ميزان الأعمال في الآخرة
نبدأ أولاً بما روي بأن الحسنات والسيئات توزن يوم القيامة بالميزان، وسوف نتكلم عن الميزان، ثم ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: أن الكفار لا يحاسبون يوم القيامة، وسنبين الخلاف فيه ثم الإيمان بالصراط.
أولاً الميزان من علم الغيب، وعلوم الغيب أمرنا جميعاً أن نؤمن بها، والله جل وعلا قد علق الفلاح على من آمن بالغيب، فقال عمن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]، فالإيمان بالغيب هو معقد الفلاح، ومن الغيبيات الميزان، وهو لغة: ما توزن به الأشياء، وشرعاً: الميزان الحقيقي الذي له كفتان توزن فيه أعمال الناس يوم القيامة.(53/3)
أدلة ثبوت الميزان
الميزان ثابت في الكتاب والسنة، ويوافق عليه جل أهل السنة والجماعة، وما خالف في ذلك إلا المعتزلة أصحاب البدع، وبعض أهل السنة والجماعة أولوه على غير حقيقته.
أما ثبوته بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، وقال جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6 - 9].
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في مسند أحمد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة: (فتوضع السجلات في كفة والبطاقة المكتوب فيها (لا إله إلا الله) في كفة أخرى) فدلل بالنص الصريح أنه ميزان حقيقي له كفتان: يمنى ويسرى.(53/4)
رد خلاف المعتزلة لأهل السنة في حقيقة الميزان
السلف بينهم شبه اتفاق على أن ميزان يوم القيامة حقيقي، إلا ما أتى عن مجاهد والأعمش من أهل السنة والجماعة فقد قالا: المقصود بالميزان العدل، واستدلوا بما استدل به المعتزلة، وهم أهل تأويل لا يقبلون شيئاً على حقيقته في الغيبيات بل يأولونه بما يوافق العقول؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل، فلما سمعوا أن الميزان له كفتان قالوا: ليس هناك ثمة ميزان، ووزن الأعمال إنما هو شيء معنوي، معناه العدل، وكل إنسان سيحاسب بعدِّ حسناته إن كثرت يدخل الجنة، وسيئاته إن كثرت إن شاء الله أن يعذبه فيعذبه، وأيضًا بالعدل في الخصومات، هذا معنى الميزان عند المعتزلة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9]، وهذا معناه: أنك في التعامل بينك وبين الناس تعدل في كل شيء تعدل في الإحسان تعدل في القدح أو الجرح والتعديل تعدل في العطاء والمنع تعدل في البيع والشراء.
ونحن نوافقهم على ذلك إن قصد بهذا الميزان العدل في التعامل البشري في الدنيا، لكن الله ذكر الميزان، والميزان لفظ صريح، فلا بد علينا لزاماً أن نثبت ما أثبته الله، فهو ميزان حقيقي الله أعلم بكيفيته، فنثبت أولاً حقيقة ما أثبته الله وهو الميزان، ثم نثبت تبعاً لهذا لازم الميزان وهو العدل، فيكون في ذلك رد على المعتزلة.
ونحن نثبته حقيقية ونقول: الله أعلم بكيفيته، ونثبت أن له كفة يمنى وكفة يسرى توزن فيهما الأعمال، وبذلك يظهر العدل.
إذًا: من أهل السنة والجماعة من قال بقول المعتزلة، ويغفر الله لهم ذلك؛ لأنه اجتهاد أخطئوا فيه، فلهم -بإذن الله- أجر، ونحن مع ما دل عليه الكتاب من أن الميزان له حقيقة يوم القيامة، وله كفتان كفة يمنى وكفة يسرى.(53/5)
اختلاف العلماء فيما يوزن في الميزان
ما الحكمة من الميزان يوم القيامة؟ الإجابة: لتوزن الأعمال أو الصحائف أو البشر، أقوال اختلف فيها العلماء.
وسيكون يوم القيامة ميزان على مرأى من الناس، لتوزن أعمال العباد فيه، لكن هل العمل شيء حسي أم معنوي؟ معلوم أن الأعمال كلها معنوية، فكيف ستوزن؟ أقول: إن الله صادق، فإن الله جل وعلا سيظهر لنا قدرته يوم القيامة، والأعمال ستجسم وتصور وتوضع في الميزان، يدل على ذلك ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما يوم القيامة)، فالله جل وعلا يجعل البقرة وآل عمران وكأنهما غمامة تظلل صاحبها، وتحاج عنه، بل تتكلم، فهي ليست فقط ظلة فوق المؤمن، وهذه كرامة للقارئ بين يدي الله.
فالأعمال إذاً ستجسم وستوزن كمال قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان للرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذه الكلمتان ستوضعان يوم القيامة في الكفة لتزن وترجح بها، فهي ثقيلة جداً في الميزان.
وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في ميزان العبد: حسن الخلق)، فحسن الخلق شيء معنوي، ومع ذلك فإن الله سيجسمه يوم القيامة، ثم يوضع على الميزان فيكون أثقل شيء فيه.
فهذه دلالة واضحة على أن الأعمال ستجسم وتصور وتوزن يوم القيامة لتفرق بين العاملين.
هذا هو القول الأول لأهل العلم، وهم من أهل السنة والجماعة.
القول الثاني: أن الذي سيوزن هو العامل، وهذا القول يلزمه الدليل؛ إذ لا يقبل قول أحد إلا بدليل، وإلا يرد على صاحبه حتى يأتينا بالحجة والبرهان.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه ودليل أصحاب هذا القول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرء البدين الجسيم يأتي يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة)، إهانة واحتقاراً وسخرية وتبكيتاً وتوبيخاً لهذا المرء الجسيم البدين أمام أعين الخلق من لدن آدم إلى آخر الخليقة نعوذ بالله من الخسران، ونعوذ بالله من الفضيحة يوم القيامة.
هذا الرجل الذي ملأ الأرض، وكان يمشي كأنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً، وكان ممتلئاً بالكبر، يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قال الراوي: فاقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وأيضاً حديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى صحابته فرآهم يضحكون، فسألهم عن ذلك، فقالوا: نضحك من دقة ساق ابن مسعود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مقولة تبين لك أنك إذا أردت أن تقدر الناس حتى ولو بشيء فيه ضحك أو ابتسامة فلا تبتسم حتى تنزل الناس منازلهم وتعطيهم قدرهم، فرسول الله ما ابتسم كما ابتسموا وما أنكر عليهم، ولكنه بين لهم عظم قدر الرجل فقال لهم: (والذي نفسي بيده! إنها لأثقل في الميزان من جبل أحد)، ومعنى هذا: أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سيوزن كله، وعليه فالبشر أيضًا سيوزنون في هذا الميزان يوم القيامة، والكيفية يعلمها الله جل وعلا، وهذا القول الثاني لأهل السنة والجماعة.
القول الثالث: إن الذي سيوزن هي الصحائف، فلله جل وعلا ملائكة يتعاقبون فينا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار يلتقون في الفجر والعصر، ثم يصعدون إلى الله) إلى آخر الحديث، والملائكة وصفهم الله بقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، كل شيء مكتوب ومسطر، وكل شيء قد كتب في الزبر من قبل، ولكن الملائكة تكتب وتصعد لتقارن بين ما في الصحيفة وبين ما في اللوح المحفوظ فلا يخطئه في شيء، فالله جل وعلا يجعل الملائكة يكتبون السيئات والحسنات في الصحائف، ثم هذه الصحائف هي التي ستوزن يوم القيامة، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (توضع السجلات في كفة) السجلات هي التي تكتب فيها الحسنات اليومية والسيئات، ثم توضع في الميزان، فهذه دلالة على أن الصحائف توزن، وهذا أيضاً قول صحيح لأنه مستند لدليل.
إذا دققت النظر ستقول: لا منافاة بين الأقوال الثلاثة بل ستجتمع بينها بقول واحد وهو: يصح أن نصرح بأن الأعمال توزن يوم القيامة، ولدينا الدليل على ذلك من السنة، وأيضاً العامل سيوزن يوم القيامة، وعندنا دليل ذلك من السنة، كما أن الصحائف ستوزن للدليل الوارد في السنة، وإذا نظرت ودققت النظر بالتدبر في آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلا تجد أن لكل شيء حكمة من الله جل وعلا، فالمرء يوزن والحكمة في ذلك: أن يظهر الله جل وعلا لنا مقدار كرامة هذا المؤمن الذي سارع بالخيرات عند ربه، ويبين للناس ثقل ميزانه، وإن كنتم تحتقرونه في الدنيا ولا تسمعون له، (ورب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب) وإن كنتم تنظرون إليه نظرة لا تساوي حقه فهو عندي ثقيل، وأنا سأكرمه على رءوس الأشهاد، فيوزن وتظهر مكانته وكرامته على الله جل وعلا يوم القيامة، وما أجلها من حكمة! وما أروعها من كرامة يكرم الله بها عباده المؤمنين! كما أكرم الله جل وعلا نبيه بأن جعل حاجة كل البشر إليه في الشفاعة، فهذه حكمة من الحكم التي ستظهر.
أيضاً هناك حكمة أخرى تظهر في الأعمال إذا وزنت، حيث يبين الله لنا يوم القيامة أنها تأتي مجسمة مصورة، وفي هذا أيضاً دلالة على قدرة الله جل وعلا، وعلى عظمة الله جل وعلا بأن جعل المعنوي حسياً مادياً أمامنا؛ تقريراً لقول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
ومن الحكم أيضاً: أن هذه الصحائف ستميز بين الحسنات إذا كثرت على السيئات ويكون مآله إلى الجنة -نسأل الله أن نكون منهم- وإذا السيئات كثرت فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وأدخله الجنة.(53/6)
حسن الخلق وتثقيله للموازين
هذه هي أهم النقاط في مسألة الميزان، وسواء كنا سنوزن أو كانت الأعمال ستوزن، فعلى المرء أن يسارع في تثقيل نفسه حتى يكون عند الله ثقيلاً له الكرامة العظمى يوم القيامة، ويشرف ويكرم على رءوس الخلائق من لدن آدم إلى آخر الخليقة، والفقيه تاجر مع الله جل وعلا، ينظر أعظم شيء يثقل ميزانه فيكثر منه، وقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، فإنه ما ترك لنا شيئاً إلا وأظهره لنا ودلنا عليه، وأثقل شيء يكون في الميزان كما في الحديث: (أثقل شيء في الميزان حسن الخلق) ولا غرابة في ذلك فإن الله لما شرف النبي امتدحه أمام الخلق أجمعين بصفة أرقى ما تكون ألا وهي حسن الخلق فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: (ما رأيت ديباجاً ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا والله ما قال لي لشيء أنا فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو قدر له لفعل) وكانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تقول: (كان خلقه القرآن)، وبينت أنه من أفضل ما كان فيه من خلق: أنه ما مست يده الشريفة يد امرأة قط، هكذا الخلق يرقى بالإنسان، كما في مسند أحمد أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرء ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) وهو نائم على سريره بحسن خلقه يرتقي إلى درجة الصائم القائم! وحسن الخلق هو إفشاء السلام، وبذل الطعام، وأن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تحسن للناس حتى وإن أساءوا إليك، ومن تمام حسن الخلق الذي يثقل الموازين ذكر الله أكثر من ذكر نفسك وولدك، وروى البيهقي في الشعب -ويظهر على الحديث الوضع-: (اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون) إذا رآك الناس وأنت تذكر ربك وأنت نائم وقائم وجالس وما عندك إلا ذكر قالوا عنك: مخبول.
فذكر الله جل وعلا هو أثقل شيء في الميزان بعد حسن الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصح الرجل الذي قال: إنه كثرت عليه الشرائع، فقال له: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله جل وعلا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) نسأل الله جل وعلا أن يثقل موازيننا.
آخر ما يستنبط في تثقيل الميزان: الصدقة الجارية، وهي تثقل الميزان، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن المرء إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث منها الصدقة الجارية، الصدقة الجارية تثقل الميزان؛ لأن صاحبها بعد مماته تكتب له حسناتها، وعمله ممتد إلى يوم القيامة، فالصدقة الجارية والوقف هو الذي يثقل ميزانك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من حبس فرساً له في سبيل الله -يعني أوقفه- فإن بوله وروثه وشبعه وريه في ميزانه)، يعني: في ميزان العبد، حتى البول والروث والطعام والشراب في ميزانه إلى يوم القيامة، فما بالك بمن أوقف مالاً معيناً للمجاهدين، أو لأهل العلم، أو للفقراء أو المساكين، هذه كلها تثقل الميزان يوم القيامة.(53/7)
حساب الكفار يوم القيامة وأقوال العلماء فيه
هل الكفار لهم حساب أم ليس لهم حساب؟ هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم من أهل السنة والجماعة على قولين فهما طرفان، وقول ثالث هو وسط، والوسط هو التفصيل وهو الراجح.(53/8)
القول بأن الكفار لا يحاسبون وأدلته
القول الأول: أن الكفار لا يحاسبون، واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما سألوه عن النجوى فقال: (يدني الله المؤمن منه حتى يضع عليه كنفه، ثم يقرره بأعماله يقول: عبدي تذكر يوم كذا وكذا، وتذكر يوم كذا وكذا، فالعبد يقول: أعرف ربي، أذكر ربي، ثم يقول الله جل وعلا: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اليوم أغفرها لك، -محل الشاهد- أما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويتساقطون في نار جهنم- وفي آخر الحديث قال- ثم ينادى: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين) ففي الحديث دلالة على أن الله جل وعلا لا يدني الكافر ولا يضع عليه سترة كما فعل مع المؤمن، بل ينادى بهم فقط: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة على الظالمين.
الدليل الثاني: ما ورد في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما بين لهم أنهم يرون ربهم ولا يضامون في رؤيته قال: (فينادي المنادي: ليلحق كل واحد ما كان يعبد، فأهل الأصنام يلحقون بأهل الأصنام، وأهل الطواغيت يلحقون بالطواغيت، ومن كان يعبد الشمس يلحق بالشمس، ومن كان يعبد القمر يلحق بالقمر، وكل ذلك يكور ويتساقط في نار جهنم، ثم قال: ويبقى من كان يعبد الله من مؤمن بار أو فاجر ومنافق كان يعبد الله رياءً حتى يحاسبوا، وغبرات من أهل الكتاب) فظاهر الحديث أن الذي سيحاسب هم المؤمن البر والفاجر وغبرات من أهل الكتاب والباقي يتساقطون ولا حساب عليهم، فالكفار بهذه الأدلة لا يحاسبون.(53/9)
القول بأن الكفار يحاسبون وأدلته
القول الثاني: أن الكفار يحاسبون، لعمومات تثبت ذلك: الدليل الأول: قول الله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، وهذا وجه الشاهد، فعموم اللفظ يدل على أن عليك البلاغ مثل كل رسول وعلينا الحساب لكل هذه الأمم التي أرسلت إليهم الرسل.
الدليل الثاني: حديث عدي بن حاتم في الصحيح قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان)، فكل هذه عمومات تبين الحساب لأهل الكفر.(53/10)
الجمع بين القولين
القول الوسط: أن الحساب يذكر ويراد به عرض الأعمال على العبد، وهذا بلا ريب المراد من الحساب، فسيحاسبون قطعاً لأن الله جل وعلا سيوبخهم ويبكتهم، ويجعلهم في حسرة وندامة بعرض أعمالهم عليهم، دليل ذلك قول الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65]، وقول الله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] فهذا عرض للأعمال، ويبين الله جل وعلا للكافر هذه الأعمال ويبكته ويجعله في حسرة وندامة على ما فعل وضيع في هذه الدنيا وخاب وخسر في الآخرة.
هذا المراد بالحساب: أنه يراد به عرض الأعمال، فكل شخص يكشف له عن عمله، ويقرر ذلك بشهود من نفسه أو بأعضائه، ثم يلقى في نار جهنم.
كما يذكر الحساب ويراد به زنة الأعمال والفرق بين الحسنات والسيئات، وهذا له نظران: النظر الأول: إن أريد به كفة حسنات وكفة سيئات حتى يرى سبيله إلى النار أو إلى الجنة فقطعاً هم غير محاسبين، لم؟ لأنه لا يمكن أن يرى له سبيل إلا سبيل النار، وليس لهم سبيل إلا الخلود في نار جهنم، فإن أريد بذلك أنه سيرى وزن الحسنات والسيئات فهم غير محاسبين؛ لأنه لا سبيل لهم إلا النار.
النظر الثاني: إن أريد به أنه ينظر في السيئات وتجعل حسنات أهل الكفر هباء منثوراً فنعم، فهم لهم حسنات قد عملوها في الدنيا، من صلة الأرحام، والعطف على المسكين والبهائم، وإن كانوا أضل منهم، ويقولون: حياة الغوريلا! ويدققون النظر في حياة الغوريلا، وكيفية العطف عليها، وقربها من البشر، ثم هم يقتلون المسلمين في العراق! ويالها من قلوب طيبة تقتل الأطفال والشباب والمسلمين وتعتني بالبهائم! أي تعمية هذه على البشر بهذه الطريقة؟! فهذه الحسنات التي يقدمونها يعجل الله جل وعلا لهم بها هذه الطيبات في الدنيا، كما قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]، وأيضًا النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فلا حسنات لهم، فإنما تكون زنة الحسنات والسيئات لتفاوت الدرجات، وهم لا حسنات لهم، وإنما يتفاوتون في الدركات لا في الدرجات، فهم محاسبون، وبقدر ما صنع يوضع في الدرك الأولى أو الثاني ثم المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
أما قول الله تعالى: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:26]، فهو ليس نصاً قطعياً على أنه سيحاسب.(53/11)
الصراط والإيمان به
الصراط والسراط لغتان قال الله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، والصراط لغة: الطريق، وشرعاً: الطريق المضروب على متن جهنم للعبور عليه إلى جنات العلا، نسأل الله أن نكون ممن يمر على هذا الصراط حتى نصل إلى جنة الخلود، وهو من الغيبيات التي يجب على المرء أن يؤمن بها، وقد أناط الله الفلاح بالإيمان بالغيب، ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالصراط، والصراط جاء في الكتاب بالإلماح، وهو بالنص الصريح في السنة النبوية، أما في الكتاب فقال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] قال ابن مسعود وزيد بن أسلم: وإن منكم إلا واردها عابراً عليها على الصراط.
ووجه الشاهد من هذا: أن الغيبيات لا يستطيع الصحابي أن يتجرأ ويتكلم عنها إلا بوحي أو بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو إلماح، فنقول: إن ذلك هو مستند ابن مسعود حين بين أن الصراط يمرون عليه.
أما بالنص الصريح فهو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قال: (ويضرب الجسر -والجسر هو الصراط- بين ظهراني جهنم)، وأيضًا: النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: (أين أجدك؟ قال: تجدني على الصراط، قال: فإن لم أجدك على الصراط؟ قال: تجدني عند الميزان، قال: وإن لم أجدك عند الميزان؟ قال: تجدني عند الحوض، ولا تخطئني في هذه الثلاث)، يعني: إن لم تجدني على الصراط فستجدني عند الميزان، وإن لم تجدني عند الميزان فستجدني عند الحوض عندما تشرب منه، فهذا فيه تصريح بالصراط من قول النبي صلى الله عليه وسلم.(53/12)
صفة الصراط
الصراط له صفة عظيمة بينها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وطالما كان طريقاً فالطريق إما أن يكون معبداً وإما أن يكون متعرجاً، وإما أن يستطيع الإنسان أن يسير عليه وإما لا، فلذلك احتاج البشر لمعرفة صفة هذا الطريق ونوعه وشكله، وأدق ما وصف به الصراط هو ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيه كلاليب مثل شوك السعدان)، ففيه كلاليب وحسك وهو مفلطح وله شوك، وهو (أحد من السيف، وأدق من الشعرة)، فله شوك مثني يخطف البشر قال: (لها شوكة عكيفاء، مثل شوك السعدان تكون بنجد يقال لها: السعدان)، وفي رواية قال: (خطاطيف أو كلاليب مثل شوك السعدان، أرأيتم شوك السعدان؟ فقالوا: بلى يا رسول الله! قال: إنها مثل شوك السعدان تخطف الناس) فهذه التفصيلات التي فصلها النبي من الكلاليب والشوك والعقيفاء والشوكة كلها عملها واحد وهو أن تخطف المرء وتنزل به إلى نار جهنم، ما من أحد يسمع هذا إلا ويرتجف قلبه، فإن الخطب عظيم، والأمر شديد، والهول أعظم مما يتصوره الناس، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، ما من نبي مقرب ولا رسول معظم عند ربه إلا ويرتجف قلبه عندما يرى الصراط، والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا ذلك فيقول: (كلامهم يومئذ -أي: الرسل-: اللهم سلم سلم) الخليل يقول ذلك، والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول ذلك، وموسى الكليم يقول ذلك، حتى أعظم الخلق سيد الأولين والآخرين يقف فينظر إلى الصراط فيقول: رب سلم سلم، وقلبه يرتجف على أمته، وأول من يعبر عليه هم هذه الأمة كرامة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(53/13)
أحوال المارين على الصراط
بين النبي صلى الله عليه وسلم أصناف الذين سيمرون على الصراط، فمنهم من يمر كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب وكالطير والماشي والزاحف ومن يحبو حبواً لأن أعماله قصرت به، والكلاليب تصعد لتخطفه وتخدشه، وقلبه يرتجف، ثم يرى أن الله قد نجاه من المرور على هذا الصراط ووصل إلى الجنة.
المؤمنون في ذلك الموقف يخافون على إخوانهم ويذهب منهم الغل والحقد {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] فينظرون إلى إخوانهم يريدون من الله أن ينقذ هذا الرجل، قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (والمؤمنون منهم كالطرف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب، ثم قال: حتى يكون آخرهم يسحب سحباً -إلى أن يصل سالماً إلى الجنة- ومنهم من تخطفه الكلاليب فيكردس في نار جهنم).
أول من يمر على الصراط هم هذه الأمة الخيرية الكريمة المكرمة بكرامة نبيها صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز على الصراط) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقف على الصراط ويقول: يا رب سلم سلم، ويرتجف قلبه على أمته كما قال (خبأت دعوتي شفاعة لأمتي) فتمر هذه الأمة، ثم تأتي بعد ذلك أمم، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته أول الأمم محاسبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون) يعني: نحن الأولون في القضاء وأول من نحاسب، وكرامة لهذه الأمة فإن أول من يعبر على متن الجسر على جهنم هذه الأمة، جعلنا الله ممن يمر عليه كالطرف أو كالبرق إلى الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
هذا آخر ما تكلم عنه المصنف في باب الغيبيات، ثم يدخل بعد ذلك في باب جديد، ونحن بإذن الله على مشارف الانتهاء من الجزء السادس من شرح أصول الاعتقاد لأهل السنة والجماعة، وبعده الكلام على الفتن التي كانت بين الصحابة، وكيف نتكلم عنها ونتأدب مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(53/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القصاص
من عدل الله جل وعلا أن جعل القصاص يوم القيامة للعالمين، فلا ينجو أحد بظلمه حتى يقتص منه، وذلك يوم عصيب وشديد، يوم تشيب منه الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، فما من أحد إلا وسيقتص له أو منه في ذلك اليوم الرهيب.(54/1)
قدر أمة محمد بين الأمم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: بعد أن يشتد الكرب على الناس، ويعظم الخطب، وكل يذهب يلهث إلى من يشفع له عند ربه جل وعلا، يصور لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه المشاهد العظيمة الخطيرة، التي تنخلع لها القلوب، وترتجف وتذهل منها العقول، يوم ينادى آدم عليه السلام كما في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينادى آدم: يا آدم! فيقول: لبيك ربي وسعديك والخير في يديك -أو قال: لبيك وسعديك- قال: ابعث بعث النار، فقال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)، وفي هذا الوقت يشيب الولدان {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، قال: (فشق ذلك على الصحابة فقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الواحد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل) أي: من يأجوج ومأجوج ألف ومن المسلمين رجل واحد، ثم قال: (أبشروا، والله! إني لأرجوا أن تكونوا ربع أهل الجنة، فحمدوا الله وكبروا، ثم قال: والله إني لأرجوا أن تكونوا ثلث أهل الجنة) وفي رواية أخرى أنه قال: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)، ثم قال: (والله إني لأرجوا أن تكونوا شطر أهل الجنة -ثم مثل لهم مثل بينهم وبين الناس فقال:- أما إنكم في الناس كمثل الشعرة السوداء في الثور الأبيض).
وفي رواية أخرى أيضاً متفق عليها بين البخاري ومسلم قال: (مثلكم ومثل الناس كمثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود) فالمثل الأول: كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، والمثل الثاني: كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وفي رواية الأحمر أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وهنا ترتجف القلوب، بل تنخلع؛ لأن بعث النار تسعمائة وتسعة وتسعون، وبعد ذلك تدنو الشمس من الرءوس، وصورها لنا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً ليبين لنا هول هذا الموقف وعظمه؛ ليستعد المرء لهذا الموقف، وكل بحسب عمله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس من الرءوس قدر ميل أو قدر شبر)، وفي رواية: (قدر ميل وقدر شبر)، (فيعرق الإنسان ويبلغ العرق من الإنسان بقدر عمله) يعني: لهول الموقف، وطول الموقف، وعظم وخطر الموقف، فكل بحسبه وحسب عمله وحسب تقربه إلى الله جل وعلا، فمن سارع إلى الله وكان لسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فهذا الذي سيرضيه الله جل وعلا ويأمنه الرجفة، والخوف، والخطب العظيم، أما الذي يتقاعس في طاعة الله جل وعلا فسيشعر بهذا الخطب العظيم.
الشمس تدنو من الرءوس فيعرق الناس، فمنهم من يصل العرق إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، ونربأ بأنفسنا أن نذل وأن نخزى يوم القيامة، بل نسارع إلى ربنا جل وعلا فلا نعرق، ولا نشعر بدنو الشمس منا، كرامةً من الله لأهل الإيمان.(54/2)
بيان صور من المقاصة يوم القيامة
انتقل المصنف بعد أن صور لنا هذا الخطب العظيم إلى مسألة القصاص؛ لأن أهل الجنة لا يدخلونها وفيهم دنس من أكل أموال الناس بالباطل، أو الحقوق التي عليهم، بل لا بد أن ينظفوا من هذه الحقوق، ويقتص من كل واحد لأخيه حتى يدخل الجنة.
فإن الله جل وعلا لا يترك العباد يدخلون الجنة وعليهم حقوق للآخرين؛ لأن هذه منافاة ومضادة لحكمة الله البالغة سبحانه وتعالى، فهو حكيم عليم، وعدل سبحانه وتعالى، فلا يدخل الجنة أحداً عليه حق لأحد، فإن الله يطهر عباده من هذه الحقوق بالمقاصة، أو القصاص، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم وحث أصحابه أن يتحللوا، ولا يحتفظ أحد بمظلمة لأحد في الدنيا، فإن الدراهم والدنانير تفوت مع الدنيا، أما الحسنات والسيئات فهي أحوج ما يكون يوم القيامة، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت لأخيه مظلمة فليتحلل فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار).
أي: ليس في يوم القيامة درهم ولا دينار، قال: (إنما هي الحسنات والسيئات) فتؤخذ الحسنات من الذي عليه الحق إلى الذي له الحق، فإن لم يكن ثمة حسنات فالسيئات التي على من له الحق توضع على الذي عليه الحق).
وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: (لي عبيد -يعني: عمال- يسرقونني ويخونونني، قال: وإني أسبهم، أو أضربهم، أو أشتمهم فما لي أو علي؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: أنك ستأتي يوم القيامة فيعرض جرم هؤلاء العبيد -من الخيانة والسرقة التي تحدث معك- ثم يقاس فعلك معهم، فإن كان هذا أشد من هذا أخذوا منك حسناتك، وإن كان فعلهم أكبر من فعلك أخذت أنت منهم الحسنات مقاصة عند الله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]).
وأقوى في الدلالة وأعظم في البيان أن الله جل وعلا سيقتص من البهائم، حتى النملة من النملة يقتص منها (فإن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى شاتين ينتطحان فقال لـ أبي ذر: هل تعرف لم ينتطحان؟ فقال: لا يا رسول الله، قال: الله يدري فيقضي بينهما) فإن الله جل وعلا سيقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء، فالمقاصة لا بد منها يوم القيامة، فلا يظلم الناس شيئاً.(54/3)
حرمة دم المسلم عند الله
أول ما يقتص به بين العباد: الدماء كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما يقضي الله فيه بين العباد الدماء) وكيف لا؟! والله جل وعلا بين عظم وخطر الدماء، وبين عظم وشرف وقدر المسلم عنده جل وعلا، وهذه الدماء التي تسال ليلاً ونهاراً، مشرقاً ومغرباً، وليس هنا من يتحرك لهذه الدماء، ولا يعرف عظم هذه الدماء إلا الله جل وعلا؛ لأنها عند الله شريفة عظيمة، ولئن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من أن تسال هذه الدماء؛ لأن هذه الدماء المسلمة عند الله عزيزة شريفة، كيف لا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل امرئ مسلم لأكبهم الله في النار ولا يبالي) فدم المسلم عند الله جل وعلا غالٍ.
وذات مرة دخل ابن عمر على الكعبة فطاف بها فقال: أنت الكعبة عظمك الله وشرفك، وإن حرمة دم المسلم عند الله أعظم منك، وأشرف منك، وكيف لا يكون دم المسلم عند الله جل وعلا أعظم من الدنيا وما فيها وزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من أن يسال دم المرء المسلم؟ وقد نصب الله الحرب على من عادى المسلم، فكيف بمن أسال دمه؟! وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) يعني: أعلمته بالحرب، ولم أر أدلة تبين أن الله نصب الحرب إلا على صنفين اثنين: الصنف الأول: الذي يعادي أولياء الله جل وعلا، لا ليقتلهم بل يعاديهم فقط، لا ليحبسهم لا لينكل بهم لا لينتقم منهم بل ليعاديهم بقلبه فقط، فإن الله نصب الحرب عليه.
والصنف الثاني الذي نصب الله الحرب بينه وبينه: آكل الربا نعوذ بالله من ذلك، فالذين يأكلون الربا نصب الله الحرب بينه وبينهم، قال الله تعالى لآكلي الربا إن لم يتوبوا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
فنصب الله الحرب لمن يعادي الدم المسلم فكيف بمن يسيل دمه؟! فمن ساعد على قتل مسلم، أو أرشد إلى قتله، أو أباح، أو سهل، أو يسر، أو رضي بقتل امرئ مسلم فعند الله الموعد، وعند الله تجتمع الخصوم، وأقسم برب السماوات والأرض أن الكفار لا يزنون أي زنة لدم العبد المسلم الذي يسبح الله ويذكره.
أولم يأتكم نبأ زكريا عليه والسلام لما اختبأ من اليهود حين قتلوا يحيى، وفر منهم إلى أقرب شجرة ففتحت الشجرة نفسها لزكريا، فقالت: اختبئ في، فاختبأ فيها كما روى ذلك ابن كثير في قصص الأنبياء، فاختبأ فيها فأغلقت الشجرة على زكريا ولم يبق منه إلا قطعة من الثوب، فجاء بنو إسرائيل -عليهم من الله ما يستحقون- يتتبعون زكريا ليقتلوه، فنشروا الشجرة وقسموه نصفين، لكن الله جعله لا يشعر بالألم إلا كوخزة الدبوس.
وامرأة بغي من بني إسرائيل قدم لها رأس نبي من أجل إرضائها، فما قتل يحيى إلا لأنه أفتى للملك اليهودي أنه لا يصح أن ترد امرأتك؛ لأنك طلقتها ثلاثاً فلا تنكحها حتى تنكح زوجاً غيرك، فاشتدت غيضاً على يحيى، فما زالت توعز له حتى قتل يحيى وقدم لها رأسه على طبق وهو نبي من الأنبياء، فهم يتتبعون الأنبياء فكيف نستغرب أن يتتبعون الأبرياء؟! وهذه الآثار عن بني إسرائيل رأس أمرنا فيها أن نقول: نحدث عن بني إسرائيل ولا حرج، لا نكذب ولا نصدق حتى تأتينا الأدلة، وفي بعضها: قال الله تعالى: لو شعر زكريا بالمنشار وهو يقسمه نصفين لأكبهم الله كلهم في النار انتصاراً لزكريا عليه السلام، فالمؤمن عند الله جل وعلا غالٍ وثمين، ودمه عند الله شريف، لا يهدر بحال من الأحوال.
ولذا فإن الله جل وعلا نصب القصاص يوم القيامة أول ما يكون في الدماء، ففي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: (يأتي المقتول يوم القيامة يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً فيقول: يا رب! سله فيم قتلني؟) فإن كان قتله بالحق فسيذكر ذلك، والله جل وعلا يصدق ذلك أو يكذب، وإن كان بالباطل فعند الله الموعد ولا بد أن يقتص منه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو يجلس معهم يبين لهم عظم القصاص: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) فقال النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً لهم معنى المفلس وأن النظر للآخرة لا للدنيا، فالدنيا لا تساوي عند الله شيئاً، فقال: (المفلس من أمتي الذي جاء بصلاة وصيام وذكر -عبادات حج وزكاة وجهاد- ثم قال: جاء وقد سب هذا، وشتم هذا، أو اغتاب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فأكب في النار) فهذا هو المفلس بحق، جاء بحسنات كالجبال ففنيت؛ لأنه قدح في الناس، ولم يراقب الله جل وعلا في الناس، فاقتص منه في الآخرة.
نعوذ بالله من مسألة القصاص، ونستحل من أي أحد اغتبناه، ونسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا، وأن يجعلنا نذكر محاسن من اغتبناه في أي مجلس من المجالس، أو أخذنا من أحد درهماً أو ديناراً لا يحل لنا، ونسأل الله أن يخلصنا من الدنيا لا لنا ولا علينا، فلا يكون علينا لأحد شيئًا، وإن كان لنا على أحد شيء فنحن نسامحه.
تأتي الأم لابنها، الأم التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (أمك، ثم أمك، ثم أمك)، الأم التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة تحت قدمها، التي جعلها هي والأب وسط الجنة، فلا تدخل الجنة إلا بهما، وقد قال الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] فالأم أرفع منزلة من الأب، تأتي يوم القيامة فتقول: (أي بني! ألم تكن لك بطني وعاء؟ أي بني! ألم يكن لك ثديي سقاء؟ أي بني! ألم يكن لك حجري غطاء؟ أي بني! أحتاج إلى حسنة اليوم، فيقول الابن لأمه: أي أم! إني أحوج لها منك اليوم) ويبخل بهذه الحسنة على أمه التي تحتاجها.
فنحن أحوج ما نكون إلى هذه الحسنات، وكل منا سيقتص منه في الآخرة، ونعوذ بالله أن نتجرأ على أحد، أو أن نغتاب أحداً، أو أن نهضم حق أحد، نعوذ بالله من ذلك، وإذا فعلنا ذلك فنسأل الله أن يغفر لنا ويقتص منا في الدنيا لا في الآخرة، فليس هناك درهم ولا دينار، بل هي الحسنات والسيئات.(54/4)
المقاصة يوم القيامة بين الحيوانات
يوم القيامة سيقتص من العجماوات غير المكلفة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى شاتين تنتطحان فقال لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! أتدري لماذا تنتطحان؟ قال: لا أدري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله يدري وسيقضي بينهما).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيقتص للشاة الجلحاء -يعني: التي ليس لها قرون- من الشاة القرناء، ثم يقول للبهائم: كوني تراباً، هنالك: {يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40])، وهذا الحديث روي مرفوعاً وروي موقوفاً، فالقصاص سيكون بين الوحوش.
وقد تكلم في هذه الأحاديث الصحيحة بعض المتكلمة وأهل العقل من المعتزلة وغيرهم مثل الغزالي، والألوسي وغيرهما، أما نعيم الألوسي فسلفي معروف، وكتابه (روح المعاني) في التفسير من أنفع وأمتع الكتب، لكن له هنات وزلات في هذا الكتاب، ففيه بعض التصوف والاعتزال، وقال الغزالي عن الوحوش: لا قصاص بينها، وهذه الأحاديث إنما جاءت كناية عن العدل، فتبين عدل الله جل وعلا، واستدل على ذلك بالعقل فقال: ما من شيء إلا وله حكمة عقلية، والله جل وعلا عللها بالحكم والعقل يأبى ذلك؛ إذ إن القصاص معناه: الثواب والعقاب، ولا ثواب ولا عقاب على العجماوات، وأيضاً القصاص من التكليف ولا تكليف على العجماوات.
وهذا دليل عقلي صحيح، لكن نقول: عندنا قاعدة وهي: أنه إذا أتانا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا قول لأحد مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
والقاعدة الثانية: العقل الصحيح لا يخالف بحال من الأحوال النقل الصريح الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
اما قوله: لا حكمة في ذلك، إذ لا ثواب ولا عقاب فنقول: بل هناك حكمة عالية جداً وهي بيان أثر اسم الله الحكيم، وأن الله من صفاته العدل، فمن كمال عدل الله جل وعلا أن يقتص من العجماوات غير المكلفة مقابلة، فما بالكم بالذين كلفوا، أيتركهم سداً وهملاً دون قصاص؟! لا والله! وهذا يفتح لأهل العقول القياس الجلي، وقياس الأولى، وهو إن كان الله جل وعلا سيقتص من القرناء للجلحاء، فمن باب الأولى أنه سيقتص من الذين أوتوا الكتاب، وأوتوا الفهوم والعقول منهم، فهذه الحكمة البليغة العالية التي ترد على أهل العقل.
وهناك إجابة ثالثة وهي: أن هذه المقاصة أو القصاص من باب المقابلة، لا من باب الثواب والعقاب.(54/5)
وجود الجنة والنار مخلوقتان الآن
بعد ذلك انتقل المصنف إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الجنة والنار مخلوقتان.
والجنة لغة: هي البستان كثير الأشجار والثمار، قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32].
وشرعاً: هي دار المقامة، ودار الخلود التي كلمنا الله عنها بأنها منازلنا الأولى.
والنار لغة: مادة الإحراق.
وشرعاً: هي أيضاً دار المقامة للكافرين.
وقد بين الله جل وعلا أن النار والجنة مخلوقتان الآن خلافاً للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع، قال الله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] وأعدت: فعل ماضٍ، بمعنى: أنه قد فرغ منها، وقال عن جهنم: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] فجهنم أيضاً محل للكافرين وقد أعدت، وأعدت يعني: فرغ منها.
وأيضاً في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس حين كسفت الشمس يوماً، وبعد أن صلى بالناس صلاة الكسوف قال: (أريت كل شيء في مقامي هذا، حتى إني رأيت الجنة عندما رأيتموني تقدمت فأخذت عنقوداً -يعني: رأى الجنة ورأى ما فيها من ثمار- ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا -أو ما بقيتم- وأريت النار فلم أر منظراً كاليوم أفظع من هذه النار).
وقال: (ورأيت فيها عمرو بن لحي وهو الذي سيب السوائب)، وفي رواية أخرى في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ورأيت النار، ورأيت هرة تخدش امرأة -أي: تأخذها في النار، فالهرة في النار والمرأة في النار- فقلت: ما هذه؟ -يعني: ما شأنها- فقيل: هذه المرأة حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض) فهذه المرأة حبست هرة، وما حبست رجلاً يقول: لا إله إلا الله ما حبست رجلاً يقيم الليل بدموعه لله ما حبست رجلاً يجوب الأرض شرقاً وغرباً يدعو إلى الله جل وعلا ما حبست رجلاً باع نفسه لله وقال قسطاً وعدلاً: أنا وقف لله ما حبست رجلاً ينشر دين الله جل وعلا، حبست هرة فقط فكان عقابها أن الهرة تخدشها في نار جهنم.
فما بال الذين يجحفون على أهل الله، وعلى أولياء الله، ويحبسون الذين ينشرون دعوة الله جل وعلا، لا يبغون من ذلك إلا إعلاء كلمة الله، فيجحفون عليهم، ويشددون وطأتهم عليهم؟! ألا يعتبرون بالمرأة التي عذبت بالهرة؟! الجزاء من جنس العمل، فقد جعل الله لها هرة تخدشها في النار.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لما صلى العيد شق الصفوف ونزل على النساء فوعظهن، ثم أمرهن فقال: تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار) وقوله: (رأيتكن أكثر أهل النار) رؤيا الأنبياء حق، أو أنه رآهن عند الإسراء والمعراج (قلن: لم يا رسول الله؟ قال: تكفرن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: تكفرن العشير والإحسان) فيحسن لها الرجل طيلة حياته أو مدة من الزمن (فإذا رأت منه شيئاً قالت: ما رأيت خيراً منك قط).
وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم لما تكلم عن الجنة قال: (رأيت قصراً فيها، ورأيت امرأة وضيئة -يعني: امرأة شديدة الجمال- تتوضأ فقلت: لمن هذا القصر؟ -فالنبي صلى الله عليه وسلم من تواضعه- يقول: فحسبت أنه لي، فقيل: هو لعبد من أمتك يدعى عمر قال: فعلمت غيرة عمر فلم أدخل هذا القصر) ورؤيا الأنبياء حق.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال في منزلة سعد: (لمنديل من مناديل سعد بن معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- خير من الدنيا وما فيها).
فالجنة موجودة، والنار أيضاً موجودة، وقد بين ذلك الله جل وعلا في كتابه إجمالاً، وفصل لنا النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلاً في سنته صلى الله عليه وسلم.(54/6)
مكان الجنة والنار
إذا كانت الجنة والنار موجودتان فأين مكانهما؟
الجواب
ليس عندنا تفصيل عن ذلك، ولكن الإجمال جاءنا في الكتاب، فقال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] فالجنة في عليين، والتفصيل لا نعرفه، ونعرف أن الفردوس الأعلى أوسط الجنة وأعلى الجنة، وأن عرش الرحمن هو سقفها.
والنار أسفل سافلين، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7]، وفي حديث البراء الطويل في عذاب القبر أنه قال: (أن صدق عبدي، اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض) يعني: أعيدوا روحه إلى الأرض، ثم قال في الفجار: (كذب عبدي، اكتبوا كتاب عبدي في سجين) يعني: أسفل سافلين.(54/7)
وصف الجنة
لسنا بصدد وصف الجنة والنار، لكن نمر عليها مرور الكرام، أما الجنة فقد بينها الله لنا إجمالاً تشويقاً للقلوب كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وهناك أنهار في الجنة كما ورد في بعض الآثار: أن المرء يأخذ النهر ويمشي به حيث ما أراد من كرامة الله لأهل الجنة، فأنهار الجنة أصناف مختلفة متنوعة: الصنف الأول: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِن} [محمد:15] أي: غير مشوب، وغير مكدور أبداً، فالماء صافٍ أصفى من الماء الذي تراه الآن.
الصنف الثاني: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] أي: أحلى ما يكون، وأطعم ما يكون مذاقاً للعبد المؤمن في الجنة.
الصنف الثالث: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] ففي الجنة خمر لا يذهب بالعقول، بل يتمتع بها من امتنع عنها في هذه الدنيا، وقد وصفه الله جل وعلا وصفاً بديعاً بقوله: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] أي: لا يأتيهم الصداع، ولا تذهب بعقولهم، ولا يتمايلون ويتبخترون كما يفعل أهل الدنيا، يرزقهم الله هذه الخمر، وهي خمور نقية أعدت للمؤمنين.
الصنف الرابع: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ} [محمد:15] وهذا اللبن أطعم ما يكون مذاقاً في الجنة.
وأهل الجنة إذا اشتهى المرء منهم شيئاً جاءه سريعاً إلى مكانه، يعني: لو نظر إلى الطير فاشتهاه لجاءه سريعاً مشوياً جاهزاً محضراً له، فقط عندما يشتهيه! أما ما في الجنة من خير ومتعة الشهوة لأهل الجنة فقد بينه الله جل وعلا بأكبر وصف، وأمتع وصف، وأوجز وصف حيث قال: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ولو لم يكن لها ميزة إلا هذه الميزة لكفت، إذ إن المرأة إذا قصرت طرفها على زوجها كانت من أفضل نساء العالمين، والله جل وعلا بهذه الميزة خلق كل حور العين للمقربين.
وهذا يبين لك الفرق بين المقرب وبين صاحب اليمين، حيث قال الله تعالى عن حور صاحب اليمين: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ} [الرحمن:72] أي: قصرهن الله جل وعلا، بخلاف أولئك فقد خلقن أصالة قاصرات الطرف، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الحور: (تنظر إليه فتقول: والله! ما خلقت إلا لك، وما رأيت أجمل منك، وما زلت تزداد لي بهاءً، ثم تغني له: نحن الجميلات التي لا نبأسن، نحن الخالدات التي لا نمتن، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها من شدة بياضها وجمالها).
والمرأة في الدنيا عندما ترفض أن تلتقي بزوجها إن أرادها فإن الملائكة تلعنها، وتأتي حور العين وتقول: لا تفعلي معه هذا -انظر: ضرائر في الدنيا وفي الآخرة- إنه ليس لك، إنه لي وسيأتيني قريباً، يعني: سيموت ويدخل الجنة إن كان من الصالحين.
وللمرء اثنتان من حور العين، أما الشهيد فله سبعون حورية من حور العين، رزقنا الله وإياكم الشهادة وطلبها بصدق من الله جل وعلا.
وأما أشجار الجنة فقال الله تعالى عنها: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30] فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وفسرها صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة شجرة يسير فيها الراكب أربعين سنة)، وهذا تفسير لقول الله تعالى (في ظل ممدود).
والثمار بينها الله جل وعلا بقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] نسأل الله جل وعلا أن نكون من أهل الجنة.(54/8)
وصف النار
النار أصعب ما تكون، وأنكى ما يكون من عذاب من هذه النيران، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن صخرة وقعت فيها فما نزلت إلى القعر إلا بعد سبعين خريفاً، وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجاء بالنار لها سبعون ألف زمام، يجر كل زمام سبعون ألف ملك) ولا يعلم عظم هذه النار إلا الله جل وعلا، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة) نعوذ بالله من ذلك.
طعامهم فيها الحميم ومن غسلين نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء، وهم في سلاسل يسحبون على وجوههم، فيمثل بهم في نار جهنم، وإذا أرادوا الماء شربوا من حميم شرب الهيم، قال تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56] نعوذ بالله أن نكون منهم.(54/9)
مسألة فناء الجنة والنار
هل الجنة والنار تفنيان؟ أقول: الجنة لا تفنى بالاتفاق، فلا خلاف بين أهل العلم في أن الجنة لا تفنى؛ لأن الله جل وعلا لما تكلم عن أهل النعيم قال: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57] فبين أنهم في خلود دائم لا موت فيه، وأيضاً عندما يؤتى بالموت ويراه أهل النار وأهل الجنة على الصراط فيذبح يقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، فلا خلاف بين أهل العلم في أن أهل الجنة يخلدون فيها وأنها لا تفنى.
أما مسألة فناء النار فقد ورد عن الأولين والآخرين أنها لا تفنى إلا ما ورد عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من أن النار تفنى، واستدلوا على ذلك بكثير من الآثار والأدلة التي لا معول عليها، وقد ورد كلام آخر عن شيخ الإسلام وابن القيم أنها لا تفنى، وهذا الأليق بشيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
أما دليلهم الذي استدلوا به على فناء النار فقالوا: قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] فاستدلوا بهذا الاستثناء، وقالوا: قد ورد بسند صحيح عن ابن مسعود وأبي هريرة أنهما قالا: (ليأتين زمان على النار ليس فيها أحد) وهذا هو الشاهد، ووجه الاستدلال: أنها تخلوا فإذا خلت فنيت لأنه لا عمل لها.
والصحيح الراجح: أن هذا الكلام من أخطأ الخطأ، وإن كانت من شيخ الإسلام تغفر في بحر الحسنات، ومن مثل شيخ الإسلام؟ والمعصوم من عصمه الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وإن كانت من هذا العالم فقد اجتهد فأخطأ فله أجر، وإن كان قد أصاب فله أجران، لكن الصحيح خلاف قول شيخ الإسلام وابن القيم.(54/10)
وجوب لزوم الكتاب والسنة
في هذا المقام تقعيد وتأصيل مهم لأهل العلم وهو أن نقول: شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، فلو أفتى أحد من المشاهير اللوامع، الذين تضرب لهم الطبول، ويعرفهم القاصي والداني، والذين بلغوا في العلم مداه، بفتوى خالفت الكتاب والسنة، لرد هذا القول على من قال به كائناً من كان، وقد قال ذلك أجل الناس، وأشرف الناس، وأعلى الناس، وأعلم الأمة الشافعي حيث قال: إن خالف قولي قول رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط وخذوا بقول رسول الله، ودخل عليه امرؤ يسأله: يا شافعي ! ما تقول في مسألة كذا؟ وكان بجانبه المزني والبويطي وتلاميذ الشافعي، فأجابه رجل فقال: هذه المسألة قال فيها رسول الله، وأنهى المسألة.
والواجب علينا إذا قيل في مسألة: قال رسول الله أن نقول: سمعنا وأطعنا.
وبعض السائلين يكون جاهلاً لا يفقه شيئاً، فعندما تقول له: قال رسول الله، يقول لك: الشيخ الفلاني أفتى بحلها، وتقول: قال رسول الله، وقال الله، وهو يقول: الشيخ الفلاني وجدته يفعلها، أو السلف كانوا يفعلونها، ولقد قال بعض الصحابة: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول: قال رسول الله وتقولون: قال فلان، وقال فلان! فلذلك لما قيل للشافعي: أتقول بهذه المسألة؟ أو أتقول بهذا القول؟ قال: أرأيتني خرجت من كنيسة؟! وهذه دلالة على كفر أهل الكنائس على كفر أهل الصليب وعباد الصليب، فلا يجوز لامرئ مسلم قط أن يهنئهم بهذا العيد، قال بعض علمائنا: من أهداهم بيضة في عيدهم فقد كفر، تقعيداً وتخريجاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (فإذا وجدتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) وقال: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام)، فكيف بتهنئة العيد والرضا بكفرهم، والقاعدة المشهورة: الرضا بالكفر كفر.
والضابط في هذه القاعدة أن نقول: إذا كان الكفر الذي كفر به المرء كفراً متفقاً عليه، لا خلاف فيه ولا نزاع، وهو كفر لنا فيه من الله برهان، فمن رضي به فقد كفر.
والدليل على هذه القاعدة قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد:28] وفي الآية الأخرى يقول تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [محمد:7 - 9]، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140].
وهنا أقول: العالم الذي يعلم عقيدتهم، ويعلم كفرهم البين، ثم يجلس في مجلسهم الكفري، ويرضى بكفرهم، بل يذهب ويهنئهم ويقبلهم ويحتضنهم، فهذا رجل لا نقول فيه إلا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ونقول له: قد بين الله لك بالاتفاق أن هؤلاء كفار فبين لهم كفرهم، أما الذين لا يعرفون إذا استفتوا أقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم ولا تهنئونهم بالعيد؛ لأنكم بتهنئتكم لهم في هذا العيد تقرونهم على كفرهم، وأنتم مأمورون شرعاً أن تبينوا لهم كفرهم، حتى يعلموا يقيناً أنهم على باطل، وأنهم إن لم يرجعوا إلى دين الله فهم على كفر وضلال.
ولقد اتصل بي أخ وقال لي بالتصريح: السلام عليكم، أنا كل مدرائي نصارى، وكل عيد يهنئونني ويأتوني بالهدايا، ويجاملونني، فماذا أفعل؟ قلت له: لا تهنئهم، بل ادعهم إلى الإسلام، فهذا هو الفعل الصحيح، قال: أريد أن أسلم عليهم فقط، وأجاملهم بعيدهم كما يفعلون، قلت له: لا تفعل، قال: إن أخذت بقولك فسأفقد وظيفتي، قلت له: أيهما أفضل، أن تفقد وظيفتك أم تفقد دينك؟ فهذا الرجل لا يعتمد على ربه في الرزق، بل يحسب أنه إن لم يسلم عليهم في عيدهم، ويهنئهم بكفرهم، فسيضيع عمله؛ لظنه أن الرزق بأيديهم، وهذه عقيدة فاسدة، فالعطب في عقيدته الأولى جره إلى عطب في عقيدته الثانية.
فمن سلم عليهم في يوم عيدهم فقد رضي بكفرهم، فهو ينزل هذه المنزلة إن كان من العالمين المتقنين الفاهمين لعقيدتهم الخربة.
والمقصود أنه لما قال الشافعي: أخرجت من كنيسة؟ يبين له أن هؤلاء أهل كفر، فإني إن رددت قول النبي لكنت مثلهم، فانظر: على حديث واحد يرده بعد أن اقتنع به يرى الشافعي أنه يمكن أن يكون مثلهم، قال: أرأيتني قد خرجت من كنيسة؟ أرأيت في وسطي زناراً؟ يعني: يهودياً، يقول: قال رسول الله فماذا أقول أنا؟ أقول: قال رسول الله، وأقول به، ولذلك نقول: المرء إذا جاءه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت وأطعت، ويقدم قول النبي على قول أي أحد كائناً من كان.
فنقول: أولاً: جاءتنا الأدلة التي قعدت لنا وأصلت الخلود للجنة والخلود للنار، منها قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [المائدة:119] أي: على التأبيد، فهذه الآية تثبت عدم فنائها.
ونرد على أدلة شيخ الإسلام من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الآثار لم تثبت، وأهل الحديث عللوا هذه الآثار بالانقطاع وبغيره.
فإن تنزلنا مع الخصم وقلنا: ثبت عن ابن مسعود وأبي هريرة أنهما قالا: (ليأتين زمان على النار ليس فيها أحد) فنئوله على أن المقصود ليس فيها أحد من الموحدين.
ونحن نقول: إن نار الموحدين تفنى، لما ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة أن الله تعالى قال لنبيه محمد صلى الله علية وآله وسلم: (اذهب فمن كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فأخرجه) وبعد ذلك دينار، ثم نصف دينار، ثم مثقال ذرة، ثم حبة من خردل، ثم قال: (أذن لي ربي أن أشفع فيمن قال: لا إله إلا الله، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله) وهذا بيان بأن من قال: لا إله إلا الله وكان يصلي فهو يخرج من النار ولا يخلد فيها، وتفنى هذه النار، ويكون تأويل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم على أن التي تفنى هي نار الموحدين، ويلتئم الشمل وتجتمع الأدلة، ولا نزاع بإذن الله.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنات، وأن يبعدنا جمعياً عن النيران.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(54/11)
الأسئلة(54/12)
بيان مغفرة الكبائر
السؤال
هل تغفر الكبائر؟
الجواب
هذا على خلاف بين أهل العلم، ففي حديث أنه يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين، لأنه مرتبط بحقوق الآخرين، ويقاس عليه كل حقوق الآخرين فإنها لا تغفر، بل لا بد من المقاصة، أو يرضي الله جل وعلا الذين لهم الحق على هذا الرجل.
وهل تغفر الكبائر التي بين الصلاة والصلاة، وبين العمرة والعمرة، والحج والحج؟ فيه خلاف بين أهل العلم، وأنا متوقف عن الترجيح؛ لأن أدلة الفريق الأول قوية، وأدلة الفريق الثاني قوية، ولم أستطع الترجيح بينهما.(54/13)
بيان أول ما يحاسب عليه المرء
السؤال
ورد حديث بأن أول ما يقضى بين الناس في الدماء، وورد حديث آخر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب المرء عليه الصلاة) فما توجيهكم لهذين الحديثين؟
الجواب
نقول: إن أول ما يحاسب عليه العبد فيما بينه وبين الله الصلاة، وأول ما يحاسب عليه العبد فيما بينه وبين الناس الدماء.(54/14)
منزلة نساء الدنيا بين حور الجنة
السؤال
ما منزلة المؤمنات بين الحور العين في الجنة؟
الجواب
منزلتها بين الحور العين أنها الرئيسة والحور وصيفات لها.(54/15)
بيان أكثر أهل الجنة
السؤال
هل يعمل بمفهوم المخالفة لحديث: (وإني رأيتكن أكثر أهل النار)؟
الجواب
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع) مما يدل أن أهل الجنة أكثرهم من الرجال.(54/16)
تعريف الحديث الموقوف
السؤال
ماهو الحديث الموقوف؟
الجواب
الحديث الموقوف: هو الذي أوقفه رواته على الصحابي، كأن يقولوا: قال أبو هريرة: (يقتص من الشاة القرناء للشاة الجلحاء) فهنا القول نسب لـ أبي هريرة فهذا الموقوف، أما المرفوع: فهو ما رفع للنبي صلى الله عليه وسلم.(54/17)
رد توجيه الغزالي لحديث المقاصة بين الوحوش
السؤال
لماذا لا يؤخذ بقول الغزالي في توجيه حديث المقاصة بين الوحوش؟
الجواب
لأن القاعدة الأصولية تقول: إن اللفظ يبقى على ظاهره إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، فعندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقتص الله من الشاة القرناء للشاة الجلحاء) ظاهر اللفظ أن الله جل وعلا يأمر الشاة التي ليس لها قرون أن تنطح التي نطحتها بقرونها في الدنيا.(54/18)
بقاء بعض الذنوب بعد مجاوزة الصراط
السؤال
هل يجاوز الصراط احد وعليه ذنب؟
الجواب
نعم، فبعد أن يمر على الصراط يقف حتى ينظف من كل ما عليه من حقوق، ويعطيها للناس ثم بعد ذلك يدخل الجنة نظيفاً.(54/19)
حقيقة نعيم البرزخ
السؤال
هل يدخل أحد الجنة حقيقة وهو في البرزخ؟
الجواب
لا، ليس دخولاً في الجنة، بل يعرض عليه مقعده من الجنة، ويعرض عليه مقعده من النار، ويأتيه من طيبها وريحها، لكن لا يدخل الجنة أحد حقيقة إلا يوم القيامة، فحياة البرزخ حياة لا هي حياة أخروية ولا هي حياة دنيوية، بل حياة غيبية يعلمها الله جل وعلا.
أما ما قيل لـ حبيب كما قال تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس:26] فإن المعنى: مآلك إلى الجنة، فهذا هو المعنى الصحيح بالقرائن المحققة والمؤصلة من العمومات التي أثبتت أنه لا دخول للجنة إلا في الآخرة، وكل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة أو النار كل هذا يكون في البرزخ والدليل على ما قلناه هو قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، فإنهم لم يدخلوا بل قال: (يعرضون)، ثم قال بعد ذلك: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، أما الأرواح فهي في حواصل طير تطوف بالجنة وتتنعم، أما الأجساد فلا تدخل الجنة إلا في الآخرة، والجمع بين الجسد والروح لا يكون إلا في الآخرة.(54/20)
حقيقة الجنة التي فيها آدم
السؤال
ما هي الجنة التي كان فيها آدم، أهي جنة الآخرة أم جنة أخرى؟
الجواب
هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، فمنهم من قال: جنة أخرى، وأول قوله: {اهْبِطَا} [طه:123] على أنها جنة في الأرض، أو بين الأرض والسماء، وليست جنة الآخرة، والصحيح أنه كان في جنة الآخرة، ومن أبين الأدلة وأفصحها على أن الجنة التي كان فيها آدم هي جنة الآخرة أن النبي صلى الله علية وسلم قال: (فحج آدم وقال: أنت آدم خلقك الله بيده) إلى آخر الحديث حيث قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) فإن قيل: هو قال: الجنة مطلقة، ولم يقيد بهذه وتلك، نقول: إذا أطلقت فهي جنة الآخرة.(54/21)
الاستسماح من الغيبة
السؤال
ما هو المخرج إن اغتبت أحداً في مجلس ثم لم أجده لأستسمحه؟
الجواب
يكفي من ذلك أن تنشر محاسنة في المجلس الذي أسأت إليه فيه، والعبد إذا صدق الله في توبته؛ فإن الله يقلب قلب عدوه فيكون حبيباً له.(54/22)
شرح حديث (أنا أحق بذلك منك)
السؤال
ما الحكمة من قول الله تعالى للمتخاصمين إذا عفا أحدهما عن الآخر: (أنا أحق بذلك منك) الحديث؟
الجواب
الحكمة في ذلك هو إظهار سبيل رحمة الله جل وعلا بعباده، لكن هذا ليس لأي أحد، بل لمن علم الله في قلبه مخافته، وإلا فإبليس كان يدعى بطاووس الملائكة؛ لشدة عبادته، لكن علم الله من قلبه الكبر والتكبر فابتلاه بالأمر بالسجود فلم يسجد لكبره؛ فلعنه، وجعله من الخارجين والملعونين إلى يوم القيامة.(54/23)
الحكمة من رؤية المؤمنين لأهل النار في النار
السؤال
ما الحكمة من رؤية المؤمنين لأهل النار في النار وهم يعذبون؟
الجواب
من متعة أهل الجنة أن ينظروا إلى الفسقة الفجرة الكفرة في النار يعذبون، بل وأهل النار يقولون: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} [الأعراف:50]، فهذا من تمام متعة أهل الجنة، بأن تشفى صدورهم وهم يرون أهل الكفر يعذبون أمامهم، وأيضاً هذه من زيادة النكاية والعذاب والتوبيخ والتنكيل بأهل الكفر وهم في النار، حيث يرون أهل الجنة يمتعون وينعمون بما ينعمون به في الجنة.(54/24)
استقلالية حياة البرزخ بالعذاب والنعيم عن حياة الآخرة
السؤال
هل عذاب القبر يرفع قسطاً من عذاب الآخرة؟
الجواب
لا، عذاب القبر لا يرفع قسطاً من عذاب الآخرة، ونعيم القبر لا يقلل من نعيم الآخرة، بل حياة البرزخ لها أحكامها الخاصة بها، والآخرة لها حياة أخرى غير الحياة البرزخية ولها أحكامها الخاصة بها، كما أن الدنيا لها أحكام خاصة بها.(54/25)
حكم تارك الصلاة
السؤال
ما حكم تارك الصلاة؟
الجواب
تارك الصلاة تركاً كلياً بحيث لم يسجد لله سجدة يكفر ولا يدخل في دائرة الإسلام إلا إذا صلى، والذي يصلي ويقطع ليس بكافر، بل هو فاسق فقط، والخلاف في حكم تارك الصلاة خلاف فقهي وليس خلافاً عقدياً.(54/26)
قدر المسافة بين الدرجات في الجنة
السؤال
ما قدر المسافة بين الدرجات في الجنة؟
الجواب
ينظر صاحب الدرجة الأدنى إلى درجة الأعلى منه بدرجة واحدة كما ينظر الذي في الأرض للكوكب في السماء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: الفارق بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، فحري بنا أن نسعى جاهدين لأن نلتقي بالنبي في الفردوس الأعلى، ومن أروع ما يقال في هذا المقام: ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، نعوذ بالله ممن يتقاعس عن طاعة الله جل وعلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(54/27)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الجنة والنار
من أصول اعتقاد أهل السنة أن الجنار والنار مخلوقتان وأنهما لا تفنيان، وأن الله جعل الجنة رحمته، وجعل النار غضبه، وصفة الرحمة ثابتة في الكتاب والسنة، وقد أولها أهل البدع على عادتهم في تأويل الصفات.(55/1)
عدم فناء الجنة والنار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ونحن على مشارف الانتهاء من المجلد السادس.
تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الجنة والنار، وذكرنا أنهما موجودتان الآن، وبينا أن الأحاديث النبوية والآيات أثبتت وجود الجنة ووجود النار، وأن الله تعالى قد خلقهما، فأعد الجنة رحمة للمؤمنين، وأعد النار عقاباً للكافرين.
وتعرضنا لمسألة مهمة، وهي: هل تفنى النار أم لا تفنى النار؟ وذكرنا أقوال العلماء والراجح في ذلك، وأزيد هنا في ذكر الأدلة على أن النار والجنة موجودتان مخلوقتان: حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اختصمت الجنة والنار: فقالت النار: رب جعلتني للمتجبرين أو المتكبرين، وقالت الجنة: رب جعلتني للضعفاء، فقال الله للنار: أنت عقابي أعاقب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء).
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في البخاري ومسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم).
ومعنى: (فأبردوا بالظهر) أي: تؤخر صلاة الظهر، والإبراد في الظهر فيه خلاف بين العلماء، فبعضهم يقول: تصلي بعد الزوال بساعة، والصحيح أن الإبراد بالظهر لا يكون إلا قبيل العصر، أي: قبيل أن يصير الشيء ظل الشيء مثله، والشاهد أن شدة الحر من فيح جهنم.
وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)، فهذه الأدلة تدل على وجود الجنة والنار.
وأما مسألة: هل تفنى الجنة والنار أم لا تفنيان؟ فالجنة لا تفنى بالاتفاق، قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57]، وأما النار فقال بعضهم: إنها تفنى، واستدلوا بقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128] ويوضح هذا الاستثناء حديث أبي هريرة وابن مسعود: (ليأتين زمان على النار ليس فيها أحد)، فدل بذلك على أن النار تخلو من المعذبين فتفنى بذلك، والراجح أن النار تبقى دائماً ولا تفنى.
ويرد على قول شيخ الإسلام ابن تيمية بفنائها من وجهين: الوجه الأول: قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:57].
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت فيقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت).
والتي تفنى هي نار الموحدين، فقد جاء في الأحاديث: أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة أو شعيرة من إيمان، فتخلو نار الموحدين من الموحدين ثم بعد ذلك تفنى.(55/2)
صفة الرحمة
ختم المؤلف الكتاب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرحمة، والرحمة صفة من صفات الله جل وعلا، وهي صفة ذاتية وفعلية، وهي مشتقة من اسمي الله جل وعلا: الرحمن الرحيم، والصفة الفعلية هي التي تتعلق بمشيئته، فهو إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، فالله جل وعلا سيرحم المؤمنين ولكنه يعاقب الكافرين.
والصفة الذاتية هي الصفة التي لا تنفك عن الله جل وعلا بحال من الأحوال، فإن قلت: فعلية بالإطلاق فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، ونظيرها في الصفات الكلام، فهي صفة فعلية قديمة النوع حادثة الأفراد.
قال الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28] سبحانه وتعالى.(55/3)
مظاهر رحمة الله جل وعلا
مظاهر رحمة الله جل وعلا عظيمة جسيمة كثيرة، فمن مظاهر رحمة الله جل وعلا بديع وحسن تنسيق الكون، فهذه النجوم المتلألئة في السماء الصافية، وهذه الشمس المشرقة الدافئة تدل على رحمة الله لخلقه، فهذه من مظاهر رحمة الله جل وعلا، وهي تدل على ربوبية الله تعالى وعظمته، وتدل على أنه الخالق المبدع المكون سبحانه وتعالى لهذا الكون رحمة للعباد؛ حتى يصلوا سريعاً إلى ربهم فلا يعبدوا غيره، فهذه من مظاهر رحمة الله جل وعلا.
وأيضاً من مظاهر رحمة الله جل وعلا بعباده أنه أرسل الرسل، فالله رحيم لا يعذب أحداً بجهل، ولا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة، والله جل وعلا لم يكن ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، ولم يكن ليعذب قوماً حتى يرسل إليهم رسولاً يبين لهم طريق الهدى، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا.
وأيضاً من آثار رحمة الله جل وعلا: الغيث الذي ينزل من السماء رحمة من الله جل وعلا، فإذا قنط العباد فإن الله الرب الكريم الرحيم يضحك من عباده حين يقنطون والفرج قريب كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف:57]، فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا، ولا يقنط من رحمة الله إلا الكافر، ولا ييئس من روح الله -أي من رحمة الله جل وعلا- إلا الضال المبتدع، قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] يعني: الكافرين، وقد قال الله تعالى على لسان يعقوب: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87]، فروح الله هنا معناها الرحمة، فمن مظاهر رحمة الله أنه يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته.
وأيضاً من رحمة الله أنه خلق مائة رحمة، فاحتجز عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل جزءاً من هذه الرحمات في الدنيا، فبها يرحم الخلق بعضهم بعضاً، فيتراحم بها الفرس مع وليده كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرحمة في الدنيا من الجزء اليسير، واختزن الله للبشر تسعة وتسعين جزءاً في الآخرة يرحمهم بها ويدخلهم الجنات جل وعلا.(55/4)
سبب ذكر المصنف الريح بعد ذكر صفة الرحمة
ذكر المصنف ختاماً لهذا الكتاب باب الريح، فقال: باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الريح مخلوقة، وتعجب محقق الكتاب من هذا التصنيف، فقال: لم أتى بهذا الباب بعد صفة الرحمة؟ وكذلك لم ينكر أحد أن الريح مخلوقة لله جل وعلا!
و
الجواب
أن الريح من آثار رحمة الله حتى وإن قلنا بالتفريق الذي ذكره بعض العلماء بين الريح والرياح، فقد قالوا: إن الريح تأتي بالمساوئ أو بالشدة على الناس، وأما الرياح فإنها تأتي بالخيرات والمبشرات، فإن قلنا بأن الريح فيها شدة فهذه من آثار رحمة الله جل وعلا، لأن الريح التي فيها شدة ينصر الله بها المؤمنين، ويهلك بها الكافرين، فالله جل وعلا يقول: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]، فالله جل وعلا يعذب الكافرين بالريح، ويشفي صدور قوم مؤمنين، فهي من آثار رحمته للمؤمنين وإن كانت شديدة على الكافرين.
وأيضاً مناسبتها لهذا الباب أن الرياح فيها الرحمة، وهو الغيث، وهذه الرحمة من آثار رحمة الله جل وعلا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(55/5)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - سياق في أن السحر له حقيقة
لقد كرم الله الإنسان ورفعه، ودفع عنه كل ما يضره ويمس دينه أو عرضه أو عقله وغير ذلك؛ ولذلك حرم الله السحر.
وللسحر حقيقة وتأثير، وهو ناتج عن استعانة الساحر بالشياطين، ولا يتم له ذلك حتى يتقرب لهم بشتى القرب والعبادات، وحتى يكفر بالله رب العالمين، وحكم الساحر القتل ردة؛ لأنه كافر برب العالمين، ويقوم بذلك ولي الأمر أو نائبه.(56/1)
معنى السحر لغةً وشرعاً
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: افتتح المصنف الكتاب الثامن فقال: سياق ما روي في أن السحر له حقيقة.
وهذا تصنيف بديع؛ فبعدما تكلم عن علم الغيب تكلم على ما يشتبه بين الغيب وغيره، وتكلم عن السحر، ثم ثنى بالكلام عن إبليس وجنود إبليس والصرع واللبس؛ لأن كثيراً من الذين يتنطعون الآن ويتملقون يقولون: ليس هناك شيء اسمه تلبس ولا صرع، فلا يدخل الجان في الإنسان.
السحر، لغة: كل ما لطف سببه وخفي ودق، فمادة السحر مشتقة من كل ما دق وخفي سببه؛ ولذلك سمي السحر سحراً؛ لأن فيه خفاء، فلا يأتي السحر إلا في آخر الليل.
وأما شرعاً: فهو الرقى والتمائم والعزائم والعقد التي يتأثر بها المسحور، ويؤثر بها الساحر بالاستعانة بالشياطين، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102].(56/2)
حكم السحر في الشرع
السحر محرم شرعاً، وهو كبيرة من الكبائر، بل هو من أكبر الكبائر، وقد يصل إلى الشرك الأكبر، وقد يكون شركاً أصغر، قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، سواء كفر أكبر أو كفر أصغر، وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات) أي المهلكات، وذكر من هذه السبع: السحر، فالسحر من المهلكات، وهو محرم شرعاً ونظراً، والنظر أن السحر فيه ضرر على الآخرين، فإذا أضر الرجل غيره من البشر فقد وقع في المحظور؛ إذ لا ضرر ولا ضرار.(56/3)
أقسام السحر
السحر سحران كما قسمه العلماء، سحر حقيقي، وقد اختلف العلماء فيه اختلافاً كثيراً، وأنكره المعتزلة كما سنبين في مسألة سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وسحر تخييلي، والسحر الحقيقي لا يقلب الأشياء على الصحيح، فقد اختلف العلماء هل هذا السحر يقلب الأعيان أولا، يعني: هل يقلب الإنسان إلى قرد، أو القرد إلى إنسان، فهذا اختلف فيه أهل السنة والجماعة، والغالب المقصود هو هذا النوع وهو السحر الحقيقي، وهذا السحر لا يمكن للإنسان أن يصل إليه وأن يتمرس فيه حتى يؤدي القرابين إلى من يعلمه ذلك وهم الشياطين، فلا يمكن للإنسان أن يقرع باب السحر المؤثر حقيقة بإذن الله الكوني إلا أن يقدم القرابين للشياطين كما سنبين كيفية تعليم السحر.
والنوع الثاني من السحر: السحر التخييلي، والسحر التخييلي ليس له تأثير أبداً، وإنما تأثير يكون على الرؤية فقط، فهو خداع وتلبيس وتضليل، فيسحر أعين الناس، كما هو حال سحرة فرعون، قال الله عنهم لما قال لهم موسى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فعظم الله هذا الفعل من التدليس والتلبيس على الناس وقلب الحقائق في أعينهم، فقد رموا بالحبال المطلية بالزئبق والمواد الكيماوية التي يستعملونها والعقاقير، فتحركت فتخيل الناس أنها حيات وثعابين، والحق أنها حبال لا روح فيها؛ ولذلك لما ألقى موسى عصاه فتلقفت كل هذه الحيات آمن السحرة؛ لأنهم علموا أن هذا حق وأن هذه الروح من عند الذي خلقها سبحانه وتعالى.
ومثل هذا ما يفعله الآن بعض السحرة الذي بخفة يده يضحك على الناس، فيخرج الدرهم من يد أحدهم أو يلعب بالبيضة يخرجها من أذن الرجل أو من جيب الرجل، فكل هذه من أنواع السحر التخييلي، وهذا لا يصل إلى الكفر كما سنبين.(56/4)
تعلم السحر من الشياطين
وأما كيفية تعلم السحر، فأما خفة اليد فتسألون عنها هؤلاء الذين يسرقون أعين الناس ويسترهبونهم.
وأما بالنسبة لكيفية تعلم السحر الحقيقي الذي يؤثر فإن ذلك يكون عن طريق الشياطين، فالشيطان يعلم المرء كيف يطير في الهواء أمام الناس، أو يمشي على الماء، أو يأتي بخوارق العادات كما يفعله كثير من الكهنة والمشعوذين والدجاجلة، وآخر هؤلاء الدجاجلة وأكبرهم هو المسيح الدجال كما سنبينه، فالغرض المقصود أن الشيطان هو الذي يعلم المرء كيف يأتي بهذا المؤثر حقيقة بإذن الله الكوني، وقد ورد في بعض الروايات كما أوردها المصنف عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أنها جاءت امرأة إلى عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أتتني امرأة عجوز ومعها كلبان أسودان، فقالت لي: اركبي هذا الكلب -وهو من الجن- قالت: فركبت هذا الكلب وركبت العجوز الكلب الآخر، قالت: فسار بي فأسرع فوجدت نفسي عند بابل، وهناك رجلان معلقان فقالا لي: اذهبي إلى التنور، فبولي فيه، قالت: فارتبت فتراجعت، فقالا لي: ارجعي ولا تكفري، ثم رجعت لهم مرة ثانية، فقالا لي: اذهبي إلى التنور فبولي، قالت: فارتبت فرجعت، فقالا لي: ارجعي ولا تكفري)؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، (قالت: فارتبت فرجعت، ثم رجعت مرة ثانية فقالا لي: اذهبي فبولي عند التنور، قالت: فذهبت فبلت عند التنور فخرج مني فارس صنديد فصعد إلى السماء، فرجعت إليهما فقالا لي: ماذا رأيتي؟ قالت: رأيت فارساً خرج مني صعد إلى السماء، قالا: صدقت، هذا إيمانك قد خرج منك).
ورواه أيضاً ابن جرير الطبري في تفسيره بسند صحيح إلى عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهذه دلالة واضحة على أن الذي يتعلم من الشيطان السحر يكفر، وهي ذهبت تستفتي الصحابة فكل الصحابة يتورع عن الإجابة ويقول لها: لا أفتي في شيء لا أعلمه! وهذا تعليم لنا أن نقف عند حد ما تعلمناه.
فالمقصود أنها تعلمت السحر من هنا، فكل ساحر عاتٍ مشعوذ دجال لا يمكن أن يأتي بالسحر الذي تراه أنت إلا وقد قدم القرابين للشياطين، وهذه القرابين إما أن يسجد للشيطان، أو أن يمتهن المصحف ويدخل به الحمام، أو يتوضأ بالبول، ويفعل أشياء تأمره بها الشياطين، فيأتي بها حتى يمتعه الشيطان، وهذا تصديق لقول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128]، فاستمتاع الجني بالإنسي أن الجني يقدم له العبادة التي لا تصح إلا لله جل وعلا، فيمتعه بهذا الكفر، وهو سيكون قريناً معه في النار؛ لأنه أخذ عزماً على نفسه إلى يوم الدين: أنه لابد أن يكفر بني آدم، فهذا يسجد له، أو يكفر بالله جل وعلا، أو يمتهن المصحف، أو يفعل ذلك أمام الناس، فهذه متعة الجن والعياذ بالله.
أما متعة الإنسي فإنه يأتي الناس فيحدثهم بالمغيبات، والجن يسترقون السمع كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يركب بعضهم بعضاً حتى يصل المارد إلى السماء فيسترق السمع، فمنهم من يسمع صريف الأقلام فيسمع كلمة، فقبل أن يأتيه الشهاب -وهو ميت لا محالة- يقرقرها في أذن من تحته من الجن حتى تصل إلى أذن الكاهن، فيكذب عليها مائة كذبة، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه متعة للبشر: أن يقول للناس ويخبرهم بأمور مغيبات حقاً، أو يخبرهم على مغيب نسبي وليس مطلقاً، كالمسروقات، فالجني هذا يحدث الجني الآخر فيقول: هي في المكان الفلاني، أو يقول: هذه سرقها فلان بن فلان، فيحدث به ويخبر به، أو يمتعه أكثر بأنه يفعل له خوارق العادات أمام الناس، كأن يكون في الإمارات يوم عرفة، فيراه الناس الذين في الحج في عرفة، فيسلم على الناس وهو في الإمارات وفي نفس اليوم يأخذه الجني ويطير به إلى عرفة، فالجني يقوى على هذا، فالله جل وعلا أعطاهم هذه الخفة، فيطير به إلى أن يقف في عرفة يوم عرفة فيحج مع الناس، والناس تنظر في ذلك وتنبهر به، وقد يألهونه من غير الله جل وعلا، فالجهال الأغمار يفعلون ذلك، فهذه متعة أيضاً يمتع بها الجن الإنس.
فهذه هي المتعة التي يقدمها الجن للإنس، وأما المتعة التي يقدمها الإنس للجن فهي أن يسجد له أو يكفر بالله العظيم.(56/5)
أقوال العلماء في حكم السحر
وأما حكم السحر فقد قلنا: إن السحر نوعان: نوع حقيقي ونوع تخييلي، فاتفق الجمهور من المالكية والحنابلة والأحناف على أن السحر كله كفر بنوعيه، واحتجوا على ذلك بعمومات الأدلة كقول الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر).
وأما الشافعية ففصلوا القول في السحر، وهذا هو الراجح الصحيح الذي تدل عليه الآثار، والواقع أن السحر سحران: سحر هو كفر، وسحر هو معصية وكبيرة، والسحر الذي هو كفر هو السحر الذي يستخدم فيه الساحر الشياطين، فيقدم لهم القرابين، فيكفر بذلك.
والسحر التخييلي معصية وكبيرة وموبقة من الموبقات والمهلكات، وهو ذريعة إلى الكفر الأكبر، وهو التخييل والتلبيس والتدليس الذي يستخدم فيه العقاقير أو يستخدم فيه المواد الكيماوية؛ لأن فيه كذباً وضرراً يقع على الآخرين، وهذا هو الراجح الصحيح.(56/6)
الفرق بين السحر والكرامة والمعجزة
هذه الثلاث: السحر والكرامة والمعجزة تتفق في خرق العادات، فالسحر فيه خرق للعادات، فصاحبه يمشي على الماء، ويطير في الهواء، ويفعل الأعاجيب بخرق العادات، والكرامة هي ما يظهره الله على يد ولي من أوليائه؛ إظهاراً لشرفه وكرامته وعلو مكانته عنده، فهذه كرامة من الله جل وعلا بدون مقدمات، فلا يقدم الولي شيئاً حتى تظهر على يديه الكرامة، بل الله يمنحه هذا بدون مقدمات، ولا شك أن المقدمات الأولى هي الطاعات، وأما الساحر فلابد أن يقدم للشيطان حتى يصنع له خوارق العادات.
وأما المعجزة فهي خارقة للعادة والفارق بينها وبين السحر والكرامة أن المعجزة هي خرق للعادة مع التحدي؛ ولذلك سميت معجزة، فالله جل وعلا يعطي النبي المعجزة يتحدى بها البشر أن يأتوا بمثلها، كما أعطى نبيه معجزة القرآن وقال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] إلى آخر الآيات: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] وهذا إعجاز، وهل هناك أشد أعجازاً من هذه الآية الكريمة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، فلم يقم أبو لهب وسط الناس ويقول: هو قال: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)) وأنا سأؤمن بمحمد الآن، لم يفعل ذلك وهذا أكبر إعجاز، فهذا هو الإعجاز المعنوي.
وأما الإعجاز المادي فكقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فقد رأوا القمر شقين: شقاً على اليمين والشق الآخر على اليسار والجبل يفصل بين الشقين، فهذه معجزة تحدى الله عباده أن يأتوا بمثلها، وأما الكرامة فلا يمكن للولي أن يتحدى بها أحداً وإلا فقد كذب على الله، والله يخذله كما يحدث من الساحر، فـ المسيح الدجال ساحر يستعمل الشياطين حتى إن الرجل يأتي إليه ويقول له: إن أردتني أن أؤمن بك فأخرج لي أبي وأمي، فيقول: أين قبراهما؟ فيأتيهما فيقول لأمه: اخرجي، ويقول لأبيه: اخرج، فيخرج أبوه ويخرج أمه، والذي خرج من القبرين حقيقة هما شيطانان يستعملهما، فهو يستعمل الجان؛ ولذلك إذا تحدى وأظهر الإعجاز فإن الله يخذله، فإنه يقول للخربة: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها، ويقول للسماء: أمطري فتمطر، ويشق الرجل نصفين ثم ينادي به فيأتيه متهللاً فرحاً، فيقول له: أنت الدجال، فإنه يدعي النبوة، ثم بعد ذلك يرتقي فيدعي الربوبية؛ فإذا ادعى الربوبية والإلهية بعد النبوة فإن الله يخذله، فلا يستطيع أن يفعل ما منحه الله من الإعجازات مرة ثانية؛ لأن التحدي لا يكون إلا لنبي من أنبياء الله تعالى.
فهذا هو الفارق بين السحر والكرامة والمعجزة.(56/7)
التفصيل في حكم الساحر(56/8)
حكم الساحر إذا كان مسلماً ثم تعلم السحر
اتفق العلماء على أن الساحر الذي يستخدم في سحره الشياطين، ويستخدم الكفر فإنه يكفر بالسحر، فإذا كان يسجد للشيطان، ويستعمل الشيطان في العقد والنفث، فهذا حكمه بالاتفاق القتل، فتضرب عنقه.
واختلفوا في الذي يأتي بسحر التلبيس والتدليس، أو يأتي بأشياء يسرق بها أعين الناس، فالجمهور على أنه أيضاً يقتل، وستأتي أدلتهم، وقال الشافعية: لا يقتل بل يعزر، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت لها جارية سحرتها فلم تقتلها، وباعتها، فـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها الفقيهة أم المؤمنين لم تقتل الساحرة، وهذا دليل على أن الساحر الذي يأتي بسحر التخييل -وإن كان فيه بعض الإيذاء للناس- لا يقتل.
والصحيح الراجح في ذلك قول الجمهور: أنه يقتل، لكن ضابط المسألة: أن الذي يأتي بالسحر الذي هو كفري فإنه يقتل ردة لا حداً؛ لأنه كافر خارج من الملة، فيخلد في نار جهنم، وأما الساحر الذي يأتي بالسحر الآخر فهذا حده أيضاً الضرب بالسيف؛ للعمومات التي سأذكرها، فيضرب بالسيف حداً لا ردة.
والفرق بين الحد والردة أن الذي يقتل حداً ما زال مسلماً، فهذا الحد يطهره، ولا يسأل عن فعله ذلك يوم القيامة، وأما الردة فصاحبها خالد مخلد في نار جهنم، والأدلة على ذلك كثيرة منها: أولاً: حديث جندب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: حد الساحر ضربة بالسيف، وقد رواها جندب قولاً ثم فعلها فعلاً، فقد جلس أحد الأمراء وهو الوليد وبين يديه رجل ساحر يستخدم الجن، والناس ينظرون، فيقطع الساحر رقبته فتتدحرج على الأرض، فيأخذها ثم يردها مكانها مرة ثانية، ويضحك الوليد ويضحك الناس أمامه، فجاء جندب رضي الله عنه وأرضاه الفقيه الصحابي الجليل من بعيد فرأى الرأس تتدحرج ثم ترجع مكانها، فعلم أن هذا من فعل الشياطين ومن سحر الجان، فاستل سيفه فذهب إلى الساحر فأطاح برأسه وقال له: أعد رأسك الآن، فغضب الوليد من فعله فحبسه، فلما ذكر هذا أمام سلمان رضي الله عنه وأرضاه قال سلمان رضي الله عنه وأرضاه: أخطأ الوليد؛ لأنه لا يصح له أن يحبس الصحابي، فكل التابعين في ميزان هذا الصحابي، وما وصل الدين إلا عن طريق هؤلاء الصحابة، ثم الوليد أخطأ عندما جعل الساحر يلبس على الناس بسحره.
قال: وأخطأ جندب لأنه افتأت على ولي الأمر، إذ إن إقامة الحدود لا تكون إلا لولي الأمر والوكيل عنه، فلما فعل ذلك جندب من غير استئذان ولي الأمر كان هذا خطأ منه، ولكن لا يمكن أن يحبس هذا الصحابي ولا أن يعزر، بل ينصح في ذلك.
فهذا دليل قوي جداً على ضرب الساحر دون استفتاء، وأقر سلمان ذلك.
ثانياً: جاء في مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة، وسنده صحيح، فقاموا وقتلوا ثلاث سواحر.
ثالثاً: عن حفصة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت لها جارية سحرتها، فأمرت بقتلها فقتلت، وهذا دليل ثالث يدل على أن الساحر يقتل، وهذا بعمومه يدخل فيه النوع الأول والنوع الثاني.
الدليل الرابع: استنباطاً ونظراً، قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33] إلى آخر الآية، والذي يستخدم السحر ويستخدم الشياطين، أو الذي يؤذي الناس بسحره، فهذا من المفسدين في الأرض، فيدخل تحت عموم الآية: {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33] إلى آخر الآية؛ لأنه سعى في الأرض فساداً.
وهذه الأدلة الأربعة تدل دلالة واضحة على أن حد الساحر القتل.
واستدل الشافعي على قوله بأن عائشة رضي الله عنها سحرتها امرأة فلم تقتلها بل باعتها.
فنقول: إن الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله لا في قول الصحابي وفعله؛ فقول الصحابي وفعله حجة إذا لم يخالفه أحد من الصحابة فكيف إذا خالفت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله، وإن لم يأت حديث النبي صلى الله عليه وسلم فإن عائشة قد خالفها بعض الصحابة كـ حفصة وعمر وجندب رضي الله عنهم وأرضاهم، وإذا اختلف الصحابة فلا حجة في قول أحدهم على الآخر، فالصحيح أن حد الساحر ضربة بالسيف، فيقتل إن كان السحر من النوع الثاني حداً، وإن كان من النوع الأول فإنه يقتل ردة.(56/9)
حكم الساحرة
هل تقتل المرأة الساحرة أو لا؟ اختلف العلماء فيها على قولين: فالجمهور على أنها تقتل، والأحناف على أنها لا تقتل، فأما الأحناف فاستدلوا بالأحاديث التي فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الحروب مر على امرأة قتلت فقال: (ما كانت هذه لتقاتل!)، فنهى عن قتل النساء ونهى عن قتل الأطفال، وهذا عام في الساحرة وفي غيرها، فإذا كان هذا وهي كافرة خارجة عن الملة، فما بالكم إن كان عندها أصل الإسلام، فلا تقتل من باب أولى، والجمهور على أنها تقتل وهذا الراجح الصحيح؛ لعمومات الأدلة.
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها فهو لعلة، وهي المبينة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كانت هذه لتقاتل).
والثاني: هذه مسألة خاصة بالسحر؛ لأن السحر أضر بكثير من النساء، ويعضد ذلك قوله: (ما كانت هذه لتقاتل) يعني: لو قاتلت ستضر بالمسلمين فتقتل، فمن باب أولى إذا أضرتهم بالسحر فتقتل.(56/10)
حكم الساحر الذمي
المسألة الأخيرة: هل يقام الحد على الساحر الذمي؟ صورتها أن يأتي رجل من أمريكا أو من بلاد الأدغال إلى بلادنا مثلاً بتأشيرة أعطاه إياها ولي الأمر، فهذا دخل بأمان، فإن كان ساحراً فسحر الناس هل هذا يقام عليه الحد أو لا؟ الجمهور على أن الذمي لا يقام عليه الحد، واستدلوا على ذلك بحديث طويل في الصحيحين وفيه: (أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو من اليهود من أهل الذمة، وهذا فيه دلالة واضحة على أنه لا يقتل.
وقالت الأحناف: بل يقتل، والراجح في الأثر والنظر مع الأحناف أنه يقتل؛ إذ إننا لو نظرنا إلى الكافر على الإطلاق لوجدناه على نوعين: الأول: كافر حربي وهذا يقتل ويهدر دمه أصالة من غير أن يسحر أحداً.
الثاني: كافر ذمي لنا معه عهد وأمان وذمة، فعليه دفع الجزية، فنأخذ منه الجزية، وإذا أضر بالمسلمين فقد نقض العهد؛ لأن شرط أخذ الجزية عليهم أنهم لا يضرون بالمسلمين، فإذا آذوا المسلمين فقد خالفوا عقد الذمة بيننا وبينهم، وينتقض عهد الذمة، فيقتل ساحرهم، ويرجع إلى أصله من كونه حربياً، فيقتل لأنه حربي أو لأنه ساحر، وهذا الراجح الصحيح.
وأما الرد على حديث لبيد فنقول: لدينا قاعدة قعدها النبي صلى الله عليه وسلم وطبقها ليعلمها الناس قولاً وفعلاً، فأما قولاً: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة -كما في الصحيحين-: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر -أو بالجاهلية- لهدمت الكعبة)؛ لأنها لم تقم على قواعد إبراهيم، (ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها باباً يدخل منه الناس وباباً يخرج منه الناس)، فقريش جعلت الباب عالياً من أجل أن يدخل الشرفاء فقط، ولو دخل غيرهم دفعوه فلا يدخل، وحتى الآن لا يدخلها أي أحد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يجعلها على قواعد إبراهيم، ويجعل لها بابين: باباً يدخل منه كل الناس، وباباً يخرج منه الناس، والذي منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أنه قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر)، فقعد قاعدة مهمة جداً وهي: أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فالمصلحة أن يبني الكعبة كما بناها إبراهيم عليه السلام، لكن المفسدة أعظم وهي أن قريشاً لم يسلموا إلا حديثاً فقد يقولون: لماذا يهدم الكعبة التي عظمناها وشرفناها وعظمها الله، فقد يؤدي بهم ذلك على الكفر والردة، فالنبي صلى الله عليه وسلم درء هذه المفسدة لجلب المصلحة الكبرى وهي: أن يبقوا على الإسلام.
وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم سبه عبد الله بن أبي بن سلول، وسبه كثير من المنافقين فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استأذن عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب أعناق هؤلاء، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قسم قسماً، فأتاه ذو الخويصرة -رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله! اعدل!)، وفي رواية أخرى قال: (هذه القسمة ما أريد بها وجه الله)، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك! ومن يعدل إذ لم أعدل أنا؟! فقام عمر فقال: يا رسول الله! ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين -يعني: يخرجون- كما يمرق السهم من الرمية)، فانظروا الفارق بين العلم والجهل، والعالم والجاهل، فالرجل يتعبد ليلاً ونهاراً: صياماً وقياماً ولا يزن عند الله بعوضة، فالشاهد من الحديث أن عمر قال: (ائذن لي أضرب عنقه)، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وفي رواية قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، فدرأ هذه المفسدة لجلب مصلحة أكبر؛ حتى يثبت الناس على الإسلام ولا يتحدث أحد أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.
فالإجابة عن هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيد بن الأعصم حتى لا يؤلب عليه اليهود؛ إذ إن العرب قد رمته عن قوس واحدة، فكل العرب قاطبة اتفقوا عليه، ولما قالت عائشة: (ألا تنتصر؟ قال: لا أنتصر؛ قد شفاني الله جل وعلا)، فهذا هو الجواب عن هذا الحديث.
فالقاعدة إذاً: درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وأما الآن: لو وجدنا ساحراً يسحر الناس ويؤذيهم ويستعمل الشياطين، فلا بد من رفع أمره إلى ولي الأمر حتى يقيم عليه الحد، أو يحبسه كما يرى إن كان المسألة فيها تعزير دون الحد.
وهذا ختام لباب السحر، ويبقى لنا جزء واحد في باب السحر وهو: سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وقول المعتزلة الذين ردوا الحديث الذي في الصحيحين، فهل سحر النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يسحر؟ وهل أثر ذلك على نبوته ورسالته أم لم يؤثر؟ فسنرد على المتنطعين الذين ردوا الحديث الذي في البخاري ومسلم، ثم نثني بالكلام عن الجن واللبس والصرع، وكيفية علاج ذلك، ثم بعدها ندخل في الكلام عن الصحابة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(56/11)
أسئلة(56/12)
حكم استتابة من أتى بالسحر على سبيل التدليس
السؤال
هل يستتاب الذي يأتي بالسحر على سبيل التدليس والتلبيس أم لا يستتاب؟
الجواب
يستتاب في النوعين على الراجح، والجمهور على أنه لا يستتاب بل تضرب عنقه، ويستدلون على ذلك بقصة المرأة التي ارتدت، أو الرجل الذي ارتد، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، الفاء للتعقيب، والصحيح الراجح أنه يستتاب؛ إذ الشرع متشوف لإسلام الكافر فما بالكم بالذي أسلم وتذوق حلاوة الإيمان أولاً؟ فالصحيح الراجح أنه يستتاب، فإن لم يتب تضرب عنقه.(56/13)
حال قصة المرأة التي ذهبت إلى بابل لتعلم السحر
السؤال
ما حال إسناد قصة المرأة التي ذهبت إلى بابل لتعلم السحر؟
الجواب
القصة رواها اللالكائي بسند صحيح، وفي ابن جرير الطبري أيضاً بسند صحيح إلى عائشة لكن هشام بن عروة لم يصرح بالتحديث عن عائشة، وهشام بن عروة اتهمه بعض العلماء بالتدليس لكن الكلام هنا هل تدليسه يحتمل في هذه الرواية أو لا يحتمل؟ عندنا بعض الروايات التي عضدت هذا الأمر، وهي مذكورة عند تفسير قول الله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة:102].
ففي قصة المرأة أنها كفرت، وابن عباس قال ذلك في تفسير هذه الآية: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، قال ابن عباس: بتعليم السحر، فالمرأة التي ذهبت إلى بابل كفرت بتعلمها السحر.(56/14)
حكم التبرك بالأولياء
السؤال
ما حكم التبرك بالأولياء؟
الجواب
التبرك بالولي فيه تفصيل، وهو: أنه يجوز التبرك بدعائه لا بذاته، فلا يجوز أن أجلس يجانب الولي كي أحتك بجسده وأتبرك به، أو آتي به إلى بيتي فأطعمه ظناً مني أن البيت سيمتلئ بركة، لكن التبرك بالولي إنما يكون بدعائه فقط، ولذلك بينا أن التوسل على ثلاثة أنواع ومنها هذا، وأما ذات الولي فلا يتبرك بها حياً ولا ميتاً.
ويمكن للناس أن يعرفوا الولي بصلاحه، فقد جاء في البخاري ومسلم: (مرت جنازة بالنبي صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليها خيراً -أي: أنه من الصالحين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر: يا رسول الله! مرت جنازة فقلت: وجبت، ومرت الثانية فقلت: وجبت! قال: أما الأولى فقد أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وأما الثانية فأثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
وطلب الدعاء لا يكون من كل أحد، وإنما يكون من الصالحين، فأنت إذا حسبت رجلاً من الصالحين ورأيته يتقي الله ويتورع ولا يتكلم إلا بقول الله وقول الرسول، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا يمكن أن تقول له: ادع الله لي.
فيمكن أن تتوسم الصلاح في أحد وتحكم على ظاهره فقط، أما الباطن فأمره إلى الله تعالى.(56/15)
حكم الهجرة من البلدة التي لا تحكم بشرع الله تعالى
السؤال
ما حكم الهجرة من البلاد التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية؟
الجواب
هذا فيه تفصيل، فإذا كانت هذه البلد يعلوها الكفر لا الإسلام فهي دار كفر، ولا يجوز للمسلم أن يجلس فيها، بل عليه أن يهاجر وجوباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن أقام بين أظهر المشركين)، فلا يجوز له الجلوس هناك إلا إذا كان يدعو إلى الله جل وعلا وينتشل الكافرين إلى الإسلام، فإن كان يفعل ذلك ويمكن له أن يعلو بدينه فله ذلك، فإن لم يفعل وجبت عليه الهجرة، فإن كان ببلده وقد طغى وهجم عليها الكفار، فهذا يجب عليه الجهاد ليطرد هؤلاء من بلده، وإذا استطاع أن يقيم الحد على الذين تعدوا حدود الله جل وعلا فليقم؛ لأنه هو الحاكم الصحيح لهذه البلدة.(56/16)
النظريات العلمية تقبل إذا أيدت ما أثبته الشرع وترده إذا ناقضته
السؤال
ما دام أن النظريات العلمية ليست دليلاً على ما أثبته الشرع فهل نردها مطلقاً؟
الجواب
أقول الإعجاز العلمي موجود، لكن الخطأ في الذين يفسرون القرآن بالإعجاز العلمي ويأتون لبعض النصوص فيلوون عنقها من أجل أن توافق نظرية علمية معينة، وهذا خطأ منهم، قال شيخ الإسلام تفسير القرآن له قواعد، وهي: تفسير القرآن بالقرآن، وهو أولى التفاسير وأصدقها وأصحها، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة، ثم تفسير القرآن باللغة.
وما بعد ذلك فخذ منه ودع، وطبعاً التفسير باللغة مع أنه يأتي في المرتبة الأخيرة إلا أنه يشترط فيه ألا يكون إلا من عالم لغة فصيح قوي العارضة، لكن أن نأتي إلى النصوص فنلوي أعناقها من أجل أن نقول: هذا إعجاز علمي، فهذا لا يصح.
فمثلاً أثبت العلماء بنظرياتهم العلمية أن الأرض كروية وبعد ذلك جاءت نظرية تثبت أنها بيضاوية فقالوا: عندنا في القرآن دليل على أنها بيضاوية، وهو قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30].
وممن طوع القرآن على حسب الاكتشافات العلمية محمد عبده رحمه الله وغفر زلاته، فجاء إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:1 - 3] قال: ليس هناك طير أبابيل، إنما المقصود به: الجدري! ويفسر القرآن بهذه الطريقة من أجل أن تستوعبه عقول الناس، فلا يجوز أن نراعي عقول الناس ونطوع الآيات من أجل هذا الإعجاز، لكن الصواب أن ننظر في هذه النظريات فإن وافقت الشرع قبلناها، وإلا رددناها غير مأسوف عليها.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.(56/17)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على أهل البدع في مسائل السحر
ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة وقوع السحر للكثير من الناس، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وتعاطى الأسباب لإبطال أثر هذا السحر مشرعاً لأمته من بعده، ومبيناً الوسائل المطلوبة والأسباب الشرعية التي يلزم اتباعها من أجل التداوي من السحر وآثاره.(57/1)
إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب العظيم شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وتوقفنا فيه عند الكلام على السحر، وفرقنا بين السحر وبين المعجزة وبين الكرامة، وأثبتنا أن السحر نوعان، وبينا هذين النوعين.
ونتكلم اليوم عن مسألة مهمة قد أنكرها كثير من أهل البدع، وردوا الأحاديث الصحيحة فيها، وهي مسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم، سُحِر، فهل معهم حجة في ذلك أم لا؟ أقول: قد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دلالة على بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت الله أن للسحر تأثيراً، وأن هذا التأثير لا يكون إلا بإذن الله جل وعلا، قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، فأفاد هذا النص الكريم أن السحر يضر، وأن السحر يؤثر، وقد بينا أن السحر يؤثر في الظاهر وفي الجوارح، فيمكن أن يؤثر على القلوب بالهم والغم ويؤثر على العقول، لكن مع ذلك فإنه لا يقلب الحقائق.
وقد ثبت خبر سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يأتي أهله وما يأتي أهله.
وفي رواية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استفتيت ربي فأفتاني، وجاءه ملكان ملك عند رأسه وملك عند رجله فقال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ -يعني: من سحره؟ - قال: لبيد بن الأعصم) ثم استخرج السحر من المكان الذي وضع فيه وشفي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم ينتصر النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه من لبيد لحكمة بيناها فيما مضى.
والمقصود: أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وثبت أنه كان يخيل إليه أنه يأتي أهله وما يأتيهم، وقد ثبت هذا بالنص الصريح، والشرع من الله جل وعلا والوحي قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].(57/2)
الحكمة من وقوع السحر في النبي عليه الصلاة والسلام
والله عز وجل لا يصنع شيئاً إلا وله حكم بليغة في هذا الصنيع، والله حكيم عليم، ومن دقق النظر في خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم ظهرت له وحكم بليغة جداً منها:(57/3)
ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم دليل على بشريته
أولاً: الرد القاطع على أهل التصوف الغالين في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يثبت الله جل وعلا للناس أن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلكم، ومن جلدتكم، ومن بني آدم، يتأثر بما تتأثرون به، ويأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، ويأتي أهله، ويمرض، بل إنه يسحر كما تسحرون، وهذا رد قاطع على المتصوفة الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم فوق طبقة البشر، وإنما خلق من نور ولم يخلق من ماء وطين! فمن رحمة الله للعالمين أنه أرسل إليهم رسولاً منهم يدعوهم إلى الله جل وعلا.
فأول هذه الحكم تقطع الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم -ليحسم مادة الشرك وليحافظ على التوحيد-: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، إذ إن الذين غلوا في عيسى ما قالوا: إنه خلق من ماء وطين، بل قالوا: هو مشتق من الأقانيم الثلاثة، التي هي نور من الله جل وعلا، ونسبوا عيسى لله جل وعلا.
وأهل التصوف شابهوا فعلهم هذا فقالوا: محمد لم يخلق من ماء وطين بل خلق من نور، ثم ارتقوا بعد ذلك إلى أن وسموه بالربوبية والإلهية، كما قال البوصيري في البردة: وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فما ترك لله شيئاً، فالدنيا والآخرة من وجود النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم اللوح والقلم من علم النبي صلى الله عليه وسلم، فأين الله؟! ولذلك تعقب ابن رجب صاحب البردة فقال: هذا الرجل جن في عقله، فما ترك لله جل وعلا شيئاً، وإنما جعل كل شيء للنبي صلى الله عليه وسلم.
فمن الحكم البليغة فيه إظهار بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثر كما يتأثر البشر، ويمرض كما يمرض البشر، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وكان مريضاً يتألم ويتوجع، فقلت: يا رسول الله! إني أراك توعك وعكاً شديداً، فقال: نعم.
إني أوعك مثلما يوعك الرجلان منكم، قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: نعم).
والشاهد في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما يوعك البشر، بل إنه صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته في أحد وكاد يقتل صلوات ربي وسلامه عليه لولا أن الله جل وعلا أنزل في كتابه أمراً مقضياً: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
فالله جل وعلا مكّن ليهودي كافر حاقد حاسد من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم لبشريته صلى الله عليه وسلم.(57/4)
ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه تشريع للبشر من بعده
ثانياً: في خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم تشريع للبشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما شفي من السحر قال: (استفتيت ربي فأفتاني فجاء الملكان) أي: بعدما أخرج السحر الذي عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من البئر شفاه الله، لكنه لم يقتل لبيداً مع أن حد الساحر أن يضرب بالسيف، ويقتل إما ردة وإما حداً على التفصيل السابق، فلم يفعل رسول الله ذلك تشريعاً للأمة، وليبين أن المسألة وإن كان فيها أمر وإن كان فيها شرع، فالمرء يمكن أن يمتنع عن تطبيقه لعلة ولحكمة أبلغ.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيداً حتى لا تتألب عليه الأمم، وحتى لا يقول اليهود: إن محمداً يقتل الناس بغير حق ولا إثبات، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل لبيداً لهذا المقصد العظيم.
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عطل بعض الحدود لعلل وحكم مقاصد، ففي عام الرمادة كان الناس يقتتلون على الطعام ولا طعام لهم ويمكن أن يسرق بعضهم من بيت مال المسلمين نفسه؛ ومع هذا لم تقم الحدود؛ لأن هذه شبه تدرأ بها الحدود.(57/5)
ما وقع من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بلاء واختبار لصدق أهل الإيمان
ثالثاً: في سحر النبي صلى الله عليه وسلم بلاء واختبار وتمحيص لإظهار أهل الدين، هل يصدقون ربهم أم لا؟ وقلوبهم هل استقر فيها الإيمان بحق أم لا؟ إذ إن الله جل وعلا يختبر القلوب، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، والله جل وعلا ليختبر صدق المرء ينزل عليه البلايا والفتن تترى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].
إن مما يتلى على الناس ليل نهار، قول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فعندما يسحر النبي صلى الله عليه وسلم تفتتن القلوب كما حدث للأغرار الأغمار من المعتزلة وأهل البدعة والذين ينفخون في أبواق المعتزلة في هذه العصور، يفتتنون بذلك ويقول قائلهم: رسول معصوم كيف يسحر؟ فنجيبهم: هو عبد لله جل وعلا ويسحر، فيفتن الله جل وعلا الناس ليغربلهم.
ولذلك قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] فهو فتنة، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، فيرتقي الطيب عنده وينزل الخبيث في صفوف المنافقين في الدرك الأسفل من النار.
فالثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سحر، وهذه بعض الحكم التي أدركناها.
وما خفي كان أعظم وأعظم وأعظم، إذ إن حكم الله لا يكون لها عد، ولكل شيء فعله الله حكمة بليغة، لكن يوصل الله لها من يشاء من عباده.(57/6)
إنكار أهل الأهواء والبدع لحادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم
فهذا الحدث الثابت ثبوت الجبال الرواسي في البخاري ومسلم أصح الكتب بعد كتاب الله أنكره بعض المبتدعة، شرذمة من أهل الأهواء يأتون إلى شرع الله فيختبرونه بعقولهم العطبة، ويأتون إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمررونها على العقول، فإن قبلتها عقولهم أخذوا بها، وإلا نحوها جانباً، فهم يقدمون العقل على النقل، فالمعتزلة وأذيال المعتزلة في وقتنا الحاضر من أهل الإسلام المستنير يأتون في الفضائيات وغير الفضائيات ويقولون: كيف يسحر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم؟ وإثبات هذه الحادثة إنما هو قدح في نبوته وفي رسالته وفي تبليغه، وهذه العلة التي يتمسكون بها أوهى من بيت العنكبوت، قالوا: إذا أثبتنا هذا الحدث العظيم، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر فإنه يكون غير معصوم، وإن كان ليس بمعصوم إذاً لم يبلغ تمام البلاغ، وهذا قدح في النبوة، نعوذ بالله من ذلك.
وكثير من المتكلمين في هذه العصور يردون على البخاري ومسلم روايتهما في إثبات حادثة سحر النبي صلى الله عليه وسلم بزعم أن هذا قدح في النبوة، وقدح في التبليغ والعصمة.(57/7)
إنكار وقوع السحر للنبي نفي لما أثبته الله جل وعلا
ونرد على المنكرين لحادثة سحر النبي عليه الصلاة والسلام من جوه: الوجه الأول: نقول لهم: لم تنفون ما أثبته الله؟ ونحن متعبدون ومربوبون لله، فما أثبته الله فهو ثابت، وما أثبته رسوله فهو ثابت، لا يغيره شيء بحال من الأحوال.
وقد ثبت بالدليل الصريح الصحيح وبالشرع الذي يقبله العقل، وهو من النقل الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، فإذا ثبت ذلك فليس لكم أن تنفوا ما أثبته الله جل وعلا، وإلا كان لازم هذا الفعل أن تقعوا تحت طائلة الآية: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
فأنتم تخالفون مفهوم هذه الآية وقوة هذه الآية، إذ إن الله جل وعلا قد أثبت شيئاً فيلزمكم أن تصدقوه، فتثبتون ما أثبته الله جل وعلا، فأول واجب على المسلم أن يتمسك بالشرع، فالشرع قاصم لظهر أي مبتدع، ولذلك أنا أنصح أي طالب علم إذا جاء مبتدع ليجادله فلا ينبس ببنت شفة إلا بقال الله وقال الرسول فيحار في أمره، ولا يستطيع أن يواجه هذه الأدلة، فضوء الشرع ساطع يحرق كل مبتدع.
فالله جل وعلا أثبت أن للسحر تأثيراً، حيث قال جل وعلا: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، ومفهوم هذه الآية ومعناها: أن السحر له تأثير بإذن الله جل وعلا، وقد أذن الله أن يتأثر رسوله صلى الله عليه وسلم لحكم بليغة سبق الكلام في بعض منها.
كما أن هذا النص الصريح الصحيح لا مدخل للطعن في إسناده فأسانيده كالشمس وقد اتفق عليها البخاري ومسلم، فأثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر وقد تأثر بالسحر صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء أثبته الله وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم فوجب عليكم إذا أقررتم أنكم من عباد الله أن تسلموا لأمر الله بأن تثبتوا ما أثبته الله ورسوله، وليس لكم سبيل للخروج من هذا.(57/8)
وقوع السحر للنبي لا ينفي عصمته في الأمور الدينية
الوجه الثاني: أن نقول: العصمة عصمتان: عصمة في التبليغ، وعصمة في الأمور الدنيوية -يعني: عصمة أخروية وعصمة دنيوية- والعصمة الأخروية أو العصمة الدينية هي المقصودة بقول الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وليست العصمة الدنيوية، فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب وكسرت رباعيته، وكاد يقتل في أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم وقع عن بعيره ودحست وركه، والنبي صلى الله عليه وسلم مرض، فإذا قلت بأن {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] المقصود بها العصمة الدنيوية فإنك تكون قد كذبت بالآية، والصحيح أنك تقر بهذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وأن الله جل وعلا يعصمه في التبليغ، وقد ثبت في الحديث: (أن أعرابياً قام على رأس النبي صلى الله عليه وسلم والسيف في يده صلتاً وهو يقول: من يعصمك مني؟ قال: الله، فوقع السيف من يد الرجل، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يعصمك مني؟ قال: كن خير آخذ) صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قال لنبيه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فهذا الرجل لن يقتلك؛ لأن لك وقتاً ستبلغ فيه البلاغ التام حتى يتم هذا الدين.
فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] مفاده العصمة في مسألة التبليغ، أما الأمور الدنيوية فإن الله يبتلي بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا غرو أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليه المرض، حتى إن بعض العلماء قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مات بتأثير السم الذي كان في كتف الشاة التي أهدته المرأة اليهودية، فلما نهش منها نهشة أخبرته أنها مسمومة، وكان أنس يقول: (ما زلت أرى ذلك في لهاة النبي صلى الله عليه وسلم)، ومات متأثراً بالسم، (وكان صلى الله عليه وسلم عند موته يضع يده في الماء، ويضعه على رأسه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات).
فيكون المقصود بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، العصمة الأخروية وإن كانت عصمة دنيوية فإنما هي من أجل التبليغ، وأدلة ذلك متوافرة متضافرة كثيرة جداً لا تحصر في كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ثلاثة من حدث بهن فقد كذب، وفي رواية: فقد أعظم على الله الفرية، من قال: إن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، أو فقد كذب، ثم استدلت الأدلة التي تكلمنا عنها قبل ذلك، وقالت في الثانية وهو محل الشاهد: ومن قال لكم: إنه لم يبلغ، فقد أعظم على الله الفرية أو فقد كذب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالبلاغ، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم تمام البلاغ، وقال في حجة الوداع: (ألا هل بلغت؟ فقالوا: نعم.
قال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد).
فالعصمة عصمتان: عصمة من أجل التبليغ، وعصمة دنيوية، وهذه غير مطلوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقع عليه ما يقع على البشر، والعصمة الأخروية للتبليغ لا بد أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قضاها: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47].
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون)، فيقع عليه أمر النسيان، لكن فيما سوى التبليغ، إذاً: هو بشر يعتريه ما يعتري البشر من النسيان إلا في التبليغ، والدليل على ذلكم قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6].
فالعصمة هي للبلاغ والتبليغ.(57/9)
تأثير السحر في العلاقة الزوجية للنبي صلى الله عليه وسلم
الوجه الثالث: استدلوا بقول عائشة: (وكان يأتي أهله وما يأتي أهله)، فقالوا: في هذا الدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي أهله وما يأتي أهله.
فنقول لهم: الرد على هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: تفسير: (كان يأتي أهله وما يأتي أهله)، فيه إثبات وفيه نفي، ومعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهم ويعزم ويشتهي أهله فيذهب ليجامع أهله فيربط عن ذلك وتخور العزائم وتفتر الهمم عن الجماع.
وهذا واقع مشاهد عند كثير من الناس فإنهم إذا أرادوا الجماع يربطون عن أهليهم.
الوجه الثاني: أن هذا من باب التخيل، وهو ما نسميه في الوقت الحاضر بأحلام اليقظة، حيث يجلس المرء يفكر في شيء فيسرح مع هذا الشيء وهو لم يكن قد وقع، والنبي صلى الله عليه وسلم يحصل له مثل هذا فهو لم يجامع أهله واقعاً، لكن يتخيل ذلك من أثر السحر، وهذا رد عليهم على هذه الشبهة.
والصحيح الراجح كما بينا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر، وهذا السحر وقع عليه، والله جل وعلا له في ذلك حكم.
أما بالنسبة لحديث عائشة: (كان يأتي أهله وما يأتي أهله)، معناه: إذا أراد أن يأتي فلا يأتي، ودليل ذلك من اللغة قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، ومعناه: إذا أردت أن تقرأ القرآن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(57/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنس
ورد ذكر الجن في الآيات والأحاديث، فيجب الإيمان بوجودهم، وبما ذكر من صفاتهم، وهم مكلفون كالإنس، وسيجازون بأعمالهم يوم القيامة.(58/1)
حقيقة الجن وعلاقتهم بالإنس
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:(58/2)
أصل خلقة الجن وأصنافهم
قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن إبليس خلق من خلق الله].
انتقل المصنف إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات أن إبليس خلق من خلق الله جل وعلا.
وقد سمي الجن بهذا الاسم لاجتنانهم -يعني: اختفائهم- ولأنهم أخفى ما يكون على الإنسان، قال الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].
والجن خلق من خلق الله جل وعلا، خلقوا قبل بني البشر، وهذه المدة حددها بعض العلماء بعشرين سنة أو أكثر، وهذا لا دليل عليه، والصحيح الراجح: أنهم خلقوا قبل البشر مع جهلنا للمدة، ويستدل لذلك بقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فهذا قياس من الملائكة، وهذه دلالة على أن للملائكة عقولاً؛ لأن هناك من الناس من ينكر أن يكون للملائكة عقول، فهم قاسوا على ما سبق، كما فسر ذلك ابن كثير، حيث قاسوا البشر على من سبقهم من الجن، فالجن هم الذين أفسدوا في الأرض من قبل فقاسوا عليهم، وأيضاً في بعض الروايات التي يذكرها ابن كثير: أن إبليس طاف بآدم عليه السلام قبل أن ينفخ فيه الروح، فدخل من فيه وخرج من دبره، وقال: والله إنك لضعيف، لئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت أنت علي لأفتننك، فهذه دلالة على أنه مخلوق قبل أن يخلق آدم.
ومادة خلق الجن غير مادة خلق البشر، فقد خلقوا من مارج من نار، أي: من لهب مختلط بالسواد، قال الله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27]، وقال جل وعلا في سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15]، قال بعض العلماء: هو اللهب المختلط بالسواد، وإبليس هذا هو سيد القائسين قياساً فاسداً عندما اعترض على ربه في السجود وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، ثم بين العلة وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
فمادة خلق الجن من نار، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما ذكر لكم)، فهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لكتاب الله: أن مادة خلق الجن من النار، ففيهم خفة، ولهم هيئات مختلفة، يعني: ليسوا كلهم سواء كبني البشر، ودل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الجن ثلاثة أصناف: فصنف يطيرون)، إذاً: لهم أجنحة يطيرون بها، فهذا صنف مختلف في الخلقة عن غيره، أو نقول: أصل الخلقة واحدة لكنهم يتهيئون أو يتكيفون بكيفيات مختلفة، قال: (وصنف حيات وكلاب)، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا القطط السوداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان)، وقال بعض الفضلاء: إن الجن يمكن أن يتمثل في صورة الكلب، وقال: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان) يعني: شيطان الكلاب، فالكلاب لهم شياطين كما أن للإنس والجن شياطين، وهذا مرجوح كما سنبينه.
قال: (وصنف يرتحلون ويظعنون) يعني: الصنف الثالث من الجن، يرتحلون ويظعنون، يعني: هم رحالة دائماً، فهذه أصناف الجن.
إذاً: مادة خلقهم النار، وأصنافهم مختلفة.(58/3)
الجن مكلفون
الجن مكلفون كبني البشر، لهم الثواب إذا أحسنوا وعليهم العقاب إذا أساءوا، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
الاستثناء هنا يمكن أن ينزع منه (ما) و (إلا) فيكون المعنى: خلقت الجن والإنس ليعبدون، ثم انزع (الإنس) وأكمل الجملة لو كانت في خارج القرآن فتقول: خلقت الجن ليعبدون.
إذاً: الحكمة من خلق الجن هي العبادة، فهذه دلالة على أنهم مكلفون ولهم الثواب وعليهم العقاب، بل هم مخاطبون بفروع الشريعة، بل حتى في النكاح، فلو قلنا بوجوب النكاح على الموسر نصحب الحكم على الجن أيضاً؛ لأنهم مكلفون ومخاطبون بفروع الشريعة.
وقد ثبت عن ابن مسعود بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن وأمرهم ووعظهم وذكرهم)، والقرآن أصرح من ذلك وأرقى دلالة، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]، ونحن أولى بذلك منهم، فهم عندما سمعوا وانقادوا وفهموا عن الله قول الله جل وعلا ذهبوا لينذروا قومهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29].
وهذه دلالة على أنهم مكلفون.
وأيضاً هم أصناف من حيث الظلم، ومن حيث الحقد والحسد، ومن حيث الإسلام والكفر، والعتو في الكفر، فمنهم الجني ومنهم العفريت ومنهم المارد، قال الله تعالى على لسان الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11]، وقال أيضاً: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14] يعني: الظالمون، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15].
فهؤلاء أيضاً أصناف من الجن، فمنهم المسلم ومنهم الكافر؛ ولذا نقول: إن المصروع لو صرع بجني مسلم فلك أن تخاطبه وتقول له: قد ظلمت، اتق الله واخرج، وكما نعلم فإن الصرع موجود حقاً من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم قد عالج من السحر، وعالج من الصرع، وأخرج الجني من الإنسان المصروع رغم أنف هؤلاء المبتدعة الذين يردون ذلك كله.
ونذكر هنا مسألة مهمة حول الجن؛ وهي أن الجن له فقه وله علم ويعلّم، وقد حصل ذلك لأروى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو هريرة، فقد علمه جني، إذ فاقه فقهاً في مسألة فعلمه إياها، وهذا هو الجني الذي جاء متمثلاً في صورة الرجل، فقد جاء في الصحيحين: (أن أبا هريرة كان حارساً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فكان هذا الرجل يأتي ويأخذ من الصدقة، فيأخذه أبو هريرة ويقول: سآخذك إلى رسول الله، فيقول: دعني عندي عيال ويعده ألا يعود، ثم يأتيه في الليلة الثانية والنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عنه ويخبره أنه سيعود، ثم بعد ذلك جاء في الليلة الثالثة فأمسكه وقال: لا بد أن آخذك إلى رسول الله، فقال: دعني وسأعلمك كلمات ينفعك الله بها، ثم علمه فقال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ آية الكرسي).
وفي رواية قال: (إذا قرأت آية الكرسي فلا يزال عليك من الله حافظ بهذه الآية).
فلما ذهب أبو هريرة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبره قال له: (صدقك وهو كذوب) يعني: صدق في تعليمك هذا، وهذه أصبحت سنة من هذا الجني الذي لا نعرف اسمه، وهي سنة لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما قاله هذا الجني من أننا لا ننام حتى نقرأ آية الكرسي.(58/4)
استمتاع الجن بالإنس وحقيقة وقوع الزواج بين الجن والإنس
وهناك مسألة مهمة تتعلق بالجن ألا وهي: هل الجن يستمتعون ويتزوجون من الإنس؟ وهذه القضية زل فيها كثير من الذين لا تستطيع عقولهم قبول مثل هذه الحقائق، فأسأل الله أن يقروا بالشرع أو يبتليهم الله بالصرع، وأن يدخل فيهم مائة جني حتى يقروا بهذا الشرع القويم؛ لأنهم يردون أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتنطعون ويقولون: هذا ليس بصحيح.
أقول: الجني يمكن أن يتزوج من الإنس وقد سئل الإمام مالك: هل يتزوج الجني بالإنسية؟ قال: أكره هذا.
فلما سألوه عن العلة، قال: تأتي المرأة بحملها وتقول: هذا من زوجي الجني، فتدخل الشبهة على الناس.
فالإمام مالك يقرر أنه يمكن أن يحصل زواج، وأن يكون فيه ولي وشهود، فهذا إقرار منه، فأقول: حتى وإن كان بعض أهل السنة يقولون بهذا، لكن نحن نقول: أنه لا تزاوج الآن، ولا نستطيع أن نقول بالتزاوج، لكن نقول بلازم التزاوج، وهو الاستمتاع، فللجني أن يستمتع بالإنسي، والإنسي يستمتع بالجني، وأنا لمست هذا واقعاً وعندي في ذلك الأثر والنظر، أما الأثر فقد قال الله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، وهذا وجه الشاهد، {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128]، أما وجه الدلالة فتمتع الجني بالإنسي بأن يخبره بالكلمة التي يسترقها ويكذب عليه مائة كذبة، فهذا المقصود باستمتع بعضنا ببعض.
والمتعة جاءت في السياق بصيغة النكرة ليست معرفة، والنكرة تفيد العموم، فقوله: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ))، هذا الفعل يدل على عموم الاستمتاع: استمتاع بالإخبار استمتاع بالمتعة الجنسية المعروفة استمتاع بما يصنع له من الكرامات والمعجزات، فهذه على العموم: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)).
فهذا دليل على أن الاستمتاع موجود بين الجن والإنس، وخذ ما هو أقوى وأرقى في الدلالة: أن الجني يفعل ما يفعله الإنسي، قال الله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] (لم يطمثهن) يعني: يمكن للجني أن يفعل ما يفعله الإنسي، فسيتمتع كما يستمتع الإنسي، ويجامع كما يجامع الإنسي، وهذا واقع، فقد ألزمت مرة أن أقرأ على رجل -بحكم وجودي في ذلك المكان- وكان لا يريد أن يقرأ عليه أحد، وكان هذا الرجل تأتيه جنية في أحسن صورة، ويستمتع بها كيفما شاء، لدرجة أنه هجر امرأته، فصار لا يأتيها بحال من الأحوال، فهو يستمتع بالجنية، وتأتيه في كل صورة يتخيلها.
وهذا يحرم، ومثل هذا لا يرجم في ذلك ولو كان محصناً، ومع ذلك فإن لازم النكاح -وهو الاستمتاع- موجود.
أما مسألة النكاح بين الجني والإنسي فهذا صعب، وما جاء في تفسير ابن كثير في مسألة بلقيس لما كشفت عن ساقيها بسبب الأرض الممردة بالقوارير، قال: إن ذلك بسبب أن سليمان كان يشك في أن أباها من الجن، وهذا ليس بصحيح، لكن نحن نقول أثراً ونظراً وواقعاً: إن الجني يستمتع بالإنسي، والإنسي يستمتع بالجني قال الله تعالى: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)).
وبعض العلماء: يرجح أن من رأى في منامه أنه يجامع فهذا من تلاعب الشيطان به، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم.(58/5)
إثبات دخول الجني في الإنسي وإلحاق الضرر به
تبقى مسألة تتعلق بالجن وهي: طالما أن الجني يستمتع بالإنسي فهل يدخل فيه أم لا يدخل؟ الصحيح الراجح في ذلك أثراً ونظراً: أن الجني يدخل في الإنسي.
أما الدليل من الأثر: فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
إذاً: فالشيطان يدخل في الإنسان، وله خفة بحيث يمشي في العروق كالدماء، وأنت ما تدري عن عظم أو دقة خلقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فهذه الدلالة من الأثر أنه يدخل بني آدم.
أما واقعاً فقد ورد بالنص وبالاستنباط: أما بالنص: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على امرأة عندها غلام قد جن من المس، يعني: حدث له صرع من الجن، ويغيب هذا الجني عقله، فيذهب عقله مرة ويفيق مرة، فلما اشتكت هذه المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائتيني بالغلام، فأتته بالغلام فأخذه وأداره فضرب على ظهره).
رواه الطبراني بسند صحيح، وفي هذا دلالة على أن الضرب لا يقع على الإنسي بل يقع على الجني، لكن لا يحصل هذا من كل إنسان، فبعض الناس -ممن ليس عنده علم فقه ولا علم بالقراءة ولا علم بكيفية علاج المصروع- أخذ يضرب امرأة ويسب الجني الذي بداخلها ويقول: اخرج عدو الله، اخرج يا ظالم، ويضرب المرأة على رأسها بالعصا حتى ماتت المرأة! فلما أحس هذا الرجل أنه سيعدم، قام بحلق نصف لحيته وترك النصف الآخر ومشى في الشارع أمام الناس من أجل أن يحسبوا أنه مجنون، فالمسألة تحتاج لعلم! فالمقصود: أن الضرب لا يقع للإنسان وإنما يقع على الجني، لكن للخبير التقي الذي يعرف كيف يعالج المصروع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الغلام وضربه على ظهره وقال: (اخرج عدو الله إني رسول الله)، وفي رواية أخرى قال: (فتح فمه ثم قرأ فيه ونفث فيه وقال: اخرج عدو الله إني رسول الله)، هذا فعل رسول الله، فأين المتنطعون؟! وأين هؤلاء الذين جنوا في عقولهم فرفضوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! وأيضاً الإمام أحمد بن حنبل لما قالوا له: هناك مصروع، فقال: خذ نعلي واذهب به إليه وحرج عليه وقل: يأمرك الإمام أحمد أن تخرج، فخرج الجني، وقيل: بعدما مات أحمد رجع فيه مرة ثانية.
والمرأة السوداء التي كانت تصرع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ورآها ابن عباس تتعلق بأستار الكعبة فسألها عن ذلك، فقالت: أخشى من الخبيث أن يكشفني، وهي تعني بالخبيث: الجني الذي يصرعها، ثم ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله: (إن شئت دعوت الله لك فيشفيك، وإن شئت صبرت ولك الجنة فقالت: يا رسول الله! أصبر، ولكن ادع الله لي أن لا أتكشف)، فهي من فقهها فضلت الصبر كما أنها أرادت الستر.
فهذا الحديث دلالته ظاهرة على أنها كانت تصرع ويتلبسها الجني.
وأيضاً ابن صياد أكبر الدجاجلة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويحسبه المسيح الدجال؛ لأنه لا يعلم الغيب، ويختبئ له خلف شجرة، فيجده معلقاً بين شجرتين وله همهمة مثل همهمة الشياطين، فقالت له أمه: (هذا محمد فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترى؟ فيقول: أرى عرشاً على الماء، ويأتيني صادق وكاذب، فقال له النبي: خبأت لك خبيئة، قال: الدخ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك).
وهذا هو محل الشاهد.
وقد رآه ابن عمر في سكة من سكك المدينة فنظر إليه ابن عمر فإذا بالرجل ينتفخ وينتفخ حتى سد الطريق الذي سار فيه ابن عمر، فذهب إليه ابن عمر فأوجعه بعصاه ضرباً، وذهب إلى حفصة وقال لها: أما رأيت ماذا فعل ابن صياد كذا وكذا وكذا، قالت له: وكيف تضربه؟ أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه يخرج من غضبة يغضبها)؟ فهي حسبت أنه المسيح الدجال.
المهم: أن هذا الانتفاخ الذي وقع له هو من الجن.
فالجني يتعامل مع الإنسي ويصرعه، ولذلك كان ابن تيمية يقول: كنت أعالج امرأً فقلت للجني: اخرج، أنت ظالم، فقال: أنت شيخ الإسلام أخرج كرامة لك لتقاك وورعك.
وما قال ذلك إلا ليفتنه، ولذلك قلنا: إن المعالج لا بد أن يكون فقيهاً لا جاهلاً، إذ إنه يمكن أن ينصب له الجني شرك الكفر والشرك والاستعانة به.
لذلك قال له ابن تيمية الفقيه الحبر: اخرج عدو الله لا كرامة لي ولكن طاعة لله، فإنك ظالم.
يعني: اخرج لأن هذه مظلمة ستحاسب عليها يوم القيامة.(58/6)
إثبات أن الجن يأكلون ويشربون ويبولون
الجن يأكلون ويشربون ويبولون كما يفعل بنو آدم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن العظم: (إنه طعام إخوانكم من الجن).
ومن أدلة ذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي فأكل كل ما في الصفحة من طعام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سم الله، رأيت الشيطان يأخذ بيده ليأكل معه)، فهذه دلالة على أنه يأكل.
ومن الأدلة على أن الجن يشربون ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: (مر رسول الله برجل يشرب قائماً، فقال له: أتريد أن يشرب معك الهر؟ -أي: القط- فقال: لا يا رسول الله! قال: يشرب معك من هو أشر منه، الشيطان)، فهذه دلالة على أن الشيطان يشرب.
وعندنا أدلة على أن الشيطان يبول في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ذكر عنده فلان نام حتى أصبح قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، وقوله: (حتى أصبح) فيه تأويلان: التأويل الأول: أنه نام حتى أصبح في الفجر، يعني: حتى طلع الفجر فلم يقم يصلي لله في الليل، وهذا قول بعض العلماء، فحذاري من التفريط في الأخذ من الليل ولو بركعة واحدة يقوم بها العبد لله جل وعلا.
والتأويل الثاني وهو الذي رجحه الجمهور، وهو الذي يرتاح إليه القلب ويميل إليه: أنه بات حتى أصبح فلم يصل الفجر.
وخلاصة القول: إن الجني يشارك الإنسي في كل شيء، حتى إنه مكلف كما هو مكلف.(58/7)
الأسئلة(58/8)
الاستدلال بآية الربا على دخول الجني في الإنسي
السؤال
هل نستدل بآية الربا في الرد على منكري دخول الجني في الإنسي؟
الجواب
نعم.
فآية الربا من أوضح الأدلة على ذلك، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، فهل هناك أصرح من هذه الآية من كتاب الله جل وعلا، فكيف يردون هذه الآيات؟! سبحان الله! لا يكون هذا إلا لمن أراد الله أن يعمي بصيرته ويضله، ومن يضلل الله جل وعلا فلن تجد له ولياً مرشداً.(58/9)
تمثل إبليس للنبي في صلاته حقيقي وليس من قبيل التخيل
السؤال
هل كان تمثل إبليس للنبي في صلاته بسبب السحر؟
الجواب
ليس هذا من تأثير السحر، إبليس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم متمثلاً له وأراد أن يحرقه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وكاد يربطه في السارية ليلعب به الصبيان لكنه قال: (لولا دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] لربطته في سارية المسجد).(58/10)
قدرة الجني على التمثل في صورة الإنسان
السؤال
هل يتمثل الجني في صورة شخص معين؟
الجواب
للجني أن يتمثل بصورة الإنسان، ويأتي الإنسان على أنه إنسان، فـ أبو هريرة قلنا: إنه رأى رجلاً فقيراً، وهو يتمثل في صورة حيات كما ثبت في قصة الحية التي وجدت في مكان المرأة فذهب الرجل ليقتلها برمحه فاضطربت عليه، فما يدري من كان أسرع موتاً، فلما أخبر النبي بالقصة قال: (إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوهم ثلاثة أيام).(58/11)
دخول بعض الجن في الإنس بسبب أذية الإنسي لهم
السؤال
هل صحيح أن من الجن من يدخل في الإنسي بسبب أذية الإنسي له؟
الجواب
هذه صحيح، فالإنسان أصلاً لا يرى الجن فيحدث أنه يذهب ليبول في جحر أو في الصحراء أو في أماكن يتوقع أن يسكنها الجن، فالجني جاهل، فإذا بال الإنسان عليه دون أن يراه، يقوم ويصرعه عقاباً له، وأيضاً إذا صببت عليه ماء حاراً خاصة في الحمام الذي هو مسكنهم، فهذا الماء الساخن جداً قد يصيب أحد الجن فيؤذيه أو يقتله، فيصرعه الجني الآخر للانتقام منه.(58/12)
فك السحر بالسحر ليس علاجاً حقيقياً
السؤال
وجدنا في الواقع أن بعض المسحورين يعالجون بالسحر ويتعافون، فما قولكم في ذلك؟
الجواب
هذا هو حل السحر بالسحر، والمريض يظهر له في البداية أنه تعافى لكن فيما بعد ستكون حاله أكثر سوءاً من السابق، فهذا حل سحر بسحر، وهذا يوقع الناس في الكفر والشرك، فلا يجوز لهم أن يفعلوا هذا.(58/13)
كيف يفعل من أراد صب ماء حار في الحمام ليتجنب أذية الجن؟
السؤال
هل تشرع التسمية لمن أراد أن يصب ماء حاراً وهو داخل الحمام؟
الجواب
لو أردت أن تصب ماءً حاراً في الحوض فعليك أولاً أن تسمي الله حتى لا تؤذي الجان؛ لأن هذا مكانهم، فهم يسكنون في الحمامات والأسواق والبحار والجحور، فإذا أردت أن تصب الماء الحار فعليك أن تخرج وتسمي الله ثم تدخل الحمام أو تسمي بقلبك.(58/14)
ذكر الآيات التي تقرأ على المصروع
السؤال
ما هي الآيات والأذكار التي يشرع للراقي أن يقرأها على المصروع؟
الجواب
الإنسان المصروع تقرأ عليه فواتح سورة البقرة وآية الكرسي، وهي أشد شيء يزعجه، وإذا أردت فزد عليها بقوله تعالى: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، وسورة الصافات من بدايتها: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:1]، إلى قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11]، وتكرر منها قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:6 - 8]، تكرر هذه أيضاً، وأيضاً آية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115]، وتكررها، والشطر الأخير من سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29]، و {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن:1]، والمعوذتان و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].(58/15)
لا يشترط في الراقي القدرة على محاورة الجن
السؤال
إذا كان الراقي لا يستطيع أن يحاور الجني المتلبس بالإنسي فماذا عليه؟
الجواب
إن كان لا يستطيع أن يدعوه إلى الله، أو يحاوره، فما عليه إلا أن يقرأ، فإنه مع مواصلة القراءة عليه سيموت لا محالة.(58/16)
أسباب دخول الجني في الإنسي
السؤال
ما هي أسباب تلبس الجني بالإنسي؟
الجواب
هناك أسباب كثيرة لدخول الجني في الإنسي، فهو يدخل بسبب السحر؛ لأن السحر نوعان: سحر بدون جن وسحر بجن، كذلك يدخل عند شدة التفريط من المسلم، يعني: إذا كان ملتزماً لكن غفل عن ذكر الله وتقاعس عن ذكر الله ويكون الشيطان يتربص به الدوائر، فإذا رأى منه غفلة تلبس به، ومن أشد الأسباب معصية الله جل وعلا، فهي التي تجلب الشياطين على الإنسان، وعند حل السحر بالسحر يكون الشيطان فيها متمكناً غاية التمكن من الإنسي.(58/17)
إمكانية تلبس الجني بمن يحافظ على الأذكار ويواظب على العبادات
السؤال
هل يتلبس الشيطان بالإنسي حتى مع عبادته ومحافظته على الأذكار؟
الجواب
هذا يحصل، لكن يندر أن يكون الإنسان على التزام وذكر لله ويتلبس به شيطان، وقد يكون هذا من باب أن لهذا الرجل درجة عند ربه جل وعلا لا يبلغها بعمله، فالله جل وعلا يبتليه بهذا حتى يرتقي إلى الدرجة التي أعدها الله له.(58/18)
الرجل الراقي يمكن أن يتلبس به الشيطان كغيره من الناس
السؤال
هل صحيح أن الراقي يكون عرضة لتلبس الشياطين به؟
الجواب
نعم صحيح، وكان بعض الإخوة معالجاً، فجاءت عليه أوقات قصر فيها في طاعة الله وغفل عن ذكر الله فصرعه شيطان، فقيل له: نقرأ عليك، قال: لا تقرءوا علي، وأنا أعرف علاجي، فاعتكف خمسة عشر يوماً في المسجد يقوم الليل ويصوم النهار، فخرج منه فكأنما نشط من عقال.(58/19)
كلام شيخ الإسلام والإمام مالك في إثبات الزواج بين الجن والإنس
السؤال
هل ترد قول مالك وشيخ الإسلام بحصول الزواج بين الجن والإنس؟
الجواب
ما دام قد قرره شيخ الإسلام وقرره الإمام مالك فنحن نتبع في الإقرار، لكن نقول: لم نشهد، ونقر بالاستمتاع بالأثر والنظر.(58/20)
إمكانية تمثل الجني للإنسي بصورة إنسان والتكلم معه
السؤال
هل يمكن للجني أن يتمثل أمام الإنس ويكلمهم ويخطب فيهم؟ نعم يستطيع، فيأتيهم على صورة رجل فيخطب فيهم، وقد فعلها الشيطان من قبل فأتى كفار قريش على صورة سراقة، وقال: إني أرى ما لا ترون، وكان يأتي إلى أبي جهل على صورة مرة وهو الذي كان يخطط له كيف يذهب ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أن جنياً مسلماً ذهب ليدعو من وراءه من الجن.(58/21)
الشروط الواجب توافرها للانتفاع بالرقية الشرعية
السؤال
ما هي الشروط التي يحصل بتوافرها الانتفاع بالقراءة لعلاج السحر؟
الجواب
أولاً: لا بد للمسحور أو المصروع أن يدعو الله بإخلاص.
الثاني: أن يستيقن أن كل هذه العلاجات أسباب فقط، وأن الأمر بيد الله جل وعلا.
ثالثاً: أن يتخير من المعالجين التقي الورع الذي يرضي الله فيما يفعل فقط.(58/22)
الجن أصناف
السؤال
ما هو الدليل على وجود عدة أصناف من الجن؟
الجواب
من أوضح الأدلة على التصنيف في الجن قول الله جل وعلا: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل:39] يعني: هذا صنف من الجن.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(58/23)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خروج الدجال
فتنة الدجال أعظم فتنة منذ أن خلق الله السماوات والأرض إلى أن يرثهما وما عليهما، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أوصافه؛ حتى يعرفه المسلم، ويحذر منه، وبين الأمور التي تكون بها العصمة منه، فعلى المرء أن يعرفها ويتحصن بها.(59/1)
التحذير من الدجال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك العظيم (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).
والكلام في هذا المقام هو عن الدجال وهو من الكلام على الغيبيات، وقد ذكر العلماء بأنه يعتبر من أشراط الساعة الكبرى، فـ الدجال شر غائب ينتظر، وهو أشد فتنة تقع على الناس في آخر العصور، فهو منبع الكفر والضلال، ومورد الفتن والأوحال، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف نتناول الكلام على الدجال في أكثر من موضع: الأول: التحذير منه.
الثاني: وصفه.
الثالث: فتنته.
الرابع: كيفية النجاة منه.
الخامس: نهايته.
السادس: ذكر الذين ردوا أحاديث الدجال وشغبوا عليها، وقالوا أو زعموا زعماً باطلاً بهتاناً وزوراً أن الدجال هو كل رجل خبيث، يعني: أن الدجال رمز لكل شيء خبيث.(59/2)
صفة الدجال
الدجال: اسم لكل فاسق زنديق يخرج عن دين الله جل وعلا، ويبتدع فيه، فمن كان كذلك يسمى دجالاً، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الدجال أيما تحذير، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي إلا وقد حذر أمته الدجال)، وفي رواية: (ونوح قد حذر أمته من الدجال).
وأيضاً في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من الدجال الكذاب، فصعد فيه وخفض على المنبر حتى قال الصحابة: حسبنا أنه في طائفة النخل، يعني: قلنا: إن الدجال من شدة ما حذر النبي صلى الله عليه وسلم بجانب النخل أو الشجر، يعني: خلفنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى من الصحابة هذا الخوف والوجل قال: (إذا خرج فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن خرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم).
وهذا الدجال وصفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكون المرء على بينه منه، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في وصف بعد أن ذكر المسيح ابن مريم: (ورأيت وراءه رجلاً جعداً قططاً، كأشبه الناس بـ ابن قطن، واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالكعبة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال) فمن أوصافه أنه جعد قطط، كأشبه ما يكون بـ ابن قطن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في وصفه: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور).
وقال صلى الله عليه وسلم: (كأن عينه عنبة طافية).
فعينه الأولى فيها عور، يعني: لا يرى بها، والأخرى: فيها عيب.
فهذا من دقيق وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعور الدجال.(59/3)
فتنة الدجال
ّبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد فتنة منذ آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة هو الدجال، كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من فتنة منذ ذرأ الله الذرية أو ذرية آدم إلى آخر الخليقة مثل فتنة الدجال).
هذا الأعور الكذاب قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان الحديث فيه ضعيف لكن نستأنس به مع هذه الأحاديث الصحيحة-: (بادروا بالأعمال فتناً) يعني: بادروا قبل الفتن التي تهجم عليكم، ثم قال: (الدجال شر غائب ينتظر) فهو شر غائب ينتظر، وهو أشد فتنة تأتي.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم فتنة الدجال وبينها أيما تبيين للأمة؛ لتعلم أن هذه أشد فتنة بحق، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عباد الله! فاثبتوا) وإنما قال هذا ليبين هذه الفتنة الشديدة على الناس، وقال: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور) وقال أيضاً: (إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا؛ فإذا رأيتموه فليس هو بربكم)، ثم بين فتنه.
وفي روايات كثيرة في الصحيحين وفي السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين من فتنته أنه ينظر إلى السماء فيقول لها: (أمطري فتمطر، وينظر إلى الأرض فيأمرها أن تنبت فتنبت، ويأتي على الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها).
ومن فتنته: أنه يأتي إلى الأعرابي فيقول له: (أنا ربك، تؤمن بي إن بعثت لك أباك وأمك؟ فيقول: نعم، أؤمن بك، فيأمر شيطاناً فيتمثل له في أبيه وأمه)، فهذا الشيطان يأتيه بصورة أبيه وصورة أمه فيقولان له: آمن به فهو ربك، فيؤمن به، والعياذ بالله! ومن فتنته ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يمر على القوم فيكذبون فما تبقى لهم سائمة) يعني: تموت كل السوائم، ويعيشون في ضنك بعدما يكذبونه، وهذه فتنة من الله جل وعلا وبلاء عظيم، ثم يمر على القوم فيؤمنون به فيرجعون أحسن ما كانوا وأغنى ما كانوا، يعني: تنزل عليهم النعم، وتطرأ عليهم حين يؤمنون به، وهذا أيضاً فتنة من الله جل وعلا.
وأشد الفتن التي يأتي بها -كما بين النبي صلى الله عليه وسلم-: أن معه ناراً وجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: (معه نار وجنة، وجنته نار، وناره جنة، فليدخل أحدكم رأسه في هذه النار وليدع الله جل وعلا) أو قال: (ليستعذ بالله وليقرأ عليه فواتح سورة الكهف)، ثم قال: (فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم عليه السلام).
فهناك فتن عظيمة جداً مع هذا الرجل.
وأشد الفتن بعد الجنة والنار: أنه يأتي برجل ثم يقول للناس: ترونه؟ لو أمته ثم أحييته أليست هذه صفة الربوبية؟ فهل تؤمنون بي؟ قالوا: نعم، فيأخذ الرجل فيشقه بمنشار حتى يقسمه نصفين، ويسير بينهما، ثم ينادي عليه فيقول: قم، فيلتئم نصف الشق الأيمن مع الشق الأيسر فيقوم متهللاً ينظر إليه، فيقول: تؤمن بي؟ أنا ربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً أن هذا هو خير الشباب في تلك العصور- فيقول له: (والله ما ازددت فيك إلا بصيرة؛ أنت الأعور الكذاب، أنت الدجال الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم).
فيمكث في الناس قدر ما يمكث، ويأتي بخوارق العادات، وبالأعاجيب التي ملكه الله إياها حتى يكون بلاءً على الناس، وأكثر من يؤمن بـ الدجال اليهود عليهم لعائن الله جل وعلا، وأيضاً: النساء أكثر أتباع الدجال، وأيضاً يتبعه من النصارى جزء، وكل طائفة من هؤلاء الطوائف الثلاثة يتبعون المسيح.
أما الأمة الإسلامية فتنتظر مسيح الهدى الذي يقتل الدجال، رغم أنوف أهل الاعتزال والخوارج وأهل الكلام، وأيضاً: النصارى ينتظرون المسيح، ولكن ينتظرون المسيح ربهم، واليهود ينتظرون المسيح الذي بشر به موسى، والمسيح الذي بشر به موسى قد جاء وهو عيسى بن مريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
المقصود: أن الثلاث الطوائف ينتظرون المسيح؛ فـ المسيح الدجال سيؤمن به اليهود والنصارى، أما نحن فننتظر مسيح الهدى الذي سيقتل هذا المسيح الدجال الذي يمكث في الأرض يفتن الناس ويفتتن به الناس.(59/4)
مكث الدجال في الأرض
وأما مكثه في الأرض فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما سألوه وقالوا: يا رسول الله! ما مكثه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يلبث فيكم أربعون: يوماً كسنة -يعني: يلبث أو يمكث يوماً كسنة- ويوماً كشهر، ويوماً كأسبوع، وباقي أيامه كأيامكم هذه) ولذلك قالوا: يا رسول الله! أنصلي في اليوم الذي هو سنة صلاة واحدة وتكفينا؟ فقال: (لا؛ اقدروا له قدره) يعني: تعرف على ما بين العصر والظهر، وكلما يمر عليك وقت كما بين الظهر والعصر تصلي الظهر، ثم تصلي العصر، ثم تصلي المغرب، ثم تصلي العشاء، فحتى وإن لم تغرب الشمس عاماً كاملاً تصلي كل يوم، وتقدر له قدره، هذه مدة لبث المسيح الدجال في الأمة، فهي ليست بالهينة.(59/5)
كيفية النجاة من فتنة الدجال
إذا علم المسلم فتنته وعلم المدة التي سيمكث فيها فكيف ينجو منه ومن فتنته العظيمة؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيما بيان.
فأول طريق من طرق النجاة من فتنة الدجال: الهروب منه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع به فلينأ عنه) فإذا سمعت به في مكان فاذهب في المكان المخالف؛ فإن كان في المشرق فكن في المغرب، وإن كان في المغرب فكن في المشرق، ولا تجتمع معه في مكان بحال من الأحوال، فهذه أول طرق النجاة.
واستنبط العلماء من ذلك: أن كل امرئ لا بد عليه إذا وردت فتنة أن لا يستشرفها، ويظهر لها؛ إذ أنه لو استشرف هذه الفتنة استشرفته وأخذته وقبضته، وقلبته، وقد يظن بنفسه أنه مؤمن فيقع، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا رجلاً ظن بنفسه الخير، وظن بنفسه أنه على أتم ما يكون من الإيمان، فيسمع بـ الدجال فيقول: أنظر إلى هذا الدجال، وأذهب إليه، فيذهب إليه فيفتتن فيؤمن به! فالمرء عليه أن يبعد عن مكان الفتن، وإذا أتت من مكان يذهب إلى مكان آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع به فلينأ عنه).
الطريق الثاني من طرق النجاة: أن يقرأ في وجهه فواتح سورة الكهف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليستغث بالله، وليقرأ فواتح سورة الكهف).
هذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففواتح سورة الكهف تنجي الإنسان من فتنة الدجال وتعصمه، وتكون حاجزاً بينه وبين فتنته.
الطريق الثالث من الطرق التي تكون فيها النجاة عن هذا الدجال الأعور: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا بياناً شافياً فدلنا على علامة يراها كل قارئ وغير قارئ، فبين أن الدجال مكتوب بين عينيه: كافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباد الله! إنه بين عينيه مكتوب: ك ف ر، أو قال: كافر، يقرؤها كل قارئ وغير قارئ) حتى الأمي يقرؤها، فعلى المؤمن أن ينظر في هذه العلامة التي بين عينيه؛ فإنه مكتوب بين عينيه: ك ف ر، وهذه على الحقيقة وليست على المجاز، فإذا قرأها يعلم أنه الدجال فينأى عنه.
الطريق الرابع من طرق النجاة من هذا الدجال الكذاب: سكن مكة والمدينة؛ فإن الدجال قبل ما يمكث في الأرض تستدبره الريح، فيسير في كل أنحاء العالم في ساعات قليلة، أو في دقائق معدودة، أو ثوانٍ معدودة، لكنه لا يستطيع الدخول إلى مكة والمدينة، فيعصم المرء بمكثه في مكة أو المدينة؛ إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل نقب من نقاب المدينة ملك معه سيف مصلت) فإذا جاء ليدخل مكة والمدينة رأى الملائكة فرجع الخبيث عدو الله، ونكص على عقبيه فلا يدخل المدينة، لكن المدينة ترتجف وتتزلزل تحت أقدام المنافقين فتخرج كل منافق، فيؤمن به، لكن المؤمن حقاً هو الذي يبقى في المدينة، والله جل وعلا سيعصمه من فتنة الدجال.
الطريق الخامس من الطرق التي ينجو بها المرء من فتنة الدجال: كثرة الدعاء بالعصمة من هذه الفتنة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله كثيراً أن يعصمه من فتنة الدجال، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من أربع) يعني: بعد كل صلاة بعدما يقرأ التشهد يستعيذ من أربع: (اللهم إني أستعيذ بك من فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر ومن عذاب النار)، فكان يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم خمس مرات من فتنة المسيح الدجال.
فهذه الطرق التي ينجو بها المرء من هذا الدجال الكذاب.(59/6)
ذكر بعض الأحاديث في وصف الدجال
وهذا الدجال وصفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى يكون المرء على بينه منه، ومن ذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال بعد أن ذكر المسيح ابن مريم: (ورأيت وراءه رجلاً جعداً قططاً، كأشبه الناس بـ ابن قطن، واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالكعبة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح الدجال) فمن أوصافه أنه جعد قطط، كأشبه ما يكون بـ ابن قطن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في وصفه: (إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور).
وقال: (كأن عينه عنبة طافية).
فعينه الأولى فيها عور، يعني: لا يرى بها، والأخرى: فيها عيب.
هذا أيضاً من دقيق وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعور الدجال.(59/7)
وجوب الإيمان بخروج الدجال ووجوده، والرد على من ينكر ذلك
وبقيت هنا مسألة واحدة في الكلام على الدجال، وهي: إن ثبت لنا بالحديث الصحيح خروج الدجال وإن ثبتت لنا طريق فتنة الدجال، وإن ثبت لنا طريق النجاة من هذه الفتنة العظيمة، إن ثبت كل ذلك فما علينا إلا أن نقول: نستيقن ونعتقد خروج الدجال، فإن شوش علينا أو إن شغب علينا بعض المبتدعة، أو بعض أهل الأهواء، أو بعض أهل الكلام على هذه الحقائق الثابتة الراسية كرسوخ الجبال، فإنا نرد عليهم ذلك.
وكلام أهل البدع في الدجال هو أنهم ردوا هذه الأحاديث، وهم على طائفتين: الطائفة الأولى: ردوا هذه الأحاديث كلية، يعني: كذبوها.
والطائفة الثانية: لم ترد، ولكنها أولتها تأويلاً غير مقبول وغير سائغ.
أما الطائفة التي ردتها فهم: المعتزلة والخوارج، فإنهم ردوا أحاديث الدجال ولم يؤمنوا بها، وقالوا: هذه الأحاديث ليست بثابتة.
والطائفة الثانية قالوا: الدجال رمز لكل شر، يعني: أن أحاديث الدجال هذه ليست على حقيقتها، فـ الدجال ليس بشراً من لحم ودم، بل هو رمز يدل على كل شر.
وقالوا: أما بالنسبة لأحاديث عيسى عليه السلام والملائكة فهذا رمز لكل خير، فـ الدجال رمز لكل شر، ونزول عيسى وقتل الدجال هو رمز لكل خير.
فالمعتزلة وأفراخ المعتزلة الذين هم أهل الأهواء ردوا الأحاديث أو أولوها، والأحاديث الصحيحة ترد عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بوجود الدجال، وصرح بفتنته، والأحاديث في البخاري ومسلم ترد عليهم.
ولا نعاني إلا الرد على بعض الفضلاء الذين قالوا: الدجال ليس موجوداً الآن، أي: يقولون: نحن نؤمن بمجيء الدجال بفتنته، لكن لا نثبت وجوده الآن، فهؤلاء يقولون: ليس بموجود الآن، وشبهتهم في ذلك: أن الأقمار الصناعية الموجودة في هذا العصر الحديث لم تر الدجال، يعني: أن الأقمار الصناعية التي رأت كل شيء لم تكشف لنا عن وجود الدجال، فالأقمار الصناعية والجواسيس والمستحدثات الكثيرة لم تر الدجال، فلو كان موجوداً في أي بقعة من بقاع الأرض لرأته الأقمار الصناعية من الفضاء، قالوا: فإننا ننظر بواسطتها في كل بقاع الأرض، فلم نجد الدجال، ولا رأيناه مسلسلاً ولا غير ذلك، وأيضاً: لم نره موجوداً تحت ساحل البحر، ولا في الصحراء، ولا في أي مكان، فـ الدجال غير موجود.
فنقول لهم: أأنتم أعلم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإن الله جل وعلا قد أثبت وجود الدجال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت لنا في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال موجود، وأن فتنته ستأتي على هذه الأمة، فإن رددتموها على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الشبهة التافهة فقد ضللتم، فالأقمار الصناعية وغيرها هي قاصرة عن رؤية أخبار الثقة، وهي قاصرة عن الاطلاع على الأضواء التي تسقطها هي، فإن بعضهم يقول: إنهم نزلوا في قرية من القرى وأسقطوا عليها الأشعة فخفيت عن هذه الأقمار الصناعية، فالأقمار الصناعية ما أحاطت علماً بالغيب، والله هو الذي أحاط العلم بالغيب.
فبالنسبة للأقمار الصناعية نقول فيها: هي من صنيع البشر، والأصل في البشر العجز والتقصير، فيكون ما نتج منهم أيضاً عاجز وقاصر عن أن يرى مثل هذه الغيبيات، التي أخبرنا بها جل وعلا، ومن هؤلاء الفضلاء: الشيخ محمد بن صالح بن العثيمين، وهو يؤمن بفتنة الدجال، لكن لا يثبت وجوده الآن، ويرى عدم صحة حديث تميم الداري في مسلم، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني تميم الداري بحديث قد حدثتكم به) ثم ذكر ما رآه تميم الداري من أنه دخل إلى الجزيرة فوجد دابة كثيرة الشعر، فدلته على الدجال، إلى آخر الحديث، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الخبر، ففرح صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف وخطب الناس.
وقال: (حدثني تميم الداري) ثم ذكر خبر الدجال، فالشيخ ابن العثيمين كأنه يضعف هذا الحديث، والحديث ثابت في صحيح مسلم، والأصل أن لا يرد هذا الحديث من أجل أننا نقول: ما رأيناه في مكان من الأمكنة، بل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وجود الدجال منذ زمنه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، فنحن نثبته والنبي صلى الله عليه وسلم قد أثبته، ولم يأتنا دليل على نفي وجوده.
نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا ويثبت المسلمين من هذه الفتن، ويقينا الظاهرة منها والباطنة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(59/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة-المفاضلة بين بني آدم والملائكة
اختلف العلماء في المفاضلة بين المؤمنين والملائكة، والراجح أن الملائكة أفضل باعتبار البداية أي في الدنيا، والمؤمنون أفضل باعتبار النهاية أي في الآخرة، وهذا التفصيل يجمع به بين الأدلة، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.(60/1)
ذكر الخلاف في المفاضلة بين بني آدم والملائكة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: ذكر المؤلف هنا مسألة: تفضيل بني آدم على الملائكة، وهذه مسألة عجيبة جداً، يقل من يتكلم فيها، وبعض المبتدعة قالوا: هذه المسألة محدثة لم يتكلم فيها أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من السلف.
ويرد عليهم: أنه قد ورد بالسند الصحيح الكلام في هذه المسألة، فتكلم فيها عبد الله بن سلام، وتكلم فيها عمر بن عبد العزيز وكثير من السلف.
وقبل أن ندخل في هذه المقارنة بين من أفضل صالحي البشر أم الملائكة؟ نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل من الملائكة، بل أفضل الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم، فما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما ناداه جل وعلا في كتابه العزيز باسمه قط؛ توقيراً له وتعظيماً، فما ناداه إلا بلقبه، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1].
وقال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فما ناداه الله جل وعلا إلا بلقبه؛ تعظيماً وتوقيراً لهذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم.
أيضاً من الدلائل على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمه على الملائكة: أنه ليلة المعراج لما عرج به مع جبريل كان جبريل له منتهى، وقال له: لا أستطيع بعد ذلك، اصعد أنت، فهذه دلالة على فضل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أرقى من جبريل عليه السلام.
أيضاً من الدلائل على تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على الملائكة: ما قاله عبد الله بن سلام ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: يا عبد الله! وجبريل وميكائيل؟ قال: هل تدرون ما جبريل وميكائيل؟ هم كالشمس والقمر.
يعني: مسخرين كالشمس والقمر، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو مكلف، يعني: يعمل بأوامر الله جل وعلا وينتهي عما نهاه الله عنه.
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، وأفضل الخلق على الإطلاق إذا قلنا بهذه الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] والتفسير الصحيح: أن البرية: هم الخلائق أو الخليقة، فهذه الآية فيها دلالة على أن البشر خير من الملائكة، فإذا قلنا: ولد آدم خير من الملائكة فمن باب أولى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو خير من الملائكة؛ لأنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فالإطلاق أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم خير من الملائكة، بل خير من الخلق أجمعين.
أما بالنسبة لصالحي البشر فهل هم خير أم الملائكة؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: القول الأول: قول كثير من أهل السنة والجماعة: أن صالحي البشر أفضل من الملائكة.
القول الثاني: قول المعتزلة والخوارج وبعض أهل السنة والجماعة: أن الملائكة أفضل من صالحي البشر.(60/2)
أدلة من رأى أن صالحي البشر أفضل من الملائكة
أدلة من قال بأن صالحي البشر هم أفضل من الملائكة أدلة كثيرة، كما يلي: الدليل الأول: أن الله جل وعلا أمر الملائكة بالسجود لآدم، ولا يسجد الملك إلا لمن هو خير منه.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29].
وقال عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] فالسجود يدل على شرف المسجود له.
الدليل الثاني من الأدلة التي تبين فضل صالحي البشر على الملائكة: أن الله جل وعلا علم آدم ما لم يعلمه أحداً من ملائكته، ومعلوم أن العالم أفضل بكثير من غيره الذي ليس بعالم، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
وقال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] والله جل وعلا سأل الملائكة: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:31 - 33] ففيه دلالة على أن مرتبة آدم أعلى من الملائكة بالعلم.
الدليل الثالث: أن الملائكة يلهمون التسبيح ويلهمون الذكر والعبادة لله جل وعلا، أما البشر فهم مكلفون، والتكليف فيه مشقة عليهم، والذي تشق عليه العبادة يكون أرقى من الذي لا تشق عليه العبادة، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أجرك على قدر نصبك) يعني: أجرك على قدر تعبك.
فكل تعب له أجر، والبشر تشق عليهم العبادة، ويخالفون شهواتهم وأنفسهم من أجل رضا الله جل وعلا.
الدليل الرابع: أن الله قد خلق آدم بيده، ففيه دلالة على أنه أفضل من الملائكة؛ لأنه خلق الملائكة بـ (كن)، أما آدم فخلقه الله بيده، كما قال عز وجل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75] فالله جل وعلا خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، يعني: من روح من عنده.
أما الملائكة: فقد خلقهم الله بالكلمة، فقال لهم: كونوا، فكانوا.
الدليل الخامس: أن الله جل وعلا لا يباهي بأحد إلا وهو أفضل من الذي يباهى عنده.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبشروا فإن الله يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء، قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إن الله يباهي بأهل عرفة الملائكة يقول: انظروا إلى هؤلاء جاءوني شعثاً غبراً).
فالمباهاة هاهنا تدل على فضل صالحي البشر الملائكة، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].(60/3)
أدلة من رأى أن الملائكة أفضل من صالحي البشر
القول الثاني: قول المعتزلة وبعض أهل السنة والجماعة أن الملائكة أفضل من صالحي البشر، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة أولها وهو أقواها: الحديث الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).
ووجه الشاهد قوله: (خير منه).
ففيه دلالة على أن الخيرية كتبت لمن ذكر عندهم.
ثانيها: قول الله تعالى على لسان بعض الأنبياء: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31] فهنا يقول: أنا لست بملك وإنما أنا بشر، فهذا يبين فضل الملائكة.
الدليل الثالث: أنهم لا يتغوطون ويذكرون الله ليل نهار، ومنهم المسبح، ومنهم: الراكع، ومنهم: الساجد، ومنهم المحتف حول حلقات العلم ينظر في ذكر الله جل وعلا ويصعد به إلى السماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فالذين يحضرون مجالس الذكر ومجالس العلم يفضلون أنفسهم حتى يتعلموا دين الله جل وعلا، وهؤلاء من أفضل البشر إن لم يكونوا هم أفضل البشر على الإطلاق.
فهذه من أدلة من قال بأن الملائكة أفضل من البشر.
والملائكة تتفاوت مكانتهم؛ فجبريل منزلته أرقى المنازل عند الله جل وعلا.(60/4)
ذكر الراجح في مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر
والترجيح حقاً لا يخرج عن توضيح شيخ الإسلام.
قال شيخ الإسلام: أما الملائكة فهم أفضل باعتبار البداية، فالملائكة يسبحون ويحمدون ولا يعصون الله ما أمرهم، فمنهم: الذاكر، ومنهم: المسبح، ومنهم: الراكع، ومنهم: الساجد، ومنهم: الموكل بأمر لا يمكن أن يعصي الله جل وعلا فيه بحال من الأحوال، فهذا حقاً أكمل المراتب.
بل أنت عندما تخلو بربك فتدمع عينك وتبكي رقة من الله جلا وعلا، وتذوق حلاوة الإيمان تقول: لا أحد مثلي في هذه الدنيا، أنا في جنة ما دخلها أحد.
فالملائكة هم في هذه الحال طيلة هذه الحياة، فالملائكة أفضل باعتبار البداية؛ لأنهم على أكمل المراتب في هذه الحياة.
أما في الآخرة: فالبشر أفضل من الملائكة؛ إذ إنهم عند دخولهم الجنة يكونون أرقى بكثير من الملائكة، ويزدادون قربة من الله، وينظرون إلى وجهه سبحانه، ويتمتعون بما في الجنة، وخدم أهل الجنة هم الملائكة، فهذه دلالة على أنهم أرقى عند الدخول.
فيكون الترجيح هو اعتبار البداية واعتبار النهاية: فالملائكة أفضل باعتبار البداية، وصالحو البشر أفضل باعتبار النهاية، وبهذا تتآلف الأدلة وتجتمع ويحصل الجمع بين القولين.
والملائكة الذين في السماء الأولى ليسوا بنفس درجة الذين في السماء الثانية، والذين في الثالثة ليسوا بدرجة الذين في الثانية، بل هم أعلى منهم وأرقى، فتتفاوت مراتب الملائكة، وأرقى الخلق من الملائكة عند الله جل وعلا هو جبريل، وميكائيل، وإسرافيل.
والملائكة يلهمون هذا، لكن نقول: هذا الإلهام فيه علو الدرجات وفيه قرب كبير من الله جل وعلا، وشعور بحلاوة الإيمان عندما يسبحون الله، ويذكرونه جل وعلا.(60/5)
الأسئلة(60/6)
بيان أن ابن صياد ليس هو الدجال
السؤال
هل ابن صائد هو الدجال؟
الجواب
الذي جعل الناس يشكون في أنه الدجال هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختبئ له خلف الأشجار، وجاءه مرة وهو معلق بين شجرتين يهمهم همهمة الشياطين، فقالت له أمه: يا صاف! هذا محمد -صلى الله عليه وسلم- فدعاه.
فقام فزعاً.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يأتيك) أو قال: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء يأتيني صادق وكاذب.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: خلط عليه، ثم قال له: خبأت لك خبيئة.
قال: الدخ.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنقه، قال: إن يكنه فلن تسلط عليه).
يعني: ليس لك أن تقتله، إذ إن الله سيفتن به الناس في آخر الخليقة، (وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله).
فهذا الحديث هو الذي جعل الناس يشكون هل هو ابن صائد أم لا؟ فالصحابة شكوا فيه.
وفي حديث جابر وغيره أنه كان ذاهباً إلى مكة ليحج فقال له: أما زلت تشك فيه؟ أو أتشك فيه؟ أما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يدخل مكة ولا المدينة) وأنا ذاهب من المدينة إلى مكة، أما قال: (إنه لا يولد له ولد) وأنا عندي من الأولاد كذا، ثم بين لهم أنه ليس هو، وبعدما اقتنع جابر وانتظر حتى استقر في قلبه أنه ليس هو شككه مرة ثانية.
فقال: ولو عرض علي ما رفضته، يعني: لو عرض عليه أنه يكون هو الدجال الأكبر ما رفض، وهذه أيضاً تشكك، لكن لا تجعل المرء يستيقن أنه هو الدجال، فهو بيقين ليس بـ ابن صائد، بل ابن صائد مات ودفن وصلوا عليه.
ومن أوضح الأدلة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم) يعني: أن كل موجود على أرض البسيطة في هذه المائة سنة سيموت.
لكن يشكل على هذا أن المسيح الدجال كان موجوداً والنبي صلى الله عليه وسلم لم يره؛ إذ إن تميماً الداري قد رآه، ولكن يقال: لو كان المسيح هو ابن صائد لأخبر به تميم الداري؛ فإنه رآه في المدينة؛ لأنه كان في المدينة، والصحابة كلهم كانوا في المدينة، ولذلك النووي عند أن تكلم في هذه الأحاديث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف له تميم الداري الدجال وصفه بنفس الوصف الذي وصفه حين قال: إنه أعور، وإنه كذاب، وهذا يبين أن هذا الوصف يخالف تماماً الذي عليه ابن صائد.
ومن الأدلة على أن ابن صائد ليس هو الدجال: أن تميماً الداري رآه مسلسلاً، وابن صائد لم يكن مسلسلاً، بل كان حراً موجوداً حياً يرزق.
وأيضاً: قد ولد له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يولد له) فهذه أدلة فيها قطع النزاع في ذلك.(60/7)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - حقوق أولياء الأمور
لقد أمر الله عز وجل بطاعة ولاة الأمور من السلاطين والعلماء، لكن طاعتهم تابعة لطاعته سبحانه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج على ولاة الأمور إن لم يأتوا كفراً بواحاً؛ لما في ذلك من المفاسد العظيمة، من سفك للدماء وانتهاك للأعراض، وغير ذلك.(61/1)
حقيقة ولاة الأمور
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع هذا الكتاب العظيم، كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للعلامة اللالكائي، وقد انتهينا في الدرس الماضي من الكلام عن الغيبيات، وتكلمنا عن الدجال، وعن اختلاف العلماء في تفضيل بني البشر على الملائكة، واليوم إن شاء الله سيكون الكلام عن سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة الأئمة والأمراء ومنع الخروج عليهم، ثم نختمها بالكلام على الطائفة المبتدعة وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج.
اختلف العلماء في ولاة الأمور هل هم الأمراء أم العلماء؟ على قولين، والصحيح الراجح: أن الأمراء والعلماء هم ولاة الأمور؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فهذه خاصة بالأمراء أو السلاطين، والآية الأخرى تدل على أن ولاة الأمور هم العلماء، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
فالاستنباط هو من خصائص العلماء، فدل ذلك على أن الأمراء هم العلماء، والسلاطين: هم الذين لهم الحكم بالقوة والملك، والعلماء: لهم الحكم بالحجة والبيان.(61/2)
السمع والطاعة لولاة الأمور وضوابط ذلك
إن أول ما يجب على الأمة تجاه الأمراء أو العلماء السمع والطاعة.
والسمع والطاعة من أهم واجبات هذه الأمة بالنسبة لولاة الأمور، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بايعنا الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعلى أثرة منا)، فالشاهد من الحديث قوله: (على السمع والطاعة) يعني: لولاة الأمور.
وفي حديث مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة).
وفي السنن عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).
وأيضاً وردت أحاديث كثيرة في السمع والطاعة من الأمة للأمراء والعلماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بالسمع والطاعة وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وأدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم).
فالأدلة كثيرة على السمع والطاعة، لكن السمع والطاعة على هذه الأمة نحو الأمراء والعلماء ليست مطلقة بل مقيدة، صحيح أن كل هذه الأحاديث والآيات التي ذكرت السمع والطاعة مطلقة، لكنها قيدت بآثار أخرى، فمنها: ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف).
وإنما أسلوب حصر، يعني: الطاعة كل الطاعة لا تكون إلا بالمعروف، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة.
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرك بالمعصية فلا سمع ولا طاعة).
وما من خليفة راشد استلم الخلافة في عهد السلف إلا وخطب الناس أول ما خطبهم وقال: أطيعوني ما أطعت الله فيكم.
فشرط الطاعة بطاعة الله جل وعلا.
وأيضاً قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم، أي: لم يجعلها طاعة مستقلة، بل جعلها تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله، فهذه دلالة على أن هذه الطاعة ليست طاعة مطلقة، بل سمع وطاعة فيما يرضي الله جل وعلا.
أما بالنسبة للمعصية فلا، ولذلك ورد عن عمر بسند صحيح أنه قال: (عليك بالسمع والطاعة وإن أمرك بما ينقص دنياك، أما إن أمرك بما ينقص دينك فقل: دمي دون ديني).
إذاً: فالسمع والطاعة لولاة الأمور من العلماء والأمراء مقيدة بما يرضي الله جل وعلا، فإنما الطاعة في المعروف.(61/3)
النصيحة لولاة الأمور
من الواجبات التي لا بد أن تؤديها الأمة نحو ولاة الأمور من العلماء والأمراء: النصيحة.
والنصح يكون للأمراء والعلماء، إذ من الممكن أن يزل عالم أو يجهل مسألة أو يخطئ فيها فتنصح له، فالنصح للعلماء وللأمراء.
قال بعض العلماء: إن النصح واجب على كل امرئ لولاة الأمور.
والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب ومن السنة، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، والتعاون على البر والتقوى: أن تنصح في الله فيما ينفع وتحذر مما يضر.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
وأيضاً في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، والنصح لكل مسلم).
إذاً: فالنصح يكون للعلماء والأمراء ولآحاد المسلمين، وهو من باب الإرشاد والتعاون على البر والتقوى.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، وذكر منها: والنصح لولاة الأمور).(61/4)
آداب النصيحة وهدي السلف في ذلك
من الواجبات على هذه الأمة أن تنصح لولاة الأمور، وهذا النصح له آداب لا بد أن يتحلى بها الناصح.
أولاً: أن يكون عالماً بهذه النصيحة التي سيؤديها من الكتاب أو من السنة، وعنده الإتقان في هذه المسألة التي سينصح فيها.
ثانياً: أن يكون هذا النصح سراً لا علانية وجهاراً؛ لدرء المفاسد، وهذا من هدي السلف، أي: أنهم كانوا يناصحون ولاة الأمور في السر لا في العلن، دليل ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (من أراد منكم أن ينصح أميره أو ذي السلطان فلا يبديه علانية، وليمسك بيده، فإن سمع منه، فهذا المحمود المطلوب، وإلا فقد أدى الذي عليه) يعني: أدى الناصح الذي عليه.
وأيضاً في الصحيح: (أن أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه جاءه الناس، فقالوا: يا أسامة ألا تدخل على عثمان فتكلمه، أي: في أشياء تأول فيها وأنكرها بعض الناس، فالإنكار هنا كان للتأويل وعثمان رضي الله عنه وأرضاه في خلافته هو سيد الأمة بالإجماع وبالاتفاق، ولم يخالف هذا الأمر إلا أهل البدع الذين أنكروا ذلك، فـ عثمان تأول بعض التأويلات أنكرت عليه، فقالوا: (يا أسامة ألا تدخل عليه تكلمه -يعني: تنكر عليه- قال: أو كلما كلمته تسمعون؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ولا أحب أن أفتح باباً أكون أنا أول من فتحه).
يعني: لا أريد أن أكون أول من فتح باب الإنكار علناً على ولاة الأمور؛ فتحصل المفاسد العظيمة والشر المستطير، وانقلاب الناس على ولي الأمر والخروج عليه.
فهذا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينصح ولي الأمر سراً بينه وبينه.
كان الإمام مالك يقول: إذا دخلت على ولي الأمر ولك كلمة عنده فانصح، وإلا فلا تذهب إليه، إلا أن تعلم أنه سيسمع لقولك فتنصح لله سراً.
وكان الإمام الأوزاعي يكتب إليهم بالرسائل، وكذا ابن المبارك والنووي كانا يكتبان لولاة الأمور بالنصح بالكتاب والسنة قال الله قال الرسول، سراً، ويبعثان إليهم بهذه الرسائل لعل الله جل وعلا أن ينفع بها.
إذاً: فالنصح لهم بالسر.(61/5)
النصح لولاة الأمور بالدعاء
إذاً: فالنصح نوعان: النصح سراً وبالرسائل، والثاني: بالدعاء.
هذا هو فعل السلف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعوة المستجابة دعوة الأخ المسلم لأخيه بظهر الغيب).
وكما ورد بسند صحيح عن الإمام أحمد قال: لو كانت لي دعوة مستجابة لخبأتها لولي الأمر.
لم؟ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
فالناس كما يقولون تبع لملوكهم، إن كان شرقاً كانوا في المشرق وإن كان غرباً كانوا في المغرب.
فالمرء المخلص إن علم أن له دعوة مستجابة عند الله جل وعلا ورفع يده لله جل وعلا سراً أو سحراً فيقول: اللهم أصلح ولاة الأمور، واجعل أمرهم لنصر دين الله جل وعلا، ولإعلاء كلمتك، فإن كان مخلصاً واستجاب الله له فإن الدين ينصر بمثل هؤلاء، والله جل وعلا ينصر الدين بكل واحد نصبه، ودلالة ذلك: أن الخلافة الأموية حدث فيها ظلم وفسق استشرى، ومع ذلك كانت الانتصارات على أيدي هؤلاء، فهذا الحجاج فيه من الظلم والفجور والفسق ما فيه، حتى اختلف العلماء في حكمه هل هو كافر أم لا؟ ومع ذلك جعل الله الانتصارات على يديه.
والخلافة العباسية حدث فيها ما حدث من الفسق والظلم والفجور، ومع ذلك كانت فيها فتوحات وانتصارات.
فكان هارون الرشيد يقول للسماء: أمطري حيث شئتِ فيأتيني خراجكِ.
وكان يحج عاماً ويجاهد عاماً، وتكلم مع ملك الروم بكلمات تبين عزة الدين، قال: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى كلب الروم الأمر ما ترى لا ما تسمع.
فولاة الأمور إذا صح دينهم ودعوت الله مخلصاً أن يجعل الله عملهم نصرة للدين، فهذا من أفضل الأعمال التي تقدمها لله جل وعلا، ومن أفضل النصح لولاة الأمور، فكونك تدعو لهم سحراً: اللهم اجعلهم نصراً للدين، وارفع بهم راية لا إله إلا الله، فهذا نصراً للأمة، وإن كانوا على فسق أو على فجور أو على عدالة أو ضبط وحسن دين، فدعاؤك لهم لو كنت مستجاب الدعوة سيكون سبباً في هذا الانتصار.(61/6)
عدم الخروج على ولاة الأمور
الثالث من الواجبات لولاة الأمور: عدم الخروج عليهم، وإن استشرى شرهم، وظهر فسقهم، وعلا ظلمهم، إذ الخروج عليهم يحدث بسببه خراب الدنيا بأسرها، من إراقة الدماء، مع المفاسد العظيمة التي لا يمكن للإنسان أن يحجمها، فيكاد الخروج على ولاة الأمور من أفسد ما يكون، والله جل وعلا أمر الأمة بالتآلف والتحابب، والخروج على ولاة الأمور يقطع هذا التآلف والتحابب.
لقد جاءت السنة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يمنع الخروج على ولاة الأمور.
أما بالنسبة للآيات: فكقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فهذا على الإطلاق، وينافيه الخروج عليهم، إذ الخروج على ولاة الأمور ليس فيه طاعة، والله جل وعلا أمر بالطاعة لولاة الأمور.
أما من السنة: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مصرحاً في ذلك كما في حديث أنس: (لا تسبوا ولاة الأمور، أو لا تسبوا أمراءكم، ولا تبغضوهم، ولا تغشوهم، واصبروا) فأمر بالصبر وهو مناف للخروج عليهم.
وأيضاً في حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً: (من رأى منكراً من سلطانه فلينكر عليه سراً).
وفي السنن أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره منكراً فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة فمات فميتته ميتة جاهلية).
يعني: إذا خرج على الأئمة واستشرى الفساد بخروجه مات ميتة جاهلية.
وأيضاً ورد موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية) يعني: بخروجه على الأمراء.
وقيل لـ ابن عمر: (بويع لـ يزيد بن معاوية -يعني: استخلف معاوية ابنه- فقال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: إن كان خيراً رضينا وإن كان شراً صبرنا) أي: لم نخرج عليه.
وأيضاً في الصحيحين عن عبادة بن الصامت، قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة -إلى آخر الحديث، فقال:- وألا ننازع الأمر أهله) هذا نص صريح.
وفي رواية قال: (إلا أن تروا منهم كفراً بواحاً).
وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، ما صلوا، أو قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة).
وفي رواية قال: (لا، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
فمنع النبي صلى الله عليه وسلم الخروج على ولاة الأمور، إلا أن نرى كفراً بواحاً، حتى إذا رأيت كفراً بواحاً وقد كفر بالله مثلاً والعياذ بالله جهاراً أمام الناس علناً دون استحياء، فإنك لا تخرج عليه إلا بضوابط، هذه الضوابط أن تتأكد وتستيقن أن مصلحة الخروج تكون أكبر من المفسدة التي تحدث، أما إذا أتيت بمفسدة أعظم فلا يجوز لك ذلك، حتى مع الكفر الذي أباحه النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز الخروج إلا مع ضمان عدم المفسدة، ولذلك قيل للحسن البصري: أما رأيت فلاناً قد خرج على الإمام؟ قال: مسكين، رأى منكراً فأراد أن ينكره فأتى بما هو أنكر منه.
فقاعدة المصالح والمفاسد قاعدة معروفة.
قوله: (وأن لا ننازع الأمر أهله) هذا هو فعل السلف، ابن عمر وأبو هريرة وأنس رضوان الله عليهم أجمعين فهؤلاء الصحابة كانوا متوافرين في عصر الحجاج الظالم الذي قلت: اختلف العلماء هل يكفر أم لا، ومع ذلك لم يخرجوا ولم يأمروا بالخروج، ولم يقروا بالخروج بحال من الأحوال، بل صلى خلفه ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فالخروج على الأئمة أفسد ما يكون، فإذا اجتمعت طائفة وكانت لهم شوكة وقالوا: نخرج على الإمام فهذا أمر باطل في الشرع لا يجوز بحال من الأحوال، وهو باطل بالكتاب وبالسنة وبفعل السلف رضوان الله عليهم.
هذا آخر ما نتكلم عليه من باب وجوب طاعة الأئمة وعدم الخروج عليهم.(61/7)
الخوارج النشأة والمسميات والسمات والحكم(61/8)
أسماء طائفة الخوارج
لقد ثنى المصنف بالخوارج وحكم الخوارج الذين يخرجون على الأئمة.
هذه الطائفة سنتكلم عن اسمها ومسمياتها ومتى أنشئت، وكفر هذه الطائفة من عدمه، وحكمها عند أهل السنة والجماعة.
أما طائفة الخوارج فلها أسماء عدة، فمن مسمياتها: الخوارج، والحكمية، والنواصب، والحرورية، فلها أسماء أربعة.
فسموا بالخوارج؛ لأنهم خرجوا على علي رضي الله عنه وأرضاه، وعلى معاوية، ويقاتلون أهل السنة والجماعة.
وسموا الحكمية؛ لأنهم قالوا: لا حكم إلا لله وهي كلمة حق أرادوا بها باطلاً.
وسموا حرورية؛ لأنهم خرجوا من منقطة حروراء.
وسموا نواصب؛ لأنهم نصبوا العداء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأسماء هذه الطائفة الضالة المبتدعة الخوارج: خوارج، حكمية، حرورية، نواصب.(61/9)
ظهور الخوارج
ظهرت هذه الطائفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم الغنائم كما في الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم فجاء رجل غائر العينين محلوق الرأس، فقال: يا محمد اعدل أو قال: اتق الله واعدل).
وفي رواية قال: (هذه القسمة ما أريد بها وجه الله جل وعلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن يعدل إن لم أعدل، فقام خالد فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق.
فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم لما استدار الرجل وولى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس أو أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد وإرم).
فبين النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه يخرج من عقب هذا الرجل هذه الطائفة، فهذا الرجل هو أصل المنبع لطائفة الخوارج.
ثم ظهرت بقوة وبشوكة وبكثرة زمان الفتنة بين علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان رضوان الله عليهم أجمعين.
ولما ظهرت الفتنة بينهما قامت قائمة الخوارج، فقالوا: حكموا الرجال ولا حكم إلا لله، فنصبوا العداء لـ علي بن أبي طالب ونصبوا العداء لـ معاوية، وقاتلهم علي وهو أولى الطائفتين بالحق.
هذه بداية نشأة أو ظهور قوة للخوارج أو النواصب.(61/10)
صفات الخوارج
من مواصفات هذه الطائفة، أولاً: أنهم يحلقون رءوسهم، ولذلك ترى في الحديث: (جاء الرجل غائر العينين محلوق الرأس) وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات تصريحاً: (سيماهم التحليق).
يعني: الصفة التي تعلوهم التحليق.
وأيضاً في بعض الروايات في السنن أنه جاء أبو موسى يناقش ويناظر بعض الصحابة، فقال: (أتراني من الذي يحلقون) يعني: من الحرورية.
وأيضاً من مواصفاتهم: أنهم يجتهدون اجتهاداً عظيماً في الطاعة، كما قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4].
نعوذ بالله أن نكون منهم.
وكما جاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر على قسيس يجتهد اجتهاداً كبيراً في عبادة الله جل وعلا عبادة باطلة، فنظر إليه فبكى فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فهم كذلك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم).
يعني: يجدون في قراءة القرآن، لكنه لا يجاوز حناجرهم، من الجهل العميق الذي هم فيه.
وأيضاً لما جاءت المرأة تسأل عائشة رضي الله عنها وأرضاها: إذا حاضت المرأة فلا صلت ولا صامت، فتسألها عن قضاء الصلاة.
فقالت لها: أحرورية أنت؟ وذلك لأن الخوارج يجتهدون في العبادة حتى أوجبوا على المرأة الحائض أن تقضي الصلاة التي عليها، وهذا من التنطع والغلو في الدين والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (تخرج أقوام حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بقول خير البرية).
يعني: يتكلمون بخير الكلام كلام الله وكلام الرسول ومع ذلك يضعونه في غير موضعه، فهذه أيضاً من صفاتهم أنهم يجهلون الشرع مع أنهم يجدون في الطاعة.
أيضاً من السمات التي وسمهم بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، والقصة المشهورة: أنه مر عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه فأخذوه فقتلوه وهو صحابي ابن صحابي، وبقروا بطن زوجته، فهم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان من جهلهم العميق.
وأيضاً من جهلهم: أنهم يضعون الآيات في غير موضعها أو يستدلون بغير دليل صحيح، كما قاموا على علي وقالوا: حكَّم الرجال.
فقال علي: حق أريد به باطل.
فبين لهم وقال: قال الله تعالى عن المرأة إذا نشزت أو تخاصمت مع زوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا} [النساء:35]، وهذا نص كتاب الله جل وعلا وجعل تحكيم الرجال جائزاً بنص كلام الله جل وعلا، فقال: أما يقرءون هذه الآيات، فبعث إليهم ابن عباس فناظرهم، ونصحه علي نصيحة، فقال: لا تناظرهم بكتاب الله، فعليك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب فناظرهم فرجع بالنصف منهم وبقي النصف الآخر على ما هم عليه، ثم قاتلوا علياً فقتلهم علي، وكانت هذه بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم أن أولى الطائفة بالحق هم الذين يقتلون الخوارج.(61/11)
الحكم على الخوارج
حكم هذه الطائفة، أو حكم الخوارج، أو النواصب، أو الحرورية، أهم كفار أم هم مسلمون؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين: طائفة قالوا: هم كفار خرجوا من الدين، وهي رواية عن أحمد والشافعي ومالك، ويستدل لهم بأمور: أولاً: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
يعني: إذا خرج السهم من القوس فلا يرجع إليه.
ثانياً: يستدل لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأقتلهم قتل عاد وإرم).
فشبههم بعاد وإرم وهم كفار.
أما دليلهم من النظر: فهم قتلوا علياً استحلالاً، وأرادوا قتل معاوية استحلالاً، وقتلوا كذلك المسلمين استحلالاً، ومن استحل دم المسلم كفر بذلك.
والدليل على أن الاستحلال محرم ويكفر بذلك المرء قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ} [النحل:116]، فهذا الاستحلال من باب الافتراء على الله الكذب.
وحديث عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما كانوا يحلون لكم الحرام فتتبعونهم، ويحرمون عليكم الحلال فتتبعونهم؟ قال: نعم، قال: تلك عبادتهم).
القول الثاني: عدم كفرهم وإنما هم ظلمة وجهلة وليسوا بكفار، وهذا رواية عن أحمد ورواية عن الشافعي ورواية عن مالك، وأدلتهم في ذلك: أن الصحابة أجمعوا على عدم كفر الخوارج، وهم كانوا متوافرين موجودين في عصر علي بن أبي طالب، فسئل علي بن أبي طالب: (أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قالوا: أمنافقون هم؟ قال: المنافق لا يذكر الله إلا قليلاً).
يعني: هم يذكرون الله كثيراً ليسوا منافقين.
وفي رواية عن ابن عمر أنه صلى خلف خارجي.
وأيضاً: عن علي بن أبي طالب لما قتله ابن ملجم، قال: (دعوه أو احبسوه فإن برئت فالجروح قصاص، وإن أنا مت فاقتلوه قصاصاً).
فأمرهم أن يقتلوه قصاصاً أي: حداً لا ردة ولا كفراً.
فهذه دلالة أيضاً على عدم تكفيرهم.
وأيضاً قيل لـ علي بن أبي طالب: (فلم تقاتلهم؟ قال: أمرنا الرسول.
أو قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم).
فدل على أنهم من البغاة أو على الترجيح الصحيح: أنهم قوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ورتب لمن قتلهم الأجر الكبير والعظيم.
وأيضاً ورد عن علي أنه قال: (أنتم إخواننا لا نمنعكم مساجدنا، ولكم ما لنا من الفيء، فإن قاتلتمونا قاتلناكم).
أرسل إليهم بهذا، فهذه دلالة على عدم كفرهم، وهذا فيه إجماع الصحابة وإجماعهم يؤول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين).
يعني: لا يمرقون كلية من الإيمان، لكن يبقى معهم أصل الإيمان وأصل الإسلام.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأقتلنهم قتل عاد وإرم).
فإن القتل لا يدل على الكفر، بل شرع لنا قتال المسلمين من البغاة، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
فقال: من المؤمنين، ثم قال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات:9].
فالبغاة أمرنا بقتالهم حتى يرجعوا إلى الحق.
وأيضاً الذين منعوا الزكاة قاتلهم المسلمون على أنهم منعوا الزكاة فقط، وإطلاق الردة عليهم لغة فقط، هم منعوا الزكاة فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فالقتل بالإطلاق لا يستلزم الكفر، والخوارج قوتلوا على استحلالهم دماء المسلمين.
نقول: القاعدة التي لا بد أن يضبطها طالب العلم هي: أن الاستحلال كفر، لكن أن تسقط عليه عيناً أنه كافر لا يجوز لك ذلك؛ إذ أنه قد تعرض له الشبه والتأويلات التي لا تجعلك تكفره.
وقبل أن أسرد الكلام على هذه القاعدة المهمة جداً أقول: الصحابة لم يكفروا هؤلاء، واعتذروا لهم بتأويلهم استحلال الدماء بما حدث من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن بعض الصحابة كفر بعضاً من أجل الإتيان بالكفر تأويلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر الذي كفر أحد الصحابة، يعني: الصحابي الأول كفر الصحابي الثاني، والثاني أتى بفعل كفر لكنه في هذا الفعل كفر شبهة أو تأويل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر الصحابي الأول من أجل هذه الشبهة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها وإلا حارت عليه).
إلا أن يكون هناك ثمة تأويل وشبهة.
فالشبهة عند الأول: أن هذا فعل فعلاً كفرياً، والشبهة عند الثاني: أن هذا الفعل ليس بكفر.
وإليكم الأدلة على ذلك: الدليل الأول: حادثة حاطب بن أبي بلتعة لما بعث إلى قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يجهز الجيش ليغزوكم، قام عمر لما عرف الأمر وقال: (يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق) رماه بالنفاق.
وقال الله عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].
فكان عمر له هذه النظرة ألا وهي إظهار عورة المسلمين للكافرين: (فجاء حاطب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما فعلت ذلك ردة، ولكن رأيت أن لكل واحد منكم يداً في قريش وليس لي يد، ولي أهلون هناك أخاف عليهم، ففعلت ذلك من أجلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم قد غفرت لكم).
يعني: ليس بكافر من أجل هذه الشبهة، أي: من أجل هذا المسوغ الذي جعله يفعل هذا الفعل الكفري، فلم يكفر عيناً به.
الدليل الثاني: حادثة الإفك، قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً: (من يعذرني في رجل أساءني في أهلي، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إن كان منا فعلنا به وفعلنا، وإن كان من إخواننا الخزرج فعلنا به ما أمرتنا، فقام سعد بن عبادة حمية فقال: والله لا تفعل معه شيئاً، فقال أسيد بن حضير لـ سعد بن عبادة: والله لنقتلنه وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين).
فـ سعد بن عبادة سيد من سادات الأنصار، وقال له أسيد بن حضير: والله إنك لمنافق تجادل عن المنافقين، رماه بالنفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أسيد ولم يقر هذا الحكم على سعد، بل قام يسكت الناس؛ لأنه قام الحيان ليتقاتلا، فلم ينكر على أسيد للتأويل الذي تأوله بما رآه من الظاهر، وأيضاً لم يطبق الحكم على سعد لأن سعداً عنده تأويل أو عنده شبهة أو جاءته حمية دون أن يرتضي بهذا الفعل.
الدليل الثالث: أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، قال: (أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، قال: فصبحنا القوم قال: فتعقبت رجلاً أنا وأنصاري، فقام الرجل فقال: لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري، فأخذته فطعنته برمحي فقتلته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ فقال أسامة: يا رسول الله، والله ما قالها إلا تعوذاً).
فهذه الشبهة جعلت أسامة يستحل قتل المسلم الذي قال: لا إله إلا الله، وهو ظاهره الإسلام.
(قال: يا رسول الله، والله ما قالها إلا تعوذاً.
أو ما قالها إلا متعوذاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أسامة ماذا تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة، فما زال يكرر: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله، حتى ندم أسامة وقال: تمنيت أن لا أكون أسلمت إلا بعد هذا اليوم).
الشاهد من هنا ما استدل به شيخ الإسلام قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم عذر أسامة للتأويل الذي استباح به دم هذا المسلم الذي قال: لا إله إلا الله؛ لأنه لما قال: لا إله إلا الله أسلم ظاهراً.
وهذا التأويل والشبهة التي جعلت أسامة يقتله: أنه ظن أنما قال الرجل: لا إله إلا الله متعوذاً، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالقصاص أو بالدية.
فهذه فيها دلالة أنه عذره بهذا التأويل، وهذه الشبهة أسقطت الحكم عنه.
فهذه دلالات كثيرة تبين أن المتأول بفعل كفري أو الذي له شبهة بالفعل الذي جاء النص بأنه كفري أنك لا تطبق عليه حكم الكفر، فهؤلاء الخوارج استحلوا دم علي واستحلوا دم معاوية واستحلوا دم الكثير من المسلمين وكفروهم ومع ذلك لم يكفرهم الصحابة؛ للتأويلات والشبه التي كانت عندهم، فهم قالوا: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
وعلي حكم أبا موسى ومعاوية حكم عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، فهؤلاء حكموا الرجال والحكم لا يكون إلا لرب الرجال، فهذه دلالة على أنهم يكفرون عندهم؛ لأنهم حكموا الرجال فيما لا يكون الحكم فيه إلا لله العلي الجليل.
فتأولوا بهذه الآية وكانت شبهة لهم، فلذلك لم يحكم عليهم الصحابة بأنهم من الكافرين.
فالصحيح الراجح: أن هذه الطائفة طائفة مبتدعة ضالة وليست بكافرة.(61/12)
عقيدة الخوارج
عقيدة الخوارج كالمعتزلة تماماً ولكنهم أرقى منهم.
هم في باب الإيمان يرون أن الإيمان كل متكامل، إذا سقط سقط كلية وإذا قام قام كلية، بمعنى أن المعصية تجعل كل الإيمان يضيع، فيكفرون بالكبيرة، وفاعلها عندهم كافر خالد مخلد في نار جهنم كالمعتزلة.
وأيضاً لهم تأويلات أخرى في رؤية الله جل وعلا، لكن الأهم عندنا: أن الخوارج أهم ما يعتقدونه التكفير بالكبيرة، فهم يرون أن أي امرئ قد عصى الله فهو كافر من الكفار، ولا بد أن يتوب ويرجع إلى الإسلام؛ لأنه مرتد، وإن لم يرجع بالتوبة يقتل ردة.(61/13)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل الصحابة - حكم من سب الصحابة
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الخلق بعد الأنبياء، كيف لا وقد تخرجوا من مدرسة سيد الأولين والآخرين، ومعلم البشرية أجمعين عليه الصلاة والسلام، وفضائلهم أشهر من نار على علم، وإنما تظهر لنا كي نتأسى بهم ونحذو حذوهم لننال شيئاً من الفضل الذي نالوه، ونحصل بعضاً مما حصلوه، ونرغم بالثناء عليهم أنوف المبتدعين والمنافقين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.(62/1)
نظرة إجمالية للموضوع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك، وهو شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ونحن في خاتمة هذا الكتاب في الكلام على الأخيار أفضل الخلق على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام عليهم سنبين فضلهم، وواجب الأمة نحوهم، وحكم من سبهم، أو كفرهم، أو لعنهم، ثم مع ذلك سنفرد -إن شاء الله- أياماً متتابعة في الكلام على خلافة أبي بكر وصحتها، وهل كان علي وصياً، أي: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بخلافة علي أم لا؟! والكلام على ما دار بين أبي بكر وفاطمة، وبينه وبين عمر، وأيضاً سنذكر الكلام في مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، والكلام عما دار بين معاوية وعلي، وسنتكلم ذباً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نختم بكرامات الأولياء، وسيدور الحديث مع أهل البدعة والضلالة في مسائل كرامات الأولياء.(62/2)
تعديل الله وتزكيته للصحابة الكرام
إن الله جل وعلا فضل هذه الأمة تفضيلاً عظيماً، فجعلها أفضل الأمم، وميزها بميزات لا تدانيها أمة في التاريخ في ذلك.
وأهم هذه الميزات أنه فضلهم برسولهم محمد صلى الله عليه وسلم فجعله سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، وهو القدوة والإمام؛ بل سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم، فهذه من مميزات هذه الأمة.
إن من سنن الله الكونية أنه إذا اختار رسولاً بشرياً وجعله أفضل الخلق؛ فإنه يختار له صحبة تنصره على ما يدعو إليه، وتنشر دعوته، وتعينه، وتتحمل معه المشاق.
فموسى عليه السلام تخير الله له خيرة الناس في وقته، وكذلك عيسى عليه السلام اختار الله له الحواريين لصحبته، وكانوا من أفضل أصحابه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم اختار الله له أفضل الناس بعد الأنيباء على الإطلاق، فلا يدانيهم أحد من صحابة رسول أبداً، فهؤلاء الصحابة أعلى البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، وقد اختارهم الله على علم عنده، ورباهم الرسول على عينه.
ولقد أنزل الله جل وعلا عدالة الصحابة من فوق سبع سموات؛ حيث قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110].
فقوله: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)) فيه أن خيرية الأمة مبتدأ من صحابة رسول الله، أي: من أبي بكر إلى آخر الصحابة موتاً رضي الله عنهم وأرضاهم.
وكذلك بين الله جل وعلا عدالتهم وأنهم خير الناس، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، قال المفسرون: معنى وسطاً: أي خياراً عدولا، فلا أحد أخير من صحابة رسول الله، ولا أعدل منهم، فعدلهم الله في كتابه، ونشر النبي صلى الله عليه وسلم فضائلهم في سنته، وأثنى عليهم.
ومدحهم الله جل وعلا فزكى صدقهم ويقينهم وتوكلهم وإيمانهم، فقال الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172].
ثم بين الله صدق هؤلاء في التوكل عليه -لذلك جعلهم سادة وقادة ولهم الريادة- فقال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
بل وأرقى من ذلك: لما جاءت الجموع والأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت منهم الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا -أي: المنافقون المتظاهرون بمظهر الصحابة الكرام- ماذا قال المؤمنون الأخيار الذين اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قالوا كما أخبر الله عنهم: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22]، فزكاهم الله جل وعلا، بل وزكى صدقهم في بيعهم أنفسهم له جلا وعلا، وكل منهم يبيت ويقول: أي منا سيراق دمه تحت هذه الراية الشريفة، أي: راية لا إله إلا الله؟! وأنزل الله آيات معدلاً لهم، ومبيناً صدقهم، ومنتصراً لهم على من ناوأهم أو لمزهم أو غمزهم فقال سبحانه: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)) و (من) هنا للتبعيض، أي: هؤلاء فقط.(62/3)
صور من صدق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، نزلت هذه الآية في أنس بن النضر وأمثاله رضي الله عنهم أجمعين.
وذلك أنه في يوم أحد جاء أنس بن النضر وقال: إن أول قتال مع رسول الله لم أشهده، والله لئن أشهدني الله جل وعلا قتالاً مع رسول الله ليرين الله مني خيراً.
صدق مع الله فصدقه الله، ونشر الله ذكره إلى يوم الدين بقوله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23].
ففي غزوة أحد فر كثير من أصحاب رسول الله بل من أفضلهم كـ عثمان بن عفان، وكثير من الصحابة فروا عن رسول الله، وبقى وحيداً فريداً صلى الله عليه وسلم، ودخل أنس بن النضر وسط الجموع والصفوف والأسنة والرماح، يقول له سعد بن معاذ -الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منديل سعد في الجنة أفضل من الدنيا وما فيها، وخير من الدنيا وما فيها)، أتعرفون سعداً؟ هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد) - وهو يفر: أين أنت يا أنس؟! أي: أين تذهب يا أنس؟! فصفوف المشركين مكتظة متكتلة، فقال له أنس: إيه يا سعد! والذي نفسي بيده! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد، ودخل رضي الله عنه وأرضاه -وصدق الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]- يقاتل حتى آخر نفس في حياته فقتل، ولم يعرف بين القتلى، حتى عرفته أخته ببنانه، ووجد فيه تسعين ضربة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ونزلت فيه هذه الآية الكريمة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].
وقام قائمهم فنظر إلى السماء فقال: اللهم ارزقني بكافر جلد صنديد، يبقر بطيني ويجدع بأنفي، ثم آتيك فتقول: فيم هذا؟ فأقول: فيك يا رب العالمين! فاستجاب الله له، فكان في الصباح مثلما قال.
وجاء الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمان بصدق وهو يوزع الغنائم، فأراد النبي إعطاءه، فيقول له: (يا رسول الله! ما على هذا بايعتك، بايعتك على أن أدخل ساحة الوغى، فأقاتل فأضرب هاهنا.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدق الله يصدقك).
وأنزل الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، ووجد الرجل بعد الغزوة ما ضرب إلا بالمكان الذي أشار إليه.
وقام طلحة رضي الله عنه وأرضاه الذي قدم نفس رسول الله على نفسه عملاً بقول الله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، فما كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفس رسول الله أبداً.
في غزوة أحد بعدما فر الناس عن رسول الله، وبعدما قتل عشرة من الأنصار أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بقي إلا طلحة رضي الله عنه درعاً لرسول الله فيقول: يا رسول الله! لا ترفع رأسك يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! ثم شهر سيفه وقاتل به حتى دق وكسر، فألقى به، وصد السيوف عن رسول الله بيده حتى شلت، ثم قال رسول الله لـ أبي بكر وعمر: (دونكم صاحبكم فقد أوجب)، أي: أوجب الجنة بصدقه؛ لأنه فداني بنفسه.
وجاء أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه فاحتضن رسول الله، والرماح والسيوف تأتي على ظهره، وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله!(62/4)
طرف من صفات الصحابة في القرآن
لقد بين الله مكانة الصحابة وعدالتهم ورضي عنهم وأرضاهم، في كثير من المواطن في الكتاب العزيز فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] ثم قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]، ووالله لو أن أحداً من الصحابة في هذا العصر لقاد ولساد مشارق الأرض ومغاربها؛ فإن الله ملكهم الدنيا بأسرها في مدة وجيزة من عمر الزمن.
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين هم الذين قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8].
ثم قال عن الأنصار ولم يبخس حقهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فعدلهم الله من فوق سبع سماوات، فتباً تباً وسحقاً سحقاً لمن ينتقص من قدرهم.
قال الله جل وعلا فيهم -يبين الأخلاقيات السامية العالية-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، هذه من أفضل الصفات التي اتسم واتصف بها هؤلاء الأخيار، أي: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وحدثت بين أبي ذر وبلال رضي الله عنهما حادثة كالآتي: قال أبو ذر لـ بلال: يا ابن السوداء! -أي: عيره بأنه أسود- فذهب بلال يشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم -انظر إلى تطبيق الآيات- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (أعيرته أمه؟! -فلا يوجد أنساب، ولا تفاخر بمكانات ولا أموال، ولا سيادة أو ريادة، إنما هو الدين، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]- إنك امرؤ فيك جاهلية) فما كان من أبي ذر إلا -وهو يطبق بحق هذه الآية الكريمة: ((رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) - أن نزل بخده على التراب وقال: يا بلال! والذي نفسي بيده! لا أرفع خدي حتى تطأ بقدميك عليه، وهذا رفعة لـ بلال، وتبيين لمكانته، وقد قال فيه قبل ذلك عمر رضي الله عنه وأرضاه -وهو يبين لـ أبي سفيان وسهيل بن عمر مكانة بلال -: بلال سيدنا، وأعتقه سيدنا أو قال: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، أي: بلال رضي الله عنه وأرضاه.
وأجمع ما أنزل الله جل وعلا في تعديل الصحابة هو قول الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26].
قال الله تعالى: (وألزمهم كلمة التقوى) يعني: لا إله إلا الله.
وقوله: (وكانوا أحق بها وأهلها)، يقول ابن مسعود رضي الله عنه -فيما ورد عنه بسند صحيح-: إن الله نظر في قلوب العباد ووجد أن خير هذه القلوب هو قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاختاره ليكون سيد المرسلين، ثم نظر في قلوب العباد بعد رسول الله فوجد أفضل القلوب قلوب أصحابه؛ فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولنصرة دينه.
ثم قال عنهم: فإنهم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم أخلاقاً.
ثم أرشدنا قائلاً: من كان مستناً فليستن بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/5)
تعديل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في سنته
لقد عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ونشر فضائلهم في سنته، ومن أعظم ما خشي منه هو سب أصحابه؛ شكراً لجميلهم، وقد شكرهم الله في كتابه، كما شكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسن صنيعهم في سنته، ففي الصحيحين يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم حصن لهذه الأمة، قدوات لها، فبجهادهم تؤتى الأمة ما وعدت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي) -أي: أصحاب رسول الله هم الوقاية لهذه الأمة من الفتن والملمات، فقال رسول الله: (وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد).
ولذلك كان المسمار الذي كسر النعش بالكلية هو قتل عمر، قال حذيفة في الصحيح لـ عمر بن الخطاب لما سأله عن الفتن: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والزكاة، فقال: ليس عن هذا أسأل، أسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين! بينك وبينها باب، فقال عمر: يا حذيفة! أيفتح الباب أم يكسر؟! فقال حذيفة: لا يا أمير المؤمنين! بل يكسر، فقام عمر وقال: إذاً لن يقام ثانية! ومعنى: (لن يقام ثانية) أي: ستصبح الأمة في فتن إلى يوم القيامة، وهذا هو الذي حدث، فلما حدث حذيفة بهذا الحديث، قالوا له: أعلم عمر من الباب؟ قال: والله! إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط، وقد علم عمر من الباب -أي: هو رضي الله عنه- فلما قتل عمر أقبلت الفتن تترا، فقتل عثمان، ثم جاء علي فظهرت رءوس الزندقة في خلافته، وجاءت الفتن بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فنستغفر الله مما حدث، ونترحم عليهم، ونترضى عنهم، ونقول: رب! هؤلاء هم الأخيار، ربنا! اغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، اللهم! حقق دعاءنا يا رب العالمين، وألحقنا بصحابة نبيك الكريم، واجعلنا معهم في الفردوس الأعلى يا رب العالمين.
ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته كثيراً من سب صحابته الكرام، أو التجرؤ عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا تسبوا أصحابي) ثم قال: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، والمد: هو قدر كف اليد، ومعنى الحديث: لو أتيتم بجبال من ذهب فتصدقتم بها، والصحابة جاء أحدهم بكف اليد من بر لا من ذهب فأنفقه فهو عند الله أفضل من هذه الجبال من الذهب.
وحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على حب أصحابه فقال: (الله! الله! في أصحابي)، يوصي الأمة بصحابته خيراً.
والمتمتعون الرافضة يسبون عائشة، وأبا بكر وعمر علناً والعياذ بالله، ولا أحد يتصدى لهذا المنكر! وسنبين أن هذا من واجب الأمة بأسرها، أي: أن لا تسكت عن هذا الطعن في أبي بكر وعمر سيدا هذه الأمة.(62/6)
علامة الإيمان حب الصحابة وعلامة النفاق بغضهم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحابته: (من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم).
بل أرقى من ذلك دلالة جعل النبي صلى الله عليه وسلم علامة الإيمان حب صحابته وعلامة النفاق بغضهم، ثم نجد كثيراً من الناس يستمعون لبعض المتنطعين الذين يتكلمون في صحابة رسول الله ويلمحون بالتنقيص من قدرهم ويقولون: والله! قمنا بعد ما سمعناه وفي قلوبنا غل لـ معاوية، أو غل لـ عائشة، لمز وغمز في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصريحاً أو تلميحاً، وسيرد هؤلاء بإذن الله على الحوض فيردون، ثم يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً، وعقابهم عند ربهم جل وعلا بانتظارهم.
ومما يدل على أن علامة الإيمان حب الصحابة، وعلامة النفاق بغضهم: ما ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)، فاللهم! حبب إلينا الأنصار، واجعل قلوبنا عامرة بحب صحابة رسولك صلى الله عليه وسلم.(62/7)
عزة الصحابة الكرام بدينهم
إن الصحابة هم الخيار والأفاضل والأماجد، وهم الذين جعلهم الله جل وعلا يجوبون ربوع الأرض فسادوا وقادوا في مدة وجيزة من عمر الزمن، ثم نشروا دين الله جل وعلا، وكانت مهتم في هذه الدنيا: هي تعبيد الناس لربهم، كما بين ذلك ربعي بن عامر، عندما دخل على رستم عزيزاً برمحه يقطع فرشه التي من حرير، ثم يطأ عليها ببغلته، فيقال له: دع بغلتك في الخارج، ودع سلاحك، فيقول: لا والله! دعوتموني فسأدخل كما أريد، فقال رستم: دعوه، فدخل، فقطع وسادة ثم ربط بغلته، وأخذ برمحه يضرب ويطعن في فراشه الوفير، بعزة المسلم، بشموخ لا تذلل فيه إلا لله جل وعلا وحده فتعجب منه رستم وقال: يا هذا! من أنتم؟ وماذا تريدون؟ فقال ربعي -يبين دعوتنا، ومنهجنا ومهمتنا في هذه الدنيا-: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولنخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وإنما سعة الدنيا والآخرة بالذل لله، والتوكل عليه، والصدق معه سبحانه وتعالى.
وصحابة رسول الله هم الذين جاءنا الدين على أكتافهم غضاً طريا، فتباً تباً لمن يسبهم.
قال أبو زرعة الرازي -وهو الإمام المعروف الذي قال عنه الإمام أحمد: ما جاوز هذا الجسر مثل أبي زرعة، فقد كان حافظاً ثقة ثبتاً.
وقال عنه ابن أبي حاتم -وهو ابن خالته-: لما مات أبو زرعة ما خلف بعده مثله.
وكان يقول بعض علمائنا: أبو زرعة يا أبا حاتم أحفظ من البخاري.
وكان صاعقة في الحفظ، وكان فطناً لبيباً، ينظر إلى الذين يتنطعون ويسبون أصحاب رسول الله فيرد عليهم: من سب أو انتقص قدر صحابي فهو زنديق، إذ أنه يلمح بضرب الشريعة، والشريعة لم تأتنا إلا عن طريق الصحابة، فإن لم تعدل الصحابة فلا شريعة، وقال: من انتقص من قدرهم فهو زنديق، وهم العدول قد عدلهم الله جل وعلا، وعدلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء هم القدوة والأسوة الذين نفتخر بأنهم أجدادنا حقاً، لا فرعون ولا هرقل ولا كسرى ولا قيصر، إنما أفتخر بأجدادي حقاً: كـ خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة الذي تبختر ومشى مشية التعجب بين الصفين ورسول الله يشكر له هذه المشية ويقول: (هذه مشية -أي: مشية التفاخر والتبختر والكبر- يبغضها الله إلا في هذا الموقف)؛ لأنه يعتو ويتكبر على المتكبرين الكافرين.
وأبو دجانة هو الذي أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه بعد أن هز النبي الخشبة -وهذه من معجزاته- فأصبحت سيفاً، فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أول من أشهر سيفاً في سبيل الله، والذي قام في مقتلة عظيمة بينه وبين الروم يشق الصفوف ويقتل يميناً ويساراً، ويرجع ويقول: هل منكم من يستطيع أن يفعل ذلك؟! فقال: أنا يا رسول الله! فيجلسه، ثم يقوم الثانية فيجلسه، ثم يقوم أبو دجانة فيقول: أنا يا رسول الله! آخذ هذا السيف بحقه.
ثم تأتي الغزوة فيربط أبو دجانة عصابة حمراء على رأسه، ويقول الصحابة من الأنصار -مفتخرين به-: ربط أبو دجانة عصابة الموت، فينزل في ساحة الوغى فيقتل مقتلة عظيمة في أهل الكفر، ثم يجد امرأة تجهز على كل جريح من المسلمين، فرفع عليها السيف، فلما رآها امرأة -وكانت هنداً رضي الله عنها وأرضاها قبل أن تسلم- لم يقتلها، وقال بعدما علاها بالسيف: أترفع بسيف رسول الله أن يقتل امرأة، وتركها ورحل رضي الله عنه وأرضاه.(62/8)
واجب الأمة نحو الصحابة(62/9)
حب الصحابة
إن واجب الأمة نحو الصحابة يتمثل في أمور: أولاً: حبهم؛ فهو دين نتعبد الله جل وعلا به، كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق -أو علامة النفاق- بغض الأنصار)، وقد قال أنس كما في الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب).
فمن تحب ستكون معه، فإن كنت تحب البابا شنودة، وأهل الكفر والضلال، فأنت معهم، وإن كنت تحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرجو الله أن تكون معهم في الفردوس الأعلى.
وما رأيت حديثاً أفرح لي بمثل هذا الحديث أو قال: ما فرحنا بمثل هذا الحديث، إذ أننا نحب رسول الله -كأنه يلمح بأن عمله لا يصل به إلى أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى- وأبا بكر وعمر، ونرجو الله أن نكون معهم بهذا الحديث: (من أحب قوماً حشر معهم).
ونحن إذا أحببنا صحابة رسول الله فنحن معهم إن شاء الله.
فأول واجب على الأمة إذاً: هو حب صحابة رسول الله، وتعميق ذلك في قلوبنا، وفي قلوب الأهل والأقرباء والأصدقاء؛ لأنه دين نتعبد لله جل وعلا به، والمرء مع من أحب.
والإمام مالك يبين لنا كيف نحب رسول الله وصحابته الكرام فيقول: كان السلف يعلمون صبيانهم حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسئل ابن المبارك: من الجماعة؟ فقال: أبو بكر وعمر.
وسئل الحسن: حب أبي بكر وعمر سنة؟ قال: لا، فريضة.
فلازم وواجب حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دام أن رسول الله قد ربط الإيمان به وجعله علامة له.(62/10)
نشر فضائلهم ومدحهم بما فيهم
ثانياً: نشر فضائلهم، ومدحهم بما فيهم، وجعلهم أسوة لنا، فنغرس في أبنائنا أنهم هم القدوة والأسياد، والقادة بحق، وهم الذين كانت لهم الريادة المطلقة.
فتأتي إلى كتب التاريخ -التي فيها فضائل الصحابة- فتسطر لأولادك فضائل الصحابة، وتحكي لهم عن خالد قائد الأمة، الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم -لما ارتقى المنبر وهو يبكي-: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، واستلم الراية سيف من سيوف الله سله الله على المشركين، جعل الله النصر على يديه).
هذا هو الذي جعل هرقل ملك الروم يقول له: من أنت؟! أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تهزم أبداً؟!.
هذا سيف الله المسلول الذي ما دخل معركة قط إلا وجعل الله النصر على يديه.
فعلم أولادك حب خالد وسيرته وشجاعته، ثم تورد لهم عنه ما قاله وهو يموت -وأسأل الله أن لا نكون ممن عناهم خالد - ما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، ألا لا نامت أعين الجبناء.
نعوذ بالله أن نكون كذلك، ونعوذ بالله أن ينزع من قلوبنا حب الجهاد في سبيله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق).
ثم احك لأهلك وقرابتك عن أبي عبيدة بن الجراح، فقد لا يعرف أحد من هو أبو عبيدة وما مكانته.
أبو عبيدة هو الذي يقول فيه عمر -وهو على فراش الموت-: لو كان أبو عبيدة حياً لأعطيته الخلافة؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح).
واحك لهم عن جليبيب، وبين لهم أمراً من أهم الأمور: وهو أن الشهرة لا تساوي شيئاً، وفي الحديث: (إن الله يحب التقي الخفي النقي)، فالله تعالى يحب العبد الأشعث الأغبر، الذي إذا طرق على الأبواب دفع، فإذا أقسم على الله أبره.
جليبيب هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوة: أتفقدون أحداً؟ قالوا: لا نفقد أحداً، بحثنا عن كل أحد فما فقدنا أحداً، قال: ولكني أفقد أخي جليبيب، فإذا عرفه الله ورسوله، ما ضره أن الصحابة لم يعرفوه.
فواجب على كل الأمة أن تحدث أبنائها عن هؤلاء الأخيار، وأن تبين سيرهم، وأن تمدحهم، وتجعلهم قدوة تتخذ، فإذا فعلنا ذلك نحشر معهم إن شاء الله جل وعلا.(62/11)
الذب عنهم
ثالثاً: النصرة لهم والذب عنهم، فلا يرضى مسلم بسب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقبل أحداً يفعل ذلك، أي: يسب أبا بكر أو عمر أو عائشة، كالرافضة الذي يقول قائلهم: اللهم! العن صنمي قريش أبا بكر وعمر.
حاشا لله، بل اللهم! العن من لعنهم وانتقم منه يا رب العالمين.
فأنت يجب عليك أن تذب عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا ترضى عمن يسبهم عملاً بقول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، وهم قد ظلموا، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فهذا من حقهم عليك يا مسلم.
وسل نفسك من الذي أوصل إليك القرآن غضاً طرياً؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود: (من أراد أن يأخذ القرآن غضاً طرياً فليأخذه من ابن أم عبد) أي: ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتضن ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل)، فعلى أكتاف هؤلاء وصلتنا الشريعة غراء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فوجب عليك أن تذب عنهم، وأن تنصرهم، وأن ترد على من يتنطع ويتكبر ويتجبر عليهم، وإذا سمعت رجلاً يقدح في عائشة وفي شرفها فاقطع لسانه إن أردت؛ لأنه قد كفر برب العزة جل وعلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) فلا بد أن تذب عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/12)
وجوب الكف عما شجر بين الصحابة
رابعاً: الكف عن الخوض فيما شجر بين صحابة رسول الله، كموقعة الجمل وصفين ومقتل عثمان، وغيرها من الفتن التي دارت بين الصحابة، فلا تتكلم بها، كما قال إمام أهل السنة والجماعة عند أن سألوه: ماذا تقول في هذه الفتن؟ فقال: ما أقول إلا بقول الله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
وقد قال ابن كثير كلاماً ما معناه: حروب رحم الله أجسادنا منها، فنبرئ ألسنتنا وأقلامنا من الخوض فيها.
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أجمعت الأمة على وجوب الكف عن الكلام في الفتن التي حدثت بين الصحابة.
ونقول: كل الصحابة عدول، وكل منهم اجتهد، فمنهم من اجتهد فأصاب كـ علي فله أجران، ومنهم من اجتهد فأخطأ كـ معاوية فله أجر، فكل منهم مأجور، القاتل والمقتول، حتى الطائفة الباغية لها أجر واحد لا أجران، يعني: ليس فيهم مأزور بفضل الله سبحانه وتعالى.
فيجب على الأمة الكف عن الخوض في الفتن التي حدثت بين الصحابة، واعتقاد أن كل الصحابة عدول، وأنهم اجتهدوا فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر.
وهذا التأصيل والتقعيد أصل في التعامل مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(62/13)
حكم من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن قلنا: لعنة الله جل وعلا على كل من سب صحابة رسول الله جاز ذلك؛ لأننا لا نلعن معيناً، وإنما نلعن طوائف، كما يقول الله: {لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].
والساب للصحابة لا يخلو من أربعة أقسام:(62/14)
حكم من كفر الصحابة
القسم الأول: من سبوا صحابة رسول الله وكفروهم، وقالوا: ارتدوا ولم يبق منهم مسلم إلا أربعة نفر، فهؤلاء كفروا بالإجماع، كغلاة المعتزلة الذين يقولون: إن صحابة رسول الله ارتدوا على أعقابهم بعد موت رسول الله.
وما الدليل على كفرهم؟
الجواب
مخالفتهم لظاهر القرآن، وصريح آياته.(62/15)
حكم من فسق الصحابة لأجل دينهم
القسم الثاني: من يسبون كل الصحابة ويفسقونهم لدينهم، ولنصرتهم له، فهؤلاء أيضاً كفار بالإجماع.(62/16)
حكم من سب أبا بكر أو عمر أو عائشة رضي الله عنهم
القسم الثالث: من يسبون أبا بكر وعمر وعائشة، فهؤلاء كفرة، رغم أنف من يقول: إنهم غير كفرة.
فقد بين الله جل وعلا عدالة أبي بكر في قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22]، فالله العظيم جبار السماوات والأرض يحدث ويخاطب عبداً من عبيده ويقول له للتعظيم والتفخيم: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة)، فهنيئاً لك يا أبا بكر أن يقال عنك: (أولو الفضل).
وكان أبو بكر في مكة من أغنى أغنيائها، وكان من الجود بمكان، فأنفق كل أمواله على رسول الله، كما قال الرسول في الصحيح: (وواساني بأهله وماله) وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول: (ما تركت لأهلك وعيالك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
ونظر جبريل إلى أبي بكر وعليه ثياب رثة، فقال جبريل مشفقاً على أبي بكر وهو بالثياب الرثة بعدما كان من أغنى الأغنياء: يا رسول الله! أبلغ أبا بكر بأن الله يقرئه السلام ويقول: يا أبا بكر! إن ربك عنك راض، فهل أنت عن ربك راض؟) الله أكبر، لمن هذا الكلام؟ لعبد من عباد الله يقال له: (يا أبا بكر! إن ربك عنك راض) ثم يقال له: (فهل أنت راض عن ربك؟!)، ومعنى ذلك: أأنت راض عن قضاء ربك عليك؛ لأنك بعدما كنت أغنى الأغنياء وسيد السادة رضيت أن تبقى فقيراً مع رسول الله، مهزوماً حتى ينصرك الله وينصر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهل أنت راضٍ عن الله، وعن قضائه وقدره؟! قال: والله! إني عن ربي راض، والله! إني عن ربي راض، والله! إني عن ربي راض.
وقد زكاه الله جل وعلا في كتابه فقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6]، وفي آخر الآيات قال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:20]، الإخلاص أمر في القلوب لا يعلمه إلا الله، لكن إخلاص الصديق نشره الله بين الناس.
فمن سب أبا بكر أو عمر كما تفعل الرافضة في أعيادهم، أي: أحياناً يأتون بصنم من حلوى ثم يضعون في بطنه عسلاً ثم يشقون بطنه ويدخلون رؤوسهم ويشربون من العسل ويقولون: نشرب من دم الصنم الأكبر! حاشا لله.
ثم ترى قائلهم عندما يريد أن يسب أمه أو ابنته أو أخته يقول لها: يا عائشة! خسئت وخسئ أبوك إن كان علمك ذلك.
يقولون عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي قال فيها عمار في موقعة الجمل -لما لعنها أو سبها رجل-: أخرس الله لسانك، إنها زوجة نبينا في الدنيا وفي الجنة، ولكن الله يبتليكم بها لينظر هل تسمعون كلامها أو تسمعون كلامه، فسبحانه وتعالى.
فبين رضي الله عنه أنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة وهي حبيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوها حبيب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: (ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً).
فمن سب عائشة في شرفها فهو كافر ملحد زنديق، كما صعد قائلهم وأميرهم وسب عائشة علناً، ورماها بالزنا والإفك والعياذ بالله، والله جل وعلا قد برأها من فوق سبع سماوات، فمن رمى عائشة بالإفك فعليه لعنة الله؛ لأنه كافر ملحد يستحق الخلود في نار جهنم، إلا أن يتوب الله عليه، فإذا تاب الله عليه فمات مسلماً تائباً فالحمد لله.(62/17)
حكم سب الصحابة لا لدينهم أو شرفهم
القسم الرابع: الذي يسب الصحابة لا لدينهم ولا لشرفهم ولا لشيء من ذلك، وإنما حقداً عليهم، أو لتقديم أحد منهم على أحد، كمن يسب معاوية مثلاً فيقول: سرق الخلافة، وهو الذي أنشب الحرب بينه وبيه علي.
فهذا ليس بكافر لكنه فاسق على شفا جرف هار، سينهار به إن لم يتب.
بل هو ذريعة للكفر، وباب من أبوابه، لكن لا نقول بكفره بحال من الأحوال، بل نقول: فاسق مبتدع زنديق من سب معاوية أو غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.(62/18)
الأسئلة(62/19)
حكم الشيعة
السؤال
هل كل الشيعة كفار؟
الجواب
الشيعة ليسوا كلهم كفاراً، بل يوجد من الشيعة من هو كافر ملحد لا يشك مؤمن في كفره، لكن نصطحب التقعيد الذي قعدناه، أي: أن الكفر كفر نوع وكفر عين.
فمن الشيعة من هم كفار كالذين يقولون: إن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو بالقرآن الصحيح، بل هو ثلث القرآن فقط، أما ثلثيه فهو في كتاب فاطمة، أو في السرداب، مع الرجل الذي ينادونه: يا إمام خرج اخرج، فيكونون أضحوكة وهم أمام السرداب.
فالمقصود: أن هؤلاء كفار.
ومثلهم الذين يسبون عائشة علناً، كغلاة المعتزلة الذين يقولون: ارتد الصحابة إلا أربعة نفر.
ومن الشيعة الزيدية، وهم لا يسبون أبا بكر وعمر، ولا يقدحون في خلافتهما، بل يقرون بها، لكن يقولون: علي أفضل من أبي بكر وعمر، وهو أحق بالخلافة منهم، لكن الناس عدلوا عن الأفضل للمفضول، وإمامة المفضول تصح؛ لأن أبا بكر صلى بالنبي، وكذلك عبد الرحمن بن عوف، فهما إمامان مفضولان، والفاضل صلى الله عليه وسلم صلى خلفهما، فتجوز إمامة المفضول، فهذا التأويل لهم، فليسوا بكفار.
ومما ينبغي أن نؤكد عليه هنا: أن القول قد يكون كفراً وكذلك الفعل ومثلهما الاعتقاد لكن القائل أو الفاعل قد لا يكفر، حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ولا أقول: إن علماء الشيعة وعوامهم كفار، بل أتحرج من هذا، ولا أستطيع التجرؤ عليه، لكن الشيخ ابن جبرين وهو من جبال أهل العلم، يقول ذلك، لكني لا أقلده في هذا.
أقول: علماؤهم كفار، لكن العوام ليسوا بكفار حتى تقام عليهم الحجة، وتزال عنهم الشبهة، وهذا منهج شيخ الإسلام ابن تيمية عند أن يتكلم عن المعتزلة والجهمية والذين ينفون صفات الله جل وعلا، فيقول: علماؤهم كفار، أما العوام فلا، للعذر بالجهل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
فلو وجدت رجلاً يذبح لغير الله جل وعلا، هل تكفره؟ لا تكفره، بل تقول: هذا الجاهل فعل كفراً، وقال كفراً، لكن لا أكفره حتى أقيم عليه الحجة وأزيل عليه الشبهة.
أما لو جاءني رجل وقال لي: أنت مفتر كذاب أفاك! فأقوله له: لماذا يا رجل؟! قال: لأنك تكفر اليهود والنصارى وهم أهل كتاب.
أقول له: سأبين لك الحجة على أنهم كفار، فإن لم تكفرهم بعد ذلك فأنت كافر؛ لأنك تكذب الله.
فإن قال: كيف ذلك؟ أقول له: هم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فهل هذا صحيح عنهم؟ وهل كفروا بذلك؟ فإن قال لي: هذا القول صحيح عنهم؛ لأن الله يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وهو قول باطل، وهم كفار بذلك.
فأقول له: الحمد لله الذي نجاك من الكفر.
فإن قال: لا، أي: لم يقولوا ذلك، أو ليسوا كفاراً بقوله، وعاند وعتى فأقول له: كفرت أنت أيضاً.
الخلاصة: أنه لا بد من قيام الحجة وإزالة الشبهة حتى يكفر قائل الكفر أو فاعله.
وما هو ضابط إقامة الحجة عليهم؟ كثير من العلماء لم يبينها وسأقعد لك قاعدة قد من الله علينا بها، وهذه القاعدة مهمة جداً في معنى إقامة الحجة، فنقول معناها: أن يفهما مثله، وليس المعنى مجرد وصول المعلومة؛ لأنه قد يعاند ويجحد.
وقد لا يفهمها مثله، فلو أتيت برجل صيني وكلمته بالمصري ففهم كلامك، ثم قال لك: ابتعد عني، لا أريد أن أفهم منك شيئاً، أو يقول: لن آخذ منك شيئاً، فهذا الرجل يكفر؛ لأن مثله يفهم هذه الحجة.
فالضابط في المسألة: بلوغ الحجة، ومعناها: أن تصل إليه ويفهمها مثله، وليس مهماً أن يفهمها هو، لكن الأهم أن يفهمها مثله؛ لأنه قد يكون جاحداً، فلا يريد أن يفهم منك.
وكذا لو تعمد عدم الفهم يكون كافراً؛ لأنه معرض، وقد قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3].(62/20)
التقية عند الرافضة
السؤال
ما مكانة التقية عند الرافضة؟
الجواب
التقية عند الرافضة أصل العقائد، بل هي مقدمة عندهم على لا إله إلا الله، وهي من أهم الأشياء في حياتهم، فنسأل الله أن يهديهم إلى سواء السبيل.(62/21)
حكم التزوج من نساء الشيعة
السؤال
هل يجوز التزوج بامرأة شيعية؟
الجواب
المسألة فيها تفصيل، فأي شيعية تتزوجها؟ إن كانت هذه الشيعية من الكفار الذين حكم الدليل عليهم بالكفر، فلا يجوز أن تتزوجها؛ لأنها كافرة، وليست من أهل الكتاب حتى نقول: إنها تقاس على النصارى واليهود، بل هي كافرة، وتعد من المشركين، فلا تتزوجها، أما إذا كانت من الزيدية مثلاً فنقول: تزوجها مع الكراهة، وعلمها السنة؛ لعلها أن ترجع إليها، أما إن كانت متمسكة بما هي فيه، فستفسد عليك أولادك.(62/22)
حكم الزواج بالكتابية
السؤال
هل يجوز أن يتزوج الرجل امرأة من أهل الكتاب وهو يعلم أنها قد وقعت في الزنا؟
الجواب
الشروط التي اشترطها الله للزواج من أهل الكتاب معلومة وهي: أولاً: أن تكون من أهل الكتاب حقاً.
ثانياً: أن تكون محترمة ذات حشمة، بل أرتقي وأقول: المسلمة الزانية لا يصح العقد عليها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ولذلك من المحرمات في النكاح -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العقد بين الحر العفيف والزانية.
فإن كان لا يجوز أن يعقد على امرأة مسلمة زانية، فمن باب أولى إن كانت زانية من أهل الكتاب.
ولا بأس في الزواج من العفيفة من أهل الكتاب؛ لقول الله تعالى في سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5].
أما الزانية فشرط الجواز قد اختل، والحكم يدور مع علته حيث دارت، لكن لا ينبغي أن نقول: إنه لا يجوز النكاح من أهل الكتاب عموماً؛ لأننا بذلك عطلنا ظاهر الكتاب، وإجماع الصحابة على جواز الزواج من الكتابية، والآية ظاهرة في ذلك، فإن وجدنا المحصنة -إن شئنا- تزوجناها، وإلا فلا.
ولو زنت الكتابية مرة واحدة ثم كفت عن ذلك فهل هذا توبة لها؟
الجواب
الضابط أن يطهر فرجها.
وتعرف ذلك بأن تسأل جيرانها، أو من يعيش معها، فإن كان جيرانها فاسقون فابحث عن أخرى ممن تمتنع عن الفاحشة، ولا نظلم أهل الكتاب بالقول بعدم وجود عفيفات فيهم بل ذلك موجود بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية: (إن أهل الكتاب سيتملكون الدنيا بحسن أخلاقهم) أي: بحلم وعطاء وبر وغيرها من الأخلاق العالية التي هي من أخلاقيات الإسلام، شعروا أم لم يشعروا.
والزنا عندهم في الإنجيل حرام، فالمتدينات من نسائهم لا يزنين.
وكذا من كان عندهن نخوة وكرامة، وأخلاقيات عالية يترفعن عن هذا.
والزواج بالمسلمات لا ريب أولى، ومن كان من الفئة التي تتغرب لعلم معين تنتفع به الأمة، لا للدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء ممن يقيم بين أظهر المشركين) يعني: ممن يقيم عندهم لا لمصلحة شرعية، فهذا إن خاف العنت نقول له: يجوز أن تتزوج كتابية، لكن تحرى أن تكون محصنة.
ويحذر من مغبة مخالفة النبي صلى الله علي وسلم بالبقاء بين أظهر المشركين لغير مسوغ شرعي.(62/23)
حكم الترضي على غير الصحابة
السؤال
هل يجوز أن نترضى عن أهل الصلاح والجهاد فنقول: رضي الله عنهم؟
الجواب
لا، لا يترضى إلا على صحابة رسول الله، أما التابعون فاختلف العلماء فيهم، والصواب: أنك لا تترضى إلا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن الله جل وعلا قد قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، لكن العلماء قصروها على صحابة رسول الله، وإن ذكر التابعون في الآية.
فإذا قال الإنسان: رضي الله عنهم، لغير الصحابة، ومراده بذلك دعاء فلا بأس، أي: يدعوا الله أن يرضى عنهم ويرضوا عنه، فمثل هذا الدعاء بلفظ الترضي جائز للصحابة وتابعيهم بإحسان كما في الآية، أما إذا قالها على أنه أمر قد حسم -أي: قد رضي الله عن المقول فيه ذلك- فلا يصح إلا للصحابة فقط.
ولو أردت أن تذكره أي: لفظ الترضي، فقله في أصحاب القرون الثلاثة المفضلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).(62/24)
عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بالغيب
السؤال
لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي) لمن منعوا من الورود على حوضه، ألا يعلم رسول الله ما في القلوب؟
الجواب
رسول الله لا يعلم ما في القلوب، والذين منعوا من الورود على حوضه رأى منظرهم كالصحابة وكانوا من المنافقين، والله أعلم بهم، ألم يقل الله جلا وعلا: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101]، فدلت الآية على أنه لا يعلمهم، فهؤلاء من الذين لا يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أصحابي أصحابي -أي: في الظاهر-، فيقال له: لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: بعداً بعداً، سحقاً سحقاً) فلا حجة في الحديث لمن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب.
والمبتدعة سيدخلون في الحديث؛ لتغييرهم وتبديلهم، فإذا كان هؤلاء من الصحابة في الظاهر ويقال لهم ذلك فمن باب أولى من جاء بعدهم من المبتدعة، أي: سيقال لهم: (سحقاً سحقاً، بعداً بعداً).
ولما سب خالد عبد الرحمن بن عوف قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي، لا تسبوا أصحابي) مع أن خالداً صحابي وأي صحابي! لكن الإسلام يبين حتى منازل الصحابة، وهذا تفضيل آخر سنبينه، أي: أن كل الصحابة يتفاوتون، فأعلاهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان على خلاف فيه: إذ الشوكاني والثوري وأبو حنيفة يقدمون علياً على عثمان كما سنبين، فهذا الترتيب أي: بتقديم عثمان على علي قد أجمع عليه بعد ذلك أهل السنة والجماعة، ثم بعد ذلك العشرة المبشرين بالجنة، ثم الصحابة الأفاضل.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لـ خالد وهو الصحابي الجليل أن عبد الرحمن يقدم عليه؛ لأنه أي: عبد الرحمن من السابقين الستة، وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10].
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون توحيدين -فسادوا وقادوا-: توحيد رب العالمين وتوحيد الاتباع لرسول الله، فلا يوجد أهواء، ولا إحداث، ولا بدع، بل كلهم يقولون: سمعنا وأطعنا.
وأما نحن فصرنا غثائية، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (قالوا: أو من قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا، إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل).
قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، فنحن غثاء في هذا الزمان إلا قليلاً.
ونحن في غربة تحت غربة تحت غربة، ولا عبرة بكثرة المخالف، يقول تعالى مبيناً لنا أن الكثرة مذمومة: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فإن القلة التي هي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم أهل الحق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم).
ويوجد كثير من الناس قد يسمع الرقة والموعظة فترق نفسه، فالذي كلمه وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستفطر عندنا) هذا هو الذي يأخذ منه الدين، وأما العالم الذي يهتم بالدين فلا يأخذ عنه شيئاً، فالأمة ضائعة بسبب هذا، أي: لم تعرف موازين الناس، ولم تقدرهم قدرهم، أي: لم يضعوا كلاً في قدره ومكانته، فلم يعلموا أن الداعية داعية، والعالم عالم، وهو بستين ألف داع، إذ العالم داعية وزيادة، فالعالم يرسخ لنا العلوم التي نسير بها إلى الله جل وعلا، أما الداعية فما له إلا كلمات طيبة يجذب بها الناس، ثم قد يكون مخلصاً فيقول: لست لها أنا، بل لها العلماء، اذهبوا فتعلموا، أنا أتيت بكم إلى الطريق ولكنه ليس طريقي الصحيح، وإنما هو طريق العلماء، فنحن ضعنا بمثل هذا.
والعوام لا دخل لهم بشيء، وإنما يريدون الكلمة الطيبة لكي يذهبوا ورائها.
ودليل ذلك أن علياً بن أبي طالب لما صنف الناس إلى ثلاثة أقسام: عالم رباني، وطالب علم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم.
وهذا هو المهم، أي قوله: لم يستضيئوا بنور العلم، أي: لما كانوا كذلك أصبحوا أتباع كل من يتكلم عن الدين بعاطفة، فيقولون: هذا هو الدين.
وهذا خطر، فهناك بعض الناس يستغلون هذا ويجعلونهم أي: العوام، رأس مالهم، حتى يقول العامة: هذا هو الدين، فالدين عندهم ليس في اللحية، أو في مسواك، أو في قميص قصير، فأصبح كل الناس يتكلمون في الدين: الدين كذا وكذا، وهذا حلال وهذا حرام، مع أن الحنفيات عندما تعطب ولا ينزل منها الماء، لا يأتون إلا بالسمكري، ولا يمكن أن يأتوا بغيره كرجل ميكانيكي مثلاً، لكن الدين تجد أي شخص يتكلم فيه، ثم تقول العامة: هذا هو عالم الدين.
فلذلك ضعنا وضيعنا؛ لأننا لم نعرف موازين الناس وأقدارهم، ولم نعرف الطريق الصحيح الذي نصل به إلى رب العالمين.
ونسأل الله جل وعلا أن يشكر لكل ساع مجاهد سعيه وجهاده، لكن ما أحوجنا لذكر مسألة الراهب، فبعد أن علم الراهب الغلام وجد أن الغلام فاقه، فقال له: صرت الآن خيراً مني، أي: أنت الآن مقدم علي، فقدمه ليدعو إلى أبواب الخير وينشر دعوة الله، أي: لما أخلص الراهب كان هذا الغلام في ميزان حسناته، والغلام أدى ما عليه، فنشر دعوة الله جل وعلا، وقتل بعد دعوته الناس لتوحيد الله جل وعلا، فما أحوجنا إلى من يقول ذلك، أي: يقول: لست أنا، بل فلان الفلاني اذهبوا إليه لتعلموا دينكم، فلا أحد يقول هذا الآن إلا من رحم ربك، فادع الله ليل نهار: اللهم ارزقني رجلاً يسلك بي الطريق الصحيح، ويعلمني العلم النافع الذي يرسخ في قلبي فلا أسأل بعده أبداً، نسأل الله ذلك.
وليس عزيزاً على ربنا جل وعلا أن يجعلك في سنة طالب علم جيد، قد أتقنت العقيدة والمصطلح والأصول والفقه.
وتأمل كفار قريش كيف عرفوا المراد منهم في القرآن لما فقهوا اللغة العربية فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] قالوا ذلك لأنهم علموا أن لا إله إلا الله، لها قيود ولوازم.
والصحابة كانوا يحرصون أيما حرص على التعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، فأروى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو هريرة ثم عبد الله بن عمرو بن العاص، لكن عبد الله بن عمر كان يكتب، نفسه، وأبو هريرة كان يحفظ في صدره فقال قائل: أكثر علينا أبو هريرة، فقال أبو هريرة: إن إخواننا الأنصار شغلهم الزرع، وإخواننا المهاجرون شغلهم الصفق -الذي هو التجارة- وكان أبو هريرة يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطنه، فيقول: وكنت أجوع ومن شدة الجوع يغشى علي، فيحسبون أن بي جنون وليس بي إلا الجوع، وقد مكثت مع رسول الله لأحفظ حديثه عليه الصلاة والسلام.
فكانوا أي: الصحابة حتى المشغول منهم بالتجارة، لا يشبه الذي نحن عليه الآن، نحن الآن ماذا يشغلنا؟ تشغلنا الآلة الحاسبة، والدرهم الذي ذهب، والدرهم الذي جاء، والعمل الذي نمضي فيه الساعات الطوال، والعلم الذي نحصل عليه هو ما نحصله من كلام الخطيب يوم الجمعة، أو ما نحصل عليه من كلام رجل يكلمنا عن الحب والعطف والحنان والشوق، فنقول: دعنا نسمع هذه الكلمات كي ترقق قلوبنا وانتهى الأمر.
ولو قلت: لن أضيع وقتي، بل نصف ساعة أجلس فيها مجلس علم، أحضر البركة، ولا يفقدني الله جل وعلا، وتصعد الملائكة باسمي، فيثني الله علي في الملأ الأعلى، وأتعلم مسألة أعمل بها، لكنت جهبذاً من جهابذة العلم إن شاء الله.
وانظر إلى عمر بن الخطاب عندما شغله الكسب ماذا عمل؟ قال لأخيه من الأنصار: تنزل يوماً فتتعلم من رسول الله فتعطيني ما تعلمته، وأنزل اليوم الثاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعمل أنت، فأعلمك ما قاله رسول الله.
كانت أمي دائماً -رحمة الله عليها وعلى أبي- لما أن ترى معي كتاب الأم للشافعي تقول: يا بني! اتق الله في نفسك، وذاكر كتب الجامعة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (إن أخي يجلس معك ليل نهار وأنا أعمل من أجل أنفق عليه فقال للطالب: أخوك أفضل منك).
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس طالب العلم هو الأفضل، بل قال: أخوك الذي يعمل أفضل منك، قلت لها: أبعدت النجعة، فقد استدللت بحديث موضوع، وسأصحح لكي المفاهيم، بحديث صحيح: جاء رجل يشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أعمل وأكد لأخي وهو يجلس عندك في المجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لعلك ترزق به)، انظر ماذا قال له، ولم يقل له: إنه أفضل منك فقط، بل قال له: الخير الذي يأتيك هو بسببه، أي: بسبب أنه يجلس ويتعلم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو فرغ المسلم نصف ساعة من وقته لحضور درس علمي يتعلم فيه مسألة جديدة ليعمل بها، أو يتعلم أمراً يرفعه الله به، والله ليصبح بعد عام رجلاً عنده كم علمي مبارك، ولا يقوى أحد أن يعمي عليه المسائل.
والفرق بيننا وبينهم أنهم لم يأخذوا العلم جملة لكي يضيع منهم جملة، فالصحابة تعلموا العلم ليعملوا، ولذلك جاء بسند صحيح في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال: تعلمنا الإيمان.
أي: أول شي تعلمناه الإيمان حتى نطبقه، ثم تعلمنا القرآن، فنزل نور القرآن على نور الإيمان، فأصبح نوراً على نور.
فالنور الذي على نور هذا لمن علم وعمل، ولذلك كان(62/25)
أول ما يجب على المسلم تعلمه
السؤال
ما هو الترتيب الصحيح في دراسة العلوم الشرعية؟
الجواب
الترتيب الصحيح أنك أولاً: تؤمن بالله، فكيف تؤمن به؟ لن تؤمن بالله حتى تعرفه، أي: تعرف عنه ما أوجب عليك معرفته، مما يدلك عليه؛ لقول الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، ثم قال عقبها: {وَاسْتَغْفِرْ} [محمد:19]، فأنت لا بد أن تعلم، ثم تعمل.
فتعرف عن الله أسماءه الحسنى، وصفاته العلى، ودينه الذي أنزله.
ولو سأل سائل عن سبب ضياع الأمة الآن، وما الشيء الذي جعل الأمة ترتجف من أشياء قد تكون أضعف من الذباب؟!
الجواب
سبب هذا كله هو ضعف اليقين بالله، فلو علمت أن الله جل وعلا إذا أراد أن يقلب الدنيا رأساً على عقب بقوله: كوني، فتكون، فحينها لن تخف إلا من ربك جل وعلا، ولن تذل إلا له، ولن تتوكل إلا عليه، فوجب عليك أن تعلم من الله؟! فإذا عرفت ربك ارتفعت نفسك وسمت.
فاللهم ارزقنا تعظيمك يا رب العالمين.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (أنا أعلمكم بالله).(62/26)
تفضيل الصحابة على من بعدهم
السؤال
كيف الجمع بين حديث: (أجر الواحد منهم بخمسين منكم، فقال أبو هريرة: يا رسول الله! بخمسين منهم، قال: لا، بخمسين منكم) أي: القابض على دينه في آخر الزمان أجره بخمسين من الصحابة، وبين حديث: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)؟
الجواب
الجمع سهل بفضل الله، فنقول: الأمة كلها في ميزان الصحابة، إذ (الدال على الخير كفاعله)، فإذاً أجر أحدهم يلصق بما بعده.(62/27)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تابع فضائل الصحابة
اختار الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أناساً هم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم خلقاً، فنشر الله فضلهم ومحاسنهم، وأنزل عدالتهم من فوق سبع سموات، فتربعوا على عرش الدنيا في فترة قصيرة، فكانوا سادة الدنيا بأسرها، فمن أحبهم فقد أحب الله ورسوله، وأرضى الله ورسوله، ومن أبغضهم وتكلم فيهم فقد أسخط الله ورسوله، والويل له يوم القيامة من عذاب السعير.(63/1)
فضل الصحابة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) وأسأل الله أن يرزقنا الشكر، فالله جل وعلا يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، أي: أن الشكر سبب لمزيد النعم والبركة، واجتماع طلبة العلم بركة، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً لا مرية فيه أن أفاضل الناس على الإطلاق كل من ينشغل بعلم الشرع، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فهؤلاء هم أفاضل الناس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يرثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ واف).
والعلم في الحقيقة هو غذاء القلوب، فيقدم على غذاء البطون، فغذاء القلوب تشتاق إليه النفوس الشريفة العفيفة، قال الإمام أحمد: إن حاجة الناس إلى العلم أشد من حاجتهم إلى الماء والهواء.
ولذلك صدرت الباب بشرح الكتاب حتى لا أنقطع عن هذا الخير، ولعلها تكون بركة بإذن الله تعالى، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل من علماء الأمة المجاهدين الصابرين المحتسبين الربانين من يحذوا حذو سلفنا الصالح، كـ الشافعي، وأحمد، ومالك، وأبي حنيفة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، وينبغي أن يكون كلاً منا يرتقي بصره وتشرئب عنقه إلى أن يصل إلى ما وصلوا إليه، وأن يتمنى أن يكون ولده مثلما يتمنى لنفسه، وفوق ما تمنى لنفسه، وأسأل الله جل وعلا أن يمنحه الصدق في قلبه عند كبره، فيقول: بعت نفسي لك يا رب! وقف لله، وكل منا إذا منحه الله ولداً مجاهداً عالماً فليكن طالباً لرزق الله الأخروي.
كنا قد انتهينا من فضائل الصحابة رضوان الله عليهم، هذا الرعيل الزكي النقي، الذين جابوا ربوع الأرض شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، وفضلهم الله على كل البشر، فتربعوا على عرش الدنيا في مدة وجيزة من عمر الزمن، فكانوا سادة، وكانوا قادة، وكانوا أصحاب الريادة رضي الله عنهم وأرضاهم.
لقد نشر الله فضلهم ومحاسنهم، وأنزل عدالتهم من فوق سبع سموات، ونشر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فضائلهم ومدائحهم ومحاسنهم، وبين صدقهم، وشكر لهم حسن صنيعهم معه صلى الله عليه وسلم، كيف لا، وقد قام قائلهم يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو صلى الله عليه وسلم منتظر ما يقول- يا رسول الله! لن نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، لا والله، بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلمح ويعرض بالأنصار؛ لأنهم ما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا على القتال في المدينة لا خارجها، فقام سيدهم سعد الذي اهتز عرش الرحمن لموته، فقال: يا رسول الله! كأنك تعرض بنا؟! قال: نعم.
وقد اشتاقت نفسه صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك من سيد الأنصار، فقام سيدهم، وأكرم وأنعم به من سيد، فقال: يا رسول الله! قد أخرجنا الله بك من الضلالة إلى الهدى، ومن العمى والظلام إلى النور، فأحبب من شئت، واضرب من شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، والله يا رسول الله! لو خضت بنا البحر لخضناه.
كلام كله صدق وعزيمة مع اعتقاد صادق في الله جل وعلا، ولذلك كانوا هم السادة، والأماجد، والأفاضل والأكارم، وهم الأسوة بحق وهذه الأمة هي التي قادت الدنيا بأسرها في مدة وجيزة من الزمن، وعبّدوا الناس لرب الناس جل وعلا.(63/2)
أقسام الناس في السب واللعن للصحابة رضوان الله عليهم
قد تكلمنا فيما سبق عن حكم سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وواجب الأمة نحوهم، وقلنا: إن الناس ينقسمون في السب واللعن لخير البشر -لجهلهم وغبائهم وشدة عنائهم وعذابهم في الآخرة إن لم يتوبوا- إلى أربعة أقسام: القسم الأول: أناس سبوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرموهم واتهموهم بالقبائح، كغلاة الشيعة وغلاة المعتزلة، فقد قالوا: كل الصحابة ارتدوا عن الدين إلا أربعة نفر، منهم: سلمان وغيره ممن عدهم الشيعة، فهؤلاء بالإجماع كفرة خرجوا من الملة.
القسم الثاني: الذين يسبون ويطعنون ويلعنون الشيخين، كما يقول قائلهم: اللهم العن صنمي قريش، يقصد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويطعنون أيضاً في دينهم وأعراضهم، فهذا أيضاً كفر بالإجماع.
القسم الثالث: الذين ينتهكون عرض عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ويتهمونها بالإفك الذي برءها الله منه من فوق سبع سموات، وهؤلاء أيضاً قد كفروا بالإجماع؛ لأنهم كذبوا كلام الله تعالى، وكذبوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم الرابع: هم من الفسق والبدعة بمكان، وهؤلاء الذين يغمزون ويلمزون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقدمون بعض الصحابة على بعض، كأن يقول أحدهم: معاوية سارق للخلافة، كان يقاتل من أجل حطام الدنيا، أو يغمز علياً، أو يغمز بعض الصحابة الآخرين، فهذا الغمز واللمز للصحابة من الفسق، وصاحبه على خطر عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الله الله في أصحابي لا تسبوا أصحابي، أو قال: الله الله في أصحابي من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وجاء بسند ضعيف متكلم فيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله اختارني من بين الناس نبياً، واختار لي أصحاباً، وجعل منهم مهاجرين وأنصاراً، فمن أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله جل وعلا أن يأخذ)، والله جل وعلا إذا أخذ أحداً لم يتركه.
كما ورد أيضاً بسند متكلم فيه، لكن الشواهد تعضده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعنة الله على من سب أصحابي).
وجاء أيضاً بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (أمروا أن يستغفروا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنوهم وسبوهم).
قال: ابن عمر لا تسبوا أصحاب محمد، فإن مقام أحدهم -أي: بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورؤيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- كعمل أحدكم في عمره كله.
أي: أنه لو صام النهار، وقام الليل، وأنفق وجاهد في سبيل الله، فلن يبلغ مقام أحدهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رؤية وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن المحققين من أهل العلم الذين يبينون الفارق بين معاوية وعمر بن عبد العزيز، يقولون: إن عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين لا يساوي يوماً واحداً من أيام معاوية مع النبي صلى الله عليه وسلم، لما لـ معاوية من فضل، ككونه من كتاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً قد نظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك فخراً ومزية.
وقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه لما استنصحه ميمون بن مهران، فقال: انصحني في قوم يعتدون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ميمون! -نصيحة يعض عليها بالنواجذ- لا تسب أصحاب محمد، وادخل الجنة بسلام، أي: أن دخولك الجنة بسلام مرهون بأن لا تسب أصحاب محمد، وإن سمعت سب أصحاب محمد فلا تسكت، بل لابد أن تنكر، لأن الساكت عن الحق، أو الرضا بالمنكر كمرتكبه.
ثم قال ابن عباس: أُمِرْنا أن نستغفر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يعلم جل وعلا أنهم سيقتتلون.
أي: أن الله كتب قدراً أنهم سيقتتلون، وستحدث منهم الفتن، ومع ذلك أمرنا بالاستغفار لهم، وإذا كان لا يجوز سب أو شتم آحاد المسلمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فكيف بالذين يطعنون في علماء المسلمين، أو في طلبة العلم! إن هؤلاء من أشر الناس؛ لأنهم وقعوا في أفاضل الناس، فكيف بالأدهى والأطم أن يقعوا في الأخيار الأماجد، الذين قال فيهم ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد أفضل القلوب قلب محمد فاختاره نبياً، ثم نظر في قلوب العباد فوجد أفضل قلوب العباد بعد قلب نبيه قلوب أصحابه، فاختارهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم خلقا.
فإذا كان الاعتداء على أحد المسلمين فيه من الفسوق ما فيه، فكيف بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وهو القائل -كما في الصحيح-: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وقال بعض علمائنا -فيمن ينتقص من قدر العلماء، وقدر طلبة العلم-: إن لحوم العلماء مسمومة، وإن عادة الله في هتك منتقصيهم معلومة.
فالله جل وعلا ينكل أشد النكال في من يقع بعالم من علماء الأمة، ولو اتهمه بأنه عالم سلطة لغير قرينة، أو اتهمه بفتوى قد أفتاها، وإن كان قد أخطأ فيها، وأنزل من قدره، فعادة الله لمثل هذه الرجل معلومة، وعادة الله في منتقصيهم معلومة، فما بالكم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد ورد في الآثار والأخبار التي تبين هذا العقاب الشديد في الدنيا، ثم ينتظرون أشد النكال والعقاب يوم القيامة، يوم يقال لهم: سحقاً سحقاً، بعداً بعداً، ثم يكون أشد العذاب من الله جل وعلا على من سب الأصحاب.(63/3)
فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
أقول: سعد بن أبي وقاص صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وهو الذي وقف النبي صلى الله عليه وسلم أمامه وأمام الناس وقال: هذا خالي -خاله من الرضاعة- فليريني أحدكم من خاله.
افتخاراً بـ سعد رضي الله عنه.
قال علي بن أبي طالب: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتدي بأبويه أحداً مثل ما افتدى بـ سعد يوم أحد.
يوم أن اشتد الهم والغم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ذلك اليوم يرمي أحد المشركين امرأة، فيراها تتقلب في دمها، ويضحك المشرك، فقام سعد فرماه بالسهم فقتله، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: (ارم سعد! ارم فداك أبي وأمي).
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه الذي ترك الدنيا بأسرها، وترك الخلافة مع أنه كان أحق بها من الستة الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم، يقول له ابنه: يا أبت! الناس يقتتلون على الخلافة، وأنت هاهنا في الصحراء! فقال سعد: يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب التقي الخفي).
وانظروا في من طعن فيه، ماذا كان مآله؟ فقد جاء في الصحيحين أنهم اشتكوا إلى عمر سعد بن أبي وقاص، فبعث إليه، فقام قائلهم يقول: لا يعطي العطاء، ولا يقسم بالسوية، وأخذ يطعن في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
فقام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعد أن سمع هذا الرجل فقال: اللهم إن كان قام هذا رياء وسمعة، اللهم أطل عمره، وأعم بصره، وعرضه للفتن.
قال الراوي: والله لقد رأيته وقد سقط حاجبه على عينيه، ورأيته يتعرض للجواري في الشوارع، ويقول: عبد مفتون أصابته دعوة سعد رضي الله عنه وأرضاه.(63/4)
فضل علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم
سعد الذي خرج على بعض الناس فوجدهم يتكلمون في علي وطلحة والزبير، ويتكلمون في علي، بطل الإسلام وفارس خيبر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله يجعل الله الفتح على يديه)، وكان يقول رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره وكان يفتح الله عليه الفتح الذي لا يمكن أن يفتح على مثله، ففي يوم الخندق قام عمرو بن ود فارس أهل الكفر -وكان أشد ما يكون على المسلمين- متبختراً بقواه وشدته يقول: أما تشتاقون إلى الجنة، أما زعمتم أن الذي سيقتل منكم يدخل الجنة، أما واحد منكم يشتاق إلى الجنة، أما ينزل لي إلى ساحة الوغى أحد؟ فيقوم علي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس يا علي! فيقول عمرو بن ود: -يصرخ بقوة الفاجر، وعزة زائفة زائلة بفضل الله سبحانه وتعالى- أما منكم من أحد يشتاق إلى الجنة؟ فيقوم علي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اجلس يا علي! وفي الثالثة قام علي، فقال: اتركني يا رسول الله! فقال رسول الله: يا علي! إنه عمرو بن ود، قال: وأنا علي بن أبي طالب، فاختلف في الضربة فقتله الله جل وعلا على يد علي رضي الله عنه.
وأما الزبير فهو أول من أشهر سيفاً في سبيل الله جل وعلا، وذلك عندما أُشيع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقام عرياناً -لم يستر عورته- وأشهر سيفه في أهل مكة، فلقب بأنه أول من أشهر سيفاً في سبيل الله جل وعلا.
أما طلحة رضي الله عنه، فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: طلحة الخير.
أي: أنه صلى الله عليه وسلم لقبه بهذا اللقب العظيم، طلحة الذي كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: يا رسول الله! لا ترفع رأسك، حتى لا يصيبك أذى، نحري دون نحرك يا رسول الله! وكان يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السيوف بيده، حتى شلت يده رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد أوجب.
نعود إلى سعد بن أبي وقاص عندما رأى هؤلاء المتنطعين يتكلمون في هؤلاء الثلاثة، فقال للرجل منهم: اتق الله، وانته عن سب أصحاب رسول الله، فلم ينته الرجل، فقال: والله لأدعون عليك.
فقال له الرجل: أتخيفني بنبي من الأنبياء.
أي: أن دعوته لا ترد، فقام سعد فتوضأ ثم رفع يديه وقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء يتطاولون على أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم فأرني فيه آية.
فند بعير بعد ما أنزل سعد رضي الله عنه يده، ففرق الناس، وكأنه يقصد ذلك الرجل الذي لم ينته عن سب أصحاب رسول الله، فقصده البعير فوطأه حتى قتله، فقالوا: يا أبا إسحاق! قد أرانا الله فيه آية.(63/5)
عاقبة المتطاولين على الشيخين خصوصاً والصحابة عموماً
وهذا محمد بن سيرين كان يطوف بالكعبة، فسمع رجلاً يقول: اللهم اغفر لي، وإني لا أظن أنك لن تغفر لي، فقال محمد بن سيرين: يا رجل! كيف تدعو بهذا الدعاء! فقال: أنت لا تعرف حكايتي.
قال: ما حكايتك؟ قال: قد نذرت لله أني ألطم عثمان على وجهه فما استطعت ذلك في حياته، فلما مات دخلت عليه فطلمته في وجهه فيبست يدي كما ترى، أي: شل الله يده؛ لأنه تعرض لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه ذو النورين.
وأيضاً عن الثوري أنه كان يصلي الفجر بغلس، يعني: يذهب إلى صلاة الفجر بغلس، والناس نيام، فيذهب إلى المسجد ويستغفر ويدعو الله جل وعلا.
قال: فكنت كلما ذهبت إلى المسجد بغلس رأيت كلباً مترصداً للناس، فخفت أن أسجد فيؤذيني.
فقلت: أنظر ما حكاية هذا الكلب؟ فمررت به ثم جلست، وإذا بالكلب ينظر إلي، فقال: يا أبا عبد الله! مر ولا تخف! فإني أمرت بمن يسب أبا بكر وعمر، أي: ذلك مترصد للذين يسبون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينهش في لحومهم.
وأيضاً: ورد عن بعض الأخيار أنه مر على قرية، فكان فيها أناس يسبون أبا بكر وعمر، فنهاهم الرجل، فقال لأحدهم: اتق الله، ولا تسب أبا بكر وعمر، فإن أبا بكر وعمر كانا كذا وكذا، وأخذ يذكر له فضائلهما، والرجل لم ينته عن سبه لـ أبي بكر وعمر، قال: وهو معنا في سفرنا، فنظرنا إلى يد الرجل فإذا يده يد خنزير، وواصلنا السفر حتى أتينا على قطيع من الخنازير، فسمعنا من خلفنا صيحة خنزير مع الخنازير، ثم دخل بين الخنازير، فما عرفناه من بينهم، أي: أن الله قد مسخه خنزيراً حقيراً؛ لأنه كان يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
اللهم العن من يسب هؤلاء، وامسخهم خنازير وقردة يا رب العالمين! واجعل في قلوبنا حبك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً: ما من أحد يسب رسول الله، أو يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ويشدد الله جل وعلا عليه، ويمثل به في الدنيا قبل الآخرة.
وأما الخلافة الراشدة، والكلام على خلافة أبي بكر، وفضله، وفضل عمر وعلي وعثمان، وفضل العشرة المبشرين، فسيأتي في دروس لاحقة بعون الله عز وجل.(63/6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل أبي بكر الصديق
لقد أيد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بصحابة أفذاذ، في مقدمتهم الصديق، الذي سماه الله بذلك من علياء سمائه، لمبالغته في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبو بكر خير الأمة بعد نبيها على الإطلاق، فهو الصاحب في الغار إجماعاً، وهو الذي بذل كل ماله فداء ونصرة لهذا الدين، وهو الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم خليلاً، وصفاته رضي الله عنه تفوق الحصر، يكفيه منها: أن إيمانه راجح على إيمان الأمة أجمع خلا نبيها.(64/1)
ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فنحن في هذا الدرس على موعد مع خير البرية على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين، على موعد مع من نصر الله به الدين وثبت به الأولين، على موعد مع من تفتح له أبواب الجنة الثمانية، على موعد مع رجل صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحل وفي الترحال! مع صاحب المكانة الأسمى عند الله جل وعلا، مع صاحب الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع من أجمع السلف أجمعين على أنه خير من صاحب نبينا صلى الله عليه وسلم؛ إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.(64/2)
اسمه وكنيته
هو عبد الله بن عثمان وأبوه عثمان كنيته: أبو قحافة، فهو أبو بكر بن أبي قحافة أو أبو بكر بن عثمان يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب.
كنيته: أبو بكر.(64/3)
وصفه
أما وصفه: فكان جميلاً نحيفاً كما وصفه الواصفون، وقالوا: كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه جميل الوجه ولذا لقب بالعتيق كما سنبين وكان أبيضاً نحيفاً أجنأ، يعني: له انحناء في ظهره رضي الله عنه وأرضاه.
وكان معروق الوجه قليل اللحم، وكان إزاره يسترخي منه رضي الله عنه وأرضاه.(64/4)
ألقابه وسبب إطلاقها عليه
لقب بـ الصديق، قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لقبه بذلك، ولأن الله سماه بـ الصديق؛ ولأن الصحابة أقروا على ذلك.
أما بالنسبة لتسمية الله له؛ فقد قيل لـ علي بن أبي طالب: أخبرنا عن أبي بكر.
فقال: هو أفضلنا -أو هو سيدنا- خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سماه الله بالصديق على لسان جبريل ولسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: سمي أو لقب بـ الصديق؛ لأنه ما سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم من شيء إلا وقال: أقال ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: صدق.
ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما تكلمت معه في شيء ولم يرد علي شيء).
أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لما جاء مشركوا العرب وقالوا: اليوم نأخذ من محمد صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى أبي بكر وقالوا: أما رأيت ما يزعم صاحبك؟ قال: وما يزعم؟ قالوا: يزعم أن الله أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم رجع في ليلة واحدة، وهذا في المعقول مستحيل ولا يمكن أن يصدق، تضرب الإبل شهراً حتى تصل إلى بيت المقدس وترجع، ففي ليلة واحدة يذهب من البيت الحرام إلى بيت المقدس، وظنوا أن أبا بكر يتخلى عن صاحبه؛ لأن العقل لا يمكن أن يقبل هذا الكلام.
فقال أبو بكر: أقال هذا؟ قالوا: نعم، قال: صدق، قالوا: تصدقه في هذا؟ قال: والله! إني لأصدقه في ما هو أبعد من هذا، إني أصدقه في خبر السماء.
غدوة وروحة.
رضي الله عنه وأرضاه.
وأيضاً لقب بـ الصديق لصدقه وأمانته، فقد بلغ القمة في الصديقية، ولذلك بعض العلماء الذين لهم نظر ودقة فقه يقولون: استثنى النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الناس، أو سبعة من الأقسام، أو الأصناف على أنهم لا يعذبون في القبر: كالشهيد والمطعون وغيرهما فقالوا: الصديق أيضاً رضي الله عنه وأرضاه ينجو من فتنة القبر؛ لأن الشهيد ينجو من فتنة القبر، فقد امتحن في ساحة الوغى على صدقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى ببوارق السيوف فتنة).
أما الصديق ففي حياته كلها صدق، وما يأتيه خبر من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إلا يقول بيقين: صدق، ويصدقه في ذلك.
قالوا: فهو أولى من الشهيد بأن يوقى فتنة القبر.
ولقب أيضاً رضي الله عنه وأرضاه بالعتيق، قيل: لعتاقة وجهه أي: جماله.
وقيل: لأنه كان كثير العتق، فكان يشتري العبيد بماله ويعتقهم في سبيل الله جل وعلا.
وقيل: بل بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عتيق من النار كما في سنن الترمذي: أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (دخل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول أول ما رأى أبا بكر: أبشر يا أبا بكر! إنك عتيق الله من النار).
فبشره بالعتق من النار فلذلك لقب بالعتيق.
ولقب بالصاحب، وما من أحد لقب بهذا اللقب أو اقترن ذكره مع ذكر رسول الله إلا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه.
قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة:40] وبالإجماع الصاحب هنا هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
ولقب أيضاً بالأواه؛ لأنه كان خاشعاً متبذلاً أمام ربه جل وعلا، ما قرأ آية إلا وبكى، ولذلك ورد عن إبراهيم النخعي أنه قال: الأواه هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.(64/5)
خلق أبي بكر الصديق
كل إنسان منا يتمنى أن يرتقي في الخلق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرء بحسن خلقه ليدرك درجة الصائم القائم).
أما خلق أبي بكر فهو خلق الأنبياء بالإطلاق، ولو دققت النظر في مواقف أبي بكر ومواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فستجد أنهما يسيران في خط واحد، ويجلي لك ذلك واضحاً ما قالته خديجة في رسول الله، وما قاله ابن الدغنة في أبي بكر.
أما خديجة لما جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم مهرولاً مسرعاً يقول: دثروني دثروني، قالت: لا والله! لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتكرم السائل، وتعين على نوائب الحق إلى آخر ما قلت.
وابن الدغنة وصف أبا بكراً بنفس الصفات دون أن يستمع من خديجة ما قالته عن رسول الله.
فقال لـ أبي بكر عندما قامت قريش عليه عندما كان يقرأ ويجتمع عليه الناس، فخاف كبار قريش فقالوا: يجب أن يرحل من مكة، فجاء ابن الدغنة وقال: مثلك لا يخرج؛ أنت أكرم الناس، وأعز الناس، إنك لتعين على نوائب الحق، وتقري الضيف، وتكرم السائل.
فكانت الصفات التي أطلقت عليه من كصفات النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو نظرت لـ أبي بكر قبل الإسلام فإنه لم يشرب الخمر قط، والسبب في ذلك أن أبا بكر أتي برجل قد شرب الخمر، فوجده يضع يده في العذرة ويقربها إلى فيه وجعل يشم رائحتها، فقال أبو بكر: إن هذا لسفه، وابتعد عن الخمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرب الخمر قط لا في الجاهلية ولا في الإسلام وحاشاه صلى الله عليه وسلم.
وأبو بكر لم يسجد لصنم قط كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول أبو بكر عن نفسه: إن أباه أخذه عندما ناهز الحلم وأدخله في كتيبة أصنام، وقال: هذه آلهتك الشم الشوامخ، تسألها وتدعو لها وتعبدها.
فدخل أبو بكر قال: فوجدت الصنم واقفاً فقلت له: إني جائع فأطعمني، فلم يرد علي، ثم قلت له: إني عارٍ فاكسني، فلم يرد علي -كأنه مختبراً لها- قال: فأخذت صخرة وضربت فيها فوقع وانكب على وجهه، فعلمت أنه لا خير فيه، فلم يسجد لصنم قط.
فـ أبو بكر خلقه كخلق النبي صلى الله عليه وسلم.
والله جل وعلا لقب رسوله بأنه رءوف رحيم، وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أيضاً بالمؤمنين رءوف رحيم، وهذا بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر فقال: (أرفق أمتي وأرحم أمتي بأمتي أبو بكر).
رضي الله عنه وأرضاه.
أيضاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الناس، كما قال ابن عباس: (كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن).
والمقصود: أن أجود الناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجود الناس بعده خليفته أبو بكر رضي الله عنه، فقد أنفق أربعين ألفاً أو أكثر في الدعوة إلى الله، وكان يشتري العبيد ويعتقهم في سبيل الله بنفقة ماله الذي للتجارة، وأنفق ماله كاملاً في تجهيز الجيش، وفي النفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك قال رسول الله كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر.
فبكى أبو بكر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟!).
فكان أجود الناس وينفق كل ماله على رسول الله.
وأيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (واساني بماله وأهله وأنكحني ابنته، سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر).
رضي الله عنه وأرضاه.
فكرمه يضرب به المثل في مكة وفي خارجها رضي الله عنه وأرضاه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سخياً.(64/6)
شجاعة أبي بكر الصديق
أشجع الناس هو رسول الله كما قال علي بن أبي طالب فارس الإسلام، قال: كان إذا حمي الوطيس احتمينا برسول الله، فكان أبو بكر يتمثل في شجاعة رسول الله، تخلف من تخلف في أحد وفر من فر، وكان المقدام أبو بكر يسارع إلى رسول الله بعدما طرح طلحة فقال رسول الله لـ أبي بكر عندما أسرع إليه: (دونكم صاحبكم فقد أوجب).
وعزم على نفسه أن يحمي رسول الله في غزوة بدر عندما اقترحوا أن يكون ثم عريش لرسول الله يجلس فيه حماية له صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر مشهراً سيفه أمام العريش ينافح عن رسول الله بشجاعة وبسالة رضي الله وأرضاه.
وسأبين بالتفصيل شجاعته وصلابته في القرارات الحاسمة عندما أتكلم عن جوانب العظمة في شخصيته.(64/7)
علم أبي بكر الصديق
إن كان أعلم الناس على الإطلاق بأمر الله ونهيه هو رسول الله، فإن أبا بكر أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رسول الله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
وعزم على الصحابة أن لا يؤمهم إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: (كيف يؤم القوم أحد وفيهم أبو بكر)، رضي الله عنه وأرضاه، وكان يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس).
فهو أقرأ الناس لكتاب الله وأحفظهم له، بل هو أفقه الناس في مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بين يدي أصحابه، كما في حديث أبي سعيد في الصحيحين فقال: (خير الله عبداً من عباده بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فانكب أبو بكر باكياً فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله! فقال أبو سعيد: فاندهشنا من أبي بكر، رجل يخير بين ما عند الله وبين الدنيا فاختار ما عند الله، فما يبكيه؟! قال: فكان ذلك إشارة لدنو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر أعلمنا وأفقهنا لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكان عند أبي بكر العلم الذي لم يكن عند صحابة رسول الله، لكن النووي بين أن أبا بكر كان قليل الحديث؛ لانشغاله بالخلافة كما سنبين، فكان عنده من العلم ما لم يكن عند صحابة رسول الله، وعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد الأمر على الصحابة ولم يعرفوا ماذا يفعلون مع رسول الله، وهل يكشفون ثيابه عنه أم لا؟ وهل يدفنونه في البقيع؟ أم أين يذهبون به؟ وهل يغسلونه أم يتركونه؟ فكل هذه المسائل لا علم عندهم بها، فجاء أبو بكر فدخل على رسول الله وقبل بين عينيه وقال: طبت حياً وميتاً.
ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: عندي من ذلك العلم، قال رسول الله: (إذا مات نبي لا يقبر إلا في مكانه) يعني: في المكان الذي مات فيه، وهذا العلم خفي على كل الصحابة إلا على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قال: يغسل في ثيابه، ولا تخلع الثياب منه.
وأيضاً: في مسألة الكلالة، كان الرجحان في كلام أبي بكر رضي الله عنه.
وفاطمة لما ذهبت إلى أبي بكر وقالت: أريد ميراث أبي.
فقال لها: إن أباك لا يورث، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، وكان هذا العلم ليس عند أحد إلا عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وانظروا إلى فقهه لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسه البديع، فقد اختصم هو وعمر وكثير من الصحابة في قتال مانعي الزكاة، فقال عمر: يا أبا بكر! كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟! كيف تقاتل قوماً قال فيهم رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهم يقولون: لا إله إلا الله؟! فقال أبو بكر بقياسه البديع وذكائه الوقاد: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة -فهما قرينان في كتاب الله جل وعلا- ولو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه.
فبقياسه البديع باقتران الصلاة والزكاة جاء أبو هريرة ومعه نص صريح من رسول الله فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة).
فوافق قياس أبي بكر بعلمه الدقيق نص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان الصديق أعلم الصحابة وأفقههم على الإطلاق، وكانت له الحصيلة الكبرى من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والذي منعه من التحديث هو انشغاله بالخلافة، رضي الله عنه وأرضاه.(64/8)
مكانة أبي بكر الصديق عند الله
سنتكلم عن مكانة الصديق عند ربه عند رسوله ومكانته عند صحابة رسول الله.
أبو بكر خير البشر على الإطلاق سوى الأنبياء والمرسلين رضي الله عنه وأرضاه، فهنيئاً له، كانت له الحظوة الأسمى والمكانة العظمى عند رب العزة جل وعلا.
يكفي أبو بكر فخراً أن الله يخاطب عبداً من عباده من آحاد المسلمين بلفظ الجمع للتعظيم والتفخيم ولإظهار مكانته العليا عنده، فقد قال الله تعالى فيه لما عزم على أن لا ينفق على مسطح وكان قريباً له، وقد تكلم في عائشة، فقال الصديق: والله! لا أنفق عليه، فأنزل الله جل وعلا معاتباً له ومبيناً مكانته، ومعظماً قدر هذا الرجل بين آحاد المسلمين، فقال الرب الجليل في حقه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] فقال: ((أُوْلُوا)): بلفظ الجمع يخاطب جل وعلا فرداً من عباده مربوباً ومخلوقاً من خلقه، ويقول عنه: ((أُوْلُوا الْفَضْلِ)) تعظيماً وتفخيماً وإشارة للبشرية أجمعين أن هذا هو خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين.
ثم قال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] فقال أبو بكر مسارعاً: أحب أن يغفر الله لي، أحب أن يغفر الله لي.
ومن أروع الأمثلة أيضاً التي ضربت لبيان مكانته عند ربه جل وعلا، أنه لم يشهد الله لأحد من عباده بالإخلاص وهو يمشي على الأرض مثلما شهد لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال جل وعلا: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17] فلقبه بالأتقى، وهو الأتقى على الإطلاق، فلا عمر ولا عثمان ولا علي بل لو اجتمعت الأمة بأسرها فلن تداني ولن تقارب مكانة هذا الصديق.
قال الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
نتيجة عظمى بعد ذلك، كأن الله يقول: أنت الأتقى وأنت الأخلص وستثاب على ذلك في الآخرة، فأشار له إلى ذلك وهو يمشي على الأرض.
ومثله النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشبه الناس بإبراهيم، فقال الله جل وعلا على إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:120 - 121] وهذا بيان أعظم صفات لإبراهيم، ثم قال: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:121].
فبعد أن بين صفاته الجميلة والعظيمة في الدنيا بشره أنه في الآخرة من الصالحين.
وانظروا إلى أبي بكر فهو أشبه ما يكون بإبراهيم عليه السلام، فقد بين الله صفاته العظيمة ثم بشره: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21]، ومعنى: يرضى أي: في الآخرة، ورضاه بينه رسول الله؛ ليبين مكانته عند الله، وأن الله سيكرمه ويشرفه ويعلي مرتبته في الآخرة في عرصات يوم القيامة من بني البشر من لدن آدم إلى آخر الخليقة، وتفتح أبواب الجنة الثمانية لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، كأن كل باب ينادي تعال يا أبا بكر! ويتشرف بدخوله منه، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لـ أبي بكر أن في الجنة باباً لأهل الصيام يقال له: باب الريان، وفي الجنة باب لأهل الصدقة، وباب للجهاد، وباب للصلاة، أي: للذين يكثرون من الصلاة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود).
فقال أبو بكر صاحب الهمة العالية، وصاحب العظمة في الطلب الذي طمع في الكريم: (يا رسول الله! هل لواحد من البشر أن تفتح له هذه الأبواب كلها؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون أنت).
فهذه بشارة من الله، ووحي من الله لرسوله، يبين مكانة أبي بكر عند الله جل وعلا، وأن أبواب الجنة الثمانية تفتح لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
ومما يظهر مكانة أبي بكر نزول جبريل خصيصاً ليبلغه السلام من ربه جل وعلا، وذلك أن الله جل وعلا أنزل جبريل يقول لرسول الله -وأبو بكر أمامه عليه ثياب رثة-: (قل لـ أبي بكر: إن الله يقرؤك السلام.
فقال له الرسول: إن الله يقرؤك السلام.
قال: وقل له: إن ربك عنك راضٍ، فهل أنت عن ربك راضٍ؟ فبكى أبو بكر، وقال: والله! إني عن ربي راضٍ، إني عن ربي راضٍ).
فله المكان الأسمى عند الله جل وعلا، وله أيضاً الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصاحب الصاحب هو أبو بكر، والخليل الخليل هو أبو بكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً).(64/9)
مكانة أبي بكر عند رسول الله
أما مكانته عند رسول الله فهو الصاحب، وهو الذي اقترن ذكره بذكر رسول الله لما قال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أي: معية النصرة والتأييد كما شرحنا، وأيضاً: معية الذكر، فلا يذكر الله جل وعلا إلا ويذكر مع ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: لا يذكر رسول الله إلا ويذكر معه غالباً خليفته أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
ولما جاء أبو بكر قال: (يا رسول الله! الهجرة الهجرة).
وكأنه يقول: أنت أذنت لأسد الله أن يهاجر، وكذا لـ عمر بن الخطاب ولكثير من الصحابة، أي: أذنت لهم أن يهاجروا وأنا أريد الهجرة في سبيل الله، فقال: (يا أبا بكر! امكث لعل الله يجعل لك صاحباً).
انظروا إلى هذا الفضل العظيم، فالله جل وعلا يبقي أبا بكر ولا يأذن له بالهجرة، مع أن قلبه شغوف بها، ويبقيه الله لأمر عظيم ولأمر جلل، هو صحبة رسول الله.
ولما جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم، فقال: (أعندك أحد؟ قال: هم أهلك يا رسول الله! فقال: أريدك في أمر، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة يا أبا بكر!).
فبكى أبو بكر وجهز الرواحل وذهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما دخل الغار دخل مقدماً على رسول الله يقول: شمس الإسلام لا تشرق إلا من قبل رسول الله، أما أنا فكآحاد المسلمين لو مت مت فرداً من الأفراد، فدخل الغار ثم سد كل فتحة من فتحات الكهف، فما بقيت إلا فتحة واحدة، ودخل رسول الله فسدها أبو بكر برجله الشريفة فلدغته حية، فما أراد أن يوقظ رسول الله.
مما يدل على قوة الصحبة، امتلاء قلب أبي بكر بحب رسول الله، وكان رسول الله نائماً على فخذ أبي بكر رضي الله عنه فخشي أن يوقظ رسول الله حتى بعد أن لدغته الحية، فما تحرك لمكان رسول الله من فخذه، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دموع أبي بكر التي سقطت على وجهه، فلما علم الخبر وضع يده الشريفة على رجله، فبرأه الله جل وعلا من لدغة هذه الحية ببركة رسول الله، وبركة الصحبة.
فلما سار مع رسول الله قال: كنت أسير خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسير أمامه، ثم أسير في اليمين، ثم أسير في اليسار، ومن رآه يقول: ما للرجل لا يمشي في مكان واحد، وعلل ذلك الصديق بقوله: كنت أتذكر الطلب من الخلف فأمشي خلف رسول الله حتى أحمي ظهره، ثم أتذكر العدو من الأمام فأتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية له، وأتذكر العدو من اليمين أو من اليسار فأذهب يميناً ويساراً.
ولما دخل مع رسول الله المدينة كان الناس يحسبون أن أبا بكر هو رسول الله، فلما جاءت الشمس على رسول الله قام أبو بكر بردائه يظلله فعرفوا أن هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك كانت له المكانة العليا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يشاور أحداً قبل أن يشاور أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه.
ففي أسرى بدر أول ما ابتدأ النبي بالمشورة ابتدأ بـ أبي بكر وكان الحق معه على تفصيل سنبينه فيما بعد، ولما سألوا عن أسارى بدر، فبرحمته ورفقه ورأفته بالأمة قال له: يا رسول الله! أرى أن نأخذ منهم الفدية لعل الله جل وعلا أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله.
وهذا بالضبط هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه ملك الجبال وقال: (أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال رسول الله: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله).
فالكلام الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أبو بكر أحب عباد الله إلى رسول الله.
ولما أمّر رسول الله عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفي الجيش أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وهم من أشرف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتر عمرو بن العاص فقال: إن لي مكانة عند رسول الله، لأرجعن إليه فأسأله من أحب الناس إليه وهو متوقع أن يكون هو؛ لأنه أمره، وهذا يبين لك أن الإمامة أو الرياسة أو المقدمة لا تدل على الفضل، والخفاء كذلك لا يدل على الفضل، فهذا عمرو بن العاص بعد ثلاثة أشهر من إسلامه أُمر على أبي بكر وعلى عمر وعلى أبي عبيدة، فقال: (يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ فقال الرسول: عائشة.
فقال: لست عن النساء أسأل، فقال: أبوها) فهذا إظهار بالإطلاق أن أحب الناس إلى رسول الله هو أبو بكر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يتمدح في صفات أبي بكر ويقول: (واساني بماله وأهله، سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر).
رضي الله عنه وأرضاه.
ويبين لكم عظيم قدر أبي بكر عند رسول الله ما حدث من الدفاع المستميت من رسول الله لصاحبه، حيث إن عمر الفاروق -وعمر هو الذي قال فيه كثير من الصحابة: أعز الله الدين بإسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه- كانت بينه وبين أبي بكر مشادة، وكان أبو بكر شديداً فاشتد على عمر، ثم ذهب إليه ليستسمح منه فلم يسامحه، بل قال له: لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ندم عمر فذهب إلى البيت فقال: أثَّم أبو بكر؟ -يعني: هنا أبو بكر؟ - قيل: لا.
فذهب أبو بكر رافعاً عن ثوبه حتى ظهرت ركبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نظر إلى صاحبه: (أما هذا فقد غامر).
فدخل أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فقص على رسول الله ما كان بينه وبين عمر، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وغضب، وظهر ذلك على وجهه، فلما جاء عمر إلى رسول الله اشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتمعر وجهه، حتى إن أبا بكر خشي على عمر من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثى على ركبتيه وقال: والله! يا رسول الله! كنت أنا أظلم، أنا أظلم يا رسول الله! لأنه الرفيق، ولأنه خير البشر بعد رسول الله، ورسول الله الذي علم الأمة أن ينزل الناس منازلهم، وأن كل صاحب فضل عليه أن يعرف لـ أبي بكر فضله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل عمر: (هلا تركتم لي صاحبي).
بشدة وحدة على عمر الفاروق وقال صلى الله عليه وسلم: (قد قلتم: كذبت، وقال: صدقت).
وهذا هو الفارق البعيد الذي جعل أبا بكر في الأعالي وجعلهم لا يسبقونه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وواساني بأهله وماله)، كأنه يقول: أنفق علي كل ماله، ثم قال: (سدوا عني كل خوخة إلا خوخة أبي بكر، هلا تركتم لي صاحبي).
فلم ير بعد ذلك من أذية تقع في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وأروع ما ضرب في ذلك: أن بعدها حدثت مشادة -كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي - بين أبي بكر وبين أحد الأنصار، فسب أبو بكر هذا الأنصاري، فقال الأنصاري لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: يغفر الله لك.
قال: اقتص مني.
قال: يغفر الله لك لا أقتص منك.
قال: اقتص مني، وإلا استعديت عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال بعض الأنصار وهم لا يفقهون من أبو بكر يستعدي عليك رسول الله وهو الذي سبك؟ والله! لنأتين معك ولنستعدين عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الأنصاري فقيهاً، فقال: اسكتوا، لا يعلم أبو بكر بكلامكم فيغضب، فيغضب رسول الله لغضب صاحبه؛ فيغضب الله لغضب رسوله فيهلك صاحبكم، فما رد على أبي بكر بعد ذلك من قول قط؛ لمكانة أبي بكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(64/10)
مكانة الصديق عند الصحابة
بالإجماع: كانت مكانة أبي بكر عند الصحابة هي هذه المكانة.
فقد جاء بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف قال: لو وزن إيمان أبي بكر في كفة ووضع إيمان الأمة بأسرها سوى رسول الله في كفة لرجحت كفة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن أبا بكر بالأمة بأسرها.
فهو بأمة بعده حتى بالصحابة، حتى بـ عمر وعثمان وعلي.
فـ أبو بكر كان سبباً في إسلام من أرسى الله قواعد الإسلام على أكتافهم، كان سبباً في إسلام الزبير بن العوام، أول من أشهر سيفاً في سبيل الله، وكان سبباً في إسلام عبد الرحمن بن عوف الذي قال عنه عمر: مات رسول الله وهو عنه راض، وكان من أهل الشورى، وكان سبباً في إسلام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
وأبو بكر هو الذي دعا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي دعا طلحة الخير طلحة بن عبيد الله، وكل هؤلاء في ميزان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فكانت له المكانة العليا والأسمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(64/11)
مبايعة الصحابة لأبي بكر
أختم الكلام على أبي بكر في البيعة وما دار حولها من خلاف، وهل رسول الله استخلف أبا بكر أو أوصى بها لـ أبي بكر وقد قالت عائشة: كيف يزعمون ذلك؟! وقد مات رسول الله على فخذي أو بين سحري ونحري ولم يوص بأحد.
وقد اختلف العلماء في خلافة أبي، هل هي منصوص عليها أم بالاختيار والإجماع؟ على قولين: القول الأول: أنها بنص كما رجح ذلك الحسن البصري، وقال: إنه بالنص ولكنه مستنبط، يعني: بالنص الخفي لا الجلي.
وهذا هو الراجح الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة منها أولاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن لا يؤمهم أحد في الصلاة إلا أبو بكر، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وكانت عائشة تخشى من ذلك؛ لأن الناس يتعجبون أن أحداً يأخذ مكانة رسول الله؟ أي: يتشاءمون.
فقالت: (مر عمر فإن أبا بكر رجل بكّاء قال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
فقال علي رضي الله عنه الفقيه لما سألوه عن أبي بكر: رجل رضيه الله لديننا فكذا نرضاه لدنيانا.
وهذا قياس جلي أو قياس الأولى، فما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم للدين فللدنيا يكون من باب أولى.
وفي مرضه صلى الله عليه وسلم أيضاً قال لـ عائشة: (ابعثي إلى عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب كتاباً لا يطمع طامع في هذا الأمر - يعني مع وجود أبي بكر -ثم قال: لا، يأبى الله) أي: قدراً وكوناً مكتوب في اللوح المحفوظ فقال: (يأبى الله ويأبى المؤمنون).
أيضاً قدراً لا شرعاً، ثم قال: (إلا أبا بكر).
يعني: إلا بتولية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وأصرح من ذلك: جاءت امرأة إلى رسول الله فسألته عن مسألة فقالت: (إذا أتيت ولم أجدك من أسأل؟ قال: ائتي أبا بكر).
وهذا إشعار من رسول الله أي: كأنه يقول: إذا مت فسيكون بعدي أبو بكر رضي الله عنه.
وهذه من الأدلة التي تثبت أن النص جاء على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
أما الطائفة الثانية فقالوا: لم تكن خلافة الصديق بالنص وإنما كانت بالاختيار، وحجتهم في ذلك: أن عمر بن الخطاب لما قتل قال: إن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني وهو رسول الله، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني وهو أبو بكر.
فنقول: هذا مأول، ومعنى كلام عمر: أن خلافة أبي بكر لم تكن مكتوبة ومنصوصة عليها نصاً جلياً.
وقصة بني ساعدة وثقيفة لما ذهب الأنصار وأخذوا سعد بن عبادة ليبايعوه جاء أبو بكر، فقال: لا، منا وزير ومنكم وزير، ونزلوا على كلامه.
ثم قال: أرضى لكم أحد الرجلين عمر وأبو عبيدة.
وكان أبو عبيدة يمشي مع عمر! فقال -أي: أبو عبيدة -: ابسط يدك يا عمر! لأبايعك.
قال: لو قالها غيرك، كيف تقول ذلك، أؤمر عليكم وفيكم هذا الصديق؟ أأكون أنا وفيكم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه؟ فلما قال أبو بكر: ابسط يدك يا عمر أبايعك.
قال: لا والله! لا يتقدمن عليك أحد يا أبا بكر! فقال: رضيه الله لديننا ونرضاه لدنيانا.
فبايع أبا بكر وبايع أبو عبيدة أبا بكر أيضاً، وبايع الأنصار قاطبة أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، وتخلف عن البيعة سعد بن عبادة وعلي بن أبي طالب، وسعد ما تخلف؛ إلا لأنه توج لأن يكون أمير المؤمنين، أو يكون خليفة رسول الله؛ لأنه لما جلس الأنصار واجتمعوا قالوا: سيدنا سيد الخزرج هو سعد بن عبادة، على أن يؤمر عليهم واستبقت منهم الكلمة على ذلك، فلما جاء أبو بكر انهال الأنصار وبايعوا أبا بكر، ولم يبايعوا سعد بن عبادة، حتى الوفود التي أتت كالنهر الجاري على الصديق ضربت سعداً، فجرح سعد وأوذي بدفع الأنصار، فقال الأنصار: قتلتم سعداً، قتلتم سعد بن عبادة.
فقال عمر من شدته في الحق المعروفة: قتله الله، ما نحن قتلناه.
وهذا له فقه، يعني: أنكم أردتم إمارته، وأراد الله إمارة أبي بكر فالله هو الذي قتله، يعني قتله: قتلاً معنوياً، إذ أن أبا بكر سيقدم عليه وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(64/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلافة أبي بكر الصديق
هناك كثير من الرجال الأبطال الذين ضربوا لنا أروع الأمثلة في الصدق والإخلاص والثقة بالله، والثبات على دينه، والجود بما رزقهم الله من فضله، وقول الحق والعمل به، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فهو أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضائله ومناقبه كثيرة.(65/1)
خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه(65/2)
مبايعة الصحابة لأبي بكر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع خير البرية على الإطلاق -سوى الأنبياء والمرسلين-، مع أرحم هذه الأمة بهذه الأمة، مع ألين الناس قلباً وأفقههم في دين الله جل وعلا، وأبرهم قلبا رضي الله عنه وأرضاه، مع صديق هذه الأمة، وقد تكلمنا عن فضائله رضي الله عنه وأرضاه، ووصلنا إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سنبين- وكانت المصيبة به جلل، فذهب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه إلى سقيفة بني ساعدة، حيث اجتمع الأنصار فيها ليختاروا لهم خليفة يبايعونه؛ من مات وليس له بيعة مات ميتة جاهلية، خاصة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فلا بد من أمير يخلفه صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الغراء، فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ واجتمعت كلمة الأنصار على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، فلما علم أبو بكر بذلك ذهب إليهم هو وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، قال عمر: فزورت كلاماً، يعني: جملت الكلام بفصاحة وبلاغة حتى تكون الحجة قوية معنا، قال: فزورت كلاماً فذهبت، فلما دخلت هممت أن أتكلم، فقال أبو بكر: اسكت، فسكت عمر، فقام أبو بكر خطيباً في الناس يتكلم بعدما قال الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه: منا أمير ومنكم أمير، أي: من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، قال عمر: ما أردت كلمة قد زورتها أن أتكلم بها إلا وقد تكلم بها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وأبلغ في المقالة، وكانت له الحجة القوية على الأنصار، قال لهم: أيها الناس! لكم فضلكم، ثم بين لهم فضائلهم، ومدحهم وبين لهم مكانتهم عند رسول الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لو سلك الأنصار فجاً لسلكت فج الأنصار)، ثم قال رضي الله عنه: إن الله جل وعلا قد سمانا في كتابه الصادقين، وسماكم المفلحين، وأمركم أن تتبعوا الصادقين حيث قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ثم قال لـ سعد بن عبادة بعدما اجتمعوا عليه أن يؤمروه عليهم: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الناس تبع لقريش في هذا الأمر) أي: في الولاية والإمارة، قال: سعد: صدقت، فقام الناس يبايعون فقال أبو بكر: إني أرجح لكم أحد الرجلين: عمر وأبا عبيدة ولكن كل واحد منكم يعلم منزلة الآخر، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، وأنزل الناس منازلهم.
وقال عمر: لأن أقدم فتضرب عنقي خير لي من أقدم على أمة فيها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قام عمر فقال: ابسط يدك يا أبا بكر، فبايعه، فبايعه أبو عبيدة، ثم تتابع الأنصار يبايعونه.
قال بعض العلماء: كان فيهم علي، وبعضهم قال: لم يكن معهم، والاختلاف يدور حول بيعة علي لـ أبي بكر، وهل تخلف عن البيعة أم لا؟ فإنه لما بلغ فاطمة نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم جلست في بيتها حزينة، فقال بعضهم: جلس علي معها واستخفى عن الناس -لم يظهر- وقيل: بايع في سقيفة بني ساعدة، وقيل: بل بايع في اليوم الثاني عندما قام أبو بكر خطيباً في الناس، وألقى كلمة يجب أن تكون نبراساً لكل حياة، ويجب أن تكون في كل بلدة من البلاد، قال أبو بكر: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: الضعيف منكم قوي عندي حتى آتي بحقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، ثم قال: إني لست بخيركم فأقيموني أيها الناس! فقام علي رضي الله عنه إلى منبر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيك لديننا فكيف لا نرضاك لدنيانا.
واستتب الأمر بذلك، واتفق الناس بالإجماع على أن أفضل الصحابة على الإطلاق هو الخليفة -خليفة رسول الله، أبو بكر - وظهرت حكمة الله جل وعلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر) يعني: يأبى الله أن يضع في هذا المكان إلا الأفضل، وهو أبو بكر، ويأبى المؤمنون ذلك، وقد رضي المؤمنون واتفقوا على أن أبا بكر هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(65/3)
نماذج من رحمته ورقة قلبه رضي الله عنه
بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجفت المدينة وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً بهذه المصيبة العظيمة، وتكالبت أمم النفاق مع الكفر، وظهر النفاق أمام الصحابة رضوان الله عليهم، وارتد من العرب من ارتد، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما ثبت على الإيمان إلا طوائف من أهل المدينة والطائف ومكة، وارتد كثير من العرب على عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وفي هذه الأوقات كان لا بد من شخصية ثابتة راسخة كالجبال الشم الشوامخ، تظهر معالمها في هذه الأوقات الحالكة، تجمع بين القوة والصلابة وبين الشفقة والرحمة، وقد ظهرت هذه الأخلاق في أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
فقد طبق واقعاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)، رضي الله عنه وأرضاه.
فظهرت رحمته جلية في عتق العبيد، فقد كان يطوف في مكة فيرى بلالاً في حر الرمضاء، وأمية بن خلف يسوءه سوء العذاب، فذهب إليه واشتراه بمال كثير وأعتقه، وأنفق كل ماله رضي الله عنه وأرضاه رحمة وشفقة على أهل التوحيد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، رضي الله عنهم أجمعين، ومر ذات مرة بـ زنيرة أمة من الإماء كانت عند عمر بن الخطاب، فكان يسومها سوء العذاب قبل أن يسلم رضي الله عنه وأرضاه، حتى إنها من شدة العذاب عمي بصرها، وقالوا: قد خطف بصرها اللات والعزى، فقالت: لا والله! رب العباد قادر على أن يعيد علي بصري، هو الذي أخذه وهو القادر على أن يعيده، فأعاد الله عليها بصرها في تلك الليلة فاشتراها أبو بكر وأعتقها لوجه الله رحمة وشفقة ورأفة منه رضي الله عنه وأرضاه.
بل ظهرت رقة قلبه في صلاته، وهذه النعمة منة من الله تعالى يتذوق بها المؤمن حلاوة الإيمان، ولا يتذوقها إلا من رحمه الله ولطف به وأنعم عليه، كما قال شيخ الإسلام: في الدنيا جنة من دخلها دخل جنة الآخرة، هذه الجنة هي حلاوة الإيمان، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بمكة يتخذ داره مسجداً فيصلي بالليل خاشعاً راكعاً متدبراً آيات الله جل وعلا، فكان يقرأ فيبكي بكاء شديداً فتأتي النساء والصبيان إليه، فخاف أهل مكة على نسائهم وصبيانهم من الفتنة -حسب زعمهم- من هذا الدين.
وظهر ذلك جلياً من قول عائشة رضي الله عنها حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل إذا صلى بالناس بكى فلم يفقه الناس عنه شيئاً، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس).(65/4)
نماذج من جوده وإنفاقه رضي الله عنه
ومع هذا اللين والرأفة والرحمة كان هو المثل الأعلى في الجود والإنفاق، فقد كان ينفق ما معه ولا يخشى شيئاً، وضرب أروع الأمثلة في هذا الجانب، عاملاً بقول الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
فقد استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لتجهيز الجيوش، فجاء عمر فقال: اليوم أسبق أبا بكر، فذهب وأتى بشطر ماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك يا عمر؟ قال: تركت لهم شطر مالي)، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، ثم جاء أبو بكر بماله فوضعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر قال: تركت لهم الله ورسوله)، انظروا إلى الجود والكرم، انظروا إلى التوكل واليقين التام بالله، فقال عمر: والله لا أسبقك بعد اليوم.(65/5)
جوانب من قوته وثباته على الحق
إنفاق وجود ورحمة ولين، ثم في الجانب الآخر من شخصيته كان فيه القوة وفيه الثبات والعزيمة حتى عند الأحزان، فعندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ارتجت المدينة وزلزل المؤمنون زلزالاً عظيماً، فمنهم من قال: رسول الله لم يمت، ومنهم من سكت ولم يتكلم، ومنهم من خر مغشياً عليه، حتى إن عمر أخذ سيفه وقال: من قال: إن رسول الله قد مات لأعلونه بسيفي، فإن رسول الله ذهب إلى ربه أربعين ليلة كما ذهب موسى، وسيرجع وليقطعن أيدي وأرجل المنافقين، ثم جاء أبو بكر وكان في العوالي، جاء يعلمهم ويعلمنا القوة والعزم الثبات عند الحيرة والاضطراب، جاء أبو بكر ودخل فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- فكشف عن وجهه الغطاء وقبل بين عينيه وقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله، عشت حياً وميتاً، لا يجمع الله لك الموتتين، وهذا معناه أن الموتة الأولى هي موتة الدنيا، والموتة الثانية هي الموتة التي في القبر، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم نوم العروس، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا تأتيه في البرزخ هذه الموتة؛ لأن الأنبياء أحياء، ثم خرج رضي الله عنه فقال لـ عمر: اسكت، فذهبت الحيرة والاضطراب، ثم قام على المنبر وقال: أيها الناس! إن محمداً قد مات فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا عليهم قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:144].
قال عمر: فلما سمعت هذا أغشي علي، وكأني لم أسمع هذه الآية إلا حين تلاها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فانفض الناس، ومشوا في سكك المدينة يتلون: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]، وثبت الله جل وعلا المدينة بأسرها بسبب هذا الرجل الجبل الشم الشامخ رضي الله عنه وأرضاه.
موقف آخر من ثباته رضي الله عنه، هذا الموقف في صلح الحديبية، عندما قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح؛ لأنه يريد من الناس أن يدخلوا في دين الله أفواجاً، فليسمع المتنطعون الذين يقولون: انتشر هذا الدين بالسيف، والله لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع سيفه إلا في وجه العدو العاتي الذي يريد محق بركة هذا الدين الإسلامي، ومحق هذه الدعوة، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الصلح وشروطه، فقال عمر بن الخطاب حين رأى هذه الشروط، ومنها قول كفار قريش: من جاءكم منا مسلماً لا بد أن تردوه علينا، ومن جاءنا منكم لا نرده عليكم، فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: (بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا، فقال: أنا رسول الله، ولن يخزيني الله، فقال له: يا رسول الله! أما قلت لنا: إننا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، ولكن أقلت لك: هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك تأتي البيت وتطوف به)، فـ عمر لم يستطع أن يحتمل هذه الشروط، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له هذا الكلام، ثم إنه ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله، ولن يخزيه الله، ثم قال عمر: ألم يقل لنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: أقال لك تأتي هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك ستأتي البيت وستطوف به.
فـ أبو بكر لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نزل عليه وحي ولكنه توافق القلوب، فبهذا ثبت عمر وثبت الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وصدق القائل: إن لله عباداً يجعلهم لتثبيت العباد، الله جل وعلا ينصب عباداً للأوقات الشديدة الحالكة حتى يثبت بهم عباده الذين يمكن أن يرتجفوا عندما تتوالى الأمور والأحداث، وكان سيدهم أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وعندما كفر من كفر من العرب، وارتد من ارتد منهم، ومنع الناس الزكاة، واشتد الأمر على المسلمين، ورمت العرب الإسلام بقوس واحدة، واشرأبت أعناق اليهود والنصارى، فكان لا بد من استئصال هؤلاء الذين يريدون القضاء على الدولة الإسلامية، ولا بد من قتلهم أجمعين، فقام أبو بكر بقتال هؤلاء، حتى إن عمر القوي في دين الله، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقوى هذه الأمة في أمر الله عمر)، قال له: ارفق بالناس يا أبا بكر! فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فقال له عمر: كيف تقاتل قوماً قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فإن منعوك الزكاة فلا تقاتلهم، بل ارفق بهم حتى يرجعوا إلى حظيرة الإسلام، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال عمر: والله لقد وجدت أن الحق مع أبي بكر؛ لأن أبا بكر شد عليه وقال: أردت نصرتك فتأتيني بخذلانك! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام! والله لأقاتلنهم والله لأقاتلنهم، ثم نزل على رأيه وقاتل مانعي الزكاة، وكان هذا القتال أول تثبيت لعروش أهل الإسلام في هذه الآونة الصعبة.(65/6)
إنفاذه لجيش أسامة
الأمر الثاني: وهو أشد من الأول، حيث كان المسلمون في قلة، والردة كثيرت قام أبو بكر فأمر أسامة على جيش حتى يؤدب القبائل العربية التي تخضع لحكم الروم، وحتى يثأر أسامة رضي الله عنه وأرضاه لأبيه زيد ولـ جعفر ولـ عبد الله بن رواحة - الذين استشهدوا في غزوة مؤتة - فأمره على جيش عرمرم، وأراد أن ينفذ هذا الجيش، فجاء الأنصار والمهاجرون يقولون: يا عمر! اذهب إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العرب قد رمتنا عن قوس واحدة، والكل ينظر إلينا، وإن المدينة ستخرب إذا ذهب هذا الجيش، أي: لا بد أن يبقى هذا الجيش مرابطاً لحماية المدينة، فقال عمر لـ أبي بكر: كيف ينفذ جيش أسامة والمدينة فيها ما فيها وأنت ترى ما ترى من ردة العرب! فقال: والله لينفذن هذا الجيش؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك قبل وفاته، والله لا أغيرن أمراً أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يتجلى بوضوح أن المتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم هو الفائز، ودائماً هو على الصواب، ولو خالفه أهل الأرض كلهم فإن الله سيظهر أن الحق معه، فلما علم الأنصار أنه لن يتراجع عن هذا الأمر طلبوا من عمر أن يطلب منه أن ينحي أسامة عن إمارة الجيش؛ لأنه شاب صغير فكيف يكون أميراً على هذا الجيش العرمرم، الذي سوف يذهب إلى الروم؟ فكلمه عمر، فقال: ثكلتك أمك يا عمر، قد رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المنزلة، أأضعه أنا! لا والله، إمارة الجيش لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، ثم كلمه الناس أن يجعل عمر رضي الله عنه وأرضاه معه مشيراً ومعيناً، فنزل أبو بكر لهذا الرأي، ثم ذهب مع أسامة يودعه، فغبر قدمه في سبيل الله، فقد كان يمشي على الأرض، وأسامة -أمير الجيش- يقول: يا خليفة رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل، قال: لا، والله لأغبرن قدمي في سبيل الله سبحانه وتعالى، ثم أوصاه بوصايا، يا ليت أهل الكفر يسمعون هذه الوصايا، وكانت عشر وصايا أجلى ما فيها قال له: اغزوا باسم الله، كما وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلوا من كفر بالله جل وعلا، ثم قال: لا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا طفلاً وليداً، ولا راهباً في صومعته، ولا تقلعوا شجرة، ولا تحرقوا زرعاً.
هذه الوصايا لو سمعها أهل الكفر لسكتوا عما يقولون عن الإسلام والمسلمين، ولرأوا الفارق الكبير بين تعاليم الإسلام وبين ما يفعلون في حروبهم، فنحن اليوم نرى وأد البنات، قتل الأطفال، هدم البيوت، في فلسطين وفي غيرها، عجب تسمع! لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.
فبعد هذه التعاليم التي جاء بها ديننا الحنيف ما بال هؤلاء القوم الأوباش أحفاد القردة والخنازير يتهموننا بالإرهاب، وهم الذين قتلوا أنبياء الله جل وعلا، وارتقوا بعد ذلك فسبوا الله جل وعلا، ثم يتنطعون ويرموننا نحن بالإرهاب؟! أما سمعوا وصية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه: لا تقتلوا وليداً، لا تقتلوا امرأة، لا تقتلوا شيخاً كبيراً، لا تقلعوا شجرة، لا تهدموا بيتاً، لا تحرقوا زرعاً؟! هذه هي الوصايا التي على كل إنسان أن يعلو صوته بها ليبين سماحة هذا الدين، وأن هذا الدين هو أعظم الأديان، وأنه الحق المبين، ومن خالف هذا الحق فله الخلود في نار جهنم، والعياذ بالله.(65/7)
قوته في الحق
كان أبي بكر الصديق رضي الله عنه أقوى ما يكون في الحق، كما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم، كان لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله كما قال له أسامة عندما جاء يشفع في المرأة المخزومية التي جحدت عارية أو سرقت، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟! والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد -رضي الله عنها وأرضاها- سرقت لقطعت يدها).
فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة والعباس إلى أبي بكر، وطلبا إرث النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدك وخيبر وبعض الأموال التي كان يأكل منها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر الشفيق الرحيم، ذو الرقة واللين: والله إن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أصل قرابتي، ولكني لا أخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، وأبى أن يعطي فاطمة رضي الله عنها وأرضاها من إرث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبوة لا تورث إلا العلم والوحي، لا تورث الدنيا، ورحلت فاطمة غاضبة على أبي بكر، فوجدت في نفسها عليه، قال بعض العلماء: وجدت في نفسها؛ لأنها ما أرادت الإرث، وإنما أرادت الثمرة فقط، ولكن أبا بكر فهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا أخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل إن عائشة كذلك، وهي بنت أبي بكر وزوج النبي صلى الله عليه وسلم، ما أعطاها من إرث النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ً فلهذا -كما سبق-غضبت فاطمة، ولكن روى البيهقي بسند مرسل لكنه يحتج به بإذن الله، أنه لما مرضت ذهب أبو بكر إليها فترضاها فرضيت، ولما ماتت قال بعض الرواة: لم يؤذن علي أبا بكر لموتها، فصلى عليها ودفنها ليلاً، فلم يعرف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ويقال: إن علياً رضي الله عنه وأرضاه لم يخرج لمبايعة أبي بكر محاباة لـ فاطمة حتى ماتت، وكان الناس وجوههم سمحة مع علي بن أبي طالب حتى ماتت فاطمة، فتغيرت وجوه الناس عليه، فعلم أن ذلك كان بسبب مسألة أبي بكر، فذهب إليه وبايعه، وكان سيفاً من سيوف أبي بكر يضعه حيثما شاء رضي الله عنهم أجمعين.
فهذا ما حدث بين أبي بكر وفاطمة، وكان الحق كل الحق مع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولم يتكلم فيه أو ينتقده أحد من الصحابة الكرام، حتى علي حين خطب بالناس فقام رجل وقال: من أفضل هذه الأمة؟ فقال: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته ثمانين جلدة حد المفتري أي: الكذاب، أفضل هذه الأمة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر بن الخطاب، وسكت ثم قال: والله أعلم بعد ذلك من أفضل، فلم يكن يخير عثمان على نفسه، لكن ورد عن ابن عمر بسند صحيح أنه قال: كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل هذه الأمة بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيقرنا رسول الله، وبينت سابقاً الخلاف بين أهل السنة والجماعة في مسألة: من أفضل عثمان أم علي؟ وذكرنا أن كلمة أهل السنة والجماعة اتفقت بعد ذلك على أن أفضل هذه الأمة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.(65/8)
بداية الفتوحات في عهده
ثم حانت الفرصة لنشر الإسلام بعدما استتب الأمر وانتهت فتنة الردة، فبدأت الفتوحات قرب موت أبي بكر، فمنّ الله على أبي بكر بفتح أبواب الفتوحات الإسلامية، فقد بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه والمثنى بن حارثة إلى أهل فارس لفتح العراق، وبعث خالد بن الوليد إليهم بثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال، فبعثوا إليه وقالوا: إن أردت في كل عام أن تأتينا ثم نعطيك الدراهم والملابس لهؤلاء الرعاع فخذ منا، فبعث خالد إليهم بالكلمة المشهورة التي أرعبتهم وأخمدت عروشهم، قال خالد بن الوليد: جئتكم بأناس بحبون الموت كما تحبون الحياة، وفي رواية أخرى أنه قال: جئتكم بأناس يحبون الموت كما تحبون أنتم الخمر، ثم وقعت المعركة، وأصبح القتل يميناً ويساراً بأهل الفرس، وفتح الله على يديه العراق.
ثم بعث إليه أبو بكر بأن يذهب لتأديب الروم، فكانت المعركة الكبرى التي تقابل فيها أربعون ألفاً أمام مائة وأربعين ألفاً، وهي معركة اليرموك، التي مات أبو بكر قبل أن ينتصر المسلمون فيها، فهو الذي أصر على تأمير خالد رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن عمر جاء أكثر من مرة إلى أبي بكر يقول له: اعزله، فيقول: لا والله، لا أغمدن سيفاً قد سله الله وسله رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال: والله لأقطعن عنهم وساوس الشيطان بـ خالد بن الوليد، وهذا الذي جعل ملك الروم يقول لـ خالد: من أنت؟ أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تهزم أبداً؟ ذهب خالد عبر الصحراء حتى وصل الشام، ثم بعث أبو بكر إليهم بالكتاب وقال فيه: إذا جاءكم خالد فأمروه عليكم، ونزل أبو عبيدة وجميع المسلمين تحت إمرة خالد وهم أربعون ألفاً وجيش الروم مائة وأربعون ألفاً، لكن خالد كان بطل الحروب، فهو الذي لم يهزم في معركة بإذن الله، حتى في قتال المسلمين حين كان كافراً، ففي أحد كان هو سبب هزيمة المسلمين، فقد قام بخبرته العسكرية بعد اليقين بالله جل وعلا، والإيمان الراسخ، فعمل ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة، فجعل أبا عبيدة -أمين هذه الأمة- في الخلف، وجعل نفسه في المقدمة، وأحد الصحابة في الميمنة والآخر في الميسرة، ثم دخل إلى قلب الروم إلى خيمة رئيسهم، وقتل منهم ثم رجع، وهكذا أخذ بالكر والفر حتى هزم الروم، وكتب الله للمسلمين النصر، ثم جاءت البشارة إلى عمر بعدما مات أبو بكر، الذي كان سبباً في هذه المعركة الخالدة التي تبين أن النصر حليف المسلمين لا محالة، وإن كانوا أقل عدة وعتاداً، وذلك إذا تمسكوا بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإذا صدقوا في نصرة الله وفي نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا رفعوا راية التوحيد، فلو تكالب الجن والإنس على أهل الإسلام الذين رفعوا راية لا إله إلا الله فإن النصر سيكون لأهل الإسلام، كما قال شيخ الإسلام مقعداً قاعدة عظيمة قال: إذا التقى الجيشان: فإن كانا كافرين جعل الله الغلبة للأقوى، وإن كان الجيش الأول مسلماً والآخر كافراً جعل الله النصرة لأهل الإسلام.
فجعل الله النصرة في معركة اليرموك لـ خالد ولأصحابه رضوان الله عليهم؛ لأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وصدقوا في نصرة الله جل وعلا.(65/9)
وفاته رضي الله عنه وأرضاه
حانت ساعة وفاة أبي بكر بعدما ثبت بإذن الله هذه العروش، ولذلك قال قائلهم: لولا خلافة أبي بكر لما توسعت رقعة الإسلام، ولما ثبتت عروش خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه، فبعد أن بلغ أبو بكر من العمر ثلاثاً وستين عاماً -كما كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين مات- جاءه الأجل رضي الله عنه الله عنه وأرضاه، وقبل أن يموت ضرب أروع الأمثلة في الزهد والصلاح والعدالة في الحكم، فقد كان يجلس على قطيفة من حق بيت مال المسلمين، فبعث بها إلى بيت مال المسلمين، ثم قال: إن بستاني وحائطي الذي ألزمني عمر به أتقوت منه يرد إلى بيت مال المسلمين، ثم قال: انظروا إلى ثوب تكفنوني فيه، ثم قال: كيف كفن رسول الله؟ قالوا: في ثلاثة أثواب، فقال: انظروا، قالوا: نحن جهزنا لك ثلاثة أثواب جديدة، قال: لا، انظروا إلى ملآتي هذه الخلقة القديمة، أما الجديد فالحي أحوج إليه.
ثم أمر أن يكفن بهذه الأثواب القديمة، ثم بعد ذلك بعث بكل ما عنده يملك، ومن ناقة كان يشرب منها، وهو خليفة رسول الله، ومع ذلك كان له ناقة فقط، هي التي يشرب منها، ثم أمر برد الناقة الحلوب إلى بيت المال، وأمر بغلام كان يخدمه، فقال: والغلام إلى بيت مال المسلمين، فلما رأى عمر ذلك بكى بكاءً شديداً، وقال كلمته المشهورة: لقد أتعبت من بعدك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم دخل عليه عثمان وهو في مرضه الشديد فقال له: اكتب، ثم أغشي على أبي بكر، فلما أفاق قال له: ما كتبت؟ قال: كتبت عمر، قال: لو كتبت عثمان لكنت لها أهلاً ولكنه عمر، ثم جاءه الناس، فقالوا: كيف تستخلف علينا هذا الشديد - عمر رضي الله عنه وأرضاه- وتعلم حدته وشدته، قال: لو سألني ربي لقلت له: استخلفت عليهم أتقاهم وأقواهم في دين الله، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مات رضي الله عنه وأرضاه، وصلى عليه عمر والمسلمون، ثم دفن بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أختم سيرة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه بكلمة لـ علي بن أبي طالب، وأرد بها على المتنطعين الهالكين، الذين يقعون في عرض أبي بكر، ويزعمون الحب لآل البيت، فقد قال علي بن أبي طالب في وفاة أبي بكر بعد أن وقف على الباب: رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناًَ، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءً، وأحفظهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحزنهم على الإسلام، وأحنهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خَلقاً وخُلقاً، وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن المسلمين خيراً، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخل الناس، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً، فقال جل وعلا: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]-فالذي جاء بالحق هو رسول الله، والذي صدق به حين كذبه الناس هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه- يريد محمداً ويريدك، وكنت والله للإسلام حصناً وعلى الكافرين عذاباً، لم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، جليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين، ولم يكن لأحد عندك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيف حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ الحق له، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك.
هذا ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عن الصحابة أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل ربي جل وعلا أن تكون هذه النماذج حسنة لنا، حتى نتأسى بهم ونسير على نهجهم النقي، وجزاكم الله خيراً.(65/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل عمر بن الخطاب [1]
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إسلامه عزاً، وهجرته نصراً، وخلافته عدلاً ورحمة، وحكمة وحنكة، ضرب أروع الأمثلة في علمه وفقهه وعدله وشدة بأسه في الحق، وقوة بديهته في الفراسة والإلهام، وتحريه في اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(66/1)
سيرة عمر بن الخطاب(66/2)
عمر بن الخطاب في الجاهلية
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع الشموس المشرقة، والأقمار النيرة، نقرأ في صفحات التاريخ بين سطوره فنستخرج الروائح الزكية، والنسمات العابقة من هؤلاء الأماجد الأكارم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نحن اليوم على موعد مع خير هذه البرية، ومع خير هذه الأمة بعد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الرجل الذي فرق الله به بين الحق والباطل، مع الرجل الذي كان أقوى ما يكون في الأمة في الحق، كان حاسماً حازماً قوياً ليناً رقيقاً رضي الله عنه وأرضاه، مع عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، واسمه: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن كعب بن غالب القرشي العدوي، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن غالب.
عمر بن الخطاب بلغ عمره في الجاهلية خمسة وثلاثين عاماً، ثم عاش ثلاثين سنة على الإسلام، ثبت فيها عرش المسلمين، وثبت أركان الدولة الإسلامية، وطار بأجنحته مشارق الأرض ومغاربها، يدعو إلى الله جل وعلا، وينشر دين الله جل وعلا، وقد فتحت الدنيا بأسرها وخزائن كسرى وقيصر على عهده رضي الله عنه وأرضاه.
عاش في الجاهلية جلداً صلباً صلداً وكان غليظاً فظاً رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبوه الخطاب على نفس خلقه فظاً غليظاً، وكان خاله أغلظ من أبيه وهو أبو جهل عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه جلداً في الجاهلية، وكان سفيراً لقريش في الأحداث أو الاختلاف بين القبائل أو الحروب، ولكنه كان مغموراً أيضاً في قريش؛ لأن مقياس الناس عند قريش في تلك الأزمنة المال والولد، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه قليل المال والولد، فكان مغموراً في قريش، ولكن الله جل وعلا أعزه بالإسلام، وأعز الإسلام به، فكان بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر السمع والبصر، وكانا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مشورته رضي الله عنهما.(66/3)
إسلام عمر بن الخطاب
أما إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه، فيذكر أهل السير قصصاً عديدة لإسلامه، فقد شهر سيفه ذاهباً إلى رسول الله ليقتله، وكان فظاً غليظاً، وكان يقول: هذا الرجل الذي جاء يفرق بين الوالد وولده، وبين الزوج وزوجته، وسفه أحلامنا وآلهتنا، فأخذ سيفه مهرولاً إلى رسول الله ليقتله، فقال له رجل: إذا كنت فاعلاً فانظر إلى أهل بيتك، انظر إلى أختك وزوجها فقد صبئا.
فذهب إليها فوجدها تقرأ القرآن فصفعها، فأدمى وجهها، فلما رأى الدم منها رق لها، ثم قال: أعطيني هذا الكتاب الذي بيدك، قالت: لا، إنك نجس، والنجاسة هنا نجاسة معنوية، لكنها أبت أن تعطيه الكتاب حتى يغتسل.
وهنا أستأنس بهذه الواقعة على أمر مهم وهو خلاف فقهي، فالراجح أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، لا يمسه إلى متوضئ.
فقالت: لا حتى تغتسل، فدخل فاغتسل، فأخذ الكتاب فقرأ: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:1 - 4]، فرق قلبه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه حمزة من بعيد قال: هذا عمر، إن جاء لخير فهو له خير، وإن جاء لغير ذلك فقتله علينا هين، فلما دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رسول الله فأخذ بتلابيبه، وقال: الآن يا عمر! الآن يا عمر! فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحققت فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، فأصابت الدعوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
كان رجلاً طويلاً إذا مشى بين الناس كأنه على بعير من طوله رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبيض مليحاً أصلع رضي الله عنه وأرضاه.
بعدما أسلم عمر بن الخطاب قال ابن مسعود كلمات تحفر على السطور في منقبة عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمامته رحمة.
كان إسلام عمر فتحاً، كما سنبين كيف نشر الله الإسلام بإسلام عمر، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمامته رحمة، لما دخل على رسول الله وأسلم ما خار، وإنما ظهرت قوته في دينه قال: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: لم الإخفاء الآن؟! لا بد أن نعلنها صراحة أننا على الإسلام والإيمان، ثم قام فصف الناس صفين فتقدم الصف الأول عمر بن الخطاب، ووضع على الصف الثاني أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب، ويتوسط الصفين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى مكة فأعلنوا الصلاة أمام قريش، فاشتاطت قريش غيظاً، وتألمت ألماً شديداً لما رأت عمر وحمزة كبيرا قريش في القوة والجلد، عمر وحمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتوسطهما.
ثم بعد ذلك قام عمر فقال: من أشد الناس نقلاً للأخبار؟ قالوا: فلان، فأخذه وقال له: أما علمت أنني صبأت؟! يعني: أسلمت، فقام الرجل مسرعاً إلى جميع قريش ينادي: قد صبأ عمر! قد صبأ عمر! وهو يقول: لا، بل أسلمت! بل أسلمت! ثم قال: من أشد الناس تغيظاً لإسلامي؟! فقالوا: خالك أبو جهل، ثم ذهب إليه فقرع عليه الباب، ففتح فقال: أهلاً بابن أختي! فقال له عمر: أما علمت أنني على دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! فصفع الباب في وجهه رضي الله عنه وأرضاه تغيظاً.
ومن قوته في إعلاء كلمة الله جل وعلا ونصرة الدين والحق أنه قام عند الهجرة إلى كبار قريش وسادتهم فأخذ الرماد وذره على أعينهم وقال: شاهت الوجوه! يعني: قبح الله هذه الوجوه إني مهاجر إلى ربي، فمن أراد أن تثكله أمه فليأت ورائي خلف هذا الوادي، وهاجر معلناً بهجرته رضي الله عنه وأرضاه.(66/4)
زهد عمر بن الخطاب
نعم الرجل! ونعم الصاحب! ونعم الأمير رضي الله عنه وأرضاه! كان والله عابداً زاهداً متصدقاً فقيهاً ورعاً عالماً مجاهداً، لو جلسنا شهوراً وسنين نتكلم عن هذه الشخصية الفريدة فلن نعطيها حقها.
لكن اليوم سوف نتكلم مع عمر الزاهد العابد الفقيه العالم، عمر رضي الله عنه وأرضاه أوجز وأعذب وألطف ما قيل في زهد عمر ما قاله بعض المؤرخين: إن الدنيا لم ترد أبا بكر، وأبو بكر لم يرد الدنيا، لأن أبا بكر زاهد، ولم تفتح الدنيا عليه، ولا خزائن كسرى ولا قيصر فتحت عليه، قال: أبو بكر لم يرد الدنيا ولم ترده الدنيا، أما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها رضي الله عنه وأرضاه، كان يقف خطيباً أمام الناس وثوبه مرقع، كان يأكل الزيت والخبز، ويقول لبطنه بعدما يربط عليها الحجر والحجرين: قرقري كما تريدين، والله لا تأكلين إلا هذا الطعام، زيت وخبز.
وكان والله متصدقاً منفقاً، لما استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام للإنفاق في سبيل الله ذهب بشطر ماله فوضعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول: ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم شطر مالي، فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه.
كذلك لما أصاب مالاً في خيبر قال ابن عمر كما في الصحيحين: أصاب عمر مالاً ما أصاب مالاً خيراً منه، وهو سهم في خيبر، فذهب إلى رسول الله وقال: ما عندي مال خير من هذا المال، ضعه فيما شئت يا رسول الله، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون وقفاً لله، قال: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمرة).
يعني: أوقفته في سبيل الله، فأوقفه عمر في اليتامى ولذي القربى والمساكين، حتى ناظر هذا الوقف جعله يأكل منه غير متمول، فكان منفقاً في سبيل الله، حتى إنه مات وعليه ديون فكلف ابن عمر أن يسدد عنه هذه الديون بعد مماته رضي الله عنه وأرضاه.(66/5)
عبادة عمر بن الخطاب
كان والله فقيهاً عابداً، كان عمر بن الخطاب لا يترك الليل أبداً، بينه وبين ربه ساعة يخلو فيها بربه، يتذلل ويدعو الله جل وعلا ويستغفر سحراً، ويتلو كتاب ربه والناس نيام، فبعدما يرخي الليل سدوله وتغور نجومه يقوم يناجي ربه.
ذات مرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فسمع عمر وهو يقرأ في صلاته بصوت جهوري، وكان قد مر بـ أبي بكر، فسمعه يقرأ بصوت منخفض، فسأل عمر: (يا عمر! سمعتك تقرأ بالأمس بصوت جهوري! فقال: يا رسول الله! -انظروا إلى القوة في الحق، انظروا إلى الجواب البديع- أوقظ النومان وأطرد الشيطان)، بالقوة يطرد الشيطان رضي الله عنه وأرضاه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفض من صوته رضي الله عنه وأرضاه.(66/6)
فقه عمر بن الخطاب
كان رضي الله عنه وأرضاه عابداً زاهداً فقيهاً عالماً يحرص على طلب العلم الذي ندر في هذا الزمان، ونحن في فتن والله ليس بعدها فتن، وأقسم بربي إنه آلمني ويدمي قلب كل مسلم أن الأصاغر يتكلمون في أمر عظام يتخبطون فيها خبط العشواء، وكأنهم يتقحمون النار على بصيرة، ويتكلمون بغير علم، والمستمع لا علم له، وهذا والله الذي لا إله إلا هو ما وقع إلا بترك العلم، وتصديقاً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويتخذ الناس رءوساً جهالاً، فيسألون فيفتون بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)، فتاوى تصل بالناس إلى شفير جهنم، بل تصل بالناس إلى الخروج من الدوائر الصحيحة التي يمكن أن تعتبرها في الدين بسبب الجهل، فالناس في غفلة مميتة مزرية لا يعلمون عن دينهم شيئاً، وأيضاً يتركون طلب العلم؛ لأنهم يحسبون أن العلم كلمة طيبة دون الدراسة التي تعلمهم كيف يتعبدون لله جل وعلا بتوحيد خالص دون أدنى شرك.
فهذا عمر بن الخطاب أمير هذه الأمة كان طالباً للعلم، وكان يحرص على مجالس التحديث إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يعلمهم، وكان إذا شغله الزرع أو التجارة يتناوب مع أخيه الأنصاري حرصاً على العلم، فيجلس الأنصاري المجلس، فيأتيه فيقول: قد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كذا وكذا وكذا، وهو يأتي في اليوم التالي يتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقل هذا العلم إلى أخيه الأنصاري، حرصاً على العلم؛ لأنه يعلم أنه لن يرتقي عند ربه، ولن ينجو من الفتن والمحن إلا بالعلم، ولذلك شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم وحياً من الله، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام أني أشرب اللبن، حتى بلغ الري أظفاري، ثم أعطيت فضلي لـ عمر، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: أولته العلم).
وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم على فضل وفقه وعلم عمر بن الخطاب، بل وعلى دين عمر بن الخطاب وورعه.
كذلك جاء في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام الناس عليهم قمص -ثياب- ومنهم من يبلغ قميصه إلى ثديه، ومنهم من يبلغ دون ذلك، ورأيت عمر يجر قميصه، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: الدين)، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالدين والعلم والفقه رضي الله عنه وأرضاه، ولم لا وقد آتاه الله مقومات العلم؟! فهو المهلم المحدث تتكلم الملائكة على لسانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن قبلكم محدثون، ولو كان في هذه الأمة لكان عمر) يعني: عمر بن الخطاب هو الملهم الذي تتكلم الملائكة على لسانه.
فسرها بعض العلماء بالتفرد في شدة الذكاء، وهذا في عمر حق، وفسرها بعض العلماء بأن الملائكة تتكلم على لسانه بالحق، وإليكم بيان ذلك، فقد وافق ربه في أكثر من عشرين موضعاً من القرآن، قبل أن تنزل الآية يقولها عمر كما في البخاري قال عمر: وافقت ربي في ثلاث، أما الأولى: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؛ فأنزل الله جل وعلا: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125].
والثانية: قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن؛ فإنه يدخل عليهن البر والفاجر، قبل أن تنزل آية الحجاب، فنزلت: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53].
والثالثة: أنه لما اجتمع النساء على النبي صلى الله عليه وسلم قلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، بنفس نص الآية، فهو موفق رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك قال: وافقت ربي في ثلاث، ثم ذكر منها أسارى بدر، لما تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، وقال: نأخذ الفدية، وقال عمر: أرى يا رسول الله! أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، ولاء وبراء، تحقيق لركن التوحيد لا إله إلا الله، وعمر يشهرها علناً ولاء وبراء، قال: يا رسول الله! أرى أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، وأرى أن تعطي عقيلاً لـ علي بن أبي طالب، فيضرب عنقه، وأرى أن تعطي فلان ابن أبي بكر، فيضرب عنقه؛ ليعلم أنه لا هوادة في قلوبنا، ولا محبة لأهل الشرك والكفران، عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال ذلك مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر في أخذ الفدية، فأنزل الله موافقاً لقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67] فبكى رسول الله وأبو بكر، ووافق الله جل وعلا عمر رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك عمر وافق الله في مسألة أخرى، لما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة على المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول، قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الذي قال يوم كذا كذا وكذا، يعني: في غزوة بني المصطلق لما رجع قال: ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله تصلي على عدو الله؟ قال: (إليك عني يا عمر! فإن الله خيرني: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، فخيره فقال: استغفر لهم لعل الله يغفر لهم) فأنزل الله موافقاً لقول عمر: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84].
فكان ملهماً موفقاً رضي الله عنه وأرضاه، وأنفع ما يكون من ذلك لما احتار النبي صلى الله عليه وسلم جاءه يستشيره في حادثة الإفك، فقال: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟ قال: الله) كيف زوج الله جل وعلا السيدة عائشة بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ جاءه جبريل بصورتها وقال: هذه زوجك مرتين، فقال: (إن كان الله كتب ذلك فسيقضيه)، فقال له عمر الموفق: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟! قال الله، قال: أرأيت الله يدلس عليك؟!) ما هذا الفقه؟! سبحان الله! ولذلك عقب بعدما قال ذلك، فقال: سبحانك هذا بهتان عظيم! قال: يا رسول الله! أرأيت الله يدلس عليك؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! فأنزل الله الآيات ثم ختمها بقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16]، موافقاً لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك من مقومات فقه عمر وبيان أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أفقه الصحابة على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر رضي الله عنه قال حذيفة: كأن علم الناس كان مدسوساً في قلب عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونظر إليه ابن مسعود فقال: هذا أفقه الناس بكلام الله جل وعلا.
وقال أيضاً بعض الصحابة: لو وزن علم عمر في كفة، وعلم الأمة أجمعين في كفة لرجحت كفة عمر رضي الله عنه وأرضاه.(66/7)
عمر بن الخطاب صاحب الإلهام والفراسة
انظروا إلى الإلهام والتوفيق، قام عمر خطيباً بعدما أرسل سرية إلى العراق، وأمر على هذه السرية سارية، فلما كان يخطب الخطبة وتحته عبد الرحمن بن عوف، والناس الجموع غفيرة تنظر إلى أمير المؤمنين وهو يخطب، قطع الخطبة وقال: يا سارية الجبل الجبل! يا سارية الجبل الجبل! ثلاث مرات! فاندهش الناس وقالوا: ما باله؟! كيف يتكلم في هذا؟! وعبد الرحمن بن عوف يتأفف ويتأسف: ماذا يفعل عمر؟! ما الذي جرى له؟! فبعدما نزل عمر قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين! خشيتُ أن يقول الناس شيئاً، كيف تقول: يا سارية الجبل الجبل! قال: والله لقد شعرت بأن السرية التي بعثتها انهزموا، وأن النصر لا يكون حليفاً لهم إلا إذا احتموا بالجبل، فقدم رسول الجيش فقال: يا أمير المؤمنين! انهزمنا أولاً، ثم سمعنا صوتاً مدوياً … إلخ.
ولو كان عمر موجوداً في الأمة اليوم والله لانتصرنا، والله الذي لا إله إلا هو لرفعنا راية لا إله إلا الله، وكنا تحتها منتصرين أعزاء، لكن كتب الله جل وعلا أن الخيار يكون مع خير البرية؛ لأن الله جل وعلا حكيم يضع الشيء في موضعه، فهؤلاء الأماجد الأكارم لا يكونون إلا مع سيد البشر، فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال: يا سارية الجبل الجبل! قال الرجل: فسمعنا صوتاً مدوياً يقول: يا سارية الجبل الجبل! فرجعنا حتى احتمينا بالجبل؛ فكتب الله لنا النصر.
هذه كرامة من الله جل وعلا لعبد من عباد الله رضي الله عنه وأرضاه عمر بن الخطاب، وكان من تفرسه إذا نظر إلى الشخص يعلم أنه كذاب أو صادق، فتكلم معه بعض الناس بكلام، فكلما عرض بكلمة قال له: احذف هذه، لا تكمل هذا الكلام، فيحذفه ثم يعرض عليه بكلمة أخرى، فيقول: احذفها، فيقول: أنت كذبت فيها فيقول الرجل: نعم يا أمير المؤمنين، وهذا من تفرسه وشدة فراسته رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك الرجل الذي جاءه فقال: اسمي جمرة بن لظى بن كذا بن كذا، قال: أدرك بيتك فقد احترق، فذهب الرجل إلى بيته وقد احترق!(66/8)
منهجية عمر بن الخطاب العلمية
كيف شرب عمر العلم وارتقى إلى هذا المرتقى الصعب؟ أقول: هناك منهجية اتخذها عمر علينا أن نأخذ بها والمنهجية موجودة حتى في السير، وهذه المنهجية التي استقى منها عمر علمه أجملها ابن القيم في قوله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه كان عمر بن الخطاب مشربه الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة أو عمت مصيبة نظر في الكتاب والسنة، فإن لم يجد فيها الحل، أو لم يصل اجتهاده إلى الاستنباط العالي من الكتاب والسنة، نظر في اجتهاد أبي بكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر).
فكان يأخذ من الكتاب والسنة، أو من كلام أهل العلم، فإن لم يجد يجتهد رأيه رضي الله عنه وأرضاه، وإليك البيان الذي صدقه واقعاً لما طعن رضي الله عنه وضع خده على التراب ثم قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يقصد أبو بكر رضي الله عنه- وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هوخير مني، يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على قوة مشرب عمر رضي الله عنه وأرضاه للعلم، وهنا قعدنا قاعدة في منهجية عمر في أخذ العلم، وهي: الكتاب والسنة، أو اجتهاد من سبقه الذي هو أعلم منه وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
أنا أقول: هذه القصة دليل على ما أقول، عندما قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف لم يستخلف من هو خير مني، فقال ابن عمر: فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف، فهو نظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أن الرسول لم يستخلف، ووجد أن أبا بكر قد استخلف، فهو قال: من أقدم أبو بكر أو الرسول صلى الله عليه وسلم؟ يجوز أن يستخلف لأن أبا بكر سنته متبعة؛ لأنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، لكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتعداها أحد، ولذلك قال ابن عمر: فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف؛ لأنه يقدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، وجعلها مشورة في الستة الذين وقع الاختيار عليهم.
كذلك من دلائل علم عمر وفقهه العالي أنه لا يتكلم إلا إذا وجد دليلاً ناصعاً صادعاً علم به، ولا يتكلف؛ لأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، فكان يسير هو وعمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فوجد حوضاً يريد الشرب والوضوء منه، فقال عمرو: يا هذا! أترد السباع هذا الحوض؟ فقال عمر: يا هذا! لا تجبه فإنه متكلف، وقد قال الله تعالى آمراً نبيه: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، ويستدل الفقهاء بهذا الفعل من عمر على تقعيد قاعدة مهمة جداً (اليقين لا يزول بالشك) يعني: هو في شك من مرور السباع، ولكن عنده يقين على أن الماء الذي في الحوض ماء طاهر، فلا يزول هذا اليقين بالشك، فانظروا إلى فقه عمر رضي الله عنه وأرضاه! كذلك من فقهه البديع مع أحفاد القردة والخنازير أنه -انظروا إلى فقهه وهو ينظر إلى الشرع والقدر ويصدق الشرع والقدر- جاء إلى يهود خيبر، فأمر بإجلائهم، فجاءه كبيرهم، فقال: أنت تخالف أبا القاسم، فقد ضرب لنا عهداً على خيبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاطرهم على العمل، وأقرهم على الأرض فيعملون ويزرعون ولهم الشطر، فقال له عمر -كما في الصحيحين: أظننتني قد نسيت أن رسول الله قال: (كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك) يعني: تمشي بك بعيرك تخرج من هذه البلاد، قال: إنما كانت مزحة من أبي القاسم، فقال: خسئت وكذبت؛ فإن الرسول لا يقول إلا حقاً.
كذلك من فقهه البديع أنه قال له: أقركم ما أقركم الله جل وعلا، وقال: قد أقركم رسول الله، وأقركم أبو بكر، وشاء الله أن أجليكم.
فطبق الشرع على القدر بحديث آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وفي الحديث الآخر في مسند أحمد: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب).
فأول هذا الحديث بأن المشيئة هنا مشيئة كونية قدرية والفرق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية أن الكونية تكون فيما يحبه الله وما لا يحبه كمشيئة الله في خلق إبليس، وإبليس لا يحبه الله، وكمشيئة الله لعلو الكفرة على المسملين، وهذا لا يحبه الله جل وعلا، لكن شاءه كوناً لحكمة عظيمة، وربك حكيم خبير.
كذلك المشيئة الكونية لا بد أن تقع، فقد كتب الله في اللوح المحفوظ أن أهل الكفر تكون لهم الدولة على أهل الإسلام لحكمة عظيمة عند الله جل وعلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لن تختم الدنيا حتى يعود الإسلام غريباً كما بدأ غريباً.
فـ عمر بن الخطاب نظر فوجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجهم، فقال: هذه مشيئة شرعية وطبقها، فوافقت المشيئة الكونية، فالأصل أن عمر رضي الله عنه وأرضاه من فقهه قال: هذه المشيئة ليست مشيئة كونية، هي مشيئة شرعية يقصد أنه أمر ونهي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، فأجلاهم رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك من فقه عمر العالي أنه يسوس الناس بسياسة شرعية حتى يقطع دابر المعصية والتعدي على حدود الله، مثال ذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب على شرب الخمر ويجلد عليه أربعين، وأبو بكر جلد عليه أربعين، وصدر من خلافة عمر كان يجلد عليه أربعين، حتى جاءه علي فقال: إن الذي يشرب الخمر يهذي، فإذا هذي افترى، وحد المفتري ثمانين؛ فجلده ثمانين رضي الله عنه وأرضاه، فهذه سياسة شرعية حتى يحد من التعدي لحدود الله جل وعلا، واستنبط العلماء من هذا أن ولاة الأمور لهم أن يأمروا بأمر فيكون واجب السمع والطاعة إن كان تحت دائرة الكتاب والسنة، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، وما قال: وأطيعوا أولي الأمر، فعلى المرء بالسمع والطاعة لأولي الأمر مقيداً بالمعروف: (إنها الطاعة في المعروف، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق).
كذلك في حكم الطلاق ثلاثاً، كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق طالق طالق في مجلس واحد، أو قال لها: أنت طالق بالثلاث، تحسب طلقة واحدة، وفي عصر أبي بكر تحسب طلقة واحدة، فجاء عمر وقال: اجترأ الناس على أمر كان لهم فيه سعة، لأمضينه عليهم، فجعل الطلاق ثلاثاً واقعاً وتبين منه بينونة كبرى، فهذه سياسة شرعية يسوس بها الناس؛ حتى تقام حدود الله جل وعلا.
إن مواقف عمر البطولية وقوته في ضرب الأعداء وقتاله مع رسول الله حفاظاً على حياته صلى الله عليه وسلم، وجوانب العظمة في سياسة عمر وعدله، والقصص البديعة التي تبين هذا العدل الذي قال فيه عامل الروم لما دخل وسأل عن أمير المؤمنين، فأشاروا إليه تحت شجرة، قال: أريد قصر أمير المؤمنين، قالوا: هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان يتوسد نعله تحت الشجرة؛ فقال: هذا أميركم؟! قالوا: نعم، هذا أميرنا، فقال: يا عمر حكمت فعدلت؛ فأمنت فنمت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً.(66/9)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل عمر بن الخطاب [2]
لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم جيلاً كانوا نبراساً للحياة، وقدوة يقتدى بهم في جميع جوانب الحياة، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، هذا الصحابي الجليل الذي تمثلت شخصيته في العدل والإنصاف والقوة والثبات والحلم والأناة، فعلى المسلم أن يقرأ سيرهم ليأخذ الدروس والعبر منها، وتكون له نبراساً في حياته.(67/1)
مواقف من عدل عمر بن الخطاب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الإخوة الكرام! ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي، في الكتاب الأخير، والكلام عن فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما زلنا مع الخليفة الثاني - الفاروق - الذي فرق الله به بين الحق والباطل، ونصر الله به الدين، ورفع به رايته، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فج عمر)، وقد لقي عمر الشيطانَ في أحد جهات المدينة فتصارعا فصرعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فلنقف مع جوانب العظمة في شخصية هذا الخليفة الفذ الراشد رضي الله عنه وأرضاه، فمن جوانب العظمة في شخصية الفاروق رضي الله عنه وأرضاه؛ العدل البشري الذي بلغ المنتهى في الكمال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد خليفته أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فالعدل صفة من صفات الله جل وعلا، والله جل وعلا يحب أن يرى آثار هذه الصفات بأن تظهر على عباده جل وعلا، فالله رفيق يحب كل رفيق، والله جميل يحب كل جميل، والله عدل يحب كل عدل، ويحب العدل في الأقوال، وفي الأفعال.
عمر رضي الله عنه وأرضاه ضرب لنا أروع الأمثلة في مسألة العدل، التي هي صفة من صفات الله جل وعلا، فقد تخلق بهذا الأثر في نفسه ثم في أهله ثم في رعيته حتى انتشر العدل في الرعية، وأروع هذه الصور ما شهد به الأعداء، فإنه لما دخل مبعوث الروم الكفرة يسأل عن قصر خليفة المسلمين -قصر عمر بن الخطاب - فقيل له: هذا أمير المؤمنين، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يتوسد نعله تحت ظل شجرة، فذهب فوجد عمر بن الخطاب يتوسد نعله تحت ظل شجرة، فتعجب الرجل مندهشاً، ثم شهد بالفضل لهذا الفاروق وقال: يا عمر! حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت، يا لها من كلمات تحفظ في الصدور وتكتب بماء الذهب.
فانظروا إلى عدل عمر رضي الله عنه وأرضاه في عام الرمادة وفي غيره، فإنه كان لا يرتدي إلا اللباس العادي، وكان لا يرتقي ولا يتكبر على عباد الله جل وعلا، ولا يأكل إلا من أكلهم بل أدنى من أكلهم.
وانظروا إلى قصة عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فإنه بعد ما قتل أهل فارس وهدم الله عروش كسرى على يد عمر رضي الله عنه كما سنبين في -إحدى المعارك في أراضي فارس- قبل القادسية أو عند القادسية، انتصر المسلمون وغنموا غنائم كثيرة، واشترى ابن عمر هذه الغنائم من أصحابها؛ لأنه عندما تقسم الأسهم فإن كل من أخذ الغنيمة يمتلكها، فله بعد ذلك أن يبيعها، أو أن يهديها، فاشترى ابن عمر من أصحاب الغنائم غنائمهم بأربعين ألفاً، وذلك من أجل أن يتاجر فيها، فلما أقبل على عمر سأله من أين لك هذا؟ قال: اشتريت الغنائم بأربعين ألفاً، قال: قام الناس فقالوا: عبد الله بن عمر صاحب رسول الله، وابن أمير المؤمنين، وأحب الناس إليه، قد أرخصوا لك فيه، والله لا تربح عليها إلا كما يربح التجار في قريش، درهم لكل درهم، فأخذ الغنائم فباعها بثمن كثير، ثم أعطاه درهماً على كل درهم، يعني: ثمانين ألفاً، ثم أخذ الباقي فبعثه إلى سعد بن أبي وقاص وقال: وزعه على الناس أو في مصالح المسلمين.
مثال آخر من أمثلة العدالة أو العدل الذي انتشر في عصر عمر رضي الله عنه وأرضاه، جاء قوم إلى عامل من عمال عمر فأكرمهم أيما إكرام، ثم أعطى السادة وترك الموالي، فبعث إليه عمر يبين له العدل والسوية، وأن لا فرق بين الناس إلا بالتقوى، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فلا فرق بين سيد وعبد، ولا فرق بين أبيض وأسود، ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، كان هذا هو ميزان العدل عند عمر، فبعث إليه فقال: بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، فهلا ساويت بينهم؟ يعني: هلّا أعطيت كل واحد من السادة والعبيد ولم تفرق بينهم؟ وأروع من ذلك حادثة عمرو بن العاص حينما كان والياً على مصر، فتسابق ابنه مع قبطي، فسبقه القبطي، فغضب ابن عمرو وضربه بالسوط، وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين، فعلم القبطي عدل عمر فذهب إليه يشتكي فقال: ضربني ابن الأمير، فبعث عمر بن الخطاب برسالة صارخة يوبخ فيها عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه بكلمات شديدة، مع أن الشكوى جاءت من قبطي، فانظروا إلى سماحة الإسلام، إلى الحرية بحق، إلى العدالة بحق، إلى السماحة بحق، كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إلى عمرو بن العاص فقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراًً؟ عزمت عليك أن تأتي أنت وولدك، فذهب عمرو بن العاص مذعوراً فأتى بابنه حتى مثل أمام الخليفة، وعنده القبطي، فلما أقر ابن عمرو بن العاص بما فعل، قام عمر بن الخطاب وقال للقبطي: قم، فقام القبطي فأعطاه الدرة أو السوط، وقال قل له: خذ وأنا ابن الأكرمين، واضربه، ثم قال لـ عمرو بن العاص: اخلع عمامتك، وقال للقبطي: اضربه على صلعته؛ لأنه أباح لابنه أن يضربك، ويتعدى حقه، وهذا فيه تأنيب وتعزير لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه ترك المجال لابنه أن يضرب هذا القبطي، وإن كان تحت إمارته، وإن كان كافراً؛ لأن الظلم لا يقبل، فقال الرجل: قد أخذت حقي يا أمير المؤمنين، وهذه من أروع الصور التي تمثل عدل عمر رضي الله عنه وأرضاه، ولو تكلمنا كثيراً عن عدل عمر لن ننتهي، ولكن هذه نبذ يسيرة من الصور التي تبين عظمة شخصية هذا الفاروق.(67/2)
تعامله مع أهل الكتاب
من جوانب العظمة في شخصية عمر: حسن تعامله مع أهل الكتاب، فإنه كان يعرف كيف يفرق بين الناس، ويتعامل بموازين الحق مع كل البشر، فتعامل مع أهل الكتاب على حسب نوعهم كما جاء في كتاب الله جل وعلا، فإنه سبحانه وتعالى قد قسم لنا أهل الكتاب إلى ثلاثة أقسام: قسم هم أهل حرب يقاتلون أهل الإسلام، ينفقون أموالهم ليلاً ونهاراً ليصدوا عن سبيل الله، يقاتلون من قال: لا إله إلا الله، يحاربون من ينشر دعوة الله جل وعلا، فهؤلاء جاء فيهم قول الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:14]، وقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، وقوله جل وعلا: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، فهؤلاء لا ينفع معهم إلا السيف، ولا ينفع معهم إلا قطع الرقاب؛ لأنهم واجهوا الله جل وعلا، وواجهوا دين الله جل وعلا، وصدوا عن سبيل الله جل وعلا، وسنرى كيف تعامل معهم عمر رضي الله عنه وأرضاه.
القسم الثاني من أهل الكتاب: هم أهل ذمة وعهد، وهؤلاء هم قوم في بلادنا -في أرض الإسلام- وتحت أيدينا، فلهم خيار من ثلاثة خيارات: إما القتل، وإما الجزية، وإما الإسلام، فإن أبوا الإسلام وقالوا: نجلس تحت أيديكم، يحكم علينا شرع الله جل وعلا، وحكمكم نافذ فينا، وأنتم تقاتلون عنا، وندفع لكم الجزية، فهؤلاء هم أهل الذمة -أهل الجزية- يدفعون الجزية، ولهم شروط كما سنبين الشروط العمرية على أهل الجزية.
القسم الثالث من أهل الكتاب: قوم هم أهل حرب على المسلمين، لكن طلبوا الأمان من أهل بلدة من بلاد الإسلام، مثل رخص الدخول من جوازات وفيز وغير ذلك مما يسمونه الآن، فهذا يعتبر عقد أمان لهم؛ لأنهم يدخلون بتصريح من ولي الأمر، فهؤلاء أهل أمان وليسوا أهل ذمة، وهم في الأصل أهل حرب، ولذلك فأمانهم لا بد أن يكون مؤقتاً لا على الديمومة، فهؤلاء يكون لهم الأمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، فأقل واحد لا بد أن يوفي بهذه الذمة، لكن للمسلمين الاستفادة منهم، بأن يضربوا عليهم الأعشار، ويفرضوا عليهم الضرائب في تجارتهم، كما فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه.(67/3)
تعامله مع المحاربين من أهل الكتاب
ذكرنا أن أهل الكتاب ثلاثة أقسام، القسم الأول: قوم حاربوا دين الله جل وعلا، وهم حرب على أهل الإسلام، وأنفقوا ما لهم من أجل الصد عن سبيل الله، فهؤلاء كيف تعامل عمر معهم رضي الله عنه وأرضاه؟ هؤلاء لا ينفع معهم إلا السيئ، هؤلاء لا ينفع معهم إلا الشدة، ولا نقول: هذا مناف ومضاد لسماحة الإسلام، أو للدين الحنيف، أو للرأفة التي أمرنا الله جل وعلا أن نتعامل مع الناس بها، ونحن نعلم أن أحب القلوب عند الله ألينها وأطيبها وأرحمها بالناس، ولكن تجاه من كفر بالله ورسوله، وحارب الله ورسوله والذين آمنوا، يجب ألا يكون في قلب المسلم لهم رحمة ورأفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الرحيم الرءوف، ومع ذلك كان يقاتل أهل الكفر، وأهل الزيغ والبطلان، فـ عمر بن الخطاب شد وطأته على أهل الكفر، ونصر الله به الإسلام، وبه رفعت راية لا إله إلا الله ترفرف خفاقة عالية في أرض فارس، وفي الجبهة الغربية، وقد هاجم الروم، وهاجم الفرس.
أما نحو المشرق فمعارك طاحنة حدثت بين المسلمين -تحت راية عمر بن الخطاب - وبين أهل فارس، وأقوى هذه المعارك هي معركة القادسية، فهي المعركة الفاصلة بين راية الحق وراية الباطل، فهدم الله عرش كسرى على يد عمر بن الخطاب، حتى إن كنوز كسرى كلها جاءت إلى عمر بن الخطاب، فلما نظر إليها بكى وقال: قوم يؤدون هذه الكنوز إنهم لأمناء! فقال علي بن أبي طالب بعد ما بكى عمر: يا أمير المؤمنين! كنت عدلاً فكانوا كذلك، وكنت أميناً فكانوا كذلك، رضي الله عنهم أجمعين، ففي هذه المعركة كانوا قد تشاوروا أن يؤمر عليهم عمر، لعل الله أن يفتح عليهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: ابق هنا يا أمير المؤمنين، إن حدث لك شيء فجع المسلمون بك، فأمر عليهم من ترى وتختار، فقال عمر: إذاً فاختار أنت، قال: ما هو إلا خال رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، الذي كان يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، ولذلك قال علي بن أبي طالب: ما جمع النبي صلى الله عليه وسلم أباه وأمه لأحد إلا لـ سعد بن أبي وقاص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (هذا خالي فليرني أحدكم من خاله) يعني: افتخاراً بهذا الخال، فقام عمر وكتب إليه: لا يغرنك قول الناس: هذا خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغرنك طاعتك، واعلم أنك تواجه قوماً أصحاب عدة وعتاد، وبينكم وبينهم الطاعة والمعصية، هم يعصون الله جل وعلا، فإن عصيتم الله استويتم في المعصية، وكانت الغلبة للأقوى، وهم الأقوى عدة وعتاداً، وإن التمست ما عند الله جل وعلا فإنما عند الله لا يؤخذ إلا بطاعته، فأنتم لا تقاتلون القوم بعدة ولا عتاد، وإنما تقاتلونهم بالإيمان، فأخذ سعد بن أبي وقاص بهذه النصيحة وجعلها نصب عينيه، ثم قال له: أرسل إليه بالوفود، لعل الله جل وعلا يهديه على يدك، فاختار أكثر من نقيب حتى تكون سفارة بليغة تذهب إلى رستم قائد الفرس، لعل الله جل وعلا يهدي قلبه إلى الإسلام، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فبعث إلى رستم، ربعي بن عامر، وما أروع ما قاله ربعي! ذكر أهل العلم أن رستم كان عنده الملك الكثير من الفرش الوفير والذهب، والقوارير والفضة، وكانت له السطوة على العرب والكلمة الكبرى عليهم، وكانت دولته أكبر قوة في العالم، فدخل ربعي ساخراً من هذه القوة والفخامة والقدرة، دخل عليهم ومعه سيف صغير ورمحه وبغلته، دخل يمزق برمحه هذه الفرش الوفيرة، وهم يتعجبون من جراءته، فمنعوه فقال لـ رستم: طلبتموني، فإن أردتموني دخلت بما أنا عليه وإلا رجعت أدراجي، فقال: اتركوه، فدخل بعزة الإسلام، وبقوة المسلم، ثم قطع وسادة وربط بغلته، ودخل بالسيف، فنظروا إليه وضحكوا وقالوا: ما هذا السيف؟! سيف صغير ماذا تفعل به؟ فنظر إليهم مزدرياً قولهم مبيناً قوة وثبات وجأش المسلمين، وقال لهم: سيف صغير أتقدم به في نحور الأعداء ولا أفر ولا أتأخر، فخاف القوم، ثم دخل على رستم، فقال له رستم وهو متعجب من حاله: من أنتم؟ وماذا تريدون؟ فقال بعزة المسلم: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، كلمات توضع على الجبين، وتحفر على الصدور بماء الذهب، كلمات من رجل يلبس الرداء الرث، يسير ومعه السيف الصغير، لا عدة ولا عتاد، لكنها قوة كمنت في القلب، إنها قوة الإيمان والعقيدة.
قال: نحن عباد لله، أهم عزة وأشرف عزة هي العبودية لله جل وعلا، لا أطأطئ رأسي ولا أتذلل إلا لربي جل وعلا، ولا أنصر إلا دين الله جل وعلا، قال: نحن عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج عباد الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، لك إحدى ثلاث خصال: إما الإسلام، فلك ما لنا وعليك ما علينا، ولك نصرتنا في الدين، وتخرج وترجع إلى بلادك أميراً على أصحابك، قال: ما الثانية؟ قال: تعطي الجزية عن يد وأنت صاغر، قال: وإن لم تكن هذه؟ قال: المنابذة، السيف بيننا وبينك، ثم بعدما رحل قام رستم فقال: أرأيتم ما يقول الرجل! تعجباً مما فعل وقال، فازدروا فعله وقوله، فدخل عليهم المغيرة فقال لهم مثلما قال ربعي، فعلم رستم أن هؤلاء القوم ليسوا بالهينين، بل لهم قوة، هذه القوة كامنة في الإيمان الذي يحملونه في قلوبهم.
وحدثت الكرامات لهذا الجيش بفضل الله جل وعلا، فهم الطائفة المؤمنة التي تقاتل من أجل دين الله جل وعلا، وترفع راية لا إله إلا الله، ومن هذه الكرامات ما حدث معهم عند عبور البحيرة فقد كانت بينهم وبين جيش رستم بحيرة، فأخذ سعد يفكر كيف نصل إلى القوم؟ فقال لـ سلمان الفارسي: أنت الذي خططت للنبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فانظر كيف نصل إلى هؤلاء؟ فقال: دعني أنظر، فدخل يبحث في القوم ليلاً، فوجد أصحاب الرايات الحقة قياماً يتلون كتاب الله جل وعلا، ويذكرون الله ويستغفرونه في السحر، ووجدهم فرساناً في النهار، كما قال عامل الروم لملك الروم: رأيتهم رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، فهم يأخذون بالسبب المادي مع وجود السبب الشرعي الذي هو الأصل الأصيل لهذه الأمة، فلما نظر سلمان إلى هؤلاء ورأى حالهم هذه قال لـ سعد: والله لقد رأيت هؤلاء رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، وقد رأيت قوم موسى أدنى من هؤلاء، وقد أمر الله البحر فانشق من أجل قوم موسى، وأنتم والله خير من قوم موسى، ويصنع الله لكم أفضل مما صنع لقوم موسى، فتوكل على الله بإذن الله، وشق البحر، فاقتنع سعد بكلام سلمان، وعلم أن الكرامات تنزل على أولياء الله الذين ينصرونه، وينصرون دينه، فقام سعد وركب فرسه، ثم نزل إلى البحيرة باسم الله، فكأنه يمشي على أرض صلبة، فقد جعل الله جل وعلا البحر كأنه أرض صلبة، ودخل الجيش وراء سعد حتى دخلوا على جيش كسرى وقتلوهم شر قتلة، وقتلوا رستم، وأعلى الله الدين بهؤلاء الذين نصروه، فنصرهم الله مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، هذا شرط شرطه الله جل وعلا، فإذا تحقق الشرط تحقق المشروط {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ولذا فإن الله جمع كل كنوز كسرى للمسلمين عندما صدقوه ونصروه، ودخل بها الساعي إلى حجر الكعبة وقال: رجحت راية لا إله إلا الله على أرض فارس، هذا أول مشوار عمر وفتوحاته مع أهل الكفر الذين أنفقوا أموالهم صداً عن سبيل الله جل وعلا.
أما في الجهة الغربية -نحو الشام- فإن الله فتح عليه الشام بما فيها القدس، وكذلك مصر، فبعد أن نصر الله المسلمين في أجنادين بقيادة عمرو بن العاص، ظهروا على بيت المقدس وحاصروها، وكان على بيت المقدس رجل من الروم لقبه أرطبون الروم، وكان داهية الروم، فقال عمر قولته المشهورة -كما قال أبو بكر: لأقطعن وساوس الشيطان عن الروم بـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه -قال عمر: لأضربن أرطبون الروم بأرطبون العرب، وهو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فحاصر المدينة وتم حصار القدس، لكن أرطبون الروم بعث إلى عمرو بن العاص أو إلى أبي عبيدة -اختلفت الروايات- وقال: هذه المدينة لا تفتح إلا برجل واحد صفته عندنا الخليفة عمر بن الخطاب، فاستشار عمر الناس، فقالوا له: لا بد أن تذهب لعل الله يفتح على يديك هذه المدينة، فذهب عمر -الفاروق أمير المؤمنين الذي ملكه الله مشارق الأرض ومغاربها- على بعير واحد فقط هو ومولاه، يتناوبان على البعير، نوبة يمشي فيها عمر ويركب المولى، ونوبة يمشي فيها المولى ويركب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، حتى وصلا إلى بيت المقدس وكانت النوبة في المشي والأخذ بخطام البعير لـ عمر بن الخطاب، والمولى هو الذي يركب، فاستاء أبو عبيدة بن الجراح لما رأى هذا من عمر بن(67/4)
تعامله مع أهل الذمة والشروط العمرية عليهم
ذكرنا تعامل عمر رضي الله عنه وأرضاه مع صناديد الكفر، الذين أنفقوا أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فكيف كان تعامل عمر مع الطائفة الثانية، التي قال الله جل وعلا فيها: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، يعني: تحسنوا المعاملة معهم، وهم أهل الذمة، أو أهل الجزية، هؤلاء هم الذين رفضوا الإسلام، ولكن رضوا بدين الله جل وعلا أن يكون حاكماً عليهم، ورضوا أن يكونوا تحت قيادة المسلمين، وأن يدفعوا الجزية؟ عمر رضي الله عنه وأرضاه وضع لهم مكانة، وبين لهم حدوداً يتعامل فيها المسلم معهم، فاشترط عليهم شروطاً أنقلها لكم إجمالاً، هذه الشروط هي: أباح لهم حرية العبادة؛ لأن الله تعالى يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، فأباح لهم أن يعبدوا الله جل وعلا على طريقتهم، لكنه منعهم من إظهار شعائرهم، فحرم عليهم أن يظهروا صليباً، أو يدقوا ناقوساً، أو يرتدوا زياً كزي المسلمين، وذلك حتى يتميزوا عن المسلمين، أيضاً لا يشربوا خمراً أو يبيعوها بين المسلمين، ولا يأكلوا خنزيراً علناً، لكن في بيوتهم لهم أن يفعلوا ذلك، وأن يعطوا الجزية وهم صاغرون.
فهذه هي الشروط التي اشترطها عمر، والتي سميت بالشروط العمرية، ولا تحتاج إلى البحث عن أسانيدها؛ لأن الأمة تلقتها بالقبول، وشهرتها عالية جداً، قال الخلال في كتاب (أحكام أهل الملل): عن مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال: اتخذت لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه حين صالح النصارى -أهل الكتاب- وشرط عليهم فيه أولاً: ألا يحدثوا في مدينتهم، ولا في ما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا بيعاً ولا صوامع، إذاً أول شرط من هذه الشروط عدم الإحداث، يعني: تبقى الكنيسة التي كانت موجودة كما هي، لكن يمنعون من إنشاء كنيسة جديدة، ومن إنشاء صوامع بيع جديدة، وإذا هدمت الكنيسة القديمة لا تنشأ مكانها كنيسة جديدة؛ لأن هذا فيه إضمار للرضا بما هم عليه من كفر، فنقول لهم: تعبدوا بطريقتكم لكن لا تعلنوا بكفركم أمام المسلمين، وكل هذا فيه قمع للدين الباطل، وإظهار للدين الحق.
الثاني: ألا يمنعوا أحداً من المسلمين من النزول في هذه الكنائس، وعليهم طعامهم وإيواؤهم، إذاً: إذا مر عليهم مسلم وجب عليهم ضيافته ثلاثة أيام، ويدخل المسلمون الكنيسة ويجلسون في ساحتها، ولهم أن يصلوا فيها، فهذا فيه جواز الصلاة في الكنائس، قال: ولا يئووا جاسوساً؛ لأنهم إذا آووا جاسوساً فقد انتقض عقد الصلح بيننا وبينهم.
قال: ولا يؤذوا مسلماً؛ لأن أذى مسلم واحد تنتقض به الذمة، قال: ولا يكتموا غشاً، يعني: لا يضمروا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يضمروا شركاً، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام، ولا يردونهم إلى النصرانية.
قال: وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم، وإذا أراد المسلم الجلوس قام النصراني من مكانه وجلس المسلم، احتراماً لدينه، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه).
قال: ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم، والآن المسلم هو الذي يتشبه بالكافر، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال: ولا يتسموا بكنى المسلمين، ولا يركبوا فرساً، ولا يتقلدوا سيفاً، حتى لا يظهروا قوتهم، ولا يظهروا كبراً، ولا مكانة أمام المسلمين، ولا يبيعوا لحم الخنازير، وأن يشدوا الزنار على أوساطهم، ولا يظهروا شيئاً من كتبهم بين المسلمين، إلى آخر هذه الشروط التي اشترطها عمر بن الخطاب، وقد ضرب هذه الشروط، فإن اختل شرط واحد منها فقد انتقضت الذمة، وأصبحوا من المحاربين، ولا بد أن يبلغوا مأمنهم، ثم يشهر في وجوههم السيف.(67/5)
تعامله مع أهل الأمان
أما القسم الثالث: وهم أهل الأمان: فإن عمر تعامل معهم بأن أدخلهم على بلاد المسلمين تجاراً، ومنعهم من مكة والمدينة والحجاز، وأجلى يهود خيبر -كما بينا في فقه عمر - وفرض عليهم ضرائب، ونستفيد من هذا أنه يجوز أخذ المال من الكافر إذا كنت كفيلاً له في بلاد المسلمين، كما ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه الضرائب على أهل الكفر عندما مروا على ديار الإسلام يتاجرون ويستفيدون من أموال المسلمين، فللمسلم أن يستفيد منه بوجوده بعهد الأمان في البلاد الإسلامية.(67/6)
وفاته رضي الله عنه وأرضاه
أختم حديثي هذا بالحديث عن وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فإنه قد تمنى الشهادة، ودعا الله كثيراً بهذا، وفي يوم استلقى على ظهره في البطحاء فقال: رب! قد كبر سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، اللهم اقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط.
هذه أمنية لأمير المؤمنين الذي ملأ الأرض صدقاً وعدلاً، وملكه الله مشارق الأرض ومغاربها، وقد تحققت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عندما اهتز أحد: (اثبت أحد، فإن عليك نبياً، وصديقاً، وشهيدين)، ويقصد بالشهيدين عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين، وقد قتل شهيداً، قتله أبو لؤلؤة المجوسي بخنجر مسموم؛ لأنه اشتكى من المغيرة فقال له: اتق الله في مولاك، فغضب هذا المجوسي وأخذ خنجراً مسموماً، وقتل عمر في صلاة الفجر بعد أن كبر تكبيرة الإحرام، فقال عمر: قتلني الكلب، ثم استخلف عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس، فأخذه ابن عمر على فخذه فقال: دع وجهي، أو ضع خدي على التراب، لعل الله جل وعلا أن يرحمني، فلم يفعل، فقال: ويح أمك ضع خدي على التراب لعل الله جل وعلا أن يرحمني، ثم إنه عند موته لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد دخل عليه رجل، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: يا بني ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك.
وقال له ابن عباس: أبشر يا أمير المؤمنين، والله لقد كنت عدلاً وأميناً، ثم عدد فضائله، فقال: أتشهد لي بذلك عند ربك يوم القيامة؟ قال: والله أشهد بذلك، فقال عمر: ليتني خرجت منها لا لي ولا علي.
ثم قال لـ ابن عمر: أحب ما يكون إلي أن تستأذن لي عائشة رضي الله عنها وأرضاها، تقول لها: عمر بن الخطاب، ولا تقل: أمير المؤمنين، فلست الآن بأمير المؤمنين، فقال: قل لها: عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فذهب ابن عمر إلى عائشة فسمعها تبكي على عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فقالت عائشة: كنت أريد هذا لنفسي، فآثرت عمر بن الخطاب على نفسها، ووافقت، ودفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع صاحبيه.
قال علي بن أبي طالب بعد أن مات عمر بن الخطاب: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، يعني: بمثل عمل عمر بن الخطاب، فايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، فإني كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وجئت أنا وأبو بكر وعمر)، دعوت الله أن يحشرك مع صاحبيك، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فرحم الله الفاروق.
وقبل أن يموت لم يستخلف أحداً من بعده؛ لأنه أراد ألا يكون العبء عليه، وقال: إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني - أبو بكر - وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعل الأمر شورى بين الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم: عبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله - طلحة الخير- والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وترك سعيد بن زيد مع أنه من العشرة المبشرين بالجنة؛ لأنه من ذوي القرابة، وأيضاً عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يقل فضلاً عن هؤلاء الستة، لكنه لم يكتبه معهم؛ لأنه خشي عليه من تبعات هذه المسئولية، لكنه قال: يشهد المشورة عبد الله بن عمر، وإذا اختلفتم إلى ثلاثة وثلاثة، فـ عبد الله بن عمر يفصل بين الثلاثة، حتى وصلوا إلى الاتفاق على خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه.(67/7)
الأسئلة
السؤال
كم قتل أبو لؤلؤة بعدما طعن عمر؟ وماذا حدث له بعد ذلك؟
الجواب
لقد كان الخنجر الذي مع أبي لؤلؤة له رأسان، فبعدما قتل عمر بن الخطاب قام في الصفوف هائجاً وطعن به ثلاثة عشر شخصاً، فمات منهم سبعة، ثم قام بعض الصحابة الذين من ذوي المهارة فألقوا عليه ثوباً، فلما علم الخبيث أنهم سيمسكون به نحر نفسه بالسم فمات متردياً عليه من الله ما يستحق.(67/8)
عدد من قتلهم أبو لؤلؤة المجوسي من المسلمين عندما قتل عمر
السؤال
كم قتل أبو لؤلؤة بعدما طعن عمر؟ وماذا حدث له بعد ذلك؟
الجواب
لقد كان الخنجر الذي مع أبي لؤلؤة له رأسان، فبعدما قتل عمر بن الخطاب قام في الصفوف هائجاً وطعن به ثلاثة عشر شخصاً، فمات منهم سبعة، ثم قام بعض الصحابة من ذوي المهارة فألقوا عليه ثوباً، فلما علم الخبيث أنهم سيمسكون به نحر نفسه عليه من الله ما يستحق.(67/9)
سبب قتل أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه
السؤال
ما أصل أبي لؤلؤة؟ وما سبب المشكلة التي أدت إلى قتل عمر؟
الجواب
أبو لؤلؤة مجوسي الأصل، كان عبداً من موالي المغيرة بن شعبة، وكان سبب المشكلة أن المغيرة بن شعبة كان يطلب منه أن يعمل مقابل أربعة دراهم في اليوم، والباقي له؛ لأن العبد لا يملك فالمال مال لسيد.
فاستثقل الأربعة الدراهم، فاشتكى إلى عمر، فقال له: اتق الله في مولاك، فغضب، وسارع في قتل عمر؛ لأن هذا كان قدراً مقدوراً.(67/10)
حكم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير بالنسبة لأهل الذمة في بلاد المسلمين
السؤال
ما حكم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير بالنسبة لأهل الذمة في بلاد المسلمين؟ وماذا يفعل من رآهم يفعلون ذلك؟ وهل يجوز للمسلم أن يبيع الخمر والخنزير لهم؟
الجواب
بالنسبة لشرب الخمر وأكل لحم الخنزير من قبل أهل الذمة؛ فإن كانوا يفعلون ذلك خفيةً في بلاد المسلمين دون أن يعلم المسلمون بذلك، فلا شيء عليهم في ذلك، وكذلك لا شيء عليهم في بيعها فيما بينهم دون إظهار ذلك بين المسلمين.
أما إذا أظهروا ذلك بين المسلمين فهذا يعتبر نقضاً للعهد بيننا وبينهم.
وبالنسبة إذا وجد المسلم أحدهم يشرب الخمر أو يأكل لحم الخنزير خفيةً، فيجب على المسلم أن يدعوه، ويبين له حرمة ذلك، وهذا من باب الإنقاذ للناس.
وأما أن يبيع المسلم لهم الخنزير أو الخمر، فهذا لا يجوز في حال من الأحوال، والمال هذا مال محرم، ولذلك عمر بن الخطاب لما بعث إليه أبو موسى الأشعري: إن النصارى ما استطاعوا أن يدفعوا الجزية، لكن عندهم خمر، أفنأخذها منهم، ونأخذ المال؟ فقال عمر: لا، بل هم يتولون بيعها؛ لأنهم يستحلون ذلك، وأنتم تأخذون الثمن.(67/11)
لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس فقط
السؤال
هل تؤخذ الجزية من أهل الكتاب فقط أم من جميع الكفار؟
الجواب
هذه مسألة خلافية عريضة بين الفقهاء، والصحيح الراجح في ذلك: أن أهل الكتاب فقط هم الذين تؤخذ منهم الجزية، ودليل ذلك قول الله تعالى في سورة المائدة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فقيد أخذ الجزية بالذين أوتوا الكتاب، ومفهوم المخالفة: الذين ليسوا من أهل الكتاب لا تؤخذ منهم الجزية، ويستثنى من ذلك المجوس، ومنهم أهل فارس، فقد كانوا مجوساً، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم -كما في السنن- عن المجوس فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، يعني: خذوا منهم الجزية كما تأخذونها من أهل الكتاب، أما الإمام مالك فيرى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، وهو ما رجحه كثير من أهل العلم.(67/12)
كيفية التعامل مع أهل الأمان من الكفار
السؤال
كيف نتعامل مع أهل الأمان من الكفار؟
الجواب
يكون التعامل معهم بألا نعتدي عليهم، ولا نظلمهم، ثم بعد ذلك نتعامل معهم كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ألا نبدأهم بالسلام، وإن كانوا في الطريق فيضطرهم إلى أضيقها، وأيضاً إن استطعت ألا يكون مديرك أو المسئول عنك كافراً تفعل؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، يعني: إن وجدت نفسك مثلاً في شركة كلها هندوس من الصغير إلى المدير، فأولى لك أن تذهب إلى شركة فيها مسلمون، ويكون مديرك مسلماً، فإنه سيراقب الله فيك، أما الكافر فإنه سيتربص بك الدوائر، يقول الله جل وعلا: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، فهو إن استطاع أن يقطع دابرك سيقطعه، فالكافر يضمر لك في قلبه حقداً دفيناً.
لكن لو عملت في شركة وهذه الشركة مديرك فيها كافر، أو صاحب لك زميلك في العمل كافر، فيجب عليك ألا تظلمه، وتؤدي له حقه، ثم تعامله بما أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بألا تبدأه بالسلام في حال من الأحوال، ولا تهنئه في عيد من أعياده الكفرية.(67/13)
حكم تمكين المستأمنين من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير
السؤال
هل يجوز لأهل الأمان أن يشربوا الخمر ويأكلوا لحم الخنزير في بلاد المسلمين؟
الجواب
يجوز لهم ذلك، كما ورد في كلام عمر بن الخطاب أنه أباح لهم شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، لكن يكون ذلك في بيوتهم، ولا يظهرون ذلك أو يعلنونه أمام المسلمين؛ لأن في إظهار ذلك أذية للمسلمين، ودعوة إلى ما حرم الله تعالى.(67/14)
هل كان أبو لؤلؤة المجوسي مسلماً أم كافراً
السؤال
هل كان أبو لؤلؤة المجوسي مسلماً أم كافراً؟
الجواب
ورد في بعض الروايات عن عمر أنه قال: الحمد لله الذي لم يجعل أجلي على يد أحد من أهل القبلة، وهذه الرواية تبين أن أبا لؤلؤة ليس من أهل الإسلام، لكن أنا أرجح أنه كان منافقاً؛ لأن أبا لؤلؤة المجوسي قتل عمر في المسجد بعدما أخذ عمر يسوي الصفوف، أي: أنه وقف خلف عمر، وعمر يراه وهو يسوي الصفوف، فهذا دليل على أنه من أهل النفاق.
ثم نقول: إن كان كافراً -ولم يعلم بكفره أحد- فعليه ما يستحق على كفره، وإن كان قد أسلم ونافق فأيضاً عليه ما يستحق على نفاقه، لكن إن كان كافراً وظهر كفره، فهذا يبدأ الإشكال؛ لأنه كان في المدينة وفي المسجد النبوي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)، وقد أخرجهم، فهل يجوز للمسلم أن يتخذ مولى نصرانياً فيدخل به المدينة ومكة؟ هذا فيه نظر، وتحتاج المسألة إلى تأمل ومراجعة.(67/15)
كل من المسلمين واليهود والنصارى ينتظرون المسيح ولكن لكل منهم اعتقاده
السؤال
هل يجوز إطلاق كلمة (مسيحي) على النصراني؟
الجواب
من الخطأ إطلاق هذا اللفظ على النصراني؛ لأن المسيحي معناه: أنه تابع للمسيح عليه السلام، وهم ليسوا كذلك في الحقيقة، لكن لو قصد بها مآلهم أنهم أتباع المسيح الدجال، فهذا قد يكون له وجه؛ لأنهم حقاً أتباع المسيح الدجال، واليهود كذلك.
ومن العجب أن الأمم الثلاث كلها تنتظر المسيح: المسلمون واليهود والنصارى، وكل من اليهود والنصارى يؤمنون بمعركة هرمجدون التي تحدث في آخر الزمان، وينتصرون فيها على المسلمين حسب زعمهم، كما يؤمنون بأن هذه المعركة لا تكون إلا قبيل نزول المسيح، والمسيح لن ينزل إلا بعد بناء الهيكل، وهذه من عقائدهم التي حرفوها في التوراة والإنجيل، فلذلك هم يمهدون لإسرائيل بناء الهيكل حتى ينزل عيسى الذي ينتظرونه، وهو عند النصارى عيسى المخلص، عيسى الرب، وبه سوف ينتصرون على من سواهم، والحقيقة أنه سوف ينزل يقتلهم، ولا يقبل منهم أي شيء غير الإسلام.
واليهود ينتظرون عيسى كذلك، عيسى الذي بشر به موسى، لكنهم لا يعتقدون أن عيسى بن مريم هو الذي بشر به موسى، فهم لا يزالون ينتظرون عيسى الذي بشر به موسى حتى يخرج المسيح الدجال، فإذا خرج أصبحوا من أتباعه؛ لأن الشيطان سوف يلبس عليهم بأن هذا هو المسيح الذي بشر به موسى عليه السلام.
فانظروا كيف أضل الله النصارى عن المسيح، وأضل اليهود عن المسيح، وهدى الله هذه الأمة من كمال رحمته، وكمال منته عليها، هداها إلى مسيح الهدى، فإننا ننتظر مسيح الهدى -عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم- فإنه سوف ينزل على جناح ملك، ثم تلتق حوله الطائفة المؤمنة، ويقوم بملاحقة المسيح الدجال، ثم يقتله بالرمح، ويخلص البشرية منه، ثم يوحى إليه أن الله جل وعلا أخرج قوماً لا قبل لكم بهم، فيذهب إلى جبل الطور فيخرج يأجوج ومأجوج.
فالمقصود أن الأمة الإسلامية تنتظر مسيح الهدى، والأمة النصرانية التي أضلها الله عن مسيح الهدى ينتظرون الرب المخلص -كما يزعمون-، واليهود ينتظرون المسيح الدجال الأعور، فأتباع الأعور هم اليهود ومعهم النساء.(67/16)
الفواحش محرمة في جميع الأديان
السؤال
هل الخمر والزنا حلال عند اليهود؟
الجواب
لا يوجد نص مكتوب عندهم بأن الزنا حلال، حتى في التوراة المحرفة لا يوجد ذلك، فالزنا عندهم حرام، وكذلك الخمر، حسب علمي والله اعلم، ولكن أهواءهم هي التي قادتهم إلى تحليل ذلك.(67/17)
الربا عند اليهود حرام بينهم حلال مع الناس -حسب زعمهم-
السؤال
هل الربا محرم عند اليهود؟
الجواب
اليهود عندهم الربا محرم، لكنهم جعلوه محرماً فيما بينهم، وحلالاً على الناس، يعني: أنهم يتعاملون مع الناس بالربا لكي يحصلوا على المال منهم، لكنه فيما بينهم يعتبر حراماً لا يجوز!(67/18)
نقض العهد من قبل الذمي أو صاحب الأمان
السؤال
إذا قام الذمي أو صاحب الأمان بنقض العهد، فما العمل معه؟
الجواب
إذا نقض العهد بأن خالف شرطاً من الشروط، كأن اعتدى على مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)، فنقول له: أنت قطعت أمانك وعهدك، ويقوم ولي الأمر بإبلاغه مأمنه، وهو المكان الذي يأمن فيه على ملكه، ثم بعد ذلك إذا أعلن علينا الحرب أعلنا الحرب عليه، وبهذا نكون غير ظالمين له.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(67/19)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - جوانب العظمة لعمر بن الخطاب
جوانب العظمة في شخصية الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيرة، وقد ذكر العلماء كثيراً منها في كتب التواريخ والسير، فعلى المسلم أن يعرف عظمة هذا الخليفة، وأن يقتدي به.(68/1)
فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: نتكلم بإذن الله عن جوانب العظمة في شخصية عمر بن الخطاب، كما سلف أن تكلمنا عن جوانب العظمة في شخصية أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وسنتكلم في جزئية مهمة، هذه الجزئية هي التي تتضمن ما نريد، ألا وهي جزئية تعامل عمر رضي الله عنه وأرضاه مع أهل الكتاب، وهذه عظمة من جوانب العظمة في شخصية عمر سنبينها بإذن الله بالتفصيل، وسنذكر كيف كان يعامل عمر النصارى واليهود من أهل الكتاب.
ونبدأ نتكلم عن أمير المؤمنين الفاروق الذي فرق الله به بين الحق وبين الباطل، والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عمر إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً غير فج عمر).
عمر رضي الله عنه وأرضاه القوي الحاكم الرقيق اللين، عمر بن الخطاب الذي لم تلد النساء مثل عمر، الذي قال فيه ابن مسعود: ما علمنا العزة إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه.
عمر عنوان للمكانة والعظمة والدقة والقوة والرقي والسمو في جوانب الحياة كلها في الدنيا والآخرة.
عمر رضي الله عنه وأرضاه قال عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: علته مهابة لم تعل أحداً، ولم أرها على أحد مثل عمر، وقال: كنا نسير خلفه فإذا نظر خلفه وقعت قلوبنا في أرجلنا، والذي يقول هذا هو حيدرة، أشجع الشجعان علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(68/2)
تواضع عمر
عمر كان كله تواضع، ولن ترى تواضعاً مثل هذا التواضع، فتواضع عمر من جوانب عظمة شخصية هذا الرجل الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.
ويوم الجمعة يوم مشهود، ويوم عيد ضيعه كثير من الناس، هذا اليوم الذي فيه ساعة إجابة لا يردها الله جل وعلا أبداً، ومن آداب يوم الجمعة: أن يغتسل المرء، والغسل فيه من السنن المستحبة على الراجح عند الفقهاء، ويرتدي إما ثياباً جديدة أو ثياباً نظيفة، فـ عمر رضي الله عنه نظف ثيابه في يوم جمعة وارتدى ثياباً نظيفة؛ ليصلي بالناس، فهو أمير المؤمنين، ثم ذهب قاصداً المسجد، وكان للعباس ميزاب وذُبح له فرخان في ذلك اليوم، فصب الماء ووافى نزول الماء قدوم عمر رضي الله عنه وأرضاه، فنزل الماء المخلوط بالدم على ثياب عمر، فأمر عمر بقلع الميزاب، ثم رجع إلى بيته فغير ثيابه، ثم قام خطيباً في الناس، فبعدما انتهت الخطبة قام العباس وقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الميزاب -أي: الذي أمرت بقلعه- ما وضعه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: عزمت عليك لتركبن ظهري، ولأحملنك فوق ظهري، ولتضعن الميزاب مكان ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل هذا أمام الجماهير من رعيته تواضعاً.
فأي تواضع هذا تجده في أمير المؤمنين حاكم البلاد، وهو الذي فتح مشارق الأرض ومغاربها؟! ومع ذلك لما قال له العباس: إن هذا الميزاب وضعه رسول الله، قال: لتركبن على ظهري ولتضعنه في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن تواضع الفاروق الذي ما أتت النساء بمثله: أنه خرج في يوم شديد الحر، فالتفع بثوبه وغطى بثوبه رأسه، فوجد غلاماً على حمار، فقال: يا غلام! تحمل مثلي خلفك؟ انظروا إلى التواضع، فلو أن حاكم البلاد رأى رجلاً بسيارة وقال: استأذنك أن تحملني معك؟ فسيترك الرجل السيارة ويترك كل شيء، بل يقبل يده أن يركب هذه السيارة، أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال للغلام: يا غلام! أستأذنك أن تردفني خلفك؟ فأردفه الغلام خلفه ومشى الغلام بالحمار وعمر خلفه، والناس في المدينة ينظرون إلى تواضع هذا الأمير الكريم الذي كان نبراساً لكل أمير، فرضي الله عنه وأرضاه.
وأيضاً من تواضعه رضي الله عنه وأرضاه: أنه مر بالمدينة فأوقفته امرأة فقالت: إيه يا عمر! كنت في مكة تلعب مع الصبيان صغيراً تدعى عميراً، ثم كبرت فدعوت عمر، واليوم إيه يا عمر! يقال لك: أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية يا عمر! فهذه امرأة عجوز تشد وطأتها على عمر وتقول له: إيه يا عمر! اتق الله في الرعية، ثم وعظته ونصحته في الله، فلما وعظته أغلظت له في القول، فقام عامله وقال: يا امرأة! اتقي الله، أما تعرفين من تكلمين؟ فقال: اسكت أما تعرفها؟ هذه المرأة هي: خولة التي سمع الله مقالتها من فوق سبع سماوات، أما يسمع مقالتها عمر؟ وانظروا إلى تواضعه لربه جل وعلا قبل أن يتواضع لهذه المرأة، فرضي الله عنه وأرضاه، فإن من تواضعه ما يؤلف فيه الكتب.
وهذا جانب من جوانب العظمة في شخصيته رضي الله عنه وأرضاه.
ومرة قام رجل فقال لـ عمر: يا عمر! أو يا أمير المؤمنين، إنك أقوى الناس في الحق، وأشد الناس في الصدق، وأشد الناس على المنافقين، والله يا عمر! ما رأينا خيراً منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عوف بن مالك منتفضاً فقال: كذبت والله! فاندهش القوم! قال: بل رأينا من هو خير من عمر، أو قال: كذبت، والله! لقد رأينا بعد رسول الله، فقالوا: من هو؟ قال: أبو بكر، فقام عمر متواضعاً يعطي لكل قدره ويضع الشيء في نصابه، فقال: والله! لقد صدق عوف بن مالك وكذبتم أنتم، كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أطيب من ريح المسك، وكان عمر أضل من بعير أهله! يعني: أن أبا بكر أسلم قبله، فقال هذا تواضعاً منه؛ ليعرف كل إنسان مقدار غيره.(68/3)
اهتمام عمر رضي الله عنه برعيته
من جوانب عظمة عمر رضي الله عنه وأرضاه اهتمامه بالرعية، فقد حمل على كاهله شئون رعيته، فهو أمير المؤمنين، والإمارة ليست تشريفاً، بل هي تكليف، وكثيراً ما كان عمر يقول: وددت أن أخرج منها كفافاً لا لي ولا علي، وكثيراً ما كان يقول: ضع خدي على التراب عل الله يغفر لي.
فانظروا إلى مبادئ عمر وهو أمير المؤمنين كيف يهتم بشئون الرعية، وهو من قال: قوام الحياة الآمنة وقوام العزة وقوام الكرم لا يكون إلا في نصاب الدين، فصب اهتمامه على الأمر الديني، ثم الأمر الدنيوي.
ومن شئون الدولة التي كان يهتم بها عمر جداً: دين الناس، ولذلك قال: لن تنتصر أمة ولن ترتقي أمة ولن يكشف عنها الغمة إلا بالدين، والدين لا يصل الإنسان إليه إلا بالعلم والتعلم، فلذلك نجد عمر رضي الله عنه وأرضاه اهتم اهتماماً كبيراً بالمدارس الفقهية والحديثية والعلم، حتى ينتشر العلم في الأمصار والبلاد، فكان يعظم أهل العلم، ويخرج للناس عظماء لهم القدر الأعلى، حتى يأتسي الناس بهؤلاء ويأخذون منهم العلم، فيرتقون عند ربهم جل وعلا، ويأمنون في الدنيا، ويصلون إلى رضا الله جل وعلا في الآخرة.
وكان أهم ما كان يشغل عمر رضي الله عنه وأرضاه أن ينصب من هو أهل ليعلم الناس، فبعث في الأمصار الصحابة الكرام، وتأسست مدرسة الكوفة ومكة والبصرة، المدارس الفقهية المختلفة كلها كان على رأسها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم باهتمام عمر رضي الله عنه، وكان يبين للناس أن طلب العلم هو أفضل شيء يمكن أن نرتقي به، فكان يقول: المرء يتحمل ذنوبه ثم يذهب إلى مجالس العلم فيرجع كيوم ولدته أمه، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه، والمعنى: أنه إذا جلس في مجلس علم يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فرضي الله عن عمر وأرضاه.(68/4)
اهتمام عمر رضي الله عنه بالتوحيد
اهتم عمر بالعلم وقال: أهم العلوم التي يرتقي بها المرء التوحيد؛ إذ إن العقيدة السليمة هي التي يصل بها المرء إلى الله وإلى جناته دون أدنى حساب، فالتوحيد هو أهم العلوم التي لابد أن ينصب الاهتمام عليه؛ لأن التوحيد أشرف العلوم، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا، فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحافظ على توحيد الله، فقد بعث عمرو بن العاص إلى مصر ونظر إلى العقائد الخربة وحبال الشرك فقطعها، وسد الذرائع عن الشرك، وقد كانت تنتشر في مصر عقائد خربة جداً، هي العقائد الفرعونية التي مازال كثير من الناس يتغنى بها ويفتخر بها.
فـ عمر لما بعث عمرو بن العاص لفتح مصر وفتحها، جاء أهل مصر إلى عمرو بن العاص فقالوا له: عادتنا كل عام في شهر معين أنه بعدما تمر عشرة أيام من هذا الشهر نأتي ببنت فنزينها أحسن الزينة، ونلبسها أحسن الثياب بالحلي والذهب، ثم تلقى في النيل، حتى يجري النيل ولا يحدث الجفاف فيه، فبين عمرو بن العاص أن هذا من الشرك، وأن هذه عقائد خربة لابد أن تقطع، وقال: لا تفعلوا هذا، فلما سمعوا له وأطاعوا ابتلى الله صدقهم فحدث الجفاف، ولم يجر النيل، فبعث عمرو إلى عمر مستشكلاً، وقال: القصة كذا وكذا وكذا، فقام عمر فأثنى على عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه بين لهم العقيدة الصحيحة، ثم كتب بطاقة وكتب كتاباً على هذه البطاقة، وقال لـ عمرو بن العاص: إذا وصلت هذه البطاقة فألقها في النيل، ففتح البطاقة فوجد فيها التوحيد الخالص الذي يبين أن العبودية هي رأس الأمر، وجد فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، وأما الذين يتغنون به ويقولون: مصر هبة النيل، فهذا شرك محض، وهذا من الألفاظ التي لابد أن تعدل في أفراد المسلمين، فمصر هي هبة الله جل وعلا، والنيل هبة الله، والذي يهبنا الحياة هو الله جل وعلا، والذي يهبنا الرزق هو الله جل وعلا النافع الضار.
فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه انبرى ليحقق كامل التوحيد، فقال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، إن كنت تجري بأمرك فلا تجر ولا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الواحد القهار فنسأل الله أن يجريك.
هذا هو التأسيس الصحيح للعقيدة، فالنيل لا يملك شيئاً، ولا أحد يملك شيئاً، وأنا وأنت لا أحد منا يملك لأحد شيئاً، حتى كبيري في العمل لا يملك لي شيئاً، بل لا يملك لنفسه شيئاً، ولا أحد في هذه الدنيا يملك لأحد شيئاً، لا دول تتحكم في مقدرات الناس، ولا أشخاص ولا جماعات ولا طوائف، فالله جل وعلا هو النافع الضار، وهو المعز المذل، ولذلك قام عمر يؤكد أصول التوحيد التي إذا أثرت في القلوب انتهى الظلم، وارتقى المرء وارتفع عند ربه جل وعلا، وتحققت كل الأماني، فقال مخاطباً النيل: إن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بأمر الله فنسأل الله جل وعلا أن يجريك، وما إن ألقيت هذه البطاقة إلا وأجرى الله النيل عشرة أذرع وكثر كثرة لم يعهدها مثلها؛ كرامة لتحقيق التوحيد من عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهذه القصة مشهورة جداً، وما ذكرتها إلا لشهرتها، وفي إسنادها ابن لهيعة وهو مختلف في تجريحه وتوثيقه.
ومن جوانب حب عمر للتوحيد وسده ذرائع الشرك: أنه كان إذا طاف بالكعبة مضى إلى الحجر فقبله، ثم قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر.
حتى يظهر للناس أن النافع الضار هو الله، وأن المعز المذل هو الله جل وعلا، فقال: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك فقبلتك، فقعد قواعد عظيمة في التوحيد: أما الأولى فهي قاعدة مهمة في قلوب الناس: فإن النافع الضار هو الله جل وعلا، فابتهل لربك وتذلل إلى ربك ولا تعتقد إلا في ربك، لا تعتقد في البشر، فهم لا ينفعونك ولا يضرونك.
القاعدة الثانية: التسليم التام لأوامر الله جل وعلا، فإذا أمر الله بالسجود لبشر نسجد للبشر؛ لأن الله أمر به، كما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم مع أن السجود لا يكون إلا لله، لكن كان السجود امتثالاً لأمر الله جل وعلا، وإذا أمر الله جل وعلا بتقبيل الحجر فيقبل الحجر إرضاءً لله جل وعلا.
أيضاً من مظاهر حب الفاروق للتوحيد: أنه كان بعض التابعين يريدون التبرك بشجرة موقعها من أهم المواقع، وهذه الشجرة هي التي حدثت عندها بيعة الرضوان، وذلك لما أنبئ النبي صلى الله عليه وسلم بأن عثمان رضي الله عنه قد قتل، فبايعهم على الموت، وأنزل الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فكان كثير من التابعين وكثير ممن يعرفون فضل هذه الشجرة يذهبون فيصلون عند هذه الشجرة، فأراد عمر رضي الله عنه أن يقطع دابر الشرك؛ لأن هذا من باب التبرك الممنوع.
فالتوحيد مهم جداً، والله! ما ننتصر إلا بالتوحيد، ولا نرتقي إلا بالتوحيد، ولا ترفع عنا الغمة إلا بالتوحيد: لأن الله جل وعلا ما أنزل الكتب إلا للتوحيد، وما أرسل الرسل إلا للتوحيد، والله ما رفع علم الجهاد إلا للتوحيد.
واليهود لعنة الله عليهم جميعاً هم الذين وضعوا الشرك وأسسوه في الأمم، وقد كان المشركون يتبركون بشجرة، ويقولون: النصر من عندها، فقال بعض الصحابة الذين كانوا حديثي عهد بالجاهلية: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138])، فبين أن هذا من الشرك، فـ عمر كان يخشى من ذلك، وكان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرج على الصحابة، وقال: (الله أكبر! قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) فقطع هذه الشجرة وقطع دابرها حتى لا يتبرك بها؛ إعلاناً لكلمة التوحيد، فرضي الله عن الفاروق الذي حافظ على جناب التوحيد.
ومن جوانب العظمة لهذا الشخص العظيم: أنه عزل خالداً أيضاً؛ حفظاً لجناب التوحيد، فإنه لما تولى الخلافة بعث إلى خالد يعزله من إمارته، فلما عوتب: كيف تغمد سيفاً سله رسول الله، بل سله الله جل وعلا قبل أن يسله رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فاعتذر للناس بوجاهة، وبعلم دقيق وفقه عالٍ، فقال: رأيت الناس قد افتتنوا بـ خالد.
يعني: لأنه ما في معركة دخل فيها خالد إلا وجعل الله النصر على يديه حتى في الجاهلية.
ففي غزوة أحد كان خالد رضي الله عنه وأرضاه سبب الهزيمة للمسلمين، قال: فأردت أن يعلموا أنه بصنيع الله لا بصنيع خالد، فعزله حماية للتوحيد حتى لا يفتتن به الناس.(68/5)
اهتمام عمر بعبادات الناس
ومن جوانب العظمة في شخصية عمر أنه اهتم بعبادات الناس بعدما اهتم بالتوحيد الخالص؛ لأنهم لن يصلوا إلى ربهم جل وعلا إلا بتوحيد خالص ولن يرتقوا عنده إلا بتوحيد خالص، فاهتم بعبادات الرعية واهتم بالدين؛ فإن الدين هو الذي يأتي بالنصر، وكان صلاح الدين الأيوبي يمر على جنوده فينظر: إن رآهم في قيام الليل وقراءة القرآن وذكر الله قال: من هنا يأتي النصر، وإن مر عليهم فوجدهم يمرحون ويلعبون قال: من هنا تأتي الهزيمة، وما من قائد عسكري كان من لدن الخلافة التي جابت مشارق الأرض ومغاربها إلا كان يهتم بالعبادة.
وإذا نظرنا في انتصاراتهم ومحصنا النظر وقرأنا في التاريخ نرى أنه لا يمكن أن ينتصر إلا أن يُعْبِّد الناس لله جل وعلا، ثم يذهب بعد ذلك إلى القتال، والله جل وعلا يجعل النصر لأهل الإسلام، فكان يقول: عبادة الناس هي التي تأتي بالتمكين للحق، وبالنصر للحق، فكان يهتم بأهم العبادات وبالركن الرصين والأصل الأصيل لهذا الدين وهو الصلاة، ويضرب عليها، ويضرب على الخشوع فيها، بل جمع الناس لصلاة التراويح، ولما نظر إلى المسجد ووجده يؤمه رجل واحد، ووجد الناس يصلون مع هذا الإمام، قال: نعمت البدعة هي، ويقصد بذلك المعنى اللغوي.
وكان يضرب على الخشوع وكان هو يخشع بلسان الحال، فمرة صلى بالناس في الفجر فقرأ من سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فبكى بكاءً شديداً حتى سمع نحيبه من آخر الصفوف، فرضي الله عنه.
وكان يعدد الطرق للعبادات، فلعبادة الحج كان من المسارعين، فقد حج مع الناس عشر سنوات، وعلم الناس مناسك الحج، وفي الزكاة وفي الصوم كان يحث الناس على الزكاة، ونشر الدواوين، وكان يهتم بإبل الصدقة، وهو الذي أمر بوسم إبل الصدقة ليميزها عن غيرها.(68/6)
اهتمام عمر بأحوال رعيته الدنيوية
كانت اهتمامات عمر بن الخطاب لرعيته بأمر دينهم أهم شيء، فإذا تولى الإمارة قال: دين الناس أولاً، ثم دنيا الناس ثانياً، فلما اهتم بدين الناس ورأى الناس قد أتموا هذه العبادات بدأ في الاهتمام بأمر دنياهم، وأمر الدنيا هي: معاملات، فكان يدخل السوق ومعه الدرة ينظر إلى الباعة فيقول للبائع: تعلمت فقه البيوع؟ فإذا قال له البائع أو المشتري أو التاجر: لا، ضربه بالدرة وقال: وقعت في الربا لا محالة.
وكان دائماً يذكر الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار، إن التجار يوم القيامة يأتون فجاراً إلا من صدق وبر)، فمر على رجل قد غش اللبن، جعل مع اللبن الماء، فأراق كل اللبن تعزيراً له، ولذلك استند العلماء الذين يقولون بجواز التعزير بالمال إلى فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وكان يحث الناس على التجارة، يقول: اتجروا في الأموال حتى لا تحتاجوا إلى مثل هؤلاء، فلا تحتاج إلى كافر، أو تحتاج لرجل أقل منك أو أدنى منك، فيقول لأصحاب الوجاهات: اتجروا بهذه الأموال، فاهتم بالمعاملات، واهتم بنشر فقه البيوع رضي الله عنه وأرضاه حتى تسلم دنيا الناس.
وكان يأمر عماله أن يعلموا الناس فقه البيوع، ودخل الأسواق فوجد الاحتكار فمنع الاحتكار، ومنع الغش، ولم يسعر، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قعد هذه القاعدة لما قالوا له: (سعر لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، وإني أرجو أن آتي يوم القيامة وليس لأحد عندي مظلمة).(68/7)
حراسة عمر رضي الله عنه لرعيته
من اهتمامه برعيته أنه كان يحرسهم ليلاً مع أن الحراسة كانت للشرطة، وهي التي لها الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن عمر كان هو الذي يحرس رعيته رضي الله عنه وأرضاه، ويضرب أروع الأمثلة في الحفاظ على الرعية، فكان يعس ليلاً، يدور ليحرس الرعية، وكان من ثمار هذا الحفظ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان يسد الخلة عن الناس ويحفظ الأعراض.
فقد مر ليلاً ببيت فسمع امرأة تتكلم وتقول: ألا سبيل إلى خمر فأشربها أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج؟ فاندهش من هذا البيت الذي يدعو للريبة من امرأة مسلمة تطلب كأساً من خمر أو تطلب رجلاً يسمى نصر بن حجاج، فلما أشرق الصبح قال: ائتوني بـ نصر بن حجاج، ففتشوا المدينة حتى أتوه بـ نصر بن حجاج، يقول الراوي: فرآه أصبح الناس وجهاً -أي: أجمل الشباب- وأحسنهم شعراً، فقال له -حفظاً على الأعراض-: احلق شعرك، فحلق شعره فوجده أجمل مما كان، فقال له: تعمم، فصار أجمل مما كان، فقال: ستفتتن النساء بمثل هذا الرجل، فبعدما وجد الجمال منه في كل حالة أمر بأن يرحل إلى البصرة حيث الجهاد؛ حتى لا يهتم بنفسه ولا تفتن به النساء، عمل هذا حفظاً على رعيته.
وأيضاً: مر ذات ليلة على امرأة فسمعها تقول بعدما أرخى الليل سدوله: تطاول هذا الليل واسود جانبه وليس إلى جنبي ضجيع ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فرأى امرأة تشتاق إلى رجل وتقول: سيتحرك السرير لولا تقوى الله جل وعلا، فخشي على رعيته من الزنا، فسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن صاحب هذا البيت، فقالوا: هذا البيت لفلان، وسأل عن زوجته فبعث إليها، وقال لها: سمعت منكِ كذا وكذا، ما بالك تقولين هذا؟ فبينت له أن زوجها قد ابتعد عنها أشهراً عديدة ولم تستطع الصبر، فذهب إلى حفصة -وهنا أخذ الفقهاء قاعدة في بعد الرجل عن زوجته- فقال: يا ابنتي! ما المدة التي تحتمل فيها المرأة البعد عن زوجها؟ فطأطأت رأسها حياءً من أبيها، قال: عزمت عليكِ أن تقولي، فقالت: أربعة أشهر، فحددت أن الرجل لا يبتعد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر، ومع أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن عمر أراد أن يحافظ على رعيته ويحافظ على دينهم، فكتب: لا يغزون أحد فوق أربعة أشهر، ولا تخرج سرية فوق أربعة أشهر، فعل كل هذا حفاظاً على الرعية.
وأيضاً: لما كان يعس ليلاً جاءت رفقة فنزلت بالمصلى، فقال لـ عبد الرحمن بن عوف: ما رأيك أن نبيت نحرسهم؟ قال: نعم، فذهب معه عبد الرحمن، فسمع عمر بن الخطاب بكاء طفل، فذهب إلى أمه قال: يا امرأة! أما تتقين الله في هذا الطفل أو هذا الصبي؟ وتركها وذهب، حتى إذا كان آخر الليل وهو ما زال يسمع البكاء فذهب إليها فقال: والله! إنكِ أم سوء، كيف لا تتقين الله في هذا الصبي؟ فقالت: يا رجل! إليك عني، إني أشغله عن الرضاع ولا ينشغل، قال: فلمَ لا ترضعينه؟ قالت: فطمته، قال: ولم تفطميه؟ فقالت: إن عمر لا يكتب الفرض -أي: لا يعطي عطاء بيت مال المسلمين- لكل مولود في الإسلام إلا إذا فطم، فـ عمر بن الخطاب حدد العطاء للذي يفطم، فكانت بعض النساء التي ترضع ابناً تفطمه قبل الحولين حتى تأخذ المال، فقال لها: لا تفطميه، ثم صلى بهم الصبح، وبعد أن صلى بكى بكاءً شديداً، ثم قال: ابعثوا في الأمصار: كل مولود فطم أو لم يفطم فله حصة كذا وكذا، ثم قال: يغفر الله لـ عمر كيف قتل أولاد المسلمين، أو كم قتل من أولاد المسلمين؟ فهذا من باب حفظه على رعيته وعدله معهم رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أيضاً يعس ليلاً، ومن فوائد هذه الحراسة ليلاً أنه سمع امرأة تقول لابنتها: ضعي على اللبن الماء، فقالت: يا أماه! اتقي الله، أما علمتِ أن أمير المؤمنين قد حرج على ذلك أو حرم هذا؟ فتحريم الأمير إن كان لا يخالف الشرع يجب اتباعه، فقالت: قد حرم أمير المؤمنين ذلك، فقالت لها: أين أمير المؤمنين الآن؟ فقالت البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فإن رب أمير المؤمنين يرانا! فأعجب عمر بذلك، وزوجها بابنه، فخرج من هذا النسل الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه ورضي الله عن الصحابة أجمعين.(68/8)
ورع عمر رضي الله عنه وخوفه
كان دأب عمر في رعيته حفظ دينهم أولاً بالتوحيد، ثم بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم حفظ أعراضهم، وحفظ أموالهم.
وارتقى حفظ عمر وانشغاله بالرعية من بني آدم إلى الحمير والغنم والإبل، فبعدما حفظ رعيته من بني آدم قال: الإبل والبهائم لها علينا حق، فما ترك حق البهائم، وهو الذي قال الكلمة المشهورة التي كل مسلم دائماً يلوكها في فمه، وهي: لو عثرت دابة في العراق لسئل عنها عمر.
ويقال: إن عمر نظر إلى جمل فوجد عليه إعياءً وعرقاً شديداً، فأخذ يده على ذفره وقال: اسكن اسكن، أخشى والله! أن يسأل عمر عنك! واشتهى عمر مرة سمكاً طرياً، فقال لعامله: اشتهيت السمك، فذهب يبحث له عن السمك وبقي ليلتين ذهاباً وإياباً حتى أتاه بالسمك، فشق على الجمل، فقال: ذهبت تأتي بهذا السمك ليلتين على هذا البعير؟ قال: نعم، قال: عذبت بعيراً من أجل شهوة بطني، والله! لا آكله أبداً، وحرمه على نفسه طاعة لله جل وعلا.
وكان يرفق كثيراً بإبل الصدقة، وكان هو الذي يعاملها، فقد دخل عليه رجل فوجده يسم إبل الصدقة -أي: يميزها عن غيرها من الإبل بعلامة- فقال: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين! أما كان عبد من عبيد الصدقة يقوم بذلك عنك؟ فقال له عمر بن الخطاب: أو عبد غيري؟ يعني: أن حق الأمير على الناس أن يكون لهم خادماً.
فرضي الله عن عمر ورضي الله عن الصحابة أجمعين، وهذه جوانب من باب جوانب العظمة في شخصية هذا الرجل الفذ الذي يعد أمة وحده.(68/9)
تعامل عمر مع أهل الكتاب
من جوانب هذه الشخصية تعامل عمر رضي الله عنه مع أهل الكتاب، وهذا سنفصله تفصيلاً تاماً بإذن الله في الدرس القادم، ولكن نذكر نتفاً صغيرة منه؛ فقد كتب عمر بن الخطاب إلى حذيفة يشدد عليه الوطأة لما أرسل إليه حذيفة: إني قد تزوجت امرأة من أهل الكتاب -امرأة يهودية- فقال له: أنكحت المومسات وتركت المسلمات؟ وشد عليه الوطأة، حتى بعث إليه حذيفة فقال: يا أمير المؤمنين! أحرام النكاح من أهل الكتاب؟ فبين له المسألة الفقهية، وسنسرد الكلام الذي كان بين حذيفة وبين عمر، حتى نزل حذيفة على أمره وطلق هذه المرأة.
وأيضاً: لما جاءه أبو موسى الأشعري بعامل من النصارى يعمل عنده، فلما دخل عليه أبو موسى يبين له الكتب لم يدخل معه، فقال له: لِمَ لم يدخل هذا الرجل، أجنب هو؟ فقال له: لا يا أمير المؤمنين! قال: لِمَ لم يدخل المسجد؟ قال: هو نصراني، فغضب عليه غضباً شديداً، وقال: كيف تكرمونهم وقد أهانهم الله؟ وكيف تقربونهم وقد أبعدهم الله؟ ثم قال له: والله! ما رأيت أكفأ منه، فقال له: عليك بالمسلم، وقال له عمر حاسماً للمادة منهياً للقضية: مات النصراني -أي: اعتبر النصراني مات- وانظر إلى مسلم يقوم مقامه.
وسنبين كيف أجلاهم، وكيف عاملهم، وكيف فتح البلاد، وكيف أنه عبدهم لله جل وعلا ولم يخضع لهم رضي الله عنه وأرضاه، وسنبين كل هذا في الدرس القادم بإذن الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(68/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل عثمان بن عفان
عثمان بن عفان رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الثالث، وله فضائل كثيرة، ومناقب عديدة، وأعمال عظيمة، من أعظمها أنه جمع القرآن على حرف واحد، وأنقذ الله به الأمة من الاختلاف في وجوه القراءات، وقد قتل صابراً محتسباً مظلوماً شهيداً، فرضي الله عنه وأرضاه.(69/1)
ترجمة عثمان بن عفان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: نحن على موعد مع ثالث الخلفاء الراشدين، مع الذي استحيت منه الملائكة، إن فضائله جمة، فقد ثبته الله جل وعلا، وقتل صابراً محتسباً شهيداً مظلوماً، وارتقى عند ربه جل وعلا، وحظي بالمكانة السامية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ختن رسول الله الذي فضله النبي صلى الله عليه وسلم على كثير من أصحابه وزوجه بابنتيه، وورد في بعض الروايات التي يتسامح فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كانت عندي الثالثة لزوجتك إياها)، نحن مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.(69/2)
اسمه ولقبه وكنيته
عثمان بن عفان بن أبي العاص يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد الرابع ابن عبد مناف.
وكان أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بست سنوات.
لقب بـ ذي النورين، لقبه به كثير من الصحابة، بل إن علي بن أبي طالب لما سئل عنه قال: هذا الرجل يدعى عند أهل السماء بذي النورين، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقب بهذا اللقب؛ لأنه تزوج بـ رقية ثم بـ أم كلثوم رضي الله عنهم أجمعين، وقد تزوج بـ رقية قبل النبوة والمبعث ثم في غزوة بدر مرضت مرضاً شديداً وامتنع من حضور بدر بسبب تمريض بنت النبي صلى الله عليه وسلم بأمر منه، وماتت في وقت غزوة بدر، وضرب الله له بسهم في غزوة بدر، فلما ماتت زوَّجَه النبي صلى الله عليه وسلم بـ أم كلثوم رضي الله عنه وأرضاه.
أما كنيته فكان يكنى بـ أبي عمرو، وقيل: كان يكنى بـ أبي ليلى لرقته ودماثة خلقه ولين جانبه رضي الله عنه وأرضاه، فلما ولدت له رقية عبد الله كني به رضي الله عنه وأرضاه.
فضائله جمة لا تحصر لكن سنتكلم بإيجاز عن فضائله، ثم عن الفتوحات التي كانت في عصره، وفي جوانب عظمة شخصيته، ثم فتنة مقتله، ونبين أن فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه فتنة كبيرة جعلت هذه الأمة تحلب دماً بدلاً من اللبن بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه.(69/3)
فضائله
كان عثمان رضي الله عنه وأرضاه زاهداً ورعاً عابداً فقيهاً عالماً، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وخمسين حديثاً، وكان رضي الله عنه وأرضاه -كما اتفق الصحابة- من أعلم الصحابة على الإطلاق بالمناسك، ويخلفه بعد ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان من فقهاء الصحابة فهو عالم فقيه محدث، وكان عابداً لله جل وعلا قانتاً له، لا يترك صيام النهار عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً).
فكان صواماً للنهار قواماً لليل، حتى أثر عنه أنه كان يختم القرآن في ليلة واحدة في ركعة واحدة.
ولما حج بالناس قام في الحجر من العشاء إلى الفجر يختم القرآن، وقد أنزلت فيه الآيات كما جاء ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب في قول الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] قال ابن عمر: هذه في عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
فكان قواماً لليل صواماً للنهار، ويكفيه أنه الذي بين لنا كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أنه أخذ تنوراً فيه الماء فغسل يديه ثلاثاً، ثم مضمض واستنشق ثلاثاً، ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه وغسل رجليه ثلاثاً ثم قال: توضأ رسول الله نحو وضوئي) يعني: هذا الوضوء بالضبط هو الذي توضأه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من فقهه ودقة نظره لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه).
والمعنى لا يفكر في أمور الدنيا ولو هجمت عليه أمور الدنيا سارع بردها، حتى يفرغ قلبه لله جل وعلا ولتدبر الآيات.
قال: (غفر له ما تقدم من ذنبه).
فرضي الله عن عثمان الذي بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفائدة العظيمة.
وكان سخياً كريماً زاهداً رضي الله عنه وأرضاه.
جواداً كريماً فالجود والكرم كانت من خلاله، وكان الحياء مع الجود والكرم صديقان له ملازمان لشخصيته، والحلم والأناة كانت من صفاته أيضاً، فـ عثمان بن عفان كان من أجود الناس، أنفق كل ماله في سبيل الله، وكان له السبق في الإسلام والهجرة كما سنبين، وبعد الهجرة واجهت المسلمين مشكلة أيما مشكلة، وهي مشكلة الماء، فقد قدر الله بحكمته أن الماء يكون في يد خبيث لعين من أحفاد القردة والخنازير، وهي بئر رومة، فقد كان يمتلكها يهودي، وكان يرفع السعر على المسلمين فيشترون منه الماء بثمن غالٍ، فاشتد ذلك عليهم وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشرفت نفسه إلى من يجود بما معه من المال ليشتري هذا البئر للمسلمين ويكفيهم مئونة الماء، فعلم عثمان بن عفان بحكمته رضي الله عنه وأرضاه ماذا يريد رسول الله، فذهب فساوم اليهودي على بئر رومة، فما أراد الرجل أن يبيعها له على الإطلاق، فقال: تأخذ أنت نصفها وأشتري أنا نصفها، فاشترى نصفها باثني عشر ألفاً، ثم أوقف النصف الذي اشتراه على المسلمين، فالبئر تكون يوماً لـ عثمان ويوماً لليهودي، فكان اليوم الذي لـ عثمان يأتي المسلمون فيأخذون من الماء ليومين، ويصبح اليوم الذي يمتلكه اليهودي فارغاً لا يأخذ منه ماء ولا ينتفع به، فلما علم اليهودي أن المسلمين أوقعوه في حفرة لا يخرج منها ذهب فساوم عثمان على النصف الآخر والشطر الآخر فاشتراه منه وأوقفها كاملة في سبيل الله جل وعلا، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يشتري بئر رومة وله الجنة؟).
فحازها عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
ولما اشتد بالمسلمين البأس في تجهيز جيش العسرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استنصر الناس لينفقوا على الجيش الذي سيذهب لتأديب أتباع الروم، فجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وما عليها، وبأموال طائلة وضعها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وسر النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر الفرح على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى عثمان وقال: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم).
وهذا يقطع ألسنة كل من أخذ على عثمان رضي الله عنه وأرضاه أي مأخذة، فأي فعل يفعله يغمر في ميزان حسناته رضي الله عنه وأرضاه.
وهو من السابقين إلى الإسلام فقد سبق إسلامه ستة أو سبعة فقط، وكان إسلامه على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان عثمان ذا عقل راجح فذهب إليه أبو بكر ليدعوه إلى الإسلام فقال: ويحك يا عثمان! أتعبد صنماً لا يضر ولا ينفع وتترك رب الأكوان؟ فأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلمة واحدة تؤثر في القلوب النقية، أما القلوب القاسية فهي بعيدة أبعد ما تكون عن الله جل وعلا، ولذلك دائماً أنا أقول: محل مقياس الناس ومقامات الناس عند رب الناس هو نقاء القلوب، ولذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه ما لبث أن سمع الكلمة حتى رق قلبه للإسلام، فدخل على رسول الله بقلب صاف نقي فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان! أجب داعي الله إلى جنته).
فبكى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فالقلوب النقية البيضاء الصافية تدخل إلى دين الله جل وعلا، فكان رضي الله عنه وأرضاه ذا عقل راجح وقلب نقي.
وكان مع هذا اللين والرقة شجاعاً، والشجاعة تظهر عند الحزم في الأمور، وعندما يكلف بمهمة يتقاعس عنها أشجع الناس فتظهر شجاعته، وهذه الشجاعة ظهرت جلية في السفارة عند صلح الحديبية، وذلك لما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب أن يكون سفيراً إلى قريش يبين المسألة التي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر عمر، ثم كلف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان فذهب عثمان حتى أن بعض الصحابة اغتبط عثمان في ذلك وقال: هنيئاً له سيطوف بالبيت، ولننظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يظن في عثمان، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا والله! لا يطوفن البيت قبل أن نطوفه) ولما ذهب عثمان إلى مكة رأى البيت وهو متشوق إلى أن يطوف بالبيت فقال: لا أطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف به، ومنع نفسه الطواف.
والمقصود أنه قبل أن يكون سفير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش، وهذه من بطولاته وشجاعته.
ومن شجاعته الحازمة أيضاً أنه جمع القرآن في مصحف واحد وهو مصحف عثمان الذي وحد الله به الأمة، وهذه من المآخذ التي أشعلوها فتنة عليه كما سنبين.
والمقصود أن فضائل عثمان كثيرة جداً، فله المكانة السامية السابقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة وهو يمشي على رجليه بين أظهر الناس، وفي الحديث: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم على جبل أحد فاهتز به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اثبت أحد، ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان).
وكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان بن عفان، فأما عمر وعثمان فكانا شهيدين رضي الله عنهما.
وأيضاً قيل في رواية أخرى: (وقف النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فاهتز فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما عليك إلا نبي وصديق وشهيد).
وشهيد هنا نكرة في سياق النفي فتعم، فكأن المعنى: كل من عليك شهيد، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات شهيداً، وأبو بكر مات شهيداً أيضاً، وعمر وعثمان وطلحة كل هؤلاء ماتوا شهداء كما في وقعة الجمل.
والنبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة لما كان أبو موسى بواباً له ففي الحديث: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، فقال أبو موسى: سأكون بواباً لرسول الله اليوم، فجاء أبو بكر يستأذن فقال أبو موسى: انتظر، فدخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: أبو بكر.
قال: ائذن له وبشره بالجنة.
فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً في الحائط تتدلى رجله في الماء، فجلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم على يمينه وأدلى برجله في الماء، ثم جاء عمر يستأذن.
فقال أبو موسى: مهلاً، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قال: عمر.
قال: ائذن له وبشره بالجنة.
فبشره بالجنة ودخل وجلس في الجانب الأيسر للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه فاستأذن فقال أبو موسى: مهلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من؟ قال: عثمان.
قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه).
وهذه البلوى كما سنبين في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم بينها أيما بيان لـ عثمان نفسه.
(فدخل عثمان فتغير وجهه وقال: الله المستعان).
يعني: سيبشر بالجنة على بلوى تصيبه (فدخل عثمان ثم جلس مقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ففي مسند أح(69/4)
مبايعته بالخلافة
لما مات عمر بويع عثمان بالخلافة، واختلف كيف بويع عثمان هل بالتنصيص أم بويع له رضي الله عنه وأرضاه بالاختيار؟ والصحيح الراجح أنها كانت بالاختيار؛ لأن عمر بن الخطاب قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم كتب الستة الذين مات عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم وهم: سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وعلي، وكأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يلمح بـ سعد بن أبي وقاص فقد قال: وإن ولي هذا فهو لها.
يعني: هو الجدير بالخلافة، وقال: لم نعزله لخيانة أو عجز.
فكان يرى أن أصلح الناس للخلافة هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان يرى في عثمان اللين، وكان يقول في علي: إن تولاها علي ففيه دعابة، ولكنه سيحملهم على الحق.
وكان يرى في عبد الرحمن بن عوف أنه أمين وإيمانه يعدل نصف إيمان الأمة، لكنه لين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (إنك رجل ضعيف وإنها أمانة ويوم القيامة تكون حسرة وندامة).
فأشار إلى ذلك وألمح، وقال لهؤلاء الستة النفر: عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه شاهد لكم ويحكم بينكم، يعني يفصل بين الأقوال، ثم أعطى الزبير وطلحة صوتهما لـ علي بن أبي طالب وعثمان، وبقي عبد الرحمن بن عوف فقال: أيكم ينخلع عنها؟ فسكت علي وسكت عثمان، حتى أنهما تقدما ليصليا على عمر فقال عبد الرحمن: ارجعا كلاكما يريد الخلافة، يصلي عليه صهيب حتى يفصل في النزاع، فسكت، فقال عبد الرحمن: أتولاها أنا، فمر على الصحابة فوجد أن الصحابة لا يفضلون على علي وعثمان أحداً، فانفرد بـ علي فقال: أخذت عليك ميثاق الله إن لم تأتِ إليك الخلافة من تولي؟ قال: عثمان.
ثم ذهب إلى عثمان وقال: إن لم تكن الخلافة لك من تراه يكون؟ قال: علي.
فذهب عبد الرحمن بن عوف فدار على بيوت الأنصار وذهب على أصحاب رسول الله، حتى ذهب إلى النساء في خدورهن فما عدلوا بـ عثمان أحداً.
وهذا يعتبر إجماعاً من صحابة رسول الله على أن أفضل الأمة بعد أبي بكر وبعد عمر هو عثمان، وهذا هو الراجح الصحيح، وإن خالف بعض أهل السنة والجماعة ففضل علياً على عثمان، لكن الراجح الصحيح أن عثمان بن عفان هو أفضل هذه الأمة بعد العمرين رضي الله عنهم أجمعين.
وعبد الرحمن بن عوف ذهب إلى منبر رسول الله ونادى علياً، فجاءه علي فقال: ابسط يدك فبسط يده.
قال: تبايعني على أن تحكم كتاب الله وتتبع العمرين يعني أبا بكر وعمر؟ قال: لا آلو إلا أن أكون تبعهم على قدر استطاعتي، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فسحب يده ثم قال لـ عثمان: قم.
فقام عثمان فبايعه على نفس ما بايع علياً فقال: اللهم نعم.
فبايعه، ثم كان أول من بايع عثمان علي بن أبي طالب، واستتم الأمر بفضل الله تعالى على عثمان، وأصبح أميراً للمؤمنين بعد الأيام الثلاثة التي جعلها عمر بن الخطاب ليختاروا لهم فيها أميراً عليهم.
ولما تأمر عثمان في الست السنين الأولى اغتبط به الناس، وقدموه على عمر وفرحوا به أيما فرح، وكان لين الجانب رضي الله عنه وأرضاه، وكان عمر قد حبس الصحابة في المدينة وقال: لا يخرج منكم أحد، حتى في الفتوحات الكثيرة التي فتحت للمسلمين، فقد خشي عمر على أصحاب رسول الله أن تأخذهم الدنيا عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
رضي الله عنه وأرضاه، لكن عثمان فتح لهم الأبواب وخرجوا في الأمصار، فبعد السنوات الست أشعلت الفتن، وهذا الذي سنختم به الكلام على عثمان.(69/5)
جوانب العظمة في شخصية عثمان
جوانب العظمة في شخصية عثمان كثيرة منها: أولاً: الاهتمام بالدين عن طريق عمارة المساجد، فقد اهتم بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه البناء بالحجارة والنقش، وزاد في بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليه ذلك وقيل له: كيف تفعل هذا ولم يفعله أبو بكر وعمر؟ فاحتج عليهم بفقهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى مسجداً لله ابتغاء وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة).
فكان أول من اهتم بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسعة المسجد.
ثانياً: لما رجع حذيفة من معركة نهاوند مع الفرس بين له أن العراقيين يقرءون بلغة والمغاربة يقرءون بقراءة، والقرشيون يقرءون بقراءة، فخشي من تشرذم الأمة وأن تظهر العصبية الجاهلية، فأشار على عثمان أن يجمع المصاحف كلها على مصحف واحد، فاستعان عثمان بـ زيد بن ثابت وغيره من الصحابة الذين كانوا يحفظون كتاب الله جل وعلا وقال: إذا اختلفت القراءات فاجمعوها على قراءة قريش، وحملهم كلهم على مصحف واحد وهو مصحف عثمان رضي الله عنه وأرضاه الذي بين أيدينا الآن، وهذه من فضائله رضي الله عنه وأرضاه.(69/6)
الفتوحات في عصر عثمان
الفتوحات في عصر عثمان لم تكن كثيرة لكنها كانت إتماماً لفتوحات عمر، وكان هناك القمع للتمرد الذي حدث بعد موت عمر، فلما مات عمر وتولى عثمان كان كبير السن، فقد كان يكبر النبي صلى الله عليه وسلم بسبع سنين فقط، وكان أكبر من عمر بن الخطاب، فكان شيخاً كبيراً عندما بويع له، فلما تولى عثمان الخلافة قال الفرس والروم: لا بد من إعادة الأمجاد، وتمردوا على الأمة الإسلامية، وابتدءوا يتحركون في الفتنة.
وأفضل ما حدث وما يكتبه التاريخ ويسطره بماء الذهب لـ عثمان أنه أنشأ أسطولاً بحرياً للأمة الإسلامية، فـ عمر بن الخطاب خشي هذه الخطوة لما ذكر له السفن ورجال البحر وما أمر به لكن عثمان في عصره أنشأ أسطولاً بحرياً يقاتلون به، والمعركة التي دارت في البحر هي أشهر المعارك في العالم وهي ذات الصواري فقد كانت بين المسلمين وبين الروم، حتى أن المسلمين تشاوروا معهم أن يجعلوا المعركة على ظهر الأرض فأبوا فذهب المسلمون فربطوا سفنهم بسفن الروم ثم تجالدوا بالسيوف حتى أثخنوا قسطنطين قائد الروم بالجراح وفر، ونصر الله المسلمين.
وفي الجهة الغربية كانت أيضاً معارك مع الروم، وأقوى وأروع ما يقال في هذا أن قائداً للمسلمين اسمه حبيب بن مسلم الزهري فقد كان مغواراً مقداماً شجاعاً، وكان في عشرة آلاف يعقد الألوية، فجاءه الروم بثمانين ألفاً، ثم طلب المدد فوصل إلى ثمانية عشر ألفاً، فلما عقد الألوية جاءته زوجته، فقالت: يا حبيب! أين ألقاك إذا حمي الوطيس وهاجت الرياح؟ -فانظروا الثابت- قال لها: اللقاء بيني وبينك في خيمة قائد الروم أو في الجنة، وانظروا إلى الثبات والقوة، يعني: إنه سوف يشق الصفوف قتلاً فيهم حتى يذهب إلى قائد الروم فيقتله لله جل وعلا، وفي المعركة ثمانية عشر ألفاً مقابل ثمانين ألفاً يتصارعون بالسيوف، وكتب الله النصر للمسلمين، وقابلته زوجته في خيمة قائد الروم بفضل الله جل وعلا عليه.
فتمت الفتوحات وتسنى الأمر لـ عثمان.(69/7)
الإرهاصات قبل حادثة مقتل عثمان
بعد الست السنين الأولى حدثت الشائعات والفتن، وظهر المغرضون والمفتونون والمأثومون الذين أرادوا قتل عثمان، وحسدوا وحقدوا هذه الأمة الإسلامية، وأرادوا هدم عروش هذه الأمة التي دانت لها الدنيا بأسرها، فبدءوا يشعلون نيران الفتنة، فأتوا بشبه على عثمان حتى يرتقوا إلى خلع عثمان أو قتله وهذه الشبه هي: شبه في شخصية عثمان، ثم شبه دينية، ثم شبه سياسية في التعامل والإدارة، ثم شبه في التعامل مع الأفراد والأسرى، وأنا ألخص ما قاله ابن تيمية فـ عثمان غير معصوم، هذا الأصل، فإذا أخطأ أخطأ وهو غير معصوم لكن عثمان سبق الناس لفضله، وعثمان هو ذو النورين الذي تستحيي منه الملائكة، وعثمان رضي الله عنه وأرضاه ولو وقع في الخطأ لضاع هذا الخطأ في بحر حسنات عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث اللعين دخل في الصف المسلم ليكون طابوراً خامساً من المنافقين ويشعل نار الفتنة، فـ عبد الله بن سبأ هو الذي خرب عقائد المسلمين، فقد جاء لهم فقال: المسلمون عندهم في أبواب الفقه القياس الجلي أو قياس الأولى وقياس العلة، فقياس الأولى عنده يقول: إذا أقررتم أنتم برجوع عيسى عليه السلام ومحمد أفضل من عيسى فمن باب أولى أن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أن يخرب عليهم عقولهم، وأقرب الناس إلى هذه الفتن هم الشيعة الرافضة عليهم من الله ما يستحقون، فهم الذين أسقطوا الخلافة العباسية، وما من طامة كبرى نزلت على المسلمين إلا بسبب الشيعة، فأي خراب وأي دمار وأي هزيمة نكراء لا تأتي إلا من قبل الشيعة، حتى قام قائمهم يضرب حجر الكعبة ويأخذه ويقول: أين الحجارة من سجيل؟ أين الطير الأبابيل؟ متجاسراً على ربه جل وعلا.
فالشيعة الباطنية أكفر ما يكونون، حتى المعتدلون منهم يقولون: ما عليك أن تأخذ اللقطة من سني أو من كافر، وإذا كانوا يعملون في الدوائر الحكومية فإذا خرج المسلمون نهبوا المكان، فهم يستحلون هذا المال غنيمة عندهم؛ لأن هؤلاء كفرة، فأهل السنة والجماعة أكفر أهل الأرض عند الشيعة، وهم الذين أشعلوا مع عبد الله بن سبأ الخبيث الفتنة، وألقوا بالشبهة الأولى الشخصية على عثمان فقالوا: إن عثمان ليس له فضل، فهو لم يشهد بدراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
الشبهة الثانية في شخصية عثمان رضي الله عنه وأرضاه: أنه فر يوم أحد، ولم يقف في المعركة.
الثالثة: إنه لم يحضر بيعة الرضوان، والله جل وعلا أنزل تعديله لأهل بيعة الرضوان، ولأهل بدر فلم يحضر بدر، ولا بيعة الرضوان، وفر يوم أحد، وكفى بهذا.
وقد كفانا مئونة الرد عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما دخل عليه المصري عليه من الله ما يستحق يتنطع ويقول: يا ابن عمر! أما رأيت أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: اللهم نعم.
قال: أما تقر أنه لم يحضر؟ قال: اللهم نعم.
قال: أما رأيت أنه لم يحضر بيعة الرضوان؟ قال: اللهم نعم.
فقال الخبيث: الله أكبر، فقام عبد الله بن عمر وقال: مهلاً! أما بدر فإن عثمان بن عفان قام يمرض بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له النبي صلى الله عليه وسلم سهماً في غزوة بدر فكان أفضل ممن حضر بدراً؛ لأنه قام بأمرين: قام بأمر رسول الله أن يمكث مع بنته، وقام بالأمر الثاني يمرض بنت رسول الله حتى دفنها، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم له بسهم في غزوة بدر.
أما قولك: قد فر في أحد، فقد أنزل الله عدالته ومغفرته له من السماء السابعة حيث قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155]، ووجه الشاهد قوله تعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)) فهذا تنصيص بأن الله عفا عمن فر يوم أحد، وقد فر كثير من الأفاضل والأكارم كـ سعد بن معاذ وغيره في هذه، وكان له تأويل إذ إنه أبيح لهم أن يفر المسلم من عشرة، وهم كانوا كثيراً، والله جل وعلا أنزل غفرانه لهم في كتابه فقال: ((وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)).
أما الثالثة فهي لـ عثمان وليست عليه، قال له: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختاره سفيراً له، ثم جاء في بيعة الرضوان قال: وهذه يدي اليمنى واليمنى أفضل من اليسرى، هذه يد عثمان فطبق بها وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكأن اليد اليمنى يد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، قال ابن عمر: خذها وارحل.
فكفانا مئونة الرد على هذه الشبهة المتهافتة، وكلها شبه متهاوية ضعيفة جداً.
أما الشبه الثانية فهي شبه دينية، قالوا: قد أحدث في الدين ما لم يفعله أبو بكر وعمر.
فأول ذلك الأذان فقد جعل أذانين، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم أذان واحد في الجمعة، وكذا فعل أبو بكر وعمر، فهو جعل أذانين، والأذان من العبادات التي لا يجوز الزيادة والنقص فيها.
والشبهة الثانية الدينية قالوا: أتم في منى، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم في منى وأبو بكر وعمر، وعثمان صدراً من خلافاته، ثم أتم.
قالوا: الثالثة أنه أحرق المصاحف كلها وجمعها على مصحف واحد.
والجواب عن الشبهة: أنه قد كثر الناس في عهد عمر بن الخطاب، وكثرت الفتوحات في عصر عمر، وأيضاً لا يشكل علينا أن عمر لم يفعله إذ إن هذا اجتهاد، وعثمان كان يرى أن الناس ضيعوا شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من المصلحة، وقد تفرق الصحابة في الأمصار والعلم ينحصر في الصحابة، والناس ضيعوا قول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، ولذلك الخلاف مشهور بين الفقهاء هل البيع صحيح إذا وقع بعد الأذان الثاني أم غير صحيح؟ مع الاتفاق على أن البائع والمشتري آثمان إذا عرفا الحكم، فقال: نجعل مؤذناً في الزوراء يدعوهم ويبين لهم أن الوقت قد اقترب فكل بائع وكل تاجر يترك تجارته ويجهز نفسه حتى يذهب إلى الصلاة، وهو تعلم من إنكار عمر عليه؛ لأنه كان في السوق ذات مرة يبيع ويشتري فسمع الأذان فذهب فتوضأ ودخل إلى المسجد وعمر لا يسكت عن أمر يتخلف عنه فاضل كـ عثمان بن عفان وهو في الخطبة، فقطع الخطبة ثم قال: ما بال أقوام يأتوننا بعد قيام الخطيب أو بعد الأذان؟ فقال عثمان: والله! يا أمير المؤمنين! ما زدت على أن توضأت وجئت.
يعني: سمعت الأذان في السوق فما هو إلا أن توضأت وجئت.
قال: والوضوء أيضاً! يعني الوضوء فقط وأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الغسل أفضل فتترك هذه الفضيلة أيضاً، وهذا الذي احتج به العلماء على أن غسل الجمعة سنة؛ لأنه لو كان فرضاً ما تركه عمر، فـ عمر أنكر عليه في الفضيلة فألا ينكر عليه في الواجب؟ فلما علم ذلك عثمان وتعلم الدرس جعل مؤذناً يذكر الناس بأن يتركوا الصفق والبيع والشراء في الأسواق ويأتون إلى صلاة الجمعة.
والإجابة الثانية: أن هذه تقيد شرعاً أنها من المصالح المرسلة.
والإجابة الثالثة: أنها سنة متبعة؛ لأن عثمان له سنة مستقلة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).
وهذه سنة متبعة وليست بدعة.
أما الشبهة الثانية وهي مسألة الإتمام في منى فقد كفانا الرد علي بن أبي طالب لما سألوه عن ذلك فقال: كان عثمان قد تأهل بمكة يعني عنده أهل في مكة، وأيضاً عنده بيوت هناك، فقال: كان عثمان قد تأهل في مكة فأراد أن يتم لأنه تأهل، لأن عنده القصر يكون للسفر لا للنسك، فهو غير مسافر الآن، وهو من أهل مكة فعليه أن يتم، وهذا الذي اعتذر به ابن القيم وغيره لـ عثمان؛ لأنه لم يتم، حتى إن ابن مسعود وافقه في هذا.
وإن قلنا: إنه خالف أبا بكر وخالف عمر فقد ترك الأولى أو ترك السنة لكنه غير مبتدع؛ لأن للمسافر أن يتم وأن يقصر، والقصر أولى، لكن إن أتم فلا إنكار عليه.
أما الثالثة في جمع القرآن فنقول: هي فضيلة له، فهو لم يبتدع فقد جمع أبو بكر، وجمع عمر، وجمع هو القرآن على كتاب واحد.
تبقى مسألة الشبهات التي أوردوها عليه في التعامل مع أفاضل الصحابة مع ابن مسعود، ومع أبي ذر، ومع عمار بن ياسر.
أما أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه فقد كان له منهج فيه تشديد يمكن أن يحتمله الصحابة لكن بعض الصحابة يمكن ألا يحتمل هذا، فكان أبو ذر -وهو من أزهد الناس وأصدقهم لهجة- مذهبه أن أي مال اكتنزه المرء زائداً عن النصاب لا يجوز أن يحتفظ به، بل لا بد أن يتصدق به، فمثلاً لو أن رجلاً عنده أربعة آلاف وزكى حين بلغ النصاب فلو بقي معه مال زائد عن حاجته في يومه ذلك وجب عليه إخراجه وإن لم يخرجه أثم بذلك! فشق ذلك على بعض الصحابة وبعض التابعين فراجعوا عثمان فراجع عثمان أبا ذر فلم يرجع أبو ذر وقال:(69/8)
مقتل عثمان
قتل عثمان صابراً محتسباً، وكان قد نام ليلة طيبة هنيئة، فرأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا عثمان! تفطر عندنا اليوم.
فعلم أنه مقتول رضي الله عنه وأرضاه، فقام صائماً وما أفطر، ثم أخذ كتاب الله بين يديه يتلوه، فتسور هؤلاء الأوغاد بيتاً بجانب بيت عثمان رضي الله عنه وأرضاه ثم دخلوا عليه، فلما دخلوا عليه رأوه يقرأ كتاب الله فدخل عليه محمد بن أبي بكر أولاً، وقال بعض الرواة: إنه دخل فأخذ بلحيته.
فقال عثمان: لو كان أبوك حياً ما رضي بهذا المقعد مني، يعني ما رضي هو نفسه أن يقعد هذا المقعد مني، فارتجف قلب محمد بن أبي بكر وقام يحجز عنه ويدافع عنه وينافح وما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وفي رواية: لما دخل على عثمان فرآه فقال: ارجع فلست بصاحبي.
فرق قلبه لهذا الكلام وخرج من وقته، ثم دخل هؤلاء الأوغاد، والمصري الخبيث هو الذي قتله، ويقال: إن عبد الله بن سبأ هو الذي قتله، وممن قال هذا محب الدين الخطيب فلعله ينافح عن المصريين فهو قال: ما قتله إلا عبد الله بن سبأ الأسود الخبيث.
وبعض الروايات قالت: المصري الخبيث هو الذي قتل عثمان، فدخل عليه وهو يقرأ الكتاب ويمسك المصحف بيده فقطع يده، فسال الدم على المصحف فقال: كم كتبت هذه اليد كلام الله جل وعلا؛ لأنه كان كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تركوه ينزف حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
ودخلت زوجته فقطعوا يدها، ثم نظر هذا الخبيث إلى جسدها فقال: ما أجمل هذا الجسد! قالت: خسئت والله! ما جئت لله.
يعني لو جئت لله ما قلت هذا، وتنظر إلى عورة أمير المؤمنين.
ثم تركوه حتى مات رضي الله عنه وأرضاه صابراً محتسباً، ودفن بالبقيع، وذهب تصديقاً للرسول صلى الله عليه وسلم يفطر مع رسول الله.
ونسأل الله جل وعلا أن نراه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، ويحشرنا معه وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.(69/9)
الأسئلة(69/10)
بيان بطلان دعاوى ظلم عثمان لرعيته
السؤال
هل هناك علامات تدل على أن عثمان قتل ظلماً؟
الجواب
نعم، فهناك حديث مهم جداً في البخاري وهو حديث حذيفة لما جلس بجانب عمر فقال عمر بن الخطاب: (أيكم يحفظ حديث الفتن؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين! قال: إنك لجريء، ثم قال له: هاته.
فقال له: فتنة الرجل في أهله وماله يكفرها الصلاة إلخ، قال: لست عن هذا أسأل.
قال: عم تسأل؟ قال: عن الفتن التي تموج كموج البحر.
قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟! بينك وبينها باب -انظروا إلى الفقه- قال: يا حذيفة! يفتح الباب أم يكسر؟ قال: يكسر.
قال: إذاً لا يغلق بعد اليوم).
وحقاً ورب العزة! لم يغلق حتى الآن.
فقالوا لـ حذيفة: أكان يعلم عمر من الباب؟ قال: كان يعلمه كما كان يعلم أن غداً دون الليل.
يعني يقيناً يعلمه، ولذلك ورد عن أنس وعن أبي هريرة وأم سليم وغيرهم لما جاءهم مقتل عثمان قالوا: قتل عثمان مظلوماً، فقرروا هذا، ثم بينوا للأمة القرينة والإشارة التي تبين أن قتله كان ظلماً فقالوا: والله! لو كان قتله حقاً لتحلبن الأمة بعده لبناً.
يعني: أن هذا باطل أزاحوه للحق فتأتيهم الدنيا بالخير.
وإن كان قتله ظلماً لتحلبن الأمة بعده دماً، ولم يرقأ دم الأمة حتى الآن، فحتى الآن تحلب الأمة دماً بسبب مقتل عثمان ظلماً رضي الله عنه وأرضاه.
فما إن تولى علي بن أبي طالب إلا وعملت السيوف في المسلمين، ثم بعده في الخلافة الأموية، ثم في الخلافة العباسية.(69/11)
بيان حقيقة الأرض التي أعطاها عثمان لمروان بن الحكم
السؤال
هل أخذ على عثمان أنه أعطى مروان أرضاً؟
الجواب
نعم، هو أعطى هذه الأرض لابن عمه، فهو أخذ عليه أيضاً أنه أعطاها لـ مروان، وهو ما أعطاها لـ مروان، بل مروان أخذ سهمه، واشترى مروان باقي الغنائم وبقي عليه في ذمته مال، فلما جاءه وبشره بحصار المسلمين على الروم قال: هي هبة لك.
فوهبه الباقي له من ماله الخاص، فقد كان ثرياً غنياً رضي الله عنه وأرضاه.
وأيضاً هذه الأرض كانت مواتاً فله أن يحيي ما شاء، فليست بشبهة أيضاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا مواتاً فهي له) وله أن يحيي أي أرض للمسلمين وإن كان مروان يعمل عليها؛ لأنه كان كاتباً له.(69/12)
بيان منهج أبي ذر في الأموال
السؤال
ما هو منهج أبي ذر في الأموال الذي نفاه عثمان من أجله؟
الجواب
أن أبا ذر كان يرى من منهجه أن أي مال زائد عن الحاجة فهذا كنز لا بد من التخلص منه، والتصدق به وجوباً، يعني أنت الآن تقر بأن لك ألف زيادة مثلاً، فـ أبو ذر من منهجه أنه يأمرك وجوباً أن تخرجه، واستدل بإطلاق الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، وهذا مما اشتد وشق على المسلمين فراجعه عثمان فلم يرجع عن قوله فنفاه إلى الربذة.(69/13)
براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان
السؤال
هل كان لـ محمد بن أبي بكر يد في مقتل عثمان؟
الجواب
الله جل وعلا طهر يده من دم عثمان فهو بريء من دم عثمان كما برئ الذئب من دم ابن يعقوب عليه السلام.(69/14)
الأدلة التي تبرئ محمد بن أبي بكر من دم عثمان
السؤال
هل هناك أدلة تثبت أن محمد بن أبي بكر لم يشترك في قتل عثمان؟
الجواب
نعم، نحن عندنا مخارج كثيرة تثبت أن محمد بن أبي بكر لم يفعل ذلك ولم يشترك فيه، فـ عائشة أولاً خرجت في خلافة علي ولم تبايع علياً بل خرجت تطالب بدم عثمان ولو كان محمد مشتركاً في دم عثمان لكانت طلبت بدم أخيها، ولما قتلوا أخاها بكت، بل قنتت شهراً على من قتل محمداً رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان قتل محمد من أجل دم عثمان كان قتلاً حقاً فكيف تقنت هي شهراً على من قتله؟ فالراجح أنه لم يشترك رضي الله عنه وأرضاه، بل حفظه الله وحفظ يده من أن تتلوث بدم عثمان رضي الله عنه وأرضاه.(69/15)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل علي بن أبي طالب
علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو رابع الخلفاء الراشدين المهديين، أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة البتول، وأعظم الشجعان الأبطال، وهو أكثر من وردت فيه الفضائل من الصحابة الكرام.
وقد ضلت فيه طائفتان: طائفة ترفعه فوق منزلته، وتصفه بما ليس فيه، وطائفة تنصب له العداء وتسبه، والحق وسط بين الجافي والغالي، فهو أفضل الصحابة بعد الثلاثة الخلفاء، وقد كان الحق معه فيما حصل في عصره من الاختلافات والخصومات.(70/1)
مقدمة في الفتن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: إخوتي الكرام! ما زلنا مع ختام المسك مع هذه الكتاب الجليل العظيم (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وذلك في الكلام على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالذات عن الخلفاء الأربعة، ونختم اليوم بالكلام على الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
جاء في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه وأرضاه أنه جلس مع عمر بن الخطاب فقال عمر: أيكم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسليم أحاديث الفتن، فقال: أنا يا أمير المؤمنين! قال: إنك عليه لجريء! قال حذيفة: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي) فقال عمر: ليس عن هذا أسأل، فقال حذيفة: عم تسأل يا أمير المؤمنين؟! قال: أسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟! بينك وبينها باب مغلق قال: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: بل يكسر، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وارضاه بفقهه الواسع: إذاً لا يغلق أبداً.
وقد كسر الباب ولم يغلق حتى الآن، وقالوا لـ حذيفة: يا حذيفة! أعلم عمر بن الخطاب من الباب؟ قال: نعم، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، علم أنه هو الباب كما يعلم أن دون غد الليلة.
وأيضاً لما بلغ أنس بن مالك وبعض الصحابة مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه اتحدت كلمتهم وقالوا: والله لئن قتلوه حقاً فإن الأمة بعده لتحلبن لبناً، وإن قتلوه ظلماً لتحلبن الأمة بعده دماً، وقد حلبت الأمة بعده دماً عبيطاً، وما زال الدم حتى الآن يسيل ولا يتوقف.
وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه انتفضت الأمة لتؤمر عليها خليفة وهو الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وسنتكلم عن فضله ونسبه، ثم نتكلم عن إمامته، ثم بعد ذلك سنذكر الفتن التي ظهرت في عصره، ثم نبين مع من كان الحق.(70/2)
نسب علي بن أبي طالب
علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الخليفة الراشد الرابع، وهو من أبوين هاشميين، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تربى في بيت النبوة، فلشدة الفاقة التي أحاطت بـ أبي طالب اقترح النبي صلى الله عليه وسلم على أعمامه أن يأخذ كل واحد منهم ولداً من أولاده؛ ليخففوا الحمل عنه، فقال أبو طالب: خذوا من شئتم واتركوا لي عقيلاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فتربى عنده في بيت النبوة، وأخذ حمزة جعفراً رضي الله عنهم.
وعلي بن أبي طالب كان يكنى بـ أبي الحسن، ويكنى بـ أبي تراب، فأما كنيته بـ أبي الحسن فلئن أكبر أولاده هو الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكنى بـ أبي الحسن، وكناه الرسول صلى الله عليه وسلم بـ أبي تراب، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة ذات يوم وكان بين علي وبين فاطمة ما يحصل بين الزوج وزوجه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فقال: (أين ابن عمك؟) وكأنه قد شعر بأن هناك شيئاً بين علي وبين فاطمة فقالت: يا رسول الله! غاضبني ثم ذهب إلى المسجد، فذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع التراب على بردة علي بن أبي طالب وهو نائم في المسجد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أزاح التراب عن جسده: (قم يا أبا تراب، قم يا أبا تراب)، فكناه بـ أبي تراب، فكانت أحب الكنى إليه أن يكنى بـ أبي تراب رضي الله عنه وأرضاه.
ولقب بالإمام، وهذا اللقب جاء عن طريق الشيعة، فالشيعة هم الذين رفعوا هذا الشعار، لكنه الخليفة الراشد الرابع.
وعلي بن أبي طالب كانت له الحبوة والمكانة السامية عند رسول الله صلى، فهو ابن عمه، وهو سليل بني هاشم، وهو الذي تزوج سيدة نساء العالمين فاطمة، ولما تقدم لها أبو بكر وتقدم لها عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي أن أزوجها لـ علي رضي الله عنه وأرضاه.(70/3)
الأحاديث في فضل علي بن أبي طالب
وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في فضل علي، حتى قال شيخ الإسلام وغيره: إن أكثر الصحابة جاءت الآثار في فضله هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ومن هذه الآثار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فقال عمر الفاروق: ما تمنيت الإمارة إلا ذلك اليوم)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحبه الله ورسوله.
وأيضاً جاء في فضله أن سعد بن أبي وقاص كما روى مسلم عنه أنه قال: (ثلاث قالهن رسول الله لـ علي لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، والثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب في إحدى الغزوات -وهي غزوة تبوك- فاستخلف علي بن أبي طالب على المدينة، فقال علي: يا رسول الله! أتتركني مع النساء والذراري؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، وأما الثالثة: فلما أنزل الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] أتى النبي صلى الله عليه وسلم بـ علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وقال: اللهم إن هؤلاء أهلي)، فتمنى سعد واحدة من هذه الثلاث.
وأيضاً في الصحيح عن علي بن أبي طالب قال: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لقد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بأن علامة الإيمان حبي، وعلامة النفاق بغضي، أو قال: من أبغضني فهو منافق)، رضي الله عنه وأرضاه.
ووردت آثار كثيرة في فضل علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وربما كانت مكانته السامية عند النبي صلى الله عليه وسلم هي نفسها موجودة عند أبي بكر وعمر وعثمان، فرضي الله عنهم أجمعين.(70/4)
زهد علي وورعه وعلمه وفقهه
كان علي زاهداً عابداً ورعاً فقيهاً عالماً شجاعاً مبرزاً فارس الميدان، وهو أشجح الشجعان بالاتفاق، وقد كان عابداً قائماً بالليل، صائماً بالنهار، متصدقاً، زاهداً رضي الله عنه وأرضاه، فكان يأكل الخل، ويمشي مع الصبيان إلى حيث أرادوا، ويعين ذا الحاجة، ويغيث الملهوف رضي الله عنه وأرضاه، وما أروع ما وصفه به ضرار، فلما سأل معاوية ضراراً وقال له: صف لي علياً، قال: نحني عن هذا، قال: لا بد أن تصف لي علياً رضي الله عنه وأرضاه، فقال: والله يا أمير المؤمنين! كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يستأنس بوحشة الليل، طويل الفكرة، غزير العبرة -يعني: أنه بكاء رضي الله عنه وأرضاه- رأيته ذات ليلة وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قائم قابضاً على لحيته يتململ تململ السقيم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا! غري غيري، قد طلقتك ثلاثاً، أبي تشوفت؟ أئلي تطلعت؟ عمرك قصير، وخطرك كبير، آه آه من قلة الزاد وطول السفر ووحشة الطريق! رضي الله عنه وأرضاه.
وكان أيضاً تقياً عالماً، وهو من أعلم الصحابة إن لم يكن أعلم الصحابة بالقضاء، كيف ولا وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأقضاهم علي بن أبي طالب)، رضي الله عنه وأرضاه، كما سنبين أن عمر الملْهَم في القضاء كان يأخذ بقضاء علي ويقول: قضية أو مسألة ليس فيها أبو الحسن أعوذ بالله منها.
فكان علي عالماً فقيهاً، وقد قسم الناس من حيث العلم إلى ثلاث مراتب فقال: الناس على مراتب: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم.
وهو الذي أسس أصول علم النحو واللغة العربية لما وكّل بذلك أبا الأسود الدؤلي، وكتب له تقاسيم العلم وقال: من أقسام العلم: ظاهر ومضمر، وما ليس بظاهر وما ليس بمضمر.
فكان عالماً فرضياً.
وكان قاضياً، وقد رفعت مسألة إلى عمر بن الخطاب أن امرأة زنت فاشتبهت هل هي حبلى من هذا الزنا أم لا؟ فقام عمر بن الخطاب ليجلدها الحد، فقال علي: لا تجلدها الحد؛ فقد سلطك الله على جسدها ولم يسلطك على ما في بطنها، أي: أنها تتحين حتى تتيقن هل هي حبلى أم لا، فأخذ عمر بن الخطاب بقول علي بن أبي طالب.
ولما جيء بالمخمور الذي يشرب الخمر أكثر من مرة احتار عمر أيجلده الأربعين أم يجلده فوق الأربعين، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: إن الذي يشرب الخمر إذا شرب الخمر سكر، فإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون جلدة، فأخذ بقوله وجلده ثمانين جلده، رضي الله عنه وأرضاه.
وكان زاهداً، فكان ينصح الأمة بأسرها ويقول: إن الدنيا قد تهيأت مدبرة، وإن الآخرة قد تهيئات مقبلة، ولكل بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
رضي الله عنه وأرضاه، ونسأل الله جل وعلا أن يحشرنا في ركابه مع النبي صلى الله عليه وسلم.(70/5)
بيعة علي
وأما بيعة علي فلما قتل عثمان باليد الأثيمة غدراً وظلماً وكان شهيداً فاضلاً محتسباً، ظلت الأمة لا أمير لها خمسة أيام، فعلم الثوار أنهم لو رجعوا إلى بلادهم ولا أمير للأمة فإن الدائرة ستدور عليهم، فذهبوا إلى علي بن أبي طالب يطلبونه للإمارة، وكان يهرب منهم إلى البساتين والحوائط، فدخلوا عليه ومعهم السيوف، واشتجروا في المدينة، فذهب بعض القوم إلى طلحة، وبعضهم إلى ابن عمر، وبعضهم إلى الزبير، وحق لنا أن نقول: ما كان حينئذ على وجه الأرض أحد أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فهو أفضل الناس على الإطلاق، وهو الذي له الأهلية التامة للخلافة، فبايعوه فاستتب له الأمر، وبايعه طلحة والزبير، وأما معاوية فكان على الشام، ولم يرد أن يبايع علياً حتى يقتص من قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
ونقل علي الخلافة إلى الكوفة، وأنا سأمر على هذه الفتن مرور الكرام؛ أدباً مع الصحابة، وحتى لا تشحن الصدور، ولا تغوص الأقلام في هذه الدماء، فهي دماء عصمنا الله من أن نشاهدها فنعصم ألسنتنا من الكلام فيها، فسنمر عليها مرور الكرام، ونبين أين الحق من الباطل.
فـ معاوية لم يبايع علياً رضي الله عنه وأرضاه، وقيل: إن سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وأبا موسى رضي الله عنهم وغيرهم لم يبايعوا علياً، وهذا باطل، فالصحيح أن الصحابة أجمعين قد بايعوا علياً وأقروا بإمامته رضي الله عنه وأرضاه، وأما معاوية فلم يبايع حتى يشترط، وهو لم ينازعه في الخلافة، ولكن اشترط أن يقتص من قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وسنبين أن الحق لم يكن مع معاوية، فقد اجتهد فأخطأ فله أجر رضي الله عنه وأرضاه، وعلي بن أبي طالب اجتهد فأصاب فله أجران.
فالمقصود أن البيعة تمت لـ علي، وأصبح خليفة للمسلمين باستحقاق وبجدارة كما قال الذهبي: ما كان على أرض البسيطة أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب.
وكذلك باتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد نهج في سياسة الخلافة نهج عمر بن الخطاب، فقد حبس الصحابة في المدينة، حتى لا يغتروا بأمر الدنيا، وأخذ الاقطاعات التي كان وزعها عثمان رضي الله عنه وأرضاه وردها إلى بيت المال، وعزل كل الولاة الذين تسببوا وأثاروا الفتنة.(70/6)
الفتن التي ظهرت في خلافة علي(70/7)
وقعة الجمل
لما استتب له الأمر بعث عبد الله بن عباس وغيره إلى الأمصار التي كانت تحت يده ليكونوا أمراء عليها، ثم ظهرت فتن في هذا العصر الذي هو خلافة على منهاج النبوة، وهي فتن ثلاث، هذه الفتن سنتكلم عنها بإيجاز، ونحقق المسائل فيها ونبين أين الحق من الباطل.
فأما الفتنة الأولى فهي فتنة الجمل، والفتنة الثانية: فتنة صفين، والفتنة الثالثة: فتنة النهروان، وهذه هي أشد الفتن التي حدثت في عصر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
وقبل أن نتكلم عن هذه الفتن فقد أخذ على علي بعض الأمور في خلافته، وهي: أولاً: أخذ عليه أنه لم يولِّ طلحة والزبير أي إمارات.
ثانياً: أنه تولى الخلافة في هذا الزمن العصيب بعد مقتل عثمان والفتن قد نزلت تطغى على الناس.
ثالثاً: أخذ عليه أنه عزا معاوية ولم يداره ويجعله تحت أمرته حتى يبايعه، ثم بعد ذلك يفعل ما شاء.
رابعاً: أخذ عليه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أنه حبس الصحابة في المدينة كـ أبي موسى وغيره.
وهذه المآخذ التي أخذت على علي كان الحق فيها مع علي، فأما مسألة طلحة والزبير فقد نظر إلى طلحة والزبير فرآهما قرينين له، وكانا من أهل الشورى ويتطلعان إلى الخلافة، ولو أمر كل واحد منهما على مصر من الأمصار لالتف الناس حوله، وثارت الفتن مرة ثانية، وقد كان ما توقعه، فلما خرجا واستأذنا علي بن أبي طالب للعمرة قال: هذه ليست عمرة ولكنها غدرة، ولما خرجا حدث ما حدث كما سنبين.
وأما الأمر الثاني وهو قبوله للخلافة في وقت الفتن، فقد كان الحق معه أيضاً، ومن أحق من علي بالخلافة، قال يوسف عليه السلام، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، ولو تمناها وطلبها علي فهو أحق بها، ولا أحد أحق بها من علي رضي الله عنه وأرضاه.
ولو ترك الناس يتخبطون لضاعت الأمة، فلا بد من أمير يضبط أمور الخلافة، فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أهل لها.
وأما مسألة عدم تولية معاوية فـ علي لا يناقض نفسه، فكثيراً ما قام إلى عثمان يشاوره وينصحه أن يعزل معاوية رضي الله عنه وأرضاه، فلما تولى هو الخلافة قال: أنا أتكلم مع الرجل في عزله وأبقيه على نفس المكانة! فعزله وكان الحق معه، وحتى وإن لم يكن الحق معه فحكمة الله اقتضت أن تنزل الفتن في هذا العصر.
وأما فتنة الجمل فبعدما استأذن طلحة والزبير رضي الله عنهما وأرضاهما إلى مكة للعمرة، قامت عائشة وقالت: نطلب بدم عثمان، فالتقوا بـ مروان بن الحكم الذي كان سبباً في قتل عثمان؛ لأن علي بن أبي طالب لما تعمم بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج متقلداً بسيفه حفاظاً على عثمان رده عثمان، وكان قد أرسل الحسن والحسين لنصرته، وقيل له: لو قدم لهم مروان ما قتل، وكان ذلك اجتهاداً من عثمان أنه يبقى صابراً محتسباً، فالتقوا به في مكة، فخرجوا طلباً للثأر من قتلة عثمان، وقتلة عثمان قد انتشروا في جيش علي بن أبي طالب وهو لا يعرفهم.
فخرجوا إلى البصرة فوقفوا عند مكان يسمى الحوأب، فنبحت الكلاب، فقالت عائشة: هل هذا الحوأب؟ فقيل: نعم، فقالت: ردوني؛ فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟).
وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وصححه بعض العلماء، لكن يستأنس به أن عائشة كأنها وجدت نفسها ليست صائبة في الخروج في طلب دم عثمان، وقد دلس عليها الثوار على أنها ليست في الحوأب، فذهبت مع طلحة، فبعث إليهم علي بن أبي طالب بـ القعقاع بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، فذهب فقال: يا أمي! ما الذي أتى بك؟ قالت: أتيت للإصلاح بين الناس، فقال لـ طلحة: ما الذي أتى بك؟ فقال نفس مقالة عائشة، وقال ذلك للزبير، فقال مثل ما قالت عائشة، فقال القعقاع: آلإصلاح يأتي بالقتل؟! وكانوا في الطريق قد مروا ببعض قتلة عثمان فقتلوهم، فتألبت القبائل نصرة لهؤلاء الذين قتلوا، وذكر لهم القعقاع أنهم قد أفسدوا أكثر من المصلحة التي ترجى، فاقتنعوا بكلامه، فبعثوا إلى علي أن الأمر على الصلح ويرجعون من حيث أتوا، لكن الثوار أبوا ذلك، وحكمة الله اقتضت أن تثار الفتنة، فذهب ألف من الثوار فأعملوا القتل في جيش طلحة والزبير، ثم التقى الصفان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقام علي بن أبي طالب صاحب المروءة والشجاعة فقال: ألا يخرج طلحة؟ ألا يخرج الزبير؟ فخرج له طلحة، فقال له علي بن أبي طالب مبكتاً: يا طلحة أحبست زوجك في بيتك وخرجت بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل بها؟! فاستحيا طلحة، ثم قال له: أما سمعت رسول الله يقول: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، فأغمد سيفه واستدار، ثم قال: أين الزبير؟ فخرج الزبير، فقال: يا زبير! أما تذكر أني مررتُ عليك فنضرت إلي فضحكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحبه، فقلت: نعم، فقال لك رسول الله: تقاتله وأنت له ظالم؟) أتذكر؟ فقال الزبير: والله ما تذكرته إلا الساعة، فأغمد سيفه واستدار، فكلمه ابنه، فقال: لا رجعة، فرحل الزبير، لكن أبى الله جل وعلا إلا أن يقتتل الفريقان لحكمة سنبينها.
فاقتتلا وقتل الزبير وقتل طلحة، وقاتل الزبير دخل بسيف الزبير على علي، فنظر علي مندشهاً وقال: أسيف الزبير هذا؟ قال: نعم، وقد سلبته منه، فقال له: أبشر بالنار، من قتل ابن صفية فهو في النار، اذهب.
وقال: دلوني على طلحة، فوجده طريح الأرض، فنحى التراب عن وجهه وقال: يعز عليَّ أن أراك في هذا الموقف، ثم بكى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
وذهب إلى أصحابه فوجد المقتلة عضيمة عند الجمل، فالتف الجنود حول جمل عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقال عمار بعدما سبها رجل منهم: مه - يعني: اسكت - والله! إنها لزوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وإن الله ابتلاكم بها أتسمعون لها أم تتبعون أمر الله جل وعلا.
ثم أمر علي بأن يعقروا هذا الجمل فعقروه، ثم أخذوا عائشة في الهودج ومكن لها مكاناً طيباً مريحاً، ثم أكرمها أيما إكرام، ثم أحسن لها الكلام، ثم رجع بها إلى المدينة، وأخمدت الفتنة، ومات طلحة ومات الزبير، ورجع علي إلى الكوفة.(70/8)
وقعة صفين
لما رجع علي إلى الكوفة ارتحل معاوية إلى علي بجيشه من الشام، فبعث إليه علي بن أبي طالب يبين له أن الإمرة له، وأنه لا يحق له أن يشق عصا الطاعة، فلم يستمع معاوية إلى هذه الرسالة، وزحف بجيشه وكانت الفتنة الثانية وهي: فتنة صفين.
وهذه الفتنة ضيع المؤرخون والمستشرقون التاريخ فيها، ولطخوه بدماء فاسدة وبكلام مزور، حتى إنهم ذكروا أن أبا موسى الأشعري يضحك عليه وكأنه طفل غر، وأن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه ضحك عليه وغرر به حتى قال: خلعت علي بن أبي طالب، وقال عمرو بن العاص: أثبت معاوية، وهذا كله باطل مختلق، والصحيح في ذلك ما عليه أهل التحقيق أن أبا موسى الأشعري لما جلس معهم في الجلسة قال: أرى أن الأمر لا يخرج عن النفر الذين توفي رسول الله وهم عنهم راضٍ، ومن هؤلاء النفر سعد لكنه رحل وباع الدنيا وزخارفها وباع الخلافة، حتى إن ابنه يقول له: إنهم يتصارعون على الخلافة وأنت هنا في الصحراء، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)، فاعتزل الناس.
وبالاتفاق أن علياً هو أولى الناس بها ممن تبقى من الستة أصحاب الشورى.
فقال أبو موسى: ولا شأن لك أنت ولا معاوية، وإن يستعن بكما ففيكما معونة، يعني: فأنتم أمراء، وأما الخلافة فلا تكون إلا في هؤلاء النفر، فهذا الذي عليه أهل التحقيق.
فلم يسمع لـ أبي موسى الأشعري، وحدثت مقتلة عظيمة بين الاثنين ولن نتكلم عنها، وإنما نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل في الذي أثار الفتنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأسأل ربي العظيم أن يجعل المخطئ منهم مأجوراً غير مأزور، ويجعل أجر المصيب منهم فوق الذي أخطأ، ويغفر لهم زلتهم.
ولما حدثت المقتلة قام علي بمروءته فقال لـ معاوية: اخرج بارزني؛ يقتل أحدنا الآخر وتبقى الخلافة لواحد منا ولا نريق دماء المسلمين، فلم يستمع له وخاف من مبارزته، فخرج عمرو بن العاص فبارزه وكاد أن يقتله حتى أظهر سوءته فاستحيا علي منه فتركه، فهرب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، ثم رفعوا -أي: أصحاب الشام- المصاحف بعدما كانت الدائرة تدور عليهم، فرفعوا المصاحف على أسنة الرماح والسيوف، فتوقف جيش الكوفة، وكان علي صائب النظر فقال: لا تتوقفوا، فلم يستمعوا له وتألبوا عليه، فلما يرضوا بكلام علي بعد رفع المصاحف، ثم أتوا بـ أبي موسى الأشعري، وكان علي يقول: ابن عباس، وقال ابن كثير يقول: يا ليتهم رضوا بـ ابن عباس؛ لأنه كان ذا حجة يستطيع أن يقنع القوم، ولكن لم يرضوا إلا بـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، وأبوا على علي أن يبعث عبد الله بن عباس.(70/9)
فتنة الخوارج
وبعد حدوث المقتلة في صفين رجع كل صف إلى مكانه علي إلى الكوفة ومعاوية إلى الشام، واستتب الأمر بعد ذلك لـ معاوية قبل أن تظهر فتنة الخوارج الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تخرج خارجة يمرقون من الدين، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان)، وقال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد وإرم)، فخرج أهل الكوفة وانقسموا على علي، فخرجوا بتنطع بارداً وهم يقولون: حكّم الرجال، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، فكفروا علياً وكفروا من معه وكفروا الصحابة، ثم ذهبوا إلى النهروان ومر عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنهم وأرضاه، فقالوا له: حدثنا بحديث سمعته من أبيك سمعه من رسول الله، فقال: سمعت أبي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي)، ثم سألوه عن علي بن أبي طالب فقال فيه قولاً حسناً، فقتلوه وقتلوا امرأته، وبقروا بطنها وكانت حبلى، وقد قالت لهم: اتقوا الله فيّ إني امرأة حبلى، فلم يبالوا فقتلوها وبقروا بطنها، حتى إن واحداً منهم بتنطع بارد سقطت ثمرة فأكلها ومضغها، فقال الآخر: اتق الله إنها ليست ملكاً لك، فلا بد أن تشتري هذه الثمرة أو تستأذن صاحبها! فبعدما قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وبقروا بطن امرأته صاروا يتنطعون بهذا الورع الكاذب! ومن حكمة الله جل وعلا أننا علمنا فقه قتال الطائفة الباغية مما حدث مع علي، ولولا ما حدث مع علي ما عرفنا كيف يقاتل المؤمن الطائفة الباغية، وما هو فقه التعامل مع الطائفة الباغية.
ولما قالوا لـ علي: هل كفروا؟ قال: لا، من الكفر فروا، وقال: هم إخواننا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا إلا أن يبارزونا -يعني: أن يبتدءوا القتال معنا-، فإن قاتلونا قاتلناهم، ولا نسبي نساءهم، ولا يذفف على جريح، وهذه ضوابط قتال الطائفة الباغية، وهذا الكلام مشتق من قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
ومن هذا الفقه: ألا يذفف على جريح، يعني: لو جرح رجل منهم فلا يقتل، بل يؤخذ ويداوى، وأيضاً إذا ألقى أحد سلاحه فلا يقتل.
فمن فقه قتال الطائفة الباغية ألا يذفف على جريح، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن استسلم فهو آمن؛ لأنه مسلم كالمسلمين.
فقاتلهم علي رضي الله عنه وأرضاه وقتلهم، وكانت هذه علامة من علامات أن الحق مع علي كما سنبين، وهذه الفتنة هي الأخيرة.(70/10)
استشهاد علي
بعد هذه الفتن الثلاثة التي كانت في عصر علي استعجل الثوار قتل علي، فيموت شهيداً عند ربه مصداقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على أحد واهتز أحد وكان هو عليه وعلي وعثمان وأبو بكر وعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أثبت أحد؛ فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد)، وكان علي من الشهداء.
وأيضاً نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي ذات مرة فقال له: (أتعرف من أشقاها؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أشقاها صاحب الناقة، وأشقاها من يضرب هذه فتبتل به هذه)، ويشير إلى رأس علي رضي الله عنه وأرضاه.
فجاء أشقاها، وكان علي بن أبي طالب قد اغتم بأهل الكوفة أيما غمّ، ورأى منهم الشقاق والخيانة، فطلب من ربه أن يقتل وأن يسارع أشقاها بقتله، فكان يمشي بين السواري ويقول: أين أشقاها؟ أما يبعث أشقاها؟ حتى جاء أشقاها فضربه رضي الله عنه وأرضاه وقتله بسيف مسموم، فذهب إلى ربه شهيداً، وكان الحق معه.(70/11)
الأدلة على أن الحق كان مع علي
الأدلة على أن الحق في الثلاث الفتن كان مع علي ما يلي: الوجه الأول: رجوع الصحابة إليه، فهذا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان أفقه الناس في عصره، وقد بكى بكاء شديداً بعدما علم بقتال علي للخوارج وأن الانتصار كان لـ علي، فبكى وقال: يا ليتني قاتلت مع علي، فندم ندماً كبيراً أنه لم يقاتل مع علي.
وعائشة لما بلغها مقتل الخوارج، قالت: والله! إن الحق كان مع علي، وما كان بيني وبينه إلا ما كان بين الأحماء بعضهم وبعض، رضي الله عنهم وأرضاهم.
الوجه الثاني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية)، إذاً فـ عمار كان مع الفئة التي معها الحق، بل جاء صريحاً في بعض الآثار والأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أينما كان الحق كان عمار)، وهذا دليل آخر على أن علياً كان معه الحق؛ لأن عماراً كان مع علي رضي الله عنه وأرضاه، فقد قتل عمار في وقعة صفين التي وقعت بين جيش علي وجيش معاوية، فدخل الرجل الذي قتل عماراً وقال: قتلت عماراً وهذا سلبه، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أبشر بالنار، (فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر بالنار من قتل ابن سمية) ثم بين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية)، حتى إن كثيراً من جيش الشام ذهب يبايع علياً؛ لأنه علم أن الحق مع علي، فما كان من معاوية إلا أن قال: قتله الذين أخرجوه، يعني: علياً، فرد علي بن أبي طالب بفقه رصين فقال: إذاً قتل محمد حمزة، رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه هو الذي أخرجه إلى أحد.
فهذا أيضاً دليل من الأدلة والآثار التي تثبت أن الحق مع علي.
والدليل الأخير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تمرق مارقة من الدين، قوم يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، يقرءون القرآن لا يبلغ تراقيهم، فيهم رجل يده كثدي المرأة)، فلما قاتل علي الخوارج ذهب يبحث في الناس حتى وجد الرجل، فسجد لله شاكراً؛ لأنه علم أن الحق كان معه، وهذا كان جلياً واضحاً أن الحق مع علي، فنرجو الله جل وعلا ونسأله أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم وأن يأجره أجراً عظيماً وفيراً؛ لأن الحق كان معه، ونرجو الله جل وعلا أن يأجر معاوية على اجتهاده، وإن كان قد أخطأ وله في ذلك الأجر، وأن يحشره مع النبي صلى الله عليه وسلم فهو كاتب الوحي رضي الله عنه وأرضاه، وهو خال المؤمنين؛ لأنه أخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.(70/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - ترتيب الخلافة - العشرة المبشرين بالجنة
من عقائد أهل السنة أن ترتيب الخلفاء الراشدين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وأفضل الأمة بعدهم باقي العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أصحاب بيعة الرضوان، فهم أعظم أولياء الله الذين حققوا الإيمان والتقوى.(71/1)
ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فنحن على مشارف الانتهاء من هذا الكتاب الجليل العظيم: كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وقد انتهينا من الكلام على فضائل الأئمة الأربعة خير هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي , واليوم سنتكلم بإذن الله عن ترتيبهم في الفضل.
الخلفاء هم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فهل هذا الترتيب في الخلافة هو نفس الترتيب في الفضل أم هناك خلاف بين أهل العلم؟ لم يحدث خلاف بين أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه على الأمة بأسرها سوى النبي صلى الله عليه وسلم, ثم تفضيل عمر رضي الله عنه وأرضاه بعد أبي بكر.
روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم أنه سئل الإمام مالك: أي الأمة أفضل؟ قال: أما أبو بكر وعمر فلا خلاف فيهما, وأما علي وعثمان فحدث فيهما الخلاف, وحقاً قد حدث بعض الخلاف بين أهل السنة والجماعة في تقديم علي على عثمان، فقد كان أبو حنيفة والثوري وبعض علماء أهل الكوفة يرون تقديم علي رضي الله عنه وأرضاه على عثمان بن عفان، ولم يخالفوا في تقديم أبي بكر وعمر، فقد رضيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم للدين فرضوهم للدنيا.
وإيمان أبي بكر لو وضع في كفة ووضع إيمان الأمة في كفة لرجحت كفة إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وجاء بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف قال: ما سبق أبو بكر الأمة بكثير صلاة ولا صيام، ولكن سبق الأمة بشيء قد وقر في قلبه, وعمر وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الملهم في هذه الأمة، ولو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير الفج الذي سلكه عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وقد قام علي بن أبي طالب على منبر الكوفة يخطب في الناس ويقول: خير هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري، أي: ثمانين جلدة, وفي رواية أخرى أن علي بن أبي طالب قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم، وهذه الرواية تلمح بأن علي بن أبي طالب ما كان يرى تقدم عثمان عليه, لكن سنبين بالأدلة القاطعة أن عثمان يتقدم في القدر على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه, وهذا الخلاف بين أهل السنة والجماعة قد قطع وحسم بالأثر والنظر.
أما بالأثر ففي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويقر به، فلو كان عثمان يتقدم على علي في القدر لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ولقدمه على عثمان في القدر.
أيضاً ورد عن عبد الرحمن بن عوف قال: ما رأيت الأنصار والمهاجرين يعدلون بـ عثمان أحداً حتى النساء في خدورهن، يعني اتفقوا على تقديم عثمان على علي رضي الله عنه وأرضاه.
وأيضاً جاء بسند صحيح عن أيوب السختياني أنه قال: من فضل علي على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ أي: لأنهم ما اختاروا إلا الأفضل, وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
وجاء إلى الحسن البصري رجل من أهل الشام فقال: من أفضل أبو بكر أم علي؟ فقال: أما علي فله سوابق وقد شاركه فيها أبو بكر -وهي سبق الإسلام ومناصرة الدين- وكان لـ علي أحداث لم يشاركه فيها أبو بكر، ويقصد بذلك الفتن التي حدثت في قتال الجمل وصفين، وما حدث بينه وبين الصحابة مثل طلحة والزبير، وهذه ما كانت في عهد أبي بكر، فيفضل بذلك أبو بكر على علي.
ثم قال: أعلي أفضل أم عمر؟ فقال: كان لـ علي سوابق شاركه فيها عمر، وكان لـ علي أحداث لم يشاركه فيها عمر، فـ عمر كان سيفاً قاطعاً في الحق، وما قصر في السير على نهج النبي وأبي بكر، وكان هو الباب الذي إذا كسر فتحت الفتن، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لم يشارك علياً في الأحداث، فـ عمر أفضل من علي.
ثم قال: من أفضل عثمان أم علي؟ فقال له مثلما قال في أبي بكر وعمر.
ثم قال له في الرابعة: من أفضل علي أم معاوية؟ فقال له: أما علي فله سوابق لم يشاركه فيها معاوية، وكانت له أحداث شاركه فيها معاوية، فـ علي أفضل.
إذاً: استقر عند أهل السنة والجماعة أن فضلهم مثل ترتيبهم في الخلافة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنه وأرضاه, وهذا الآن اتفاق عند أهل السنة والجماعة.(71/2)
فضل العشرة المبشرين بالجنة
نعتقد اعتقاداً جازماً -لأن هذا من باب الاعتقاد- أن الذي يتلو الخلفاء في الفضل باقي العشرة المبشرين بالجنة؛ الذي جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث واحد كما في مسند أحمد عن عبد الرحمن بن عوف بسند صحيح قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) هؤلاء العشرة بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة وهم يمشون بين أظهر الناس.
وفي رواية أخرى: دخل رجل على المغيرة بن شعبة ودخل أيضاً سعيد بن زيد، وهو أحد المبشرين بالجنة، فقام الرجل يتكلم عما حدث من الفتن بين الصحابة, فقال له: اسكت أيسب صحابة رسول الله وأنا جالس؟! سمعت أذني ورأت عيني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة)، ثم سرد تسعة دون أمين هذه الأمة أو دون عبد الرحمن بن عوف، لكن الحديث الأول هو الأتم ففيه ذكر العشرة الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة.(71/3)
من فضائل سعد بن أبي وقاص
سعد بن أبي وقاص هو أفضل الناس بعد الخلفاء الأربعة، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (سعد خالي، ليريني أحدكم من خاله!) يتشرف بأنه خاله من الرضاعة رضي الله عنه وأرضاه.
وقال علي بن أبي طالب كما في الصحيح: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه, نثر له كنانته ثم قال له: (ارم سعد! فداك أبي وأمي).
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أرق فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني، فسمع صوت السلاح في الخارج، فقال: من؟ فقال: سعد بن أبي وقاص؛ جئت لأحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم).(71/4)
من فضائل طلحة
ومن المبشرين بالجنة طلحة الذي فدى بروحه نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وما قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد مثلما قاتل طلحة، في غزوة أحد فر كثير من الصحابة وبقي رسول الله ومعه طلحة وسعد بن أبي وقاص , فـ سعد بن أبي وقاص يرمي بالنبل وطلحة ينافح عنه بالسيف، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يصد عنا القوم من المشركين وهو رفيقي في الجنة؟ فقام طلحة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس، ثم قال للأنصار: من ينافح عن رسول الله وهو رفيقي في الجنة؟ وكانوا عشرة فقام واحد تلو الآخر حتى قتلوا جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان طلحة يقول: يا رسول الله! لا ترفع رأسك، لا يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله, ثم قاتل ونافح عن رسول الله بالسيف، وصد السيوف التي تأتي على رسول الله بيده حتى شلت, فسقط على الأرض، فجاء أبو بكر وعمر فقال رسول صلى الله عليه وسلم: دونكم صاحبكم فقد أوجب) يعني: أوجب الجنة بما فعله، وجاء في بعض الروايات أنه ما قاتل أحد مثلما قاتل طلحة وسعد بن أبي وقاص يوم أحد.(71/5)
من فضائل الزبير
الزبير هو أول من أشهر سيفاً في سبيل الله في مكة، وذلك عندما سمع أنه قد أصيب رسول صلى الله عليه وسلم، فأشهر سيفه وخلص إلى رسول الله، فلما علم رسول الله الخبر دعا له، ودعا لسيفه, وفي الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم انتدب رجلاً من صحابته يوم الخندق أن يأتيه بخبر القوم دون أن يؤلب عليه الناس، فقام الزبير فذهب فأتى بالخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: لكل نبي حواري وحواريي الزبير) , وفي رواية قال: (أنت حواريي وابن عمتي) رضي الله عنه وأرضاه.(71/6)
من فضائل عبد الرحمن بن عوف
عبد الرحمن بن عوف إيمانه يعدل نصف إيمان الأمة، كان حليماً، وكان مستشاراً لـ عمر بن الخطاب، وقد اشتد رسول الله على سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه بسبب عبد الرحمن بن عوف، حدثت مشادة بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فاشتد خالد على عبد الرحمن، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يبين فضل عبد الرحمن فقال: (لا تسبوا أصحابي)، مع أن خالداً صاحب، لكنه لا يعدل في القدر والفضل عبد الرحمن بن عوف، ورسول الله ينزل الناس منازلهم قال: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).(71/7)
من فضائل أبي عبيدة وسعيد بن زيد
أبو عبيدة بن الجراح قال فيه عمر بن الخطاب: لو كان حياً لأوصيت له, يعني: بالخلافة، وقد كان يقدمه على كثير من الصحابة، وعندما ذهب لفتح بيت المقدس ونزل إلى المخاضة فخلع نعليه وجعلهما تحت إبطيه، قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! ما أحب أن القوم يرونك على هذه الحالة؟ فقال: لو غيرك قالها! يعني لأنبته وعزرته؛ لأن أبا عبيدة كان له عند عمر بن الخطاب مكانة عالية، فقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)، فمن كان مديراً لشركة أو خليفة أو أميراً وأراد أن يستعمل رجلاً فلابد أن يكون هذا الرجل متصفاً بصفتين هما: القوة والأمانة: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وكان أبو عبيدة متصفاً بالقوة والأمانة، وكان أمير الجيوش في فتوحات الشام رضي الله عنه.
وسعيد بن زيد كان من عشيرة عمر بن الخطاب، وهو ممن بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهم يمشون على الأرض.(71/8)
فضل أهل بدر والحديبية
نعتقد اعتقاداً جازماً أن أفضل هذه الأمة بعد العشرة هم أهل بدر, فإذا وجدت من يسب بعض صحابة رسول الله فقل له: أفضل البشر على الإطلاق بعد العشرة أهل بدر, أما أتاك نبأ عمر بن الخطاب عندما قال: (دعني أضرب عنق هذا المنافق -يعني حاطب بن أبي بلتعة لما بعث إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم سيغزوكم -فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم قد غفرت لكم).
ثم نعتقد اعتقاداً جازماً بأن أفضل الصحابة بعد أهل بدر هم أهل بيعة الرضوان، قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] فرضي الله عنهم بالتنصيص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يلج النار أحد بايع تحت الشجرة)، فهؤلاء هم أهل الفضل الذين قدمهم رسول الله، وقد قدمهم قبله الله جل وعلا.(71/9)
بعض فضلاء الصحابة(71/10)
حمزة بن عبد المطلب
سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه أسد الله وأسد رسوله، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حمزة سيد الشهداء)، دخل حمزة على فرعون هذه الأمة وسمع أنه قد سب رسول الله وما كان قد آمن، لكن للحمية صفعه حتى شج رأسه، وكان حمزة من القوة بمكان، وقال: أما تعلم أنني على دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! نصر الله به الدين، كان في غزوة بدر يضع ريشة نعام تفرق بينه وبين الذين يقاتلون، فقال أبو سفيان: من الذي كان يضعها، فقد فعل بنا ما لا يفعل غيره؟! وهو حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وما كان أحد يجابه حمزة، حتى وحشي ما قتل حمزة إلا غدراً، ولذلك ما أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى وجه وحشي، فبعدما أسلم قال له رسول صلى الله عليه وسلم: (قص علي كيف قتلت حمزة)، فذكر له أنه اختبأ خلف صخرة حتى طعنه برمحه، وذكر أن حمزة لقي رجلاً من المشركين فقال له حمزة: تعال إلي يا ابن مقطعة البظور؛ لينتهك حرمته، ويبين قلة قدره، قال: فضربه حمزة فكان كأمس الدابر يعني: كالليلة البارحة، قال: وعندما ضربته برمحي اقترب مني فضمني حتى وجدت منه ريح الموت، فلما قص ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم شق عليه أيما مشقة فقال: (لا تريني وجهك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والحمد لله وحشي أسلم بفضل الله جل وعلا، وهو الذي قتل مسيلمة، طعنه بالحربة وقال: هذه بتلك، لكن أي حربة تعدل بقتل حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وقد قيل: إنه مات مخموراً، فقال عمر: قد علمت أن الذي قتل حمزة لا يسلم من شر، والله أعلم بهذه القصة، لكن نقول: هو أسلم، ويصدق عليه حديث: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقتل الكافر المسلم، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيدخلان الجنة).
والضحك صفة يتصف الله بها، فنثبتها من غير تعطيل ولا تشبيه، فضحك الله غير ضحك البشر، قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وقد جاء في حديث آخر إثبات ضحك الله جل وعلا، وهو: (قيل: يا رسول الله! ما يضحك الرب عز وجل؟ فقال: أن تقتل مقبلاً غير مدبر، فقال رجل: أيضحك ربنا من هذا؟ قال: نعم، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك) انظروا إلى الفقه، يعني إذا كان الله يضحك فسيضحك لنا ويجعلنا من الشهداء، فالرجل صدق بصفة الضحك وقال: (أيضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك، فخلع درعه وأقبل على العدو فقاتل حتى قتل شهيداً).
فالله يضحك في الجهاد وأيضاً في جهاد النفس، ففي الحديث الذي معناه: (يضحك الله من الرجل الذي غلبته عينه يريد أن ينام ويقول: لا راحة لي في النوم إلا أن أقوم أناجي ربي).
الغرض المقصود أن لله صفة الضحك، وهذه صفة فعلية إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك، وهي صفة ثبوتية، ومثلها صفة العجب، قال الله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] على القراءة الأخرى (عجبتُ) يعني: عجب الله.(71/11)
العباس
العباس رضي الله عنه وأرضاه أثبت النبي صلى الله عليه وسلم فضله بتوقيره وإعظامه وإجلاله لعمه، وفي الحديث: (لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضاً فأغشي عليه، فخشي القوم أن يكون مرضه من بعض الأمراض التي كانوا يلدون المريض منها، فلدوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم وجد الدواء في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل بي هذا؟ لا يبقى أحد إلا لد غير العباس) توقيراً للعباس.
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العباس: (أما علمت يا عمر أن عم الرجل صنو أبيه).(71/12)
من فضائل أمهات المؤمنين
أمهات المؤمنين لهن الإعظام والإكبار والإجلال، والواحدة منهن أفضل من أم الرجل، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وكلهن يشتركن في أصل الفضل ويتفاوتن في الكمال، واختلف العلماء هل خديجة أفضل أم عائشة أفضل؟ أما خديجة فقد جاء في فضلها كثير من الآثار كما في الصحيح: (أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بشر خديجة ببيت من قصب -يعني: من لؤلؤ- لا نصب فيه ولا صخب) , وكانت عائشة تقول: ما غرت من امرأة مثلما غرت من خديجة رضي الله عنها وأرضها, وفي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد) فهذا نص في محل النزاع، ويدل على أن خديجة أفضل من عائشة، لكن جاء حديث آخر جعل العلماء يختلفون في التفضيل بينهما، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) وسيد الطعام عند العرب هو الثريد، وكانت عائشة تقول: ما من امرأة من نسائه بكر غيري، وهذا أيضاً فضل لها رضي الله عنها وأرضها, ومن فضلها المعلوم المشهور جداً مسألة الإفك، حيث أظهر الله براءتها من فوق سبع سماوات، وأنزل براءتها بآيات في القرآن تتلى إلى آخر الزمان، فيا ويل من يتهم هذه الشريفة العفيفة الصديقة! فيا ويل من غالى في التشيع وسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!(71/13)
ضلال الشيعة
الشيعة يزعمون أنهم يحبون آل البيت، وهم يسخطون آل البيت، كما قال علي بن أبي طالب: حبكم أصبح لنا شيناً؛ لأنهم رفعوهم عن منزلتهم, وكان الحسن يخطب فيهم ويقول: أطيعونا ما أطعنا الله ورسوله لا لأننا من آل البيت.
الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وأيضاً كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! يا عم رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً, يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً)، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو فقال كما في الصحيحين: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) فهو عبد الله ورسوله، وهذا فيه الوسطية بين الغالي والجافي، أما الغالي فهو الذي يرفعه إلى درجة الربوبية أو الإلهية كما فعلوا مع عيسى، فقالوا: هو ابن الله حاشا لله, أو قالوا: هو الله، فقال: هو عبد حتى ينفي الغلو, وأيضاً قال: هو رسول الله، حتى ينفي الجفاء، كما قال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] يعني: لا تقولوا: يا محمد كما تقول الأعراب، لكن نادوه بوصفه: يا رسول الله، يا نبي الله.
وأيضاً في الحديث: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أناس فقالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان).
أما الشيعة الروافض الخبثاء فقد غالوا في آل البيت، حتى إنهم وصلوا بـ علي أنه الإله المعبود, ولما سمع ذلك حرقهم بالنار، فزادوا ضلالاً فقالوا: لا يحرق بالنار إلا الله, فعبدوه من دون الله.
والله الذي لا إله إلا هو إن الشيعة أضر على الدين من اليهود والنصارى، وأسوأ علينا من المنافقين الكاذبين الفاسقين، هؤلاء خبثاء ألهوا علياً رضي الله عنه وأرضاه، وغالوا في أهل البيت، وهم الذين خذلوا أهل البيت, فأهل الكوفة هم الذين خذلوا الحسين بعدما بعثوا له الرسائل ليقدم عليهم، فهم سبب مقتل الحسين، وهم الذين سبوا الحسن، فقالوا له: يا مسود وجوه المؤمنين، عندما تنازل عن الخلافة لـ معاوية تصديقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).(71/14)
الولاية(71/15)
معنى الولاية
الولاية معناها لغة النصرة والمحبة, والولي هو النصير، قال الله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257].
أما معنى الولاية شرعاً فهي: مرتبة ومنزلة عظيمة لعبد عند رب العباد جل وعلا تستوجب النصرة والتأييد والتثبيت عند المحن، ويشترط في هذا العبد أن يكون قد قام بالدين ظاهراً وباطناً.
إذاً: للولاية شرعاً وجهان: الوجه الأول: ما يخص الرب جل وعلا من العناية بالعبد والتسديد والتثبيت والنصرة والتأييد.
الوجه الثاني: ما يخص العبد أن يكون قد قام بالدين ظاهراً وباطناً.(71/16)
كيف يكون العبد ولياً لله؟
كيف يكون العبد ولياً لله؟ وكيف يرتقي إلى هذه المنزلة؟ قال الله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، ثم بين هذه الصفات: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] إذاً: ولي الله جل وعلا لابد أن تتوافر فيه صفتان: الصفة الأولى: كمال الإيمان ظاهراً وباطناً, وهو قول باللسان، وعمل بالجوارح، وتصديق بالجنان.
الصفة الثانية: التقوى، وهي أن يعمل بطاعة الله على نور من الله -يعني على بصيرة وعلم لا على جهل- يرجو ثواب الله, وأن يجتنب محارم الله على نور من الله يخشى عقاب الله, فهو يعبد الله رغباً ورهباً, وهذا الذي امتدح الله به أنبياءه, لا كما ينسب إلى رابعة العدوية أنها قالت: ما أعبدك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن حباً فيك، وهذا كلام ساقط، فهل هي أفضل من الأنبياء؟ قال الله تعالى عن الأنبياء: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90].
فالمؤمن والولي الحق هو الذي قام بدين الله ظاهراً وباطناً، ويدعو الله رغباً ورهباً، ويعمل بدين الله على نور من الله يعني: على علم لا على جهل, يرجو ثواب الله، ويجتنب محارم الله على نور من الله يخشى عقاب الله, هذا هو الولي الحق.(71/17)
مراتب الأولياء
الأولياء لهم مراتب تتفاوت كما بين السماء والأرض, وأدنى هذه المراتب: أن يقوم بالفرائض وينتهي عن المحرمات, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم وصف هذا الولي فقال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فيقوم بالواجبات وينتهي عن المحرمات، وهذه أول درجة.
ثم الدرجة التي هي أعلى وأرقى أنه يتبع الفرائض بالنوافل.
وهذه درجة عظيمة جداً، من منّ الله عليه بهذه الدرجة لا يسقط منها أبداً، مع أن العبد قد يعصي الله، وقد يتجرأ على محارم الله، تأتيه شهوة فيسقط مرة، فهو ليس بملك، لكن إذا أوصله الله لدرجة الولاية المحبوبية فلا يسقط منها؛ لأن الله جل وعلا يتبع له هذه السيئة بحسنة، ويلهمه التوبة؛ فيرتقي عند الله جل وعلا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أراد مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، وقال الله تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).(71/18)
فوائد الولاية
إذا ارتقى المرء إلى درجة المحبة أو المحبوبية صار ولياً لله, وله مكافأة في الدنيا وفي الآخرة, أما في الدنيا فقد قال الله تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] يعني: لا خوف عليهم في دينهم فلا يفتنون في الدين، ولا يفتن في دينه إلا من كان منافقاً أو في قلبه دغل، أما الخوف والحزن في الدنيا فهذا لا يسلم منه أولياء الله، وكم في السجون من أولياء الله المتقين، وليس هذا نفياً لخوفهم في الدنيا من الله، ففي الحديث القدسي: (لا أجمع لعبدي خوفين وأمنين، من خافني في الدنيا أمنته في الآخرة).
إذاً: أولياء الله لا خوف عليهم في الدنيا من جهة دينهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ماذا يريدون مني؟ إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة, وإن سجنوني فخلوة لربي، أنا جنتي في قلبي، فهذا لا خوف عليه؛ لأن قلبه ثابت، ولو قطع صدره ورأسه بالمناشير فقلبه ثابت بالإيمان لا يفتتن، فلا خوف عليه بحال من الأحوال؛ لأنه ولي، فأعظم فوائد الولاية التثبيت, فهو مثبت من قبل الله بقلبه، ولما فزع الصحابة من فتنة القبر وهي أعظم فتنة يراها المرء أنزل الله آية تسكن قلوبهم؛ لأنهم أولياء لا خوف عليهم، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
أيضاً: لا خوف عليهم في الدنيا من أن تستأصل شأفة المسلمين، ولو اجتمع مشارق الأرض ومغاربها على أهل الإسلام، فستبقى أمة وطائفة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم.
أيضاً لا يحزنون في الدنيا حزناً يجعلهم يتقاعسون عن عبادة الله, فهذا هو الحزن المذموم, لكن قد يصابون بالهم والغم، لكن لا يصل بهم الحزن إلى أن يتقاعسوا عن عبادة الله أو يقنطوا من رحمة الله جل وعلا.
قال الله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] , أما في الحياة الدنيا فالملائكة عند الموت تبشرهم برحمة الله ورضوان الله وجنات عند ربهم جل وعلا, وفي الآخرة يفرحون بما يرون عند الله جل وعلا.
أيضاً: من المكافآت ما جاء في الحديث القدسي: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها) , ومعنى: (سمعه الذي يسمع به) أنه يكون عبداً موفقاً مسدداً من قبل الله؛ لأنه ولي لله, فأغلق عليه باب المعصية، أما سمعتم رجلاً يقول: أريد أن أدخل المسجد لأصلي لله، وما أعلم ما يمنعني، كلما أذهب أرجع؟! أما رأيتم عبداً يقول: أتقصد مكان تجمع النساء لأنظر إليهن، فما أرى أحداً منهن في الشارع؟! فهذا عبد موفق مسدد، الله جل وعلا اتخذه ولياً، فلا يرى إلا ما يحبه الله, ويعصم الله بصره من المعاصي، كما فعل الله جل وعلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الجاهلية قال له عمه العباس: اخلع إزارك واحمل الحجارة، ففعل فأغشي عليه، وفي بعض الروايات أنه مر بلهو فسمع الغناء فأغشي عليه وما سمع، وإن كان في الإسناد كلام، فهو محفوظ من قبل الله جلا وعلا.
أما العبد الذي خلع الله عنه الحفظ فهو يتوه ويتخبط في الأرض في معاصي الله, بينما العبد المسدد المثبت الموفق الذي اتخذه الله ولياً لا يرى إلا ما يحبه الله, (وبي يسمع) لا يسمع إلا القرآن، لا يسمع إلا مجالس العلم، لا يسمع إلا الذكر، وإن جاءته الشهوة فالله جل وعلا يذكره ما يجعله يخاف من الله فيرجع عن المعصية، وإن عصى فالله يوفقه للتوبة.
(وبي يبطش) كما قال الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] وهذه لا تكون إلا لأولياء الله، فالله يغربل الناس، والنصرة ستأتي على يد قوم قال فيهم رسول الله: (لن يهزم اثنا عشر ألفاً من قلة)، فهؤلاء هم الأولياء بحق، هم الأتقياء بحق، هم الذين حققوا الدين ظاهراً وباطناً.
وتمام مكافأة الولي قال: (ولئن سألني لأعطينه) , فمن رأى في نفسه أنه يحقق الدين ظاهراً وباطناً فليرفع يده، فإن الله جل وعلا حيي كريم لن يرده خائباً.
(ولئن استعاذني لأعيذنه) إن استعاذه من شيء فالله يسارع فيما يرضيه.
ثم قال: (وما ترددت في شيء أنا فاعله مثل ترددي في قبض روح المؤمن)، انظروا إلى مكانة الولي عند الله جل وعلا! الله اصطفاه واتخذه وليه ومع هذا يتردد في قبض روحه؛ لأنه يتردد في إساءته, انظروا كيف يسارع الله جل وعلا في مرضاة عبده الولي!(71/19)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - كرامات الأولياء
الولاية هي النصرة، وهي كرامة يعطيها الله سبحانه وتعالى لعباده الصالحين، الذين يؤمنون به ويتقونه، وقد يتلاعب الشيطان بمن يجتهد اجتهاداً عالياً في العبادة وهو جاهل بأسماء الله وصفاته وتوحيده، فيبعده عن الطريق الصحيح، فمن هؤلاء الجهلة من يصل به الحال إلى أن يدعي الألوهية، أو النبوة، أو يتعلم السحر أو غير ذلك.
وولاية الله لعباده الصالحين متفاوتة، وقد يكرم الله بعضهم ببعض الكرامات، وأهل السنة يثبتون الكرامات كما دل على ذلك الكتاب والسنة.(72/1)
صفات الأولياء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن ولي الله له صفات لا بد أن تتوافر فيه حتى يصير ولياً لله جل وعلا، فيجني من هذه الصفات ثمرة الولاية.
والولاية معناها: النصرة، ومعناها: المحبة، والولي لا بد أن تتوفر فيه صفتان حتى يوصف بأنه ولي من أولياء الله.
الصفة الأولى: تحقيق الإيمان ظاهراً وباطناً.
والصفة الثانية: التقوى والورع.
الصفة الأولى التي لا بد أن تتوافر في ولي من أولياء الله: الإيمان الظاهر والباطن، وتحقيق الإيمان ظاهراً أي: تحقيق الإيمان بالجوارح، وتحقيق الإيمان باللسان، عن طريق الذكر الواجب، ودخول الإسلام لا يكون إلا بالتوحيد؛ بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحقيق الفرائض بالجوارح.
وتحقيق الإيمان باطناً أي: تحقيق الإيمان داخل القلب من التصديق والقبول واليقين والتوكل والإنابة والخشية، هذا تحقيق الإيمان ظاهراً وباطناً.
وأيضاً لا بد له من صفة أخرى زائدة على هذا الإيمان وهي: التقوى، التقوى التي تحجب عن معاصي الله جل وعلا وعن المحارم، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، والتقوى هي: العمل بطاعة الله على نور من الله، يعني: على بصيرة وعلم، لا على جهل، وكثير من العباد تراهم على جهل بدين الله جل وعلا، وسيحاسبون على ذلك، كما سنبين أن الشيطان يتلاعب بمن يجتهد اجتهاداً عالياً في العبادة، وهو جاهل بأسماء الله الحسنى، جاهل بصفات الله، جاهل بالتوحيد الخالص الذي يقدمه بين يدي عبادته.
وهكذا يتلاعب الشيطان بهؤلاء الجهلة، فلا بد أن يعمل بطاعة الله على نور من الله يعني: على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: على علم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فيعمل بطاعة الله على نور من الله، ويرجو ثواب الله، ويجتنب محارم الله على نور من الله، يعني: على علم وعلى بصيرة، ويخاف عقاب الله جل وعلا.
إذاً: يخلط بين الخوف والرجاء: كما قال تعالى: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقلنا: هذا التقسيم فيه رد على المتصوفة الذين يتنطعون، ويزعمون أن رابعة العدوية قالت: لا أعبدك طلباً لجنتك، ولا خوفاً من نارك.
مع أن الذهبي انتصر لها وبين أن أسانيدها ليست بصحيحة.
وهذا لا يهمنا في شيء، سواء صحت الأسانيد إليها، أو صح عنها أو صح عن غيرها من المتصوفة، فهذا الكلام خطأ محض، وهو مخالف لشريعة الله جل وعلا، بل أفضل الخلق على الإطلاق الأنبياء والرسل قال الله عنهم: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] أي: خوفاً ورجاءً، فلا بد للولي أن تتوافر فيه هذه الصفات: الإيمان الظاهر والباطن والتقوى التي فيها عمل بطاعة الله، واجتناب محارم الله جل وعلا.(72/2)
الولاية مراتب تتفاوت
مراتب الولاية لا تتوقف، بل تتفاوت كما بين السماء والأرض، لكن أدنى هذه المراتب من أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، فهذا أول الدرج الذي يصعد فيه الولي، ليصبح ولياً لله جل وعلا.
وأكمل المراتب في الولاية: من أدى الفرائض، وانتهى عن المحرمات، وأتبع الفرائض بالنوافل والمستحبات، وأتبع الانتهاء عن المحرمات بالانتهاء عن المكروهات، والشبهات تدخل مع المحرمات، فمن انتهى عن المحرمات، وعن المشتبهات، وانتهى عن المكروهات، وأيضاً عن كثير من المباحات، فقد وصل في الورع والتقوى مبلغاً، فهذه أكمل مراتب الولاية لله، جعلنا الله وإياكم ممن ينزل هذه المنزلة ويرتقي هذا المرتقى في الطاعة.
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبرا وقال بعض علمائنا: من طلب العلا سهر الليالي.
فلا بد أن تجد وتجتهد؛ لأنه ليس بين الله وبين عباده حاجز، إن وجدك الله جل وعلا صادقاً في جدك واجتهادك، وفي عبادتك له جل وعلا ارتقيت إلى هذه المنزلة، وبينهما من المنازل ما تتفاوت به المراتب، وتشرأب أعناق الناس إلى هذه المنزلة، ويرتقي المرء إلى ربه بهذه المنزلة، من منزلة المحبة إلى منزلة المحبوبية، وقد بينا أن منزلة المحبوبية إذا ارتقى إليها المرء، لا ينزل منها مرة ثانية، وإن عصى وإن ألم بالسيئات، فإن الله يلهمه التوبة بعد التوبة؛ حتى يصعد مرتقى غير هذه المنزلة التي نزلها، مرتقى أعلى منها؛ لأن العبد بعدما ينكسر ويتذلل ويبكي على معاصيه، ويتوب إلى الله توبة نصوحاً، فإنه ينزل منزلة أعلى من المنزلة التي كان عليها، ويتقرب قربة أكثر من الله جل وعلا، نسأل الله أن نرتقي إلى هذه المراتب.
إذاً: فهو ينتقل من المحبة إلى المحبوبية ليجني ثمرة الولاية.(72/3)
البشريات التي يلقاها الولي في الدنيا والآخرة
العبد الولي عبد موفق مسدد مثبت مبشر، له بشريات في الدنيا وفي الآخرة، أما بشرياته في الدنيا فقد جاءت بأسانيد صحيحة مذكورة عند تفسير قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى} [يونس:63 - 64]، فورد في الآثار بالأسانيد الصحيحة أن البشرى هي الرؤيا الصالحة، يراها الولي أو ترى له، هذه أول بشريات الولي في الدنيا، أنه يرى رؤيا صالحة، أو ترى له، وهذه البشرى جزء من أجزاء النبوة، وهي التي بقيت من الوحي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة).
وقيل: البشرى أن الله جل وعلا يبشره ببعث الملائكة عند قبض روحه لمكانته في الجنة كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت:30]، فيبشرونهم بالجنة عند قبض الأرواح، والبشارة في الآخرة أن الله جل وعلا يفتح له المجال، ويعرفه ويهديه إلى مكانه في الجنة، فيكون أشد معرفة له من معرفته لبيته في الدنيا، فهذه من بشريات الولي في الدنيا ثم في الآخرة، قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64]، وقال تعالى: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
أيضاً هو مسدد مثبت، قال الله تعالى: (إن أحببته)، يعني: الولي الذي ارتقى المرتقى الرفيع فوصل إلى درجة المحبوبية، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله في قبض روح المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
فهذا حديث عظيم يبين أن الولي مسدد مثبت من عند الله جل وعلا، لا يذكر إلا ما يرضي الله جل وعلا، ولا يسمع إلا ما يرضي الله جل وعلا، وإذا بطش لا يبطش إلا بقوة الله، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
ومن البشريات أيضاً أن الله جل وعلا يظهر فضله في الدنيا، ويظهر مكانته أمام الصالحين، بكرامة تظهر على يديه، علمها أو لم يعلمها، وهذه من البشريات التي تثبت أن هذا الرجل له منزلة عند الله جل وعلا، وأنه ولي من أولياء الله الصالحين، وهي الكرامة.(72/4)
معنى الكرامة لغة واصطلاحاً
الكرامة لغة: مشتقة من الكرم، والكرم هو العطاء والجود، واسم الله الكريم، وهذا الاسم يتضمن صفة الكرم، فالكرامة عطاء من الله لعبد من عباده اصطفاه على باقي العباد.
أما شرعاً واصطلاحاً فالكرامة هي أمر خارق للعادة، يتفضل الله به على عبد من عباده اصطفاه، غير مقرون بتحد؛ لأن المعجزة مقرونة بتحد؛ لأن الله جل وعلا يبعث النبي ويتحدى، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:23 - 24] التحدي: أن يأتوا بمثل هذه المعجزة، أما الكرامة فلا تحدي فيها، إذاً: هو أمر خارق للعادة غير مقرون بتحد.(72/5)
اختلاف الناس في كرامات الأولياء
الكرامة اختلف فيها على ثلاثة مذاهب، المذهب الأول: مذهب فيه غلو، والمذهب الثاني: مذهب فيه جفو، والمذهب الثالث: مذهب وسط وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
أما المذهب الأول: مذهب الأشاعرة، يرون أن الكرامة والمعجزة أمر واحد لا خلاف بينهما، الفارق الوحيد: هو أن الكرامة لا يتحدى بها الولي، والمعجزة يتحدى بها النبي، إذاً: الأشاعرة يثبتون الكرامة، ويقولون: هي كالمعجزة، وما يحدث للنبي يحدث للولي.
معنى ذلك: أنه يمكن للولي أن يأخذ عصاً ويضرب بها البحر فينفلق؛ لأنه يساوي ما يحدث للنبي، أو يأخذ خشبة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيهزها، فتنقلب سيفاً أمامهم، أو يلقي الخشبة أو العصا فتكون حية، هذا على كلام الأشاعرة، أن ما يحدث للنبي قد يحدث للولي، لكن الولي لا يتحدى والنبي يتحدى، وهذا غلو كما سنبين.
المذهب الثاني: على النقيض مذهب فيه جفو، وهو مذهب المعتزلة، الذين يمررون كل شيء على العقل، هؤلاء لا يثبتون الكرامة، ويخالفون بذلك الكتاب والسنة والواقع المشاهد، قال: لا كرامة لولي بحال من الأحوال، واستدلوا على ذلك بشبهٍ عقلية، قالوا: لو قلنا بالكرامة ساوينا بين الولي والنبي، ولازم ذلك تلبيس الأمر على العامة، يلبس عليهم الأمر فيقولون: كل الأولياء هم أنبياء، ولا يفرقون بين نبي ولا ولي، ويكون الذي تميز به النبي قد تميز به الولي، فلا فرق بين نبي ولا ولي، هذه هي الشبهة العقلية.
المذهب الثالث: المذهب الوسط في الكرامة، مذهب أهل السنة والجماعة، قالوا: الكرامة ثابتة بالكتاب والسنة، أما بالكتاب، فإن الله أثبتها لبعض عباده، قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37] فأثبتها الله جل وعلا في أمة من إمائه، وأيضاً ثبتت في السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الكرامة تأتي لعبد صالح قد أدى الفرائض وانتهى عن المحرمات وتمسك بالسنة، كما جاء عن أنس الصادق الذي صدق الله ما وعد، (جاء أنس عندما كسرت أخته الربيع سن جارية، فطلب القصاص، فقال أنس: سنُّ الربيع يا رسول الله! والله لا تكسر -هو لا يقسم على النبي صلى الله عليه وسلم رداً حاشا لله، لكنه صادق مع ربه- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أنس! كتاب الله القصاص -يعني: لا بد أن تكسر- فرضي ولي الجارية بالعفو مقابل الدية، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم متعجباً لـ أنس، ثم قال: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وقال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
ومن الكرامات: أن يرفع يده، وما ينزل يده إلا ويستجاب له في الحال، كما حدث مع البراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
والغرض المقصود أنها ثابتة: بالكتاب وبالسنة وبالواقع المشاهد، فكثير من الصحابة شاهدوا كرامة عمران بن الحصين، كانت الملائكة تسلم عليه وهو يمشي في الشوارع.
أيضاً أسيد بن حضير كان يمشي ومعه العصا في الظلمة فتنير له الطريق.
كذلك الأسد كلم سفينة وأخذ به إلى جيش المسلمين؛ كرامة لـ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: يا أبا الحارث، اعلم أني مولى رسول الله، فحرك ذنبه له، ثم قال: دلني على الجيش، فأخذه حتى أوصل، ثم حرك ذيله كأنه يسلم عليه؛ كرامة لهذا الصحابي، فهي ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالواقع المشاهد.
فمذهب أهل السنة والجماعة أنها ثابتة، لكنها أقل من المعجزة، فهي تتفق مع المعجزة وتفترق، تتفق بأنها أمر خارق للعادة، وتفترق بأنها أقل درجة من المعجزة، يعني: لا يمد الخشبة فتكون سيفاً، ولا تقلب له حية، ولا ينفلق له بحر، ولا يضرب الحجر فيتفجر ماءً، لا يحدث له ذلك، لكن يمكن أن يطير في الهواء، ويمكن أن يمشي على الماء، ويمكن أن يرفع يده وقبل أن ينزل يده يستجاب له الدعاء في التو واللحظة، يمكن له ذلك؛ لأن هذا من الكرامات، فهي ثابتة لكنها أقل درجة من المعجزة.
والأدلة على ذلك أن الله جل وعلا إذا أرسل النبي صلى الله علبه وسلم إلى قوم فمنهم السفيه ومنهم الغبي ومنهم المتغابي، ومنهم الجهول، فلا بد أن يؤذى النبي صلى الله عليه وسلم، ويصد عن الرسالة التي أرسل بها مع الأهوال التي سيقابلها، فلا بد من قوة في الآيات التي تنزل عليه، فلذلك ترى النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأقوى ما كانوا يتمتعون به، بمعجزة هم كانوا يتمتعون بها وهي البلاغة.
وقد كان بعض الشعراء من البلاغة يقرأ الشعر من الصباح إلى المساء في الحج، وكان لا يستطيع أن ينطق حرف الراء نطقاً صحيحاً، فأتى بآلاف من أبيات الشعر، ولم يأتِ ببيت واحد فيه حرف الراء، حتى لا يبين العيب الذي فيه، من الفصاحة والبلاغة، فكانت المعجزة هذه كاسرة له، فلذلك أنزل الله هذه المعجزة؛ ليبين أن هذه من عنده، وليست من قبل النبي، بل هو أمي، لا يقرأ ولا يكتب.
وأيضاً عيسى عليه السلام شاع الطب في عصره، فأنزل الله له هذه المعجزة، أنه لا يمسح على أحدٍ حتى يبرأ، ولذلك سمي المسيح؛ لأنه ما مسح مريضاً إلا ويبرأ على يديه.
وأيضاً في عصر موسى كان السحر والتبديل أمام أعين الناظرين لقلب الأعين، فكانت تقلب حقيقة معجزة للنبي موسى.
إذاً: يحتاج النبي إلى معجزة قاصمة للظهور، أما الولي فلا يحتاج للتحدي، بل الكرامة إظهار مكانته وورعه وزهده وتقواه، حتى يتأسى به بعض الحاضرين، فلا يحتاج مثلما يحتاج النبي، فكانت أقل درجة من النبوة.
أما بالنسبة للأشاعرة فيرد عليهم بأنه لا تنقلب الأعيان للأولياء، وما حدث ذلك قط لأي ولي، ائتوني بولي واحد حدثت له كرامة تشبه معجزة النبي، أو تساوي معجزة للنبي، ما حدث ذلك قط.
أما المعتزلة فالرد عليهم أنه لا خلط بين نبي وولي، إذ إن الولي إذا حدثت له الكرامة علم أو لم يعلم، وما قام الولي خطيباً فقال: قد حدثت لي كرامة كذا وكذا، وأدعوكم إلى الله فإني رسول إليكم، أترون الولي يفعل ذلك؟ لو فعل ذلك لكان متنبئاً أفاكاً، كذاباً، أثيماً، فالولي لا يفعل ذلك فلا يبقى عند الناس، أما النبي فيقوم وسط الناس ويقول: أنا نبي، قد أرسلني الله إليكم، وإن كان الولي يفعل ذلك فإن الله يكذبه في التو واللحظة، كما قام بعض الذين ادعوا النهضوية في هذه العصور، قام في أمريكا خطيباً في الناس وادعى النبوة، وادعى أنه بعث إلى الناس وأتى بآيات الله جل وعلا، وابتلاه الله في نفس اللحظة بإسهال حتى نزل على المنبر، وبنفس المرض بين الله كذبه وزوره في نفس الوقت واللحظة، فالولي لا يستطيع أن يتحدى بالكرامة التي كرمه الله بها.
إذاً: يوجد مذهب يقول: الكرامة تساوي المعجزة وهو مذهب الأشاعرة، ومذهب يقول: لا كرامة وهم المعتزلة، ومذهب أهل السنة والجماعة يثبتون الكرامة للولي، ويقولون: هي ثابتة بالكتاب والسنة، وهي أقل من المعجزة.
هذه جملة الكلام على معنى الكرامة ومنزلتها عند أهل السنة والجماعة.(72/6)
خوارق العادات وأقسامها بالنسبة للمؤمنين وغيرهم
المؤمنون أو غير المؤمنين ينقسمون بالنسبة لخوارق العادات أربعة أقسام: القسم الأول: قسم وحدوا الله حق التوحيد وأتموا الفرائض وانتهوا عن المحرمات، وقالوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثت لهم خوارق العادات، وهؤلاء من أولياء الله الصالحين، الذين قال فيهم الله جل وعلا: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62].
القسم الثاني: قسم فسقة وفجرة، استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين، وتراهم يمشون على الماء وتراهم يذهبون للحج يوم عرفة ويرجعون ويقولون: حججنا، وهم في بلاد بعيدة، وتراهم يفعلون أموراً خارقة للعادة وهم ليسوا على الإسلام، كما قال الشافعي: إذا رأيت رجلاً يمشي على الماء أو يطير في الهواء، فنقيسه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو من أولياء الله الصالحين، وإلا فهو من أولياء الشيطان الرجيم.
القسم الثالث: قسم كفرة، جحدوا بآيات الله جل وعلا، وأيضاً هؤلاء الناس استخدموا الشياطين، ولكنهم استخدموهم في إفساد عقائد الناس، فهم دجلة، وسيدهم هو الدجال الأكبر: المسيح الدجال، الذي سيأتي أمام الناس يحيي الموتى، يأتيه الرجل فيقول له: تؤمن بي؟ يقول: أؤمن بك على شرط، يقول: ما شرطك؟ يقول: تحيي لي أبي وأمي، فيظن الرجل أنه يحيي أباه وأمه، ولكن ذلك عن طريق الجن حيث يتمثلون في أبيه وأمه، وهو لا يحيي أباه وأمه.
فهؤلاء الناس استخدموا الشياطين كفراً وإلحاداً لإفساد عقائد الناس، ويتجرءون على الله، ويزعمون أنهم من الربوبية بمكان، ومن الإلهية بمكان؛ لأن الدجال يرتقي، يدعي النبوة بعدما يصنع خوارق العادات، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن اسمه المسيح؛ لأنه يمسح مشارق الأرض ومغاربها في أوقات يسيرة، ويأتي على الأرض الخربة فيقول: أخرجي كنوزك، فتخرج الكنوز، وينظر إلى السماء فيقول: أمطري فتمطر، فيغوي الناس بذلك، ويمر على الفقراء فيغنيهم، ويمر على الأغنياء فيفقرهم، أي: آتاه الله من لوازم الربوبية ما آتاه فتنة للعباد؛ فيدعي النبوة، ثم يرتقي إلى الربوبية، ويطلب لنفسه الإلهية، ويقول: أنا ربكم الأعلى، كما قال فرعون.
وهذا القسم الثالث هم من الكفر بمكان، وهم أكثر الناس.
القسم الرابع: قسم عباد زهاد، ولكنهم لا يرتقون هذه المنزلة التي سبقت؛ لأن الشياطين هم الذين يستغلونهم، فهؤلاء عبدوا الله على جهل، وهؤلاء صنف من صنف المتصوفة، الذين يرون بالكشف والوجد والذوق، تجد الرجل يجلس ثم ينتفض ويقوم ويبتسم وكأنه يعانق أحداً، فلما تسأله يقول: قد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حضر شيطانه، لكن يحسب أن هذا رسول الله، ويحسب أن هذه كرامة له من الله جل وعلا أو أن الملائكة تحرسه أو تأكل معه، أو يرى دابة على صورة حمار تأخذه فتطير به في الهواء، ويقول: هذه كرامة من الله، وهو جاهل، ويعبد الله على جهل، ويخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والولاية لا تكون لجاهل أبداً، إذ الجاهل يعبد الله وهو على جهل، فيشرك بالله حيث أراد صاحبه، وكم من مريد للخير لم يبلغه! فهذا القسم الرابع نعوذ بالله منهم، ونسأل الله جل وعلا أن نكون من الصنف الأول.(72/7)
صور من الكرامات في الأمم السابقة
انتقل المصنف إلى صور من الكرامات في الأمم السابقة ثم في هذه الأمة، أما في الأمم السابقة فقد تأولوا هذه الكرامات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال الكثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع، وذكر مريم عليها السلام).
كما وصف الله جل وعلا: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:37]، كرامة من الله جل وعلا.
فزكريا كان يدخل على مريم فيجد فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وهذه كرامة وإظهار لمنزلة مريم عند الله جل وعلا أمام الناس جميعاً.
أيضاً من الكرامات التي حدثت في الأمم السابقة صاحب سليمان ووزيره الذي عَلِمَ اسم الله الأعظم، وهو ولي من أولياء الله الصالحين، صنع الله له كرامة أمام نبي، وهذه تدل على أن الولاية لها مكانة علية، وهي لا تساوي النبوة كما يقول المتصوفة، ولا تتعداها، لكنها قريبة منها، فهذا الوزير أظهر الله على يديه كرامة أمام نبي صادق مصدوق، وهو سليمان عليه السلام، لما أراد عرش بلقيس قال تعالى: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، فكان هذا الوزير يحفظ اسم الله الأعظم، فدعا به قبل أن يرتد طرف سليمان، فوجد سليمان عليه السلام عرش بلقيس أمامه، فقال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ} [النمل:40].
وأيضاً في الأمم السابقة حدثت كرامة عظيمة جداً، أنطق الله طفلاً رضيعاً كرامة لعبد زاهد تقي نقي، تعبد لله جل وعلا وترك الدنيا خلفه زهداً، من أجل رضا الله سبحانه، هذا الرجل كما في الصحيحين كان عابداً، لكن الفقه ما كان له مرتقىً فيه، وبينما هو يصلي النافلة، إذ جاءت أمه تناديه، فقال: يا رب! أمي وصلاتي! من أقدم؟ فتحير كثيراً ثم قال: صلاتي، فاختار صلاته على أمه، ولكن الفقه يقول: لو دعته أمه وهو في صلاة الفرض لا يجوز أن يستجيب؛ لأنه عند تعارض الواجبات يقدم الأهم والأوجب، فالواجب أن لا يقدم أمه على صلاة الفرض، ولكن إن كانت الصلاة نافلة يقدم أمه على الصلاة، وكثير من الناس لا يعرفون ذلك.
يعني: لو أن رجلاً في صلاة النافلة وأمه دعته يجب عليه أن يخرج من الصلاة ويستجيب لأمه، لكن جريج فضل صلاته، فدعت عليه، وقالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجه النساء اللاتي يفعلن الفاحشة، فما أماته الله حتى نظر في وجه النساء اللاتي يفعلن الفاحشة؛ لأنه لما لم يقطع الصلاة من أجل أمه فقد أساء؛ ولذلك استجاب الله دعاء أمه، وكانت محقة لما دعت عليه، فجلس بعض الشياطين يريدون أن يوقعوا بهذا العابد، فأوزعوا إلى امرأة تفعل الفاشحة من بني إسرائيل أن تختبر صدق هذا العابد، فذهبت إليه، فراودته عن نفسه، ولأنه صادق في عبادته لله جل وعلا أبى، فلما رجعت راودها رجل فلاح مزارع فوطأها، فحملت منه، فلما أنجبت ووضعت الطفل، قالوا: ممن هذا؟ قالت: هذا ابن جريج، فهدموا صومعته.
وهذا فيه دلالة على أن دهماء الناس والعامة لا تأخذ منهم خيراً كثيراً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عامة الناس من هذا الزمان: (إنكم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل).
فالطائفة المنصورة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم طائفة قليلة، والذين يخالفونهم ويعارضونهم أكثر، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم).
وهؤلاء العامة ذهبوا ليقتلوا جريجاً، وهدموا الصومعة، وأخذوه، فإذا به ينظر إلى النساء اللاتي يفعلن الفاحشة، فأخذ يعاود نفسه يراجعها كيف لم أبر بأمي؟ وكيف لم أقطع الصلاة من أجل أمي؟ وأصبت بالنظر إلى المرأة التي تفعل الفاحشة بدعاء أمي.
وهذه لفتة مهمة جداً، وهو ضعيف الإيمان في قلوبنا، كل منا تشرأب عنقه حتى ينظر إلى امرأة جميلة، ويظفر بالنظر إليها، ولا يعرف أن هذا الطريق يودي به إلى المهالك؛ لأن الله جل وعلا قال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182].
فإنه من الممكن لأي شخص منا أن يطلق بصره على امرأة جميلة تعجبه، وانظروا إلى جريج العابد، فإن المعصية التي فعلها أدت به إلى أمر قد يودي بدينه، وهو نظره إلى اللاتي يفعلن الفاحشة، والنظر إلى اللاتي يفعلن الفاحشة مصيبة أيما مصيبة، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، فهذا الرجل كانت له عند الله مكانة؛ لتعبده وزهده وتقواه وورعه، فإن الله أنشأ له كرامة أيما كرامة، فقد ذهب إلى الطفل فوغزه وقال: من أبوك؟ فقال الطفل: أبي فلان المزارع، نطق أمام الناس، فعلموا أن هذه كرامة له، وبرأه الله على رءوس الأشهاد، فقالوا: نبني لك صومعة من ذهب؛ لأنك ولي من أولياء الله الصالحين، فأبى وطلب منهم أن يعيدوها كما كانت، فالكرامة لا تكون إلا لمن صدق الله، فارتقى إلى منزلة الولاية.
كذلك لا ييئس الذي عصى الله، وارتكب الكبائر، وتجرأ على الله أن يكون ولياً من أولياء الله الصالحين، فهذا رجل قتل مائة نفس ونحن نعلم أن قتل نفس واحدة تكفي للخلود في نار جهنم، ولكن الله جل وعلا جعل هذا الرجل ولياً من أولياء الله الصالحين، فقد قتل هذا الرجل تسعة وتسعين نفساً كما في القصة المشهورة، ووجد الراهب الذي لا يعلم شيئاً عن دينه، فقتله فأكمل به المائة، وذلك حين سأله: هل لي من توبة؟ فقال له الراهب: لا توبة لك، فلقي عالماً فنصحه العالم أن يذهب إلى أرض كذا فيها الخير وأهل الخير، ونصحه بأن يتعاون معهم على البر والتوبة، فلما ذهب مات في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، قالت ملائكة العذاب: لم يتب، وهو أقرب إلى أرض العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: ذهب إلى ربه تائباً، فلما اختصموا فصل الله النزاع، بأن أرسل ملكاً على صورة بشر، يفصل النزاع بينهم، قال: قيسوا بين الأرض: التي ذهب إليها ليتوب فيها، والأرض التي خرج منها وعصى الله فيها، كرامة من الله لهذا الولي الصادق الذي تاب توبة نصوحاً، فارتقى إلى الولاية، فقد أمر الله الأرض التي قصدها ليتوب أن تقترب، وأمر الأرض التي عصاه فيها أن تبتعد، ثم أخذته ملائكة الرحمة، كرامة من الله لهذا الولي.
أما كرامات هذه الأمة فهي أعظم وأكبر؛ لأن الله جل وعلا فضل هذه الأمة على باقي الأمم، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].
فكرامات هذه الأمة وردت وثبتت في السنة في عهد رسول الله وبعد عهده صلى الله عليه وسلم في القرون الخيرية.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.(72/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - التوسل المشروع والتوسل الممنوع
التوسل نوعان: توسل مشروع وتوسل ممنوع، وقد جاءت الأدلة التي تبين الفرق بينهما، والتي ترغب في التوسل المشروع، وتحذر من التوسل الممنوع.(73/1)
صور من كرامات الأولياء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده لله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اليوم نستكمل كرامة مهمة من كرامات الأولياء لنستنبط منها أمراً مهماً في مسائل التوحيد، ألا وهي مسألة التوسل المشروع والتوسل الممنوع.
لقد بينا أن من كرامات الأولياء تسبيح الطعام بين يدي ابن مسعود وسلمان الفارسي وأبي موسى الأشعري، فقد سبح الطعام وسمعوا ذلك كرامة من الله جل وعلا لهم.
أيضاً من كرامات سلمان -والأسانيد التي تتكلم عن الكرامات يتسامح فيها بعض العلماء ومنهم النسائي عليه رحمة الله- أنه دخل على رجل من محبيه، فوجده على مشارف الموت، فقال بأعلى صوته: يا ملك الموت! كن به رءوفاً رحيماً، فسمع صوتاً يقول: يا سلمان! إني بكل مؤمن رءوف رحيم، فكأن ملك الموت رد عليه كرامة له من الله جل وعلا.
ومن كرامة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتيها العطاء من عمر بن الخطاب فتنظر في العطاء فتجده كثيراً وافراً، فتخشى على نفسها؛ لأنها عاشت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يمر عليهم الشهر أو الشهران لا يطبخون طعاماً، وإنما يأكلون التمر والماء، فلما جاء عصر الفتوحات كثر المال فخشيت على نفسها، فكانت تنفق المال في سبيل الله وكما بينا أن لها اليد الطولى في الصدقة، فرفعت يدها وقالت: اللهم! اقبضني قبل عطاء عمر، فماتت من عامها.
فهذه كرامة من الله جل وعلا لزوج النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الكرامة أحدثت لنا إشكالاً وهو أنه كيف تدعو على نفسها بالموت وقد جاء النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (لا يتمنين أحدكم الموت، إن كان محسناً فلعله يزداد، وإن كان مسيئاً فلعله يستعتب)؟ فهي تمنت الموت بل دعت به على نفسها، فكيف تكون كرامة أن يستجاب لها والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت؟ فالإجابة على هذا الإشكال من وجوه: الوجه الأول: أن النهي عام، ويستثنى منه إذا خشي المرء على نفسه الفتنة فله أن يتمنى الموت، وأن يدعو على نفسه بالموت، وقد أقر الله جل وعلا مريم رضي الله عنها وأرضاها عندما خشيت على نفسها التهمة، فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، فتمنت الموت وأقرها الله على ذلك، والله لا يقر على باطل.
الوجه الثاني: حديث النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم! أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كانت الوفاة خيراً لي).
الكرامة الأخرى كرامة أسماء رضي الله عنها وأرضاه لما علمت أن ابنها مصلوباً رضي الله عنه وأرضاه رفعت يدها وقالت: اللهم! لا تمتني حتى تأتني بجثته، فما ماتت حتى أتاه الله بجثته كل عضو يأتي إليها متهللاً فتكفنه وتدفنه، فبعد أن دفنته ماتت من أسبوعها.
وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أيضاً كان له نفس الكرامة التي كانت لأخيه البراء بن مالك، وهي أنه جاءه عامل من عماله يقول: أصاب القحط أرضك، فرفع يديه واستسقى وقال: اللهم! اسقني، قال الراوي: فجاءت سحابة أظلت أرضه، فسقت أرضه ولم تتعد أرضه شبراً كرامة لـ أنس رضي الله عنه وأرضاه.
واليوم سنذكر كرامة مهمة، ونتكلم على أصل من أصول التوحيد، وهي الكرامة التي كانت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه.(73/2)
التوسل إلى الله بدعاء الصالحين
روى اللالكائي أن عمر بن الخطاب كان إذا أصابه القحط قام فقال: اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا استسقينا، أو قال: توسلنا إليك بنبيك، ونحن اليوم نتوسل إليك بعم نبيك! يا عباس! قم فاستقِ.
فهو يقول: كنا نتوسل إليك بنبيك في حياته، فلما مات نبيك نتوسل إليك بعمه العباس فلم يتوسل بالنبي بعد موته بل توسل بعمه الذي ما زال حياً، قال: قم يا عباس! فقام العباس فرفع يديه، وقال: اللهم! إنك تعلم أنهم يتوسلون بي لقربي من نبيك، اللهم! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة، وهذه أيدينا رفعت إليك بذنوبها، ونواصينا بالتوبة، اللهم! اسقنا، فكانوا يسقون بدعاء العباس رضي الله عنه وأرضاه.
فنستفيد من ذلك أن التوسل مشروع بل هو قربة.(73/3)
تعريف التوسل
التوسل لغة: هو التقرب إلى المطلوب بالرغبة فيه، أو هو اتخاذ الوسيلة واتخاذ الواسطة للحصول على المرغوب أو المطلوب، فالوسيلة هي الواسطة، أو القربة التي يتقرب بها العبد إلى الله جل وعلا ليحصل له ما يرغبه ويطلبه، قال الله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، أي تقربوا إليه بالدعاء والصلاة وغيرها لتحصلوا على ما تريدون منه جل وعلا.(73/4)
أقسام الناس في التوسل
التوسل قربة والأصل في القربات التوقيف، إذاً فلا بد من دليل من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتقرب العبد إلى الله، فلما كان الأمر كذلك انقسم الناس في التوسل إلى قسمين: قسم توسلوا بما شرع الله جل وعلا، وقسم ابتدعوا في دين الله، وقدموا بين يدي حاجاتهم بدعاً مقيتة، فأنى يستجاب لهم؟ وسنذكر لكم أدلة كل فريق.(73/5)
التوسل المشروع وأنواعه
أما الفريق الأول الذين توسلوا بما شرعه الله في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أي تقربوا بما في الكتاب أو في السنة وقد أرشدنا الكتاب والسنة أن نتوسل لله جل وعلا بأنواع ثلاثة: التوسل الأول: التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وهو أن تتوسل إلى الله جل وعلا بين يدي حاجتك حتى تقبل عند الله بأسمائه وصفاته، كأن تقول: يا غفور! اغفر لي، يا رحمن! ارحمني، اللهم! بعزتك أعز الإسلام، اللهم برحمتك ارحمني، وهذا يسمى توسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا جل وعلا.
ودليله من الكتاب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي توسلوا إليه بها، وأيضاً قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
ومن السنة حديث: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يصلي، فلما قرأ التشهد قال: اللهم! إني أسألك يا ألله! يا واحد! يا أحد! يا فرد! يا صمد! يا من لم يلد ولم يولد! ولم يكن لك كفواً أحد! اللهم! اغفر لي فإنك أنت الغفور الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)، انظروا إلى توسل الرجل قال: أسألك يا ألله! وهو اسم الله الأعظم، ثم ذكر الصفات التي تضاف إلى الله، فقال: يا واحد! يا أحد! توحيد لله جل وعلا، يا صمد! والصمد هو الذي لا يحتاج لأحد، بل الكل يصمد إليه ويسأله حاجاته، ومن معاني الصمد هو الذي لا يأكل ولا يشرب، فلا جوف له.
فيتوسل إلى الله بأسمائه جل وعلا.
ومن توسل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يا حي! يا قيوم! برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين).
فتوسل باسم الله الحي، الذي يتضمن صفة الحياة، وقوله: يا قيوم! توسل باسم الله القيوم الذي يتضمن صفة القيومية، هذا توسله بالأسماء وفي آخر الحديث توسل بالصفة، فقال: (برحمتك أستغيث) أي: أتوسل إليك بصفة الرحمة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول أيضاً: (وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)، فهو توسل بصفة العظمة لله جل وعلا، وقال: (وأعوذ بعزتك أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)، فتوسل إلى الله جل وعلا بصفة من صفاته الدالة على الكمال وهي صفة العزة.
وسليمان عليه السلام كان يتوسل إلى الله جل وعلا بالأسماء والصفات، قال الله تعالى على لسان سليمان: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فتوسل بصفة الرحمة: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].
النوع الثاني من أنواع التوسل المشروع: التوسل بالأعمال الصالحة، كحب النبي صلى الله عليه وسلم فتقول مثلاً: اللهم! إني أدعوك بما علمت من حبي لنبيك أن تفرج عني الكرب، أو تدعو الله جل وعلا بعمل قد أخلصت فيه لله، فلم يكن للرياء فيه مسرح، ولا للشيطان فيه مدخل فتتوسل إلى الله بهذا العمل الصالح أن يرزقك ما تريد.
والدليل عليه من الكتاب قول الله تعالى حاكياً عن الذين آمنوا بعيسى: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]، وأيضاً قول الله تعالى حاكياً عن أهل الإسلام أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193]، يتوسلون بإيمانهم، وهو عمل صالح، {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
ومن السنة قصة الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار، فتقرب كل رجل منهم إلى الله بعمل صالح، رأى في نفسه أنه أخلص لله تعالى فيه فالأول لم يزن بابنة عمه، وأعطاها المال إخلاصاً لوجه الله جل وعلا، فانفرجت فرجة، والثاني قال: أنه كان يبر بوالديه إخلاصاً لله، فقبل الله منه هذا العمل، والثالث: أعطى الأجير حقه ونمى له المال، حتى أعطاه وادياً من الغنم، فاستغرب الأجير أن يكون هذا ماله، لكن الرجل كان أميناً مخلصاً لله جل وعلا، فانفرجت الصخرة التي كانت على باب الغار.
النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع: التوسل بدعاء الصالحين، الذين تقربوا إلى الله جل وعلا بالواجبات ثم بالمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، فنتوسل إلى الله جل وعلا بدعاء الصالحين لا بذواتهم.
والدليل على ذلك من الكتاب، قول الله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97]، فطلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ما أخطئوا في حق يوسف عليه السلام.
أما من السنة فحديث عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة) إلى آخر الحديث، فقام عكاشة بن محصن فقال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون منهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت منهم، فقام رجل آخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة).
وأيضاً الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره إذا رأى أويس القرني أن يطلب منه أن يستغفر له، فهذا دليل على التوسل بدعاء الصالحين.
ويحتج شيخ الإسلام بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر وهو ذاهب إلى العمرة: (يا أخي! لا تنسانا من صالح دعائك) وهذا حديث ضعيف تغنينا عنه الأحاديث الصحيحة.(73/6)
التوسل الممنوع وأنواعه
أما القسم الثاني فهم الذين جروا خلف العواصف والويل وتركوا السنة وراءهم ظهرياً، الذين ابتدعوا في دين الله جل وعلا، وتوسلوا التوسل الممنوع.
والتوسل الممنوع أيضاً ينقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: شرك يخرج من الملة، فصاحبه كافر خالد مخلد في نار جهنم والعياذ بالله، وهو الذي يأتي إلى الولي، أو إلى قبر من يظن أن فيه خيراً فيستغيث به، أو يطلب منه جلب نفع، أو دفع ضر، وقد جلست مع بعضهم وكنت أقول له: اتق الله، فيشيح بوجه عني ولا يجيب، فهو يخشى من الإجابة، وأنا أقول له: إذا ذهب رجل إلى الحسين فقال: يا حسين! اشفي مريضي، أو قال: يا حسين! ابنتي لا تنجب اجعلها تنجب، ماذا تقول فيه؟ وهو يأبى أن يجيب، فعله يعتقد في قلبه أنه يجيبه؛ لأن بعض الثقات ذكروا لي أنه يقول: إن للكون أقطاباً وأبدالاً يتحكمون فيه، وإن أرواح الأولياء تحرج فتنصر المؤمنين! وسنعقد فصلاً خاصاً للرد عليه بإذن الله، فهو كافر، وسنأتي بكلامه نسمعكم إياه، ونرد عليه، حتى نؤصل العقيدة الصحيحة، احتراماً واحترازاً وحفظاً لجناب التوحيد.
فمثال النوع الأول من التوسل الممنوع أن يذهب إلى البدوي فيقول: يا بدوي! اشف ابني، أو يقول: يا سيدة زينب! أنت مباركة، ابنتي لا تلد فاجعلي ابنتي تلد، أو تكتب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا حدث واقعاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ذهبت امرأة فكتبت ورقة وقالت فيها: يا رسول الله! ابنتي لا تنجب اجعلها تنجب، اعتقدت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون لله جل وعلا، والأشد منه أن يذهب إلى البدوي أو المرسي أبي العباس أو إلى غيره يدعوه ويستغيث به، ويطلب منه جلب النفع، أو دفع الضر، ومن فعل هذا فقد وقع في الشرك من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: شرك في الألوهية إذ إن الدعاء عبادة، والقاعدة أن كل عبادة ثبت بالكتاب أو بالسنة أنها عبادة ففعلها لله توحيد، وفعلها لغير الله شرك، والدعاء لطلب النفع أو لدفع الضر عبادة كما ثبت ذلك بالكتاب، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] وهذا هو محل الشاهد، فثبت أن الدعاء عبادة، بالتصريح وبالتنصيص من قول النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الدعاء هو العبادة)، وهذا أسلوب يسمى أسلوب حث، يعني كل العبادة دعاء، والدعاء هو كل العبادة، إذاً: الدعاء عبادة، ففعلها لله توحيد، وفعلها للبدوي أو للحسين أو للسيدة زينب أو للجيلاني شرك.
الوجه الثاني من الشرك: شرك في الربوبية، إذ إن الذي يستغيث بـ البدوي أن يشفي ابنه أو يشفي مريضه يعتقد في قلبه اعتقاداً بأن البدوي يستطيع أن يشفي ابنه، وهذا لا يكون إلا لله جل وعلا، فهذا جعل صفة الربوبية لميت لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
الوجه الثالث من وجوه الشرك التي يقع فيها من يدعو ويستغيث غير الله لجلب نفع أو دفع ضر: شرك في الأسماء والصفات، حيث إنهم أنزلوا الخالق منزلة المخلوق، وفيه تشبيه فالملك أو الرئيس، أو مدير العمل، كيف تدخل عليه، لا بد من سكرتير أو أمير الديوان يشفع لك عند المدير، فهم نزلوا الخالق منزلة المخلوق فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، كأن الله ملك لا يمكن لأحد أن يدخل عليه حتى يستأذن من السكرتير أو حتى يأتي بالشفيع ليشفع له، فسبحان الله ما أكرمه! وما أحلمه! وما أعظمه! ما عليك إلا أن تتوضأ ثم تخلو بربك وتكبر للصلاة فإذا بك قد دخلت عليه، بل هو قِبَل وجهك، فكلما سجدت وبكيت لله جل وعلا كنت أقرب ما تكون له، بل إنك حين تدعو الله جل وعلا وتتضرع وتتذلل وتتمسكن له يستجيب لك، فهو لا يحتاج إلى بواب ولا يحتاج إلى شفاعة.
فوجه الشرك في الأسماء والصفات، التشبيه حيث أنزلوا الخالق منزلة المخلوق.
النوع الثاني من التوسل الممنوع: هو مثل الأول لكنه أخف، وهو ذريعة إلى الشرك الأكبر، فهو من الشرك الأصغر وصورته أن يذهب إلى الميت لكن لا يطلب منه جلب نفع ولا دفع ضر، لكنه يخاطبه، يقول: يا بدوي! أنت عند الله جل وعلا، وقد رأيت الكرامات، ولك مكانة فاشفع لي عند ربك أن يغفر لي أو قال: اسأل الله جل وعلا أن يرزقني، إذاً: هو ما طلب من البدوي أن يرزقه أو يغيثه، ولكنه خاطب الميت، على اعتقاد أن الميت يسمع، وهذا مما اختلف فيه العلماء، فعلماء الحجاز قاطبة يجعلونه من الشرك الأكبر، والصحيح الراجح عند تدقيق النظر أن هذا ليس من الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر؛ لأنه إنما خاطب ميتاً يعتقد أنه يسمع، وسماع الميت فيه خلاف بين العلماء، ولا طلب منه جلب نفع، ولا دفع ضر، ما سأله إلا أن يستغفر الله له، مثله مثل الذي يتذكر آيات الله جل وعلا بأن الذين يحملون العرش ومن حوله يستغفرون للذين آمنوا، فيقول: يا ملائكة ربي! استغفري لي، فهو أمركم أن تستغفروا لي، فهذا ليس بمشرك، مع أنه خاطب غائب؛ لأنه لم يطلب منه دفع ضر ولا جلب منفعة، فهذا ليس بشرك.
إذاً: النوع الثاني من التوسل الممنوع ليس بشرك أكبر، لكنه من الشرك الأصغر.
النوع الثالث من أنواع التوسل الممنوع فيه اختلاف فقهي، وليس اختلافاً في العقيدة ألا وهو: التوسل بذات النبي أو بجاه النبي، وقد كثر على الألسنة قول: بحق جاه النبي افعل لي كذا، وقد ذكرت هذا لأكون منصفاً، فهذا فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة، منهم من أباحه ومنهم من منعه، والمنع أقرب للصواب؛ لأن الحجة مع من منع كما سنبين.
أما الذين قالوا بصحة التوسل بجاه النبي أو بذات النبي فقد وردت رواية عن أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة وهذه الرواية مستغربة جداً، ورجحها العز بن عبد السلام، والإمام الشوكاني، بل إن الشوكاني توسع في المسألة حتى قال بجواز التوسل بذوات الصالحين، وأدلتهم جواز التوسل بجاه النبي وذات النبي من الأثر ومن النظر، أما من الأثر: فعن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا نتوسل إليك بنبيك ونحن نتوسل إليك بعم نبيك، أي بذات عم النبي أو بجاه عم النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضاً بحديث آخر رواه الحاكم في المستدرك وصححه وهو صحيح عن عثمان بن حنيف أنه قال: (جاء رجل أعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ادع الله لي أن يرد علي بصري، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة -كما قال للمرأة التي كانت تصرع- قال: ادع الله لي، فقال: اذهب فتوضأ ثم صلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أتوجه إليك بنبيك أو أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، يا محمد! يا نبي الرحمة! إني أتوجه بك إلى ربي، ثم قال: اللهم! شفعه في وشفعني فيه).
وتفسير شفعه في أي: اقبل شفاعته فيَّ، فالرجل لا يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم عند الله، ولكنه يقول: يا رب! اقبل دعائي أن تقبله شفيعاً لي عندك، كما سنبين.
وأما من النظر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم خلق الله على الله، فلنا أن نتوسل بجاهه ونتوسل بذاته عند الله جل وعلا.
فهذه هي أدلة الذين قالوا بجواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
أما جماهير أهل العلم وترجيح شيخ الإسلام رحمة الله عليه الذي نشر العلم والذي حارب من أجل ارتفاع كلمة أهل السنة والجماعة، ودحض أهل البدعة، فقد رجح أن هذا التوسل ممنوع، وإن كان هناك قول آخر له بأنه مشروع لكنه رجع عنه، واستدل بنفس حديث العباس؛ لأن عمر بن الخطاب قال: إنا كنا نتوسل بنبيك، ثم قال: ونحن اليوم نتوسل بعم نبيك.
فهل توسل بعم النبي لجاهه أم بدعائه؟ في نفس الحديث قال له عمر بن الخطاب: قم يا عباس! فقام العباس وقال: اللهم! إنهم توسلوا بي -أو بمكانتي- عند نبيك، اللهم! ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، ورفع يديه حتى استسقى لهم، فسقاهم الله جل وعلا بدعاء العباس.
وأيضاً استدل جماهير العلماء: بأن الصحابة رضوان الله عليهم عمر وأبو بكر ومعاوية ومن بعدهم لم يتوسلوا لا بذات النبي ولا بذات غير النبي صلى الله عليه وسلم، فـ عمر رضي الله عنه ما كان له أن يترك الأفضل ويذهب إلى المفضول، وما كان له مع القحط وعام الرمادة أن يتوسل بالضعيف ويترك القوي، فالقوي هو ذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقف على المنبر ويقول: أتوسل إليك بجاه نبيك، أو بذات نبيك.
وأيضاً معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، لما أصيب الناس في عصره بالقحط، قام على المنبر وقال: اللهم إنا نتوسل إليك بأفضلنا وخيرنا، قم يا يزيد! وهو يزيد بن الأسود، فقد كان بكاءً زاهداً في الدنيا عابداً متحمساً، وفي رواية قال: قم يا بكاء! فاستسق لنا، فقام يزيد فرفع يديه فاستسقى فما نشب أن وضع يده حتى أنزل الله المطر كرامة لـ يزيد العابد.
فـ معاوية ما كان ليترك التوسل بذات النبي أو جاهه ويذهب إلى يزيد التابعي ليتوسل بدعائه، إلا لأنه وقر في قلبه أنه لا يجوز التوسل بذات النبي، وهذا هو الراجح الصحيح.
فالصحيح أنه لا يجوز لأحد أن يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان التوسل بذات النبي وجاهه خيراً لسبقونا إليه وهم أفضل وأفقه.
فإذا كان هذا هو الراجح فلا بد لنا من الإجابة عن أ(73/7)
فضل طلب العلم ومكانة طالبه
إن شمس البدعة بزغت، ولن يتصدى لها إلا طالب علم يحقق المسائل ويدقق النظر في الأدلة، قال بعض السلف رحمهم الله: ما انتشرت بدعة إلا وأخمدت سنة، ولما انتشرت البدع أميتت السنن، وانقلب الحال، فأصبحت السنة بدعة والبدعة سنة، فوجب على طالب العلم أن يصبر على طلب العلم، قال الإمام أحمد: ما رأيت أفضل من طلب العلم لمن أخلص نيته، وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من قيام الليل ومن الصيام ومن الصدقة.
بل إن طلب العلم أفضل من الجهاد، والعالم أفضل من المجاهد، وهذا في جهاد النافلة لا جهاد فرض العين، فطلب العلم أفضل من سبعين باباً من أبواب الجهاد، وضربنا مثلاً بما فعله الشافعي مع أحمد، لما ذهب إليه وأكل عنده كثيراً، وجلس طيلة الليل على الفراش فحسبته ابنة أحمد أنه نام، ثم قام فصلى الفجر بوضوء العشاء، فقالت ابنة أحمد: يا والدي! لقد أخذت على الشافعي ثلاثاً، قال: هاتها: قالت: أكل كثيراً، ونام كثيراً، وصلى الفجر بغير وضوء، فاستشكل أحمد فسأله عن ذلك فقال له الشافعي: أما طعامك فطعام الصالحين، فعلمت أنه مليء بالبركة، فأكثرت الأكل منه، وفي هذا فقه وفطنة من الشافعي، ثم قال الشافعي: وأما إني لم أصل من الليل فقد جلست أفكر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)، فاستخرجت منه أكثر من عشرين مسألة، ولو جلست المجامع الفقهية في الكويت، والمجامع الفقهية في مصر والمجامع الفقهية في السعودية ليلة كاملة، ثم خرجوا بخمس مسائل فجزاهم الله خيراً، فالحديث خمس كلمات أو ست كلمات يستخرج منها الشافعي مسائل، ولذلك كان الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمة لله عليه يتأمل في الأدلة، وبلغني عمن لازمه من طلبة العلم قال: كان أفضل ما يدهشنا من الشيخ أنه كان ينظر في الدليل ويتأمل فيه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، ولذلك تجد أحدهم يجلس بجانبنا من الفجر إلى الظهر، يسمع الصحيحين، وبعدها يسمع بقية الكتب الستة، وهذا جيد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) لكن إذا سألته عن الفقه وجدته لا يفقه شيئاً.
ولذلك أفضل العلماء من خلط بين الفقه والحديث، وكان وتداً في العقيدة، فطالب العلم الذي يخلو عقله من العقيدة أو من الفقه أو من الحديث طالب ضعيف؛ لأنه سيضعف أمام المسائل، فلا بد من الاجتهاد والإخلاص، وأذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه، وفهم المتن رأس الأمر.
قال الشافعي لـ أحمد: وأما صلاة الفجر فإني صليتها بغير وضوء، فما نمت من العشاء إلى الفجر.
عند ذلك قال أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة وهو الفقيه والمحدث بحق: هذه التي لا نقوى عليها، وهذه التي هي أنفع للأمة من صلاة الليل، يعني: أن أمة لا تنتفع إلا بمثلك؛ لأنك تخرج على الأصول الفروع فتنتفع بها الأمة.
فنحن في زمان عز فيه الطلب، فتجد كثيراً من الناس ما عندهم صبر، وهذا هو الذي يضيع عليهم الخير؛ لأن الترف أضاعهم، وأبشرهم بما يحزنهم، حتى يجعلوه خلف ظهورهم، قال الإمام مالك: لن يصل إلى هذا العلم إلا من أدقعه الفقر، أي نام في العراء، ولم يجد طعاماً ولا شراباً فهو الذي يصل إلى هذا العلم، فنقول: إن أنعم الله عليك بالمال فاستخدمه في رضا الله وفي طلب العلم، وإذا جلست في مجالس العلم، فاصبر وصابر وستصل بإذن الله، فالأمة الآن تحتاج إلى علماء، كما أهيب بالإخوة أن يصبروا، ويصابروا.
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا فاتقوا الله في أنفسكم، والله الله في العلم، واعلموا أن قيام الساعة لن يكون حتى يضيع العلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويكثر الجهل، وإذا كثر الجهل اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسألوهم فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
فاعلموا حفظكم الله أن النجاة في العلم، وكفى بطالب العلم شرفاً أن يكون وريثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى به أنه ليس بينه وبين النبي إلا درجة النبوة، فلمثل هذا فليعمل العاملون، ولمثل هذه المكانة تشرئب الأعناق، فهذه المكانة فوق مكانة المجاهدين، وبين العالم المجد وبين غيره تفاوت في الدرجات، فكن عالماً أو كن متعلماً، ولا تكن الثالث.
أنا لا أريد أن تكون محباً لأهل العلم فقط حتى لا تكون ذيلاً، وعلى الإنسان أن يربأ بنفسه أن يكون ذيلاً لأحد، واسأل نفسك: لم لا أكون رأساً، إن لم أكن مثل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فلم لا أنحو نحوه، وأحذو حذوه، وأسير على دربه؟ لم لا أتخذ شيخ الإسلام ابن تيمية نبراساً أمامي، يكون هو الذي تشرئب عنقي إليه، حتى أصل إليه، وإن لم أصل إليه أسير على دربه؟ فالناس بحاجة إلى العلماء، مثل حاجتهم إلى الماء والهواء أو أكثر، فانشغلوا بالعلم، فالعلم أفضل طاعة تطيعون الله بها، والعلم هو أفضل ما تقدمه بين يديك يوم القيامة، فإذا كنت من العلماء وقفت خلف الأنبياء.
فالناس لهم صفوف ولهم درجات عند الله يوم القيامة، فإذا كنت عالماً كانت درجتك تحت النبي، فلماذا تريد أن تكون في الأسفل؟ إن الله يحب عالي الهمة، فأنا أهيب بإخوتي أن ينشغلوا بالعلم، وينقضوا عليه، ويجتهدوا، فلا تنم إلا قليلاً، ولا تأكل إلا قليلاً، واجعل غذاءك العلم، وكما قيل: الرزق رزقان، رزق القلوب، ورزق الأبدان، ورزق القلوب أفضل وأروع من رزق الأبدان؛ لأنه هو الذي به النجاة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(73/8)