الإيمان هو التصديق في باب الإيمان بالله ورسوله فقط، وأن ذلك يتصور النقصان إلا إذا شك، وهو كلام يحتاج إلى تأويل.
وعلى أية حال! ثبت أن الإمام مالكاً رحمه الله قال بنقصان الإيمان وزيادته كما قاله جماعة أهل السنة.
قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا -الذين هم سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر و(28/13)
نقل النووي لكلام ابن الصلاح في معنى الإسلام والإيمان
وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: قوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، (والإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)؛ قال: هذا بيان لأصل الإيمان ولزيادة الإيمان وكمال الإيمان وتمام الإيمان إلى آخره.
وأصل الإيمان هو مطلق الإيمان، إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) وهذا قبل العمل، إذاً: قد توفر فيه أصل الإيمان ومطلق الإيمان.
قال: هذه الشعب الإيمانية بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين.
وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم؛ لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال انقياده أو اختلاله.
ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين، وذلك عندما أتى وفد عبد القيس، وقالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك مضر، وإنا لا نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا، قال: آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتؤدي الخمس من المغنم)، وهذه شعائر الإسلام، ومع هذا أطلق عليها هنا الإيمان؛ لأنها لابد أن تكون موجودة ومصاحبة لإقرار القلب.
ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة.
ويفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان؛ لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، نفى الإيمان عن الزاني، وهو نفي للإيمان الواجب الذي يأثم العبد بتركه، ومن سوء ما يخل به، ولو قلت: إن هذا نفي لأصل الإيمان للزمني أن أقول: إن من زنى كفر، وهذا الذي وقع فيه الخوارج وكادت المعتزلة أن تقع فيه، أي: كادت المعتزلة أن تذهب إلى مذهب الخوارج، ولكنهم ذهبوا مذهباً رديئاً أيضاً، وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، لا نثبت له الإيمان ولا نثبت له الكفر، بل نقول: هو في منزلة بين المنزلتين.
قال: لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة؛ لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، يعني: لو قلت: فلان مؤمن، فمعناه أنه حقق كمال الإيمان، ولذلك في حديث سعد بن أبي وقاص قال: (يا رسول الله! إنك تعطي فلاناً ولا تعطي فلاناً، وهو مؤمن، فقال عليه النبي عليه الصلاة والسلام: أو مسلم؟)، يعني: يا سعد هذا الرجل يأتي بالشعائر الظاهرة، وعند أن رد النبي صلى الله عليه وسلم على سعد قال له: (أو مسلم) لم يكن يقصد نفي الإيمان المطلق، إنما يقصد نفي كمال الإيمان فيما يتعلق بعلم سعد؛ لأنه لا علم له بذلك، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها حين ينتهبها وهو مؤمن).
إذاً: نفي الإيمان هنا، إنما هو نفي للإيمان الواجب، أما أصل الإيمان فهو باق؛ لأنه لا يتصور أن يقال: إن الزاني كافر، وإن السارق كافر، وإن القاتل كافر؛ لأن هؤلاء مرتكبون للكبائر، ومرتكب الكبيرة ليس كافراً، خلافاً للخوارج.
نكتفي بهذا القدر، ولنا إن شاء الله تكملة بعد ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم(28/14)
شرح كتاب الإبانة - فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو
يعتبر الإيمان بالله عز وجل أفضل الأعمال وأجلها عند الله عز وجل، وقد عد العلماء من أخلاقه وصنوف شعبه ما إذا سمعه العقلاء من المؤمنين دأبوا على رعاية أنفسهم باستعمالها، وكل هذه الأخلاق والشعب قد جاء بها الكتاب، وجاءت بها السنة، وشهد بصحتها العقل السليم.(29/1)
باب فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو وأخلاق المؤمنين وصفاتهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: فضائل الإيمان وعلى كم شعبة هو، وأخلاق المؤمنين وصفاتهم].(29/2)
حديث أبي هريرة (الإيمان بضع وستون شعبة)
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أفضلها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)].
الراجح من جهة الرواية والنص: (بضع وستون)، وهي المتفق عليها بين أهل العلم.
أما من جهة الواقع وجمع شعب الإيمان من الكتاب والسنة، وتتبع الآيات والروايات؛ فقد وصل غير واحد إلى أن شعب الإيمان بضع وسبعون شعبة.
قوله: (أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله) يفيد أن التوحيد على قمة الإيمان، والتوحيد شهادة، ولذلك قال: (أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله)، أي: النطق باللسان بهذه الكلمة.
وأدناها متعلق بعمل الجوارح، فقال: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).
ومن شعب الإيمان: الحياء، والحياء هو انفعال نفسي أو غريزي يخلق في العبد أو يجبل عليه.
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان سبعون باباً أو اثنان وسبعون باباً، أرفعه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)]، روايات مختلفة في هذا الباب، منها الصحيح ومنها الضعيف.
[قال عبيد الله بن محمد، وهو أبو عبد الله بن بطة: وأنا أذكر من أخلاق الإيمان وصنوف شعبه ما إذا سمعه العقلاء من المؤمنين دأبوا على رعاية أنفسهم باستعمالها، لعل الله تعالى أن ينفعني وإياهم بها، فيحشرنا في زمرة المؤمنين الذين جمع الله الكريم فيهم هذه السبعين خصلة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وبالله نستعين، فهو حسبنا ونعم الوكيل].
أراد الإمام أن يعدد خصال الإيمان التي وصل إليها بعض أهل العلم، ولذلك قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة.
يعني: لقد اجتهد أقوام من أهل العلم في حصر شعب الإيمان، لكن هذا الأمر محل اجتهاد، ويصعب القطع بأن المراد بشعب الإيمان هي التي جمعها أهل العلم، خاصة وأن بعض هذه الشعب المجموعة أدلتها ضعيفة، بل ضعيفة جداً، بل موضوعة، فيصعب القطع بأن ما جمعه أهل العلم تحت باب شعب الإيمان هي المرادة من حديث النبي عليه الصلاة والسلام.
ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان.
وقال الحافظ ابن حجر: ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، فقد عدها ابن حبان، وعدها البيهقي، وغير واحد من أهل العلم، لكنهم لم يتفقوا على شعب واحدة، فعند كل واحد ما ليس عند الآخر، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، قال الحافظ: لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما سأذكره.
ثم شرع في بيانها في فتح الباري المجلد الأول صفحة (52)، وقد ألف الحافظ البيهقي كتاباً كبيراً في شعب الإيمان، بلغ عدة مجلدات، والكتاب الآن مطبوع طبعتين، وقد اختصره القزويني في مجلد واحد اسمه: مختصر شعب الإيمان للإمام البيهقي، كما قد سبق البيهقي إلى ذلك شيخه الحليمي، فألف كتاباً في شعب الإيمان، وهو مطبوع، وقد اعتنى بشرح الآيات وشرح الأحاديث.(29/3)
سرد المؤلف لشعب الإيمان
أما اجتهاد ابن بطة في ذكر كلام أهل العلم في حصر هذه الشعب، فقد جاء بسنده عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: [إن أحق ما بدأ به العبد من الكلام أن يحمد لله ويثني عليه.
الحمد لله نحمده ونثني عليه بما اصطنع عندنا أن هدانا للإسلام، وعلمنا القرآن، ومنَّ علينا بمحمد عليه السلام، وأن دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام].
وفي الحقيقة أن هذا عند التفرد، يعني إذا ذكر الإيمان وحده في نص أو في دليل شمل معه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده في نص شمل معه الإيمان، أما إذا ذكر الإيمان والإسلام في نص واحد فلكل واحد منهما مدلول يخصه، ولذلك يقول العلماء: الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا اجتمعا، أي: إذا اجتمعا في نص افترقا في المعنى والمدلول، وإذا افترقا، أي: ذكر كل واحد منهما لوحده اشتمل على الآخر.
قال: [وبه أرسل المرسلون قبله، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وهو الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، والتصديق والإقرار بما جاء من الله، والتسليم لقضائه، وحكمه، والرضا بقدره، وهذا هو الإيمان، ومن كان كذلك فقد استكمل الإيمان].
أي: من حقق هذا كله، فقد حقق كمال الإيمان وتمامه، إذاً: هو يشير إشارة إلى كمال الإيمان ونقصانه؛ لأن الشيء الذي يقبل الزيادة والكمال لا بد أن يقبل النقصان، وإلا فقبل أن يكمل كان ناقصاً، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، أي: أن الإيمان يزيد وينقص.
قال: [ومن كان مؤمناً حرم الله ماله ودمه، ووجب له ما يجب على المسلمين من الأحكام].
يعني: إذا ثبت الإيمان -ومعه الإسلام من باب أولى لعبد- فقد حرم الله عز وجل دم هذا المؤمن وعرضه وماله إلا بحقه، قال: [ولكن لا يستوجب ثوابه ولا ينال الكرامة إلا بالعمل فيه، واستيجاد ثواب الإيمان عمل به].
أي: لا بد لمن زعم أنه مؤمن أن يأتي من العمل ما يوجب لصاحبه الثواب عند الله عز وجل، إذ إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، والأعمال جزء من الإيمان، ومن الأعمال ما ينقض الإيمان، بل وينقض الإسلام، ومن الأعمال ما له تعلق بالكمال الواجب، ومن الأعمال ما له تعلق بالكمال المستحب على التفصيل السابق.
قال: [والعمل به]، أي: بموجبات الإيمان، [اتباع طاعة الله تبارك وتعالى في أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاقتداء بالصالحين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا]، هذا كله من الإيمان، [ومحافظة على أداء الجمعة، والجهاد في سبيل الله، والاغتسال من الجنابة، وإسباغ الطهور، وحسن الوضوء للصلاة، والتنظيف، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وصلة ما أمر الله تعالى به أن يوصل، وحسن الخلق مع الخطأ، واصطناع المعروف إلى الأقرباء، ومعرفة كل ذي حق حقه، من والد فوالدة فولده، فذي قرابة، فيتيم، فمسكين، فابن سبيل، فسائل، فغارم]، أي: المدين، [فمكاتب]، الذي يكاتب سيده على الحرية في مقابل ثمن مدفوع، [فجار، فصاحب، فما ملكت اليمين]؛ كل ذلك الإتيان به من الإيمان، [والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله، والبغض في الله تعالى، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعداء الله، والحكم بما أنزل الله، وطاعة ولاة الأمر]، أي: ما داموا موحدين، وما داموا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، [والغضب، والرضا، ووفاء بالعهد، وصدق الحديث، ووفاء بالنذور، وإنجاز الموعود، وحفظ الأمانة من كتمان السر أو المال، وأداء الأمانة إلى أهلها، وكتاب الدين المؤجل بشهادة ذوي عدل]، أي: كتابة الدين الذي بينك وبين أخيك من الإيمان، وكثير من الأخوة يتورعون عن ذلك! [والاستشهاد على المبايعة، وإجابة الداعي للشهادة، وكتابة بالعدل كما علم الله تعالى، وقيام الشهادة على وجهها بالقسط]، أي: بالعدل، [ولو على النفس والوالدين والأقربين، ووفاء الكيل والميزان بالقسط، وذكر الله تعالى عند عزائم الأمور، وذكر الله تعالى على كل حال، وحفظ النفس، وغض البصر، وحفظ الفرج، وحفظ الأركان كلها عن الحرام، وكظم الغيظ، ودفع السيئة بالحسنة، والصبر على المصائب، والقصد في الرضا والغضب، والاقتصاد في المشي والعمل، والتوبة إلى الله تعالى من قريب]، أي: المبادرة والمسارعة إلى التوبة، [والاستغفار للذنوب، ومعرفة الحق وأهله، ومعرفة العدل إذا رأى عامله، ومعرفة الجور إذا رأى عامله كيما يعرفه الإنسان من نفسه إن هو عمل به، ومحافظة على حدود الله، ورد ما اختلف فيه من حكم أو غيره إلى عالمه]، إذا كان جاهلاً فمرد ذلك إلى أهل العلم الذين يستنبطون الأحكام من كتاب الله، [وجسور على ما لم يختلف فيه من قرآن منزل، وسنة ماضية، فإنه حق لا شك فيه، ورد ما يتورع فيه من شيء إلى أولي الأمر الذين يستنبطونه منهم، وترك ما يريب إلى ما لا يريب]، أي أن ترك المشتبهات من الإيمان، [واستئذان في البيوت، فلا يدخل البيت حتى(29/4)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أكمل المؤمنين إيماناً)
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)].
قوله: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) لو أن واحداً سيئ الخلق، بأن يكون شخصاً كذاباً، فاحشاً بذيء اللسان، فهل تسلب عنه الإيمان حتى لا يبقى منه شيء، أم لا بد أن يكون عنده قدر من الإيمان؟ لا بد أن يكون عنده قدر من الإيمان، إذاً هذه الشعبة -أي: حسن الخلق- متعلقة بكمال الإيمان، والنص واضح، قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، فأثبت له الإيمان، لكنه يزداد إيماناً وكمالاً وتماماً بحسن الخلق، وكذلك قوله: (خياركم)، أي: أفضلكم وأحسنكم خلقاً وإيماناً من كان خيراً لنسائه وأهله.
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله)]، إذاً: المعاشرة بالمعروف كما قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] من الإيمان يا إخواني! ومعاملة الرجل لزوجته معاملة حسنة ليس خدشاً في رجولته وإيمانه، بل يدل ذلك على كمال وتمام الإيمان في قلبه.
قال: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله)]، وهذا لا ينسحب على رجل يخاف من امرأته، إذ إنه مضطر أن يعاملها أحسن معاملة، ومنبع ذلك هو الخوف من زوجته! فهل يستويان؟!(29/5)
حديث أبي هريرة (الحياء شعبة من الإيمان)
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان)]، كلام جميل.
والحياء نوعان: حياء مشروع، وحياء غير مشروع، فلو قيل لامرأة متبرجة: البسي خماراً استري نفسك قليلاً، تقول لك: أنا أستحي من الناس، ماذا أقول للناس؟ لو رآني الناس مرتدية النقاب أو الخمار فماذا أقول لهم؟ أين أذهب منهم؟ أنا ممكن في الحي أن أخرج باللباس العادي وأضع الخمار معي في الشنطة، فإذا خرجت من الحي لبسته! فهل هذا حياء؟ لا، هذا جبن وضعف وخور، فضلاً عن كونه معصية لله عز وجل ولرسوله.
كذلك الرجل الذي يستحي أن يتزيا بزي الإسلام في وجهه أو في بدنه، يستحي أن يلبس عمامة، أو يلبس طربوشاً، أو يلبس ثوباً، مع أن اللباس هو دلالة على منهجية معينة، هذه المنهجية أولى من منهجية من تجلس معه، إذاً: فلم الحياء؟ إذا كان الشرع قد أذن لنا بأوصاف في الزي دون تحديد زي بعينه، يعني: لو نظرت إلى هذا النقاب تجده غير نقاب الحجاز، تجده غير النقاب في سوريا، تجده غير النقاب في بلاد المغرب، إذاً: لكل امرأة من هذه البلاد نقاب يخصها، فلو أنك رأيت امرأة مصرية في المغرب تلبس النقاب عرفت أن هذه مصرية في بلاد المغرب؛ لأنها ملتزمة بزيها الذي اقتنعت بأنه الزي الشرعي، فهل تأثم إحدى هؤلاء النساء؟
الجواب
لا تأثم ما دامت قد حققت شروطاً معينة اتفق عليها أهل العلم في زيها، ولا يلزم المرأة أن تلبس النقاب المصري، بل إذا لبست النقاب الحجازي أو المغربي أو الشامي تكون متبعة، والمهم تحقق الشروط التي اشترطها الشرع في لباس الرجل والمرأة، فإذا كان ذلك فهذا زي مشروع، وقلت هذه المقدمة لأن بعض الناس يستحي -بزعمه- أن يلبس الزي الأزهري، مع أن الزي الأزهري مشروع ولا بأس به؛ خاصة وأنه صار علامة ودلالة على أهل العلم، فالناس أول ما ينظرون إلى شخص يلبس عمامة حمراء أو طربوشاً أحمر، ويلبس جلابية -حتى وإن كان أجهل الجاهلين، حتى ولو لم يكن أزهرياً- يسرعون إليه يستفتونه في كل شيء؛ لأنه قد عرف عند الناس أن هذا الزي علامة ودليل على أهل العلم.
إذاً: هذا الزي أخذ وقتاً معيناً، إذا قلنا إن المسبحة مشروعة، وقد جاءت أدلة كثيرة على مشروعيتها، ومن قال: بأنها غير مشروعة رجع عن قوله هذا إلى مشروعيتها، لكن بقيت الكراهة التنزيهية في استعمال المسبحة مع مشروعيتها؛ لأنها صارت علامة على أهل البدعة، يعني: صارت علامة على التصوف والدروشة والابتداع، فهي وإن كانت في أصلها مشروعة، لكن لما صارت علامة على أهل البدع كره العلماء استعمال هذه المسبحة.
ولذلك نهينا أن نتشبه باليهود والنصارى، فأمرنا بإعفاء اللحى، مع أنهم الآن يطلقون لحاهم، فهل نقول: مخالفة لليهود والنصارى سنحلق لحانا؟! لا؛ لأن المخالفة فيما اختصوا به دوننا، كذلك اليهودي عنده طاقية سوداء يضعها على زاوية من رأسه جهة اليمين أو الشمال، فأنا أقول: أصل الطاقية مشروع، بل مسنون، ومن الذي يمنعني أن ألبس هذه الطاقية؟! افرض أن طاقية وقعت من يهودي وهو ماش أو راكب على الباص، فقمت أنا ولبستها وجعلتها في زاوية من رأسي، الذي يراني ماذا يقول عني إنني يهودي، صح أو لا؟ لأن لبس هذه الطاقية بعينها على نحو معين أو بهيئة أو كيفية معينة دليل على معتقد اللابس، والصلة بين المظهر والجوهر وثيقة، يعني: العلاقة بين الظاهر والباطن وثيقة جداً، فتجد مثلاً الذي يلبس زي النبي عليه الصلاة والسلام، أو يتمثل الزي الشرعي يتفاخر بذلك، أو يتعالى ويرتفع بإيمانه على هذا الواقع المر الباطل الذي يراه من حوله، ويشعر بقوة الإيمان، كما أن الجندي في المعركة وهو يلبس زي الجندية والعسكرية يشعر بالقوة والفتوة، كما إذا أتيت الآن بواحد وهو لابس للجلابية مثل حالتي هذه وتعطيه بندقية وتقول له: ادخل الصف وحارب، فسوف يقع مرة بالكل ثم يقع على وجهه، ومرة على ظهره، ومرة على جنبه، والعساكر الذين يلبسون زياً عسكرياً لا بد أنهم سيسبقونه، نفس الروح التي يشعر بها الجندي لا يشعر بها من لم يتجند، أو لم يشارك في حروب المجاهدين، وهكذا العلاقة القوية بين الظاهر والباطن.(29/6)
بيان معنى حديث (الحياء شعبة من الإيمان) عند المؤلف رحمه الله
[قال ابن بطة: فإن سأل سائل عن معنى هذا الحديث، فقال: كيف يكون الحياء شعبة من الإيمان، والإيمان إنما هو قول وعمل ونية؟] هذا مذهب أهل السنة، والحياء هل هو قول؟ ليس قولاً، هل هو نية؟ ليس نية، هل هو عمل؟ منهم من قال: هو عمل، ومنهم من قال: ليس بعمل، قال: [والحياء سجية غريزية يطبع عليها البر والفاجر، والمؤمن والكافر].
يعني: أن الكافر يستحي، فهل تتصورون أن الجاهلية قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام لم يكونوا يفعلون خيراً قط؟ كان فيهم الخير والشر، لكن ليست لهم في الخير نية، وكذلك هذه الشعبة، أي: الحياء.
قال الإمام: [فنقول في معنى ذلك والله أعلم: إن المؤمن يحول بينه وبين المعاصي والكبائر وارتكاب الفواحش الإيمان بالله عز وجل]، يعني: السد المنيع الذي يحول بينك وبين المعاصي هو إيمانك بالله، [والتصديق له فيما تواعد عليها من العقاب، وأليم العذاب].
إذاً: الذي يحول بينك وبين المعصية أمران: إيمانك بالله عز وجل، ووعده لك بالثواب إن تركت المعاصي، وخوفك من الله عز وجل الذي توعدك بالعقاب والجزاء إن اقترفت المعصية، قال: [وكذلك يقوده إلى البر، واصطناع المعروف، والإيمان بالله عز وجل، التصديق له فيما وعد، وضمن لفاعلها من حسن المآب وجزيل الثواب، وكذلك تجد المستحي ينقطع بالحياء عن كثير من المعاصي].
وربما اشتاقت نفس العبد إلى الوقوع في معصية وتهيأت له أسبابها، وكان في خلوة من الناس، لكنه يوقن أن الله تعالى مطلع عليه، ويعلم سره ونجواه، فمنعه حياؤه من الله عز وجل أن يقترف المعصية على هذا النحو، أليس هذا باباً من أبواب الحياء، إذاً: الحياء شعبة من شعب الإيمان.
قال: [وإن لم تكن له تقية، فصار الحياء يفعل ما يفعله الإيمان من ترك المعاصي.
وكذلك أيضاً ربما سئل الرجل في نوائب المعروف واصطناع الخير، فأجاب سائله حياءً منه وإن لم يكن له هناك نية سبقت فيه.
وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد! إن الرجل ليسألني وأنا أمقته فما أعطيه إلا حياءً].
أي: شخص يسأل الحسن البصري فيقول: يأتيني السائل وفي حقيقة الأمر أنا أبغضه، وأريد ألا أعطيه شيئاً، لكني أعطيه حياءً، مثل أن يحرجك واحد فتعطيه حياءً، فهل لك على هذه الكيفية نية؟ أنت لم تدفع إلا من أجل أن تتخلص منه.
ولذلك يعتبر التسول غلطاً، ربنا يعافينا وإياكم من هذه الصنعة، فهي قد بلغت الكمال والتمام، يعني: تعرف كيف تأخذ من المسئول، فإذا كان الأمر كذلك فهل دافع الصدقة الحياء؟ لا، ليس الحياء.
فقال: [فهل لي في ذلك من أجر؟ قال أبو سعيد: إن ذاك من المعروف، وإن في المعروف لأجراً].
رجل أراد أن يتخلص من ماله الحرام، كأن يكون عنده أموال من ربا، فهو يريد أن يتخلص منها امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وكان بإمكانه أن يحتفظ بهذا المال وينفقه حيث شاء؛ لكن حياءه من الله عز وجل هو الذي دفعه أن يتخلص من هذا المال، وإن لم يكن للعبد فيه نية الصدقة أو نية الإنفاق في سبيل الله إلا أنه مأجور، إذ إنه استحى من الله وتخلص من هذا المال الحرام؛ لأنه لو أبقاه لكان آثماً كما في قول الصحابة رضي الله عنهم للنبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (وفي بضع أحدكم صدقة)، والبضع هو الجماع، أو كناية عن الجماع، ولذلك قالوا (يا رسول الله! كيف يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها صدقة)، أي: مع أن هذا أمر غريزي يأتيه المرء بنية وبغير نية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قال: نعم.
قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له بها أجر)؛ لأنها من عموم المعروف، ومن عموم أداء الواجبات؛ لأن إتيان المرأة واجب على الرجل، وهناك خلاف بين أهل العلم في المدة التي يجب على الرجل أن يأتي فيها امرأته: فمنهم من قال: تجب مرة في كل أربعة أيام، قياساً على ما لو كان المسلم قد نكح أربعاً من النساء، فإن حظ كل واحدة مع التعدد ليلة يأتيها فيها الرجل.
ومنهم من قال: يجب عليه وجوباً -يأثم بتركه- أن يأتيها في كل طهر مرة، وهؤلاء هم الظاهرية، واستندوا إلى قول الله عز وجل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222].
وكذلك المسافر إذا استأذن امرأته فيما لا يزيد عن أربعة أشهر إلا بإذن وطيب خاطر من المرأة، وأن يكون ذلك في سفر ضروري لطلب معاش أو رد عدو أو غير ذلك من الأغراض الشرعية للسفر.
قال: [قال سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال]، وهذا إسناد مرسل، لكن معنى الحديث تشهد له نصوص شرعية كثيرة: [(إن قلة الحياء كفر)].
أي: كفر عملي لا يخرج به صاحبه من الملة، قال: [فهذا شبيه بقوله: (الحياء شعبة من الإيمان)] إذاً: هذا خرج مخرج مفهوم المخالفة، يعني: هذا تخريج على الأصل، فالأصل أن الحياء من الإيمان، فترك الحياء لا بد أن يكون(29/7)
حديث أبي أمامة (من أحب لله وأبغض لله)
قال: [عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)].
إذاً: هذه الشعب متعلقة بكمال الإيمان؛ لأنه قال: (من أحب لله)، فأنا أحب فلاناً لكن ليس لله بل لمصلحة دنيوية، وهذا لا يجوز، فأنا أحبك في الله لأنك رجل موحد، رجل تحافظ على دينك أمراً ونهياً، إتياناً وتركاً، رجل تغضب لغضب الله عز وجل وغضب رسوله، وتفرح لفرح الله ولفرح رسوله عليه الصلاة والسلام، رجل قائم بالكتاب والسنة؛ فهذا هو الحب في الله، لكن إن أحببت من أول نظرة، ولم أعرف ما هو دينك، ما هي أخلاقك، فهل هذا هو الحب في الله؟! لو أن واحداً أحب آخر على هذا النحو لا يؤجر عليه؛ لأنه لم ينعقد في الله عز وجل، لكنني لو أحببتك لله، لا يشرع لي أن أبغضك إلا لله عز وجل، ولذلك أهل السنة والجماعة يعتقدون أن المرء لا يحب لذاته ولا يبغض لذاته، وإنما يحب لعمله ويبغض لعمله، ومن الناس من يجمع الخير والشر، الطاعة والمعصية، الصلاح والفساد، فمن عقيدة أهل السنة أن المرء يحب على قدر ما فيه من طاعة، ويبغض على قدر ما فيه من معصية، وعندما تأتي وتبحث على أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة في هذه القضية، أي: قضية الحب والبغض، تجد أننا ليس لنا علاقة بأهل السنة والجماعة، كيف؟ فلان هذا يصوم ويصلي ويزكي ويحج ويعتمر ويتطهر من الجنابة، ويفعل كل الطاعات؛ لكن إن كان بيني وبينه قضية مبنية على الطمع فحرمني أبغضته، رغم ما فيه من طاعة، فهذا البغض يأثم به العبد؛ لأنه لم ينعقد في الله، ووقع على هذا العبد الطائع بغير ذنب منه ولا جريرة ارتكبها.(29/8)
حديث (من أعطى لله ومنع لله)
قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل إيمانه)]، أي: أن هذا أمر متعلق بكمال وتمام الإيمان، فقال: العطاء والمنع لا بد أن تنعقد في الله عز وجل، فمثلاً: عندما تسافر أو تذهب إلى الحج فترى كل أهل البلد منهم من جاء بوزة، ومنهم من جاء ببطة، ومنهم من جاء بعجل وغير ذلك، وهم في حقيقة الأمر لم يعطوه مساعدة وإنما ينتظرون نوالاً قادماً، ولو رجع هذا الحاج من الحج صفر اليدين، فانظر إلى السخط والغضب الذي ينصب عليه، واتهامه بالبخل والشح وغير ذلك، وهذا يدل على أن العطاء أولاً لم يكن لله؛ لأنك الآن عندما تأتي بهدية لفلان أو تذهب إلى فلان وتعطيه هدية، الأصل ألا تنتظر أن يردها إليك، لكنه من حسن إيمانه أن يرد إليك الهدية وزيادة، يعني: هذا من حسن الخلق، ومن أعظم البر، ولذلك لما (استلف النبي عليه الصلاة والسلام بعيراً، فلما جاء صاحب البعير ليأخذه من النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: التمسوا له بعيراً، فذهبوا ليلتمسوا له بعيراً فلم يجدوا إلا بعيراً هو أفضل من بعيره، قالوا: يا رسول الله! لم نجد إلا بعيراً هو أفضل من بعيره، قال: أعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً)، ولذلك هل هذا داخل في باب الربا أو في حسن القضاء؟ في حسن القضاء، فمثلاً: أنت عندما تعطيني ألف جنيه سلفاً، وتقول لي: خذ هذه الألف جنيه، ثم بعد سنة أتيت أردها لك ألف جنيه، فقلت لي: لا، الألف بألف ومائة، أعطني المائة قبل الألف، فهذا غير مشروع؛ لأنه ربا، وهو معروف في القرآن بربا النسيئة، أي: ربا التأخير، إذاً: التأخير في الزمن مقابل الزيادة لا يجوز، لكن لو أخذت منك الألف جنيه، وفي وقت القضاء أتيت بخمسمائة جنيه فوق الألف هدية، فلك أخذها، أي: الهدية؛ لأنك على يقين أن هذا ليس من باب الربا؛ لأنه ليس مشروطاً، ولم تصب إليه نفس الدائن، وإنما هو أعطاك قرضاً حسناً، فلو أتيت ترده له بنفس القدر فلا حرج عليك ولا عليه، لكن لو أعطيته زيادة من باب الهدية فهذا بلا شك من باب حسن القضاء لا من باب الربا، وإنما يفرق بين هذا وذاك أن يكون مشروطاً في عقد المداينة، مثل البنك بالضبط، فعندما تأخذ من البنك عشرة آلاف جنيه، ثم بعد عام أردت أن ترجع هذا المبلغ للبنك؛ فإنه يضع في يديك كلبشات الحديد، يعني: أن البنك حين التعاقد يقول لك: إقترض مني ما شئت في مقابل (16%) فائدة العام الأول، فإن تأخرت سيضاعف عليك هذه الفائدة حتى تصل إلى مئات في المائة، وهذا مصداق لقول الله عز وجل: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، فالربا بلاء عظيم جداً بخلاف الزكاة، فإن بعض الناس يتصور أن دفع الضرائب للحكومة زكاة، ويقول: لقد زكيت، وهذا خلط بين الإيمان والكفر، خلط بين ما هو مشروع وما هو ممنوع، وبعض الناس يتصور أن الزكاة تنقص المال، وهذا تصور لا يخرج إلا من قلب قد فسد إيمانه؛ لأنه يحاج الله تعالى في قوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، وقال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فإخراج الزكاة إنما هو طهرة للبدن والمال، وزكاة للأنفس التي أخرجت هذا المال، أما أن يعتقد إنسان أن إخراج الزكاة منقصة للمال؛ فإن المال ليس بعدده ولا كيله، وإنما هو ببركته التي يطرحها الله عز وجل فيه، فكم من إنسان يتقاضى راتباً بالألف، لكنه يبكي بالليل والنهار، وكم من إنسان يأخذ بعض الدراهم، لكنه يعيش عيشة سعيدة بسبب إيمانه وتقواه، ويبارك الله له في ماله وفي ولده وفي رزقه، وكم من إنسان يأخذ الألف وفي كل شهر يبتلى جزاء هذا المال المحرم في ولده أو في امرأته أو في نفسه أو في قلبه، بخلاف إنسان تقي نقي صفي يأخذ مالاً قليلاً، ويمشي على قدر هذا المال طيلة الشهر، والعجب أنه يدخر منه، ولا يشعر بأي ضيق في الحياة، ويرى أن الحياة كلها سعادة وهناء، وإنما مرد ذلك إلى الإيمان والكفر، إلى السعادة والشقاء، إلى الطاعة والمعصية، إلى الصلاح والطلاح، وليس ذلك مرهوناً بإخراج بعض المال مما يملك الإنسان.(29/9)