شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مقدمة المؤلف - فضائل الصحابة - حكم من طعن فيهم
سنة الله في الخلق أنهم يتفاوتون، فلا يستوي هذا وذاك، فلكل فضله ومنزلته عند ربه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد حظيت هذه الأمة بنبي هو أفضل الأنبياء، واختار له ربه أفضل الناس في زمانه لصحبته، فكان الصديق أبا بكر ثم الفاروق عمر ثم الحيي عثمان ثم ابن عمه علي، ومن صاحبهم ومن سار على نهجهم، ومن الجرم الشنيع أن يسب هؤلاء أو يطعن في دينهم.(1/1)
فضائل الصحابة
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فهذا كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو أثري محض، يتكلم عن آثار بالأسانيد الصحيحة عن اعتقاد أفضل الأمة على الإطلاق وهم الصحابة رضوان الله عليهم، واعتقاد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، وقبل أن نبدأ بالكتاب لا بد أن نُعرِّف بالصحابة وعقيدتنا في الصحابة، وما يهمنا من ناحية الصحابة، وهل من يسب الصحابة يكفر أم لا يكفر.(1/2)
أفضل الأمة بعد نبيها الصحابة
الصحابة الكرام هم أفضل الأمة على الإطلاق، بل هم خير البشرية بعد النبيين والمرسلين على الإطلاق، بنص كلام الله جل وعلا وبنص كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أنزل الله عدالتهم في كتابه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم توثيقهم في نص حديثه، فهم الذين نصروا الله فنصرهم، وأعزوا الدين فأعزهم الله جل وعلا، ورفعوا راية لا إله إلا الله فرفعهم الله على الناس أجمعين، وحسبهم أنهم جابوا الأرض شرقاً وغرباً رفعاً لراية لا إله إلا الله.
وقد بين الله عِظَمَ قدر الصحابة في كتابه بقوله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
وقال الله عنهم أيضاً: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9].
فبين الله جل وعلا أن هؤلاء هم أفضل البشر، وأنهم يستحقون كلمة لا إله إلا الله، وهذا تعديل ليس بعده تعديل، ولذلك قال كل المحدثين على الإطلاق: الصحابة عدول، فأي حديث جاء عن صحابي ولم يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو حديث صحيح لأنه مرسل، ومراسيل الصحابة مراسيل صحيحة؛ لأن كل الصحابة عدول بنص كلام الله تعالى حيث قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26]، أي كلمة لا إله إلا الله، ثم قال: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء هم خيرة البشر على الإطلاق، ولذلك كان محتم علينا أن نحترمهم، وأن نعرف قدرهم وأن نجلهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي! الله الله في أصحابي! من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغض الله فقد آذى الله، ومن آذى الله أوشك أن يأخذه الله) أي: أن علامة حب المسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حبه لأصحاب رسول الله، وعلامة بغضه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغض الصحابة الكرام ولو ادعى وزعم أنه يحب رسول الله، فليسمع من لعنات الله جل وعلا تنزل عليهم تترى، ممن يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليل نهار.
جاء في الصحيحين أن مشاجرة حدثت بين خالد بن الوليد وهو متأخر الإسلام وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه وهو من المتقدمين في الإسلام، فسب خالد عبد الرحمن بن عوف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم ويعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وهم خيار الأمة إلا أن درجاتهم في الفضل متفاوتة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم زاجراً لـ خالد بن الوليد: (لا تسبوا أصحابي، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ومع إن خالداً صحابي ولكنه لا يستوي في الفضل مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه فكان قول النبي صلى الله عليه سلم هذا تعظيماً لقدر أصحابه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: (النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم ذهبت الدنيا وذهبت السماء، وأنا أمنة لأصحابي فإذا قبضت -يعني: ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم- أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا قبض أصحابي أتى الأمة ما توعد).
وهذا مصداق لحديث أنس رضي الله عنه وأرضاه حيث قال: (ما يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه)، وما زلنا نتنزل في الشر، فكان كل زمان يذهب ببعض الخير ويبقى الشر، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق بشرى لطائفة من متأخري هذه الأمة فقال: (أمتي كالمطر لا يدرى الخير في أولها أم في آخرها)، ومما سبق تبين أن أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة الكرام.(1/3)
أفضل الصحابة أبو بكر
ليعلم أن أفضل الصحابة على الإطلاق بل أفضل البشر على الإطلاق من غير النبيين والمرسلين هو أبو بكر الصديق، فقد نزلت عدالته من فوق سبع سماوات، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خير الأمة على الإطلاق هو أبو بكر.
أما في الكتاب فقد مدح أبو بكر الصديق بأعظم ما يكون من مدحه مدح به شخص، فقد نزلت فيه آية عظيمة جليلة تبين قدر أبي بكر عند الله، قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22] فعظم الله وهو العظيم أبا بكر فنعته بأنه صاحب فضل، فهنيئاً لـ أبي بكر على هذه الدرجة التي نالها عند ربه جل وعلا.
وقد أجمع المفسرون على أن المقصود بالآية هو أبو بكر، فقد نزلت بعد أن أقسم أبو بكر أن لا ينفق على مسطح فقال الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22].
وقال الله تعالى أيضاً في حق أبي بكر: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21] فنص في الكتاب على أنه أخلص الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الإخلاص خفي لا يعلمه أحد قط لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، ومع ذلك أفصح الله جل وعلا في القرآن الكريم على أن أخلص الأمة بعد نبيها هو أبو بكر حيث نعته بالأتقى.(1/4)
السنة تثني على أبي بكر
جاءت الأحاديث الصحيحة تبين شمائله الكريمة ففي الصحيحين أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه غضب يوماً فاشتد على عمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم استسمحه فلم يسمح له عمر فقال: والله لأشكونك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قص القصة على الرسول قال: والله لقد استسمحته، فلم يسمح لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من عمر وأفضل الأمة على الإطلاق: (يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر يغفر الله لك يا أبا بكر) فكرر ذلك تأكيداً، فلما بلغ ذلك عمر ندم على ما فعل وذهب إلى بيت أبي بكر فقال: أثمَّ أبو بكر فقالوا: لا.
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر احمر وجهه، وتمعر واشتد غضبه صلى الله عليه وسلم، فعلم أبو بكر أنه حبيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، وهو يعلم ما بداخل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر ذلك علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشتد على عمر فقال: يا رسول الله! إني كنت والله أظلم, وجثا على ركبتيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع له، فلما دخل عمر اشتد النبي صلى الله عليه وسلم غضباً عليه وقال: (هلا تركتم لي صاحبي، قد جئتكم فقلتم: كذبت، وقال لي: صدقت، وواساني بماله وأهله) فلم يؤذ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بعدها.
ومما يبين قدر أبي بكر ما روي أنه رضي الله عنه تخاصم مع رجل آخر من الصحابة واشتد عليه، ثم قال له: اقتص مني، قال: لا والله لا أقتص منك، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اقتص مني وإلا استعديت عليك رسول الله! فاستغرب الصحابة من صنيعه، إذ كيف يخطئ على رجل ويقول: أستعدي عليك رسول الله، فقالوا: والله لنذهبن معك إلى رسول الله، ونشهد عنده أنه المخطئ في حقك، فقال الرجل: اسكتوا حتى لا يسمع أبو بكر ما تقولون فيغضب، ثم يغضب رسول الله لغضب صاحبه، ثم يغضب الله لغضب نبيه، فيهلك صاحبكم، فكان الصحابة على معرفة بقدر أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سدوا كل خوخه إلا خوخة أبي بكر) رضي الله عنه وأرضاه.(1/5)
ثبوت الإمامة لأبي بكر بالنص والإشارة والإجماع
لقد كان أبو بكر ذلك الرجل البديع الكريم حبيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا لابد أن يعلم أن من طعن في دينه فهو كافر خارج من الملة قد ارتكب ما يجعله خالداً في نار جهنم، ومن أنكر إمامته أوشك على الكفر؛ إذ إن إمامته ثابتة بالنص والإشارة.
أما إمامته بالنص فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادع لي أبا بكر لأكتب له كتاباً حتى لا يطمع في هذا الأمر طامع -يعني: في هذه الإمامة والخلافة- فلم يأت أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يأبى الله ويأبى المؤمنون -يعني: في هذا الأمر- إلا أبا بكر).
فكان ذلك نصاً على أبي بكر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة، فقاس الناس قياس أولى ويسميه الأصوليون القياس الجلي، فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل أبا بكر يحافظ على الدين، وأمنه على ديننا، فمن باب أولى أن يلي أمور الدنيا التي هي دنيئة تنتهي.
وقد أجمع الصحابة على خلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، إذ قام عمر خطيباً في الناس وقال: يـ أبا بكر أنت أفضلنا، وأقربنا، وأحبنا لرسول الله فابسط يدك لنبايعك، فبسط يده وبايعه جل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.(1/6)
أبو بكر أحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم
من المآثر التي تفيد علو مكانة أبي بكر ما حدث في غزوة السلاسل، كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص أميراً على سرية غزوة السلاسل، وكان عمرو بن العاص رجلاً داهية لا يحب أن يدخل في حرب إلا وقد احتاط بما يمكنه من الانتصار فيها، فبعث للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب المدد، فبعث له النبي صلى الله عليه وسلم مدداً، وفيهم ثلاثة هم خيار الأمة: أبو عبيدة بن الجراح وهو أميرهم، وفي القوم أبو بكر وعمر، ومنه استنبط العلماء أنه يجوز للمفضول أن يترأس على الفاضل، ثم دخلوا على عمرو بن العاص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نصح أبا عبيدة فقال له: (لا تنازعوا) أي: إياك والنزاع حتى لو قال لك عمرو: الإمارة لي فدعها له، وكان ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم إذ تشبث عمرو بن العاص بالإمارة، فقال له أبو عبيدة: هي لك، وفي الغزوة صلى عمرو بالناس جنباً، والحديث محفوظ، والشاهد في الحديث أن عمرو بن العاص قال في نفسه: ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتاني بـ أبي عبيدة وعمر وأبي بكر وأنا متأخر الإسلام، فأنا أحب إلى رسول الله من هؤلاء، مع أنهم سبقوني في الإسلام، فذهب وهو يشتم رائحة القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة -وهو لا يريد هذه- فقال: ليس عن هذا أسأل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبوها، قال: ثم من؟ قال: عمر، قال: ثم من؟ قال عثمان) فقال في نفسه لو عددت لعد رجالاً وكنت أنا في المتأخرين فسكت على ذلك، وفي هذا دليل على أن أبا بكر كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن طعن في إمامة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإنه على وشك الفسق، ومن طعن في دينه فهو كافر خارج من الملة.(1/7)
عمر الفاروق أفضل الأمة بعد نبيها وأبي بكر
يلي أبا بكر في الفضل عمر بن الخطاب فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ما غربت الشمس ولا طلعت من بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر، وقد رآه هو وعمر فقال لـ علي: (هذان سيدا كهول أهل الجنة).
إن لـ عمر فضائل كثيرة يصعب جداً على الباحث أن يحصيها، ويكفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إيه يا عمر! لو سلكت فجاً لسلك الشيطان فجاً غير الفج الذي سلكت)، وكان رجلاً شديداً في نصرة الإسلام، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه وهو يتحدث عن أمير المؤمنين عمر: كنا أذلة حتى أسلم عمر فأعزنا الله بـ عمر.
ومما ورد في فضل عمر رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عمر رضي الله عنه وأرضاه يتمثل الإسلام يوم القيامة فيأخذ بيده ويذهب إلى الله فيحتج فيقول: أعززتني بهذا الرجل فيدخل الجنة بدون حساب)، ومع ذلك يقول عمر رضي الله عنه: يا ليتني شعرة في صدر أبي بكر.(1/8)
النص على خلافة عمر
وكما نص على خلافة أبي بكر فقد نص أيضاً على خلافة عمر ولا يطعن فيها إلا فاسق فاجر، فإن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في مرض موته جاءه عثمان فقال له: أرأيت من تستخلف؟ فتنفس الصعداء وكاد يتكلم فأغمي عليه فخشي عثمان موت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فكتب الخلافة للناس فأفاق أبو بكر فقال له عثمان: ما تملي علي؟ قال أبو بكر: من كتبت؟ قال عثمان: كتبت عمر، قال: والله لو كتبت نفسك لكنت أهلاً لها، اكتب عمر فأقر كتابته، وقوله ذاك ليس تفضيلاً من أبي بكر لـ عثمان على عمر بل غاية ما يفهم منه أن عثمان أهل لها، ثم جاء الناس إلى أبي بكر فقالوا: كيف تولي علينا هذا الشديد الغليظ؟ كيف تجيب ربك وأنت تعلم شدة عمر؟ فقال: والله لو سألني ربي: لم وليت هذا عليهم؟ لقلت وليت عليهم أفضلهم وخيارهم.
ومن شدة عمر أنه كان إذا أراد أن يقرر البشر على حكم نزل عليه، واجتمع عليه الصحابة كان أول شيء يفعله: أن يقفل الباب على أهله، وهم في الدار جميعهم الصغير والكبير، ثم يقول: إني آمر الناس غداً بشيء والله لو وجدت منكم أحداً تجرأ علي لجلدته أمام الناس أجمعين، فكان عمر أشد الناس على أهله أولاً ثم على البشر، وهذا الذي جعل عائشة رضي الله عنها وأرضاها ترفض سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه زوجاً لأختها بعد أن تقدم يريد الزواج من أختها، ولما سُئلت عائشة: لماذا رفضته؟ بينت العلة وقالت: عمر شديد، والبنت صغيرة.
وممن أقر أبا بكر على اختياره لـ عمر خليفة بعده ابن مسعود رضي الله عنه فقد أُثر عنه أنه قال: أشد الناس فراسة ثلاثة: بنت الرجل الصالح شعيب لما قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26] فألمحت أنها تريده، وقالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] فتزوجت نبي الله موسى وهو أفضل البشر على الإطلاق في وقته.
وعزيز مصر لما قال: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] يوصي امرأته أن تكرم يوسف عليه السلام.
وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما تصرف في خلافة عمر.(1/9)
من فضائل عمر
مما ورد في فضل عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه في الرؤيا التي رآها: (وينزع نزعاً ما رأيت عبقرياً مثل عمر يفري فرياً) على أن عمر هو من خطط تخطيطاً دقيقاً لحركة الفتوحات والغزوات التي أسهمت في نشر الدين، وكانت سبباً في جمع الأموال الطائلة التي جاءت للمسلمين عن طريق خلافته رضي الله عنه وأرضاه.
وأختم الكلام على عمر بما قاله علي لما دخل عليه وهو في النزع الأخير حيث قال: أرجو الله أن يحشرك مع صاحبيك، فإني قد سمعت كثيراً رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وجئت أنا وأبو بكر وعمر، وكنت أنا وأبو بكر وعمر حشرك الله مع صاحبيك)، وكانت هذه فراسة من علي صدقتها عائشة رضي الله عنها وأرضاها وتركت المكان لـ عمر، ودفن عمر بجوار صاحبيه، وما زلنا حتى الآن نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي ثم على أبي بكر وعمر رضي الله عن الشيخين، ولعن الله من يسبهما، وطرد الله من يسبهما من رحمته، وأنزل عليهم العذاب الأليم الشديد، الذين يقولون: العنوا صنمي قريش، فنسأل الله أن يجازيهم بما يستحقون، فهم الذين حرفوا في دين الله جل وعلا، وهم أضر علينا من اليهود والنصارى، لما يحملونه من خبث دفين إذ لو قيل ليهود: من أفضل الناس فيكم؟ لقالوا: أفضل الناس فينا هم صحابة موسى عليه السلام، ولو قيل للنصارى: من أفضل الناس فيكم؟ لقالوا: أفضل الناس فينا هم حواريو عيسى عليه السلام، ثم قيل للشيعة: من أشر الناس عندكم؟ قالوا: صحابة رسول الله والعياذ بالله، ومن منكرات أعمالهم ما يصنعون في الأعياد حيث يجعلون صنماً كبيراً من الحلوى، ويشربونه العسل، ثم يقولون: هذا صنم أبي بكر وهذا لـ عمر، ويزعمون أنهم يشربون من دم أبي بكر ودم عمر أسقاهم الله من الصديد في نار جهنم.(1/10)
من مناقب ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه
ويلي الشيخين في الفضل عثمان رضي الله عنه وأرضاه وإن كان فيه خلاف إلا أن الأمة أجمعت عليه بعد ذلك الخلاف، فقد كان رأي أبي حنيفة والثوري ومن المتأخرين الشوكاني تقديم علي على عثمان رضي الله عنه وأرضاه، والخلاف هذا معتبر، لكن الصحيح الراجح أن عثمان يقدم على علي بالنص أيضاً إذ إن عثمان هو الخليفة الثالث، وخلافته جاءت صحيحة بإجماع المهاجرين والأنصار، لأن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: إن كنت سأستخلف، فقد استخلف من هو خير مني -يريد أبا بكر -، وإن كنت لا أستخلف أي: لا أنص كتابة، فما استخلف من هو خير مني يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب لـ أبي بكر لكنه أشار إليه كما تقدم، ثم قال: هي في هؤلاء الستة الذين مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وعدهم: عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين، قال العلماء: أما عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه وإن كان لا يقل فضلاً عن هؤلاء، إلا أن أعباء الخلافة جعلت عمر رضي الله عنه وأرضاه ينحيه عنها حيث قال: له المشورة وليس له من الأمر شيء.
فترك الزبير صوته لـ علي وترك طلحة صوته لـ عثمان، وتنحى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه وسعد بن أبي وقاص عن الأمر، فحصر الأمر في علي وعثمان، قال عبد الرحمن بن عوف: والله لقد درت على النساء في خدورهن فما عدلوا بـ عثمان أحداً، وهذه دلالة على أن المهاجرين والأنصار بالنظر الثاقب قدموا عثمان.
ومما يؤثر عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كنا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان).
وقد خطب علي رضي الله عنه في الناس وقال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ومن قدمني على أبي بكر وعمر جلدته ثمانين جلدة حد المفتري، ثم قال: والله أعلم بمن أفضل بعد ذلك، فلم يخير عثمان عليه.
وهنا يجدر بمن يقدم علي على الشيخين إن كان يحب علياً أن يستمع لكلامه، ورد في الأثر أن محمد بن الحنفية قال لـ علي: من أفضل الأمة بعد النبي؟ قال: أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: عمر قال: فاستحييت أن أقول له: ثم من؟ فيقدم عثمان عليه، مع أن في قرارة نفسه أن عثمان أفضل من علي رضي الله عنه وأرضاه.
وبذلك علم فضل عثمان رضي الله عنه.
وأشهر فضائل عثمان أنه ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنتيه، وورد في الآثار أنه قال: (لو كانت الثالثة لأنكحتك إياها).(1/11)
حياء النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان
من أعظم الفضائل لـ عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحيي منه ويقول: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)، وفي الحديث دلالة على أن الفخذ ليس بعورة، والأحوط تغطيته، وإذا رأى أحدكم شخصاً يكشفه فالأولى أن ينكر عليه ويقول له: الفخذ عورة، وإن كان حديث: (الفخذ عورة) حديث ضعيف لكن هذا من باب المروءات، أما الشاهد من الحديث الذي يفيد بأن الفخذ ليس بعورة ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متكئاً وفخذه مكشوف، فدخل أبو بكر فلم يهش ولم يبال، ثم دخل عمر فلم يهش ولم يبال، فلما استأذن عثمان قام واستوى وغطى فخذه، فقالت عائشة منكرة: (يا رسول دخل عليك أبو بكر فلم تهش ولم تبال، ودخل عليك عمر فلم تهش ولم تبال، ولما دخل عليك عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- استويت قال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة).
وورد في استحياء عثمان رضي الله عنه وأرضاه -وأيضاً عمر - أنه ما كان يغتسل عارياً قط، بل كان إذا دخل الخلاء يستأذن الملك، وكان يدخل فيظلم كل المكان حتى لا يرى عورته، وهذا من حياء عثمان رضي الله عنه وأرضاه، ربنا يرزقنا الحياء، والحياء رفعة وإيمان.(1/12)
الخليفة الشهيد علي بن أبي طالب
يلي عثمان رضي الله عنه في الفضل والمكانة علي بن أبي طالب، وفضائله غير خفية على من له أدنى اطلاع، وقد نوزع علي في الخلافة مما يجعل البعض يسأل عن خلافته هل كانت صحيحة؟ وهل خلافته ملك عضوض أم خلافة على منهاج النبوة؟ فالصحيح أنها خلافة صحيحة لحديث: (الخلافة بعدي ثلاثون عاماً)، ومعلوم أن خلافة علي كانت في الثلاثين التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك كانت خلافة معاوية التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها: (ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)، فخرجت من الخلافة وأصبحت ملكاً وتحقق كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصبحت تتوارث.
وقد كان الحق مع علي في الخلاف الذي دار بينه وبين معاوية وكان علي هو أفضل على الإطلاق، وكان هو المستحق للخلافة، ولذلك لما حدثت المشاحنة بين الزبير وطلحة وبين علي وبين عائشة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن سببها الخلاف بينهم كما يصور البعض، وإنما كان الموتورون داخل الصف هم الذين يحرشون بينهم ويشحنون القلوب بدعوى أنه كان لا بد قبل أن يبايع علي أن يقتص لهذا المظلوم المقتول عثمان، وهذا الكلام غير صحيح، والمهم أن نعلم أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها خرجت وخرج الزبير وخرج طلحة لقتال علي، والله جل وعلا يظهر الحق حتى لو خفي على كل البشر، فـ ابن عمر أفضل الصحابة وأتقنهم علماً خفي عليه أن الحق مع علي؛ ولذلك بكى بكاءً شديداً عند موته وقال: يا ليتني قاتلت مع علي والله إن الحق مع علي، ومما دار بينهم أن علياً جاء إلى الزبير وقال له: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بي وبك فقال: (تحبه؟ قال: ومالي لا أحبه؟! فقال له: تقاتله وأنت ظالم له)، وقد تحقق هذا، وفيه علامة من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فانتبه الزبير قال: والله كأني لم أسمع الحديث إلا اليوم، فاستدار بفرسه فنزل فقتلوه، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه لما علم ذلك أيضاً قتل، ثم تلت ذلك المعركة الشديدة التي كان فيها الدماء بسبب عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقد كان من حولها يحرسون الجمل ولذلك سميت معركة الجمل، وقد قتل خلق كثير حول الجمل إلى أن أمر علي بضرب ساقي الجمل فانتهت المعركة، وبعد ما انتهى القتال ذهب علي فقال: يا أمه -وهذا من فقهه فهي أم المؤمنين- تريدين شيئاً؟ قالت: لا، فقال للجيش: صفوا لأمكم ثم ارجعوا بها إلى المدينة، فرجعوا بها إلى المدينة معززة مكرمة.
وبعد ذلك حدث نزاع في صفوف علي حتى قال قائلهم: كيف تقول: إننا نقاتلهم ولا نسبي نساءهم؟ فأجابهم: من أراد أن يضرب بسهم لنفسه فليأخذ أم المؤمنين غنيمة عنده! فسكت القوم، وعلموا أن القتال قتال بغي وليس قتال كفر، ولا يصح السبي ولا الغنائم.
وبعد أن رجعت عائشة إلى المدينة سمعت بقتال الخوارج وأن علياً قتل ذا الثدية فقالت: والله إن الحق مع علي، وما كان بيني وبينه إلا ما بين الأحناء بعضهم لبعض، وكان في صدرها شيء من علي، وهو أنه لما استشاره النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك قال علي: النساء غيرها كثير، وكان علي محق ولم يقصد الطعن في عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وإنما أراد أن أعباء النبوة أقوى من أن تفكر في هذا الأمر؛ لأن الأمة بل الدنيا بأسرها تنتظر شمس النبوة، فكان محقاً فيما نظر فيه اجتهاداً، ولا يمكن أن يتصور في علي أن يطعن في الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها.
وأما بالنسبة لـ معاوية فالحق كل الحق مع علي بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عمار تقتله الفئة الباغية)، وقتلته فئة معاوية وقال: (عمار أينما كان فالحق معه)، لكن معاوية رد على هذا وقال: إن قلتم: الفئة الباغية التي تقتل عمار فقد قتله من خرج به، وذلك أنه دخل وعند معاوية عمرو بن العاص فقال الرجل: أبشر يا أمير المؤمنين! يريد معاوية فقال: مه؟ قال: أبشر فقد قتلت عماراً، فقام عبد الله بن عمرو بن العاص متهللاً: وقال: أبشر بنار جهنم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر قاتل عمار بالنار)، فلما سمع الناس ذلك انسل الجيش من معاوية وذهب إلى علي فقال معاوية لـ عمرو بن العاص: نح عنا مجنونك هذا، وذلك لكي لا يدب الأمر في الجيش، فقال معاوية رضي الله عنه وأرضاه حينها: إذاً قتله من خرج به! والرد على هذا أنه إذا كان كذلك فمعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قتل حمزة؛ لأنه هو الذي أخرجه للقتال! وليس كذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم بكى عليه وقال: (هو أسد الله).
ولما قتل علي الخوارج علم الناس أن الحق معه.(1/13)
خلاف علي ومعاوية خلاف بين طائفتين من المسلمين
ينبغي أن ندرك أن خلاف علي ومعاوية لا يبنى عليه كفر وإسلام فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى الحسن: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، فسماهم مسلمين، ونسمع أن بعض الناس مع أن الله حباه ببعض علم الحديث يسب معاوية، بل قد وصل به الحد أن يسب عائشة، لكن ليعلم هو ومن على شاكلته أنه لن يسلم من يطعن في الصحابة، ولذلك قال ابن كثير في البداية والنهاية: دماء عصم الله أيدينا منهم، فنسأل الله أن يعصم ألسنتنا منهم، فنحن نكف عن هذا، ونترضى عليهم ونقول: ليسوا بمعصومين وإن أخطئوا فالله يغفر لهم، كفى حاطب بن أبي بلتعه قول النبي فيه: (دعه فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم).(1/14)
العشرة المبشرون بالجنة
العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة هم الخلفاء الأربعة ثم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه، وهؤلاء هم أفضل الصحابة، وهم مع ذلك يتفاوتون فيما بينهم الأعلم فالأعلم، نسأل الله جل وعلا أن نحفظ حقهم ونحفظ قدرهم.(1/15)
هل يكفر من طعن في الصحابة أم لا؟
لا شك أن من طعن في دين الصحابة فقد كفر، فمن طعن في دين أبي بكر فقد كفر، ومن طعن في دين علي أو عثمان أو عمر فقد كفر؛ لأنه كذب القرآن، وقد أنزل الله عدالتهم وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها، ومن سبهم أجمعين على أنهم قد كفروا وخرجوا من الملة فهذا يكفر أيضاً، أما ما عداه فهو فسق وفجور.
ومن قال عن عائشة: إنها لم تبرأ وفعلت الفاحشة فقد كفر؛ لأنه كذب الله الذي برأها من فوق سبع سماوات.
والسب سبان: سب بكلام قبيح، وطعن في الدين، فالسب في عائشة رضي الله عنها وأرضاها إذا كان قدحاً في دينها أو طعناً في شرفها وعفتها فهو كفر، ويقتل من قال به ردة؛ لأنه كذب القرآن وكذب الله الذي برأها من فوق سبع سماوات، ومعلوم أن من كذب الله فقد كفر {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
ومن أكثر من يقع في الصحابة الشيعة وهم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذي دخل ليدمر الدين، كما دخل بولس ودمر الإنجيل؛ فقد كان يهودياً ثم دخل النصرانية على أنه قبطي ودمر الإنجيل وحرفه على الناس، وعبد الله بن سبأ ادعى الإسلام وانتهى في النهاية إلى أن علياً هو الإله، ولما حرق من قالوا بذلك افترى عليهم وقال: لا يحرق بالنار إلا خالقها، لحديث ابن عباس، إذاً فهو خالقها.
وقد كان عبد الله بن سبأ هو رأس الشيعة، ثم تشعبوا بعد ذلك فمنهم من هم أقرب إلى أهل السنة والجماعة مثل: محمد الباقر وجعفر الصادق رضي الله عنهم وأرضاهم، وإن كانوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر فهم يقولون: خلافة أبي بكر صحيحة، وخلافة عمر صحيحة بإجماع المسلمين، لكن علي أفضل منهم، وغلاة الشيعة كفار أما العوام الذين لا يعرفون شيئاً فليسوا كفاراً، أما الذين يسبون علناً ويطعنون في دين أبي بكر ويطعنون في دين عمر، ويطعنون في دين عائشة ويئولون القرآن: فقوله تعالى: (اذبحوا بقرة) قالوا: هي عائشة رضي الله عنها وأرضاها؛ فهؤلاء وأشباههم على الكفر لأنهم كذبوا القرآن.(1/16)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - شرح البسملة
درج المؤلفون على افتتاح مصنفاتهم بالبسملة، ودرج الشراح على شرحها وإعرابها، وفيها ثلاثة أسماء حسنى لله تعالى (الله، والرحمن، والرحيم)، وفيها استعانة بالله.(2/1)
تعديل الله ورسوله للصحابة رضوان الله عليهم
يبحث هذا الكتاب في اعتقاد السلف الصالح، وأصل السلف هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والذين عدلهم الله جل وعلا في الكتاب، وعدلهم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة، كما قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) [النساء:115] فمن تنكب هذا الصراط بعد عن الحق، ومن سار على نهجهم وآمن بمثل ما آمنوا به فقد اهتدى؛ فإن الله قد ربط الهداية بذلك، قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، وكلمة التقوى هي كلمة لا إله إلا الله، وعدلهم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة فقال: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه).
قوله: (شرح).
الشرح معناه: تبيين المجمل وتفسيره، ورفع الإشكال، وإظهار الغموض، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، أو إطلاق المقيد في الظاهر، وغير ذلك.
وقوله: (أصول).
الأصل: ما يبنى عليه غيره، والأصل غير الفرع كالركن والشرط.
قوله: (اعتقاد) هو ما اعتقده المرء وربط قلبه عليه، واعتقده اعتقاداً جازماً.
قوله: (أهل السنة والجماعة) هم سلف هذه الأمة، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الفرقة الناجية في الحديث الذي رواه أصحاب السنن، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: يا رسول الله! من هي؟! فقال: الذين كانوا على ما أنا عليه وأصحابي).(2/2)
نبذة مختصرة عن حياة المؤلف
هذا الكتاب صاحبه ومؤلفه هو العالم الفذ المحدث الفقيه: هبة الله بن الحسن بن منصور الرازي الطبري اللالكائي، ينسب إلى ثلاث مدن، طبرستان، وهي أصل مولده، ثم انتقل إلى الري، ثم بعد ذلك انتقل إلى بغداد، وقيل: الألكائي، وقيل: اللكائي، وكنيته أبو القاسم، واللكائي نسبة لبيع اللوالك، وهي أشبه ما تكون بالخفاف، وكان يلبس في القدم، وهذه النسبة ليست عيباً؛ لأنك قد تنسب لصنعة أو لحرفة أو لبيع أغراض، ومثل هذا: الراوي الثقة الثبت الذي هو من رجال الصحيح خالد الحذاء، وقد سموه خالد الحذاء نسبة للأحذية، وما كان يبيع الأحذية، لكن كان يجلس مع من يصلح الأحذية فنسبوه إلى هذه النسبة، ومثله: الزيات؛ لأنه كان يبيع الزيت، فهذه النسبة جاءت من حرفة بيع هذه السلعة.
قدم بغداد واستوطنها.
من أبنائه محمد الملقب بـ أبي بكر، سمع الحديث في مدينة الري، ثم قدم إلى بغداد فدرس فيها الفقه وسمع الحديث، وليست له شهرة كبيرة، لكنه كان عالماً فذاً، سمع الحديث وأتقن حفظه، وتعلم الفقه؛ فرزقه الله الحفظ والفهم.
ومن تلاميذه: أبو بكر الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد، وهو أشهر تلاميذ هذا العالم الفذ.
ومن مؤلفاته: كرامات أولياء الله، وأسماء رجال الصحيحين، وفوائد اختيارات أبي القاسم، والمجالس، والسنن، وشرح أصول الاعتقاد، وشرح كتاب عمر بن الخطاب.
كان يتمتع رحمه الله تعالى بالحفظ والإتقان والفهم، وعقيدته عقيدة السلف، والكتاب الذي بين أيدينا يبين ذلك.(2/3)
شرح (بسم الله الرحمن الرحيم)
ابتدأ المؤلف الشرح فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم).
قال العلماء: إن من روائع البيان البداءة ببسم الله اقتداءً بكتاب الله جل وعلا، واقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ابتدأ الله كتابه ببسم الله الرحمن الرحيم.(2/4)
أقوال العلماء في البسملة
اختلف العلماء في {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] هل هي آية من كل سورة أم هي آية مستقلة؟ والذي عليه الإمام مالك، وهو فصل الخطاب: أنها آية مستقلة تفصل بين سور القرآن، وهي آية من سورة النمل.
فالاتفاق على أنها آية من سورة النمل، وهي تفصل بين سور القرآن كما قرر ذلك ابن عباس.
واختلف الفقهاء: هل البسملة آية من سورة الفاتحة أم لا؟ فالمالكية على أنها ليست آية من سورة الفاتحة، ولكنها آية مستقلة تفصل بين السور.
والشافعية يقولون -وهو الأرجح دليلاً-: البسملة آية من الفاتحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتيت السبع المثاني) تفسيراً لآية الحجر، فالسبع المثاني هي الفاتحة، ومع العد كانت البسملة آية من الآيات، وإن اعترض على هذا الدليل فقد صرح في بعض الأدلة أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من سورة الفاتحة؛ لذا لا تصح صلاة عبد إلا بالفاتحة، ولا تصح الفاتحة إلا بالبسملة، وهذا هو الراجح دليلاً.(2/5)
صور من ابتداء الرسول كتبه (ببسم الله الرحمن الرحيم)
البدء بها يعتبر اقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى كسرى ولا إلى قيصر ولا إلى أهل الفسق والفجور والكفر يدعوهم إلى الإسلام إلا ابتدأ الكتاب: (ببسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى قيصر ملك الروم، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإلا فإن عليك إثم الأريسيين) أي: إثم أتباعك.
وأيضاً في صلح الحديبية قال لـ علي بن أبي طالب وهو يكتب الصلح: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)، فاعترض المشركون، وقالوا: لا نعرف الرحمن -كذباً وزوراً وبهتاناً- اكتب باسمك اللهم، ورفضوا بسم الله الرحمن الرحيم.
المقصود: أن هذه سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يبتدئ كتاباً إلا ببسم الله الرحمن الرحيم، فهي من روائع البيان.
وأيضاً: البركة تحل على أي أمر سواء كان في الدعوة أو التصنيف أو الجهاد أو الخطبة أو النكاح إذا ابتدئ ببسم الله عملاً بالحديث -وإن كان في طرقه ضعف ولكن يقوي بعضها بعضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: (كل أمر ذي بال -أي ذي شأن- لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر)، (فهو أقطع)، (فهو أجذم) أي: قليل البركة، وهذه دلالة على أن البسملة تبرك الاستفتاح أو التصنيف أو الجهاد أو الدعوة أو الخطبة.(2/6)
إعراب البسملة
{بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] الباء حرف جر، و (اسم) مجرور بالباء.
وأهل النحو يقولون: إن الجار والمجرور يعمل عمل المفعول، والمفعول يحتاج لفعل عامل، والعامل محذوف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف متأخر، وتقدير المحذوف: ببسم الله أستعين، ببسم الله أستفتح، والصحيح أن أقول: ببسم الله أستعين.
ولو قلنا: إن الجار والمجرور يعمل عمل المعمول -المفعول به- وقدم على الفعل، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أصلها نعبد إياك، وقدم المفعول على الفعل للحصر، أي: أن العبادة كلها مطلقاً لا تكون إلا لله وحده لا شريك له.(2/7)
الاستعانة وأقسامها
يقصد المؤلف: باسم الله أستعين الاستعانة المطلقة الكلية التي لا تكون إلا بالقوي المتين القادر القدير المقتدر جل وعلا؛ لأن الاستعانة: استعانة مطلقة، واستعانة مقيدة، فالاستعانة المطلقة لا تكون إلا بالله جل وعلا القوي المقتدر، والاستعانة المقيدة يمكن أن تكون بكل من يقدر عليها بشرط أن يكون المستعان به حي حاضر قادر.
وهل يصح أن أستعين بالملائكة في التصنيف للإلهام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حسان بن ثابت: (اهجهم وروح القدس معك)؟ لا تصح الاستعانة بالملائكة؛ لأنهم غائبون، ولابد في المستعان به أن يكون حي قادر.
تقديم المعمول على العامل لإفادة الحصر، فالاستعانة المطلقة لا تكون إلا من القوي المقتدر وهو الله جل وعلا.(2/8)
اشتقاق الاسم
الاسم مشتق من السمو وهو العلو، وهذا على حقيقته لله جل وعلا في ذاته وأسمائه وصفاته، فالله له العلو المطلق، علو الشأن والشرف والمكانة، وعلو القدر والقهر والغلبة، وعلو الذات.
فالله جل وعلا له علو الشرف والمكانة.
فلا أحد أشرف من الله، فلله الكمال المطلق، ولله الجمال المطلق، ولله الجلال المطلق سبحانه وتعالى.
وعلو القهر، قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61] إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
أما علو الذات؛ فدليله أن الله جل وعلا قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وورد بسند صحيح عن ابن مسعود: أن العرش فوق السموات، وهذا حكمه حكم المرفوع؛ لأنه من الأمور الغيبية التي لا يمكن للاجتهاد أن يصل إليها، فهو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ابن مسعود لم يصعد إلى السماء ولم ير عرش الرحمن، ولا اجتهد في ذلك، فلابد أن يكون قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فعلو الذات ثابت لله جل وعلا بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وهذا سنفصل فيه القول إن شاء الله.
إذاً: الاسم مشتق من السمو وهو العلو، والعلو المطلق لله جل وعلا، علو القدر والشرف والمكانة، وعلو القهر والغلبة، وعلو الذات جل وعلا.
ثانياً: مشتق من السمة وهي العلامة في الإنسان، فيمكن أن يكون في الإنسان وشم أو شامة فتقول: أنا أعرفه بهذه العلامة، فالسمة بمعنى: العلامة، وهذه أيضاً حق في حق الله جل وعلا؛ فإن أسماء الله أعلام على ذات الله جل وعلا، فكل اسم من أسماء الله علم على ذات الله، وبعضها لابد فيه من قصد الذات الإلهية، حتى يكون علم على ذات الله جل وعلا.(2/9)
لفظ الجلالة ((الله)) علم على الذات الإلهية وهو اسم الله الأعظم
(الله).
لو تبحرت في علوم هذا الاسم، وتعبدت لله بهذا الاسم ارتقيت ارتقاءً لا يرتقي إليه أحد إلا من أتى بمثل ما أتيت به.
الله: أشرف الأسماء على الإطلاق، وهو علم على ذات الله جل وعلا انفرد الله به، ولا يمكن لأحد أن يسمى بهذا الاسم إلا الله، إذا قلت: الله.
فلا يذهب ذهنك إلا للعلي المقتدر والذات المقدسة الإلهية.
الله: أصله من الإله، وحذفت الهمزة تسهيلاً، كما تقول: الناس أصله الأناس، وحذفت الهمزة تسهيلاً.
والإله فعال بمعنى: مفعول ككتاب بمعنى: مكتوب، وغراس بمعنى: مغروس، فالإله بمعنى: مألوه أي: هو الذي تألهه القلوب وتحبه وتخضع له وتتذلل وتتضرع وتتمسكن له جل وعلا.
فالله: علم على ذات الله يتضمن صفة الإلهية، وهي العبادة التي هي: غاية الذل مع غاية الحب لله جل وعلا، ولن تصل إلى العبودية التامة حتى تتذلل غاية الذل للملك المقتدر مع غاية المحبة بحيث يمتلئ بها قلبك حتى لا يكون فيه إلا حب الله جل وعلا، وهذا الذي علمه الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية، والحديث في الترمذي ومسند الإمام أحمد بن حنبل قال: (رأيت ربي في أحسن صورة، قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا.
قال: فوضع كفه بين كتفي فكأني شعرت ببرد أنامله على كتفي) ونحن نقول برؤية الله في المنام بنص هذا الحديث، ثم قال: (علمت ما في السموات وما في الأرض).
الشاهد من الحديث أنه قال: (قل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين)، وفي رواية أخرى: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومن أهلي ومن الماء البارد).
فاستلزام الله المألوه المحبوب أن تفرغ كلية القلب من محبة غير الله جل وعلا، ولذا في قصة إبراهيم الخليل الذي تخللت محبة الله مسالك قلبه وروحه لما جاءه إسماعيل غار الله، وكأن حظاً من حب البنوة قد دخل قلب إبراهيم الخليل الذي كان قلبه نظيفاً من محبة غيره، فابتلاه الله بالذبح، فلما انصاع فداه الله بالذبح العظيم؛ لأن الأمر ابتلاء حتى يخلو القلب من أي أحد دون الله جل وعلا.
فالله هو المألوه الذي أشبعت القلوب بمحبته جل وعلا.
قال العلماء: الله: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وقد ذكر في القرآن أكثر من ستمائة وخمسة وتسعين مرة.
وكذلك ما من حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيه اسم الله الأعظم إلا وكان فيه ذكر الله، (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يرفع يده فيقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى).
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسم الله الأعظم في ثلاث سور: في البقرة وآل عمران وطه) فإذا قرأت وجدت الأسماء موجود فيها: (الله لا إله إلا هو) (الله لا إله إلا هو) (الله لا إله إلا هو).
فالله: على القول الراجح هو اسم الله الأعظم الذي إذا ذكر في قليل كثره وبركه، وهو إغاثة للملهوف، ونصرة للمظلوم، وقهر للغالب على المغلوب، فإن الله جل وعلا الذي تألهه القلوب محال من عرفه ولم يعبده، ومحال من عبده ولم يخلص له، ومحال من أخلص له ولم يشبع قلبه بحبه جل وعلا، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96].
وهذا الاسم من مميزاته: أنه لا يضاف إلى الأسماء بل أسماء الله تضاف إليه على أنها أوصاف، فتقول: الله الكريم، الله الرحيم، الله الرحمن، فالكريم والرحيم والرحمن أوصاف لله، لكن لا تقل: الرحمن الله، الكريم الله، ولا يصح أن تقول: الله صفة للكريم أو للرحمن، فلا يضاف للأسماء، بل الأسماء تضاف إلى هذا الاسم الأعظم على أنها أوصاف له، مثل الله الرحمن.
والرحمن: على الانفراد اسم من أسماء الله الحسنى يدل دلالة مطابقة على الذات العلية.
والدلالات ثلاث: تطابق، وتضمن، والتزام.
دلالة التطابق مثل أن أقول: اسم الله دلالته على الذات الإلهية المقدسة دلالة تطابق، أي: لا يحيد شيء عنه.
إذاً: اسم الله أو أي اسم من أسماء الله الحسنى يدل دلالة تطابق على ذات الله جل وعلا، فإذا قلت: الرحمن الكريم الجبار تقصد بذلك الذات العلية فإنها تدل عليها دلالة تطابق.
فالاسم يدل على الذات بدلالة التطابق ويتضمن صفة، فالاسم يتضمن صفة، فالرحمن يتضمن صفة الرحمة، والكريم يتضمن صفة الكرم، والإله يتضمن صفة الإلهية، والمتين يتضمن صفة المتانة.
وإذا قلنا: إن اسم المحيط من أسماء الله فإنه يتضمن صفة الإحاطة، أي: أن الله يحيط بكل شيء.(2/10)
أنواع الدلالات
الدلالات ثلاث: تطابق، وتضمن، والتزام.
ودلالة التطابق مثل أن أقول: اسم الله دلالته على الذات الإلهية المقدسة دلالة تطابق، أي: لا يحيد شيء عنه.
إذاً: اسم الله أو أي اسم من أسماء الله الحسنى يدل دلالة تطابق على ذات الله جل وعلا، فإذا قلت الرحمن الكريم الجبار تقصد بذلك الذات العلية فإنها تدل عليها دلالة تطابق.
فالاسم يدل على الذات بدلالة التطابق ويتضمن صفة، فالاسم يتضمن داخله صفة، فالرحمن يتضمن صفة الرحمة، والكريم يتضمن صفة الكرم، والإله يتضمن صفة، الإلهية، والمتين يتضمن صفة القوة أو المتانة.
وإذا قلنا: إن اسم المحيط من أسماء الله فإنه يتضمن صفة الإحاطة، أي: أن الله يحيط بكل شيء.(2/11)
أقسام الصفات(2/12)
الصفات الثبوتية وأقسامها
صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية.
الصفات الثبوتية: هي التي أثبتها الله في كتابه، وأثبتها له رسوله في سنته، ولا نفي فيها بحال من الأحوال، ولها ثلاثة أقسام.
القسم الأول: صفات ذاتية: أي: لا تنفك عن الله جل وعلا بحال من الأحوال فهي أزلية أبدية، كالعزة، والعزة صفة لله أزلية أبدية أولية آخرية، فالله عزيز أولاً وآخراً، أزلي أبدي، وكذلك الكبرياء، والحياة، والقدرة، صفات أزلية أبدية، ضابطها: أنها لا تنفك عن الله بحال من الأحوال.
القسم الثاني: صفات فعلية: وهي الصفات المتجددة بمعنى: أنها تتجدد، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وضابطها: أنها تتعلق بالمشيئة، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، كالاستواء إن شاء استوى وإن شاء لم يستو، وكالضحك إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك، وإن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، وإن شاء أعطى وإن شاء لم يعط، وإن شاء منع وإن شاء لم يمنع.
فصفات الله جل وعلا على قسمين: صفات ثبوتية أثبتها الله في القرآن، وأثبتها الرسول في السنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً) فأثبت لله السمع والبصر، وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] فأثبت الله لنفسه السمع والبصر في الكتاب، وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم له السمع والبصر في السنة، فهذه هي الصفات الثبوتية.
والثبوتية ثلاثة أنواع: النوع الأول: ذاتية: بمعنى أنها لا تنفك عن الله، فهي أزلية أبدية ولا يمكن أن تتجدد، ولا تتعلق بالمشيئة، كالحياة، فلا يجوز أن نقول: إن شاء يحيا وإن شاء لم يحيى حاشا لله، ومثلها العزة والكبرياء وغيرها، أما الفعلية فهي متجددة بمعنى: إنه متى ما أراد الله أن يفعلها فعلها سبحانه ومتى ما أراد أن يتركها تركها كصفة الكلام فهو إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، وضابطها: أنها تتعلق بالمشيئة الإلهية.
الصفة الثالثة من الصفات الثبوتية: الصفات الخبرية: وهي التي لا مجال فيها للعقل بحال من الأحوال وإنما هي سمعية، أي: إنما أثبتناها لأننا سمعناها من كتاب الله وسنة رسوله، وضابطها: أنها في حقنا أجزاء وأبعاض، مثل اليد فهي من صفات الله، وهي صفة تليق بجلال الله وكماله، لا تشابه أيدي المخلوقين ولا تماثلها.
إذاً: الصفات الخبرية: هي التي مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، مثل الساق، فهي صفة تليق بجلال وكمال الله جل وعلا، قال الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم:42].
والعين أيضاً صفة كمال وجلال لله جل وعلا، قال الله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فهذه هي الصفات الخبرية.(2/13)
الصفات السلبية
القسم الثاني من صفات الله جل وعلا: الصفات السلبية، وهي التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتقدمها: لا أو ما، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: من إعياء، إذاً: الله جل وعلا نفى صفة الإعياء عنه.
أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعون أصم ولا غائباً) فهي صفات سلبية، وقال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] هذه صفة سلبية.
وقال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لا تأخذه سنة ولا نوم، هذه صفات سلبية منفية عن الله جل وعلا.(2/14)
الفرق بين الرحمن والرحيم
الرحمن صفة من صفات الله جل وعلا وهي صفة ثبوتية، إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، ونوعها ذاتية.
والرحيم صفة فعلية، فلذلك العلماء لما فسروا الرحمن الرحيم، قالوا: الرحمن وصفه، أي: أنها ذاتية لا تنفك عنه، والرحيم فعله، فالرحمن صفة ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا أزلية أبدية عامة للكافر وللمؤمن، وهل الكافر يرحم؟ نعم، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فالله يرحم الكافر في الدنيا، وأنتم ترون رحمة الله الواسعة التي تنزل تترى على أهل الكفر، فهو يغدق عليهم بالنعم والرزق كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما رأيت أحداً أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا، يسبونه وينسبون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم) وهذا من رحمة الله جل وعلا.
والرحيم فعل الله، فالرحيم صفة فعلية لله إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، وهذه خاصة بالمؤمنين، فلو تتبعت القرآن كله لن تجد فيه قول لله تعالى: (وكان بالمؤمنين رحمانا) أبداً، ولكن ستجد: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، وقال تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] أي بالمؤمنين، فهذه صفة خاصة بالمؤمنين، وهنيئاً لهم هذه الصفة.
فالبسملة من روائع البيان ويبتدأ بها اقتداءً بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم.(2/15)
الاستعانة بالله
قوله: [رب يسر ولا تعسر].
معناه: النداء يا رب يسر ولا تعسر، فهو يدعو الله جل وعلا، وعلم هذا من السياق، وحين قال: يا رب علم أنه يدعو الرب الجليل، وهذا من فطنة الرجل وفقهه، وفيه دلالة قوية على أن الرجل فذ في العقيدة؛ لأني حين أقول: يا رب فأنا أتوسل إلى الله، والتوسل إلى الله يكون بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أو بالعمل الصالح، أو بدعاء الأخ الحي الصالح، وأفضل وأولى وأحسن ما يتوسل به هو أسماء الله أو صفاته، وهذا الفقيه السلفي الذي أعطانا هذا الكتاب الذي فيه الجم الغفير من ألفاظ السلف في العقيدة توسل باسم من أسماء الله جل وعلا في هذا المقام وهو اسم الرب، وهذه من فطنته لأنه أتى بالاسم الذي يحقق له ما يصبو إليه؛ فإن من آداب الدعاء والتوسل: أن تأتي باسم من أسماء الله جل وعلا يتناسب مع المرغوب والمطلوب، فإذا أردت الرحمة فلا تقل: يا منتقم ارحمني، فإن هذا من سوء الأدب في الدعاء، ومن سوء الأدب مع الله، وعدم الفطنة، وإذا أردت أن يرحمك الله فقل: يا رحمن ارحمني أو يا رحيم ارحمني، وإذا أردت الرزق فلا تقل: يا جبار ارزقني، ولكن قل: يا رزاق ارزقني.
والرجل من فطنته أراد الاستعانة بالله في الفهم والرزق والتصنيف، والاستعانة من لوازم ربوبية الله جل وعلا؛ فإن الإعطاء والمنع من صفات الربوبية، والتيسير والتعسير من صفات الربوبية؛ والقدرة والقوة من صفات الربوبية؛ فلذلك قال: يا رب يسر ولا تعسر.
وهي الاستعانة بالله في مقام العبودية، وطلب الاستعانة من الله من أفضل العبادات التي يمكن أن يقدمها المرء بين يدي طاعة من الطاعات؛ لأن الاستعانة بالله جل وعلا تظهر عز الرب وذل العبد، وقوة الرب وضعف العبد، وغنى الرب وحاجة العبد، وهذا هو المطلوب أصالة من العبد تجاه الرب.
فمقام الاستعانة مقام عظيم جليل بين النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أفضل العبادات كما نصح معاذاً كما في السنن فقال: (يا معاذ! إني أحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تدعو بهذا الدعاء: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
وفي الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أنفع الدعاء: اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك).(2/16)
أقسام الاستعانة
الاستعانة على ثلاثة أقسام: المقام الأول: مقام النبوة: وقد اختص بها المرسلون ثم الصديقون والشهداء والصالحون، وهي الاستعانة بالله على نصرة الدين والعبادات، وعلى الارتقاء في القرب من الله جل وعلا، وهذه الاستعانة لا تكون إلا من النبيين والمرسلين والصالحين والشهداء، نسأل الله أن نكون جميعاً منهم، وأن نستعين بالله على نصرة الدين، وعبادة الله جل وعلا، وحبه جل وعلا، وترك الدنيا خلفنا ظهرياً.
المقام الثاني: مقام أصحاب الهمم الخسيسة: وهم الذين يستعينون بالله على أمور الدنيا، على الدرهم والدينار، تركوا الآخرة خلفهم ظهرياً، واستعانوا بربهم -مع أن هذه الاستعانة مباحة لا أحرمها- على أمور الدنيا، فخسيس الهمة ودنيها هو الذي يهتم بأمر الدنيا ويترك الآخرة، ولو نظر نظرة ممحصة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) وفي المسند عن علي بإسناد صحيح أنه قال: (من جعل الهموم هماً واحداً، أو من اهتم بالله ودينه كفاه الله كل الهموم).
أما من استعان بالله على أمر الدنيا فهذا دني الهمة؛ ولذلك قال ابن القيم: ترى خسيس الهمة يستعين بالله على رغيف، ويتوكل عليه على رغيف يأكله، ومقام الأنبياء الاستعانة على القرب منه ونصرة الدين، والتفرغ لعبادته جل وعلا.
الثالث: أسوأ المنازل وأسوأ البشر على الإطلاق هم من يستعينون بالله جل وعلا على معاصيه.
قوله: [رب يسر ولا تعسر].
هذا مقام الاستعانة، وقد تأدب مع الله فأتى باسم الرب حتى يتحقق له المطلوب المرغوب بالاسم المناسب لما يدعو به.(2/17)
تعلم التوحيد أوجب الواجبات
قوله: [أوجب ما على المرء].
أي: أوجب الواجبات وأفرض المفروضات وأوكد المؤكدات هو التوحيد، وهو معرفة الله جل وعلا معرفة صحيحة ومعرفة ما ينافيه من شرك، وهذا فرض عين على كل امرئ على وجه البسيطة، فيتعرف على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى إجمالاً.
أما التفصيل والرد على أهل البدع فهو فرض كفاية إن قام به طلبة العلم سقطت عن الآخرين، فأوجب ما على المرء معرفة الله جل وعلا بتوحيده وتصديقه وتصديق رسله، والتعرف عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
فإذا قلنا: أوجب الواجبات معرفة الله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى فما هو الدليل على ذلك؟ أقول: لقد ابتدأ الله به في كتابه فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، ولما علمه القراءة قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] حاثاً له على أن يتعلم ما يخص الله جل وعلا وما ينفعه من أمر التوحيد المنافي للشرك، وتعليم هذا لا يكون إلا على فهم سلف الأمة للكتاب والسنة.
والسلف هم الثلاثة القرون المفضلة، فلابد أن نقتفي أثرهم ونطرح قول من قال: (علم السلف أسلم وعلم الخلف أحكم)، قبحه الله من قائل! بل علم السلف أسلم وأحكم، ولن تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وحتى يكون دينها صافياً كما كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا فالعلم العلم والفهم الفهم لما يأتيك فإنه (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فالذي لا يتفقه في دينه لم يرد الله به خيراً، وأرفع الناس وأفضلهم وأشرفهم على الإطلاق هم العلماء، وطلبة العلم، فكن عالماً أو متعلماً أو محباً للعلم ولا تكن الرابع فتهلك، لا تكن من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، فالشيخ محمد صالح العثيمين رحمة الله عليه من أفضل الناس فقهاً، وأشدهم فهماً للكتاب والسنة، وهو الذي كان يقول دائماً: الفهم الفهم، الفهم كل العلم، وإن لم يكن الفهم العلم فهو شطر العلم.
وفي لحظات موته دخل عليه الشيخ صالح المنجد فسأله: من تخلف من الفقهاء؟ فطأطأ رأسه وسكت، وقال: أين العالم الفقيه؟! فلعل الله أن يخلف منكم من يفقه كما فقه هو؛ فإن الله أعطاه نظراً دقيقاً في الكتاب والسنة، ولذلك قلت: إن العلم كل العلم هو فهم الكتاب والسنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) وهذا هو الأهم، وقيل: لما جاء أحمد بن حنبل مع إسحاق بن راهويه قال له إسحاق: نجلس إلى جانب هذا الشاب -أي: الشافعي - ونترك ابن عيينة يقول حدثنا، وحدثنا فقال له الإمام أحمد: لو فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو أخذته بنزول -يعني بزيادة رجل أو رجلين- وإن فاتك فهم هذا الرجل في الكتاب والسنة فلن تجد مثله.
لأن هذا هو المقصود الأعلى والأسمى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفهم متنه، وفهم المتن رأس الأمر؛ لأن الأحكام كلها تكمن في المتن، ولذلك لما تكلم الله جل وعلا عن الآيات الكونية المرئية والآيات المتلوة قال: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)) أي: إن المطلوب دقة النظر والفهم، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
فالتدبر ودقة النظر في الأدلة وفهمها فهم عميق تصل بالمرء إلى الفقه والرفعة.
فأهل العلم وطلبة العلم إذا تعلموا العلم ولم ينظروا في الأدلة ويمحصوا فيها لن تكون لهم تلك المكانة العظيمة، ألا تريدون المعالي؟ ألا تريدون الرفعة عند الله جل وعلا؟ من منا لا يحب أن يحشر مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإذا أردت أن تحشر مع النبي صلى الله عليه وسلم كن وريثاً له، فإنك إذا كنت وارثاً لنبيك صلى الله عليه وسلم فستحشر معه في الفردوس الأعلى، ومع أبي بكر وعمر، فعليكم بالعلم والجهاد، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.(2/18)
الأسئلة(2/19)
حكم كتابة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) في الرسائل الأجنبية
السؤال
هل أكتب في الرسائل الأجنبية ((بسم الله الرحمن الرحيم))؟
الجواب
في الرسائل الأجنبية، وجد من يكتب ((باسم الرب))، وهذا كلام غير صحيح فحتى في الرسالة الأجنبية اكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأن قيصر وكسرى ما كانوا يقرءون العربية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، فالمحظور هو أن تذهب بالمصحف إلى بلاد الكفار إذا خشي عليه الامتهان، هذا هو الضابط.
ولقد كان ابن عثيمين يقول: ليس طالب العلم هو الذي يحفظ الفروع، ولكن طالب العلم هو الذي يتقن الضابط فيجعله أصلاً يرد كل الفروع إليه.
لقد كانت تأتيه الأسئلة فيجيب عنها كما أجاب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية مع أنه لم يقرأ هذا الجواب لشيخ الإسلام ابن تيمية، فما الذي أوصله لهذا؟ محض فضل الله أولاً، والثاني: إتقان الأصول ورد الفروع إليها، فالتأصيل العلمي يجعل طالب العلم متميزاً على غيره ممن لم يهتم بالأصول.(2/20)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الطائفة المنصورة
أوجب الواجبات وأهم المهمات وأفضل المفروضات هو العلم بالله، وتوحيده في ألوهيته وربوبيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو أشرف العلوم؛ لأن العلم علمان: علم بالله، وعلم بأمر الله، والعلم بالله أشرفهما؛ لأن شرف العلم من شرف المعلوم، وهذا العلم مأخوذ من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم.(3/1)
ابتداء العلماء بالبسملة في أول مصنفاتهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع هذا الكتاب الكريم: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).
نقول: ما العلة عندما تجد كل كتاب في أول ورقة من ورقاته يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم؟ أولاً: قال علماء البلاغة في البداءة بالبسلمة: الباء حرف جر، والاسم مجرور متعلق بمحذوف، والمحذوف متأخر بمعنى أبدأ وأستعين بباسم الله، فهنا يفيد الحصر.
ثانياً: كل مصنف كان يقتدي بالكتاب العزيز أولاً؛ لأن الله جل وعلا افتتح السور ببسم الله الرحمن الرحيم.
ثالثاً: اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ما أرسل كتاباً إلا قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله أسلم تسلم).(3/2)
معنى البسملة
معنى بسم الله الرحمن الرحيم على التفصيل: الاسم مشتق من السمو وهو العلو وهذا في حق الله على حقيقته؛ لأن الله له العلو المطلق، وهو أنواع: علو القدر والشرف، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا؛ لأن له صفات الكمال والجلال.
وعلو الذات، والدليل على ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف تجيبون على قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] و (ما) من الأسماء المبهمة التي تفيد العموم، يعني أي مكان كنتم فيه فالله معكم؟ نقول: إن الأصل في المعية أنها لا تستلزم المخالطة، أقول: سرت والقمر معي، والقمر لم يكن بجانبي، وإنما القمر في السماء وأنا في الأرض، وهذه هي المعية المطلقة التي لا تستلزم المخالطة.
إذاً: أولاً: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقد أثبت استواؤه على العرش.
الدليل الثاني: قال الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] فبين أنه في السماء، و (في) معناها (على)، فهذه آية محكمة على أنه فوق السماء جل وعلا، ثم أتتنا هذه الآية المحتملة: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] فهي تحتمل أنه معنا بعلمه وإحاطته وهو فوق العرش، أو معنا بذاته، لكن ما الذي يجعلنا ننفي أمر الذات؟ القرائن المحتفة: أولاً: نقول: الأدلة المحكمة تثبت أنه فوق السماء، وهذا دليل محتمل، فإذا تعارض المحكم والمحتمل قدمنا المحكم على المحتمل.
ثانياً: هذه الآية بدأها الله بالعلم وختمها بالعلم، وعلماء الأصول يقولون: السياق من المقيدات، يعني: أن السياق هو الذي يثبت لك معنى هذه المعية، فالسباق واللحاق يثبت لك تفسير هذه المعية، وأنها معية إحاطة وعلم، وهذه هي المعية العامة.
ولله معيتان: معية عامة، ومعية خاصة، فالمعية العامة هي التي تشمل المؤمن والكافر وكل الخلائق، وهي الإحاطة بالعلم، التي قال الله فيها: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، أي نفس تتنفسه فالله جل وعلا يعلم به، فهو يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.
ومعية خاصة، هذه المعية الخاصة للرسل وللمؤمنين، وهي معية النصرة والتأييد، قال الله جل وعلا لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:43]، فلما خافا منه وخشيا على أنفسهما قال الله تعالى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: معكما بالنصرة والتأييد والحفظ والرعاية.
أيضاً: الاسم مشتق من السمة، وهي العلامة، وهذا ينطبق على أسماء الله؛ لأن كل اسم من أسمائه تعالى علم على ذات الله جل وعلا، فأنت عندما تقول: (الله) يرسخ في ذهنك وينصرف إلى جهة الذات الإلهية.(3/3)
أوجب الواجبات وأشرفها العلم بالله وبأسمائه وصفاته
انتهينا في الشرح إلى أن قول المؤلف: وأول واجب، وأوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل المفروضات هو العلم بالله جل وعلا، وتوحيده جل وعلا، والناس في حاجة إلى توحيد الله جل وعلا، وإلى العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وإفراده بالعبادة أشد من حاجتهم إلى الماء والهواء؛ لأن التوحيد فيه الحياة الأخروية، وهو أول ما قضاه الله على البشر، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وهو أول واجب فرضه الله على البشرية، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، وهو أول ما تسأل عنه في القبر، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي الملك إلى الميت فيقعده فيقول: من ربك؟) أول ما يسأله عن الله جل وعلا، وهو أول بوابة لقبول أعمالك عند الله جل وعلا، كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، لا يقبل عند الله جل وعلا عمل إلا بالتوحيد، فالتوحيد هو أول الواجبات التي لا بد للإنسان أن يسعى إلى تعلمها، وهو أشرف العلوم؛ لأن العلم علمان: علم بالله، وعلم بأمر الله، وأشرف العلوم على الإطلاق العلم بالله، علم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلم بربوبية الله جل وعلا، وعلم بإلهية الله جل وعلا، وشرف هذا العلم مستنبط من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا.(3/4)
طرق تحقيق الإيمان بالله جل وعلا وحال الصحابة في ذلك
إن كان هذا هو أشرف العلوم وأول الواجبات فكيف نتعلمه؟ وكيف نصل إليه؟ قال الله تعالى مرشداً إيانا: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ} [البقرة:137] أي: الصحابة الكرام {فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137].
إذاً: فالإيمان بالله جل وعلا والعلم به وبأسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته يكون بالكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة أهل السنة والجماعة، الذين مدحهم الله بقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، وقد امتثلوا أمر الله جل وعلا، واتبعوا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانوا وحدة في الصف، والعلم والفكر، والوحدة الحقيقية هي وحدة العلم والذهن والفكر، وكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، فهذه الوحدة تمسكوا بها وكانوا معتصمين بحبل الله كما أمرهم، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وكما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) فامتثلوا أمر الله جل وعلا باتباع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55] فامتثلوا ذلك.
وقال جل وعلا آمراً الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، ثم امتحنهم عندما زعموا الحب للرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، ثم بعدما اتبعوا الاتباع الكامل الخالص لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، كما بين ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -كما في المسند- قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم خط على يمينه خطوطاً، ثم خط على يساره خطوطاً وقال: هذه السبل على كل سبيل شيطان، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]).
فأطاعوا الله وأطاعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، عملاً بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]، وقد فازوا؛ لأنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] جل وعلا، وعملوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
إذاً: للصحابة صفات وسمات ما تكلمنا عنها الآن إلا لنحذو حذوهم، ونقتفي أثرهم، فقد اعتصموا بحبل الله جل وعلا تحت كلمة التوحيد، ثم اتبعوا سبيل الله وتركوا سبيل الغواية والشيطان، ثم أطاعوا الله وأطاعوا رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم).(3/5)
حقيقة أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة
إن الاتباع والطاعة والامتثال لأمر الله جل وعلا كان من سمات الصحابة، فعلينا أن نحذو حذوهم.
وأهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة، وهم الطائفة الناجية، ومن هم أهل السنة والجماعة؟ لقد فسر معظم أهل الحديث: أن أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة هم أهل الحديث، ولا أقول: أهل الحديث الذين اختصوا بأسانيد متون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لا، بل هم أعم من ذلك، فأهل الحديث هم أهل القرآن، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، فكلام الله حديث تحدث به مع جبريل، وسمعه جبريل فتحدث به مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأهل القرآن هم أفضل، وهم الطائفة المنصورة وهم الطائفة الناجية؛ لأن الله جل وعلا قال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23]، فمن اهتم بالقرآن دراسة وفقهاً ونظراً واستظهاراً وحفظاً وتعليماً وعلماً كان من الطائفة المنصورة، بل كان أفضلهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ثم بعد ذلك نقول: إن أهل الحديث الذين اختصوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم هم في المرتبة الثانية بعد أهل القرآن، هؤلاء الذين فرغوا أنفسهم ومهجهم وقلوبهم لدراسة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وللذب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(3/6)
حقيقة الإمام والإمامة
بعد ذلك ابتدأ المؤلف في شرح أول باب فقال: باب سياق ذكر من رسم بالإمامة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة: الإمام هو من يقتدى به سواء في الضلالة أو في الهداية، والأغلب عند الإطلاق أن الإمامة تكون في الهداية، قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] يعني: أن الظالم لا ينال الإمامة، بمعنى أن العهد هو الفاعل، والظالمين هم مفعول به.
إذاً: فالإمامة عند الإطلاق إمامة الدين وإمامة الهدى، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ} [الأنبياء:73].
الإمامة يصل إليها المرء بأمرين اثنين بعد فضل الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، بعد فضل الله هناك سببان يصل بهما المرء إلى الإمامة، ذكرهما الله في كتابه فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فلا يصل المرء إلى الإمامة في الدين إلا أولاً: بالصبر، وثانياً: باليقين، والأئمة هم أولو الأمر الذين ذكرهم الله في كتابه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] قال ابن القيم: أولوا الأمر هم العلماء وهم الأمراء، أما العلماء فهم أمنة هذه الأمة، وهم ورثة الأنبياء، وهم أفضل الناس يضيئون ليستنير بهم أهل الإسلام.
أما الذين في ركابهم فهم أولو الأمر الذين تمسكوا بكتاب الله جل وعلا، وتمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحكموا شريعة الله جل وعلا في الناس، ونصر الله بهم الدين، فهؤلاء الأمراء هم الذين يقال عنهم: إنهم في ركاب العلماء؛ لأنهم يجاهدون في سبيل الله جل وعلا كأمثال الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومن تبعهم بإحسان وعمر بن عبد العزيز ومعاوية بن أبي سفيان وهارون الرشيد وأمثال هؤلاء وسيف الدين قطز الذي له المنة الكبرى على أهل الإسلام؛ لأنه أوقف الغزو والزحف التتري الغاشم، وأيضاً محمد الفاتح الذي فتح الله به القسطنطينية، وقد مدح من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها)، فهؤلاء هم أمراء وعلماء الملة لا علماء السلطة، وهناك أئمة لكنهم أئمة الضلالة والغواية والعياذ بالله، وهم علماء سلطة لا علماء ملة، باعوا دينهم بثمن بخس بدراهم معدودة، باعوا دينهم بدنيا غيرهم، فهم سفهاء، وأول من تسعر به النار يوم القيامة: عالم لم يرج الله جل وعلا في علمه، نعوذ بالله من الخذلان، وأيضاً الأمراء الذين يجرون الناس بالسلاسل إلى قعر جهنم والعياذ بالله، قال الله عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود:98] إمام {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، يعني: الذين يعيثون في الأرض فساداً هم أئمة الضلال، ويدعون إلى نار جهنم، كما في حديث حذيفة: (هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم)، نعوذ بالله من ذلك.(3/7)
تعريف السنة لغة واصطلاحاً عند المحدثين والفقهاء وأهل العقيدة
السنة في اللغة معناها: الطريقة، وفي الشرع لها نحو خمس تعريفات أو أربع: فالسنة عند المحدثين هي كل ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو صفة خلقية.
أما تعريف السنة عند الفقهاء فهي: كل شرع غير مفروض أو غير لازم يعني: السنة في عرف الفقهاء هي المندوب الذي هو المستحب، الذي نقول عنه: هو خطاب الشارع المكلفين على وجه الاستعلاء لا على وجه اللزوم، وحكمه: أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
والسنة عند أهل العقيدة هي أصول الدين، هي: اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم واعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم، فهي مقابل البدعة، ولذلك ترى كتب العقيدة كلها تتحدث إما عن اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم أو عن البدعة التي تخالف هذا الاعتقاد، كما في السنة لـ ابن أبي عاصم والسنة للإمام أحمد بن حنبل.(3/8)
حقيقة الدعوة وطرقها وشروطها
الدعوة هي أن تدعو إلى الله جل وعلا، والدعوة تكون باللسان وتكون بالسنان، أما السنان فهو الجهاد في سبيل الذي هو ذروة سنام الإسلام، والدعوة باللسان أفراداً وجماعات لها شرط مهم جداً بينه الله جل وعلا بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] بشرط {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] أي: على علم، وكما قلت: يقوم بها أفراد وجماعات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).
والدعوة تكون أيضاً بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال الله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].(3/9)
مراتب الهداية
الهداية نقيض الغواية، والهداية لها أربع مراتب: الأولى: الهداية عامة، وهذه الهداية العامة تعم كل الخلائق من جن وإنس وحيوانات، فقد هدى الله جل وعلا آدم كيف يأتي زوجته، وأوحى إلى النحل كيف تتخذ من الجبال بيوتاً، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68]، وهدى النمل: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:18]، من الذي أوحى إليها بذلك وهداها إلى ذلك؟ إنه الله جل وعلا.
المرتبة الثانية من الهداية: هداية عامة للثقلين: الجن والإنس، وهي هداية البيان والإرشاد، وهي التي قال الله فيها للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] أي: تبين وترشد الناس إلى هذا الصراط المستقيم.
وقال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: بينّا لهم وأرشدناهم، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17].
هذه المرتبة تكون لله على لسان رسله وعلى لسان ورثة الرسل رضوان الله عليهم كالصحابة والعلماء.
المرتبة الثالثة وهي خاصة بالله جل وعلا، وهي: هداية القلوب، هداية السداد، وهذه لا تكون إلا لله جل وعلا، فهداية القلوب بيد علام الغيوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، ولذلك لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه فقال: (يا عم قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله جل وعلا) فنزلت هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
أما الجمع بين الآيتين: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] وقول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهو في الأولى نفى الهداية عنه، وفي الثانية أثبتها له، فنقول: الهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم هداية السداد والتوفيق هداية القلوب، والهداية المثبتة هي هداية الدلالة والبيان والإرشاد.
المرتبة الرابعة: هذه ليست في الدنيا ولكنها هداية في الآخرة وهي: هداية أهل الجنة إلى منازلهم في الجنة، كما قيل: إن الرجل من أهل الجنة يعرف قصره الذي في الجنة أشد من معرفته لبيته الذي في الدنيا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد:4 - 5] ثم بين هذه الهداية: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6]، فالمرء يدخل قصره ويعرفه أشد من معرفته لبيته الذي في الدنيا.
رزقنا الله وإياكم هذه القصور العالية في الجنة.(3/10)
تعريف الاستقامة
قال: (والهداية إلى طريق الاستقامة).
الاستقامة: هي التمسك بكتاب الله جل وعلا، والتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]، وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالاستمساك بكتاب الله وسنته وشريعته صلى الله عليه وسلم.
وكما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم) (قل: آمنت بالله) أي: العقيدة الصحيحة.
(ثم استقم) أي: على الشريعة القويمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(3/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مجمل عقائد أهل السنة والجماعة
أهل السنة والجماعة هم أهل السنة والاجتماع حول الكتاب والسنة، وهم وسط بين الفرق كأمة الإسلام بين الأمم، وهم يقرون بكل اسم وصفة أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.(4/1)
التعريف بأهل السنة والجماعة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: هذا الكتاب يبدأ بالإجمال ثم يفصل، فسيبدأ بإجمال اعتقاد أهل السنة والجماعة، ثم يأتي عليه بتفصيل اعتقادهم بصفات الله جل وعلا وبأسمائه الحسنى في الحوض والصراط والبعث، ثم بعد ذلك يفرد لكل صنف من هذا الكتاب جزئية معينة، ولذلك فمن المهم جداً معرفة البداية؛ لأنها تضع له قاعدة عريضة في مجمل الاعتقاد وبعد ذلك التفصيل في الرد على أهل البدع والكلام.
وقبل أن نبدأ في ذكر مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة نطرح سؤالاً فنقول: من هم أهل السنة والجماعة؟
الجواب
هم الذين اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما لم تضلوا بعده أبداً، كتاب الله وسنتي) وأهل السنة والجماعة يقولون: إن أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث، فهل يقصدون بهذا الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال أبو هريرة: (كان إخواننا الأنصار ينشغلون بالزرع، وإخواننا المهاجرين ينشغلون بالتجارة، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني)، هل هؤلاء فقط هم أهل الحديث الذين شرفهم الله جل وعلا بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذين يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الحديث يقصد به القرآن، ويقصد به كلام النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] مثاني هو القرآن الكريم، يعني: الحديث هو ما تحدث الله به لجبريل؛ فنزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: أهل القرآن هم أهل الحديث، وأهل الحديث هم أهل القرآن حفظاً واستظهاراً وفقهاً ودراسة ومنهجية وعلماً وتعليماً، (خيركم من تعلم القرآن) هذا على الإطلاق.(4/2)
وسطية أهل السنة والجماعة
معنى الوسطية: العدل، قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً بين الناس.
أهل السنة والجماعة وسط بين الإفراط والتفريط في باب الأحكام والوعد والوعيد، أي: بين الخوارج والمرجئة الخوارج يكفرون بالمعصية، والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، وقال أهل الوسط أهل السنة والجماعة: لن ننفي عنهم مطلق الإيمان، لكن سننفي عنهم كمال الإيمان، فيخرجون من دائرة الإيمان، ولكنهم باقون في دائرة الإسلام، فالفاسق مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
أما وسطية أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات فهم يثبتون الصفات والأسماء التي أثبتها الله لنفسه، فهم وسط بين المعطلة الذين ينفون الاسم والصفة، يقولون: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، ولا كريم ولا كرم، وأخف منهم المعتزلة الذين يقولون: نثبت الاسم ولا نثبت الصفة، نقول: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، وبين المشبهة الذين غالوا في الصفات فشبهوا الخالق بالمخلوق، شبهوا الحق بالخلق، قالوا: سمعه كسمع الخلق، وبصره كبصر الخلق، حاشا لله من ذلك، وجاء أهل السنة والجماعة فكانوا وسطاً بين هؤلاء وبين هؤلاء: يثبتون لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل.
ما الفرق بين التمثيل والتشبيه؟ أولاً: التمثيل هو الأدق في التعبير؛ لأن الله جل وعلا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذه صيغة القرآن وهي الأدق.
ثانياً: الفارق بين التمثيل والتشبيه: أن التمثيل معناه المماثلة دون أدنى فرق.
والتشبيه واقع في أكثر الصفات لا في كل الصفات، والمشبه يضرب للصفة هيئة معينة كأنه يراها، وهذا بهتان عظيم على الله جل وعلا، فأنت تكيف صفة من رأيته، أو من حدثك الثقة أنه رآه، أو أنك رأيت مثله، والثلاثة منفية عن الله جل وعلا، فأنت ما رأيته، وما حدثك الثقة -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن كيفية الصفة، ولا رأيت مثل الله؛ لأنه لا مثل لله جل وعلا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].(4/3)
القرآن كلام الله
أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رضي الله عنه وأرضاه، هذا من طبقة فحول العلماء، وسفيان الثوري ثقة، بل أمير المؤمنين في الحديث رافع راية السنة، صاعقة في الحفظ، وكان فقيهاً إماماً حجة، وكان له مذهب لكن أصحابه لم يحملوه وهو كوفي الأصل.
ومن طرائف طلبه العلم: أن أمه قالت له: اجلس في مجلس التحديث وأنا أغزل عليك.
قال المصنف: [أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن العباد قال: حدثنا أبو الفضل شعيب بن محمد بن الراجيان قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت لـ أبي عبد الله سفيان الثوري: حدثني بحديث من السنة ينفعني الله عز وجل به، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى وسألني عنه فقال لي: من أين أخذت هذا؟ قلت: يا رب! حدثني بهذا الحديث سفيان الثوري وأخذته عنه، فأنجو أنا وتؤخذ أنت.
فقال لي: يا شعيب! اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
من قال غير هذا فهو كافر].(4/4)
تعريف القرآن لغة واصطلاحاً
القرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قراءة أو قرآناً، هذا في اللغة، ثم بعد ذلك أنزلها أهل العلم على كلام الله جل وعلا المختص به الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الاصطلاح: هو كلام الله المعجِز -اسم فاعل- المتعبد بتلاوته، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كلام الله الذي أعجز به البشر أن يأتوا بمثله أو بآية أو بسورة منه.
المتعبد بتلاوته: ليخرج حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث القدسي؛ لأنه من الله معنى واللفظ من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتعبد به.
كلام الله: إضافة الصفة إلى الموصوف، فإن الله تكلم بهذا القرآن، وسمع جبريل من الله جل وعلا هذا الكلام، ونزل به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالقرآن كلام الله، وأي مبتدع قال بأنه مخلوق فهو على دائرة كفر.(4/5)
الأدلة من الكتاب على أن القرآن كلام الله
الأدلة على أن القرآن كلام الله ثابتة في الكتاب ثم السنة ثم العقل.
أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فتكليماً هنا مفعول مطلق مؤكد للعامل -الفعل-، وأهل اللغة يقولون: إن المفعول المطلق إذا أتى مؤكداً للفعل فهو يثبت ما سبق من الفعل، كما تقول: قتلهم تقتيلاً، فإذا قلت: قتلت فلاناً فيحتمل أنك أزهقت روحه، أو أتعبته جداً، أو أبلغت منه الجهد فلكي تقطع الأمر بدون احتمال تقول: قتلته قتلاً، فهذا نص في أن هذا إزهاق للروح، كذلك ((كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) [النساء:164] أي: الكلام الذي يعلم معناه بصوت وحرف.
إذاً: الآية الأولى فيها إثبات أن القرآن كلام الله جل وعلا، وأن الله هو المتكلم، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164].
جاء بعض المعتزلة أهل البدعة والضلالة إلى أحد القراء السبعة فقال: أريدك أن تقرأ هذه الآية: (وكلم اللهَ) بفتح لفظ الجلالة لا بالرفع، ليكون لفظ (الله) مفعول به، فقال: إن فعلت فماذا تفعل بقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، فبهت المعتزلي.
إذاً: فـ {كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] دلالة بنص صريح على أن الله يتكلم، وأن القرآن كلام الله.
الآية الثانية: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ} [آل عمران:77] إلى أن قال: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران:77] جل وعلا.
وقال عن الكفار أيضاً: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
إذاً: أهل الكفر لا يكلمهم الله، فمفهوم المخالفة: أن أهل الإيمان لا يستوون مع أهل الكفر فلا يكلمهم الله.
فالفارق بين أهل السنة والجماعة: أن الله يشرف أهل السنة والجماعة وأهل الإيمان بالكلام منه جل وعلا.
الآية الثالثة: قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] كلام الله إضافة صفة إلى موصوف، الشاهد من هذا: أن القرآن كلام الله، قال الله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] إضافة الصفة إلى الموصوف.(4/6)
الأدلة من السنة على أن القرآن كلام الله
أمَّا من السنة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يكلم أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يتكلم بالوحي سمعت الملائكة صوته كسلسلة على صفوان -ترتعد قلوب الملائكة- فيخرون سجداً لله جل وعلا، ثم يفيقون ويقولون: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه فينادي جبريل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض)، الشاهد: أن الله ناداه، والنداء معناه الكلام، ونثبت بعد ذلك أنه بصوت الحق.
والأحاديث كثيرة جداً في أن الله جل وعلا يتكلم، وأن القرآن كلام الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) وجه الدلالة من الحديث: أن القرآن كلام الله، وقد منع من الاستعاذة بغير الله جل وعلا، ومن استعاذ بغير الله أشرك، فهل يقع النبي صلى الله عليه وسلم في الشرك؟ فإذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات الله فقد استعاذ بصفة من صفات الله جل وعلا، وكلمات المضافة إلى الله صفة مضافة إلى الموصوف.
إذاً: الكتاب والسنة يدلان على أن القرآن كلام الله جل وعلا.(4/7)
الأدلة العقلية على أن القرآن كلام الله
أما العقل: فالأخرس أو الساكت لا يتكلم لا بخير ولا بشر، فليس بأكمل من المتكلم، إذاً المتكلم كامل الصفات فإذا قلت: إن له صفات هل له صفات النقص أم صفات الكمال؟ فإذا قلنا بالعقل: إن الله جل وعلا له الكمال والجلال المطلق وصفات الكمال، فمن صفات الكمال أن يكون متكلماً؛ لأنه إذا لم يقدر على الكلام فإن هذا نقص، ألم تروا أن الله جل وعلا أنكر على بني إسرائيل أنهم عبدوا العجل، والعجل لا يتكلم ولا يرجع إليهم قولاً، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، وقال: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89]، إذاً الله جل وعلا بين لهم أنه إذا لم يتكلم فهو ناقص، والله جل وعلا له الكمال المطلق والقدرة على الكلام.
قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20] فجعل القول قول الرسول الكريم وهو جبريل، وفي الآية الأخرى جعله من قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالله جل وعلا نسب القول له على أنه مبلغ عن الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي يبلغ عمن أرسله، فهو رسول والصفة هذه هي التي تحل الإشكال: ((لَقَوْلُ رَسُولٍ)) [التكوير:19] ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليس النبي صلى الله عليه وسلم هو القائل بل هو الناقل عن الله جل وعلا: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] فإن قال قائل: نزل به بعدما سمع من الله جل وعلا وحفظه فنزل به.
ف
الجواب
ماذا تقول في قول الله جل وعلا {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] والله لا يتوفى ولكنه أمر ملك الموت، كما تقول: بنى عمرو بن العاص الفسطاط في القاهرة في مصر، فهل عمرو بن العاص هو الذي بناه بيديه؟ لا.
بل بأمر منه ولذلك نسب إليه.(4/8)
معنى قول السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود
قال: (القرآن كلام الله غير مخلوق)؛ لأن الكلام غير الخلق فالكلام صفة لا تقوم بذاتها، أما المخلوق فيقوم بذاته، فالمضاف إلى الله نوعان: النوع الأول: إضافة صفة إلى موصوف، وهو ما لا يقوم بذاته، وهذا غير مخلوق كالكلام وكالرحمة وكالنعمة وكالكرم، فهل نعمة الله تقوم بذاتها وتراها تمشي وتسير وتأمر وتنهى؟ لا.
النوع الثاني: مضاف إلى الله يقوم بذاته فهذا مخلوق، مثل عيسى روح الله، فعيسى عليه السلام رآه الناس أمامهم يدعوهم إلى الله جل وعلا، وهو قائم بذاته، والأوضح من ذلك: الكعبة بيت الله، فهذا إضافة شيء قائم بذاته منفصل عن الله جل وعلا، من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، أما الشيء المعنوي الذي لا يقوم بذاته فهو غير مخلوق؛ لأنه إضافة صفة إلى موصوف.
وقال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وواو العطف -في الأصل- للمغايرة، فيكون الخلق غير الأمر، والأمر هو الكلام، والخلق هو أثر الفعل المترتب عليه، يقول الله جل وعلا: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، المكون هذا هو المخلوق، وأثر كلمة (كن) غير مخلوق.
(منه بدأ) أي: الله جل وعلا هو الذي ابتدأ الكلام، وهذه صفة أزلية أبدية قديمة.
(وإليه يعود) هذه إشارة إلى علامات الساعة، وأن الله جل وعلا يوم القيامة يقبض القرآن من الصدور ومن السطور يقبضه من الصدور بقبض الحفظة، ومن السطور من المصاحف، فلا يبقى على وجه الأرض مصحف فيه ذكر الله جل وعلا، بل لا يبقى واحد يقول: الله الله، ولن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، وتهدم أيضاً الكعبة، نسأل الله العفو والعافية.(4/9)
ضوابط التكفير
قال الثوري: (من قال غير ذلك أو من قال غير هذا فهو كافر) هذا الكلام فيه إيهام شديد يرجع إلى الكلام على الإيمان والكفر، لكن عندنا قاعدة وضابط في مسألة التكفير؛ إذ الكفر من أشد ما يكون، ولا بد أن يتحرى طالب العلم في هذه المسألة، ولا ينطلق هذه الانطلاقة الخبيثة التي تخرج الناس من دائرة الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فالمسألة صعبة جداً، وطالب العلم المدقق المحقق هو الذي يتكلم فيها، فهذه المسألة فيها طرق ثلاث: الطريق الأول: أن تثبت أن عين الفعل كفر بالكتاب وبالسنة، وألا يكون في الفعل خلاف بين العلماء في حال من الأحوال.
الطريق الثاني: أن القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل أو الفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة.
الطريق الثالث: إذا زالت الشبهة، وقامت الحجة؛ نطلق الحكم، فنقول عن هذا الرجل: كافر.
السؤال
هل إلقاء المصحف كفر أو لا؟
الجواب
إلقاء المصحف ليس بكفر حتى نستدل بالإلقاء على أنه مستهزئ مستهين؛ لأن المسألة مسألة استهزاء وتعظيم، ولأن المخبر ليس كالمعاين، فهذا موسى ألقى الألواح وكسرها وما عاتبه الله جل وعلا، فنقول: عين الفعل كفر، والإلقاء لا بد أن يكون مقروناً بالاستهزاء حتى ننزل على الفاعل الحكم بالكفر.
ومسألة خروج المرء من الملة، ليست هينة، بل لا بد من طالب علم متقن مدقق يتحدث عنها، وليس كل من هب ودب يتكلم فيها؛ لأن هذه المسائل دقيقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فقد باء بها أحدهما)، فلا يتكلم في هذه المسائل إلا طالب العلم المحقق المدقق، وتعرفونه بطرح مسائل العلم عليه والنظر في كيفية استدلاله وفهمه للدليل، فهذا هو الذي تأخذ منه هذا القول بالكفر أو غيره.
إذاً: (من قال بغير هذا) أي: إن القرآن مخلوق فهو كافر.
نقول: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل أو الفاعل ليس بكافر حتى نقيم عليه الحجة ونزيل عنه الشبهة، وتنتفي الموانع وتتوافر الشروط.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(4/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- الإيمان
الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو معتقد الفرقة الناجية والطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة.(5/1)
الإيمان
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:(5/2)
الإيمان في اللغة
قال المصنف رحمه الله: (والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص).
الإيمان في اللغة: هو التصديق كقول الله تعالى عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، ويتعدى بالباء ويتعدى باللام ويتعدى بنفسه، فيتعدى بنفسه كقولك: أمنته مقابل خوفته، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4].
ويتعدى بالباء تقول: آمنت بالله، أي: صدقت بوجود الله، وبربوبية الله وبإلهية الله وبأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285].
ويتعدى بالباء كقولك: آمنت برسول الله، أي: صدقت بأن هذا الرسول مرسل من قبل الله جل وعلا، وهو صادق فيما يخبر به.
وتقول: آمنت لله، وآمنت لرسول الله متعدياً باللام، قال الله تعالى عن إبراهيم: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130 - 131] أي: استسلمت لرب العالمين، فمعنى آمنت لله: انقدت واستسلمت وسلمت أمري لله، وآمنت لرسول الله: انقدت واستسلمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه ولأمره، قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] أي: استسلم لإبراهيم لوط وانقاد له.(5/3)
الإيمان في الشرع
الإيمان في الشرع: هو التصديق المقرون بالإذعان والقبول والاستسلام، أما المرجئة فيقولون: الإيمان هو التصديق فقط.
قال: (الإيمان قول)، أي: قول اللسان، (وعمل) أي: عمل الجوارح، (ونية) إذاً: هو قول القلب وعمل القلب.(5/4)
زيادة الإيمان ونقصانه
الإيمان يزيد وينقص كما قال الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق لا يقول: إن إيمانه مثل إيمان جبريل.
فالإيمان ينقص حتى يصل إلى النفاق، ويبقى قابلاً للزيادة وللنقصان، وهذا رد على الإمام مالك.
قال: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يجزئ القول إلا بالعمل)، أي: لا يقبل عند الله جل وعلا إلا بالعمل، وهذا مشكل غريب، كيف أتى سفيان الثوري بهذا الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه وهو على فراش الموت: (قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله) فخالف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذه الرواية متفق عليها.
الإجابة على هذا من أوجه: الوجه الأول: أن الشرائع ما نزلت في عم النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أنه أولاً يعرض عليه الشرائع، وبعد ذلك إن قبل أسلم وإلا فلا.
الوجه الثالث: أن أحكام الدنيا من التوارث والتناكح تكون بهذه الكلمة، فإذا قال: لا إله إلا الله.
فله ما لنا وعليه ما علينا.
قال: (ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة)، ثم شرح موافقة السنة فقال: (تقدم الشيخين: أبي بكر وعمر على غيرهما يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثمان وعلياً على من بعدهما).
أجمع السلف على أفضلية الأربعة: وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وهم بحسب ترتيبهم في الخلافة، وهناك طائفة قدمت علياً على عثمان منهم أبو حنيفة رحمة الله عليه، وقيل: إنه رجع عن ذلك، لكن من المتأخرين الشوكاني يقدم علي على عثمان والصحيح الراجح أن عثمان مقدم لحديث ابن عمر قال: (كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقدم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان).
وقال عبد الرحمن بن عوف لما سأل الناس عن علي وعثمان: دخلت على النساء في خدورهن بيتاً بيتاً لا أحد يقدم على عثمان أحداً، وهذا إجماع من أفاضل الناس على أن عثمان أفضل من علي، لكن إذا قلت: توجد لديهما صفات متوازنة، فنعم علي يفوق عثمان رضي الله عنه في بعض الصفات، لكن إجمالاً عثمان رضي الله عنه وأرضاه يقدم على علي رضوان الله عليهم.
قال: (يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار).
وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة: أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا بنار، ولا يجزمون لأحد بصلاح، تقول نحسبه كذلك والله حسيبه، وأما القطع بالجنة فهذا تأول على الله جل وعلا، وتعالٍ على الله جل وعلا، وتقول على الله بغير علم، والله حذرنا من ذلك فقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]، وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قص لنا قصة عن رجلين من بني إسرائيل متعبد ومتعدي، فالمتعبد كان يمر على المتعدي ويقول له: ارجع، اتق الله في نفسك يغفر الله لك، ويبقى على المعصية مرة ثانية، وثالثة ثم قال له: والله لا يغفر الله لك، فقال: فجمعهما الله جل وعلا وقال: من ذا الذي يتألى علي؟ قد غفرت له وأحبطت عملك، فالذي جزم لغيره بأن الله لا يغفر له، ويتألى على الله جل وعلا فقد خرق الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا.(5/5)
الأسئلة(5/6)
حكم طلب المسلم من النصراني الدعاء
السؤال
ما الحكم لو قال مسلم لنصراني: ادع لي معك على اعتقاد أن النصراني على دين الحق، وأن الله يقبل هذه العبادة؟ وما حكم جلوس السامعين لهذا الكلام منه؟
الجواب
إن كان يعرف أن الله كفر النصارى في القرآن كفر، وإن كان لا يعرف تأخذ المصحف وتقرأ عليه قول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وقل له: انظر كيف كفرهم الله في الكتاب، فلو قال لك: لا هم أهل الكتاب، فقل له: أنت معهم مخلد في نار جهنم، وإن كان يقول ذلك مستهزئاً، فحق له أن يستهزئ بهؤلاء الضلال، ترى الرجل منهم يقف أمام ربه ويتبول ويشرب الخمر، الصلاة عند النصارى هي أن تستحضر المسيح، وتتكلم باسم كذا كذا من الكفر المبين الذي يتكلمون به، والصلاة عندهم أكل وشرب خمر وتبول وهو يصلي، المهم أن يقول: أنا أفعل ذلك لنقاء روحي؛ لأنه تذكر المخلص المسيح! أما حكم القاعدين الذين سمعوا هذا الخبر فلا بد عليهم أن ينكروا على الذي قال بالدعاء بهذا التفصيل، ويدعو هذا الصليبي إلى الإسلام، إلا إن كانوا أجانب ولهم لغة غير هذه اللغة، إلا إذا كان سيأخذ الكتاب ليستهزئ به.(5/7)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القدر - البدعة
لقد بين لنا الإسلام عن طريق الوحيين الاعتقاد الصحيح الذي لا يخالطه باطل، وهو ما كان عليه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام والصحابة رضوان الله عليهم من بعده، وما كان عليه سلف الأمة الصالح.(6/1)
اعتقاد الإمام الثوري
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: نتحدث عن اعتقاد الثوري رحمة الله عليه، قال له شعيب بن حرب أخبرني بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن القرآن غير مخلوق.
فأجابه الثوري فقال: القرآن كلام الله, غير مخلوق.
لم يعطه حديثاً صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولكن أجابه بعدة أحكام, مستقاة ومستنبطة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا فيه تلميح وإشارة من الجهبذ العالم الجليل أمير المؤمنين في الحديث: أن القصد والغرض المقصود من نصوص الكتاب والسنة هو الفهم, واستنباط الأحكام من دقة النظر في النصوص, ولذلك قال الله تعالى عن كتابه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
وقال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وكان ابن مسعود يقول: يقرءون القرآن يهذونه هذ الشعر, أي: لا يتدبرون ولا يفهمون ولا يفقهون معانيه, وأصرح الأدلة التي توضح الغرض المقصود من النصوص النبوية أو النصوص القرآنية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) أي: رب حامل فقه ليس بفقيه, وقال: (رب مبلغ أوعى من سامع) ولذلك أنكر المحدثون على يحيى بن معين شدة تحريه في التجريح والتوثيق وحفظ النصوص والأحاديث دون فقه معناها.
ويروى في ذلك أن يحيى بن معين كان مع محدث من المحدثين, فمرت امرأة فقالت: أأستفتيكم؟ فقالوا: سلي, فقالت: إن زوجي توفي ووصى أن أغسله, وإني حائض فهل أغسله؟ فقالوا لها: لا نعرف في ذلك شيئاً, فانتظري حتى يأتيك من يفتيك, فمر عليها أبو ثور الكلبي وكان فقيهاً شافعياً, فنظر في المسألة ودقق وقال: غسليه, فقد كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها (ترجل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض) والميت يساوي الحي في الحرمة فغسليه، فلما سمع يحيى بن معين هذه الرواية قال: نعم هذه الرواية جاءتني من طريق فلان عن فلان عن فلان, ووقفت المرأة حتى سمعت جميع الطرق وحتى انتهى منها قالت: أين كنت لما سألتك؟! ولذلك عاب الإمام أحمد وعاب كثير من المحدثين على من يروي الحديث ولا يفقه معناه.
فالغرض المقصود تدبر المعنى واستنباط الأحكام من الأدلة, ولذلك نرى سفيان العالم الفقيه المحدث, من فقهاء المحدثين, له مذهب ولكن اندثر ومن فقهه أنه ما أجاب شعيب بن حرب بنص حديث بل أجابه بأحكام مستنبطة مستفادة مستقاة من كثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم, فكان أول الكلام أنه قال: القرآن كلام الله, ثم قال: غير مخلوق, ومن قال غير هذا فهو كافر.
فالقرآن كلام الله, قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6].
والشاهد قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فأضاف الكلام إلى الله جل وعلا, والمضاف إلى الله نوعان: مضاف معنى, ومضاف ذات, فالمضاف المعنى أن الصفة تضاف إلى الموصوف, ومن ذلك إضافة الكلام إلى الله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] والكلام معنى، فهو ليس بجسم يمشي أمامك! فإذا أضيف إلى الله أو أضيف إلى أي أحد, كأن أقول: كرم محمد, فوصفت محمداً بالكرم؛ لأن هذا معنى.
فإذا قلت: كلام الله, أضفت الصفة هذه أو المعنى هذا إلى الله جل وعلا.
لكن عندما أقول: الكعبة بيت الله, والكعبة الآن نراها أمامنا قائمة بذاتها, فتضاف إلى الله إضافة تشريف.
وقالت النصارى: قال الله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] أي عيسى روح الله وهذه إضافة إلى الله جل وعلا, فاحتجوا بهذه الآية على أنه جزء من الله, حاشا لله! فنقول لهم: ماذا تفسرون قول الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فهل كل ما في السماوات والأرض منفصلة عن الله جل وعلا أو جزء منه؟ لا أحد يقول: إنها جزء منه، بل حتى النصارى لا يقولون بهذا.
فنقول: كل ذات قائمة بنفسها إذا أضيفت إلى الله فإضافتها إلى الله إضافة تشريف.
قوله: (فهو كافر) يعني: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر.(6/2)
في عقيدة الثوري ذكر المسح على الخفين
قال: يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك.
في هذا مسألتان: المسألة الأولى: المسح على الخف, وهي مسألة فقهية، والذي جعله يدخلها في باب الاعتقاد أنها سنة متواترة, فتكون مسألة اعتقادية وهي: إنكار المتواتر, أو منكر السنة التي جاءت بالآحاد.
ومنكر المتواتر هو الذي: أنكر ما هو قطعي الدلالة مثل القرآن, فالقرآن قطعي الدلالة؛ لأنه وصل إلينا بالتواتر, والسنة قطعية الدلالة؛ لأنها وصلت إلينا بالتواتر, فالذي ينكر المتواتر يكفر وهذه قاعدة؛ لأنه أنكر ما أجمعت عليه الأمة.
فمن أنكر المسح على الخفين يكفر؛ لأن المسح على الخفين جاء من طريق التواتر.
ثم فرع عليها مسألة فقهية نعرج عليها ونمر مرور الكرام, فإن كنت قد ارتديت الخفين على طهارة وتوضأت ثم وصلت إلى رجلك, هل تخلع الخف وتغسل أم تمسح؟ قال بعض العلماء: الغسل أولى وكان ابن عمر يفعل ذلك, وكان يقول: أنا مولع بغسل رجلي, وبعضهم يقول: تمسح, وفصل شيخ الإسلام ابن تيمية المسألة فقال: إن كان قد خلع الخفين يغسل وإن لم يخلع يمسح وهذا هو الأفضل، وأي مسائل فيها خلاف فالأيسر هو الأفضل.(6/3)
في عقيدة الثوري ذكر الإسرار بالبسملة
قال: يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بها.
وهذه أيضاً لا تدخل في الاعتقاد, وهي مسألة فقهية, ولكن نعرج عليها أيضاً مرور الكرام، البسملة من الفاتحة بالدليل الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السبع المثاني الفاتحة)، وقال: ({بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] آية منه) فمن لم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] مع الفاتحة في ركعة من صلاته فركعته تبطل, فالصحيح أن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] آية من سورة الفاتحة.
أما بالنسبة الإسرار والجهر, فقد قال جمع غفير من الصحابة وعلى رأسهم ابن عمر وابن عباس من فقهاء الصحابة بالجهر, والصحيح الراجح أن المسألة فيها إسرار وفيها جهر.
والسنة التي أميتت وأستغرب أنها ماتت أن كل الأئمة لا يصلي جهراً على الدوام, فهذه ليست بسنة, وفي هذا إماتة للسنة, بل إحياء السنة أنه يجهر تارة ويسر تارة, والأغلب الإسرار؛ لأن الذين رووا الجهر رووا أنه أسر, لكن من السنة أن يجهر بها أحياناً.(6/4)
مراتب القدر
ثم قال: يا شعيب بن حرب! لا ينفعك الذي كتبت حتى تؤمن بالقدر خيره وشره, وحلوه ومره, كل من عند الله عز وجل.
القدر هو قدرة الله, وسر من أسرار الربوبية, استأثر الله بعلمه، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
ولا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن به؛ لأنه ركن من أركان الإيمان.
وحتى يستقيم إيمان العبد بالقدر لا بد أن يؤمن بالقدر، وهو على أربع مراتب: المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل, والإيمان بأن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.
المرتبة الثانية: الإيمان بالكتابة, وأن الله كتب كل شيء, والكتابة على مراحل: كتابة في اللوح المحفوظ, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لما خلق القلم قال له: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).
المرحلة الثانية: الكتابة العمرية, وهي عندما يأتي الملك يقول: يا رب! ذكر أم أنثى؟ يا رب ما العمل؟ يا رب! ما العمر؟ ويكتب ما يؤمر به.
الكتابة الثالثة: الكتابة العامية أو الكتابة الحولية كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]، قال ابن عباس: يكتب أهل الحج والأموات والأحياء في هذا العام.
المرحلة الرابع: الكتابة اليومية: كتابة الملك الذي معك, فكل عبد معه رقيب وعتيد.
المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر: المشيئة, ومشيئة الله عامة, إن شاء الله شيئاً كان وإن لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: الخلق.
إذاً: علم, فكتابة, فمشيئة, فخلق, هذا إجمال الكلام على القدر.
ثم فصل سفيان أيضاً فقال: يا شعيب بن حرب! تالله! ما قالت القدرية ما قال الله.
(ما) الثانية ليست نافية, بل هي اسم موصول, والمعنى: والله! ما قالت القدرية الذي قاله الله, فقد خالفت قول الله وخالفت قول الملائكة وخالفت قول المؤمنين.
ثم ارتقى وقال: حتى خالفت صاحبهم إبليس.
القدرية هم الذين يقولون: إن القدر علم فقط، فينكرون مراتب القدر الأخرى، وعندهم أن الله جل وعلا لا يعلم فعل العبد إلا بعدما يفعله العبد، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] الشاهد قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] أي: أن الله بيده الإضلال والهداية, وهم ينكرون ذلك, ويقولون: الذي ضل ضل بفعله, والذي اهتدى اهتدى بفعله, والله يكذبهم ويقول: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] وأنا أوضح نقطة مهمة جداً وهي: ليس الفرار من الكلام على الجبرية أن نقول: إن الله ما أجبر العبد على فعل, هذا ليس بصحيح.
فالصحيح الراجح: أن الله جل وعلا أجبر الفاسق أن يكون فاسقاً, لكن بعد أن أحب الفسوق وفضل الفسوق على الهدى, فالله جل وعلا ختم على قلبه، وفتح عليه باب الفسوق, لكن القول بأن الله علم أن هذا الفاسق فاسق فكتبه في اللوح المحفوظ فاسق بعلم الله فقط, فهذا ليس إجباراً, وإنما هو علم أنه فاسق؛ لأنه يعلم ما يكون, فعلمه أنه فاسق فكتبه في اللوح المحفوظ.
والقدرية على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الذين ينفون علم الله جل وعلا, وأن الله لا يتحكم بفعل العبد, ولا يتحكم في إرادة العبد, فالعبد هو الذي يتحكم في إرادته، وله إرادة مستقلة، وعندهم أن العبد خلق أفعاله بنفسه.
فنقول: إن الله عز وجل يتحكم في أفعالنا، لكنه يتحكم في أفعال العباد لحكمة، والله حكيم ويضع الشيء في موضعه, والله جل وعلا له المشيئة العامة، فكل شيء تحت حكمته, والله جل وعلا يقول: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:31].
لمعترض أن يقف ويعترض ويقول: لماذا أنا لم يشأ الله جل وعلا أن يدخلني في رحمته, وأدخل فلاناً وفلاناً في رحمته؟ فنقول له: انظر إلى ختم الآية أو انظر إلى سابقتها قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]، فهو يعلم أنك لست أهلاً للهداية.
فالله حكيم يضعك في موضعك, قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
ولذلك قال الله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وهذا إثبات أن الله تحكم فيه وأجبره على الفسق لكن بعدما زاغ هو, وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] فأغلق الله قلوبهم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] لم؟ لم لا يؤمنون؟ أيضاً قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، كذلك قال الله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، والتصريح هنا (فتنتك) أولاً ثم التصريح في الآية {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، فالإضلال والهداية بيد الله جل وعلا, وكما قال الله على لسان نوح عليه السلام: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34] فالله سيغويهم ولا يصح القول بأن الله تحكم في إراداتهم فالله ظالم, حاشا لله, فالله حرم على نفسه الظلم, والله عادل وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين, ومن حكمته وعدله أنه يضع الضلال فيمن يستحق الضلال.
وقال تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89].
ووجه الشاهد قوله: (يشاء ربنا) وفيه إثبات مشيئة الله جل وعلا.
وقال أهل الجنة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف:43] أي: أن الهداية والإضلال بيد الله جل وعلا, وقال أهل النار: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] فالشقاء قد كتب في اللوح المحفوظ عليهم, وهذا هو وجه الشاهد.
وخالفوا قول أخيهم إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] فأثبت أن الغواية بيد الله.(6/5)
أقسام البدعة
قال: يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر, والجهاد ماض إلى يوم القيامة.
من أصول أهل السنة والجماعة: الصلاة خلف الفاسق والفاجر والمبتدع.
لكن البدعة على قسمين: بدعة مكفرة, وبدعة مفسقة, والصلاة تجوز خلف إمام البدعة المفسقة لا البدعة المكفرة, وأصل ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا أنتم الصلاة لوقتها ثم صلوا معهم) كما كان يفعل ذلك أنس رضي الله عنه, فقد كان يصلي بالبيت في أول وقت الصلاة وعندما يصلي أمراء بني أمية -وهم كانوا يؤخرون الصلاة- كان يصلي معهم, والعلماء ضربوا لذلك أروع الأمثلة، مثل ابن عمر وأنس مع أظلم أهل الأرض في ذلك العصر وهو الحجاج، وكان الصحابة يذلون في عصر هذا الرجل الطاغية الأرعن, فكانوا يصلون خلفه, والوليد بن عقبة كان أميراً على الكوفة وكان يصلي خلفه ابن مسعود , فصلى خلفه فصلى بهم الوليد الفجر أربعاً, فبعدما انتهى من السلام استدار عليهم وقال: أزيدكم, فقال له ابن مسعود: مازلنا معك في زيادة, وقد صلى بهم مخموراً! ووجه الشاهد أن المخمور لا يكون إماماً, وهذا فسق ومخالفة لشرع الله جل وعلا.(6/6)
الجهاد ماض إلى يوم القيامة
قال: (والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيام) فالأمة لن تعز إلا بالجهاد؛ لأنه فاصل بين أهل الكفر وأهل الإسلام, وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله).(6/7)
إثبات صفة اليد
قال: يا شعيب بن حرب! إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن هذا الحديث فقل: يا رب! حدثني بهذا الحديث سفيان بن سعيد الثوري , ثم خل بيني وبين ربي عز وجل.
قوله: وقفت بين يدي الله, إثبات لصفة من صفات الله جل وعلا ألا وهي صفة اليد, وهي صفة ذاتية, ومعنى الصفة الذاتية أنها أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا, وهذه الصفة تسمى صفة خبرية, وضابطها أن مسماها عندنا أجزاء وأبعاض.
فالعين جزء مني، فإذاً تكون صفة لله جل وعلا خبرية؛ لأن مسماها عندي بعض وكذلك الرجل واليد, وهذه الصفات خبرية لأن مسماها عندنا أبعاض وأجزاء.
صفة اليد صفة ذاتية خبرية, ومعنى خبرية أي لا يمكن إعمال العقل فيها, ولو لم يرد النص بها لا يمكن أن نثبتها لله جل وعلا.
والصفات الفعلية يقرها العقل؛ لأنك تقول: إذا فعلها العبد وكانت صفة كمال له فمن باب أولى أن يتصف الله بها, أما الصفات الخبرية فلا تثبت بالعقل, بل تحتاج إلى دليل لإثباتها.
مثلاً: صفة اليد ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالإجماع, قال الله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقال الله جل وعلا: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64].
وقال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقال تعالى: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] وأما السنة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله ملأى لا يغيضها نفقة, سحاء الليل والنهار، يخفض ويرفع) سبحانه وتعالى.
وفي حديث رؤية أهل الجنة لربهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرفع الحجاب فيرون الله جل وعل) فينظرون إلى وجه الله, ولا يتنعمون نعيماً مثل هذا النعيم, نسأل الله أن يرزقنا وإياكم هذا النعيم.
وأجمع سلف الأمة على أن الله جل وعلا له يد, وكيفيتها مفوضة إلى الله جل وعلا, لا نعلمها، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ولابد من الإجابة عن بعض إشكالات.
الإشكال الأول: أن الله جل وعلا قال: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فأثبت أن له يداً واحدة, ثم قال الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فأثبت اثنتين, ثم قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] فهل لله يد واحدة أم يدان أم ثلاث أم أربع أم خمس أم أكثر من ذلك؟
الجواب
قوله: (يد الله فوق أيديهم) (يد) مفرد مضاف: يد الله, والمفرد المضاف يعم -كما يقول أهل الأصول- المفرد هنا أو الواحدة لا تخالف الجمع في قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].
وكيف نجمع بين الاثنين والجمع؟ كما قال الله تعالى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64].
و
الجواب
أن قول الله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] ليس للجمع ولكنه للتعظيم, ثم قال سفيان: إذا سألك الله جل وعلا فخل بيني وبين ربي.
وهذا فيه إثبات أيضاً للبعث قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) [التغابن:7] فأثبت الوقوف بين يدي الله جل وعلا, وهذا مصرح به في الأحاديث الكثيرة كما سنبين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقف الله جل وعلا يكلم العبد ليس بينه وبينه ترجمان) يقف العبد بين يدي ربه يذكره, يقول: عبدي! أما تذكر ذنب كذا؟ ويقرره بذنوبه, فيقول العبد: أي رب! أي رب! فينظر العبد أيمن منه وأشأم منه لا يجد إلا النار، فلا يجد إلا ما قدم، فيظن أنه قد هلك, فيأتي الرحيم ويلقي عليه ستره, ويقول: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها لك اليوم في الآخرة، نسأل الله أن نكون منهم, آمين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم.(6/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الصبر
الصبر صفة عظيمة وخصلة جليلة يتصف بها العبد المؤمن، فمن أوتي الصبر فقد أوتي الخير كله، فهو خير في الدنيا بأن يحمل العبد على الصبر على أوامر الله والصبر عن حدوده ومناهيه، وهو خير في الآخرة؛ لأن الله عز وجل يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.(7/1)
تعريف الصبر وأقسامه
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم, وقل بما قالوا, وكف عما كفوا].
الصبر في اللغة: حبس النفس، وفي الاصطلاح: حبس النفس على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله جل وعلا.
والصبر قسمان: صبر اضطراري, وصبر اختياري.
الصبر الاضطراري هو: صبر على أقدار الله جل وعلا, لا يبتلي الله عبداً بمصيبة فيصبر عليها إلا وله الأجر في الدنيا وله الرضا في الآخرة, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الترمذي: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم, فمن رضي فله الرضا, ومن سخط فعليه السخط).
وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] هذا في الدنيا، وفي الآخرة له الجنة كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
والصبر الاختياري: صبر عن معصية الله جل وعلا, أن تصبر عن الزنا وعن المقامرة, أن تصبر عن أي فاحشة عن محارم الله جل وعلا, وقال بعض مشايخنا: الصالح حقاً من صبر عن المعاصي, لا من صبر على الطاعة, مع أن الراجح لدي أن الذي يقيم الطاعات ويقع في الزلات أفضل من الذي يمنع نفسه من الزلات ولا يقيم الطاعات، وبالإجمال فإن الصبر عن المعصية أن تصبر وتمنع نفسك عن أن تتعدى حدود الله جل وعلا.
والصبر على الطاعة كأن تصبر على إقامة الصلاة، وعلى إيتاء الزكاة، وعلى طلب العلم، وعلى الجهاد في سبيل الله جل وعلا.
والصبر الاختياري أفضل من الصبر الاضطراري, فصبر يوسف على المرأة أفضل من صبره على السجن, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وصبره عن إتيان المرأة أفضل بكثير من صبره على السجن؛ لأن الصبر على السجن صبر اضطراري على أقدار الله جل وعلا, والصبر على إتيان الشهوات صبر اختياري.
قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة, وقد فصلنا القول في السنة, وقد تعهده وأرشده إلى الصبر على السنة؛ لأن أهل السنة غرباء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) والغرباء هم الذين يتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, ويحيون ما مات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, والذين يصلحون حين يفسد الناس.
ثم قال: واسلك سبيل السلف الصالح, وقد شرحنا معنى السلف.
ثم قال: وكان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة, يقصد بها بدعة خلق القرآن.(7/2)
تعريف الصبر وأقسامه
اصبر نفسك: الصبر: حث النفس في اللغة، وفي الاصطلاح: حث النفس على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله جل وعلا.
والصبر قسمان: صبر اضطراري, وصبر اختياري.
الصبر الاضطراري هو: صبر على أقدار الله جل وعلا, لا يبتل الله عبداً بمصيبة فيصبر عليها إلا وله الأجر في الدنيا وله الرضى في الآخرة, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث الترمذي: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم, فمن رضي فله الرضا, ومن سخط فعليه السخ) وقال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] هذا في الدنيا، وفي الآخرة له الجنة كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير, إن أصابته سراء شكر وذلك له خير, وإن أصابته ضراء صبر وذلك له خي).
والصبر الاختياري: صبر عن معصية الله جل وعلا, أن تصبر عن الزنا وعن المقامرة, أن تصبر عن أي فعل أي فاحشة عن محارم الله جل وعلا, وقال بعض مشايخنا: الصالح حقاً من صبر عن المعاصي, لا من صبر على الطاعة, مع أن الراجح لدي أن الذي يقيم الطاعات ويقع في المزلات أفضل من الذي يمنع نفسه من المزلات ولا يقيم الطاعات وبالإجمال فإن الصبر عن المعصية أن تصبر وتمنع نفسك عن أن تتخطى حدود الله جل وعلا.
والصبر على الطاعة: كأن تصبر على إقامة الصلاة، وعلى إيتاء الزكاة وعلى طلب العلم وعلى الجهاد في سبيل الله جل وعلا.(7/3)
بيان أفضلية الصبر الاختياري على الاضطراري
والصبر الاختياري أفضل من الصبر الاضطراري, فصبر يوسف على المرأة أفضل من صبره على السجن, قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وصبره عن إتيان المرأة أفضل بكثير من صبره على السجن, لأن الصبر على السجن صبر اضطراري على أقدار الله جل وعلا, والصبر على إتيان الشهوات صبر اختياري.
قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة, وقد فصلنا القول في السنة, وقد تعهده وأرشده إلى الصبر على السنة؛ لأن أهل السنة غرباء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغربا) والغرباء هم الذين يتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, ويحيون ما مات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, والذين يصلحون حين يفسد الناس.
ثم قال: واسلك سبيل السلف الصالح, كما شرحنا في الكلام على السلف.
ثم قال: وكان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة, يقصد بها بدعة خلق القرءان.(7/4)
ذم اليأس
اليأس من رحمة الله كفر, ومن يئس من رحمة الله فقد خرج من الملة؛ لأن اليائس من رحمة الله قد ظن ظن الجاهلية بالله, وقد ظن ظن السوء بالله, والله جل وعلا يقول: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6] وقال الله تعالى حاكياً عن يعقوب أنه قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال حاكياً عن إبراهيم: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر:54 - 55] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ضحك ربكم من عباده ييئسون ويقنطون والفرج قريب).(7/5)
أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم
قال الله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فإضافة الرسالة إلى الله تبين أن الذي أرسله هو الله جل وعلا, والرسول: هو كل من أوحي إليه فأمر بالتبيلغ.
ومن صفاتهم أشداء على الكفار, أشداء وهذا من مظاهر ربوبية الله جل وعلا: أن تجد ملكة الغضب وملكة الرحمة والشفقة في العبد, قال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29] كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] يكون المؤمن أسداً ثائراً على أعداء الله جل وعلا, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله رفيق يحب الرفق) فضاعت الرحمة بيننا إما ظاهراً وإما باطناً نسأل الله أن يغفر لنا ويؤلف بين قلوبنا.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم, وجزاكم الله عنا خيراً.(7/6)
الأسئلة(7/7)
أنواع حب الدنيا
السؤال
ما هو حكم التجسس؟
الجواب
حب الدنيا على نوعين: حب الدنيا يخرج من الملة, وحب الدنيا لا يخرج من الملة, فيمكن للمتجسس أن يتجسس للكفار لا لنصرة الكفار على المؤمنين, لا لأنه يحب أن يعلو الكفر على الإسلام, ولكن لأنه يحب الدنيا ولا يريد الآخرة، ويقدم الدنيا على الآخرة, ولذلك قال الله تعالى في سورة النحل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل:107]، والآية ظاهرة جداً؛ لأن من اتخذ إلهه هواه أو قدم الدنيا على الآخرة يكفر, والمسألة لا تكون بالإطلاق ولكن بالتقييد, فقال الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
ويُذكر أنه ارتقى مؤذن صومعة ليؤذن، فرأى امرأة جميلة فتن بجمالها, فنزل وأرادها فقالت: والله! ما أريدك إلا أن تتنصر, فتنصر وقدم دين النصرانية على الإسلام, ولم يرد علو النصرانية, لكنه أحب الشهوة فترك دينه خلفه ظهرياً من أجل هذه الشهوة.
فالمسألة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن الإمام مالكاً قال: الجاسوس كافر يقتل كفراً, لكن نحن نقول: التجسس أنواع: التجسس من أجل نصرة دين الكفر على دين الإسلام وصاحبه يكفر.
التجسس من أجل إعلاء الكفار على المؤمنين؛ حباً لكفرهم وبغضاً لإيمان المؤمنين وصاحبه يكفر.
التجسس من أجل الدنيا وكراهية الآخرة وعدم إرادة الآخرة بالمرة وصاحبه يكفر.
التجسس من أجل مال ومتعة زائلة مع أنه يعلم أن هذه معصية وشهوة زائلة وأنه سيرجع إلى ربه فهذه معصية، ولا يكفر صاحبها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل حاطباً، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم له بالعذر وقال: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وقصة حاطب لا يستدل بها على هذه المسألة؛ لأن حاطب بن أبي بلتعة ما فعل ذلك شهوة, بل فعل ذلك حفاظاً على عرضه ونسائه.(7/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - البدعة
من أصول أهل السنة والجماعة: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدعة، وقد بينها العلماء وذكروا أقسامها.(8/1)
البدعة، تعريفها وأنواعها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: قال الإمام أحمد بن حنبل: ومن أصول أهل السنة والجماعة: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدعة, وكل بدعة ضلالة.
أقول: البدعة في اللغة معناها: الشيء الجديد المخترع على غير مثال سابق, قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] أي: على غير مثال سابق.
وأما البدعة في الشرع: فهي التعبد لله جل وعلا بما لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم, ولها تعاريف أخرى، وأجمع هذه التعاريف ما اقتبسه الإمام الشاطبي من قول الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] فقال: البدعة: هي طريقة مخترعة تضاهى بها الشريعة، والمقصود ممن تمسك بها: المبالغة في طاعة الله وعبادته جل وعلا, فهي طريقة مخترعة لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يشرعها الله جل وعلا.
فقوله: طريقة في الدين مخترعة تضاهى بها الشريعة, يعني: من جنس أعمال الشرع, صوم أو صلاة أو صدقة أو جهاد تنزلاً، والمقصود من التمسك بها: هو المبالغة في طاعة الله وعبادته جل وعلا, ولذلك أنكر الله على النصارى هذه الفعلة فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، مع أنهم فعلوا ذلك ابتغاء رضوان الله جل وعلا، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] والبدعة مذمومة لا يحبها الله جل وعلا, ولا يحبها رسوله صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى في سياق الذم للنصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث العرباض بن سارية: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً, فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل محدثة بدعة) وفي رواية النسائي قال: (وكل بدعة ضلالة).
وفي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى, قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
والمبتدع أشد الناس إباء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو متقدم على الله ومتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، فكأن المبتدع يقول: إن هذا الدين لم يكمل, فهو يأتي بشرع جديد وعبادة جديدة حتى يكمل هذا الدين.
قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وقال أبو إدريس الخولاني: لأن يخبروني بأن في المسجد ناراً أحرقت المسجد ولا أستطيع فعل شيء, خير لي من أن يخبروني بأن في المسجد بدعة.
وقال الثوري: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن صاحب البدعة يجادل عنها، وأما صاحب المعصية فيمكن أن يتوب منها.
وقال أيوب السختياني: ما ازداد عبد اجتهاداً ببدعة إلا ازداد من الله جل وعلا بعداً ـ نعوذ بالله من البدعة ـ.
والبدعة نوعان: بدعة مكفرة, وبدعة مفسقة.
أما البدعة المكفرة: فهي التي تخرج صاحبها من دائرة الإسلام, كبدعة الجهمية: الذين ينفون عن الله جل وعلا أسمائه الحسنى وصفاته العلى, فيقولون: لا سميع ولا سمع, ولا بصير ولا بصر, ولا رحيم ولا رحمة, ولا قدير ولا قدرة ـ نعوذ بالله من الخذلان ـ فهذه بدعة مكفرة تخرج صاحبها من الملة.
وكذلك بدعة الشيعة المميتة المخيفة: وهي قولهم: إن القرءان لم يكتمل, فالقرآن عندكم هو ستة آلاف آية فقط، والصحيح أنه ستة عشر ألف آية, فالمصحف الصحيح هو الذي كان عند فاطمة، ويزعمون تحريف القرآن, وبذلك يكذبون قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وكذلك بدعتهم المميتة في قذف عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهذا يخرج من الملة؛ لأن الله قد برأها من فوق سبع سماوات, فكفروا بتكذيبهم كلام الله جل وعلا.
ومن هذه البدع أيضاً: بدعة الصوفية التي تخرج صاحبها من الملة: وهي اعتقادهم بأن للكون أقطاباً وأبدالاً يتحكمون في الكون من دون الله جل وعلا.
وأيضاً بدعتهم في عبادة القبور, والطواف بها, والاعتقاد بأن المقبور يملك النفع والضر, فهذه أيضاً بدعة من البدع المكفرة التي تخرج صاحبها من الملة.(8/2)
أقسام البدعة المفسقة
البدعة المفسقة: هي البدعة التي يدخل بها صاحبها إلى الفسق وهو أكبر الكبائر, وهذه البدعة: هي التعبد لله جل وعلا بما لم يشرع الله, ولم يشرعه نبيه صلى الله عليه وسلم, وأنواعها تحصر في بدع زمانية, وبدع مكانية, وبدع في الهيئة والكيفية.
أما البدع الزمانية: فهي أن يتخير زماناً فينشئ فيه عبادة خاصة بهذا الزمان لم يخصصه الله جل وعلا, مثال ذلك: أن يأتي إلى ليلة النصف من شعبان فيجتهد في التعبد لله جل وعلا فيها, فيقوم الليل, ويصوم النهار, فهذه بدعة مميتة, فهو يتحين وقتاً لم يشرعه الله جل وعلا ولم يخصصه بعبادة, فيخصصه هو بالعبادة.
ومنها: صيام خميس رجب, والنساء في مصر يزعمن وجوب صيام خميس رجب، ولابد من الزيارة للقبور في خميس رجب, فقد تحين وقتاً وخصصنه بالعبادة ولم يشرعه الله جل وعلا.
ومن البدع الزمانية أيضاً: اتخاذ أعياد في أوقات لم يشرع الله جل وعلا الأعياد فيها؛ لأن الأعياد عبادات, والأصل في العبادات التوقيف.
فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار فوجدهم يلعبون في يومين, فسألهم عن اليومين, فقالوا: يومان نلعب فيهما, وأصل العيد: مأخوذ من العود، عبادة يظهر فيها الشكر والفرح، فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم ذلك فقال: (قد أبدلكم الله خيراً منهما, أبدلكم بالأضحى والفطر).
واليوم خرج علينا الخارجون فقالوا: عيد الأم, وعيد الأب, وعيد الفلاح, وعيد النصر, وعيد الحب للزهور, وقد استأت كثيراً يوم أن سمعت أن بعض الأخوات في عيد الحب نزلن يشترين الزهور -نسأل الله العفو والعافية- ولم يعرفن أن هذه بدعة مميتة, وأنهن سيحاسبن أمام الله جل وعلا, فهذه الأوقات أوقات توقيفية لابد ألا يتعبد فيها الله جل وعلا إلا بما شرع الله جل وعلا.
كذلك أيضاً: المولد النبوي, فقد خرجوا علينا بيوم وقالوا: إن هذا هو المولد النبوي، وإن الدين لا يكون إلا في يوم المولد النبوي, مع أن العبد إذا تعبد لله جل وعلا يفرح بمولد النبي صلى الله عليه وسلم, ويشكر الله على بعثه إلينا بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور, لتكرر الفرح بمولده وإرساله كل يوم وكل أسبوع, وقد غاب هذا عن كثير من الناس! وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصوم يوم الإثنين, فلما سئل عن ذلك -كما في صحيح مسلم - قال: (ذلك يوم ولدت فيه, فأحب أن يرفع عملي فيه وأنا صائم) أي: وأنا صائم فيه.
فالذي يريد أن يحتفل بالمولد النبوي فعليه أن يصوم كل يوم إثنين بنيتين: نية رفع الأعمال إلى الله جل وعلا, والنية الثانية: للاحتفال بالمولد النبوي.
أما البدعة الثانية المفسقة: فهي بدعة مكانية: وهي أن يتخير مكاناً مباركاً عنده فيخصص فيه عبادة، ولم يجعل الله جل وعلا هذا المكان للعبادة, كأن يذهب إلى القبر فيدعو الله جل وعلا عنده.
كذلك أيضاً: أن يذهب مثلاً ليذبح إبلاً في مكان قد عبد غير الله فيه, فينذر أن يذبح مثلاً عند البدوي، والبدوي يعبد من دون الله جل وعلا, فينذر أن يذبح ذبيحة لله جل وعلا في هذا المكان الذي يعبد فيه غير الله جل وعلا, فهذه أيضاً من البدع المكانية.
ومن البدع المكانية أيضاً: أن يشد رحله إلى غير المساجد الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
وأما النوع الثالث: فهي البدع في الهيئة والكيفية: كأن يصلي لله جل وعلا مسدلاً يديه دائماً وفي اعتقاده أن هذا الفعل من السنة، مع أن السنة قد جاءت بخلاف ذلك، فقد جاء في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبض اليمنى على اليسرى في الصلاة).
ومن بدع الهيئات والكيفيات أيضاً: أن يبسط يده كبسط الكلب في السجود، فهذا من المنهي عنه, أو يصلي خاصراً: بأن يضع يده اليمنى على اليسرى على الخاصرة, وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن بدع الهيئات والكيفيات: أن ينذر لله جل وعلا أن يقوم ولا يقعد, وأن يقف في الشمس ولا يستظل, وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يفعل ذلك فنهاه عن هذا, فهذا من البدع في الهيئات والكيفيات.
ومن البدع المميتة في الهيئات والكيفيات: بدع الصوفية في ذكر الله جل وعلا, فتراه يقوم ويترنح ويأتي بأذكار أيضاً لم يشرعها الله جل وعلا, كأن يقول: هو هو, ويفعل ما يفعل حتى يسقط صريعاً على الأرض, فهذه أيضاً من البدع في الهيئة والكيفية -نعوذ بالله من البدع-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(8/3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - رؤية المؤمنين ربهم - خلق أفعال العباد
ن أعظم البدع وأخطرها ما كان متعلقاً بالعقائد؛ كبدعة المعتزلة الذين ينكرون رؤية المؤمنين لربهم، وخلق أفعال العباد، وبدعة الجهمية وغيرهم الذين ينكرون استواء الله على عرشه.(9/1)
رؤية الله عز وجل في الجنة والأدلة على ذلك
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: هذا آخر الكلام عن اعتقاد إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ثم يبقى له أيضاً كلام جيد في الرؤية عليه رضوان الله ورحمته، ولنا أن نقول: عليه رضوان الله، قال عنه الأئمة: حفظ الله هذا الدين بـ أبي بكر في الردة, وبـ أحمد بن حنبل في الفتنة, وهذه الفتنة: هي فتنة خلق القرآن, رحمة الله عليه.
ورؤية المؤمنين ربهم على نوعين: رؤية منفية, ورؤية مثبتة, أما الرؤية المنفية: فهي التي في الدنيا, -فلن يرو ربهم في الدنيا- أما الرؤية المثبتة: فهي الرؤية في الآخرة.
وأما الدليل على أن المؤمنين لا يرون ربهم في الدنيا: فهي أن أحب الخلق إلى الله في زمانه وهو من أولي العزم طلب ذلك من الله ولم ينله، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، فقال الله تعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، فلم ير الله جل وعلا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن ترو ربكم حتى تلقوه)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم, فنفى الرؤية في الدنيا.
بقي إشكال واحد وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه في الدنيا, وهذه المسألة خلافية بين العلماء، والصحيح الراجح فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه؛ لأنه قال عندما سألوه: رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه)، أي: كيف أراه؟ أو ما رأيت إلا النور, وقال في رواية أخرى: (رأيت نوراً)، فلم ير الله جل وعلا, ولكنه رأى الحجاب وهو النور, وهذا هو الراجح.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جل وعلا بفؤاده مرتين, ورآه أيضاً في المنام, وللمؤمنين أن يروا ربهم في المنام, نسأل الله أن يجعلنا كذلك ممن يرونه في المنام, آمين يا رب العالمين! أما الرؤية المثبتة: فهي التي تكون في الآخرة، وقد بين الله جل وعلا أننا سنرى ربنا في الآخرة, وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في عدة أحاديث.
أما الآيات: فقد قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] أي: النظر إلى وجه الله الكريم -رزقنا الله وإياكم هذا الفضل العظيم-.
قال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقد فسرها خير من يفسر كلام الله جل وعلا: وهو صلى الله عليه وسلم فقال: (الزيادة: رؤية الله في الجنة) صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تعالى أيضاً: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وهذه الآية تثبت قطعياً رؤية المؤمنين لربهم؛ لأنها من المتضادات, قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فلما حجبهم الله في حال الغضب، جعل المؤمنين يرونه في حال الرضا.
والأوضح من ذلك قول الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون, ولا تستوي الظلمات والنور, فإذا قلت: إن المؤمنين لا يرون ربهم, وأنهم قد حجبوا عنه, فقد سويت بين المؤمنين والكافرين، والشريعة جاءت بالتفريق بين المختلفين, فالمؤمن غير الكافر، فإن كان عقاب الكافر ألا يرى الله جل وعلا, فجزاء المؤمن يكون برؤية الله جل وعلا.
وفي الصحيحين: (نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته) وفي رواية (لا تضامون في رؤيته)، وهذا من باب تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي؛ لأن الله لا يشبه القمر، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء, لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنكم سترون ربكم كما ترون القمر في ليلة البدر لا تتضررون بالنظر إليه، وفي الرواية الأخرى: (لا تضامون) يعني: لا يحدث لك ضيم، أي: ظلم, فلا يحدث الانضمام لبعضكم إلى بعض فتتزاحمون, فلا يرى البعض ربهم جل وعلا, فهذا لا يحدث, بل سترونه كما ترون القمر في هذه الدنيا البسيطة بالنسبة إلى الآخرة وما فيها وفي عرصات القيامة والله أعلم، -نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يرى وجهه الكريم- فلا فرح ولا نعيم في الجنة إلا برؤيته، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعدما يستقر أهل الجنة في الجنة, فيكشف الحجاب فيرون ربهم، فما تنعموا بنعيم مثل هذا النعيم).
رزقنا الله وإياكم هذا النعيم, آمين يا رب العالمين!(9/2)
خلق أفعال العباد
أختم الكلام بمجمل اعتقاد أبي جعفر محمد بن جرير الطبري , وهو نفس الاعتقاد، لكنه أتى بزيادات مهمة، فيجب أن ألمح إليها, ومن هذه الزيادات قوله: وقد خلق الله أفعال العباد.
وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة: فهم يعتقدون أن أفعال العباد مخلوقة لله جل وعلا, رداً بذلك على القدرية؛ لأن القدرية ينفون القدر ويقولون: إن الإنسان قد خلق فعل نفسه، وهذا باطل فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، لكن القدرية هجمت علينا بهذه المعتقدات الفاسدة، واستدلوا بأدلة على قولهم هذا فقالوا: أولاً: قال الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فأثبت بذلك أرباباً معه ـ حاشا لله من ذلك.
وقالوا: إن الله جل وعلا ربط الجنة بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24]، فالعمل هو الذي يدخل الجنة دون غيره.
ونرد عليهم بالآيات السابقة، فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وقال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، ووجه الاستدلال: أن (كل) من ألفاظ العموم، وأن النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم.
فإن قيل: فكيف تردون على قولهم: إن العبد خلق فعل نفسه, والله جل وعلا ربط الجنة بالعمل فقال: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:24]، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]؟.
ف
الجواب
أن يقال: إن الله قد أثبت في كتابه أنه خلق أفعال العباد, قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] , وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] , فكيف تتجرءون على نفي ما أثبته الله جل وعلا في كتابه؟ فإنه يلزم من كلامكم تبديل كتاب الله جل وعلا، فهذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: أن الله جل وعلا بين أنه خلق كل شيء, وأنه كتب كل شيء في اللوح المحفوظ, ومما كتبه أفعال العباد, كما قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى يوم القيامة)، وتدخل أفعال العباد في قوله: (كل شيء).
إذاً: الدليل الأول: أن الله أثبت لنفسه خلق أفعال العباد، فإن نفيتم ذلك فقد كذبتم القرآن.
الدليل الثاني: أن الله خلق كل شيء وكتب كل شيء, ويدخل في هذا أفعال العباد.
أما الرد على استدلالهم بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فنقول: للخالق أو الخلق ثلاثة معانٍ: المعنى الأول: إيجاد من عدم, والإيجاد من العدم خاص بالله جل وعلا.
المعنى الثاني للخلق: التحويل من صورة إلى صورة, كتحويل الخشب والشجر إلى أبواب، والحديد إلى سيارة, فهذا يكون للعباد, والله جل وعلا أثبت أنهم خلقوا ذلك إنصافاً وعدلاً منه سبحانه وتعالى.
المعنى الثالث: التقدير, فيكون معنى قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] أي: تبارك الله أحسن المقدرين, فإذا قدر شيئاً أنفذه لكمال قدرته, أما إذا قدر العبد شيئاً فلا يستطيع إنفاذه لكمال عجزه وضعفه, ولذلك قال القائل: لأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري يعني: أنك تخلق ما قدرت وتوجده في الحيز على وجه البسيطة, وغيرك يقدر أنه سيفعل ويبني، ثم لا يفعل شيئاً منها لعجزه وضعفه, والله جل وعلا يفعل لكمال قدرته، وهذا هو المعنى في هذه الآية فلا صحة لهم فيها والله أعلم، فهذا هو الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه فشابهوا بذلك المجوس؛ لأنهم يقولون: إن للكون خالقين.(9/3)
الكلام على صفة الاستواء للعلي العظيم
ثم ختم الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري قوله بقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب وبالسنة وبالعقل.
أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] والآيات كثيرة في ذلك.
وأما السنة فقد ثبت عن ابن مسعود موقوفاً عليه قوله: (بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام, وما بين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة عام)، إلى أن قال: (والعرش فوق ذلك, والله فوق العرش)، وهذا الحديث موقوف على ابن مسعود وله حكم الرفع, فهو من السنة.
وأما العقل فقد قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، فعلمنا بذلك أن الاستواء معناه: العلو والاستقرار.
قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [المؤمنون:28]، والعبد الذي يستطيع أن يستوي ويستقر ويعلو على الدابة قادر على ذلك، أما الذي لا يستطيع أن يستوي ويستقر ويعلو على الدابة فهذا عاجز والعجز نقص, فإذا أثبتنا أن العلو والاستقرار للعبد صفة كمال, فمن باب أولى أن تكون صفة كمال لله جل وعلا، والقياس المستعمل بين الله وعباده: هو قياس الأولى، فإن قلنا: إن هذه صفة كمال للعبد, فمن باب أولى أن يتصف الله جل وعلا بها.
وبهذا نكون قد انتهينا من جمل اعتقادات أهل السنة والجماعة، ثم نبدأ بعد ذلك في مسألة توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه.(9/4)
توحيد الله وأنواعه
فقوله: (توحيد الله).
التوحيد نوعان: التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات, وتوحيد القصد والطلب، والتوحيد العلمي الخبري, أو توحيد المعرفة والإثبات هو: توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية.
فتوحيد الربوبية: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن الله جل وعلا هو الرب الخالق الرازق المدبر الآمر الناهي السيد المطاع.
وتوحيد الأسماء والصفات: أن تعتقد أن لله جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا.
والتوحيد الثاني: هو توحيد القصد والطلب: وهو توحيد الإلهية: وهو إفراد الله جل وعلا باستحقاق العبادة, فلا تصرف أي عبادة إلا لله جل وعلا.(9/5)
الكلام على صفات الله تعالى وأقسامها
قال: (وصفات الله جل وعلا الحي السميع) أما صفات الله جل وعلا فعلى قسمين: صفات ثبوتية, وصفات سلبية.
فالصفات الثبوتية هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه, وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم, كأن يقول الله جل وعلا: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] فأثبت السمع والبصر، وكأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون سميعاً بصيراً)، فأثبتها لله تعالى.
وتنقسم الصفات الثبوتية إلى ثلاثة أقسام: صفات ذاتية, أي: أنها لا تنفك عن ذات الله جل وعلا, فهي أزلية أبدية, كالحياة والقدرة والعزة والكبرياء، فكلها صفات ذاتية لا تنفك عن ذات الله جل وعلا.
القسم الثاني: صفات فعلية: وهي ما تعلقت بمشيئة الله, فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل, كالاستواء والحب والرحمة والغضب.
القسم الثالث: صفات خبرية: وهي الأجزاء والأبعاض في تسميتنا، كالرجل والساق واليد والعين، قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فالعين جزء مني، لكنها صفة تليق بجلال الله وكماله جل وعلا، وكاليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فتسمى هذه الصفات: صفات ثبوتية خبرية.
أما القسم الثاني من أقسام صفات الله جل وعلا فهي الصفات السلبية، أي: الصفات المنفية عن الله جل وعلا, بأن نفاها الله عن نفسه في كتابه, أو نفاها عنه النبي صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فنفى عن نفسه صفة السنة وصفة النوم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، فنفى عنه هاتين الصفتين, لكن لا بد في الصفات السلبية من قيد مهم ألا وهو: النفي مع إثبات كمال الضد، ويستطيع الواحد منا أن يفسر ذلك على ضوء الإنسان, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فالصفة المنفية هنا: هي صفة اللغوب ومعناه: التعب والإعياء.
قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: وما مسنا من تعب، لكمال القدرة لله جل وعلا, قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فهو نفي متضمن لإثبات كمال الضد، فكمال الضد للنوم والسنة: هي الحياة والقيومية, فهذه صفات الله جل وعلا, صفات ثبوتية, وصفات سلبية, والصفات السلبية لا تنفى بالكلية؛ لأن النفي المحض ليس فيه كمال, فلا بد أن تنفيها وتثبت كمال ضدها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(9/6)
الأسئلة
قال: (وصفات الله جل وعلا الحي السميع) أما صفات الله جل وعلا فعلى قسمين: صفات ثبوتية, وصفات سلبية.
فالصفات الثبوتية هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه, وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم, كأن يقول الله جل وعلا: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134] فأثبت السمع والبصر، وكأن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون سميعاً بصيراً)، فأثبتها لله تعالى.
وتنقسم الصفات الثبوتية إلى ثلاثة أقسام: صفات ذاتية, أي: أنها لا تنفك عن ذات الله جل وعلا, فهي أزلية أبدية, كالحياة والقدرة والعزة والكبرياء، فكلها صفات ذاتية لا تنفك عن ذات الله جل وعلا.
القسم الثاني: صفات فعلية: وهي ما تعلقت بمشيئة الله, فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل, كالاستواء والحب والرحمة والغضب.
القسم الثالث: صفات خبرية: وهي الأجزاء والأبعاض في تسميتنا، كالرجل والساق واليد والعين، قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فالعين جزء مني، لكنها صفة تليق بجلال الله وكماله جل وعلا، وكاليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فتسمى هذه الصفات: صفات ثبوتية خبرية.
أما القسم الثاني من أقسام صفات الله جل وعلا فهي الصفات السلبية، أي: الصفات المنفية عن الله جل وعلا, بأن نفاها الله عن نفسه في كتابه, أو نفاها عنه النبي صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فنفى عن نفسه صفة السنة وصفة النوم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، فنفى عنه هاتين الصفتين, لكن لا بد في الصفات السلبية من قيد مهم ألا وهو: النفي مع إثبات كمال الضد، ويستطيع الواحد منا أن يفسر ذلك على ضوء الإنسان, قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، فالصفة المنفية هنا: هي صفة اللغوب ومعناه: التعب والإعياء.
قال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] أي: وما مسنا من تعب، لكمال القدرة لله جل وعلا, قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فهو نفي متضمن لإثبات كمال الضد، فكمال الضد للنوم والسنة: هي الحياة والقيومية, فهذه صفات الله جل وعلا, صفات ثبوتية, وصفات سلبية, والصفات السلبية لا تنفى بالكلية؛ لأن النفي المحض ليس فيه كمال, فلا بد أن تنفيها وتثبت كمال ضدها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(9/7)
حكم المشاركة في أعياد الكفار
السؤال الأول: ما حكم المشاركة في أعياد الكفار؟
الجواب
إذا شارك أهل الكفر أعيادهم معتقداً صحة دينهم فقد كفر نوعاً، فإن أصر كفر عيناً لا نوعاً.(9/8)
الملك الظالم المسلم أحق بالولاية من الكافر المحسن
السؤال الثاني: أيهما أولى بالولاية على المسلمين: الملك الكافر المحسن أم الحاكم المسلم الظالم؟
الجواب
الحاكم المسلم الذي يسرق المسلمين أحق بالكرسي من الكافر الذي يعطي المسلمين، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه, فلا يمكن للكافر أن يتربع على عرش المسلمين بحال من الأحوال.(9/9)
وجوب الخروج على الحاكم المتمذهب بالمذاهب البدعية إذا وجدت القوة
السؤال الثالث: ما هو العمل إذا كان الحاكم مبتدعاً أو متمذهباً بمذهب غير أهل السنة, مثل الشيعة أو العلويين ونحوهم؟
الجواب
في المسألة تفصيل: إن كانت بدعته هينة مثل الشيعة الذين يجهلون أمر الدين في الأصل، أو كان من الذين يرون تفضيل علي على أبي بكر وعمر, فهذا لابد له من السمع والطاعة.
أما إذا كان علوياً أو نصيرياً كافراً يقول: إن علياً هو الإله رضي الله عنه وأرضاه، فإن حكمه حكم الكافر الذي سبق تبيينه.
وإن كان أيضاً من الجعفرية الذين يقولون: إن هذا القرآن محرف، ويسبون عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فهذا أيضاً كافر لابد من الخروج عليه إن وجدت القوة.(9/10)
جواز الصلاة بأكثر من نية
السؤال الرابع: هل يجوز الجمع بالنية بين أكثر من صلاة؟
الجواب
نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من دون الفريضة)، أي ركعتين, سواء كانت سنة الظهر أم سنة الوضوء أم سنة الضحى أم سنة العشاء وغيرها، فله أن يصليها بأكثر من نية.(9/11)
جواز تبديل النية في الصلاة
السؤال الخامس: هل يجوز تبديل النية في الصلاة؟
الجواب
نعم، يجوز تبديل النية في الصلاة، ولنا صور كثيرة في ذلك منها: أن تدخل بنية مأموم ثم تبدل نيتك إلى منفرد عن إمامك، كما في قصة معاذ رضي الله عنه وأرضاه, أو أن تدخل مثلاً بنية صلاة ركعتين فتبدل النية إلى نافلة مطلقة، فيجوز ذلك, أو تدخل بنية الظهر منفرداً فتجد جماعة قد انعقدت فتبدل نية الظهر وتجعلها نافلة ثم تنوي الصلاة مع الجماعة، وضابط هذه المسألة: أن الأعلى ينزل إلى الأدنى, والأدنى لا يصعد إلى الأعلى, فالفرض أعلى من النفل، فلك أن تنزل من الأعلى إلى الأدنى، وليس لك أن تصعد من الأدنى إلى الأعلى، فهذا لا يصح، فالفرض لا يبدل إلى سنة بخلاف العكس.(9/12)
حكم الخروج على الحاكم المرتد
السؤال السادس: نود أن توجه كلمة للشباب بشأن ضابط الخروج على الحاكم؟
الجواب
نسأل الله أن يفرج عنا الكرب, فقد سئل علي بن أبي طالب فقالوا له: لماذا حدثت الفتن في عصرك وعصر عثمان ولم تحدث في عصر عمر ولا أبي بكر؟ فقال: لأن أبا بكر وعمر ولوا على أمثالنا, وولينا على أمثالكم.
وهناك حديث يحتج به شيخ الإسلام ابن تيمية، لكنه حديث ضعيف يستأنس بمتنه: وهو أن الله جل وعلا يقول: (قلوب الولاة بيدي فإن أطعتموني لينت قلوبهم عليكم, وإن عصيتموني جعلتهم عليكم نقمة).
فلا ينفع مع الحاكم المجرم الفاسق الفاجر الآن غير الصبر والدعاء, أما المرتد فإنه لابد من إعداد العدة للخروج عليه؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.(9/13)
حكم الصلاة وراء إمام لا يحسن قراءة الفاتحة
السؤال السابع: ما حكم الصلاة وراء إمام لا يجيد قراءة الفاتحة؟
الجواب
إذا كان الإمام لا يجيد قراءة الفاتحة فالصلاة باطلة عند من يعلم ركنية قراءتها، ولا بد للإمام أصلاً أن يكون متقناً للفاتحة.(9/14)
وجوب مفارقة الإمام إذا علم المأموم بطلان صلاته
السؤال الثامن: هل تجوز مفارقة الجماعة بنية المفارقة إذا علم بطلان صلاة إمامه؟
الجواب
إذا أراد أن يفارق الجماعة ابتعد عنهم وصلى منفرداً، فإن كان في الصف الأول واستطاع أن يرجع إلى الخلف دون أن يحدث بلبلة في الصف الأول فله أن يفعل ذلك وإلا فلا؛ تغليباً لجانب المصلحة, إلا إذا كان يعلم يقيناً بطلان صلاة إمامه فإن عليه حينئذ أن يصلي منفرداً حتى وإن أحدث بلبلة في الصفوف.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.(9/15)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الميزان - القبر - الحوض - الشفاعة
من معتقد أهل السنة والجماعة الإيمان بحقيقة الميزان ونصبه يوم القيامة، وإثبات أن أعمال العباد توزن، ومن العباد من يرجح وزنه كالجبال، ومنهم من لا يزن جناح بعوضة على الحقيقة، كما يعتقدون بقبول الشفاعة العامة من الملائكة والنبيين والمؤمنين، واختصاص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى لفصل القضاء وفتح أبواب الجنان لأهل الإيمان.(10/1)
مجمل القول في الفرق بين صفات الله الذاتية والفعلية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا التنسيق الجميل من الإمام الجليل اللالكائي في كتابه العظيم: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ومن هذا التنسيق اقتداء بكتاب الله عز وجل، فطريقة تنسيقه للكتاب أنه ابتدأ بالمجمل ثم أتى بالتفصيل للتشويق، وهذا نجده في كثير من الأحكام في كتاب الله وعلا حيث يأتي بالإجمال ليشوق ثم بعد ذلك يفصل.
وقبل أن نشرع في درس اليوم نذكر إجمالاً الفرق بين الصفات الذاتية، والصفات الفعلية.
فنقول: الصفات الذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، بمعنى أنها غير متجددة.
وأما الصفات الفعلية فهي صفات متجددة، أصلها ثابت لكنها متجددة.
وضابط الصفات الفعلية أنه يصح لك قبل الصفة أن تقول: (إن شاء) بمعنى إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وإن شاء استوى، وإن شاء لم يستو إن شاء جاء وإن شاء لم يجئ إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك إن شاء رحم وإن شاء لم يرحم، فكل هذه الصفات من الرحمة والمجيء والاستواء هي صفات فعلية؛ لأنه يصح أن نقول: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، فكل الصفات الفعلية أزلية الأصل متجددة الآحاد، فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، يعني: أصلها ذاتي لكن أفرادها متجددة؛ لأن الله جل وعلا متكلم من الأزل لكن ما تكلم إلا وقتما شاء أن يتكلم، وهذا معنى أنها قديمة النوع حادثة الأفراد.
وقال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] هذه صفة ذاتية خبرية، وضابط الصفة الخبرية: هي ما لا يمكن للعقل أن يحيط بها ويكون مسماها عندنا أجزاء وأبعاض.
قال الله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] الصفة هنا: العين، ونوعها: ذاتية خبرية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربكم من عباده يقنطون والفرج يأتيهم)،الصفة هنا: الضحك، ونوعها: فعلية، فهو إن شاء ضحك وإن شاء لم يضحك.(10/2)
تعريف السنة عند أهل العقيدة والمحدثين والفقهاء
ذكر المصنف اعتقاد علي بن المديني قال رحمه الله: فقلت: أعزك الله السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها، ثم قال: الإيمان بالقدر خيره وشره.
السنة في اللغة: الطريقة.
وفي الشرع لها تعاريف عند أهل الحديث، وعند أهل الأصول، وعند أهل الفقه، وعند أهل الاعتقاد.
فالسنة عند أهل الحديث هي: كل ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقية، أو صفة خُلُقية، ومثال القول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ومثال الفعل: ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حذو منكبيه) وأيضاً بعض الرواة وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان إذا سجد يجنح في سجوده) يعني: يوسع بين يديه في السجود، أما ما يقع من ضم بعض الناس اليوم فهو خلاف السنة، والصحيح الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوسع حتى جاء في بعض الروايات أنه لو مرت عنزة صغيرة لمرت، وهذه هي السنة في السجود.
ومثال التقرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى حكماً أو يسمع حكماً فيقرره، كما ثبت أن جابراً قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقر الصحابة على العزل.
أما الصفة الخَلْقية أو الخُلُقية فيندرج تحتها كل ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة.
أما أهل الأصول فهم ينظرون إلى كيفية استنباط الحكم من الدليل فلذلك كان تعريف السنة عندهم: ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقريره، فقط.
دون الصفة الخَلْقية والخُلُقية.
أما أهل الفقه: فالسنة عندهم ما يكون مقابل الواجب، يعني: هي النافلة، والنافلة: هي خطاب الشارع للمكلفين لا على وجه اللزوم، وإنما على وجه الاستحباب.
وحكمها أنه يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، فسنة الظهر -مثلاً- يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
والسنة عند أهل العقيدة: ما كان مقابل البدعة.
فالسنة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها ثم قال: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها، لا يقال: لم ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها.
كما قال الإمام الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله، وهذا محض التسليم.
ففي هذه المسائل لا يقال: لم ولا وكيف؟ صفات الله جل وعلا لا يقال: كيف؟ لأن الكيف عندنا فنفوض أمره إلى الله جل وعلا، والمعنى لا يفوض؛ لأن المعنى معلوم، والذين يفوضون المعنى هم المفوضة، فهم يقولون في السميع: لا نعلم عنه غير الألف واللام والسين والميم والياء والعين فقط.
وهذا خلاف اعتقاد أهل السنة، فأهل السنة يعلمون المعنى، ولذلك من الكلام المشهور عن مالك أنه سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم -أي: في اللغة-، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، لذا المعنى لا يفوض وإنما الكيفية هي التي تفوض، أما في الأحكام فلا نقول: لم؟ في الأحكام التي غابت عنا.(10/3)
الإيمان بالميزان يوم القيامة
قال: والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن العبد ولا يزن جناح بعوضة، وتوزن أعمال العباد كما جاءت به الآثار، قال: الإيمان به والتصديق، والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته.
الإيمان بالميزان على حقيقته قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47].
{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6]، وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8]، واختلف العلماء ما الذي يوزن يوم القيامة عمل العبد أم العبد أم الصحائف والسجلات؟ والصحيح الراجح: أن الأعمال والعباد والصحائف كلها توزن يوم القيامة، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالنسبة للأعمال: (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ومن استشكل عليه أن يجسم الأمر المعنوي ويوضع في الميزان، فنقول له: ألم يأتكم نبأ الموت كيف أن الله جل وعلا يكيفه كبشاً على عرصات القيامة ثم ينادي المنادي: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، وينادي أهل النار فيشرئبون وينظرون فيذبح الموت أمامهم فيقال: (يا أهل الجنة خلود بلا موت -اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين- ويقال: يا أهل النار خلود بلا موت) نعوذ بالله من ذلك.
أيضاً هذه الكلمات وهذه الأعمال تسجل يوم القيامة وتوزن في الميزان، وكذلك العباد يوزنون يوم القيامة، ودليل ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الفاجر الكافر الفاسق: (يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) نعوذ بالله من ذلك.
وأيضاً: ورد في السنة أن الصحابة نظروا إلى دقة ساقي ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه فضحكوا من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يعني: (أتضحكون من دقة ساقيه؟ لهما في الميزان أثقل من جبل أحد)، فهذه دلالة على أن العبد سيوزن يوم القيامة، وأيضاً السجلات والصحائف ستوزن لما رواه أحمد في مسنده في حديث البطاقة، وفيه أن السجلات والمعاصي توزن، فإذا رأى المرء في نفسه أنه قد هلك يؤتى بالبطاقة فيها لا إله إلا الله فتطيش هذه البطاقة بكل السجلات.(10/4)
الإيمان بتكليم الله للعباد يوم القيامة
قال: وإن الله عز وجل يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم ليس بينهم وبينه ترجمان الإيمان بذلك والتصديق.
فالله عز وجل.
يتكلم، وكلام الله بصوت وحرف يسمع، ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب فيقول: أنا الملك الديان) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(10/5)
إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم وشرب المؤمنين منه يوم القيامة
قال: والإيمان بالحوض، وإن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترد عليه أمته.
الحوض: لغة: من حاض يحوض وهو تجميع الماء في مكان.
وشرعاً: هو الماء الذي ينزل من نهر الكوثر في الجنة الذي أعطاه الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فينزل هذا الماء إلى الحوض، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وهذا الحوض ميزة خاصة برسول الله، فالأنبياء لكل منهم حوض كما ورد في الأحاديث، لكن الحوض الذي ينزل ماؤه من الكوثر هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوض وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (طوله شهر، وعرضه شهر، وزواياه متساوية، وكيزانه كالنجوم، يشرب العبد منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً) وهذا يكون في عرصات القيامة.
نسأل الله أن يسقينا من هذا الحوض من يد النبي صلى الله عليه وسلم، ونكون ممن قال الله فيهم: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21].
فمن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم يعتقدون بهذا الحوض، وهذا الحوض يختلج أناس منه أمام النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رب أمتي أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) نعوذ بالله من البدع.(10/6)
الإيمان بعذاب القبر وفتنته
قال: والإيمان بعذاب القبر، وإن هذه الأمة تفتن في قبورها.
من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بعذاب القبر، وإثبات عذاب القبر ثابت من الكتاب ومن السنة وإجماع الأمة.
أما من الكتاب فقال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21] اتفق المفسرون على أن العذاب الأدنى هو عذاب القبر، وقال الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
أما من السنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتنون في قبوركم) وكذلك الحديث المشهور الذي فيه أن الإنسان يسأل عن ربه ويسأل عن دينه ويسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم.(10/7)
الإيمان بالشفاعة
قال: والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
الشفاعة في اللغة: ضم الوتر للوتر فيكون شفعاً، أو ضم الواحد إلى الواحد فيكون شفعاً.
أما الشفاعة في الشرع فهي: التوسط للغير بجلب منفعة، أو دفع مضرة، وهذه الشفاعة جاء القرآن فأثبتها ونفاها، فالشفاعة التي نفاها الله جل وعلا هي عن أهل الكفر، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فهذه شفاعة منفية.
وقال عن الكافرين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] فهذه الشفاعة المنفية عن الكفار.
أما الشفاعة المثبتة فقد قيدها الله جل وعلا بقيدين وشرطين مهمين: الشرط الأول: الرضا عن المشفوع والإذن للشافع، قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
وقال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255].
والشفاعة على ستة أنواع: ثلاثة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والباقية يشترك فيها الملائكة والأنبياء والمؤمنون.
أما الثلاثة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي: الأولى: الشفاعة العظمى في عرصات القيامة: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، يأتي كل البشر -مما يجدونه من الكرب والرعب والشدة والرهبة- فيذهبون إلى كل نبي، فآدم يبعثهم إلى نوح، وكل نبي يرسلهم إلى من بعده، حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها، فيذهب فيسجد عند العرش فيلهمه الله بمحامد تعلمها عند سجوده عند العرش، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيشفع في أن يحكم الله بين العباد).
والشفاعة الثانية الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم هي شفاعته في دخول أهل الجنة الجنة، إذ لا يمكن لأحد أن يدخل الجنة إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والملك الذي يقف ببابها يقول: (ما أمرت أن أفتح إلا لك).
والشفاعة الثالثة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم شفاعته في أهل الكفر، مع أنها شفاعة منفية، لكن هذه خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيشفع في عمه أن يكون في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ويظن أنه أشد الناس عذاباً يوم القيامة وهو أخفهم عذاباً.
والشفاعة الرابعة: الشفاعة في أهل الكبائر ألا يدخلوا النار، وهذه الشفاعة وما بعدها يشترك فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون.
والشفاعة الخامسة: الشفاعة فيمن دخلوا النار وأصبحوا حمماً أن يخرجوا منها.
والشفاعة السادسة: رفع درجات المؤمنين من درجة إلى درجة.
جعلنا الله منهم.(10/8)
الإيمان بخروج الدجال وقتل عيسى بن مريم له في آخر الزمان
قال: والإيمان بأن المسيح الدجال مكتوب بين عينيه كافر.
أيضاً من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان بـ المسيح الدجال وأنه موجود محبوس، خلافاً لبعض المعاصرين، ومنهم الفقيه الذي قل في الناس من وصل لفقهه، وهو الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، فهو يرد حديث مسلم الذي فيه أن المسيح الدجال موجود الآن، فيقول: نعتقد أن المسيح الدجال سيخرج وهو أشد فتنة وأشر فتنة، لكن لا يؤمن أنه موجود الآن، لكن نقول فيه كما قيل من قبل: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه.
فالحديث ثابت في صحيح مسلم من حديث تميم الداري الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (حدثني تميم الداري بحديث أعجبني) وفيه بيان أنه موجود الآن ومحبوس بسلاسل وسيخرج، والمسيح الدجال أشد وأشر فتنة وأشر غائب ينتظر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أمره وهو على المنبر، واحمر وجهه وانتفخت أوداجه حتى إن الصحابة من خوفهم ظنوا أنه خلف الشجرة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رعبهم قال: (إن خرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، فإن لم أكن فيكم فالله خليفتي على كل مسلم)، ثم وصفه وصفاً دقيقاً فقال صلى الله عليه وسلم: (هو أعور وربكم ليس بأعور، كأن عينه عنبة طافية) وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوب الأرض شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً.
فيقول للسماء: أمطري فتمطر، ويذهب إلى الخربة فيقول: أخرجي كنوزك فتخرج، ويأتيه الرجل فيقول له: أؤمن بك إذا أخرجت أبي وأمي، فينادي أباه وأمه من القبر فيخرجان، وهما لا يخرجان حقيقة وإنما يتمثل بعض الجن في صورتهما لفتنة الناس، ولن يستشرفه أحد إلا فتنه، إلا رجل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير الشباب في ذلك الوقت بعلمه وبصيرته يقول: أنت الدجال الذي وصفك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذرنا منه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً ما كان يقرأ ولا يكتب ولكن وصفه وصفاً دقيقاً فقال: (مكتوب بين عينيه (ك ف ر) يقرؤها الأمي والقارئ).
فحين يقول هذا الرجل الصالح هذا الكلام يقوم الدجال فيشقه ويمشي بين نصفيه، فيقول: أرأيتم لو أحييته تؤمنون بي؟ فيقولون: نعم.
فينادي عليه فيقوم؛ فتنة لهؤلاء، والله يعلم من يصلح للفتنة فيوقعه فيها، والله عليم حكيم، ثم يقوم الرجل بعلمه ودقة نظره فيقول: أنت الدجال، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة فلا يسلط عليه بعد ذلك؛ لأن الله جل وعلا حباه القدرة على أن يفعل ذلك الفعل مرة واحدة ولا يكرره فإذا ضربه بالسيف وضعت حلقة على رقبته فلا يقوى عليه.
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منه، ونسأل الله جل وعلا ألا نعيش حتى ندركه؛ لأنه شر غائب ينتظر.
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن عيسى ينزل فيقتله.
والعجيب أن أهل الكتاب من يهود ونصارى، وأهل الإسلام كل منهم ينتظر المسيح، أما أهل الإسلام فينتظرون مسيح الهدى عيسى عليه الصلاة والسلام، الذي ينزل فيكسر الصليب ولا يقبل من النصارى الجزية بل الإسلام أو القتل، ويقتل الخنزير.
وأما اليهود فينتظرون المسيح الذي بشر به موسى، فهم اتهموا مريم وأرادوا قتل عيسى، فهم ينتظرون المسيح الذي بشر به موسى عليه الصلاة والسلام، أما النصارى فهم ينتظرون عيسى الذي هو ربهم، والعياذ بالله.
المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل على جناحي ملكين، وإذا بالناس قد اصطفوا للصلاة خلف المهدي، فإذا رأى المهدي عيسى عليه السلام تراجع إلى الخلف حتى يصلي عيسى بالناس -فهو نبي من أولي العزم من الرسل- فيقول: عيسى، إمامكم منكم، وهذا من تكريم الله لهذه الأمة، اللهم لك الحمد والشكر.
اللهم اجعلنا من خيار هذه الأمة يا رب العالمين.
فيطارد عيسى عليه الصلاة والسلام الدجال حتى يدركه عند باب لد فيقتله، وتبقى معه الفئة المؤمنة كما سنفصل بعد ذلك في أشراط الساعة.(10/9)
عقيدة أهل السنة في السمع والطاعة لولي الأمر براً كان أو فاجراً
قال: وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان، نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يختلفوا في ذلك.
ذكر أصحاب الشورى ثم أهل بدر، وكل ذلك شرحناه من قبل.
ثم قال: ثم السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم.
فإن المسلمين يلي أمرهم حاكمان: الحاكم الأول: من قد يلي أمر المسلمين بالمشورة أو بالاختيار.
وهذا هو الذي قيل فيه: (خيار أئمتكم الذي تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم) ويحكمون بشرع الله والقسط.
والحاكم الثاني: من غلب على أمر المسلمين بالسيف، وكل واحد منهما له السمع والطاعة بالقيد الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) فالحاكم له السمع الطاعة، ولو كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو تأمر عليكم عبد حبشي أسود) أخرجه أحمد بن حنبل.
ثم بين أنه لا يحل الخروج على إمام المسلمين براً كان أو فاجراً.
ومسألة الخروج على الحاكم مسألة عظيمة ضل فيها كثير وزلت أقدام.
والكلام فيها إجمالاً يتركز في نقاط: أولاً: هل يصح الخروج على الحاكم؟ الحاكم إما أن يكون حاكماً عادلاً مؤمناً تقياً ورعاً يحكم بين الناس بما أراه الله جل وعلا -أي: بشرع الله جل وعلا- فهو يقسط بينهم ويعدل بينهم، فهذا من خرج عليه يقتل؛ لأنه قد شق عصا الطاعة، فمن خرج على إمام عادل حكمه أنه يقتل لأنه شق عصا الطاعة.
وإما أن يكون الحاكم ظالماً فاسقاً فهذا الحاكم أيضاً له السمع والطاعة، ومن خرج عليه فقد أتى ببدعة؛ لأن هذا ليس من اعتقاد أهل السنة والجماعة بل وزره أشد ما يكون؛ لأنه سيعيث في الأرض فساداً، لأن التأليب على الحاكم وعلى ولاة الأمور يجعل الفساد يستشري بين الناس، فالحاكم الظالم الفاسق لا يخرج عليه، لكن هذا الحاكم له أحوال ثلاثة: الحال الأول: أن يكون هذا الحاكم الظالم الفاسق ليس له شوكة وليس له منعة، وعندنا أهل الحل والعقد عندهم شوكة ومنعه فهؤلاء وجب عليهم أن يعزلوه وينصبوا مكانه الإمام العادل.
الحال الثاني: أن يكون هذا الظالم الفاسق الإمام له شوكة ومنعة، لكن أهل الحل والعقد والمسلمون لهم شوكة ومنعة أقوى، ففئتهم أقوى من فئته.
الحالة الثالثة: أن يكون الإمام الظالم معه شوكة ومنعة أقوى من شوكة المسلمين.
فالصحيح أن الحاكم الظالم الفاسق أهل الحل والعقد هم الذين لهم حق التصرف معه فإن كان بإمكانهم عزله، والإتيان بالعادل مكانه فعلوا، وإلا لا يخرج عليه بحال من الأحوال، حتى وإن كان مع آحاد المسلمين شوكة ومنعة أكثر منه فلا يصح الخروج عليه، وهذا منهج أهل السنة والجماعة.
أما الحاكم الثالث فهو الكافر، والكافر لا يولى على المسلمين، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].
لكن لو كان الحاكم مسلماً ثم فسق وظلم، بل وكفر وخرج من الملة فهذا له أحوال: الحال الأول: أن يكون ليس له شوكة ومنعة، فهذا أهل الحل والعقد يعزلونه ثم يستتيبونه فإن تاب وإلا قتل ردة.
الحال الثاني: أن يكون له شوكة ومنعة، لكن المؤمنين والمسلمين عندهم شوكة ومنعة أقوى منه، فهذا وجب عليهم أن يخرجوا عليه ويقاتلوه حتى ينحوه ثم يستتيبونه فإن تاب وإلا قتل ردة.
الحال الثالث: أن يكون له شوكة ومنعة وفي المسلمين ضعف فهذا لا يجوز الخروج عليه مع أنه كافر، والكافر لا يعلو على المسلم، لكن تغليباً لدفع المفسدة عن جلب المصلحة، وهذا الكلام دقيق جداً، فهذا الحاكم ارتد وردته ظاهرة عندنا من الله فيها برهان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنابذوهم إلا أن تروا كفراً بواحاً) فأنت رأيت الكفر البواح ورأيت الردة، كقول القائل من بعض الحكام: إن قطع يد السارق تخلف ورجعية.
فهذا كفر وارتد أمامك، لكن مع ذلك لا تخرج عليه تغليباً لدرء المفسدة العظمى، وهي استئصال شأفة المسلمين.
وجاء عن الشافعي أنه قال: لو كان في المسلمين ضعف لهم أن يدفعوا الجزية للنصارى وللكفار دفعاً للمفسدة العظمى التي تأتي على المسلمين باستئصال شأفتهم، فالصحيح الراجح: أنه إن لم يكن في المسلمين قوة، وارتد الحاكم بكفر بواح لنا فيه من الله برهان فلا يجوز الخروج عليه تغليباً لدرء المفسدة.(10/10)
وجوب إقامة الحدود
ثم ذكر إقامة الحدود وأنه فرض فرضه الله جل وعلا على عباده لا بد من إقامتها، والكلام في هذه المسألة من أجل بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة سيكون في مسألتين: المسألة الأولى: هل إقامة الحد يكون لآحاد الأمة؟ فنقول: إقامة الحدود لولي الأمر، وهناك أدلة عامة على إقامة الحدود منها: قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور:2].
وقوله جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38].
فهذه أدلة عامة، ولكن جاءت أدلة خصصت هذه الأدلة العامة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد).
وأوضح من ذلك قصة صفوان بن أمية لما سرق رجل شملته، فأخذه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال: يا رسول الله، إني قد سامحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟!).
فهذه دلالة على أن إقامة الحدود ليست لأي أحد؛ لأنه كان يمكن للصحابي أن يقيم الحد على السارق؛ لكنه ذهب به إلى إمام المسلمين وولي الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وبعدما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده قال: سامحته يا رسول الله، فقال: (هلا كان ذلك قبل)، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ألم بذنب فليستتر بستر الله جل وعلا، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد).
فهذه دلالة على أن ولي الأمر هو الذي يقيم الحد، ويمكن له أن يوكل غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) يعني: إن اعترفت بالزنا فارجمها.
المسألة الثانية: إذا أسقط الولي الحدود فلم يقم أي حد، فهل لآحاد الأمة أن يقيموا هذه الحدود؟ هذه المسألة فيها تفصيل: فأقول: الأصل أنه لو أسقط الولي الحدود فإن لآحاد الأمة أن يقيموها؛ لأن الله جل وعلا ما فرض هذه الحدود إلا لتطبق على أرض البسيطة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) إلى آخر الأدلة، لكن هذا الأمر يقيد بقيود أشد ما تكون غلظة، فإن آحاد الأمة إذا أقاموا هذه الحدود فربما حصل بذلك تأليب للناس على ولي الأمر، فيترتب على ذلك مفسدة أعظم كأن يقوم الوالي بأخذ من أقام الحد وأخذ غيره معه بغية إثبات قوة يده وسلطانه، فالمسألة مقيدة بالمصلحة والمفسدة، فإن كان الرجل يعلم أنه لو وصل الوالي أنه أقام الحد فإن الوالي لن يعاقبه أو يعاقب بعده من معه، ولن ينزل على الأمة بأسرها هدماً وقتلاً وسجناً، فهذا مأمور بأن يقيم الحد.
فضابط المصلحة والمفسدة هو الذي يضبط لنا إمكانية إقامة آحاد الأمة للحدود.
لكن في واقعنا المعاصر هل يمكن للإنسان أن يقيس مصلحة ومفسدة، الصحيح: أن المفسدة أعظم ما تكون، فالراجح أنه ليس لآحاد الأمة في هذا الواقع المعاصر أن يقيم الحدود، فنحن قررنا مسألة نظرية علمية، لكن الآن ليس لآحاد الأمة أن يقيم الحدود التي عطلها الوالي.
لكن لو جيء برجل زنى وأقيم أمام الوالي، وجاء رجل وأخذ السوط وجلده، فلما ضربه السوط الأول سكت الوالي، ثم الثاني وإلى الثمانين وفي كل هذا يسكت الوالي، فهذا يدل على رضاه وإقراره.(10/11)
بيان النفاق المخرج من الملة
نختم هنا بقول الإمام: والنفاق هو الكفر: أن يكفر بالله، ويعبد غيره.
النفاق نفاقان: نفاق أكبر ونفاق أصغر، والنفاق معناه في اللغة: الطريق في الأرض، والنفاق الأكبر هو النفاق الاعتقادي؛ أن يظهر الإسلام ويضمر الكفر، والعياذ بالله، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9].
أما النفاق الأصغر فهو النفاق العملي؛ وجاءت صفاته في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر) وفي الرواية الأخرى: (وإذا خاصم فجر).
وهنا مسألة في النفاق العملي: هل النفاق العملي يخرج من الملة أم لا يخرج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً)؟ فأقول إجابة على هذا الإشكال: المسألة فيها تفصيل فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كان منافقاً خالصاً) أشكل على العلماء؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54] فالتصريح هنا أنهم كفار، أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصرح، لكن قال: كان منافقاً خالصاً فهل يلحق بالكفار أم يكون من أهل الكبائر؟ للعلماء تأويلات كثيرة جداً: الأول: كان منافقاً خالصاً، يعني: كافراً، لكن باستحلال هذه الأمور، أي: باستحلال الكذب، والغدر وغيرها من هذه الصفات، فنقول لهم: هو يكفر إن كانت فيه هذه الصفات، أو لم تكن فيه هذه الصفات؛ لأن الاستحلال كفر، كما أن من جحد وجوب الصلاة فهو كافر وإن صلى.
التأويل الثاني: كان منافقاً خالصاً، يعني: شبيهاً بالمنافقين وليس بمنافق، يعني: شابه صفاتهم كما قالوا: إن هذا يفعل فعلة الكفار، فصفته كصفة الكفار.
التأويل الثالث: قالوا: إنه بريد الكفر، وهذا هو أعدل الأقوال، فالإنسان لو تشبع وتضلع بهذه الصفات واستمر عليها فهي بوابة إلى النفاق الأكبر؛ فهو حين يكذب يكون قد نزعت منه صفة الإيمان، لكن يبقى في دائرة الإسلام، فإذا اعتاد الكذب يخرج من دائرة الإسلام، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم.
فقيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم.
فقيل: أيكون كذاباً؟ قال: لا) فالكذب والغدر والخيانة ليست من صفات المؤمنين، فمن اعتاد عليها، وثبت عليها، فهذا منذر بخروجه من الملة والعياذ بالله.(10/12)
إطلاق الكفر العملي على المعاصي
ثم قال: نرويها كما جاءت ولا نفسرها مثل: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
ومثل: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار).
ومثل: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
ومثل: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما).
ومثل: (كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق).
قال الإمام أحمد: هذه الأحاديث مما قد صح وحفظ فإنا نسلم به، وإن لم يعلم تفسيره، ولا يتكلم فيه، ولا يجادل فيه.
فهل نمرر هذه الأحاديث أم ننظر فيها وندقق النظر؟ وكيف يكون التدقيق؟ أولاً هذه الأحاديث من المتشابه فتحتاج إلى أن ترد إلى المحكم.
فلو جاءك من يقول: قاتل المؤمن كافر، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، والخلود لا يكون إلا لكافر.
فنقول رداً عليه: الأصل في لفظ الكفر أنه كفر أكبر إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، والقرينة هنا قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فمع أنهم اقتتلوا إلا أنه سماهم المؤمنين، فلم ينزع منهم صفة الإيمان، وقال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، والأخوة هنا هي أخوة الإيمان والدين.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الحسن: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين) وحدث أن الحسن صالح معاوية فكانا مع من معهما الطائفتين المؤمنتين.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق).
والطائفتان هما طائفة علي، وطائفة معاوية، فسماهم مسلمين.
إذاً: فقتال المؤمن ليس بكفر، ولكنه كبيرة.(10/13)
بيان الضابط في إطلاق مسمى الصحابي على من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم
بقيت هنا نقطة مهمة ننبه عليها، وهي مسألة الصحبة وتعريفها، فنقول: الصحبة تطلق على كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ومات على الإسلام.
وفي تعريف آخر: كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، ومات على الإسلام.
والتعريف الأول أصح؛ لأننا لو قلنا بالتعريف الثاني لخرج من الصحابة عبد الله بن أم مكتوم فهو لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان أعمى، ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن كل صحابي بأمه ممن جاء بعهدهم، وهذا هو الصحيح الراجح، ولذلك لما سئل بعضهم عن معاوية وعمر بن عبد العزيز قال: ليوم من أيام معاوية صحب فيه النبي صلى الله عليه وسلم ورآه فيه خير من عمل عمر بن عبد العزيز.
نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(10/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القدرة - العلم - السمع والبصر
من الإيمان بالله الإيمان بأسمائه وصفاته، وإثباتها له كما أثبتها لنفسه في كتابه وسنة رسوله، ويجب إثبات الأسماء والصفات بالشرع لا بالعقل، والإيمان بها كما آمن بها السلف الصالح من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تكييف.(11/1)
توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله: باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باقي.
التوحيد هو أشرف العلوم، وشرف العلم من شرف المعلوم، ولا أحد أشرف من الله جل وعلا.
وقد ضلت فرق كثيرة في باب توحيد الله جل وعلا، فمن الفرق الضالة الذين قالوا: إن التوحيد هو الإقرار بوجود الله فقط، فمعنى توحيد الله جل وعلا عندهم: هو أن تقر أن الله جل وعلا موجود، أو أن الله هو رب الكون وخالق الكون ورازق الكون، وهذا تفريط في باب التوحيد.
ومن هذه الفرق الذين قالوا: إن التوحيد هو وحدة الوجود، وهؤلاء هم غلاة الصوفية الحلولية كـ ابن سبعين وابن عربي، حيث قالوا: ما في الجبة إلا الله، ولا فرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق!!(11/2)
أقسام التوحيد
جاء في الواسطية أن أهل السنة والجماعة قالوا: إن توحيد الله جل وعلا هو إفراد الله بالعبادة وإفراده بالاعتقاد أنه الخالق الرازق المدبر الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقسم شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده التوحيد إلى قسمين: القسم الأول: توحيد المعرفة والإثبات أو التوحيد العلمي الخبري عن طريق السمع والتوقيف، وهو توحيد الله جل وعلا بأفعاله أو فعل الرب تجاه العبد وهو أن تعتقد أن لربك جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا كلها جلال وكمال، وأن تعتقد أن خالق الكون ورازقه ومدبره هو الله جل وعلا، وهو السيد المطاع الآمر الناهي الذي له حق التشريع وحق الأخذ والإعطاء، وأنه يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
القسم الثاني من أقسام التوحيد: توحيد القصد أو توحيد الله بأفعال العباد، وهو توحيد الإلهية، وهو أن تفرد الله جل وعلا بالذبح والنذر والقسم والتذلل والخضوع والدعاء والتضرع، فهذا لا يكون إلا لله جل وعلا.(11/3)
صفات الله وأقسامها
الصفة هي! ما يدل هي علم يدل على معنى قائم بذات الله جل وعلا، أي: أن الصفة هي علم، وهذا العلم يدل على معنى قائم بذات الله جل وعلا، أما الاسم فهو: علم يدل على ذات الله.
إذاً الفرق بين الصفة والاسم: أن الصفة علم يدل على معنى قائم بذات الله، سواء كانت هذه الصفة متعلقة بالمشيئة أو كانت أزلية أبدية، أما الاسم فهو علم يدل على ذات الله جل وعلا.
والصفات نوعان: صفات ثبوتية وصفات سلبية، فالصفات الثبوتية هي ما أثبتها الله لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، فأسماء الله وصفاته لا يمكن أن تكون إلا من الكتاب أو من السنة ولا مدخل لاجتهاد الصحابة أو غيرهم فيها، فهي توقيفية من الوحي سواء كان الكتاب أو السنة.
وتنقسم الصفات الثبوتية إلى ثلاثة أقسام: الأول: صفات فعلية، وضابطها أنها تتعلق بالمشيئة، كالضحك والرضا والغضب والمجيء والاستواء، فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل.
الثاني: صفات ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله فهي منذ الأزل وإلى الأبد، مثل الحياة والقدرة والعزة والكبرياء.
القسم الثالث من الصفات الثبوتية: صفات خبرية، وهي بالنسبة لنا أجزاء وأبعاض، كالعين فهي جزء، ولكنها بالنسبة إلى الله صفة من صفات الكمال والجلال يتصف بها الله جل وعلا، واليد كذلك، قال الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10].
وأما الصفات السلبية فهي: الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه في كتابه أو نفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذه الصفات ننفيها مع إثبات كمال الضد؛ لأن صفات الله كلها كمال وجلال ومدح، والنفي المحض لا يليق بالله، وليس من الأدب معه سبحانه، فلو دخل رجل من عامة الناس إلى الملك أو إلى الحاكم فقال له: أنت لست بسارق ولست بزان ولست بكافر ولست بكذا لكان هذا تنقيصاً وليس بمدح له؛ لأن المدح: هو أن تنفي الصفة مع ثبوت كمال الضد، كقول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] واللغوب: التعب، وما مسه من لغوب لكمال قوته وقدرته وعزته، ولا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته جل وعلا.(11/4)
أسماء الله عز وجل والفرق بينها وبين الخبر
اسم الله عز وجل علم على ذات الله يدلك على الله جل وعلا، فإذا قلت: الله، فإن الذهن يذهب إلى ذات الله العلية المقدسة، وأسماء الله جل وعلا كلها حسنى، ومعنى حسنى: أنها تتضمن صفات كمال.
وحتى نفرق بين الاسم والصفة والخبر نقول: ما معنى حسنى؟ يعني أن هذا الاسم يتضمن صفات كمال أخرى، قال الله تعالى مثلاً: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فالحي اسم من أسماء الله جل وعلا، وهو علم يدل على ذات الله جل وعلا، ويتضمن صفة كمال وهي صفة الحياة، والحي يستلزم أن يكون قادراً مريداً متكلماً قوياً قاهراً، فهذه صفة تستلزم صفات أخرى.
وإذا قلنا بأن أسماء الله حسنى فلا بد أن نفرق بينها وبين الخبر عن الله جل وعلا بما ليس فيه حسن أو كمال كالوجود مثلاً، قال الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19] فـ (الله) هنا بدل عن شيء، ولذلك قال البيهقي: الله اسمه شيء، وهذا ليس بصحيح؛ لأن ذلك من باب الخبر كمن يقول عن الله جل وعلا: موجود، وليس صحيحاً أن يسمي الإنسان نفسه عبد الموجود أو عبد الشيء، وليس معنى موجود أن هناك من أوجده، بل هو خبر وليس اسماً من أسمائه.
والفرق بين الاسم والخبر: أن الخبر لا يدعى به الله عز وجل والاسم يدعى به، تقول: يا حي، يا رازق ارزقني، يا كريم اكرمني، لكن لا تقل: يا موجود أوجدني أو أعطني أو يا شيء ارحمني، فالأخبار لا يدعى بها، وبابها أوسع بكثير من باب الأسماء.
والفرق الثاني بين الاسم والخبر: أن الأسماء كلها حسنى، أما الأخبار فلا تصل إلى الحسن الذي بلغته الأسماء، ولكنها لا تنزل إلى السوء، وهذا الضابط ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وفرق به بين الخبر وبين الاسم.
وهناك من الجهلة من يقول في قول الله تعالى: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87]: الروح جزء من الله جل وعلا، ولو قلتم رحمة فهذا تأويل، وهذا جهل مركب، ومنهم من يقول: إن من أسماء الله الصاحب والخليفة، واستدل على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل)، وهذا ليس صحيحاً فالخليفة يمكن أن يكون خليفة سيئاً ويمكن أن يكون خليفة حسناً، ولا يوجد في الدنيا من يسمي ابنه عبد الصاحب، فالأخبار عن الله بابه أوسع، أما الأسماء فكلها أسماء حسنى.
ومن الفوارق بين الأسماء والأخبار أن الأسماء توقيفية من الكتاب أو من السنة فقط، أما الأخبار فمن الممكن ألا تكون توقيفية فتخبر عن الله بما في نفسك.(11/5)
أسماء الله غير محصورة
أسماء الله كلها حسنى، ولا تنحصر في عدد، بل له أسماء علمناها وأسماء لم نعلمها، ولا يشكل علينا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة) فإن معنى (من أحصاها) أي: من حفظها، من عدها، من عمل بها، والجمع بين هذه المعاني هو الصحيح كما سنفصل القول فيما بعد، ولا يدل ذلك على حصر أسماء الله في هذا الحديث، بل هذا الحديث فيه مزية وهي أن من حصر التسعة والتسعين اسماً دخل الجنة، كما تقول: معي خمسة دراهم للصدقة، فهذا لا ينفي أن هناك دراهم أخرى للنفقة على البيت، فمزيه الخمسة دراهم أنها للصدقة فقط، والذي يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الصريح: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فقد استأثر الله نفسه ببعض أسمائه عنده في الغيب لا نعلمها، وفي حديث الشفاعة قال صلى الله عليه وسلم: (فأذهب عند العرش فأسجد فأحمد الله بمحامد يفتح عليّ بها لا أعلمها الآن) هذه المحامد تسبيح لله بالأسماء والصفات، وهي وقف للسجود عند العرش بعد عرصات يوم القيامة، وهي أسماء لا نعلمها، إذاً أسماء الله غير محصورة.(11/6)
الحي القادر
قال المصنف رحمه الله: ومن صفاته وأسمائه أنه حي، هذه صفة من صفات الله جل وعلا، وهي صفة ثبوتية ذاتية أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، ولا يمكن أن نقول: إن شاء حيي وإن شاء لم يحي، فالحياة الأزلية الأبدية من صفات ذات الله، وبها تحيي الدنيا والجنة والملائكة.
قال المصنف رحمه الله: حي قادر، القدرة صفة ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله، وقدرة الله أحاطت بكل شيء، فما يشاؤه الله فهو قادر عليه، وما لم يشأه فهو أيضًا قادر عليه، وهذا يبين لنا خطأ من يقول: إن الله على ما يشاء قدير، فهذه كلمة خاطئة ترد على صاحبها، بل الله جل وعلا قادر على ما شاء وما لم يشأ، فكلمة: إن الله على ما يشاء قدير كلمة خاطئة لا بد أن يجتنبها طالب العلم، فالله أحاطت قدرته بكل شيء: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
فالقول بأن الله على ما يشاء قدير مفهوم المخالفة أن ما لم يشأه لا يقدر عليه، وأما قول الله: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29] فهي مرتبطة بالسياق، كقوله: ((أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).(11/7)
العليم
قال المصنف رحمه الله: قادر عالم، عالم صفة من صفات الله، واسمه عليم، وهي صفة من صفات الذات الثبوتية، الذاتية التي لا تنفك عن الله جل وعلا الله، فهو عالم بكل شيء، وأحاط بكل شيء علماً، وقسمة علم الله جل وعلا: أن الله علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وأول ما خلق الله الخلق خلق القلم فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء إلى يوم القيامة، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ كائناً ما كان، ويعلم ما يكون من علامات الساعة كما أخبرنا في كتابه، أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، ويصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق)، إلى آخر تلك الروايات التي أخبرت بما يسأتي من أمارات الساعة، وقال الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:187].
كذلك علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون بالمستحيل وبالممكن، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27 - 28] ثم بين الله جل وعلا أنه من المستحيل أن يرجعوا إلى الدنيا، وإن رجعوا إلى الدنيا وهذا مستحيل فقد علم الله أنهم سيعودون إلى ما نهوا عنه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] وهذا في المستحيل، وفي الممكن أيضًا علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله تعالى عن المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ) [التوبة:47] فليس من المستحيل أن يخرجوا، والله جل وعلا يقول: ولو خرجوا فيكم لأوهنوكم ضعفاً، وقال الله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23] فعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.(11/8)
السميع البصير
سمع الله جل وعلا أحاط بكل شيء، لا تختلف عليه اللغات ولا الأصوات مع تفنن الحاجات سبحانه وتعالى، وسع سمعه كل الأصوات، سمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء حتى إنه يرى مخ ساقها جل وعلا، ولو قام الكون كله في صعيد واحد فسألوه في وقت واحد باختلاف هذه اللغات لاستمع لهم ولأعطاهم في نفس الوقت جل وعلا.
جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سبحان الذي وسع سمعه كل الأصوات! والله إن خولة بنت ثعلبة جاءت تشتكي إلى الله وإلى رسوله من زوجها وأنا في ناحية البيت بجانبها يخفى عني بعض حديثها، والله جل وعلا أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] وهو فوق عرشه فوق السماوات السبع سبحانه وتعالى.
فسمع الله أحاط بكل شيء.
وهو بصير، وبصره نفذ في كل شيء كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (حجابه من نور لو كشفه لأحرقت سبحات -يعني أنوار- وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصر الله ينتهي إلى كل خلقه؛ لأن الله تبارك وتعالى أحاط بكل شيء رؤية جل وعلا.
وهو متكلم، وهذه صفة فعلية، والصحيح الراجح ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: هي ذاتية النوع، أي: الأصل، لكنها فعلية الآحاد، أي: أن الله جل وعلا في الأصل متكلم، لكن يتكلم إذا شاء بما شاء وكيفما شاء.(11/9)
إرادة الله
الله مريد، فالله يريد، وكل حي يريد، وكل قادر يريد، وإرادة الله إرادتان: إرادة كونية وإرادة شرعية، والإرادة الكونية: ضابطها أنها فيما يحب الله وما لا يحب، وتقع حتماً ولا بد أن تنزل وتقضى، أما الإرادة الشرعية: فهي خاصة فيما يحبه الله، وكل شيء أراده الله بإرادة شرعية فهو يبيحه شرعاً، وهذه الإرادة قد تقع وقد لا تقع، مثال ذلك: قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] هذه إرادة شرعية، فالله يريد اليسر وبعض الناس يعسر على نفسه ولا يأخذ بالرخص، فبدل أن يتوضأ واحدة يتوضأ ثلاثاً، وبدل أن يتيمم يغتسل ويموت! ولا يأخذ بالرخص، فمنهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعل، فهذه إرادة شرعية قد يقع وقد لا تقع، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] هذه إرادة كونية، فالقتل قد وقع في الزمان الماضي والله عز وجل لا يحب القتل بين العباد، لكنه قدره لحكمة أعلى من هذا القصد.
قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] هذه إرادة كونية فقوله: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ)) فيه شيء يحبه الله، وهذه إرادة كونية، والله جل وعلا إذا شرح صدر عبد لا مرد له، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وإذا أضل الله عبداً لن تجد له هادياً.(11/10)
صفة البقاء لله
الله باقي، البقاء خبر عن وجود الله جل وعلا، وليست صفة من صفات الله جل وعلا، بل اسم الله هو الآخر فليس بعده شيء، وهو الأول فليس قبله شيء، فالباقي هنا يوازيه اسم من أسماء الله الحسنى وهو الآخر، فالبقاء هنا ليست صفة ولكنها خبر عن الله جل وعلا، كقولك: الله موجود، فموجود خبر عن الله جل وعلا، والله شيء يدل على الوجود، والفرق بين الخبر وبين الاسم أن الخبر ممكن أن يبلغ إلى الحسن وممكن ألا يبلغ إلى الحسن، ولكنه لا ينزل إلى السوء.
والقاعدة: كل اسم صفة ولا عكس، فهناك صفات لا يمكن أن تشتق من الأسماء كقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فصفة الاستواء لا يشتق منها اسم المستوي.(11/11)
معرفة الله وأسمائه وصفاته بالشرع لا بالعقل
قال المصنف رحمه الله: سياق ما يدل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل، وهذه قاعدة مهمة، وما ينشر من أن الله يعرف بالعقل فليس بصحيح، فالله نعرفه بالوحي لا بالعقل، ودلالة ذلك من الكتاب ومن السنة، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أمره بالعلم بالشرع، وقال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وقال جل وعلا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [يونس:109] أي: وليس العقل، إنما الذي يوحى إليك، وقال الله جل وعلا آمراً نبيه أن يقول لنا: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] أي: من العلم، كذلك الرسل لا يعرفون بالعقل؛ لأن الرسالة ليست اكتساباً ولكن هبة من الله جل وعلا، فلا يعرف الرسول إلا بالتوقيف كما قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] أي: أن الله جل وعلا هو الذي أرسلني، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وفي الصحيح: (عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: جاء رجل من بني بكر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أين ابن عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا، فقال: إني سائلك ومشدد عليك، من خلق الأرض؟ قال: الله، قال: من خلق السماء؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال وجعل فيها ما فيها؟ قال: الله، فقال له الرجل: إني سائلك ومناشدك ومشدد عليك فلا تجدن علي في نفسك شيئاً، قال: نعم، فقال له: فبالذي خلق الأرض وخلق السماء ونصب هذه الجبال وجعل ما فيها آلله أرسلك؟ قال: نعم، فأسلم الرجل)، فما علم ذلك إلا بالوحي، فالمسألة تدور على الشرع لا على العقل، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة لا بد أن نعض عليه بالنواجذ، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإن معرفة الله ومعرفة الرسل لا تكون إلا بالوحي، وليس معنى ذلك أن نهمل العقل، بل له مكانته وله احترامه ولكن له حدود ولا يعرف الله استقلالاً، فالعقل يعلم صدق الرسول لكن ليس استقلالاً بل لا بد معه من الوحي، وقد كرم الله بني آدم على العجماوات بالعقل فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء:70] وقال الله تعالى يبين مكانة العقل {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال جل وعلا: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وأمرهم أن يتدبروا بالعقل في الملكوت العلوي والسفلي فقال: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:6 - 8]، وقال: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19]، فالعقل محترم يتدبر في آلاء الله جل وعلا وآياته، ولا بد أن يكون موافقاً لشرع الله جل وعلا.
وقد بين الله جل وعلا قيمة العقل والتدبر وذلك بالحجج العقلية التي رماها للمشركين حتى يتدبروا فيها، قال الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] أي: انظروا وتدبروا هل خلقتم من غير شيء؟ وهل العدم يخلق شيئاً؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فلا يمكن أن يقول عاقل: إنه خلق نفسه أو خلق غيره، ثم ارتقى إلى أعلى من ذلك فقال: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور:36]، وقال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
ومن الأدلة على احترام العقل والحجج العقلية: دليل التمانع، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أي: لو تدبروا فإما أن يكون للكون إله واحد أو آلهة كثر، ولو كان آلهة كثر فكل إله سوف يخاصم الإله الآخر ويأخذ خلقه ويذهب، أو يصارع، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، فصاحب الشمس أو القمر سوف يتخاصم مع صاحب السماء حتى يتملك الكل، كما يتنازع ملوك الأرض، فإن غلب أحدهما على الآخر فالمغلوب لا يكون رباً، لأن الرب لا يكون ضعيفاً، فإن لم يظهر أحد يبتغي إلى ذي العرش سبيلاً فلابد أن يكون واحد هو المدبر وهو الخالق لهذا الكون، وهذا دليل عقلي، وهو دليل على احترام العقل؛ لكن العقل لا يمكن أن يقدم على النقل ولا على الشرع، فمرتبته الثانية بعد الشرع، وإذا قلنا: إن الله يعرف بالعقل، أو إن العقل يقدم على النقل، فسيلزم من ذلك لوازم باطلة، وأول شيء منها إهمال مهمة الرسل، والله جل وعلا ما أرسل الرسل إلا ليدللوا عليه، فإذا قلنا: عرفنا الله بالعقل فلا نحتاج إلى رسول، وهذا مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء:165] فأرسلهم الله ليدلوا الناس عليه، وكما أن القول بأن الله يعرف بالعقل يفضي إلى إلغاء مهمة الرسل، فإنه يفضي إلى القول بأنه لا معنى لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
ومن لوازم تقديم العقل على الشرع وأن الله يعرف بالعقل: تقديم العقل على الشرع في أحكام الفروع الفقهية وتكذيب بعض الأحاديث كحديث المسح على أعلى الخفين، فإن الأسفل هو الأولى بالمسح.
وقد رد البعض حديث الذبابة الذي فيه أن في أحد الجناحين داء وفي الآخر دواء، وكل ذلك من لوازم تقديم العقل على النقل، حيث قالوا: قد عرفنا الله بالعقل، وبقية الأحكام كذلك نعرفها من باب أولى بالعقل.
واللازم الثالث من تقديم العقل على الشرع: التجاوز فيما يجوز لله وما لا يجوز كقولهم: إن الله لا يصح أن يكون له يد لأن اليد جارحة، وإذا قلنا: إن الله له جارحة فقد ضاهيناه بالمخلوق وشبهنا الخالق بالمخلوق، وكقولهم كذلك: لا يصلح أن يكون لله عين لأنها جارحة، وإذا قلنا بذلك فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، وقالوا بأن هذه تجاوزات عقلية وإبطال لهذا العقل، وليس ذلك صحيحاً بل إن العقل له رتبته بعد الشرع.
فهذا الباب من أهم الأبواب في هذا الكتاب، وهو باب سياق ما يدل على وجوب معرفة الله وصفاته وأسمائه بالشرع لا بالعقل، والعقل يوافق الشرع، كما قال شيخ الإسلام: العقل الصحيح لا يخالف نصاً صريحاً صحيحاً مفهوماً.(11/12)
هل الاسم هو المسمى أم هو غيره؟
الباب الثاني ما نخالف فيه الإمام اللالكائي وهو قوله: باب ما فسر من كتاب الله جل وعلا وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: وورد من لغة العرب- على أن الاسم هو المسمى، أي: أن الاسم والمسمى واحد، وهذا الكلام خطأ ليس بصحيح، فإجماع أهل السنة والجماعة يرد هذا الخطأ، وللعلماء في مسألة هل الاسم المسمى واحد أم لا ثلاثة أقوال، وهي مزلة أقدام، وقع فيها الكثير من أهل العلم، والمعصوم من عصمه الله، وممن زلت أقدامهم في هذا الباب الحافظ ابن حجر وابن حزم.
القول الأول في هذه المسألة قول اللالكائي وتبعه على ذلك البغوي والقرطبي فقالوا: إن الاسم هو المسمى وعندهم أدلة قوية، منها قول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فإذا قلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فأنت تسبح الذات المقدسة ذات الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: اعبد ذات الله المقدسة.
القول الثاني: قول ابن حزم وابن حجر وقول المعتزلة وهو أن أسماء الله غير الله، وهي أسماء مخلوقة، واستدلوا على ذلك بلغة العرب وهو أنك إذا قلت: يا محمد (م ح م د) فهذه الحروف عربية، وكذلك قولك: الله (ألف لام هاء) أو الرحمن (ألف لام راء حاء ميم نون) فهذا لفظ عربي، فاللفظ غير المسمى، وهذا كلام المعتزلة، والحافظ ابن حجر وابن حزم.
أما أهل الوسطية المدققون المحققون من أهل السنة والجماعة فقالوا: كلمة الاسم هو المسمى تحتمل حق أو تحتمل باطل، فالاسم هو علم على ذات الله جل وعلا، تارة يراد به الذات الإلهية المقدسة، وتارة يراد به الحروف واللفظ العربي، فيراد به الذات المقدسة إذا أمرنا كقول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] أي: سبح باسم ذات الله جل وعلا، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: اسجد واركع واستغفر وتضرع وتذلل للذات الإلهية المقدسة لا للفظ والاسم، أما إذا قلت: الرحمن اسم عربي فهذا يراد به الحروف واللفظ، وإذا قلت: الكريم اسم من الأسماء العربية، فيقصد به الحروف واللفظ كذلك.
فالمحققون من أهل السنة والجماعة قالوا: يراد بالاسم الذات العلية وتارة يراد به اللفظ، وكل شيء يوضع في موقعه، فإذا أريد به الذات العلية يكون بالذات العلية المقدسة، وإذا أريد به الألفاظ والحروف يكون باللفظ.
فاللفظ العربي (الرحمن) هو بالحروف العربية: (الألف واللام والراء والحاء والميم والنون)، لا يقصد بها الذات العلية، فقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] أي: الذات الإلهية، ولو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فالمقصود بذلك الذات الإلهية، وإذا أطلق الاسم فإنه يدل على الذات العلية المقدسة.
وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2] أي: أن الذات الإلهية علمت القرآن.
إذاً: قول اللالكائي بأن الاسم هو المسمى فيه شيء من الحق ولكنه ليس صحيحاً؛ لأنه قد يراد بالاسم غير المسمى، وإذا قلنا بقول الحافظ ابن حجر وهو أن أسماء الله غير الله أو أنها أسماء مخلوقة على الإطلاق فيلزم من ذلك لوازم باطلة، وهي أن الله أمرنا أن لا نشرك به شيئاً فقال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، فيكون قد أمرنا أن نعبد غيره وهو الاسم المخلوق، وقد أمرنا الله إذا ذبحنا ذبيحة ألا نأكل منها إلا بعد أن نسمي الله فقال سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَِ} [الأنعام:121] فإذا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم كأنك سميت غير الله، وهو اللفظ المخلوق، وأكلت ذبيحة مسمى عليها غير الله جل وعلا.
ومن اللوازم الباطلة: أن الله جل وعلا أمرنا أن لا نقسم بغيره، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن القسم بغير الله شرك، فقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فإذا قلنا: إن أسماء الله غير الله يلزم منه أن من يقسم بالكريم أو العليم أو الرحمن فقد أشرك؛ لأنه أقسم بغير الله جل وعلا! وقولنا: إن الحافظ أخطأ ليس فيه ضير، فمن الذي له الحسنات ولا يخطئ قط، والمعصوم هو من عصمه الله، والحافظ من أساطين العلم ومن أهل السنة والجماعة ولكن أبى الله أن يعصم أحداً إلا رسوله، وما من أحد إلا ويصيب ويخطئ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا هو صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ مالك والشافعي وأبو حنيفة وهم جبال بالنسبة للحافظ ابن حجر، فأخطئوا ورد عليهم خطؤهم، ونحن لا ننتقص من قدر الرجل لكن نقول: لا معصوم إلا من عصمه الله جل وعلا وهو النبي صلى الله عليه وسلم.(11/13)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أدلة أن القرآن كلام الله
صفة الكلام لله عز وجل ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وهي صفة ذاتية، والنقل مقدم على العقل في الاستدلال، والله سبحانه وتعالى يتكلم بحرف مفهوم، وصوت مسموع، وكلماته لا تحصى ولا تفنى، ومنها: كلمات كونية، وكلمات شرعية، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق، وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين.(12/1)
أهمية معرفة الأصل الصحيح في الاعتقاد
إذا كان عندك الأصل الصحيح تستطيع أن ترد على الشبهات، ولا تدخل عليك الشبهة، حتى وإن لم تعرف كيف ترد عليها فالشبهة لا تشوش عليك، وأعبد الناس لله جل وعلا أعلمهم به، فيحب الله جل وعلا، ويتقرب إليه، ويجب أن يعرف صفاته، وتجد أنه إذا أحب الرجل أحداً في الله أتى بكل محاسنه، فكيف بكم وأنتم تحبون الله الكبير الكريم؟! نسأل الله أن يميتنا على الإسلام ويجعلنا جميعاً ننظر إلى وجهه الكريم في الآخرة، فلا بد من معرفة صفات الله جل وعلا، فإنَّ أحب عباد الله إلى الله أذلهم له، وأذلهم له جل وعلا أعبدهم، وأعبدهم: أعرفهم به، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أعلمكم بالله جل وعلا وأتقاكم)، وكلما كان المرء أعلم بربه كان أتقى له، و (إنما العلم الخشية)، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلم علمان: علم بالله وعلم بأمر الله جل وعلا.(12/2)
صفات الله سبحانه وتعالى
صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية وصفات سلبية.
والصفات الثبوتية تنقسم إلى أقسام أيضاً: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية.
والفرق بين الذاتية وبين الفعلية: أنَّ الصفات الذاتية لا تنفك عن الله جعل وعلا، يعني: هي أزلية أبدية، لا تنفك عن الله وليست متجددة، بل هي معه لم تزل ولا تزال، مثل الحياة، فحياة الله أزلية أبدية لا تنفك عن الله لحظة من اللحظات، وكذلك قدرة الله، وعزة الله وكبرياؤه، لا تنفك عن الله جل وعلا.
أما الصفات الفعلية فهي التي ترتبط بالمشيئة، وهي متجددة، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2].
وأما الصفات الخبرية فنسميها عندنا أبعاض وأجزاء، لكن هي من صفات الله مثل القدم والساق واليد، وحاشا لله أن يكون له ذلك مثلنا.(12/3)
بطلان المقولة المشهورة (الله نعرفه بالعقل)
هناك مقولة مشهورة جداً تقال: (الله نعرفه بالعقل)، وهي مقولة ليست صحيحة، وإنما نعرفه بالوحي، والدليل على ذلك: قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
واللوازم الباطلة التي تستلزم مقولة (الله نعرفه بالعقل) ما يلي: أولاً: إنكار الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإذا قلت: الله نعرفه بالعقل، فلست محتاجاً إلى رسول يبعث إليك ليعرفك بربك جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
ثانياً: تقديم العقل على النقل، فعندما تقول: عرفت ربي بعقلي، وهذا في الأصول، فأي حكم من الفروع يأتيك ستقول: هذا عقلي لا يستسيغه! فإذا كان الله جل وعلا أعرفه بعقلي، فبقية الأحكام كلها لا أعرفها، وتقول لي: الأصل في العبادات التوقيف، وهذا الكلام ليس بصحيح، لأنّ ما قبله العقل أخذنا منه، وما لم يقبله العقل يرد؛ لأن الله قد عرفته بعقلي، وهذا لازم باطل جداً.
ثالثاً: يقول: أنا عرفت بعقلي أن ربي له عيناً، وهذه العين صفتها كذا، واليد كذا، والآخر يأتي ويقول: عرفت بعقلي أنه ليس له عين بحال من الأحوال، ولا يسمع أيضاً، وكلهم يصف الله بعقله! رابعاً: أن الله جل وعلا لا يعذب يوم القيامة على العقل، وعلى التحسين والتقبيح، وعلى ميثاق الفطرة، فلا يقال: أنت عندك عقل عرفت به أن الله واحد، وعبادة الله جل وعلا لابد أن تكون لواحد، ولو صرفتها لغير الواحد تكون مشركاً، فلابد أن تعذب، هذا باطل لصريح قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وبهذه الشبهة فتحوا الباب على مصراعيه للمعتزلة وغيرهم، من الذين يقدمون عقولهم على شرع الله ودين الله جل وعلا.(12/4)
ثبوت صفة الكلام لله عز وجل في الكتاب والسنة والإجماع
صفة الكلام صفة ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، وصفة الكلام لله جل وعلا صفة كمال، والعقل يدل على أن القرآن كلام الله.
والصفات الخبرية لا يدخل فيها العقل، فكلام الله صفة ثابتة لله جل وعلا أزلية لا يزال الله جل وعلا ولم يزل متصفاً بها، فالأصل فيها: أنها ذاتية، قديمة النوع حادثة الأفراد، لا تنفك عن الله جل وعلا، وهي صفة كمال وجلال، فالأخرس ناقص، والمتكلم كامل، فإن كان في البشر المتكلم كامل، فالله جل وعلا أحق بهذا الكمال، وثبوت كلام الله جل وعلا ثابت من الكتاب ومن السنة والإجماع والعقل.
الكتاب: قال الله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51].
وقد دلت الأدلة الكثيرة على أن الله قد تكلم مع كثير من خلقه، منهم: أولاً: الملائكة.
ثانياً: الرسل.
ثالثاً: الجمادات من خلقه تكلم الله معها.
رابعاً: إبليس اللعين.
خامساً: تكلم الله مع من لم يفهم ولا ينطق، لكن الله جل وعلا أفهمه وجعله ينطق، وهاك الأدلة من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29]، وقال جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، يبقى إذاً الملائكة سمعت كلام الله جل وعلا، وأيضاً قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً -جعلنا الله وإياكم ممن يحبهم الله جل وعلا- نادى من السماء -بصوت مسموع- أي جبريل! إني أحب فلاناً، فيحبه جبريل)، إلى آخر الحديث.
وأيضاً في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوم القيامة يتكلم بصوته، فيسمعه من بعد كما يسمعه من قرب).
وأيضاً تكلم الله جل وعلا مع البشر، وهذا شرف عظيم للبشر، فقد تكلم الله مع آدم وحواء، تكلم مع آدم كما قال: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، فتكلم معه انفراداً، وتكلم معه ومع زوجه، قال الله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22].
فتكلم الله مع آدم وتكلم مع حواء، فسمعت حواء صوت الحق جل وعلا، وسوف يمتعنا الله بصوته يوم القيامة.
وتكلم الله جل وعلا مع بعض الرسل كلاماً غير الوحي، وهو موسى عليه السلام، قال الله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقال جل وعلا {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، فقد تكلم الله جل وعلا مع موسى.
وتكلم الله مع أحب الخلق له وإليه وأكرم الخلق عليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإسراء: (لما صعد النبي صلى الله عليه وسلم وراجع ربه فقال له موسى: ارجع؛ فإن قومك لا يستطيعون، فراجع الله جل وعلا حتى جعلها خمس صلوات وبالأجر خمسين صلاة) فكلمه الله جل وعلا، وسمع محمد صلى الله عليه وسلم صوت الحق جل وعلا.
أيضاً: كلم الله جل وعلا الجمادات، والجمادات خلقها الله لما خلق السماء في يومين، وأوحى فيها أمرها، وخلق الأرض وسواها في أربعة أيام سواء للسائلين، قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
وتكلم الله جل وعلا مع القلم، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فسمع القلم من الله، وخط وكتب كل شيء إلى يوم القيامة.
أيضاً: تكلم الله جل وعلا مع الجنة ومع النار، قال الله تعالى في سورة (ق) للنار: {هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، وفي الصحيحين: (اختصمت الجنة والنار إلى الله جل وعلا، فقال الله للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (واختصمت الجنة والنار أيضاً أمام الله جل وعلا، فأذن الله للنار بنفسين: نفس في الصيف وهو أشد ما تجدونه من الحر، ونفس في الشتاء وهو أشد ما تجدون من زمهرير).
وتكلم الله مع الجنة مع أنه بانيها، قال لها: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء).
وتكلم الله مع اللعين إبليس، قال الله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:14 - 15]، وأيضاً قال الله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف:13]، فهذا إثبات واضح جلي بنص قطعي متواتر على أن الله تكلم مع مخلوقاته، وأن الله جل وعلا يسمع من يشاء بصوته جل وعلا.
ومن الطرائف، قيل: إنّ موسى عليه السلام لما سمع قول الحق جل وعلا عاف صفات البشر، ولم يُردْ أن يسمع أحداً لما سمع صوت الحق جل وعلا، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] فسمع كلام الله جل وعلا، فعاف كلام البشر، أسمعنا الله وإياكم صوته في الجنة بإذن الله.
وتكلم الله جل وعلا مع أهل النار {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وتكلم مع أهل الجنة كما في الصحيح عندما اطلع على أهل الجنة وقالوا له: (لبيك ربنا وسعديك والخير بيديك، قال: هل رضيتم؟ قالوا: وما لنا لا نرضى، لقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين)، والشاهد: فقال الله لهم: (أحل عليكم رضاي فلا أسخط عليكم أبداً)، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم.
فهذا إثبات من الكتاب والسنة على أن الله جل وعلا متكلم، يتكلم وقت ما شاء كيفما شاء.(12/5)
معنى قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله)
إن أهل البدع يقولون: أنتم تزعمون أن الله يتكلم مع أهل النار، والله جل وعلا ينفي ذلك، قال الله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].
والردَّ عليهم أنه لا تعارض بين كلام الله؛ لأن الكلام: عام وخاص، فالكلام العام قول الله تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فكلمهم، أما الكلام الخاص فهو: كلام الرحمة والتلطف والرأفة، وهذا لا يكون إلا للمؤمنين كما قال الله في الحديث القدسي: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).
إذاً: الله متكلم، وصفة الكلام ثابتة لله جل وعلا من الكتاب والسنة، فقد أجمع الصحابة والتابعون وتابعو التابعين على أن الله جل وعلا متكلم وقت ما شاء كيفما شاء، كما سنبين في أمر القرآن، فالإجماع منعقد على أن الله جل وعلا يتكلم وقت ما شاء بما شاء كيفما شاء.
والعقل يثبت هذه الصفة أيضاً لله جل وعلا، حيث إن الخرس نقص عند العقلاء، ويقولون: الذي لا يعرف كيف يعبر عما في نفسه ناقص، والشاهد على ذلك: قول الله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، والذي يستطيع أن يتكلم ويعبر هذه صفة كمال، فإن كان المتكلم كاملاً، وصفناه بصفة كمال، فالله يتصف بصفة الكمال هذه من باب أولى؛ لأن الكلام كمال وعدم الكلام نقص، والله يتنزه عن كل نقص، ويتصف بكل كمال، وقد بيّن الله جل وعلا أن الكلام صفة كمال، وأن عدم الكلام صفة نقص، ولنا شواهد قرآنية على ذلك: قال الله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89]، وفي سورة الأعراف قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، فبين أن هذا نقص، فلا يمكن أن تعبد آلهة لا تسمع ولا تنظر ولا تتكلم؛ لأن عدم الكلام نقص، فالله جل وعلا أولى أن يتصف بالكمال.
وقال تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42].
والغرض المقصود: أننا نثبت بالعقل لله صفة الكلام؛ لأنها من باب الكمال، والله يتصف بكل كمال.(12/6)
كلام الله بحرف وصوت
الله جل وعلا يتكلم بحرف، ويتكلم بصوت مسموع، وكلامه كلام كوني وكلام شرعي كما سنبين، دليل كلام الله جل وعلا بحرف قول الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2]، وقوله: {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]، وقال الله تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، وقال جل وعلا: {طه} [طه:1] الطاء والهاء (طه) من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المشهور عند العامة.
ويتكلم الله بصوت يسمع، ودليل ذلك: قال الله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، والنداء بالهمز دون سماع الصوت، والنداء لابد أن يكون بصوت مسموع، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104]، وقال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:52] نادى موسى عليه السلام، فالنداء لابد أن يكون بصوت.
إذاً: يتكلم الله بحرف مفهوم وبصوت مسموع، وكلام الله جل وعلا لا يحصى ولا يفنى، وهذه من أدلة أنها صفة من صفات الكمال كما سنبين، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، فالله جل وعلا كلماته لا تفنى ولا تنفد؛ لأنها صفة من صفات الله، باقية ببقاء الله جل وعلا.
ومن صفات كلام الله جل وعلا أن كلمات الله تنقسم إلى قسمين: كلمات كونية، وكلمات شرعية.
الكلمات الكونية: التي منها الخلق والإعطاء والمنع والتعذيب والرحمة، والكلمات الشرعية: التي فيها الأوامر والنواهي، قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، فقوله: ((أَنْ نَقُولَ لَهُ))، الكلمة كلمة كونية منها الخلق؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، فالحفظ والكلأ كلمتان كونيتان، يعني: أعوذ بكلمات الله من كل شيطان رجيم، وأن يحفظني من كل سوء، ويحفظني من كل هم، فالحفظ صفة من صفات الربوبية فهو كلمة كونية.
أما الكلمات الشرعية كقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]، فكل ما تجد من أمر ونهي كلمات شرعية، وكل ما تجد من إعطاء، ومنع، وإحياء، وإماتة، وحفظ، وكلأ، كلمات كونية تتصل بربوبية الله جل وعلا.
ولو جاءنا بعض المبتدعة وقال: أنتم الآن شبهتم الله بخلقه وقلتم هو متكلم، فهو يشبه المخلوقين.
فإن الرد عليهم أن نقول: هذا لازم باطل، ولا يمكن أن نقبله، ولو قلنا: الله غير متكلم ووافقنا أهل البدع، وقلنا: الله لا يمكن أن يتصف بالكلام، فإنه لا يوجد خلق؛ لأن الله خلق بالكلمة فقال: ((كُنْ فَيَكُونُ)) أي إذا قلتم: أن الله غير متكلم فلا خلق موجود، لكن الخلق موجود، ولو قلنا بهذه الشبهة فلا يوجد رسل؛ لأن الرسل ما أرسلوا إلا بوحي من الله، يعني: بكلام من الله جل وعلا، فيلزم المعتزلة والجهمية أن الله جل وعلا لم يخلق الخلق؛ لكنه خلق الخلق بكلمة (كن)، ويلزم من قولهم أن الله جل وعلا لم يرسل الرسل؛ لكن الله أرسلهم بوحي وبكلام منه جل وعلا.(12/7)
صفة الكلام ذاتية
صفة الكلام ثابتة لله عز وجل وهي ذاتية، أي: أن الأصل فيها: أنها ذاتية أزلية حادثة الأفراد، يعني: متجددة، فهي ثابتة من الأزل قبل أن يخلق الخلق.(12/8)
القرآن كلام الله
القرآن كلام الله جل وعلا، والقرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قرآناً، أو قرأ يقرأ قراءةً.
وفي اللغة: قرآن مصدر للقارئ، يعني: قرأ يقرأ قرآناً، لكن الزمخشري قال: ثم بعد ذلك خصت بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
واصطلاحاً: هو كلام الله المتعبد بتلاوته المعجز، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
(كلام الله) يعني: تكلم به.
(المتعبد بتلاوته) يتميز بهذه الصفة السنة والحديث القدسي؛ لأن القرآن هو المتعبد بتلاوته، ولا بد في الصلاة أن تقرأ القرآن.
(المعجِز) أي: معجزة، أعجز الله كل من سمع هذا القرآن أن يأتي بعشر سور، أو بسورة واحدة، أو بآية، وما استطاع أحد أن يأتي بآية.
(المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195].
فالقرآن كلام الله تكلم به وسمعه جبريل، فلما سمعه من الله جل وعلا نزل به على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلم الله بهذا القرآن، وعندنا أدلة من الكتاب والسنة أيضاً والإجماع.(12/9)
الأدلة على أن القرآن كلام الله
أولاً: الاستدلال الصريح، قال الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، وقال جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] أي: القرآن، وقال جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وقال جل وعلا: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75] وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15].
ووجه الشاهد من الآيات إضافة الكلام إلى الله جل وعلا والمضاف إلى الله صفة من صفات الله، حيث إن المضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بالله بذاتها، ومعانٍ ليست أعياناً، وإضافة الأعيان القائمة بذاتها إلى الله إضافة تشريف، مثل عيسى، عينه قائمة بذاته، وإذا أضيفت إلى الله جل وعلا أضيفت للتشريف، فتقول: عيسى روح الله، والكعبة بيت الله وإضافته لله إضافة تشريف، وناقة الله إضافة تشريف، أما المعاني التي ليست أعياناً قائمة بذاتها فإضافتها إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف، تقول: كلام الله، يعني: صفة من صفات الله، أي: أن الله تكلم، (رحمة الله، عزة الله، قدرة الله، كرم الله)، هذا معنى من المعاني، فالمعنى الذي يضاف إلى الله إضافته إلى الله إضافة صفة إلى الموصوف، وهذا أول دليل بالتصريح.
ثانياً: الاستنباط: الآية الأولى: قال الله تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28]، قال ابن عباس: غير مخلوق، بنص تفسير ابن عباس؛ لأن تفسير القرآن إما بالقرآن أو بالسنة أو بقول الصحابي، وكفاكم ترجمان القرآن.
الآية الثانية: قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، عطف الخلق على الأمر، والأصل في العطف: المغايرة، والخلق غير الأمر، بل الأمر منه الخلق؛ لأن الله جل وعلا إذا أراد شيئاً قال له: ((كُنْ فَيَكُونُ))، قال غير واحد من السلف: أما الأمر فهو كلامه، وأما الخلق فخلقه جل وعلا ناتج عن الأمر، مثل مفعولاته.
الآية الثالثة: قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، قالوا: هذا دليل على أن القرآن صفة من صفات الله، والشاهد: قوله تعالى: ((مَا نَفِدَتْ)) فكل المخلوقات ستفنى، إلا صفات الله جل وعلا، فصفات الله لا تفنى، ولا تزول الصفة ببقاء الله جل وعلا.
الآية الأخيرة في الاستنباط: قال الله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] لو كان الكلام مخلوقاً، وكل المخلوقات قد ماتت وانتهت، فالقائل: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)) حيُّ لا يموت فلا يكون الكلام إلا صفة من صفات الله جل وعلا.
ولذلك بُهت المعتزلي أبو الهذيل العلاف لمّا جاءه رجل وسأله: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق، قال: هو مخلوق؟ قال: نعم، قال: إذاً: يموت أم يخلد؟ قال: يموت، قال: وكيف موته؟ قال: يموت بموت من يتلوه، يعني: الذي يتلوه إذا مات مات القرآن، قال: نعم، أرأيت كل الدنيا قد زالت ومات كل من يتلو هذا القرآن ولم يبق إلا الواحد القهار فقال: ((لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ))؟ فبهت المعتزلي، وما استطاع أن يتكلم، إذا قلتم: أنه سيموت بموت تاليه، فكل الذين يتلون القرآن ماتوا، فمن يردد: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]؟ فهذه الآيات تثبت أن القرآن كلام الله جل وعلا، والله تكلم بهذا القرآن.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة)، فكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، ومنه القرآن، فالقرآن مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وذكر المصنف هنا أربعة أحاديث أسانيدها ضعيفة، قال: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة، وأما القديم فهو خبر عن الله جل وعلا، ونحن فرقنا بين الخبر والصفة، قلنا: الصفة من صفات الله جل وعلا كلها كمال، ويدعى بها، وتستطيع أن تتوسل إلى الله بصفة من صفات الله، فتقول: اللهم إني أسألك برحمتك أن ترحمني، لكن الخبر عن الله لا يسأل به، فلا تقول: يا شيء أعطني، يا قديم ارزقني، فالقديم خبر عن الله جل وعلا وليس صفة للرب.
فالمعتزلة هم الذين وصفوا الله بالقدم، وعندنا ما يغنينا، فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، ثم أورد حديث آدم وموسى في الاحتجاج، بعدما احتج موسى على آدم قال: (أنت الذي أخرجتنا من الجنة! فقال: أنت الذي خط الله لك التوراة بيده، ثم قال: أنا أقدم أم الذكر؟ قال: الذكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحاجَّ آدم موسى)، قال له: أنا الذي خلقت أولاً أم كلام الله جل وعلا هو الأول؟ قال: كلام الله جل وعلا هو الأول، قال: إذاً: لا تحاسبني على شيء قد تكلم الله به قبل أن يخلقني.
فالشاهد من ذلك: أن الله تكلم من القدم بما يحدث في آدم عليه السلام.
وذكر المصنف حديثاً ضعيفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قرأ الله جل وعلا سورة يس طه قبل أن يخلق آدم بألفي عام)، وهذا الحديث أسانيده كلها ضعيفة، لكن نستند به على أن الله جل وعلا قد تكلم في القدم.(12/10)
إجماع الصحابة على أن القرآن غير مخلوق
قال المصنف: (ما روي من إجماع الصحابة على أن القرآن غير مخلوق) ورد عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعائشة أن القرآن كلام الله تكلم به وليس بمخلوق.
عن أبي بكر أنه راهن قريشاً على أن الروم ستغلب، فلما غلبت الروم قالوا: من أين أتيت بهذا؟ أمنك أم من صاحبك؟ قال: لا مني ولا من صاحبي، بل هو من كلام الله جل وعلا، ثم تلا عليهم: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3].
أيضاً: عمر بن الخطاب سألوه عن القرآن فقال: هو كلام الله.
أما عثمان فقال: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله، يعني: عثمان يعتقد أن القرآن كلام الله، ووجه الشاهد من كلامه قوله: من كلام الله، حيث أضاف الكلام إلى الله جل وعلا، وإذا أضيف الكلام إلى الله فهو إضافة صفة إلى موصوف.
وابن مسعود قال: من أراد أن يختبر حبه لله جل وعلا فلينظر حبه لكلام الله جل وعلا.
وعلي بن أبي طالب لما حاجوه في أمر التكفير قال: كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق، بل هو كلام الله جل وعلا.
ولما كان ابن عباس يصلي على رجل في جنازة سمع رجلاً يقول: اللهم رب القرآن ارحم هذا الميت، فأخذه بعد الجنازة، وقال: القرآن ليس بمربوب، القرآن من الله جل وعلا منه بدأ وإليه يعود وهو منه؛ لأنه صفة من صفاته جل وعلا.
وعائشة قالت: برأني الله من فوق سبع سماوات تكلم الله فيّ، هكذا قالت، فأثبتت كلام الله جل وعلا.
وأيضاً التابعون وتابعو التابعين يقولون: القرآن كلام الله، وليس بمخلوق.(12/11)
الأسئلة
القرآن كلام الله جل وعلا، والقرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قرآناً، أو قرأ يقرأ قراءةً.
وفي اللغة: قرآن مصدر للقارئ، يعني: قرأ يقرأ قرآناً، لكن الزمخشري قال: ثم بعد ذلك خصت بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
واصطلاحاً: هو كلام الله المتعبد بتلاوته المعجز، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
(كلام الله) يعني: تكلم به.
(المتعبد بتلاوته) يتميز بهذه الصفة السنة والحديث القدسي؛ لأن القرآن هو المتعبد بتلاوته، ولا بد في الصلاة أن تقرأ القرآن.
(المعجِز) أي: معجزة، أعجز الله كل من سمع هذا القرآن أن يأتي بعشر سور، أو بسورة واحدة، أو بآية، وما استطاع أحد أن يأتي بآية.
(المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195].
فالقرآن كلام الله تكلم به وسمعه جبريل، فلما سمعه من الله جل وعلا نزل به على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلم الله بهذا القرآن، وعندنا أدلة من الكتاب والسنة أيضاً والإجماع.(12/12)
أي صفة فعلية هي ذاتية فعلية
السؤال
ما الفرق بين الصفة الفعلية والذاتية؟
الجواب
القاعدة تقول: (أي صفة فعلية من صفات الفعل هي ذاتية فعلية)، مثل الضحك؛ لأن الله جل وعلا يضحك وقت ما شاء، والاستواء كذلك نفس الأمر، لكن صفة الاستواء فعلية ذاتية، والنزول ذاتية فعلية، والمحبة ذاتية فعلية.
وضابط المسألة: أن كل صفات الأفعال قديمة النوع حادثة الأفراد، وليس هناك شيءٌ حادث فقط؛ لأنك لو قلت: حادثة فقط، فإنَّ أهل البدع سيحتجون بأن أول الشيء نقص، لأن الذي لا يتكلم، أي: كان أخرساً ثم بعد ذلك يتكلم يكون كالناقص وبعد ذلك كمل، حاشا لله من ذلك.
ولو قلنا بالتجدد وليس هناك أصل لها، فإنه يصير حادثاً، ولم يكن الله جل وعلا ثم كان، وحاشا لله من كلام المبتدعة.(12/13)
تفسير قول الله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف:143]؟
الجواب
يعني: كشف الحجاب فاندك الجبل حتى يرى موسى ربه، وما استطاع الجبل الصمود أمام نور الله، فصار دكاً وأصبح كثيباً مهيلاً، وصعق موسى عليه السلام؛ ولذلك العلماء قالوا: إن الله جل وعلا سيعطي الإنسان يوم القيامة بصراً حديداً، قال تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أي: يكون معه يوم القيامة غير البصر الذي كان في الدنيا حتى يستطيع أن يرى الله جل وعلا.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.(12/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - نصيحة في إصلاح القلوب
صلاح القلب واستقامته هو الأساس في صلاح الفرد أولاً ثم المجتمع ثانياً، فلا يستقيم الإنسان ولا تصلح أمور حياته وتصرفاته إلا إذا صلح قلبه، ومقاييس الناس عند الله تعالى هي القلوب، وليست الأعمال والأشكال الظاهرة، فمتى ما صلحت القلوب أصلح الله الفرد والمجتمع.(13/1)
أهمية صلاح القلوب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الأمة لا يمكن أن ترتفع عن هذه الكبوة العظيمة الشديدة التي هي فيها إلا بقلوب صادقة وأعمال صالحة يتقبلها الله جل وعلا.
لحمة صغيرة ومضغة ضئيلة تدور عليها سعادة الأمة، بل سعادة البشر أجمعين، هذه المضغة إذا صلحت صلح كل شيء، وإذا فسدت فسد كل شيء، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فالقلب محل السعادة أو محل الدمار والشقاء على العبد، فالنبي صلى الله عليه وسلم وصف القلب بأنه إذا صلح صلح الجسد كله؛ لأن القلب ملك والأعضاء جنود، وإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا زهد الملك وكان أميناً زهدت الرعية وكانت أمينة.
دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه على عمر بن الخطاب وفي حجره أموال كسرى وهو يبكي بكاء شديداً، فقال علي: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: قوم أدوا هذه الكنوز والله إنهم لأمناء، فقال: يا أمير المؤمنين زهدت فزهدوا، وكنت أميناً فصاروا أمناء.
فإذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، وإذا سرق الملك سرقت الرعية، وإذا زنى الملك زنت الرعية، ومن قبل قالوا: إن كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص القلب له مكانة عظيمة جداً جليلة يبينها قول الله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25].(13/2)
القلوب مقاييس الناس عند الله عز وجل
مقاييس الناس عند رب الناس القلوب، ومقاييس الناس عند أراذل الناس وأغرارهم وسفهائهم الوجاهة والسلطان والمال.
(جلس النبي صلى الله عليه وسلم وسط أصحابه فمر عليهم رجل مليء غني وسيم قسيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترون هذا فيكم؟ -هذا المليء الغني ذو السلطان والوجاهة- فقالوا رضوان الله عليهم: هذا حري به إذا تكلم أن يسمع) وأربأ بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيسوا الناس بهذا المقياس، لكن تقدير الكلام: أن الصحابة الكرام يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عند الناس حري به إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح، وإذا شفع أن يشفع.
ثم مر بعد ذلك رجل رث الثياب، بشع الهيئة، ضعيف، نحيف، حقير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا ترون هذا فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! هذا حري به إذا تكلم أن لا يسمع، وإذا نكح أن لا ينكح، وإذا شفع أن لا يشفع)، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً لهم ليصححوا للأمة أن مقياس الناس وموازين الناس ومعايير الناس عند رب الناس غير مقاييس الناس عند الناس، قال عن هذا الرجل الذي هو رث الثياب، بشع الهيئة النحيف الضعيف الفقير: (هذا عند الله بملئ الأرض من هذا).
فمقياس الناس عند الناس المال، ويقولون: معك درهم تساوي درهماً، إن كان معك مال تكلم فيسمع لك، إن نكحت ينكح لك، يعني تقبل إن نكحت، وإن تقدمت تقبل، وإن شفعت تشفع، ويؤخذ بكلامك؛ لأنك من ذوي الوجاهات، ومن ذوي الرياسات، ومن ذوي الأموال.
أما مقياس الناس عند رب الناس: فهو طهارة القلوب، نقاء القلوب، فهذه التي عزت بحق في هذه الأمة، وفي هذه الآونة خصوصاً، فقلب واحد مخلص لنصرة الدين أقسم بالله غير حانث وأقسم على قسمي قسماً آخر لقلب واحد صادق مخلص لنصرة الدين، مخلص لوجه الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو يجعل الله النصر على يديه، قال الله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25] بما في قلوبكم.
{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25].
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يمحص الناس بالقلوب، وأمره أن يتكلم مع الأسرى الذين في أيديهم فقال: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70].
فليست المقاييس بالأعمال ولا بالمظاهر.(13/3)
صلاح القلوب سبب لاستجابة الدعاء
جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر) أي ضعيف نحيف حقير رث الثياب، لكنه تقي نقي، قلبه طاهر، معمر بحب الله جل وعلا (مدفوع بالأبواب) أي: دفعه أغرار الناس وسفهاؤهم وأراذلهم، الذين يقيسون الناس بالأموال والوجاهات (لو أقسم على الله لأبره) أي: لاستحى الله جل وعلا أن يرده خائباً إذا رفع يديه، وإذا قال: يا رب، قال الله: لبيك لبيك، كما ورد ذلك عن البراء بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه كان رثاً ضعيفاً فقيراً وهو من الصحابة الكرام، ولما كانت المعركة قالوا له: يا براء قد دولت علينا فادع الله جل وعلا أن يولينا ظهورهم، فقام إلى الله جل وعلا ورفع يديه وقال: (اللهم بحق لا إله إلا الله -أو قال كلمة نحوها- اللهم ولنا ظهورهم، اللهم واجعلني أول شهيد فيهم، فدخل المعركة فكان رضي الله عنه وأرضاه أول الشهداء)، فنصر الله جل وعلا الأمة بدعائه، وولاهم ظهور الكافرين بدعائه؛ لأن الله علم طهارة ونقاء قلبه وصدقه وإخلاصه لنصرة الدين.(13/4)
صلاح القلوب سبب للسبق في الآخرة ودخول الجنة
قال تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25] أي بما في قلوبكم.
هناك أمور تبين أن أعمال القلوب تسفر للناس عن أعمال تسبق أعمال الجوارح بمراحل، يبيت الرجل نائماً على سريره هادئاً، ساكناً، لا يقوم الليل، ولا يستغفر بالأسحار، ولا يصوم النهار، لكنه متقدم عند الله جل وعلا بنقاء قلبه وطهارة قلبه، ففي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فاشرأبت أعناق الصحابة على من يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو بين أظهرهم يمشي على رجليه أمامهم، فخرج الرجل، فجاء في اليوم الثاني والثالث، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة فخرج نفس الرجل) فتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص يريد أن يكشف عن أعماله، فقال: بيني وبين أبي ملاحاة، وأردت المبيت عندك، قال: أهلاً، فأكرمه وبات عنده، فلما أرخى الليل سدوله قام عبد الله بن عمرو يترقب هذا الرجل، هل يطيل ليله بالقيام تعبداً لله؟ فما وجده قائماً، قال: لعله في ظمأ الهواجر يصوم النهار، وصوم النهار لا عدل له، فلم يجد الرجل صائماً! فتعجب عبد الله بن عمرو وقال: والله ما كان بيني وبين أبي ملاحاة ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرجت أنت، فأردت أن أرى عبادتك فما رأيت شيئاً يتطلع إليه، فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، ولكني لا أبيت ليلة وأنا أحمل لأحد في قلبي شيئاً، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هذه التي لا نقدر عليها)، انظروا إلى نقاء القلب وطهارته مع قلة النافلة من الصيام والصلاة، ومع قلة الصدقة، ومع قلة سائر العبادات غير المفروضة، فجعله الله بذلك مقدماً على أقرانه من الصحابة، بل يشهد له وهو حي يرزق بين أظهرهم بالجنة؛ لطهارة قلبه.
ما أعظم طهارة القلب! وما أحوجنا إلى طهارة القلب! وما أعظم الصدق والإخلاص واليقين مع الله جل وعلا!(13/5)
صلاح القلوب سبب لقبول التوبة وتكفير الذنوب
أعجب من ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس، وهو بقتل نفس واحدة كفيل بأن يقتص منه فيقتل، أو يعذب في نار جهنم كما قال ابن عباس: (لا توبة لقاتل)، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، مفهوم المخالفة: أن من أصاب دماً حراماً لم يجد فسحة في دينه، يعني: هو في الآخرة من الخسران بمكان، وهذا قتل مائة نفس، ومع ذلك كشف الله عن قلبه فوجده صادقاً تائباً راجياً رحمة ربه جل وعلا، نقياً طاهر القلب، فمسح الله له كل هذه الأدران والجبال من المعاصي بعمل صغير يسير، هذا العمل هو أنه سأل عالماً: (هل لي من توبة؟ قال: نعم لك توبة، اذهب إلى أرض كذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم، فذهب الرجل فمات قبل أن يصل إلى هذه الأرض، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، قالت ملائكة العذاب: استحق النار لقتله مائة نفس ولم يعمل خيراً قط، فقالت ملائكة الرحمة: تاب إلى ربه وأناب) فالله تعالى ينظر إلى القلوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)، فالأصل أعمال القلوب وأعمال الجوارح تكون تبعاً، فالله تعالى نظر إلى قلب هذا الرجل فوجده تائباً صادقاً خالصاً نقياً لله جل وعلا.
(فأوصى إلى أرض التوبة أن تقترب، وإلى أرض المعصية أن تبتعد، ثم أمر ملكاً يأتيهم على صورة رجل ليحكم بينهم ويحل الإشكال، فقال لهم: قيسوا بينه وبين الأرض التي سار إليها، فإن كان أقرب إلى أرض التوبة فهو من أهل التوبة، وإن كان أقرب إلى أرض المعصية فهو من أهل المعصية).
هذه القصص لا أذكرها لنتسلى بها، بل لأبين لكم ما نحن فيه من عطب، وأن الأمة لا يمكن أن ترتفع من كبوتها إلا بنقاء هذه القلوب وبالصدق والإخلاص مع الله جل وعلا؛ لأن محل الكرامة والنصرة القلوب، والله جل وعلا ينظر إلى القلوب، فإن وجد قلباً صادقاً طاهراً قبل هذا العبد الذي هو من أصحاب القلوب الطاهرة.
وأعجب من هذه القصة بمراحل ما في الصحيحين من قصة امرأة من بني إسرائيل كانت تزني، فرأت كلباً يلهث من شدة العطش، فسقته بموقها، فغفر الله لها؛ لأن الله علم نقاء قلبها، يقول الله جل وعلا: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70]، وقال عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25] أي: بما في قلوبكم.
فالصالح التقي طاهر القلب، وإن بذل كل نفسه في المعاصي فإن الله سيختم له بالصالحات؛ لعلمه بأن هذا القلب طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).
فعلم الله طيب قلب هذه المرأة ونقائه وطهارته، لما وجدت الكلب بلغ منه العطش ما بلغ بها، وهي قد ارتوت، سقت هذا الكلب فشكر الله لها هذا العمل، وتقاطرت ماء السقيا على جبال ذنوب الزنا فهدمتها وجعلتها كثيباً مهيلاً! إذاً: الله تعالى يزن الناس بنقاء القلب وطهارة القلب، أما سمعتم إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير) أي: في الرقة والتوكل والنقاء لله جل وعلا.(13/6)
صلاح القلوب سبب للنجاة يوم القيامة
أعجب من هذا وذاك: رجل مؤمن أو مسلم عاث في الأرض فساداً، فقام إلى ربه يحاسبه، فقام إلى الميزان والكفتين فوجد كفة السيئات فيها سجلات بلغت عنان السماء، وما وجد في كفة الحسنات شيئاً، فنظر أيمن منه فلم يجد إلا ما قدم من سجلات المعاصي، ونظر أشأم منه فلم يجد إلا النار، فقال: قد هلكت، واستيقن بالهلاك، فقيل له: لك عندنا شيء، فقال: وما عسى هذا الشيء أن يفعل مع هذه السجلات؟ قيل: لا ظلم اليوم، لك عندنا بطاقة، فأخذ البطاقة فوجد فيها: لا إله إلا الله، فوضعت هذه البطاقة في كفة، وتلك السجلات في كفة؛ فرجحت هذه البطاقة على كفة السجلات التي فيها أمثال الجبال العظام من المعاصي؛ لطهارة القلب ونقائه، قال عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70].
إن أتتنا المصائب والبلايا تترى فاعلم أن الطامة من قلوبنا؛ لأننا لسنا صادقين مع الله جل وعلا، ولسنا مخلصين لنصرة الدين، ولسنا نعمل لله، فالذي ينبغي على كل واحد منا أن يصدق مع نفسه، وأسألكم سؤالاً: من منا قام ليلاً فقال: أنا وقف لله، وقتي لله، مالي لله، عملي لله، ما أريد إلا الله، فأنا بالله ولله ومع الله؟ والله لو منا صادق فعل ذلك ليلة واحدة ثم رفع يديه في ذلك الوقت الذي هو وقت إجابة ووقت صدق مع الله جل وعلا، فإن الله سيأتي بالنصر والتمكين لهذه الأمة.
كل مسلم يقول: لا إله إلا الله، لكن هناك فرق بين من يقولها بصدق قلبٍ وإخلاصٍ مع الله جل وعلا وبين من يقولها بغير إخلاص.
ولذلك عقب ابن القيم على حديث البطاقة فقال: كل يصلي ويصطف خلف الإمام والإمام يقرأ، وكل مستمع وكل يقرأ الفاتحة وكل يسبح وكل يسجد لله جل وعلا، والفرق بين مصل وآخر كما بين السماء والأرض، ما الذي فرق بينهما؟ طهارة القلب وصدق القلب وإخلاص القلب مع الله جل وعلا.(13/7)
صلاح القلوب سبب للاصطفاء والتكريم
إن كان مقياس الناس عند أراذل الناس وسفهاء الناس وأغرار الناس: المكانات والوجاهات والأموال، فإن محل الكرامة عند الله هي القلوب، فالله جل وعلا لا يكرم إلا صاحب القلب النقي التقي الطاهر، الله جل وعلا لما نظر إلى الناس عربهم وعجمهم مقتهم واختار واصطفى منهم العرب؛ لأنهم أطهر قلوباً من العجم، ثم بعد ذلك اصطفى منهم كنانة، ثم اصطفى من كنانة بني هاشم؛ لأنهم أطهر قلوباً، ثم نظر في قلوب بني هاشم فلم يجد أطهر من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله محل كرامته ورسالته، فقد جعله خاتم النبيين، بل أفضل الرسل وأكرم الرسل عنده جل وعلا؛ لطهارة قلبه ونقائه.
وأيضاً لما أراد الله جل وعلا أن يصطفي صحابة رسول الله الصفوة، التي تنصر هذا الدين وتحمله على أعناقها، ليصل إلينا غضاً طرياً كما نزل، نظر الله إلى القلوب فلم يجد أطهر من قلوب الصحابة رضوان الله عليهم بعد الأنبياء فاختارهم لهذا الأمر.
وقد ورد في سنن الدارمي عن ابن مسعود بسند صحيح قال: (من أراد أن يتأسى فليتأس بمن مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أطهر قلوباً) أي: هذه أهم العلل التي جعلت الله جل وعلا يختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أطهر قلوباً، وأخلص قلوباً، وأنقى قلوباً، وأصدق قلوباً مع الله جل وعلا؛ ولأنهم أحسن أخلاقاً، وأعمق علماً.
قال ابن عباس: (والله يؤتي المرء الفهم بإخلاصه وصدق نيته) يعني: بما في قلبه من طهارة ونقاء، قال الله عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، وقال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70].
وأبو بكر أفضل البشرية على الإطلاق سوى الأنبياء، وأفضل الصحابة، أفضل ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، كفى فخراً بـ أبي بكر أن يذكره الله جل وعلا بصيغة الجمع في الكتاب العزيز، قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] قوله: (أولوا الفضل) المقصود به أبو بكر، فالله جل وعلا يخاطب أبا بكر بصيغة التعظيم، ما الذي جعل لـ أبي بكر هذه المكانة! ما أرفعها من مكانة! ما أعظمها من مكانة، ما السبل التي اتخذها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ليرتقي إلى هذه المنزلة؟ والله لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في كفة لرجحت كفة أبي بكر) هل لأنه كان وسيماً قسيماً ذا مال ومن أغنى الصحابة وله السلطان والوجاهة عند الناس؟ لا والله ما كان كذلك، وإنما العلة أنه كان أطهر قلباً وأعمق علماً وأحسن خلقاً، والذي يدلك على ذلك الحديث الموقوف عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه قال: (والله ما سبق أبو بكر هذه الأمة بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه).
إذاً: محل الكرامة القلوب، ومحل النجاة يوم القيامة القلوب، قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] لم يقل: إلا من أتى الله بمال وفير أو بذرية عظيمة أو بجمال أو بسلطان أو بجاه، وإنما قال: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
والقلوب هي الميزان وهي المعيار عند الله جل وعلا، نسأل الله جل وعلا أن يطهر قلوبنا، وأن يصفي قلوبنا ويجعلها صادقة مخلصة معه؛ لتتنزل الرحمات، وترتفع البلايا التي على هذه الأمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(13/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القرآن كلام الله
القرآن كلام الله والناس يقرءونه بأصواتهم ويكتبونه بأقلامهم وما بين اللوحين هو كلام الله غير مخلوق، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في القرآن، وقد فتن في قضية خلق القرآن أقوام من المعتزلة وجاء بعدهم الكرامية وطوائف من الفلاسفة يخوضون في هذه المسألة بعقولهم العقيمة وأفهامهم السقيمة، ومن يضلل الله فما له من هاد.(14/1)
القرآن كلام الله تعالى
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: القرآن كلام الله غير مخلوق، يجب اعتقاد هذا، وسوف أدلل على هذه المسألة وأبين الشاهد ووجه الاستدلال ومحل الاستدلال من الأدلة.
قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] محل الشاهد: (وكلم الله) الفعل مضاف إلى الله، والله هو الفاعل، ثم أكد بالمصدر وهو المفعول المطلق المؤكد للفعل، ولم يقل: تخييلاً ولا خلقاً، وإنما قال: (تكليماً)، فهذا مفعول مطلق مؤكد للنوع، والنوع هنا المبين هو الكلام، فالله جل وعلا هو المتكلم والسامع هو موسى عليه السلام.
وقال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، هذا دليل على أن القرآن كلام الله، وأن الله متكلم، وأن الكلام صفة من صفات الله.
وجه الشاهد وكيفية الاستدلال هو: ((حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) الكلام مضاف إلى الله جل وعلا، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان ومعان، إضافة الأعيان مثل: بيت الله الكعبة، فهي عين قائمة بذاتها، والإضافة هنا إضافة مخلوق لخالقه، وهي إضافة تشريف.
مثال آخر: عيسى روح الله، فهل الروح معنى أم عين؟ الروح عين قائمة بذاتها، فإنها تؤخذ على حنوط والملك يسحبها، وتعلق في الشجرة، فهي عين قائمة بذاتها، لذلك: عيسى روح الله مضاف إلى الله إضافة تشريف.
النوع الثاني: إضافة المعاني، مثل قولك: كلام الله، فهل الكلام عين قائمة بذاتها؟ وهل جدتم كلاماً يمشي أمامكم ترونه وتسلمون عليه؟ الكلام معنى، كذلك قولك: وعزة الله لأفعلن كذا وكذا، هذه صفة لموصوف، كذلك قولك: قدرة الله ورحمة الله، وكرم الله، وعطاء الله، كل هذا من إضافة المعاني، فإضافة الكلام إلى الله جل وعلا إضافة صفة إلى موصوف.(14/2)
عقيدة المعتزلة في القرآن الكريم
قالت المعتزلة عن القرآن: إن قلتم: إن الله يتكلم فقد شبهتم الخالق بالمخلوق؛ لأن كل متكلم له مخرج، إذاً شبهتم الخالق بالمخلوق وقلتم: إن لله مخرجاً وفماً يتكلم به.
نقول لهم: لا يلزم من ذلك التشابه؛ لأن الألفاظ قد تطلق ولا يراد بها المعنى المتبادر إلى الذهن من اللفظ، وذلك لقرينة تصرفها عن ذلك، مثل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] وفي سورة الأحقاف قال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] إلى آخر الآية ثم قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] لم تدمر المساكن مع أن الله جل وعلا قال: ((تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)) وهذا الشيء يدخل فيه المساكن وغيرها، فيكون المعنى: كل شيء صالح للتدمير.
وعلى نفس السياق نقول في قوله تعالى: ((الله خالق كل شيء)) أي: كل شيء قابل للخلق فهو مخلوق.
والرد عليهم نظراً: نقول: السماوات تتكلم: {قَالَتَا أَتَيْنَا} [فصلت:11] فكيف تكلمت؟! أين لسان السماء؟! أين المخرج من السماء؟! وجاء في السنة أن النار قالت: (أكل بعضي بعضي)، وقالت: (جعلتني للمتكبري)، وغير ذلك مما ورد أنه يتكلم، ولا نرى للنار مخارج، فإذا لم نعرف للمخلوقات مخارج في كلامهم، ولم نعرف كيفية الكلام، فمن باب أولى الخالق الذي لا يعلم كنه ذاته جل وعلا، فلا تعلم حقيقة صفاته وكيفيتها، وهذا يسمى قياس الأولى، فإن كانت المخلوقات لا نعلم كيفية تكلمها فكيف بالخالق الذي لا يمكن أن نعلم كيفيته جل وعلا؟!(14/3)
حكم من يقول لفظي بالقرآن مخلوق
قال بعضهم: لا يجوز أن تقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأن عين كلام الله هو عين كلام المخلوق، والذي قال هذا هم الاتحادية والحلولية، فهم يقولون: كل كلام في الأرض كلامه، فالسب والشتم وقبيح الكلام ينسب إليه جل وعلا تعالى عما يقولون علواً كبيراً! قال قائلهم: وكل كلام في الأرض كلامه سواء علينا نثره أو نظامه والذي قال هذا هو ابن عربي، وهذا الرجل من أكفر أهل الأرض، ومع ذلك يعظمونه، وهو الذي يقول بالاتحاد والحلول.
واختلف السلف في قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، فالإمام أحمد وعلي بن المديني وغيرهما يقولون: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، أما البخاري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة والبيهقي ومسلم فإنهم يقولون بجواز القول بأن لفظي بالقرآن مخلوق، ونقول: هذه كلمة مجملة.
ونحن أصلنا في اعتقادنا أن الكلام المجمل الذي ينسب إلى الله لا ننفيه ولا نثبته، لكن نقول للقائل: ما تقصد؟ فإن كان القصد صحيحاً فالكلام صحيح، وإن كان القصد باطلاً فهو باطل.
إذاً: هذه لفظة مجملة فنسأله، فإن قال: قصدي القرآن فهو كافر؛ لأنه يقصد أن القرآن مخلوق، وإن قال: قصدي صوتي ونبراتي وفعلي وكسبي وتلاوتي فهذا حق على حقيقته، وعندنا أدلة على ذلك تثبت أن كل هذه الأفعال مخلوقة.
فالقرآن كتب وسطر في اللوح المحفوظ، وهذا التسطير كان مخلوقاً، قال تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ} [الطور:2 - 3] والرق مخلوق.
وفي الصحيحين: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب.
قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) فالقلم نفسه الذي كتب القرآن مخلوق، كذلك التلاوة تكون باللسان واللسان مخلوق، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45] والتلاوة هذه اكتساب وأفعال مخلوقة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه) بفعله وكسبه وإرادته، فهذه أفعال مخلوقة، فالأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة، فإذا قال: أقول: لفظي بالقرآن مخلوق وأقصد فعلي وكسبي باختياري فهذا صحيح، أما الكلام نفسه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهذا ليس مخلوقاً، وإنما هو كلام الله جل وعلا.
أيضاً القلوب تعي القرآن والصدور تحفظه، وهذه الصدور مخلوقة، وكذلك القلوب، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:192 - 194] فهذا القلب مخلوق.
إذاً: الجملة المجملة لا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نسأل ماذا تقصد؟ فإن كان حقاً أثبتنا بلفظه الشرعي، وإن كان باطلاً رددناه.
ومن الأمثلة على الكلام المجمل كذلك: السؤال عن الجهة، نقول: كلمة الجهة مجملة، فلا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نقول: إن قصدت بالجهة العلو فهذا حق، وإن قصدت بالجهة كل مكان فهذا باطل، وهكذا في كل شيء آخر من صفات الله تعالى نقول: هذا مجمل لا نثبت ولا ننفي حتى لا نتقول على الله بغير علم، فمثلاً: هل يمكن للإنسان أن يصف الله بالإذن أو ينفيها؟ لا؛ لأنه لم يرد دليل على ذلك، فلعل لله أذناً لا نعلمها، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].(14/4)
ضوابط التكفير
يقول الإمام أحمد: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، ولا يعني هذا أنه يكفر بعينه إلا إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع.
فهناك قاعدة رصينة لابد للمجتهد أن يعتقدها ويعمل بها عند التكفير، وهي النظر في القول أو الفعل ثم في القائل أو الفاعل، ولهذه القاعدة ترتيب معين: أولاً: يثبت أن الفعل أو القول بالكتاب أو السنة كفر، هذه أول خطوة لابد أن يعملها المجتهد لكي يكفر.
الثاني: ينظر في حال القائل أو الفاعل هل توافرت فيه الشروط؟ وهل عنده الأهلية الكاملة؟ وهل هو فاهم للكلام؟ وهل ينطق بكلام رصين ليس مخموراً وليس مغمى عليه؟ وهل انتفت عنه الموانع من الجهل والشبهة في مثل هذا؟ فإذا توافرت الشروط وانتفت الموانع فإنه يكفر بذلك.
إذاً: أصل قول الإمام أحمد من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر، الفعل كفر، والقول كفر، ولا يكفر القائل بعينه حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، أي: تتوافر الشروط وتنتفي الموانع.(14/5)
عقيدة الكرامية في القرآن الكريم
اتفقت الكرامية مع أهل السنة والجماعة في أمر وافترقت معهم في أمر في مسألة القرآن، فالكرامية اتفقت مع أهل السنة والجماعة في أن القرآن صفة من صفات الله جل وعلا وأنه كلام الله جل وعلا تكلم به ويتعلق بمشيئته، واختلفت مع أهل السنة والجماعة في أن القرآن أو الكلام مكتسب ويقصدون بذلك أن هذه الصفة حادثة لم تكن لله جل وعلا.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رد على الكرامية وقال: كلام الله قديم النوع حادث الآحاد، يعني: صفة الكلام موجودة أصلاً، فمثلاً: لو دخل رجل فوجد رجلاً ساكتاً ومرة ثانية وجده ساكتاً وثالثة ساكتاً فإنه سيقول: هذا أصم أبكم، لكن لو وجده في الرابعة يتكلم، وسمع كلامه، فإنه لا يمكن أن يقول عنه: إنه أصم أبكم، فهو عندما كان ساكتاً فهو متكلم بالقوة، فلما تكلم أصبح متكلماً بالفعل، وهكذا القول عن كلام الله، فهو يتكلم متى شاء كيف شاء.(14/6)
عقيدة الفلاسفة في القرآن الكريم
الفلاسفة قالوا بالعقل الفياض، وسموا الله جل وعلا العلة الفاعلة، وقالوا عن القرآن: إنه فيض فاض على محمد صلى الله عليه وسلم ثم جاءه تخييل، أي: تخيل أن هناك صورة بيضاء جاءته تسمى جبريل.
وهذا كلام ابن سينا والفارابي وهو منسوب لـ أرسطو أيضاً.(14/7)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مراجعة كلام الله - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم
صفة الكلام لله عز وجل من الصفات التي قد تضافرت عليها الأدلة من الكتاب والسنة والعقل، وهي صفة فعلية تليق به عز وجل، فنثبتها لله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وإثباتها لله عز وجل، لا يستلزم منه إثبات آلة الكلام من فم ولسان وغيرهما، والقرآن فرع عن هذه الصفة، فهو كلام الله عز وجل، وهذا اعتقاد السلف، ثم خلف من بعدهم خلوف قالوا بخلق القرآن، فتصدى للرد عليهم أئمة السلف.(15/1)
لا يستلزم من إثبات صفة الكلام لله إثبات آلة الكلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب العظيم الجليل كتاب: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للإمام اللالكائي، وقلنا: إن من إبداع هذا العلامة الجهبذ في تصنيفه لهذا الكتاب وترتيبه إياه: أنه اكتفى بالإجمال ثم بعد ذلك أخذ في التفصيل اقتداء بكتاب الله جل وعلا واقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالإجمال مشوق ثم التفصيل يؤسس ويقعد.
وقد تكلمنا فيما سبق عن جماع صفات الله جل وعلا، ووصلنا إلى صفة الكلام، وأن القرآن هو كلام الله جل وعلا سمعه جبريل عليه السلام من الله جل وعلا، ثم نزل به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا قاعدة مهمة جداً وهي: أن الله متكلم، ولا يستلزم من إثبات الكلام إثبات آلة الكلام، فلا نقول: لله عز وجل فم ولسان، وهناك مخلوقات تكلمت وليس لها فم أو لسان، فكذلك ولله المثل الأعلى لا يلزم من كلام الله وجود فم أو لسان لله عز وجل، فمثلاً: النار تكلمت، فأين لسانها؟! والسماء تكلمت فقالت: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فأين فمها ولسانها؟! والعبد القريب من ربه جل وعلا، والذي يعلم صفات الله وأسماء الله جل وعلا، ويتعبد بها، أحب عباد الله إلى الله وأعلمهم به، وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم العلم إلى علمين: علم بالله، وعلم بأمر الله.
وأشرف العلوم: العلم بالله، وأنت تعبد ربك جل وعلا فحري بك أن تعرف من ربك؟ وما هي صفاته؟ وما أسماؤه؟ فكلما تعرفت على أسماء الله وصفاته أحببته، وكلما أحببت الله جل وعلا تعبدت له وأخلصت له، وكلما أخلصت له قربت من المنزلة عند الله جل وعلا حتى يرفعك إلى قبل درجة النبوة، فلا يفرق بينك وبين النبي إلا درجة النبوة، والعلماء في درجة النبوة، فلا يفرق بين العالم والنبي إلا درجة النبوة، ولذا حظي العلماء بهذه المنزلة العظيمة، وأعظم العلماء وأشرفهم وأعلمهم: أعلمهم بالله وأخشاهم له، وكلما ازددت علماً بربك ازددت له خشية وإنابة وإخلاصاً وتعبداً.(15/2)
إدلة صفة الكلام لله تعالى
الأدلة على أن الله متكلم: أن الله عز وجل قد تكلم مع مخلوقات عدة، منها: الملائكة، والأنبياء ومنهم: موسى، وآدم، وسمعت حواء صوت الله عز وجل: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} [الأعراف:22]، وكلم الله القلم، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب.
قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) فتكلم الله مع القلم وسمع القلم صوت الله عز وجل، يا له من قلم! ويا له من شرف عظيم، نسأل الله أن يسمعنا صوته في الآخرة، وأن يتحدث معنا برضاه، آمين اللهم آمين.
وتكلم الله مع الجمادات، منها: السماء والأرض، فقال لهما: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
وتكلم مع الجنة والنار، وتكلم مع الجبال، والجبل يسمع ويحب ويريد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا أحد يحبنا ونحبه).
وتكلم الله مع إبليس فقال: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقوله: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف:13]، وآيات كثيرة فيها تكلم الله مع إبليس اللعين.
فكل هذه أدلة من الكتاب تدل على أن الله متكلم.
وأما الأدلة من السنة على أن الله متكلم فحديث القلم السابق، وأصرح وأوضح منه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (إذا أحب الله عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبوه).
وحديث المعراج الذي خص الله فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالكلام، كما اصطفى موسى بالكلام؛ ولذلك قال بعض العلماء: جماع كل صفات الخير للأنبياء جمعها الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما إثبات صفة الكلام لله عز وجل بالعقل فجائز، مع أن بعض العلماء يقول: أنت لم تر الله، ولم يحدثك الثقة عن الله جل وعلا، ولم تر مثل الله جل وعلا، فكيف تقول: بالعقل نثبت صفة الكلام لله عز وجل؟ وشيخ الإسلام ابن تيمية ينكر أمر القياس بين الخالق والمخلوق، فلا يصح أن نقيس بقياس بين الخالق والمخلوق بأي من الأحوال؛ لأن القياس لا بد فيه من وجود علة مشتركة بين الأصل والفرع حتى نقيس الفرع على الأصل، فأيهما تجعله أصلاً وأيهما تجعله فرعاً؟! فأقول: هناك قاعدة عظيمة تقول: كل صفة كمال فالله يتصف بها.
وبالعقل أي صفة نقص فإن الله تعالى لا يتصف بها؛ لأن الله له الكمال المطلق.
وأما قولهم: كيف تقيسون الخالق بالمخلوق؟ ف
الجواب
القياس أنواع: قياس شبه، وقياس علة، وقياس أولى، والذي يستعمل في حق الله هو: قياس الأولى، لا قياس علة ولا قياس شبه.
فإذا كان الإنسان يتكلم، والكلام صفة كمال له، والأخرس عندنا ناقص، بل المتكلم الذي لا يستطيع أن يعبر عما بداخله ويفسر ما يريد ناقص، ولذلك فرعون أنكر على موسى عليه السلام عدم إفصاحه في الكلام، فقال الله على لسانه: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
فبين أن هذه صفة نقص، والله جل وعلا قد شفاه من ذلك، والله له حكمة في ذلك، وقد طلب الله أن يكون هارون عوناً له؛ لأنه أفصح منه لساناً، فالكلام صفة كمال.
فإن كان هذا كمالاً فمن باب أولى نقول: إن الله متكلم، وإن كان عدم الكلام أو عدم استطاعة الكلام نقص فمن باب أولى ننزه الله عنه، أما ترى أن الله قد أنكر على قوم عبدوا أصناماً لا تتكلم ولا تنفع ولا تضر، فقال عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، وقوله: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] إذاً: صفة الكلام هي صفة ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والعقل.(15/3)
الكلام صفة فعلية لله عز وجل
هنا
السؤال
هل هذه الصفة خبرية أم فعلية أم ذاتية؟
و
الجواب
فعلية، فهي قديمة النوع حادثة الأفراد، أي: هي من الأصل موجودة عند الله جل وعلا، ما استحدثت بعدما خلق الله موسى وقال له: يا موسى! إني أنا الله، وإلا كان الله جل وعلا غير متكلم وأضيفت له هذه الصفة، وكان غير متكلم، ثم كملت له هذه الصفة وحاشا لله، ولذلك نحن نقول ونرد على أهل الكلام: لو دخلت على رجل ومكث مدة طويلة لا يتكلم، ثم بعد ذلك تكلم، فهل تستطيع أن تقول: إنه كان أخرساً، وما تكلم إلا في هذا الوقت؟ لا، وإنما تقول: عنده صفة الكلام وهو متكلم، لكن يتكلم وقت ما شاء.
إذاً: إذا أثبتنا لله صفة الكلام، فقد تكلم الله وسمعت المخلوقات صوت الله جل وعلا، وأسمع الله من شاء كيفما شاء كما شاء، والقرآن فرع عن هذه الصفة، فالقرآن كلام الله جل وعلا.
فالقرآن هو: كلام الله المتعبد بتلاوته -وبهذا يخرج: الأحاديث القدسية والنبوية- المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل، ابتدأ بالفاتحة وانتهى بسورة الناس.(15/4)
القرآن كلام الله غير مخلوق
أجمع الصحابة على أن القرآن هو كلام الله جل وعلا، فقد روى البيهقي أن أبا بكر راهن قريشاً على غلبة الروم، فلما سألوه عن ذلك قرأ هذه الآيات: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:1 - 3]، فلما حدثت الغلبة للروم، قالوا له: من أين أتيت بهذا؟ هل هو من عندك أو من عند صاحبك؟ فقال: ليس من عندي ولا من عند صاحبي، ولكن هو كلام الله جل وعلا.
أيضاً: الخلفاء الراشدون قالوا: القرآن كلام الله، وغيرهم كـ ابن عمر وابن عباس وكثير من الصحابة، كما قال عمرو بن دينار: أدركت تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن القرآن كلام الله جل وعلا.
ورأى ابن عباس رجلاً يدعو فيقول: اللهم رب القرآن اغفر لنا، فقال ابن عباس: القرآن ليس بمربوب، القرآن كلام الله جل وعلا.
وورد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: وكان شأني أحقر عند نفسي من أن يتكلم الله في شأني من فوق سبع سماوات.
أيضاً: من التابعين: ابن المسيب والزهري وأبو حنيفة -كبار التابعين وصغار التابعين- وبعدهم الشافعي وأحمد ومالك وابن عيينة والثوري وأبو جعفر المنصور، كلهم اتفقوا على أن القرآن كلام الله جل وعلا غير مخلوق.(15/5)
قاعدة في التكفير
قال المصنف رحمه الله تعالى: [جماع ما روي بكفر من قال: إن القرآن مخلوق] قبل أن أبدأ في شرح أي مسألة يتكلم فيها المصنف، لا بد أن أقعد قاعدة مهمة جداً، حتى نضبط الفروع بإرجاعها إلى الأصل، وهذه القاعدة هي: أن الكفر حق من حقوق الله جل وعلا، فلا أحد يقوى عليه إلا بدليل ناصع، أسطع وأوضح من شمس النهار، فلا أحد يلقي بالكفر على أحد إلا بدليل قاطع، أيضاً: لا بد أن نثبت أن هذا الفعل أو القول كفر، سواء من الكتاب أو من السنة، أو إجماع الصحابة أو إجماع أهل العلم، فمثلاً: لو قلنا: إن إلقاء المصحف في الزبالات كفر، أو سب الذات الإلهية كفر، فلا بد من دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإذا قال قائل: إن القرآن مخلوق، وقلت: إن هذا كفر، فلا بد عليك أن تأتي بدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع على ذلك، حتى تبرأ ساحتك عند الله؛ لأن هذا حق لله جل وعلا.
فنقول: عندنا أدلة تثبت أن من قال: إن القرآن مخلوق، فإنه يكفر، أو أن هذه المقولة كفر، منها: أولاً: قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقوله: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80] فأثبت أن هذا الكلام كلام الله جل وعلا، فهو قد أضاف الكلام إلى الله جل وعلا، فإن قال قائل: الكلام مخلوق، فقد كذب بصريح القرآن، وإذا كذب بصريح القرآن فهذا كفر بواح؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] فإن قال: لا أصدق هذا؛ فقد كذب الله جل وعلا، ومن وقع في التكذيب فقد كفر.
ثانياً: أن الذي يعتقد هذه المقولة شبه الخالق بالمخلوق، وتشبيه الخالق بالمخلوق كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن، وتنقيص من حق الله جل وعلا، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهو ينزل الله من منزلته جل وعلا إلى منزلة المخلوق.
ثم إذا أثبتنا أن هذه المقولة كفر بصريح القرآن أو السنة أو الإجماع فلا بد من توافر الشروط وانتفاء الموانع؛ حتى نحكم بالكفر على فلان أو علان، وتقام عليهم الحجة، وتزال أي شبهة عنهم، فلعله يكون لهم تأويل، ويثبت لنا هذا ما نقل عن الإمام أحمد أنه قال: من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر.
وقال الشافعي: من قال: إن القرآن مخلوق فهو زنديق.
وسئل ابن المبارك عن رجل يقول: إن القرآن مخلوق، فقال: امرأته بائنة منه، فقالوا: لم؟ قال: هي مسلمة وهو كافر، وقال ابن عيينة: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر ويقتل ولا يصلى عليه.
وقيل للإمام أحمد: هل نخرج بالسيف على المأمون؟ فقال: لا، هم عندي جهال، ولم يكفر المأمون مع أنه ضربه بالسياط، وامتحنه على خلق القرآن.
وناظر شيخ الإسلام ابن تيمية الجهمية الذين ينفون الاسم والصفة -ليس فقط ينفون صفة الكلام، بل حتى كل اسم لله- فقال لهم: لو قلت بقولكم كفرت، ولكنكم عندي جهلة.
فلجهلهم عذرهم الإمام ابن تيمية.(15/6)
حكم قول: لفظي بالقرآن مخلوق
مسألة من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، هل هو مثل من قال: إن القرآن مخلوق أم لا؟ هذه مسألة عويصة ومعرفتها مهمة جداً، والناس فيها على ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الواقفة، وهذه فرقة من فرق الجهمية، فمثلهم مثل من يقول: إن القرآن مخلوق؛ ولذلك توقفوا في أمر اللفظي، فالواقفة جهمية أصلاً.
الطائفة الثانية: قالوا: لفظي بالقرآن غير مخلوق، وهم غلاة الصوفية، كـ ابن عربي وابن سبعين، فهم يقولون: كل كلام في الأرض كلام الله؛ لأن عندهم الحلول والاتحاد، فلا فرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق، ولذلك قال ابن عربي: كل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه يعني: أي كلام فيه سب، وأي كلام تزدري الأذن أن تسمعه، يقول: هذا كلام الله، حاشا لله! لأن عنده أن المخلوق خالق، والخالق مخلوق، ولا يدري ما الفرق بينهما، حاشا لله! وهذه الطائفة أكفر أهل الأرض، عليهم من الله ما يستحقون.
الطائفة الثالثة: طائفة أهل السنة والجماعة القائلون: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد حصل كلام ونزاع بينهم في المراد بهذه المقولة، فالإمام أحمد والشافعي وابن عيينة وغيرهم من الأئمة قالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو زنديق، وقالوا: لا تصح هذه المقولة؛ لأن قولي: لفظي بالقرآن مخلوق، هي كقولي: القرآن مخلوق.
وخالف في ذلك البخاري وابن خزيمة وابن جرير الطبري فقالوا: هذه المقولة لا شيء فيها، وهي كلام صحيح.
ونحن نقول بالتفصيل، فهل تكلم الصحابة والتابعون بهذا الكلام؟ لا، وإنما هذه المقولة بدعة ظهرت في القرون المتأخرة، وهناك قاعدة تقول: كل كلام في حق الله فهو مجمل لا يقبل بالإطلاق، ولا يرد على الإطلاق، كالجهة والمكان، ولكن نقول للقائل: ما تقصد؟ فإن كان يقصد حقاً قبلنا الكلام، وإن لم يقصد حقاً رددنا الكلام.
فلو أنه قصد أن لفظه بالقرآن الذي يتلوه مخلوق يعني بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] فهو قد قال بقول المبتدعة الذين قالوا: إن القرآن مخلوق، ونرد عليه القول، ونزيل عنه الشبهة؛ فإن أصر على ذلك فقد كفر؛ لأن هذا القول قول كفر.
وإن قصد فعله وكتابته ولسانه وصوته الذي يطلع منه، فهذا حق، فإن فعله مخلوق، وتلاوته مخلوقة، ولسانه مخلوق، وقلبه مخلوق، وصدره مخلوق، والله جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم قد سميا التلاوة فعلاً، والله سيجازي الإنسان على فعله، وفعل الإنسان مخلوق، ولذلك في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار) والفعل من كسب العبد، وهو مخلوق.
وعندنا أدلة تثبت أن التسطير للقرآن مخلوق، والقلم مخلوق، والآلات التي أقرأ بها مخلوقة، قال الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3] فكل هذه مخلوقات غير الكتاب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب؛ فكتب) فكان من ضمن ما كتب: القرآن، فالقلم مخلوق، والقرآن مسطر، وهذا التسطير مخلوق، والورق مخلوق.
أيضاً: كلام الله جل وعلا في الصدور وفي القلوب، والصدور مخلوقة، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وقال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:192 - 194]، فالقرآن في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقلب النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق.
كذلك: تلاوة العبد من فعل العبد، وهي مخلوقة، قال الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45]، وقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، وقوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، وقوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121] فهذه التلاوة مخلوقة؛ لأنها من كسب وفعل العبد.
أيضاً: هذا القرآن يسمع بالآذان، والآذان لا شك أنها مخلوقة، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فيسمع كلام الله بالآذان المخلوقة، وهذه الآلات كلها مخلوقة، فإذا قلت: اللسان الذي تكلم بكلام الله مخلوق.
فلا شيء عليك، وإذا قلت: القلب الذي حفظ كلام الله مخلوق.
فلا شيء عليك، وإذا قلت: الصدر الذي وعى كلام الله جل وعلا مخلوق.
فلا شيء عليك، وإذا قلت: القلم الذي كتب بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] مخلوق.
فلا شيء عليك.
وبعد معرفتنا فصل الخطاب في حكم قولنا: لفظي بالقرآن مخلوق، نعلم أن الإنكار الشديد على الإمام البخاري ليس تحته طائل؛ لأن الإمام البخاري قال: إن التلاوة من فعل العبد، وفعل العبد مخلوق.
لكنه لم يقل: إن القرآن مخلوق.
وأما الجواب عن أئمة الهدى: الإمام الشافعي وابن عيينة والإمام أحمد واسحاق بن راهويه الذين قالوا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو زنديق.
أنهم أرادوا بذلك سد الذريعة وحسم المادة؛ لأن غليان الفتنة كانت في تلك العصور كثيرة جداً، فما من بيت إلا ودخلته الفتنة، فأرادوا حسم المادة وسد الذريعة؛ لأن هذه المقولة مجملة، فقالوا: نحسم المادة ونسد الذريعة، ولا نقول: لفظي بالقرآن مخلوق؛ حتى لا يتوهم أحد أنك تقول: إن القرآن مخلوق.(15/7)
رؤيا النبي حق وضوابطها
ذكر المؤلف بعد ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من رآه في المنام فقد رأى الحق، وأن بعضهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر، وهذه المسألة مهمة جداً، فأقول: إن رؤيا النبي حق، لكن حتى لا يأتي لنا المتهوكون الذين يرفعون عن أنفسهم التكليف برؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي لنا من يتبجح علينا ويقول: إن الذي يرى النبي في المنام سيراه في الآخرة، والنبي حي بيننا، وممكن يراه الإنسان في اليقظة، واللوازم عند ذلك لا تنتهي، فنقول لهم: إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، لكن بشروط منها: الشرط الأول: أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بنفس الصفة التي وصفها أهل العلم في الكتب المسطرة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) فكثير جداً يقول: رأيت رأساً، رأيت بدناً دون رأس، رأيت أبيضاً أملحاً، رأيت غترة سوداء، وكلام معيب جداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضابط هذه المسألة ما ضبطها به العلماء، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: رأيت النبي، فقال له: صفه لي؟ فوصفه له، قال: ما رأيت النبي.
وابن سيرين كان من دأبه أن من قال له: رأيت النبي، يقول له: صفه لي؟ فإن كان الوصف يوافق الوصف المسطر المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قد رأيته، وإن لم يكن قال: لم تره.
الشرط الثاني: أن لا يأتينا ببدع من القول، وذلك كأن يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: لا تصل الخمس! صل الأربع فقط! أو أناس ينتظرون رؤية الهلال، فيأتي فيقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال: صم غداً فإن رمضان غداً! فكل هذا الكلام لا يصح؛ لأن الشرع قد تم، والوحي قد انتهى.
وأما بالنسبة لما ذكره المصنف أن رجلاً قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: من قال: إن القرآن مخلوق جعلت يمينه يمين قر، فعاش بعد ذلك يوماً أو يومين، ثم يصير إلى النار؛ فإن هذه الرؤى ليست بحجة شرعية، ولذلك أنكر بعض العلماء على المحقق المدقق الإمام ابن القيم في كتابه: الروح؛ لأنه ملأ كتابه بالرؤى، مع أن كل كتب ابن القيم تمتلئ بقال الله، قال رسوله، قال الصحابة الفضلاء، لكن فيه يقول: ورأى صديق في المنام كذا، ورأى صاحبنا في المنام كذا، ورأى فلان كذا وكذا، فالحجة الشرعية ليست في المنام، لكن لا بأس أن نستأنس بهذا الكلام.
ثم روى المصنف بعض الروايات عن أكثر من واحد من السلف أنه قال: من قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر.(15/8)
الأسئلة(15/9)
فعل الله صفة من صفاته
السؤال
إن قيل: إن الله كتب التوراة بيده، فهل فعل الله مخلوق؟
الجواب
لا، ففعل الله ليس بمخلوق، وإنما فعل الله صفة من صفاته.
والألواح التي كتبها الله لموسى بيده مخلوقة، ولذلك عندما ألقى موسى الألواح من يده فتكسرت لم يعاتبه الله عز وجل.(15/10)
الإضافة إلى الله نوعان
السؤال
المضاف إلى الله نوعان، فما هما؟
الجواب
المضاف إلى الله نوعان: إلى عين قائمة بذاتها، وإلى معنى ليس بعين.
والعين القائمة بذاتها إضافتها إلى الله إضافة تشريف، وذلك مثل قولنا: الكعبة بيت الله، ناقة الله، عيسى روح الله، موسى كليم الله، كتاب الله.
وأما الإضافة إلى معنى، فهي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وذلك مثل قولنا: عزة الله، كرم الله، رحمة الله، قدرة الله، فكل هذه إضافة صفة إلى موصوف؛ لأنها معنى، وليست بعين قائمة بذاتها.(15/11)
حكم الحلف بالمصحف
السؤال
ما حكم الحلف بالمصحف؟
الجواب
إن قصد كلام الله الذي هو صفة من صفات الله، فقد أقسم بالله، أما بالورق المخلوق فهذا لا يجوز القسم به.(15/12)
حكم وضع اليد على المصحف عند الحلف
السؤال
ما حكم وضع اليد على المصحف عند الحلف؟
الجواب
بدعة، ولا يجوز ذلك.(15/13)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الكلام
الله عز وجل يتكلم حقيقة متى شاء، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم فيها كثير من طوائف أهل البدع، وهم مختلفون على مذاهب متعددة وآراء متباينة في صفة الكلام.(16/1)
طوائف أهل البدع في صفة الكلام(16/2)
الحلولية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: طوائف أهل البدع في صفة الكلام كثيرة منها: الطائفة الأولى: الاتحادية، أو الحلولية، ومذهبهم في صفة الكلام يتفرع عن قولهم بأن عين الخالق في عين المخلوق لا فرق بينهما، وهذا مذهب ابن عربي حيث قال: وكل كلام في الكون كلامه فرض علينا نثره ونظامه أي أن كل كلام في الدنيا هو كلام الله، وهذا القول من أقبح الأقوال، وهذه الطائفة من أشر الطوائف المبتدعة التي تصل بغلوها إلى الكفر والخروج من الملة، ويرد عليهم بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، والوجود كله فيه خالق ومخلوق، فما سوى الله من بشر وجماد وغير ذلك مخلوق، ولقبح هذه المقالة فلن نطيل في الرد عليها.(16/3)
الفلاسفة
الطائفة الثانية: الفلاسفة مثل: أرسطو والفارابي وابن سيناء، هؤلاء يقولون: إن القرآن لم يتكلم الله به حقيقة، ولكنه فيض فاض من العلة الفعالة، فسموا الله جل وعلا بالعلة الفعالة، وهذه من الأسماء التي لم يسم الله جل وعلا نفسه، قالوا: فقابل نفساً زكية، يقصدون محمداً صلى الله عليه وسلم، فأوجب لها تخيلات وتصورات، فتصور ملكاً يدعى جبريل، يقرأ عليه كلاماً سماه قرآناً، فأملاه على الناس على أنه من جبريل.
والرد عليهم من وجهين: الوجه الأول: الأدلة التي تثبت أن القرآن كلام الله، كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فلم يقل الله عز وجل: وكلم الله موسى تخييلاً، أو تصويراً، بل قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فتكليماً: مفعول مطلق يؤكد أن الذي صدر منه الكلام هو الله، وهو كلام حقيقي وليس تخيلاً ولا إفاضة على النفس الزكية.
الوجه الثاني: لازم قولهم يضاهي قول مشركي العرب، فقد قالوا: إن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا عنه: شعر من شعره صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل كلام الفلاسفة، لكنهم قالوا: هو نفس زكية تتخيل وتتصور بعض الأنوار الملائكية، أو تتصور ملكاً يسمى جبريل يأتيه بهذا الكلام، وهذا الكلام منتقض بقول الله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 - 42].(16/4)
المعتزلة
الطائفة الثالثة: المعتزلة، القائلون بأن القرآن كلام الله ولكنه مخلوق، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، هذا استدلالهم بالنقل، أما استدلالهم بالعقل فقالوا: لو قلنا: إن الله يتكلم لزم من كلام الله أن يكون له مخرجاً، لأن كل متكلم لا بد له من مخرج، وهو أن يكون له فم ولسان، وهذا تشبيه بالمخلوق.
والرد عليهم من وجهين كما هي القاعدة في الرد على أهل البدع، أولاً بالأدلة الثابتة من الكتاب والسنة، ثم بإبطال الشبه والرد عليها.
أما الشبهة الأولى فهي استدلالهم بقول الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، قالوا: فشيء: نكرة في سياق الإثبات، وهي صيغة من صيغ العموم، والقرآن شيء فيدخل تحت خالق كل شيء، فهو مخلوق.
والجواب عليهم هو أنه إذا كانت هذه اللفظة عامة، فقد أتت أدلة وقرائن أخرى خصصت هذا العموم، كقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وأضاف الكلام إليه بإضافة الصفة إلى الموصوف، وقول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقول الله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، فهذه الأدلة تخصص هذا العموم، إذاً الكلام صفة من صفات الله، وصفات الله ليست مخلوقة.
ويخصص العموم أيضاً بالعقل، فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] كقول الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] والمساكن لم تدمر، فالعقل يخصص هذا العموم، وهو أن الريح تدمر كل شيء قابل للتدمير، فقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] أي: كل شيء مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق بل هو صفة من صفات الله ومعنى من المعاني وليست عينه قائمة بذاتها.
أيضاً قولهم: إن المتكلم يلزم له مخرج أي: فم ولسان، فيجاب عليهم بأن القياس باطل بين الخالق والمخلوق، وليس هناك قياس شبه أو علة بين الخالق والمخلوق وإنما هو قياس أولى، أي أننا لو وصفنا خلقاً من خلق الله بالكمال، فمن باب أولى أن نصف به الله جل وعلا، وإن نزهنا مخلوقاً عن النقص فأولى أن ننزه الخالق جل وعلا منه، وبعض المخلوقات تكلمت وليس بلازم من تكلمها الحنجرة والفم واللسان، فقد تكلمت النار، قال الله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فتكلمت بلا فم ولا لسان.
وأيضاً: الجنة تكلمت، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: جعلتني للضعفاء من خلقك وقالت النار: جعلتني للمتكبرين من خلقك).
أيضاً: الطعام تكلم، فقد كان الصحابة من نقاء قلوبهم وقوة إيمانهم يسمعون تسبيح الطعام بين يدي رسول الله، فالطعام يسبح لله جل وعلا بلا مخرج.
أيضاً: السماء تكلمت، والأرض تكلمت قال الله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] وقال تعالى عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4 - 5]، فتكلمت السماء والأرض بلا مخرج.
بل الأعجب من ذلك الجلود والأيدي والأرجل وهي جزء من الإنسان تتكلم بلا مخرج، قال الله تعالى {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65] ختم الله على الأفواه فتكلمت الأيدي والأرجل، ولا نعرف كيفية التكلم، فمن باب أولى ألا نعرف كيف يتكلم الخالق جل وعلا.(16/5)
الكلابية والأشعرية
الطائفة الرابعة من طوائف المبتدعة الذين يخوضون في صفة الكلام: الكلابية: أتباع ابن كلاب، الذي يقول: إن القرآن كلام الله حقيقة، وهو صفة من صفات الله الذاتية، يعني: اللازمة لله كلزوم الحياة، ولزوم القدرة، ولزوم العزة، فهي صفة ذاتية أزلية أبدية، لا تنفك عن الله جل وعلا، ولا تتعلق بالمشيئة، والحروف والأصوات التي نسمعها ونطويها هذه مخلوقة، والرد عليهم أيضاً من الوجه الأول بما جاء في الكتاب والسنة من أن صفة الكلام صفة لله جل وعلا، ويقال لهم: إذا قلتم: إنها صفة ذاتية أي: لا تنفك عن الله؛ خالفتم ظاهر القرآن وظاهر السنة، فقد أثبت الله أن هذه الصفة صفة متجددة تتعلق بالمشيئة، وأنه يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] فالكلام هنا بسبب مجيء موسى فهو بمشيئة الله، شاء الله أن يتكلم عند مجيء موسى.
أيضاً: قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] وهذا نص من القرآن يثبت أن هذه الصفة تتعلق بالمشيئة، فهي صفة فعلية لا صفة ذاتية.
أما قولهم: إن الحروف والأصوات مخلوقة، فقد وافقوا بذلك قول المعتزلة وخالفوا الكتاب والسنة؛ فإن الله جل وعلا يتكلم بحرف وبصوت، ولم يخلق الحرف والصوت، قال الله تعالى: {ن} [القلم:1] نون: هذا حرف من كلامه تعالى، وقال: {طه} طه 1]، {كهيعص} [مريم:1]، {طسم} [الشعراء:1]، {الم} [البقرة:1] فتكلم الله بحروف، وكلام الله من صفاته، فالحروف ليست مخلوقة.
أيضاً: تكلم الله بصوت وبكيفية أعلمنا الله إياها، فتكلم بصوت عال وتكلم بصوت منخفض إن صح التعبير، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مريم:51 - 52] والنداء: يكون للبعيد، ويكون بصوت مرتفع، وتكلم معه بصوت منخفض كما قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] والمناجاة معناها: الصوت المنخفض، وكذلك يأتي الله بالعبد يوم القيامة ويضع عليه كنفه ويذكره بما فعل، ويقول: (سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك في الآخرة).
وهنا تكلم الله كيفما شاء بالكيفية التي شاءها، وهذا فيه رد قاطع على الكلابية، وعلى أفراخ الكلابية وهم الأشاعرة؛ لأن أبا الحسن الأشعري تلميذ لـ ابن كلاب، فالأشاعرة أتوا بغرائب الأقوال، فلا هم معتزلة، ولا هم أهل سنة وجماعة، ولا هم كلابية، أتوا ببدع من القول، فقالوا: القرآن كلام الله لكنه صفة من صفات الله الذاتية لا تنفك عن الله، فاتفقوا مع الكلابية في ذلك، ثم قالوا: وهو معنى في نفس الله، والمعنى في نفس الله بمعنى العلم وليس الكلام، فالذي نقرؤه ليس بكلام الله بل عبارة عن كلام الله، إن قرأت بالعبرية كان توراةً، وإن قرأت بالسريانية كان إنجيلاً، وإن قرأت بالعربية كان قرآناً.
فقالوا: أولاً: إن صفة الكلام ذاتية أزلية لا تنفك عن الله.
ثانياً: هو معنى في نفس الله.
ثالثاً: القرآن الذي بين أيدينا ليس هو كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، إن قرئ بالعربية فهو قرآن، وإن قرئ بالعبرانية فهو توراة، وإن قرئ بالسريانية فهو إنجيل.
والجواب عليهم يكون بما جاء في الكتاب والسنة بأن صفة الكلام صفة فعلية لله جل وعلا، ثم نأتي إلى أدلتهم وشبههم: الأولى: قولهم: هي صفة ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا، يجاب عليه بأن الله جل وعلا يتكلم وقت ما شاء، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، وقال سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5].
ولازم قولهم هذا أن الله لم يزل ولا يزال يقول: (يا موسى إني أنا ربك)، ولم يزل ولا يزال يقول: (هي خمسون في الأجر وخمس قد فرضتها عليك) لما قالها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس صحيحاً، فإن الله لم يتكلم مع الرسول إلا في المعراج عندما أعرج به إلى السماء.
إذاً: صفة الكلام صفة فعلية لا ذاتية كما سبق بذلك الرد على الكلابية.
أما الرد على قولهم: إنها معنى في نفس الله، هو أن المعنى في النفس ليس بكلام، ولكنه علم، بل ولازم قولهم اتصاف الله بالنقص، وهو أن الله لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه، فكأنهم يقولون: إن جبريل علم ما في نفس الله ثم ذهب إلى محمد فعبر له عن الذي في نفس الله جل وعلا، وهذه صفة نقص، فالذي لا يستطيع أن يعبر عما في نفسه من المخلوقات نقول عنه: إنه لا يستطيع أن يعرض ما في نفسه فمن باب أولى أن ننزه الله عن ذلك.
أما قولهم: إذا كان بالعبرية فهو توراة، وبالعربية فهو قرآن، وبالسريانية فهو إنجيل، فهو بدع من القول، ويلزم منه القول بوحدة الأديان، وأنه لا فرق بين أحكام التوراة وأحكام الإنجيل وأحكام القرآن، والله جل وعلا فرق بينهم، فقال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44] إلى آخر الآيات ثم قال: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} [المائدة:46]، ثم بعد ذلك قال القرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فهو مصدق للتوراة ومصدق للإنجيل، ومهيمن عليه أي: ناسخ لهذه الأحكام التي أتت في التوراة، وأتت في الإنجيل.
فبين الله المغايرة بين العبرية والسريانية وبين القرآن، كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].(16/6)
الكرامية
الطائفة الخامسة: طائفة الكرامية الذين اتفقوا مع أهل السنة والجماعة في أن القرآن هو كلام الله حقيقة، تكلم الله به، وسمعه جبريل، ونزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هي صفة فعلية يتكلم وقت ما شاء كيفما شاء بما شاء، لكنهم خالفوا أهل السنة والجماعة وقالوا: إن هذه الصفة اتصف الله بها بعدما كان غير متصف بها، أي: أنه اكتسب هذه الصفة اكتساباً.
والرد عليهم من وجهين: الوجه الأول: ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الكلام صفة من صفات الله الفعلية الأزلية، قديمة النوع حادثة الأفراد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قال العلماء: إن الله كان رحيماً قبل أن يخلق الخلق ويرحمهم، كريماً قبل أن يخلق الخلق ويكرمهم، متكلماً قبل أن يخلق الخلق ويتكلم معهم، ولازم قولهم أن نصف الله بالنقص؛ لأننا لو قلنا: إن هذه الصفة قد اكتسبها الله جل وعلا وكان قبل ذلك لا يستطيع الكلام، فهذا نقص ينزه عنها المخلوق فضلاً عن الخالق، ولو أن رجلاً دخل على أحد أقربائه أو أقرانه فلم يتكلم يوماً ثم يومين ثم ثلاثة ثم في اليوم الرابع تكلم، فليس لأحد أن يقول: إنه كان أبكم لا يتكلم، ثم تكلم بعد ذلك، بل إن هذا الرجل كان متكلماً بالقوة، ثم بعدما شاء أن يتكلم أصبح متكلماً بالفعل.(16/7)
السالمية
الطائفة الأخيرة: السالمية، قالوا: الكلام صفة ذاتية لا تنفك عن الله، وقد قال بذلك بعض الفقهاء وبعض أهل الحديث، وهذا مثل قول الكلابية، وقول الأشاعرة، والرد عليهم كما رددنا عليهم.
ولهم قول آخر وهو أن هذا الكلام حروفه ليست مرتبة ولا يسبق بعضها بعضاً.
والرد عليهم هو أننا عندنا نقرأ هذا الكلام الذي قرأه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءنا بالتواتر، فعندما نقرأ: بسم الله نبدأ بالباء، ثم بالسين، ثم بالميم؛ لترتيب الأحرف، فالوصل والقطع بين الأحرف لابد منه حتى تُنطق الكلمة عربية مفهومة بلسان عربي مبين.(16/8)
صفة العلو
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه 5]، دلت هذه الآية على صفة من أهم الصفات وهي صفة العلو لله جل وعلا، والعلو علوان: علو مطلق، وعلو مقيد.
العلو المطلق: هو علو الشأن وعلو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر والمكانة، وهو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله.
والعلو المقيد: هو علو الاستواء على العرش، فهذا علو مقيد بالعرش، وهو صفة فعلية وليست صفة ذاتية، لأنها تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو.
أما العلو المطلق فإن الله جل وعلا اتصف بعلو الذات، وعلو الشأن وعلو القهر، علو الشأن أي: علو المكانة، والقدر والتعظيم، هذا لم يختلف فيه أحد، قال الله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر:15] سبحانه وتعالى، له الكمال المطلق، والجلال المطلق، والعظمة المطلقة، وقد أنكر على أهل الكفر والإلحاد أنهم ما عظموه حق عظمته، ولا قدروه حق قدره، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، أي: تعظيماً وإجلالاً، وقال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
أما العلو الثاني من أنواع العلو المطلق فهو علو القهر وعلو الربوبية، وهذا أيضاً لم يختلف فيه أحد، فالله جل وعلا قهر عباده، وكل العباد تحت أمره، لا راد لأمره ولا لقضائه، قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وقال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] تحت قهر الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] فهذا علو القهر أيضاً لم يختلف فيه أحد.
أما علو الذات فحدث فيه الخلاف، ومعناه: أن الله عال بذاته على خلقه، وقد دل على ذلك أكثر من دليل من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، كما دل على ذلك العقل والفطرة.
أما الدليل من الكتاب فقول الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وقال: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، والقاعدة أن كل اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة من صفات الكمال، فاسم الله العلي اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة العلو، فهذه أول دلالة من دلالات أسماء الله في القرآن تثبت علو الله جل وعلا.
الدلالة الثانية التي تدل على العلو: الدلالة المقيدة العلو على العرش، قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} طه 5].
وقال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54].
وقال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] والاستواء يأتي في اللغة بمعاني فيتعدى بنفسه ويتعدى بإلى ويتعدى بعلى، ولكل معنى سنبينه عند شرح الآية.
أيضاً: من الدلالات على علو الله عز وجل: دلالة الفوقية، وتكون من لفظ العلو، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] فهذه دالة على علو الله جل وعلا، وقال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] فالملائكة فوقهم العرش، وفوق العرش الله جل وعلا، فدلالة الفوقية تدل على علو الله جل وعلا.
ومن الدلالات أيضاً: التصريح بالعندية، قال الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19] العندية هنا: فوق؛ لأن الملائكة في السموات، فعندية الله جل وعلا فوق السموات.
أيضاً: من الدلالات على علو الله على خلقه: الصعود، فالصعود يكون من أسفل إلى أعلى، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} [فاطر:10] من أسفل إلى أعلى، {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فالصعود والرفعة والعروج كل ذلك يدل على علو الله جل وعلا.
وقال الله تعالى عن عيسى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقال جل وعلا في سورة آل عمران: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:54 - 55] يعني: من السفول إلى العلو ورافعك من الأرض إلى السماء.
وقال جل وعلا: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:1 - 3] ثم فصل المعارج، فقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] أي: تصعد.
أيضاً: من الدلالة على علو الله: عكس الصعود، وهو النزول، لأن النزول يكون من أعلى إلى أسفل، قال الله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14] أنزل أي: من أعلا إلى أسفل وقال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:192 - 194]، فالتنزيل يكون من أعلى إلى أسفل.
أيضاً: من الدلالات على علو الله: (في) قال الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] ففي هنا تعني: الله جل وعلا في السماء، والسماء لا تظله ولا تقله، بل كل السموات والعرش تحته جل وعلا فلا بد من تأويل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] على ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الآية على معنيين: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: أأمنتم من في العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:60] فالمطر ينزل من السحاب، وسماه الله سماءً من السمو وهو العلو، فالسماء هنا بمعنى: العلو، {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:60] أي: من المزن وهو في العلو، إذاً: فهنا قول الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] معناه: أأمنتم من في العلو.
المعنى الثاني: أن في بمعنى على ولها مسوغ في اللغة، فهناك قرائن تدل على أن في تأتي في اللغة بمعنى على، قال الله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] أي: على الأرض، وليس معنى ذلك أن يشقوا الأرض ويسيروا في داخلها، وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] أي: على مناكبها، وقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} طه 71] أي: على جذوع النخل، هذه الأدلة من الكتاب.
أما الأدلة من السنة فقد قال ابن القيم: إنها وصلت إلى خمسين حديثاً كلها تدل على علو الله جل وعلا.(16/9)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الاستواء
من عقيدة أهل السنة أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، وقد دل على هذه الصفة القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والعقل والفطرة، والأدلة متكاثرة جداً على إثبات هذه الصفة، وقد أوصلها بعضهم إلى أكثر من ألف دليل.(17/1)
أدلة إثبات صفة الاستواء للرب جل وعلا(17/2)
دلالة السنة القولية على علو الله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فنستكمل سياق ما روي في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وقد ذكرنا أن علو الله جل وعلا علوان: علو مطلق وعلو مقيد.
ونأخذ الدلالات على علو الله تعالى، ثم نشرح معنى العلو المقيد، فالدلالات على علو الله جل وعلا تؤخذ من الكتاب ومن السنة، وتثبت بالعقل والفطرة وبالإجماع.
فدلالات علو الله جل وعلا من السنة وردت بالقول وبالفعل وبالتقرير، سواء بالصعود الذي يدل على الارتقاء إلى أعلى، أو بالنزول الذي يدل على الهبوط من أعلى إلى أسفل، أو بالإشارة، أو بالإقرار على أن الله فوق السماء، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج الطويل المشهور أنه عرج به إلى السماء السابعة حتى وصل إلى سدرة المنتهى، ففرض الله عليه خمسين صلاة، فرجع فنزل فكلمه موسى وقال: أمتك لا تقدر على ذلك.
ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم من عند موسى عليه السلام إلى الله عز وجل.
وهذا الارتقاء فيه دلالة على العلو، فإنه كان يرتقي إلى أعلى، إلى سدرة المنتهى، فيراجع ربه جل وعلا، حتى استحيا من ربه، ثم نزل وبلغ أمته أن الخمسين صلاة خففت إلى خمس صلوات بأجر الخمسين صلاة.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يلتمسون حلق الذكر، فيحفون الذين يطلبون العلم والذكر ثم يعرجون إلى الله جل وعلا).
يعني: يصعدون إلى أعلى، وهذا فيه دليل على علو الله جل وعلا، (فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ويهللونك) إلى آخر الحديث.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل وملائكة في النهار، فيجتمعون في الفجر والعصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم)، فالعروج من أسفل إلى أعلى، فهذه دلالة على أنهم يعرجون إلى الله جل وعلا، فالله في العلو فوق السماء.
وهناك نوع آخر من أنواع الدلالة وهو: النزول، والنزول لا يكون إلا من علو.
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (ينزل ربنا -نزولاً يليق بجلاله جل وعلا- إلى السماء الدنيا ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له).
ومن الأدلة في السنة على العلو: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عندما جاءه الخارجي وقال: اعدل يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟) أي: من على السماء.
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب).(17/3)
دلالة السنة الفعلية على علو الله عز وجل
النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى العلو مما يدل على أن الله في العلو، ففي خطبة حجة الوداع وقف النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بالأمة يرشدهم ويعلمهم أن ربا الجاهلية موضوع والدماء موضوعة إلى آخر الحديث، ثم قال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم هل بلغت؟ قالوا: نعم، فأشار بأصبعه إلى السماء ونكت بها إليهم، وقال: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد)، فهذه دلالة بالفعل على علو الله جل وعلا؛ لأنه كان يشير بأصبعه إلى السماء ويقول: (اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، اللهم فاشهد) وهذا فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: لا يجوز لأحد أن يشير بأصبعه إلى السماء!(17/4)
دلالة السنة التقريرية على علو الله عز وجل
في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه أنه كانت له جارية ترعى غنمه، فأخذ الذئب شاة منها، فتغيظ عليها فصكها في وجهها، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم آسفاً على ما فعل نادماً عليه، يريد أن يكفر عما فعل، فقال: يا رسول الله أعتقها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائتني بها) وهذه الجارية عمرها من ست إلى تسع، يعني: أن الفطر السليمة لا تنحرف بنفسها، إنما يؤثر عليها غيرها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالهتهم عن دينهم) أي: غيرت فطرهم السليمة، قال عليه الصلاة والسلام: (ائتني بها، فأتى بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة)، فوسمها بالإيمان لعلتين: العلة الأولى: اعتقادها علو الله، وإقرارها بأن الله على العرش عال فوق السماء.
والعلة الثانية: أنها أقرت برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فوسمها بالإيمان لما اعتقدت فوقية الله جل وعلا، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ففي هذا الحديث إقرار فوقية الله، وإثبات علو الله جل وعلا، وفيه فائدتان: الفائدة الأولى: السؤال عن الله بأين؛ لأن الأشاعرة يحرمون ذلك، وهكذا الجهمية أهل التعطيل يحرمون السؤال عن الله جل وعلا بأين، فهذا أكمل الخلق وأعبد الخلق وأعلم الخلق بالله جل وعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الله بأين، فيقول للجارية: (أين الله؟) فلما قالت: (في السماء) أقرها على ذلك، و (في السماء) هنا بمعنى على السماء، وآمنت برسالته، فقال: (اعتقها فإنها مؤمنة).
فهذه جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على العلو، وقد بلغت التواتر، فإنها تصل إلى نحو خمسين حديثاً تثبت علو الله جل وعلا.(17/5)
دلالة الإجماع على علو الله عز وجل
الدلالة الثالثة من دلالات علو الله جل وعلا الإجماع: فقد أجمعت الأمة على علو الله جل وعلا، وعلى رأس هذه الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الخلق برسول الله وبكلام رسول الله، وبمراد الله وبمراد رسول الله؛ فقد نزل القرآن عليهم بلسانهم العربي المبين، ولا خلاف بين العلماء أن الإجماع الذي يعمل به هو إجماع الصحابة، فأجمعت الصحابة على إثبات علو الله جل وعلا، فهذا أبو بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت فقبل بين عينيه وقال: (يا رسول الله طبت حياً وميتاً) ثم خرج في الناس وهم يتخبطون فهدأهم وقال: (عباد الله! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت).
فهذا إجماع سكوتي من الصحابة؛ فإنه قال: (فإن الله في السماء) يعتقد ذلك، والصحابة يسمعون أنه يقول: (إن الله في السماء) ويقرون كلامه.
أيضاً ورد عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه لما ذهب إلى بيت المقدس وكان على بعيره قالوا: لو ارتقيت برذوناً يعني لأجل أن الناس يهابونك ويعلمون أن لك مكانة وأنك أمير المؤمنين، فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه منكراً عليهم مشيراً إلى السماء: (الأمر من هاهنا لا من هاهنا) يعني: ليست المظاهر ولا المهابة ولا المكانات تحرك الناس أو تأتي بالنصر أو تأتي بالهزيمة، بل النصر من عند الله والتمكين من عند الله الذي هو في السماء، والتوفيق من الله جل وعلا الذي هو في السماء.
فهذا أيضاً رد على الأشاعرة الذين يحرمون الإشارة إلى السماء؛ فإنه أشار إلى السماء وقال: (الأمر من هاهنا وليس من هاهنا).
وفي رواية أخرى أنه مر في طرقات المدينة، فقابلته خولة بنت حكيم رضي الله عنها وأرضاها فقالت: (إيه يا عمر! كنت في مكة تسمى عميراً، يعني: تلعب مع الأطفال فتضربهم، ثم أصبحت عمر والآن يقال لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإن من خشي الموت أمن الفوت، ومن آمن بالوعد أمن من الوعيد، اتق الله يا عمر، فقال رجل: يا امرأة! أما تعرفين من تكلمين؟! تجرأت على أمير المؤمنين.
قال: دعها فإنها خولة بنت حكيم التي سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات) وقع هذا بمحضر من الصحابة وهم يسمعون قول عمر: (من فوق سبع سماوات) ولا منكر له منهم.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! إن المرأة كانت تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت يخفى علي بعض حديثها، والله يقول من فوق سبع سماوات: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]).
فقالت: (من فوق سبع سماوات).
وكانت زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
فهذا دليل على أن الصحابية الجليلة أم المؤمنين تعتقد أن الله فوق السماوات، وإقرار من أمهات المؤمنين على أن الله فوق السماوات.
وفي التحكيم: لما جاء سعد بن معاذ وحكمه رسول الله في بني قريظة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (احكم فيهم، قال: نعم، فقال: تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حكمت بما حكم به الله جل وعلا من فوق سبع سماوات)، فهذا اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الله جل وعلا فوق السماوات السبع.
وعن ابن مسعود بسند فيه كلام والراجح التصحيح قال: (ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة عام إلى السابعة، وما بين السابعة والكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والله فوق العرش، ولا يخفى عليه منكم شيء سبحانه وتعالى).
فهذه جملة من أقوال الصحابة رضوان الله عليهم تثبت الإجماع على فوقية الله جل وعلا، والكلام ما زال محصوراً في العلو المطلق.
ودخل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على عائشة وهي في النفس الأخير وهي تموت رضي الله عنها وأرضاها، فكان يفعل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله) فقال: أبشري يا أم المؤمنين! إنك حبيبة رسول الله، وزوجته في الجنة، وبرأك الله من فوق سبع سماوات، فهذا دليل على أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يعتقد هذه العقيدة والصحابة يقرون بها.(17/6)
دلالة العقل على علو الله عز وجل
الدلالة الرابعة على علو الله جل وعلا: دلالة العقل، وأقصد بالعقل: القياس، أو محض النظر، فأقول: دلالة العقل تدل على فوقية الله، وعلى علو الله جل وعلا بمقدمات ونتائج، من المقدمات: أن السفول صفة نقص والعلو صفة كمال، والقاعدة العريضة عند كل الناس بالاتفاق: أن صفات الكمال يتصف بها الله جل وعلا، فيكون العلو صفة من صفات الله جل وعلا دل عليها العقل؛ لأن السفول صفة نقص، والله سبحانه وتعالى منزه عن النقص.
ومن المقدمات والنتائج أن تقول: إن الله تعالى إما في العلو، وإما في السفول، فلو قلنا: إنه في السفول كان الكون فوقه، ولا يمكن السيطرة على ما يكون فوقه، فلزم أن يكون في العلو؛ لأنه هو الذي يدبر الكون، كما قال عز وجل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2]، فهذا التدبير يكون من علو.(17/7)
دلالة الفطرة على العلو
الدلالة الخامسة والأخيرة على علو الله جل وعلا: دلالة الفطرة، فما من أحد إلا وهو مجبول مفطور على علو الله جل وعلا، ولا ترى أحداً ضاق به المقام، أو نزلت به نازلة إلا وقلبه يهفو إلى أعلى، ونظره إلى السماء، وكأن القلب يحوم حول العرش، ودائماً ترى الراقي الذي يتعبد لله جل وعلا يسمو بروحه إلى السماء.
فدلالة الفطرة تثبت علو الله جل وعلا في أكثر من نوع: فعندما تمر بالمرء ضائقة أو نازلة وأراد أن يدعو تراه يرفع يديه إلى أعلى، وهذه دلالة على أنه يدعو من في العلو، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما قال: (اللهم وعدك الذي وعدت، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت، اللهم نصرك، وكان يرفع يديه حتى سقط رداؤه من على كتفيه) ولما دخل عليه الرجل، وقال: جاعت العيال وهلك الزرع ادع الله لنا أن يسقينا، رفع يديه إلى السماء، ولم ينزل حتى تحدر المطر من على لحيته.
فالشاهد: أنه رفع يديه لله جل وعلا، فهذه فطرة الإنسان تراه يرفع يديه عند الدعاء وقلبه معلق بمن في السماء.
وإذا أراد شيئاً ينظر إلى السماء مضطراً إلى ذلك، فسيد الخلق كان يحب أن يحول الله القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فكان يديم النظر إلى السماء، قال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] فهو كان ينظر إلى أعلى؛ لأنه يعلم أن الله في العلو، فهذه دلالة الفطرة.
وقد ورد بسند مختلف فيه، والراجح -والله أعلم- التصحيح: (أن سليمان ذهب ليستسقي، فلما ذهب ليستسقي ومعه حاشيته رأى نملة رافعة قوائمها، كأنها ترفع يديها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، اللهم اسقنا، فقال: ارجعوا فقد كفيتم بغيركم) فهذه النملة خلق من خلق الله جل وعلا تعلم بفطرتها أن الله في السماء.
وهناك قصة طريفة جداً لـ أبي المعالي الجويني لما كان يجلس في مجلس العلم، فجلس معه الهمداني فقال: كان الله وما كان العرش -أي: أن العرش ما كان مخلوقاً، بل كان الله وحده- والآن الله على ما كان قبل وجود العرش، ويؤول العرش بالملك، ويقول: ليس بمستوٍ على عرشه، فهو ينفي العلو، فقال له الهمداني: يا أستاذ! أريد منك إجابة، ما الذي يحدث معنا ضرورة في القلب إذا قال العارف بالله: يا ألله! يتجه قلبه ضرورة إلى السماء؟! فضرب أبو المعالي على رأسه وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني؛ لأنه يجد ذلك في قلبه ولا يستطيع أن يدفعه.
فبالفطرة تعلم أن الله عال في السماء بائن من خلقه جل وعلا.
هذا هو العلو المطلق، وهو علو الذات وعلو الشأن وعلو القهر، فعلو الشأن وعلو القهر اتفقت عليه جميع الطوائف، أما علو الذات فاختلفت فيه الطوائف كما سنبين.
والعلو المقيد هو علو الله على العرش، كما قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، والعلو المطلق صفة ذات، والعلو المقيد صفة فعل، أي: تتعلق بمشيئة الله جل وعلا؛ إن شاء استوى، وإن شاء لم يستو.
س(17/8)
معاني الاستواء
قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الاستواء يأتي في اللغة على ثلاثة أوجه: إما أن يتعدى بنفسه أو يتعدى بإلى أو يتعدى بعلى، فإذا تعدى بنفسه يكون بمعنى اعتدل وقام، أو اعتدل قائماً، يفهم هذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (استووا ولا تختلفوا) أي: اعتدلوا حال كونكم قائمين، ويتعدى بإلى فيكون بمعنى القصد، وهذا هو الذي يؤوله المعطلة والمعتزلة والجهمية، وتكون على بمعنى إلى فيكون معنى استوى إلى كذا أي: قصد كذا، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] وليس معنى استوى إلى السماء علا وارتفع، بل المعنى: قصد السماء ليخلقها.
ويتعدى بعلى كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وتكون على أربعة معان: علا وارتفع وصعد واستقر.
وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة الرحمة وهي صفة ذاتية، يعني: أزلية أبدية لا تنفك عن الله جل وعلا، والعرش هو السقف الذي أحاط بالسماء، وهو في اللغة: السرير الخاص بالملك، والله جل وعلا وصف عرش ملكة سبأ بأنه عظيم فقال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] فكيف بعرش الله جل وعلا؟ فالعرش هو السرير الخاص بالملك، وهو سرير عظيم وصفه الله بالعظمة والمجد فقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، وقال جل وعلا: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] فوصفه بالكرم، وفي قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] وصفه بالعظمة، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فرأيت موسى متعلقاً بقوائم العرش)، فدل هذا الحديث على أن للعرش قوائم، ويحمله ثمانية ملائكة، ويؤول أهل البدع العرش بالملك فيقولون: العرش معناه: الملك، فنقول لهم: هذا لفظ ظاهر قد صرفتموه عن ظاهره، فما القرينة الصارفة له عن ظاهره؟ وهل يصح أن نقول: الرحمن على الملك استوى؟! حاشا لله، فهم يقصدون بذلك أن تقول: الرحمن على الملك استولى كما سنبين تأويلاتهم الباطلة.
وأيضاً هذا التأويل تأباه النفس، وقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] فهل معنى هذا يحمل ملك ربك؟! وفي الحديث: إن موسى عليه السلام رآه النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بقوائم العرش.
فهل معنى ذلك: أن موسى مسك وقبض على قوائم الملك بيده، لا بقوائم العرش؟! فهذا رد عليهم.
والحديث الموقوف على ابن مسعود: بين (الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام) وصح أن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين)، فما بالكم بالعرش؟!(17/9)
العرش مخلوق قبل السماوات والأرض
هل خلق الله العرش أولاً أم السماوات والأرض؟ قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، ففي هذه الآية الترتيب الزمني للاستواء لا للخلق؛ لأن هناك آية أخرى أثبتت أن العرش خلق قبل السماوات، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ} [هود:7] أي: وكان عرشه على الماء حين خلق السماوات والأرض، إذاً العرش مخلوق قبل الأرض.(17/10)
ذكر بعض الأدلة على علو الله عز وجل
ثم ساق المؤلف الأدلة على علو الله التي تكلم عنها سابقاً ومنها قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] وفي هذه الآية التصريح بالفوقية.
ثم سرد المؤلف الأحاديث من السنة، ومنها خمسة أحاديث ضعيفة، وسنأخذ بعضها ونعلق عليها تعليقات مهمة، فمن هذه الأحاديث الحديث رقم ستمائة وأربعة وخمسين، وفيه ضعف في سنده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)، الشاهد من هذا الحديث (رفع نظره إلى السماء)، والنظر من دلالة الفطرة.
والحديث ستمائة وسبعة وخمسون: عن ابن مسعود: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء)، وجه الدلالة في قوله: (في السماء) التي بمعنى على السماء.
والحديث ستمائة وثمانية وخمسون قال عمر: والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه إلى مشرك ثم نزل إليه على ذلك، ثم قتله لقتلته به.
يعني: جعلته في ذمة الله وأعطيته الأمان بإشارتك إلى السماء، كأنه يقول: الله يشهد بيني وبينك أني أعطيتك الأمان فغرر به؛ لأنه أشار إلى السماء فضمنه ذمة الله جل وعلا، فلما نزل قتله، قال عمر: أقتله به؛ لأنه غرر بالرجل، فوجه الشاهد من الأثر أنه قال: (أشار إلى السماء) أي: يعطيه ذمة الله جل وعلا الذي في السماء.
وهنا خلاف فقهي هل يقتل المسلم بالمستأمن؟ الراجح أن المسلم لا يقتل بكافر ولو كان مستأمناً أو ذمياً، والأحناف فقط يقولون: يقتل به.
وكلامهم ضعيف واستدلالاتهم أضعف، ويحمل هذا الأثر على أن عمر رضي الله عنه وأرضاه رأى أنه يقتله بالتغرير وبالخيانة، فهو قتل تعزير لا قصاص؛ لأن في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، ثم قال: فإن أرادوك على ذمة الله فلا تفعل وأنزلهم على ذمتك، فإنك إن تخفر ذمتك خير لك من أن تخفر ذمة الله جل وعلا)، والأثر موقوف على عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويقدم عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! وقد قال رسول الله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم) ومفهوم المخالفة لقوله: (تتكافأ دماؤهم) أن غير المسلمين لا تتكافأ دماؤهم مع المسلمين، ولا يقتل مسلم بذمي لكنه يعتبر عاصياً.
والحديث الأخير، في تفسير هذه الآية: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] قال ابن عباس: لم يستطع أن يقول: من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم.
وسئل مالك عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا الكلام أصله لـ ربيعة الرأي شيخ مالك، وأصله موقوف على أم سلمة، وبعضهم رفعه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية أي: أنه أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً على أم سلمة، فالاستواء في اللغة معلوم المعنى، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقد سئل الإمام مالك: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فقال: هو على عرشه كما أخبر، فقال السائل: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه إنما معناه استولى.
قال: اسكت! ما أنت وهذا؟! لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى.
وهذه صفة نقص، وكأن الله جل وعلا نازعه أحد فأخذ منه الملك، ثم استولى بعد ذلك على الملك، حاشا لله.(17/11)
استغناء الله عز وجل عن العرش
إن قيل: هل الله تعالى محتاج للعرش وحملته؟ قيل: ليس فوقيته كفوقية العباد، فالعرش ومن يحمل العرش يحتاجون إلى الله جل وعلا، والله هو الغني، والله لا يحتاج إلى العرش، بل صفة الاستواء لحكمة من عند الله جل وعلا، وهي صفة كمال تدل على أن الله إن شاء أن يفعل شيئاً فعله.
وإن قيل: هل العرش يخلو منه سبحانه وتعالى؟ قيل: لا، بل العلماء قالوا: ينزل من عرشه ولا يخلو منه العرش؛ لأن الله ينزل بكيفية يعلمها الله جل وعلا، فالله ينزل نزولاً يليق بمقامه وجلاله وكماله، ولا نقول: يخلو منه العرش، ولا نعرف كيفية النزول، فالسماء لا تظله ولا تقله بحال من الأحوال.(17/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على أهل البدع في مسألة العلو وما يتعلق بها من مسائل
موضوع صفات الله عز وجل مزلة أقدام لمن انحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، وقد انقسمت حولها الفرق وتشعبت، ما بين غالٍ وناف ومثبت ومجسم، ومؤول ومحرف ومعطل ومشبه، وكان ذلك كله ناتجاً عن تحكيم العقول في قضايا الغيب، وعدم التسليم للنصوص، وعدم الوقوف على ما وقف عليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان.(18/1)
صفة العلو، والأدلة عليها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله [باب: ما روي في سياق قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]].
علو الله جل وعلا علوان: علو مطلق، وعلو مقيد، فأما العلو المطلق فهو صفة ذاتية من صفات الذات، وأما العلو المقيد فصفة فعلية.
قال الإمام اللالكائي رحمه الله تعالى: [كنا عند أبي سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعربي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقال: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه إنما معناه استولى -إذاً أول الاستواء بالاستيلاء-، قال: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه إنما معناه استولى، قال: اسكت ما أنت وهذا، لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى، ثم ذكر بيت النابغة].
إن علو الله جل وعلا على عرشه لا ينافي قربه منا، ولا ينافي علمه وإحاطته بنا، فسبحانه جل وعلا يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، لا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره ولا جبل ما في وعره، فإن الله جل وعلا يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء سبحانه وتعالى! وهو علي في قربه، قريب في علوه فقد أثبت الله جل وعلا أنه عال على العرش، والعرش فوق السماء، وأثبت أيضاً قربه من العباد، فقد قال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فقربه هنا قرب سمع وإجابة وإحاطة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم! إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً).
أي: قريب منكم، يسمع دعاءكم فيستجيب لكم سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء).
الباطن الذي يعلم بواطن الأمور، فالله جل وعلا قريب من العباد، يعلم ما هم عليه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويثبت ذلك جلياً قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه موقوفاً عليه: (ما بين كل سماء وأخرى خمسمائة عام، وما بين السماء الأخيرة إلى الكرسي خمسمائة عام، وما بين الكرسي والعرش مسيرة خمسمائة عام، والله فوق ذلك، -يعني: فوق العرش- ويعلم ما أنتم عليه).(18/2)
ثمرات الإيمان بصفة العلو
الفائدة من تعلم واستيقان علو الله جل وعلا هي: أن العبد إذا علم أن الله علي بذاته، علي شأنه، قدير جليل عظيم فإنه كلما أخطأ في حقه استحيا منه، ولم يأت بما أتى به المشركون، كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13].
وإذا علم العبد شأن الله الجليل العظيم فإنه سيوقره أحسن التوقير، وسيبجله أعظم التبجيل والتعظيم سبحانه وتعالى.
وأيضاً إذا علم العبد واستقر في قلبه ونفسه علو الله جل وعلا فإنه تعلو همته ويحب كل علو، سواء كان علو همة أو علو عبادة أو علو مكانة، فيرتقي بذلك تعبداً لآثار هذه الصفة، وهي صفة العلو لله جل وعلا، وكذلك إذا علم العبد أن الله علي عال على عباده بقهره وقوته فإنه لن يخاف إلا من الله جل وعلا، ولن يرتجف قلبه إلا من الله جل وعلا، ولن يذل إلا لله جل وعلا، ولن يتوكل إلا على الله، ولو اجتمعت جيوش الكفر كلها على أهل الإسلام فلا يعبأ بهم؛ لأنه يعلم أن الله فوقهم قاهر، وأن الله جل وعلا عال بذاته، قاهر لكل عبد من عباده، بربوبيته جل وعلا، وإذا أراد أن يجعل هذه الدنيا عاليها سافلها جعلها كذلك فلا يخاف إلا من الله، حتى لو أرجف المرجفون وقالوا: جمعوا وجيشوا الجيوش عليكم، فتسمو أرواحهم وتحوم قلوبهم حول عرش الرحمن؛ لأنهم يعلمون أنه القاهر القادر الرب الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا نستيقن بعلو الله جل وعلا، ونتعبد له بأثر هذه الصفة، التي إذا تعبدنا له بها استحيينا منه، فلا نبادره بالمعاصي، وإن وقعنا استغفرنا، ورددنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تغفر تغفر جماً)، أي: ذنباً جماً (وأي عبد لك ما ألما) فالله جل وعلا غفور رحيم، وعلو قهره يجعلك تستغفره مستحيياً منه خائفاً منه جل وعلا.(18/3)
إنكار أهل البدع لصفة العلو
أهل البدع أولوا في هذه الصفة، قال اللالكائي: أولوا (استوى) باستولى، وهناك فرقتان من أهل البدع أولوا هذه الصفة.
الفرقة الأولى: الجهمية المعطلة، وهؤلاء هم نفاة الصفات.
فينفون الاسم والصفة.
وقد انتحلوا مذهب الحلولية، فنفوا أن يكون الله جل وعلا على عرشه، وقالوا: هو في كل مكان.
أي: معي ومعك ومع الآخر، ومع هذا في بيته، ومع الآخر في متجره، وهنا في هذه البلدة مع الناس، ومعهم في فلسطين، ومعهم في مصر، ومعهم في أي ناحية من هذه الأمصار.
وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان.
وقالوا: عندنا في ذلك الأدلة القوية التي تثبت هذا.
قالوا: وهذه الأدلة: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3].
وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
وأما من السنة فقالوا: جاء في الحديث القدسي قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم قال في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، قالوا: فهذه دلالة على أن الله جل وعلا معه بسمعه وبصره ويده التي يبطش بها، فأولوا هذا الحديث على الحلول والعياذ بالله، هؤلاء هم الجهمية المعطلة الذين نفوا علو الله على العرش، وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان.
وقبل أن نرد عليهم نقعد قواعد مهمة جداً لطلبة العلم، نسير على هذه القواعد لنصد أي بدعة وأي تحريف أو تأويل.(18/4)
قواعد مهمة في باب الأسماء والصفات
أهل البدع أولوا في هذه الصفة، قال اللالكائي: أولوا (استوى) باستولى، وهناك فرقتان من أهل البدع أولوا هذه الصفة.
الفرقة الأولى: الجهمية المعطلة، وهؤلاء هم نفاة الصفات.
فينفون الاسم والصفة.
وقد انتحلوا مذهب الحلولية، فنفوا أن يكون الله جل وعلا على عرشه، وقالوا: هو في كل مكان.
أي: معي ومعك ومع الآخر، ومع هذا في بيته، ومع الآخر في متجره، وهنا في هذه البلدة مع الناس، ومعهم في فلسطين، ومعهم في مصر، ومعهم في أي ناحية من هذه الأمصار.
وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان.
وقالوا: عندنا في ذلك الأدلة القوية التي تثبت هذا.
قالوا: وهذه الأدلة: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3].
وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
وأما من السنة فقالوا: جاء في الحديث القدسي قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، ثم قال في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها)، قالوا: فهذه دلالة على أن الله جل وعلا معه بسمعه وبصره ويده التي يبطش بها، فأولوا هذا الحديث على الحلول والعياذ بالله، هؤلاء هم الجهمية المعطلة الذين نفوا علو الله على العرش، وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان.
وقبل أن نرد عليهم نقعد قواعد مهمة جداً لطلبة العلم، نسير على هذه القواعد لنصد أي بدعة وأي تحريف أو تأويل.(18/5)
معنى التأويل
القاعدة الأولى: التأويل قسمان: قسم مقبول، وقسم باطل مردود.
والقسم المقبول: له تعريفان، أولاً: تعريفه في اللغة: التأويل: هو حقيقة الشيء.
وثانياً: في الاصطلاح: له معان عدة:(18/6)
من معاني التأويل الحقيقة التي يئول إليها
المعنى الأول: هو ما يئول إليه الشيء يعني: حقيقة الشيء.
فتحقق هذا الأمر بمعنى الحقيقة التي يدل عليها، أو يئول إليها، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف:53] ففي عرصات يوم القيامة يئول لهم حقيقة ما أخبركم به النبي صلى الله عليه وسلم أنكم ستقفون عند الله جل وعلا ليس بينكم وبين الله ترجمان، فيسألكم عما فعلتم، وفي مالكم كيف أنفقتموه، وكل لحظاتكم وسكناتكم وحركاتكم ستسألون عنها، فترون النار عين اليقين، وكذلك الجنة عين اليقين.
فهذا هو المعنى الأول للتأويل، وهو: حقيقة الأمر الذي يئول إليه، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهَُ} [الأعراف:53] أي: على حقيقته التي سردها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم.(18/7)
من معاني التأويل التفكير
المعنى الثاني للتأويل بمعنى: التفكير؛ أي: فهم الدلالة من النص والعمل به.
كما قال ابن عباس في تفسير هذه الآية الكريمة في سورة آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7].
قال ابن عباس: لك أن تصل ولا تقف.
فتقول: لا يعلمه إلا الله والراسخون، يعني الراسخون أيضاً يعلمون هذا التأويل.
بمعنى: أن الراسخين يعلمون تفسير ذلك.
فالله يعلم المعنى والدلالة، وأيضاً العلماء يعلمون الدلالة، وتفسير هذه الآية كما في الحديث الذي في مسلم عن جابر وفيه (والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله، فيعمل به ونعمل بما عمل به) يعني: يعلم الدلالة من الآيات إن كان أمراً أو نهياً، فنحن نتعلم ذلك منه ونعمل به.(18/8)
التأويل عند الأصوليين
المعنى الثالث عند أهل السنة والجماعة من معاني التأويل، وهو المعروف عند الأصوليين: صرف اللفظ عن ظاهره بقرينة تثبت هذا الصرف.
يعني: صرف اللفظ من الراجح إلى المرجوح بقرينة أو بدليل يثبت أن المراد من هذه الآية أو من هذا الحديث هذا اللفظ المرجوح.
كأن نقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً.
فظاهر النهي التحريم، وهذا الأصل.
فإذا جاءت قرينة فصرفت النهي من التحريم إلى الكراهة سمي هذا تأويلاً.
أي: تأويل من ظاهر النص الراجح إلى المرجوح.
وهذا التأويل لا بد أن يكون له مسوغ في اللغة، وله قرينة من الشرع.
فإذاً التفسير الثالث للتأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى المرجوح بقرينة، يعني: من الحقيقة إلى المجاز مثل قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، فالساق هنا لم تضف إلى الله، فلا تستطيع أن تقول: إن الساق المراد بها هنا: ساق الله جل وعلا.
إلا أن تأتي قرينة تثبت أن الساق ساق الله جل وعلا.
وقد ورد عن ابن عباس أثر في ذلك وفيه ضعف.
والغرض المقصود من ذلك أنه قال: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))، يعني: هل من الموقف على الصراط أو من موقف يوم القيامة؟ وفي اللغة مسوغ لذلك، فإنهم يقولون: اشتدت ساق الحرب، يعني: حمي الوطيس وهول الحرب، فهذا المسوغ قد أصبح ظاهراً.
إذاً: فهذا له مسوغ من اللغة.
والصحيح: أن الساق المذكورة هنا هي: ساق الله جل وعلا؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والغرض المقصود: أنه من الممكن أن يئول اللفظ الظاهر بالقرينة، يعني: من الحقيقة إلى المجاز.
هذا القسم الأول، وهو التأويل الصحيح.(18/9)
التأويل الباطل
التأويل الباطل المردود هو: تأويل اللفظ الظاهر عن ظاهره بدون مسوغ لا بقرينة من اللغة ولا من الشرع ولا من العرف.
فهذا التأويل باطل ومردود.
مثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الله)، أو (حتى يضع رب العزة رجله في النار فتقول: قط قط!).
فقد أول أهل البدعة والضلالة الرجل بالطائفة من الناس، فقالوا: الرجل معناها الطائفة من الناس، يعني: حتى يضع الله طائفة من الناس في النار فتقول: قط قط، فهذا باطل ومردود؛ لأنه لم يرد عن أهل اللغة وأهل العربية الأقحاح أن: الرجل معناها الطائفة من الناس.
فهذا تأويل باطل مردود.
وكذلك تأويل أهل البدع لاستوى بمعنى: استولى، فإنه لا مسوغ له في اللغة، حتى بيت الشعر الذي احتجوا به فيه مقال، وهو شعر لرجل نصراني وليس بعربي، فهذا التأويل تأويل باطل.
إذاً: التأويل منه ما هو مقبول، وهو: التأويل الصحيح، ومنه ما هو باطل مردود، يرد على صاحبه.
فلا بد من النظر في تأويلات القوم هل هي تأويلات باطلة مردودة أم هي تأويلات مقبولة لهم فيها مسوغات؟(18/10)
كلام الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تناقض
القاعدة الثانية: كلام الله جل وعلا لا اختلاف فيه، قال الله جل وعلا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فكلام الله لا اختلاف فيه ولا تناقض، فإذا أثبت الله شيئين فهما ثابتان لإثبات الله لهما، وإذا نفى شيئين فهما منفيان لنفي الله لهما، وإذا كان العقل لا يقبلها فنقول له: قف عندها، واجعل عقلك خلف ظهرك، لأن الله سيعلم ذلك لبعض أناس فيعلمونك الذي لم يقبله عقلك.
وهذه القاعدة مهمة جداً في الرد على أهل البدع.(18/11)
الرد على الجهمية المعطلة أهل الحلول
نرجع إلى أهل البدع وهم الطائفة الأولى الذين أولوا الاستواء وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان، وعطلوا العلو وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان، معي ومعك، ففي أي مكان كنت فالله معك، واستدلوا بهذه الآية العظيمة وهي قول الله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)).
ونقول في الرد عليهم: أولاً: خالفتم ظاهر القرآن؛ لأن المعية لا تستوجب المخالطة، وخالفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يفسر ذلك كما فسرتموه، وخالفتم إجماع الصحابة؛ لأن الصحابة أجمعوا على أن المعية هي معية العلم والإحاطة، هذا الرد إجمالاً.(18/12)
معنى المعية
أما الرد بالتفصيل فنقول: إن المعية معيتان، وموجب المعية في اللغة على قسمين: القسم الأول: معية تستلزم المخالطة والمماسة، كأن تقول: الشاي مع الحليب، فهذه تستلزم الحلول والمخالطة.
أو تقول: الملح مع الماء، فهذه أيضاً تستلزم المخالطة.
القسم الثاني: لا تستلزم المخالطة، بل هي بمعنى: مطلق المصاحبة.
كما تقول العرب: سرت والقمر، يعني: سرت مع القمر، ولا قائل بأن القمر نزل من عليائه فوضع يده في يد الرجل الذي كان معه فتسامرا في الليل، وإنما سار معه القمر وهو في عليائه، فهذه معية بمعنى مطلق المصاحبة، أو تقول: سرت والنيل، فالواو هنا واو المعية، يعني: سرت مع النيل، ولم يخرج النيل من مجراه يسير مع الرجل.
وإنما هذه المعية بمعنى: مطلق المصاحبة.
إذاً: معية الله جل وعلا في هذه الآية: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) تحتمل أن تكون المعية التي تستلزم المخالطة والمماسة؛ لأن لها مسوغاً في اللغة أو أنها تكون بمعنى مطلق المصاحبة، دون استلزام المخالطة، والذي يرجح لنا أحد الاحتمالين هي: القرائن المثبتة، والقرائن هنا: أولاً: القاعدة المعروفة التي تكلمنا عنها آنفاً، وهي: أن القرآن لا اختلاف فيه.
وقد أثبت القرآن بأن الله في عليائه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وأثبت أنه في السماء، فقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أي: من على السماء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!).
وقال صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء).
فهذه الأدلة أثبتت فوقية الله جل وعلا، وعلوه على عرشه، ثبوتاً راسخاً ودلالة قطعية متواترة.
وقد تواترت الأدلة من القرآن والحديث وأجمع الصحابة على علو الله، وأن الله فوق العرش.
إذاً: هذه المعية حق؛ لأن الله أثبتها كما أثبت علوه على عرشه، وأثبت أيضاً معيته لعباده، فقال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)).
إذاً: فقد أثبت القرآن أن الله فوق العرش وليس في الأرض.
وأنه في السماء جل وعلا، وهم يقولون: في كل مكان، في السماء وفي الأرض، وفي البحر وفي الجبال، وفي كل مكان.
فنقول لهم: أخطأتم، فقد أثبت الله في كتابه العزيز أنه في السماء، وتردد الاحتمال بين معية المخالطة ومعية مطلق المصاحبة لا أثر له؛ لأنه ثبت بالأدلة أن الله فوق السماء.
إذاً: المعية هنا معية مطلق المصاحبة.(18/13)
المعية معيتان
إن معية الله جل وعلا معيتان: معية عامة، وهي معية الإحاطة والعلم والإحصاء، ويدل على ذلك قول الله جل وعلا في هذه الآية في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] أي: بعلمه.
{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
فبدأ بالعلم، ولا بد أن تكون النتيجة مرتبطة بالمقدمة.
فالمقدمة كانت بالعلم، ولا بد أن تكون النتيجة بالعلم.
فمعنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] أي: بعلمه وإحصائه وإحاطته جل وعلا.
كما قال في الآية الأخرى: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] أي: أحصى ما هم عليه من العمل.
وقال الله تعالى في نفس هذه الآية، وهذه أوضح آية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [المجادلة:7]، فبدأها بالعلم، وختمها بالعلم.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، ومطلق المصاحبة تستلزم علم وإحاطة، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، أي: بعلمه؛ لأنه يعلم ما في السماوات والأرض، {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7]، أي: بعلمه، {أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
وختمها بالعلم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
فابتدأها بالعلم وختمها بالعلم فدلت هذه المقدمة والنتيجة على أن المعية المذكورة في هذه الآية هي معية العلم والإحاطة.
وهذه المعية العامة يستوي فيها المؤمن والكافر.
المعية الخاصة هي معية النصرة والتأييد، ينصر الله بها عباده المؤمنين، ولا يمكن أن يصل عبد إلى هذه المعية إلا بتقوى الله والإيمان والإسلام، قال الله تعالى حاكياً عن موسى عندما قال فرعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56].
قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:57].
ثم قال عن موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فمعية المصاحبة هنا تستلزم النصرة والتأييد، ((إِنَّ مَعِيَ رَبِّي)) أي: بنصره وتأييده وإحاطته، والنبي صلى الله عليه وسلم لما حبس في الغار مع أبي بكر رضي الله عنه قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا.
فقال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).
قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أي: بنصره وتأييده وكفايته جلا وعلا.
نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعلى إخواننا المسلمين بهذه المعية، معية النصرة والتأييد.
إذاً: الله جل وعلا معنا، وهو فوق عرشه.
هذا الرد الأول على هذا الاستدلال الذي استدلوا به.(18/14)
اللوازم الباطلة على القول بأن الله في كل مكان
وكما رددنا عليهم بالنص نرد عليهم بالعقل، فنقول: قولكم هذا له لوازم باطلة، ولازم الباطل باطل.
ومن هذه اللوازم الباطلة على قولهم: إن الله في كل مكان أنه يكون معنى قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: وأنت في بيتك فهو معك، وفي الحمام معك، وفي البحر معك، وفي الأسواق معك، فهو معك في كل مكان! إذاً: فاللازم الباطل الأول هو قولكم في تفسيركم ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)): في كل مكان، وتجعلون الله في الأماكن التي يتعالى عنها العبد الذي هو معروف نهايته، فمن باب أولى أن يتعالى عنها الرب جل وعلا.
إذاً: هذا لازم باطل، وهو أن الله في كل مكان، أي: في مكان القاذورات، وفي الحمامات، وهذا اعتقاد مزري، يعني: ما يقبله عاقل أبداً.
اللازم الثاني من اللوازم الباطلة في هذا القول: أنك إذا قلت: إن الله معي هنا ومعك في البيت ومعه في المتجر ومعه في فلسطين ومع الآخر في مصر وآخر في أميريكا وآخر في فرنسا فمعنى هذا أنه جل وعلا يتجزأ، وحاشا لله أن يكون كذلك.
اللازم الثالث من اللوازم الباطلة: اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير وعدم البيان، والله جل وعلا ما أنزل عليه القرآن إلا ليبين لهم ما أنزل إليه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
وإذا لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسير هذه الآية ومدلول هذه الآية: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أنه في كل مكان، فقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير كفر؛ لأنه بلغ وقال: (هل بلغت؟! اللهم فاشهد!)، والله عز وجل يقول: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
فإن لم يبلغ واتهم بالتبليغ فهذا كفر والعياذ بالله، وهذا من اللوازم الباطلة.
وهذا أول رد عليهم في هذه الآية.(18/15)
معنى قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض)
فإن قالوا: عندنا دليل آخر أقوى من هذا الدليل لا تستطيعون الرد عليه، وهو قول الله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ))، والواو للعطف، فيكون المعنى: هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وهذا يدل على أن الله جل وعلا في كل مكان! فنقول لهم أولاً: القرآن لا يتضارب، وقد أثبتنا بالدليل المتواتر أن الله فوق العرش، ويعلم ما نحن عليه، كما أجمع الصحابة والتابعون وتابعو التابعين على ذلك، فإذا قد أثبتنا بالتواتر أن الله فوق العرش فإن ظاهر هذه الآية: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) تتساوى مع أن الله فوق العرش فقط، فنقر بهذه، ولكن ما نقر بالثانية، وهي: أن الله في الأرض.
يعني: هذه الآية بالتواتر أثبتت أن الله فوق السماء، يعني: على العرش فوق السماوات، أما في الأرض فلا نقر؛ لأن الآيات الثابتة ثبوت الجبال الرواسخ لا تقر هذا الكلام، وهو أن الله في الأرض، وحاشا لله أن يكون كذلك، هذا الرد إجمالاً.
أما التفصيل فنقول: أولاً: الاستدلال بهذه الآية بعيد جداً من ناحية دلالات الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ لأن القاعدة في أسماء الله جل وعلا: أن كل اسم من أسماء الله هو اسم من الأسماء الحسنى، ومن تمام الحسن: أنه يتضمن صفة كمال، فالرد على الاستدلال بهذه الآية من الدلالات: أن قول الله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ))، أن الله اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة الإلهية.
وصفة الإلهية تعني: أنه إله، يعني: تألهه القلوب وتحبه وتعبده الأبدان والقلوب.
إذاً: فقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) يعني: أنه المألوه المحبوب في السماوات، المعبود فيها، وهو الله في الأرض، أي: المألوه المحبوب المعبود في الأرض.
إذاً: أول رد عليهم من دلالات الأسماء، فإن اسم الله الأعظم الله يتضمن صفة الإلهية، وصفة الإلهية تعني: أنه هو الذي تألهه القلوب، يعني: تعبده القلوب وتحبه، فالله مألوه، يعني: معبود في السماوات وفي الأرض.
فإذاً: هذه الآية حق على ظاهرها، وهذا تأويل بالقرائن.
الرد الثاني: وهو من القراءات المتواترة، فهناك وقف لازم عند قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ))، فيوقف وقفاً لازماً؛ لأن الآية بعد ذلك مستأنفة، وليست معطوفة مرتبطة بالتي قبلها.
فنقرأ: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ))، ثم نسكت، وهذا قول ابن جرير، فنقف على (السماوات) ثم نستأنف: (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) فقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)) قد دلت الأدلة على أن الله في السماوات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، وفي سؤاله للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16].
فكل هذا يتواكب مع قول الله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ)).
ثم نستأنف: ((وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ))، وهذا موافق لنص حديث ابن مسعود الموقوف: (الله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه).
وقد نقل عن الإمام أحمد وأنس بن مالك والإمام الشافعي في عقيدة أهل الحديث: أن الله في عليائه فوق العرش، ويعلم ما أنتم عليه، علمه لا يخلو منه مكان.
إذاً الرد الثاني: أننا نقف وقفاً لازماً عند قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ))، والأدلة كلها قاطبة تؤكد هذا، ثم نستأنف ((وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ))، يعني: مع أنه فوق السماء فإنه يعلم ما أنتم عليه، ولا تخفى عنه خافية.
الرد الثالث على ذلك: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، أننا لو قلنا: إن الله جل وعلا في السماوات وفي الأرض دل ذلك على أن الله في كل مكان، ويلزم منه اللوازم الباطلة التي سبق أن سردناها.(18/16)
معنى قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)
قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84].
قلنا: الجواب عن هذه الآية مثل الرد على التي قبلها، والذي يعضد ما نقول حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية في سنن أبي داود قال: (ربنا أنت في السماء، رحمتك في السماء، فأنزل رحمتك في الأرض)، وفي رواية: (أمرك في السماء) أي: شرعك في السماء، وأمرك في الأرض.
فقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: إله في السماء يأمر وينهى، فيسمع ويطاع ويعبد، كما في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما بين أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع)، ومنهم الذي يحوم حول العرش، ويسبح لله جل وعلا، ومنهم الراكع، ومنهم الساجد، فهو الإله في السماء يأمر وينهى ويدبر الشئون، ويسمع له ويطاع، وهو إله في الأرض، أي: يأمر وينهى، ويسمع ويطاع شرعاً لا كوناً؛ لأن الله قدر كوناً أن بعض العباد يكفرون بأمره الشرعي.
وهذا هو الرد على هؤلاء الذين نفوا معية الله، ونفوا علوه جل وعلا على عرشه، وقالوا: إن الله جل وعلا في كل مكان، واستدلوا بقول الله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وبقوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ)) وبقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84].(18/17)
معنى قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)
وقد استدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فقالوا: القرب هنا يثبت هذه الآية: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) فنقول: إن القرب هنا قرب إحاطة وعلم وإحصاء، وقرب إجابة وسمع، قال الله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ))، ثم فصل بقوله: ((قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) وقد جاء في البخاري عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إنها تشتكي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها، ويخفى عني بعض حديثها! وكانت في طرف البيت، والله من فوق سماواته يقول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1].
فالقرب هنا: قرب سماع، وقرب إجابة.
فهو قرب مخصوص بعناية المؤمنين، ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ))، أي: قرب خاص، وقرب إجابة للداعي الذي آمن بالله جل وعلا واتقاه.
الطائفة الثانية هم المحرفة، الذين يدعون زرواً وبهتاناً بالمئولة، وهم الأشاعرة الذين أولوا صفة الاستواء بالاستيلاء، وسنرد عليهم من الكتاب والسنة ومن العقل والفطرة، والاستواء صفة فعل، فبعدما خلق الله العرش استوى عليه ولو قلنا: إنه ينزل فذلك لا يستلزم خلو العرش؛ لأن نزول الله لا نعلم كيفيته، كما أن استواء الله لا نعلم كيفيته، فإن الكون كله في يده كحبة خردل بيد أحدكم.
وقد أورد الأشاعرة على أهل السنة بقولهم: هناك لوازم باطلة أيها المجسمة من إثبات صفة الاستواء، وهي: أنه عندما تقولون: إن الله استوى على العرش فمن اللوازم الباطلة أنه يلزم المماسة وإذا استوى على العرش فهو محدود فإذاً: الله محدود.
وقالوا: إن الله جل وعلا يحتاج إلى العرش لو استوى عليه، وسنبين الجواب عن هذه الشبه في الدرس القادم إن شاء الله.(18/18)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على أهل البدع في الاستواء
من عقائد السلف إثبات علو الله المطلق والمقيد، وقد خالف هذه العقيدة طوائف من المتبدعة، فبعضهم أنكر العلو المطلق، وبعضهم أنكر العلو المقيد، وقد رد أهل السنة على شبهاتهم، وبينوا بطلانها.(19/1)
الفرق التي أنكرت علو الله المطلق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا عن علو الله جل وعلا، وقلنا: إن العلو علوان: علو مطلق وعلو مقيد، وتكلمنا بالتفصيل على هذه الصفة، وأثبتنا أن العلو المطلق هو صفة ذاتية من صفات الذات الجلية لا تنفك عن الله جل وعلا، والعلو المقيد هو العلو على العرش كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
وأثبتنا بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع هذه الصفة العظيمة الجليلة، ثم بعد ذلك تكلمنا عن آثار تعبد العبد بهذه الصفة، فلو علم العبد أن الله جل وعلا فوقه وفوق العباد كلهم، وهو قاهر جل وعلا، وكل العباد في قبضته، وكل الكون كحبة خردل في يد أحدكم، وهو إذا قال للشيء: كن فيكون، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وبينا أنه لا تنافي بين علو الله جل وعلا وقربه من العبد، وأن معية الله جل وعلا معيتان: معية عامة ومعية خاصة، فالمعية الخاصة: هي التي تستجلب النصر، وتستجلب قدرة الله وإحاطته جل وعلا، ونصره وتأييده، قال تعالى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فهذا قول موسى عليه السلام لما جاء فرعون بكل جنوده خلف موسى، وقال أتباع موسى كما قال تعالى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في أحلك اللحظات لما قال له أبو بكر: يا رسول الله! -صلى الله عليه وسلم- لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! فطمأنه بقلب ثابت ويقين راسخ يعلم أن قوة الله ليس فوقها قوة، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر! لا تحزن إن الله معنا)، فأنزل الله سكينته على رسوله، وأيده بنصر وجنود من عنده، نسأل الله جل وعلا أن تتنزل علينا معيته الخاصة، ويجعلنا ممن يؤهل لأن يرفع عند ربه جل وعلا محاطاً بقدرة الله جل وعلا ورعايته ونصره.
وتكلمنا عن أهل البدع الذين نفوا هذه الصفة، وهم طائفتان: طائفة: نفت العلو المطلق، وطائفة: نفت العلو المقيد، فالطائفتان اللتان نفتا العلو المطلق الصوفية والجهمية وهم الذين قالوا: إن الله في كل مكان، ونفوا علو الله جل وعلا، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة منها قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، قالوا: هو في السماء وفي الأرض، واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، واستدلوا بقول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وقالوا: القرب هنا دلالة أنه ليس فوق العرش كما تقولون، واستدلوا أيضاً بالحديث القدسي: قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ثم قال فيه: (وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).(19/2)
الرد على شبهات المبتدعة التي أوردوها في نفي علو الله المطلق
قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] القرب هنا لا ينافي العلو، فقد أثبت الله جل وعلا أنه فوق عرشه، بائن من خلقه، يعلم ما هم عليه، وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فالقرب هنا له معنى آخر غير المعنى المفهوم عند الجهمية أو الصوفية، ألا وهو قرب العلم، وانظر إلى أول الآية وانظر إلى وسط الآية، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16]، فذكر العلم ليبين أنه محيط بهذا الإنسان، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، ثم فسر القرب هنا: بالملائكة، قرب بالعلم والإحاطة والإحصاء وقرب بالملائكة، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، ثم فسر الآية بعدها فقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17]، فالذي يتلقى هم الملائكة، وهم الذين ذكرهم الله جل وعلا وعناهم بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، نظير ذلك قول الله في سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:83 - 85]، فالقرب هنا ليس قرب ذات الله جل وعلا بل قرب إحاطته وإحصائه وملائكته، والقرينة التي أثبتت ذلك هي قول الله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُوْنَ} [الواقعة:83 - 85]، والشاهد قوله: {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، فلا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا.
والمراد بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] أي: الملائكة التي جاءت لقبض الروح، فالملائكة في هذه اللحظة هم الذين يقبضون الروح، ملك الموت ومن يعاونه من الملائكة.
فإن قلنا: القرب هنا: قرب الملائكة، وقرب علمه وإحاطته جل وعلا، فالإشكال: أن الله نسب ذلك لنفسه، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وفي الآية الأخرى قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85]، فنقول: لا إشكال في ذلك، لأنك إذا قلت: بنى عمرو بن العاص الفسطاط، صح ذلك، ولكن إذا نظرنا إلى الواقع نجد أنه أمر الناس بالفعل، ونسب له، لأنه الآمر، فعندما تقول: بنى عمرو بن العاص مسجداً فليس هو الباني، ولكنه هو الآمر، فنسب له، لأنه الآمر.
وفي القرآن ما يدل على ذلك، قال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، والذي يقرؤه بالاتفاق هو جبريل، ونسب إلى الله حل وعلا؛ لأن جبريل ما قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم إلا بأمر من الله جل وعلا، فلا إشكال في أن ينسب الفعل إلى الله، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أي: أمرنا الملائكة أن تكون معه، تحصي حسناته وحركاته وضحكاته، وتكتب كلامه كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وكذلك في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85]، فملك الموت هو الذي يسحب هذه الروح بأمر من الله جل وعلا.
تبقى شبهة واحدة أوردوها في الحديث القدسي، قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: من كان ولياً لله جل وعلا فنصرته من عند الله، ومن استطاع أن يحارب الله أو أطاق حرب الله فليحارب الله جل وعلا، فليرينا كيف ينتصر على ربه جل وعلا، فجندي الريح أو الذباب أو الناموس لو يسلطه الله على عباده أجمعين سيبيتون هلكى ولكن لا يفقهون، والمقصود من الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) قالوا: هنا مخالطة، إذاً: الله جل وعلا في كل مكان، وهذا مدعاة للحلول الذي يحتجون به، ويقولون: الله في كل مكان، حاشا لله! والرد عليهم هين وسهل، فتفسير الحديث يكون بالحديث؛ لأن الرسول مبين كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فانظر في هذا الحديث، وفي رواية أخرى أن الله تعالى قال: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) ثم قال: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش) أي: بقدرتي وبإحاطتي ونصرتي وتأييدي، وهذه معية خاصة، وهذه المعية الخاصة هي معية النصرة والتأييد، أي: فبنصرتي ينتصر، فبقوتي يبطش، فبرضاي عليه لا يسمع إلا ما يرضي، فبحفظي لا ينظر إلا لما يرضي، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، فهذا هو الرد عليهم؛ لأن الحديث يفسره ما بعده، ومعنى قوله تعالى: (كنت سمعه) أي بقوتي وقدرتي ونصرتي وتأييدي يسمع ويبصر ويبطش.
فهذه الطائفة نفت العلو المطلق، والطائفة الأخرى نفت العلو المقيد.(19/3)
الفرق التي نفت العلو المقيد
العلو المقيد هو: الاستواء على العرش، والذين نفوا هذا العلو: هم الأشاعرة، الذين يطلق عليهم متكلمي أهل السنة والجماعة، وهم محرفو الكلم عن موضعه فقد قالوا في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى، قالوا: وعندنا مسوغ، والأصل في اللفظ أن يكون على ظاهره، حتى تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، وإذا لم يوجد مسوغ أو قرينة فالتأويل باطل مردود.
قالوا: عندنا المسوغ، وعندنا القرينة من لغة العرب، والشعر يدل على ذلك، قال الأخطل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فأول ما دخل دب الرعب في أهل العراق، فتركوا له المدينة دون إراقة دماء، فهذا هو المسوغ لهم، وقالوا: وأنتم أيها المجسمة! لو قلنا بقولكم أن استوى على العرش معناه: علا واستقر للزمنا لوازم، واللوازم التي ذكروها لوازم باطلة هي: اللازم الأول الباطل: أن هناك مماسة بين الله وبين العرش، والعرش محدود حتى ولو وسع السماوات والأرض فهو محدود، ولو قلتم بالمماسة فقد جعلتم لله حداً، وهذا تجسيم، فنفر من هذا، وهم يتهمونا باطلاً.
واللازم الثاني الباطل قولهم: أيها المجسمة! -يقصدون أهل السنة والجماعة-: إننا لو قلنا: إن الله استوى على العرش بمعنى علا واستقر فالله يحتاج إلى هذا العرش، بمعنى: -ليقرب إلى الأذهان- أنا الآن جالس على هذا السرير فأنا أحتاج إليه، ولو سحب من تحتي لوقعت، فأنا أحتاج إليه لأنه يسندني، ولو قلتم بهذا القول: علا واستقر على العرش فيلزم من قولكم هذا أن الله جل وعلا الغني محتاج إلى العرش!(19/4)
الرد على شبهات المبتدعة التي أوردوها في نفي علو الله المقيد
نرد على شبهات الأشاعرة في نفيهم الاستواء بما يلي: الرد الأول: أن الله جل وعلا قد أثبت في كتابه، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع، وبالفطرة، وبالعقل أنه فوق العرش كما أسلفنا في الأدلة الكثيرة السابقة، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، فأثبت الفوقية وأثبت الاستواء على العرش، فالاستواء على العرش معناه في اللغة: العلو، فإن كان بمعنى الاستيلاء فسيقوله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول هو المبين عن الله، وإن لم نعرفه من الرسول صلى الله عليه وسلم فنعرفه ممن ينقل عن الرسول وهم الصحابة أو التابعون أو تابعو التابعين في القرون الخيرية الثلاثة، وهل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه بمعنى: استولى؟ لم ينقل بحديث ضعيف ولا موضوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، ولم يقله الصحابة والتابعون الذين نزل القرآن بلغتهم، وفهمهم لكلام الله وحصافة ذهنهم معلومة، وهم إذا خاطبهم الله فهموا كلامه، قالت أم سلمة أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الاستواء في اللغة معلوم، بمعنى: علا واستقر، ولذلك وهم بعض العلماء فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أم سلمة لم تأت به من عند نفسها، وهي ليلاً ونهاراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: الاستواء معلوم، يعني: علا واستقر، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهي أصل هذا القول وليس الإمام مالك، فقد فهمت قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه بمعنى: علا واستقر، وأنتم لستم أفهم من رسول الله، ولا من أم سلمة، ولا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من أم التابعين، ولا من تابعي التابعين، ولا من القرون الخيرية بالإجماع، كما قال الشافعي: أنا وأهل الحديث على الله فوق عرشه، وعلمه في كل مكان، وكما قال مالك وشيخه ربيعة: الاستواء معلوم -أي: علا واستقر- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهذا هو الأصل في اللغة، وهذا هو الظاهر من الآية، وليس هناك قرائن تصرف هذا الظاهر، بل توجد قرائن من القرآن تعضد وتثبت هذا الظاهر، وهي آيات يثبت الله فيها أن الاستواء بمعنى العلو والاستقرار، قال الله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]، فالاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، وقال الله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، واستوت أي: استقرت على الجبل، وهو الجودي، فهذه قرائن من القرآن تثبت لنا أن الاستواء معناه العلو والاستقرار، أثبت لنا ذلك أولاً: المعنى الظاهر وعضد الظاهر قرائن أخرى من القرآن تثبت هذا المعنى، وكذلك الصحابة الذين هم أفهم الناس عن الله وعن رسول الله، فعندهم أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، فباللغة وبالشرع وبالصحابة الكرام بفهمهم وحصافة ذهنهم علمنا أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار، لا بمعنى الاستيلاء، هذا أولاً.
ثانياً: نتنزل ونقول: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء، فيلزم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمة حائرة، وعصى ربه ولم يبين كما أمره، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فلم يبين للناس أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وترك أمته حائرة لا تفقه عن الله، ولا تعقل عن الله، ولا تتعبد بآثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهذا اللازم الأول الباطل: اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بعدم التبيين عن الله جل وعلا؛ لأنه لو كان معنى الاستواء: الاستيلاء لقاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولبينه، وما دام لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم فكفاكم ذلك، فلا تتكلموا فيه؛ لأنكم لستم بأفقه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا.
أذكر: أن أعرابياً مر فسمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، زرتم المقابر ليس معناه: الإقامة، بل يعني: أنك مت وقبرت، وهذه زيارة، فقال: والله إن الزائر ليس بمقيم! أعرابي فهم هذا بفطرته، وقال: والله! إن الزائر ليس بمقيم، ويعني كلامه: أنه ما دام أنه زائر فلا يمكن أن يقيم، وطالما هو زائر في القبر فلا بد أن يرجع، ولا يمكن أن يقيم، إذاً: سيخرج ويبعث، واستدل على البعث بهذا.
وأيضاً: أعرابي سمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، إلى أن قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، قال: أعد علي هذه القراءة، فقرأها إلى أن قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، فقال الأعرابي: لو غفر ورحم ما قطع، قال: قل: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]؛ فلأنه عز وحكم فقطع، بعزة وبقوة، فهم بالسليقة، ولو كان الفهم أن الاستواء: القوة والاستيلاء، لأظهروا لنا ذلك، ولم يخفوه علينا وقد أمروا بالتبيين.
اللازم الثاني: إذا تنزلنا وقلنا: الاستواء بمعنى: الاستيلاء، فهو باطل، وهو بمعنى: أن الله أخذ منه العرش، وبعد ما سلب منه العرش تقوى ثم غلب الذي غلبه وأخذ منه العرش، فهل هذا رب؟! وهل يستحق أن يكون رباً الذي يضعف في لحظات، ثم يستولي على ملكه، ثم بعد ذلك يهزم الغالب، ويأتي ويأخذ ملكه؟! فمن لازم قولكم الباطل اتهام الله جل وعلا بصفات النقص.
اللازم الثالث الباطل: أنهم قالوا: أنتم تقولون: نحن نقول: إن استولى أي: غلب، يلزم منه أنه أخذ الملك ممن غلبه، ونحن لا نقصد ذلك، بل نقصد أن استولى بمعنى: مطلق التمليك، ومطلق الملك لله، نقول لهم: أيضاً هذا لازم باطل؛ لأن الأرض ملك لله، والجبال ملك لله، والبحر ملك لله، والسماء ملك لله، ولم يخص الله جل وعلا هذه الصفة بالعرش، فلم يقل: الرحمن على الجبل استوى؛ لأنه ملكه، وإذا قلتم بمطلق التمليك، فالكون كله ملك لله، فبدل أن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فليقل: الرحمن على الجبل استوى، أو الرحمن على الأرض استوى، أو الرحمن على البحر استوى فخص الاستواء بالعرش؛ لأن هذا خاص به، وصفة من صفاته الفعلية، وليست بمعنى الملك.
إذاً: الرد عليهم بأن أصل الشرع، وظاهر اللفظ واللغة، وقول الصحابة والإجماع على أن الاستواء بمعنى: العلو والاستقرار لا بمعنى الاستيلاء، وإذا قلنا تنزلاً معكم: الاستواء بمعنى: الاستيلاء يلزمنا لوازم باطلة، ولازم الباطل باطل، وفيه اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير في التبيين، واتهام الله جل وعلا بصفات النقص.
الثالث: إذا قلتم بمطلق التمليك وأن الاستيلاء هذا استيلاء على ملكه الذي غاب عنه، فنقول: هو مالك للكون كله، ولم يخص صفة فعله هذه بالعرش إلا أن تكون مزية للعرش، وأنها حكمة من عند الله جل وعلا، وصفة من صفات الفعل إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، هذه أدلتنا على أهل التحريف، ونرد على بدعهم بهذه الأدلة التي استدلوا بها.(19/5)
الرد على الأشاعرة في تأويلهم لآيات الاستواء
الأصل في اللفظ أنيحمل على الظاهر حتى تأتي قرينة تؤوله من الظاهر إلى المؤول، قال الأشاعري: عندنا المؤول من اللغة، وهو بيت الشعر.
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فنقول: أولاً: هذا ليس ببيت عربي، وأهل اللغة قاطبة لا يعرفون هذا البيت، ولا يقرون به، بل هذا البيت لرجل نصراني، وليس بعربي أصيل، فأهوينا هذا الدليل.
ثانياً: إذا تنزلنا معهم وقلنا: إن هذا البيت عربي أصيل، من عرب أقحاح، وإذا نظرنا فيه وجدنا أن هناك قرينة تجعلنا نقول بأن الاستواء في هذا البيت الاستيلاء، للقرائن المذكورة وهي: من غير سيف أو دم، مهراق.
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق فالسيف لأجل العلو والاستقرار أم لأجل القتال والاستيلاء؟ فلزاماً يأول الاستواء: بالاستيلاء، لقرينة السيف والدم المهراق، لأن هذه من لوازم الاستيلاء والمغالبة.
إذاً: هذا ليس بيتاً عربياً أصيلاً فلا يؤخذ به، وإن تنزلنا وقلنا: هو بيت عربي، والأصل والظاهر أن استوى بمعنى العلو والاستقرار، وهناك قرينة من نفس البيت أولت العلو والاستقرار إلى الاستيلاء، هذه القرينة هي: ذكر السيف، وعدم إراقة الدماء، وقوله: استوى بشر على العراق، لا يعني: علا واستقر بغير سيف ودم مهراق؛ لأنه دخل بالغلبة والاستيلاء، وأدوات الحرب جعلتنا نؤول الاستواء بمعنى الاستيلاء، أما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، لا يوجد أي قرينة من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب تصرف المعنى إلى استولى، وفي هذا الكتاب أكثر من أثر فيه: لا نعرف في لغة العرب أن الاستواء بمعنى: الاستيلاء بل الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، بمعنى: علا واستقر.
يبقى لنا من شبهاتهم اللوازم التي ألزمونا بها، وليست بلازمة، اللازم الأول أنهم قالوا: لو قلنا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: علا واستقر، حدثت المماسة، أي: مس الرحمن العرش، والمماسة تدل على الحد؛ لأن العرش محدود، فإذاً: جعلنا لله حداً، فنقول لهم: ننظر في هذا اللازم هل هو باطل أم حق حتى نعمل به، والحد كلمة واصطلاح من المتأخرين لا من المتقدمين، وقد قعدنا قاعدة عقيدية للإخوة الأفاضل في الكلمات المبهمة في العقيدة وكيف نتعامل معها فلا ننفيها ولا نثبتها، ولكن نسأل عن المقصود منها؛ لأننا لو نفيناها لعلها لله جل وعلا، فنكون نفينا شيئاً في حق الله أثبته الله جل وعلا لنفسه، ولو أثبتناها لربما كانت منفية عن الله جل وعلا لنفسه، وهذه لفظة مجملة لا بد أن نفصل فيها ونعلم مقصودكم من الحد، إن قصدتم بالحد التمييز، يعني الله جل وعلا عال على عرشه بائن من خلقه فهذا حق، فنحن نؤمن به ونقول به، ومعنى الحد هنا: التمييز، تمييز بين الخالق وبين المخلوق لا كما تقول الصوفية وابن سينا وابن عربي، هؤلاء الكفرة الذين قالوا: لا فرق بين الخالق والمخلوق، فإن قصدوا في الحد أنه: التمييز وأن الله بائن من خلقه، فوق عرشه والخلق؛ فهذا صحيح -إن صح التعبير- فالله بائن من خلقه، والحد بمعنى: التمييز فهذا حق ونحن نقول به، وإن كنتم تقصدون أن الحد معناه: التجسيم، أي: أن الله جسم، فهذا لا نقبله، بل نرده عليكم، وما جركم إلى ذلك إلا أنكم شبهتم الخالق بالمخلوق، ونرد عليكم بثلاثة أمور: أولاً: أنتم قلتم: المماسة تكون بالحد، أي أن الله جل وعلا له حد، فكيفتم صفات الله جل وعلا، فنقول لكم: هل رأيتم الله لتكيفوا الصفة، وتبينوها لنا، وتقولوا: إن هذا حد؟ وهل رأيتم مثل الله؟ وهل أخبركم الثقة الصادق المصدوق أن الله جل وعلا إذا استوى على العرش كانت هذه مماسة وحداً؟ ستجيبون: بلا، إذاً: لا رأيتم الله، ولا رأيتم مثيله، ولا أخبركم الصادق المصدوق بهذا، فإذاً قد افتريتم وأتيتم ببهتان وزور، ولا يقبل كلامكم، وكيفتم ونحن لا نكيف، والصحابة أجمع لا يكيفون، وقد قالوا: الاستواء في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
إذاً لو قلتم: إن هناك مماسة وحداً، فإن قصدتم بالحد التمييز، والله بائن من خلقه فنحن نقول بذلك، فنكون قد اتفقنا وما افترقنا، وإذا قصدتم بذلك تكييف الصفة، فنحن بقول: بأن الله علا على العرش واستقر وهو غير محتاج إلى العرش حاشا لله! قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر:15]، فمن باب أولى أن يكون العرش محتاجاً إلى الله جل وعلا، والسماوات فقيرة إلى الله جل وعلا، والشمس والقمر فقيران إلى الله تعالى، وكل ما في الكون فقير إلى الله، والله هو الغني، فالله أثبت أنه الغني، فهو الغني وله الغنى المطلق، وكل الخلائق محتاجة إلى الله جل وعلا، فقيرة إليه.
وإذا قلتم: إن الله علا واستقر فهو محتاج للعرش، فقد كيفتم استواء الله جل وعلا، وهذا التكييف مردود كما قلنا في سابقه، فالأشعرية أولوا الاستواء بالاستيلاء وليس لهم وجه في ذلك، حتى البيت الذي قالوا: هو مسوغ لنا، ليس بعربي أصيل، واللوازم الباطلة التي ألزمونا بها ليست بلازمة.(19/6)
علم الله غير مخلوق
قال المؤلف: (ما دل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق) شرح هذه الجملة يبدأ بالإعراب وهو الذي سيجعلنا نفصل القاعدة التي أريدها، فعلم الله: علم مضاف، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بذاتها، ومعان فالعين القائمة بذاتها عندما تضاف إلى الله تكون إضافة تشريف، مثل: الكعبة، هي عين، فتقول: الكعبة بيت الله، فالكعبة عين قائمة بذاتها، وإضافتها إلى الله تشريف، وليست صفة من صفاته، وكذلك: عيسى روح الله، عيسى عين قائمة بذاتها، وهو مضاف إلى الله إضافة تشريف، فإضافة المعاني إضافة صفة إلى موصوف، وإضافة الأعيان إضافة تشريف، أما قولنا: عيسى روح الله، أي: روح من عند الله، كما قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: من عنده للقرائن الدالة على ذلك، قائمة بذاته.(19/7)
الأسئلة
قال المؤلف: (ما دل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق) شرح هذه الجملة يبدأ بالإعراب وهو الذي سيجعلنا نفصل القاعدة التي أريدها، فعلم الله: علم مضاف، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان قائمة بذاتها، ومعان فالعين القائمة بذاتها عندما تضاف إلى الله تكون إضافة تشريف، مثل: الكعبة، هي عين، فتقول: الكعبة بيت الله، فالكعبة عين قائمة بذاتها، وإضافتها إلى الله تشريف، وليست صفة من صفاته، وكذلك: عيسى روح الله، عيسى عين قائمة بذاتها، وهو مضاف إلى الله إضافة تشريف، فإضافة المعاني إضافة صفة إلى موصوف، وإضافة الأعيان إضافة تشريف، أما قولنا: عيسى روح الله، أي: روح من عند الله، كما قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: من عنده للقرائن الدالة على ذلك، قائمة بذاته.(19/8)
هدف الأشاعرة من إنكار الاستواء
السؤال
ما هدف الأشاعرة من إنكار الإستواء؟
الجواب
هدف الأشاعرة بقولهم الاستواء بمعنى: الاستيلاء أنه لا يوجد عرش، وكان قائدهم أبو المعالي الجويني يقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، يعني لا يوجد عرش، فهو يومئ إلى ذلك، فهم يريدون أن يصلوا إلى إنكار العرش أصالة، ولذلك قلنا لهم: نجعل الأمر على الظاهر، وقلتم: هو استيلاء للعرش.
وصفة العرش نحن لا نعلمها، لكن نقول: هو استولى على العرش واستولى على الأرض والجبال، فلم خص ذكر الاستواء على العرش؟ وقولهم: لو قلنا بالعلو والاستقرار كما تقولون لكان لازم هذا القول: المماسة والحاجة للعرش، وهو لازم باطل، والقاعدة الأصولية تقول: لازم الباطل باطل، فهم قالوا: لو قلتم: علا واستقر، فقد مس، ولو مس فقد حد، ونحن نقول: أنتم هكذا كيفتم الصفة، ونحن لم نكيف الصفة، ولا نعرف كيف استوى، فأنتم شبهتم استواء الخالق باستواء المخلوق فنتج عندكم المماسة، فتكلمتم بها، ففرتم من التشبيه بالإنكار.
فإن قيل: هل عندما ينزل الله جل وعلا إلى السماء الدنيا، يخلو منه العرش؟ قلنا: لا يخلو منه العرش.(19/9)
الجمع بين النزول والاستواء
السؤال
كيف نجمع بين النزول وبين الاستواء؟
الجواب
الجمع ظاهر جداً، فليس بلازم أنه إذا نزل إلى السماء الدنيا أن يخلو من العرش؛ لأننا لا نعرف كيفية الاستواء، والكيفية تليق بجلال الله وكماله جل وعلا، فهو مستو على عرشه وينزل إلى السماء الدنيا، والكون كله كحبة خردل في يد أحدكم، ونحن نؤمن بأن الله جل وعلا قادر على كل شيء، وقادر على أن ينزل إلى السماء الدنيا وهو على العرش، ولا يخلو منه العرش.(19/10)
حكم المنكرين للصفات
السؤال
حكم المنكرين للصفات؟
الجواب
الذين ينكرون صفات الله ينقسمون إلى قسمين: قسم غلاة ظهرت لهم الأدلة، وقسم توابع لهم، فالغلاة الذين ظهرت لهم الأدلة وعاندوا على ما هم عليه هم كفار، كفرهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فغلاة الجهمية والشيعة كفروا، أما التابعون الذين لا يفقهون شيئاً فلا يكفرون، وعذرهم الجهل، ونحن قد قعدنا قاعدة في الإيمان هي: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة، وتزال عنه شبه الكفر، أي تتوافر الشروط وتنتفي الموانع، وكفى بالجهل قبحاً أن يفر منه أهله، فـ ابن مسعود قال: كن عالماً، أو متعلماً، أو محباً لأهل العلم، ولا تكن الرابع فتهلك، فالأولى: أن تتشرف بنور العلم، والثانية: إن لم يستطع العلم، والله جل وعلا يقسم بين عباده فضله كيفما شاء، فنقول للعامي: آمن بكل صفة تسمعها، ويقول: الاستواء في اللغة معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والنزول كذلك، يقول فيه: النزول في اللغة معلوم، والكيف مجهول والسؤال بدعة، والإيمان به واجب، وكل صفة فعلية تأتيه يقول فيها هذا الكلام.(19/11)
النووي وابن حجر ليسا من الأشاعرة
السؤال
هل النووي وابن حجر من الأشاعرة؟ الإمام النووي والإمام ابن حجر لا يصطفان لصف الأشاعرة، فهما متأثران بكلام الأشاعرة، وليسا بأشعريين، بل هما من أهل السنة والجماعة، لكنهما انغمسا في ذلك؛ لأن البلدة التي كانا فيها انتشر فيها منهج الأشاعرة، ولذلك الذي يقرأ صحيح مسلم أو يقرأ فتح الباري يجد أن شارح صحيح مسلم فيه تذبذب، لكنه قليل، فمرة يأتي بكلام أهل السنة والجماعة وكثيراً ما ينقل عن المازري وهو أشعري جلد، وكلامه تابع له، فهو ناقل مقلد دون أن يدري بهذا.
أما الحافظ ابن حجر فهو متذبذب يذكر مذهب أهل السنة ثم يذكر الأشاعرة، ويكثر من النقل عن أهل السنة، ويقل من الكلام عن الأشاعرة، فهما حسبا أن هذا هو المنهج الصحيح، وعاشا على أن هذا هو المنهج الصحيح، ولم ينتشر عندهما المنهج الصحيح، والأشاعرة انتشروا بسرعة عجيبة؛ لوجود العقل عندهم، وكانت المعتزلة تضرب في أهل السنة والجماعة، فقالوا هؤلاء: إذا تكلمتم بالعقل نتكلم معكم بالعقل.
فغروا الناس بعقولهم، ومن يتكلم بالمنطق يردون عليه به وشيخ الإسلام ابن تيمية ما زالت الأمم إلى الآن تحتج به، والصوفية غلبته وهو يحاجهم، وكادوا أن يقتلوا شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنهم قالوا: وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب قالوا: هذا الرجل ـ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ لا يفهم شيئاً، يقول: الأصل والفصل والفرع، والصوفية هؤلاء هم أفضل ناس، الغر يقول بهذا الكلام.
فالمنطق جعل سمعتهم عالية وانتصر مذهبهم، فحسب بعض العلماء مثل الإمام النووي والحافظ ابن حجر أن هذا هو المذهب الحق، وما أحد جاء يناظرهم ويبين لهم الحق، ونحن نربأ بهم أن يعاندوا الحق بحال من الأحوال، ولا يمكن لإنسان إلا متجرئ متنطع أن يجعل النووي أو يجعل الحافظ ابن حجر في صف الأشاعرة أبداً، جاهل متنطع من يجعل هؤلاء في صفهم، فأنا إذا جلست مع شيخ، وليس عندي غير هذا الشيخ، وما أسمع في هذه البلدة من شيخ يتكلم بعلم إلا بعلم هذا الرجل، وحتى لما رحلت ما وجدت أحداً يتكلم إلا بكلام هذا الرجل، وليس عندي ما يضاده، وليس عندي علم يخالفه، فلما تعلمت على شيخي تعلمت منه هذا الكلام، فالحافظ ابن حجر كان ينقل كثيراً دون أن يمحص النظر، فيغتفر له، وتجعل في بحر حسناته، وجهوده المباركة الشريفة.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وجزاكم الله خيراً.(19/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة العلم
صفة العلم من الصفات الذاتية الثبوتية التي لا تنفك عن الله عز وجل، وهي صفة أبدية أزلية، فهو سبحانه يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.
وقد اختص الله نفسه بعلم الغيب المطلق، ووهب لعباده شيئاً من علم الشهادة، إلا أن هناك بعض الاستثناءات التي خص الله بها بعض أنبيائه فأطلعهم على شيء من علم الغيب تأييداً ونصرة لهم.(20/1)
ثبوت صفة العلم لله في الكتاب والسنة والعقل(20/2)
ثبوت صفة العلم في الكتاب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوتي الكرام! ما زلنا مع سياق ما دل من كتاب الله جل وعلا وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم، وأن علمه غير مخلوق، فقولنا: الله عالم بعلم نرد بذلك على المعتزلة الذين قالوا: إن الله عالم بذاته، وقولنا: علمه غير مخلوق، نرد على ما قاله بعض المبتدعة.
وعلم الله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والعقل.
قال الله عز وجل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، وقال جل وعلا: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25]، استدل بالفعل وهو يعلم، وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، وتنوعت الدلالات لسعة علم الله جل وعلا، كقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]، وقال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]، وعلم الله صفة من صفات الله جل وعلا الثابتة بالكتاب والسنة والعقل، وهي صفة أزلية أبدية ثبوتية ذاتية.
فصفة العلم ثابتة في الكتاب على تنوع الدلالات.
ومن الأدلة كذلك: قول الله جل وعلا: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وقال جل وعلا: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14]، والأسماء الحسنى تدل على علم الله جل وعلا، قال الله تعالى في سورة يوسف: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6]، فقرن بين العلم والحكمة.
ومن مقتضيات الأسماء التي تثبت علم الله جل وعلا: الخبير الذي علم بدقائق الأمور، واللطيف الذي علم بما خفي ودق، وأيضاً الشهيد، فإن الله جل وعلا لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
ومن الدلالات المتنوعة التي تثبت علم الله جلا وعلا واتساع علم الله جل وعلا قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [يونس:61].(20/3)
ثبوت صفة العلم في السنة
ورد في الصحيح في حديث الاستخارة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) وهذا هو الشاهد على صفة العلم من السنة.
والحديث الذي ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في الخمس الذي لا يعلمهن إلا الله جل وعلا وقرأ: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].(20/4)
ثبوت صفة العلم بالعقل
دلالة هذه الصفة بالعقل من وجهين: الوجه الأول: النظر إلى الكون الشاسع المتقن المحكم الذي فيه كل هذا الإتقان، فإذا أردت أن تنظر هل فيه خلل رجع إليك البصر خاسئاً وهو حسير، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]، فمن تدبر هذا الكون المحكم المتقن من قبل الله جل وعلا، علم أن هذا الإحكام وهذا الإتقان نابع عن إرادة، يعني: أراد الله أن يخلق هذا الكون بهذا الشكل وهذا الإحكام وهذا الإتقان، وهذه الإرادة تستلزم العلم بالمراد، فلا يمكن لأحد يريد شيئاً إلا وهو يعلم هذا الشيء الذي يريده، فالإرادة تستلزم العلم بالمراد.
الوجه الآخر من أوجه الدلالة بالعقل على علم الله: أن الله جل وعلا شرف بعض عباده بهذا العلم، وبين أنه بالنسبة لهم صفة كمال؛ كما قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فعلم يوسف عليه السلام كيف يكيد ليأخذ أخاه، وهذه من صفات الكمال ليوسف، ووصف الله عز وجل يعقوب بأنه عليم فقال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]، فهذه صفة كمال في العبد، والقاعدة بين الرب وبين العبد قياس الأولى، فإن اتصف العبد بالكمال فمن باب أولى أن يتصف الخالق بالكمال؛ لأن الخالق هو الذي أوزع وأودع في المخلوق هذه الصفة، فصفة العلم ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وبالعقل، وأقوال الصحابة كما سنقرؤها من هذا الكتاب.(20/5)
علم الله محيط بكل شيء
علم الله جل وعلا واسع شاسع، يحيط بكل شيء علماً، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:29] ما دق وما خفي، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، يعلم جل وعلا كل شيء ولا يخفى عليه أي شيء: دق أو جل، عظم أو صغر؛ لأن الله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، وعلم الله الواسع جل وعلا يتمثل في أنه عَلِمَ ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.
علم ما كان: فالله جل وعلا يعلم ما سبق، وقد قص علينا بعلمه ما كان من قصص، وأيد نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة وهي: أن يقص على أهل الكفر وأهل قريش ومن يدعوهم إلى الإسلام القصص السابقة، وهي وحي من الله جل وعلا يدل على علم الله السابق، فقص الله علينا خلق آدم، وأول الخلق، وأنه أمر الملائكة بالسجود له، وأنه أمر إبليس ولكنه أبى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فأنزل إبليس من الجنة وأنزل آدم منها أيضاً.
وقص علينا من قصة نوح عليه السلام عندما أوحى إليه أن يعمل السفينة {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [المؤمنون:27] {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:27]، وأيضاً قص علينا أنه أنجاه ومن معه في الفلك وأغرق الباقين.
وقص الله علينا جل وعلا خبر ضيف إبراهيم المكرمين، وأن إبراهيم بشر بغلام حليم، وبشر بعده بغلام آخر عليم، وقص الله علينا قصص كل من سبق، فهذه دلالة على علم الله بما كان، والله جل وعلا قصها على النبي وجعلها عبرة ليعتبر بها، وهدى ليهتدي بها، ومعجزة وآية له حتى يبين أنه ما أتى بهذا الكلام من عنده وأنه ليس أساطير الأولين، بل هو وحي من الله جل وعلا.
وعلم ما يكون مستقبلاً، فالله جل وعلا علم ما يكون وقصه وأوحاه إلى نبيه، ومنه ما تحقق بعدما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، ومنه ما تحقق في عصرنا هذا، ومنه ما ننتظر أن يتحقق.
أما النوع الأول وهو ما تحقق: قال الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] وحدث ذلك وتحقق، وكذلك وهم في مكة في أشد ما يكونون، أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكون: ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، وتحقق وحدث كما قال الله تعالى، أيضاً أوحى الله إليه أنه سيدخل المسجد الحرام، وأنه سيدخل فاتحاً مكة، وتحقق قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27].
وأوحى إليه أشياء لم تحدث في عصره وحدثت بعد ذلك مثل النار التي بين أنها من أمارات الساعة وخرجت كما قال الإمام النووي، قص علينا من الأمارات ما نراها عياناً كما في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين يدي الساعة سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق أو قال: الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وقد تحقق ذلك، (وجاء أعرابي فأخذ بخطام الناقة فقال: يا رسول الله! متى الساعة فسكت، ثم قال: من السائل عن الساعة؟ قال: أنا، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وقد تحققت أشياء كثيرة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً وهذه متعلقة بحكم ما يكون.
والذي لم يتحقق وننتظر تحققه وهو على مشارف التحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحاً آمنا) الروم أهل الكفر أهل الكتاب النصارى، (ستصالحون الروم صلحاً آمناً فيغدرون، سيأتونكم تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً)، هذه من الأخبار التي في علم الله فيما يكون مستقبلاً قد أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم ونحن الآن ننتظر أن تتحقق أو نحن على مشارف أن تتحقق، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
أيضاً: ننتظر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (ينطق الشجر والحجر، فيقول: يا مسلم يا عبد الله! تعال خلفي يهودي فاقتله)، وهذا أيضاً من علم الله بما يكون مستقبلاً وأخبر به، ففيه ما تحقق وفيه الذي لم يتحقق حتى الآن ونحن ننتظر أن يتحقق، وكل ذلك مكتوب وقد فرغ منه، وعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون من الممكنات أو من المستحيلات، من الممكنات كقول الله تعالى مثلاً في أهل الكفر الذين يستمعون الآيات ويستمعون الذكر ويعرضون: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:22 - 23] هذا لم يحدث، فلو حدث كيف سيكون؟ لا أحد يعلم إلا الله، فقال الله تعالى مبيناً لنا بأنه يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
ومن ذلك أيضاً: خروج الصف المنافق مع الصف المسلم، فإنه يغري بالصف المسلم ويخذل الصف المسلم، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:46 - 47] فعلم الله ذلك، فهم لم يخرجوا، والله جلا وعلا يبين لنا أنه علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلو خرجوا ماذا سيكون؟ وكيف التصور؟ وماذا يفعلون في الصف المسلم؟ بين ذلك في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، هذه من الممكنات.
أيضاً من الممكنات في عرصات يوم القيامة: عندما يقف أهل الكفر على النار، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:27 - 28]، فلو أعادهم الله إلى الدنيا لن يفعلوا ما قالوا، الله الذي يعلم هذا قد بين لنا ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
أما المستحيلات التي يعلمها الله جل وعلا لو حدثت مثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فمستحيل أن يكون في الكون أكثر من إله، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} لفسد الكون، وفساد الكون أيضاً الله جل وعلا صوره لنا، فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذه دلالة على سعة علم الله جل وعلا، فمن سعة علم الله أنه أحاط بكل شيء علماً، علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.(20/6)
معنى قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم)
يوجد إشكال لابد من الإجابة عنه: قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، (حتى نعلم)، حتى في هذه الآية للغاية، فالله جل وعلا يبتلى الناس ليميز بين المجاهد والصابر وبين المنافق، وقال الله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167]، {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166] وقال الله تعالى: ((الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، ثم قال: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] وقد ذكرنا أن الله يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وأحاط بكل شيء علماً، فكيف يقول الله في كتابه الكريم: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، ويقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:167]؟ الإجابة عن هذا الإشكال هو أن الله جل وعلا علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، لكن لابد أن يخرجه لأرض الواقع، ولابد أن يقطع دابر حجة الظالمين-، وتقدير الكلام: حتى نعلم علماً نحاسبكم عليه؛ لأن الله لو جاء بالعبد فحاسبه على علمه السابق دون أن ينزله إلى أرض البسيطة وقال للعبد: أنا علمت سابقاً أنك ستعمل كذا وكذا وكذا وسأحاسبك عليه اليوم، فهو سيقول: لا يا رب! لو أنزلتني إلى الأرض لسمعت وأطعت الرسل، فكيف تحاسبني على علمك السابق لي؟! إذاً: الإشكال يجاب عنه بجواب هين جداً ألا وهو: أن الله جل وعلا لما علم سابقاً أخرج هذا العلم على أرض الواقع ليحاسب الناس ويقطع حجتهم.
أقول: علم الله سابق لأفعال العباد، وقد كتب ذلك، وقد فرغ ربكم من العباد، فأصحاب الجنة في الجنة وأصحاب النار في النار، أما قول الله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31]، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، فهذا العلم ليس علماً مستجداً لله جل وعلا، لكن العلم فيه بالنظر إلى العباد، وهذا العلم يسمى علم محاسبة، وعلم إخراج إلى أرض الواقع؛ حتى يقطع دابر الحجة التي يحتج بها العبد على الله جل وعلا، ولذلك الله جل وعلا في سورة طه قال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، فلا حجة للعباد أمام الله جل وعلا؛ ولذلك الله جل وعلا قال في الرسل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].(20/7)
أقسام العلم(20/8)
علم الشهادة
العلم علمان: علم شهادة وعلم غيب، أما علم الشهادة فكله بجزئياته وكلياته يعلمه الله جل وعلا، وقد فرق الله بعض العباد بعلم الشهادة ممن اصطفاهم على البشر وعلى الناس، اصطفى ملائكة فعلمهم، واصطفى من البشر هم الأنبياء ثم الأولياء والعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فكفى بهم شرفاً أن يعلمهم الله من علم الشهادة، وذلك أن الله قد وسم ووصف بعض عباده بالعلم، قال جل وعلا مادحاً ليوسف عليه السلام: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، وقال عن أبيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]، والنبي صلى الله عليه وسلم بين شرف العلم وشرف العلماء فقال: (العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)، فهذا يبين أن علم الشهادة يمكن للعبد أن يتعلمه.
والله يصطفي من رسله من يشاء ليعلمهم، كما في الصحيح في قصة موسى والخضر عليهما السلام، لما جاء موسى إلى الخضر، وقال له: أنت على علم علمكه الله لم يعلمنيه، وأنا على علم علمنيه الله جل وعلا لم يعلمك إياه، ثم نظر إلى عصفور نقر في البحر، فقال: ما علمي وعلمك إلى علم الله جل وعلا إلا كما نقر هذا العصفور من البحر.
فعلم الشهادة يشترط العباد بما علمهم الله جل وعلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أفضل النعم على الإطلاق بعد الإيمان والتقوى هي العلم، بل العلم أفضل من الشهادة، وورد في بعض الآثار وإن احتاجت إلى تحقيق السند: مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء، نقول هذا دم، فطلب العلم أفضل الأعمال على الإطلاق، والعالم شهيد وزيادة، فالعلماء هم الذين فضلهم الله بعلم الشهادة.(20/9)
علم الغيب
القسم الثاني من العلم: علم الغيب، وعلم الغيب أيضاً على قسمين: غيب مطلق، وغيب نسبي.
الغيب المطلق: هو صفة من صفات الله الذاتية التي لا ينازع فيها الله جل وعلا إلا كافر، لا ينازع أحد الله جل وعلا في علم الغيب إلا كافر، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وهذا أسلوب حصر، يعني: كل علم الغيب لله جل وعلا، فمن نازع الله جل وعلا في هذه الصفة فقد كفر؛ لأنه كذَّب القرآن، ونازع الله في صفة يختص بها الله جل وعلا دون غيره، فالغيب المطلق يعلمه الله وحده، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (أنت منهم يا أبا بكر)، لما ذكر المصطفى أبواب الجنة: باب الريان باب الصدقة فقال أبو بكر: يا رسول الله! هل تفتح هذه الأبواب لواحد من عباد الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم وأنت منهم) فهذا علم غيب، وكلما غاب عن الإنسان فهو غيب.
الغيب النسبي: يكون غيب بالنسبة لأحد، وشهادة بالنسبة للآخرين، فما يحدث مثلاً في أمريكا الآن هو غيب عنا، لكن عن أهل أمريكا ليس بغيب وإنما هو شهادة، فهذا هو الذي يسمى غيباً نسبياً، فالغيب المطلق: هو ما غاب كلية عن البشر.
الغيب المطلق لله جل وعلا، والله جل وعلا يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]، إذاً: أو كل علم الغيب لله تعالى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بشر العشرة بالجنة على وجه الخصوص، فهذا من الغيب، ومنه الآخرة، وما بعد عرصات يوم القيامة، وما بعد المحاسبة، هذا غيب مطلق كيف يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم والله جل وعلا يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، فكيف يكون الجمع بين هذه الآية وأن النبي علم علماً أخروياً؟ الجمع يكون بأن الغيب المطلق يعلمه الله جل وعلا واستثنى الله استثناءات محدودة جداً من هذا الغيب أطلع الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم عليها ولحكمة بليغة ألا وهي: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة ربانية ليثبت للناس أنه يوحى إليه من قبل الله جل وعلا؛ ولذلك لما جاء جبريل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن موعد الساعة، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، فالغيب المطلق لله ولا يعلمه إلا الله جل وعلا، ومن نازع الله في هذه الصفة فقد كفر؛ لأنه كذب بالقرآن ونازع صفة لله يختص بها الله جل وعلا، واستثنى الله من علم الغيب المطلق بعض أنبيائه فخصهم باستثناء محدود وعلم محدود عن الغيب المطلق تأييداً لهم.(20/10)
علم الغيب النسبي
بعض الناس يذهبون إلى الكهنة ويقولون: قد أخبرونا مستقبلاً بأشياء وقد وقعت وقد حدثت ورأيت كثيراً من الناس ذهبوا إلى الكهنة والعرافين فأخبروهم بأمور مستقبلة وحدثت فوقعت وهذا من الغيب، فكيف عرف الكهنة هذا الغيب والله جل وعلا ينفي علم الغيب عن أي أحد إلا هو؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يركب بعضهم فوق بعض -هكذا- فيسترق مسترق السمع فيأتيه الشهاب فإما يأتيه الشهاب قبل أن يصل بالكلمة وإما يصل بالكلمة ثم يأتيه الشهاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فيقرقرها في أذن الكاهن فيكذب معها مائة كذبة)، والذي يدل على ذلك الحديث الصحيح في خبر ابن صياد وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فكان يشك في ابن صياد هل هو الدجال أم لا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختبئ له بين الأشجار، وكان نائماً وهو يزمزم يقول: زم زم، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم أمه فقالت: يا صائد! هذا محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء قال: ما يأتيك؟ فقال: يأتيني كاذب وصادق، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: خُلط عليه الأمر، ثم قال: إني خبأت لك خبيئة)، والنبي صلى الله عليه وسلم يسأله مختبراً، ولذلك قلنا: لا يسأل الجن أبداً مسترشداً، حتى وإن استدل بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجوز الاستعانة بالجني المسلم على قضاء حوائج المسلمين، فهذا الكلام غير صحيح، واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك بفعل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه حين غاب عنهم عمر، فذهب إلى امرأة لها رئي -يعني جني- وقال: سلي رئيك أين عمر؟ فسألته، وقالت: هو في المكان الفلاني، فذهبوا فوجدوه.
وهذا الأثر يحتاج إلى إثبات السند، وهو واقعة عين، وعندنا الأدلة التي تثبت عدم جواز الاستعانة بهم بحال من الأحوال؛ لأن هذا غائب، ونحن اشترطنا شروطاً عظيمة جداً في الاستعانة وهي: حي حاضر قادر، والجن لا نراه، فهو غائب، فانتقض بذلك شرط من شروط الاستعانة، فالجن غائب عنا فلا يجوز الاستعانة به، لكنه قال: خبأت لك خبيئة ليرى كذب هذا الرجل وما الذي يحدث له، فقال: الدخ، حتى ما قال: الدخان، يعني: الجن سمعوا الدخ، قبل أن يقولوا: الدخان، والشهاب أتاه فقتله، فنزلت على أذنه يقرقرها في أذنه، فقال: الدخ وما أكمل الدخان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه كاذب: (اخسأ فلن تعدو قدرك)، فالكهنة يعرفون الكلمة من المسترق فيكذبون عليها مائة كذبة، ولا يعلمون الغيب، والصحيح الراجح أن الغيب المطلق لا يعلمه إلا الله جل وعلا، ومن نازع في هذه الصفة فقد كفر، فحكم الكهنة الذين يخبرون بالأمور المستقبلة حتى ولو تحققت أنهم كفار، فالفعل فعل كفري.
والغيب النسبي يحل لنا إشكالاً كبيراً جداً وهو إشكال المنديل، وهو أن أناساً عندنا في مصر يذهبوا إلى العراف فيضرب الورق، فيقول له: من الذي سرق البضاعة هذه؟ فيقول له: فلان بن فلان سرقها الساعة الفلانية، ويذهبون فيجدونه، فيضربوه ضرباً شديداً، فيعترف اعترافاً صحيحاً: نعم سرقتها في الوقت الفلاني وفي نفس المكان، وهذا ليس إخباراً بالغيب؛ لأن الغيب هنا غيب نسبي، فهو لبعض المخلوقين شهادة، فالقرين مع هذا السارق رآه كيف يسرق ومتى سرق فأخبر الكاهن هذا الذي يضرب الودع أو يكلم الجن، ومثله التنويم المغناطيسي، فهو يكلم قرين النائم، فقرين الكاهن يذهب إلى القرين الثاني فيسأله فيجيب ويقول له: سرقها في الوقت الفلاني، وهو مختبئ الآن في المكان الفلاني، فالإشكال حُلَّ، فالغيب النسبي هو ما غاب عني وهو شهادة بالنسبة للآخرين، فيغيب عن بعض الناس ويكون شهادة لبعض الناس، وهذا يعلمه البعض ويخفى عن البعض.(20/11)
الطوائف التي أنكرت علم الله جل وعلا
إن الله علم عالم ويرد بهذا على المعتزلة الذين يقولون: عالم بذاته، وهذا أصل أصلوه، قالوا: عالم بذاته، ونفوا صفة العلم نفسها، وأثبتوا الاسم، ونحن قلنا في قاعدة الأسماء: كل اسم من الأسماء الحسنى يتضمن صفة كمال، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6]، عليم اسم من أسماء الله يتضمن صفة العلم، فهم يفرغون الاسم من الصفة؛ ولذلك يقولون: عالم بذاته لا بعلمه.
فالطائفة الأولى الذين نفوا علم الله هم اليهود عليهم لعنة الله أولاً وآخراً بحراً وجواً فوقاً وتحتاً، ونسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا بهلاك اليهود في الدنيا قبل عرصات يوم القيامة، فهم نفوا علم الله جل وعلا، بل تجرءوا على الله وقالوا: الله لا يعلم ما يكون، ويستفيد الله جل وعلا من التجارب، ولذلك في التوراة المزعومة قالوا: لما خلق الله الخلق نظر إلى الفساد العارم الذي أحدثه الخلق فندم وبكى فأرمد؛ فعين الله غامضة؛ لأنه لا يعلم ما سيحدث من بني آدم، فاستفاد من التجارب وكأن الله جل وعلا لن يخلق خلقاً ثانياً حاشا لله.
وأفراخ اليهود من هذه الأمة هم: القدرية الذين نفوا القدر، فهم ينفون علم الله جل وعلا، وهم لا ينفون العلم السابق، ولكن ينفون اللاحق، ينفون علم الله جل وعلا بما يكون، ويقولون: الله جل وعلا لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلها العباد، والرد عليهم بالآيات التي تثبت علم الله بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.
الطائفة الثالثة من الطوائف المبتدعة الذين نفوا علم الله: الفلاسفة، وهم لا يصرحون بالنفي، كما قالوا في القرآن: هو من وحي محمد، فمحمد هو صاحب النفس الزكية أتاه القلب فتخيل بياضاً اسمه جبريل، ثم سمع منه وحياً يسمى القرآن! وكأن القرآن من عند محمد، لكن لم يقولوها صراحة، فالفلاسفة قالوا: إن الله لا يعلم الجزئيات وإنما يعلم الكليات فقط، أما الأشياء الخفية والدقيقة فلا يعلمها، وهذه تستلزم أنه يخفى عنه الجزئيات ولا يعلم الكليات؛ لأن كل جزء بجانب جزء يعطي الكل، فمن نفى الجزء فقد نفى الكل.
والرد عليهم بأن الله جل وعلا أثبت في كتابه أنه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون.(20/12)
علم المخلوق ناقص ومحدود
أختم هذه الدرس عن علم الله جل وعلا بأن هذه الصفة وإن كانت مطلقة الله جل وعلا فيمكن للعبد أن يتصف بها، فيعقوب عليه السلام عليم، ويوسف عليه السلام عليم، وأقول: الله عليم، لكن يبقى سؤال هنا: إذا قلنا: إن الإنسان قد وصف بالعلم والله جل وعلا موصوف بالعلم فهل التساوي في الاسم يستلزم التساوي في المسمى؟
الجواب
صفة الله على كماله وجلاله، وصفة العبد على نقصه وتقصيره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً.(20/13)
الأسئلة(20/14)
بيان الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق
السؤال
ما الفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق؟
الجواب
مطلق الشيء معناه أصل الشيء، والشيء المطلق يعني: كل شيء، فإذا قلت: مطلق العلم فهو يعني: أصل العلم عند العبد، ولا يمكن أن يبقى، ولو قلت: إن العلم المطلق عند العبد فهذا كلام لا يصح، فالأصح أن تقول: هو على علم علمه الله هذا العلم، ورزقه الله علماً، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، بل الأصل في العبد الجهل والظلم قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78]، فهذا إثبات أن الأصل في العبد الجهل، أي: أن هذه الصفة مكتسبة.
فالكمال المطلق لله جل وعلا، فلو أتيت إلى أخ طيب كريم وقلت له: يا سيد! أعطني كذا، ووقعت في محظور أو في نهي عن أن تقول للعبد: يا سيد؛ لأن في المسألة نهي، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال للمنافق: يا سيد فقد أغضب الله) والحديث صحيح، وأصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيد قال: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان) وفي رواية أخرى قال: (إنما السيد الله).
والفرق بينهما أن الإطلاق بالألف ولام التعريف، كما تقول: رب البيت رب الدار، وهذه تقول: الرب في البيت؛ لأن لفظ الرب مطلقاً يكون لله جل وعلا.
ومثال ذلك قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] هذا مطلق لله جل وعلا، فإن الله يعلم ما في الأرحام، يعلم الله جل وعلا أولاً من التقاء الحيوان المنوي مع البويضة والتخصيب، ما أحد يعلم بحال من الأحوال هذا الأمر، هل الحيوان المنوي يخصب البويضة أم لا؟ هذه مطلقة يعلمها الله، والله يعلم ما في الأرحام.
الثاني: عند التكوين بعد الالتقاء حين تكون مضغة وعلقة إلى آخر الأطوار، فهذه لا يعلمها إلا الله جل وعلا، ذكر أم أنثى لا يعلمه إلا الله جل وعلا، حاله في الحياة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، رزقه لا يعلمه إلا الله، أيختم عليه بخير أم بشر لا يعلمه إلا الله، أما بالنسبة لعلم الأطباء فهو مثل واحد زائد واحد يساوي اثنين، من أين أتيت بهذا؟ أثبت الجواب من مقدمة ونتيجة، فممكن أن النظرية هذه تصيب وممكن أن تخطئ، والنظريات تخطئ، فعلم هؤلاء البشر يكون بمقدمات، فيستنتجون من المقدمات هذه النتائج، فيقولون: لو حدث كذا فسيحصل كذا، فيقولون مثلاً: الأمطار ستنزل غداً إن شاء الله؛ لأن هناك سحابة ينتظر منها المطر، فممكن يخطئ هذا الظن وممكن يصيب، ونفس الأمر: كثير من النساء يذهبن يفحصن نوع الجنين فيقال لإحداهن: أنت ستأتي بذكر، فتأتي ببنتين وليس بذكر! وهذا يحدث حقاً، فهي مسألة مقدمات ومسائل يعلمها من يتقنها وعلمهم لما في الأرحام هو بعد التكوين، لكن قبل التكوين لا يعلم إلا الله.(20/15)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة السمع والبصر والقدرة
من مذهب أهل السنة والجماعة إثبات الصفات الذاتية لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، على ما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعقل يوافق الوحيين في ذلك، ولا يستلزم من السمع آلة سمع ولا من البصر آلة بصر، ولا ننفي ولا نثبت ما لم يرد في إثباته ولا نفيه دليل من كتاب ولا من سنة.(21/1)
إثبات صفة السمع والبصر والقدرة لله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي.
سنتكلم إن شاء الله عن صفات ذاتية ثبوتية لله جل وعلا، فالله جل وعلا سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة، وهذا أمر مهم جداً.
أورد النسائي عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] قال: وسع علمه السماوات والأرض، فـ ابن عباس هنا يؤول الكرسي بالعلم، وهذا التفسير خطأ ليس بصحيح، ويرد على هذا الكلام من وجهين: الوجه الأول: عندنا قاعدة مهمة في مسألة الاعتقاد: أن ثبِّت العرش ثم انقش، يعني: أثبت السند ثم قل: إنَّ هذا هو قول ابن عباس، وبتتبع السند وجدنا أن السند إلى ابن عباس ضعيف، كما أنه قد ورد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (الكرسي موضع القدمين) فهذا يرد على التأويل الأول الضعيف.
الوجه الثاني: إن قلنا: إنه قد ثبت عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} أن الكرسي هو العلم، فهذا مخالف لظاهر الآية، وقد قعدنا قاعدة مهمة لأهل الاعتقاد، وهي: أن اللفظ يكون على ظاهره ما لم تأت قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، وتأويل الكرسي الذي هو معلوم عندنا في اللغة بالعلم مفتقر إلى قرينة.
قلنا: علم الله جل وعلا صفة ذاتية ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والعقل، ثم قلنا: العلم: علم غيب وعلم شهادة، وعلم الغيب ينفرد به الله جل وعلا، فالغيب ينقسم إلى غيب مطلق وغيب نسبي، وبينا أن علم الشهادة ممكن أن يتعلمه عباد الله سبحانه.
قال الشافعي: من أنكر علم الله فهو كافر، كما روى اللالكائي عن الشافعي قال: قال حفص الفرد: علم الله مخلوق، قال الشافعي: كفرت بالله العظيم، وجه كفره بالله العظيم أنه كذب صريح القرآن.
أيضاً عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أنه لما سأله علي بن الجهم: من قال بالقدر يكون كافراً؟ قال: إذا قال: إن الله لم يكن عالماً حتى خلق علماً فعلمه فجحد علم الله جل وعلا فهو كافر.
إذاً: حكم من أنكر علم الله جل وعلا أنه كافر.
اليوم نتكلم عن صفات مهمة من الصفات الثبوتية الذاتية لله جل وعلا: أن الله جل وعلا سميع بسمع بصير ببصر قادر بقدرة، وفي هذا الكلام رد صريح على أهل الاعتزال الذين ينفون علم الله جل وعلا، ورد على الأشاعرة كما سنبين، فالذين يؤولون سمع الله وبصر الله بالعلم، يقولون: سميع بصير أي: بعلمه لا بسمع ولا ببصر، ويستدلون على ذلك بقول الله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224]، وقوله تبارك وتعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، وقوله جل وعلا: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1].(21/2)
إثبات صفة السمع والبصر والقدرة لله من الكتاب
لقد قرن الله بين صفة السمع والبصر كثيراً في كتابه، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم، أما صفة القدرة فقد انفرد القرآن بها وكذلك السنة، فهذه الصفات الثلاث صفات ذاتية ثبوتية لله جل وعلا لا تنفك عن الله، أزلية أبدية ثابتة بالكتاب والسنة والعقل، ثابتة بالكتاب في قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224]، وقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] فالسمع وحده صفة كمال، والبصر وحده صفة كمال، فاقتران السمع والبصر زيادة كمال على كمال، وأما بالنسبة للقدرة فقال الله في كتابه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ} [الممتحنة:7]، وقال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]، وقال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284].(21/3)
إثبات صفة السمع والبصر والقدرة من السنة
لقد ثبت في السنة صفة السمع والبصر والقدرة لله جل وعلا، وذلك عندما قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر خطيباً فقال: (إن ربكم سميع بصير، ثم أشار إلى عينه وأذنه)، والإشارة هنا من النبي صلى الله عليه وسلم ليست إثباتاً للعين الجارحة لله جل وعلا، وليست إثباتاً للأذن، بل إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم أن لله سمعاً وبصراً؛ لأن الأصم إذا أشرت إليه بالعين علم أنك ترى بهذه العين، وإذا أشرت إليه بالأذن علم أنك تسمع بهذه الأذن، فإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ليست إشارة للجارحة، حاشا النبي صلى الله عليه وسلم أن يشير إلى شيء قد يدخل على الناس مسألة التشبيه، ولكنه أشار إلى صفة السمع وصفة البصر.
كذلك لما علت أصوات الصحابة رضوان الله عليهم في الدعاء، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً ولكنكم تدعون سميعاً بصيراً) هنا قرن بين صفة السمع وصفة البصر لله عز وجل، وفي الانفراد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أحمد في مسنده: (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فأثبت الرؤية لله جل وعلا.
أما بالنسبة للقدرة في السنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك) فقوله: (وأستقدرك بقدرتك) هذا هو الشاهد.
وأيضاً في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي موسى الأشعري مرشداً إياه: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة)، فأثبت القوة لله جل وعلا التي هي بمعنى القدرة، هذا بالنسبة للكتاب والسنة.
وأيضاً ثبت في السنة السمع وحده، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن التي تشتكي زوجها كانت تتحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم وإني في ناحية البيت ويخفى عليَّ بعض حديثها، والله جل وعلا يقول: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]).(21/4)
إثبات صفة السمع والبصر والقدرة بالعقل
أما بالنسبة للعقل فقد تثبت هذه الصفات لله جل وعلا من وجهين: الوجه الأول: أن الله قد وصف بعض عباده بهذه الصفات، وهذه الصفات صفات كمال، فإن كان للمرء صفات كمال فالقاعدة تقول: كل صفة كمال اتصف بها المخلوق فمن باب أولى أن يتصف بها الخالق، قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] فجعل له السمع والبصر، ولذلك قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]، فالله جل وعلا أثبت لهم هذه الصفات وهي صفات كمال، فمن باب أولى أن يتصف الله جل وعلا بالسمع والبصر، وكذلك الله جل وعلا يتصف بالقدرة، ومازالت العرب تتشرف أمام الناس بالقدرة على القتال، وبالقدرة على الجماع، وتحمل المشاق، وهذه صفة كمال لهم، فمن باب أولى أن يتصف الله جل وعلا بالقدرة كما يليق بجلال سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن هذه الصفات التي يتصف الله بها جل وعلا لو كانت عارية عن أحد، لكانت صفات نقص، فلو لم يتصف الله جل وعلا بهذه الصفات لكانت صفات نقص، والله له الكمال المطلق؛ ولذلك عاب الله جل وعلا على من يعبد من له صفات النقص، ما لا يسمع ولا يبصر ولا يقدر؛ ولذلك قال الله تعالى على لسان إبراهيم: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يقدر أن يفعل لك خيراً أو يدفع عنك ضراً؟ فهذه من باب العقل صفات نقص، والله له صفات الكمال المطلقة.
إذاً هذه الصفات الثلاث ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة والعقل.
وقولنا: إن الله سبحانه يسمع بسمع فيه رد على المعتزلة الذين قالوا: يسمع بعلم، وقالوا في قول الله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] أي: عليماً بأفعال العباد وأقوالهم، فهم لا يثبتون لله سمعاً، لكن نحن نقول: إن الله يسمع.(21/5)
أقسام سمع الله سبحانه
إن سمع الله جل وعلا أقسام: سمع إدراك وإحاطة، فهو جل وعلا أحاط بكل المسموعات ما دق منها وما خفي، وما جل منها وما عظم، لا يخفى على الله جل وعلا شيء من الأصوات، سواء أكانت أصوات دعاء أم أصوات استغاثة، لا يخفى عليه من ذلك شيء، بل يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى مخ ساقها سبحانه وتعالى، ولا تختلف عليه اللغات، ولذلك قال الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني) معلوم أن الناس تختلف لغاتهم، وهذه من قدرة الله جل وعلا في الخلق، الإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني والعربي والعجمي كل واحد له لغة مختلفة، ومع ذلك لو قاموا في صعيد واحد وفي وقت واحد فسأل كل واحد منهم مسألته من الله وأعطى كل واحد مسألته لوسع سمعه كل الأصوات، فهذا سمع إحاطة وإدراك، وكل مكتوب ومسموع لا يخفى على الله سبحانه، والله جل وعلا يسمع من يناجيه؛ فيثيبه على المناجاة فيقربه إليه، ويسمع من يدعوه ويرجوه؛ فيتقبل دعاءه ولا يرده خائباً، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فهو قريبٌ يسمع دعوة الداعي فيجيب دعاءه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينزل ثلث الليل الآخر فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟) أي: أسمع دعاءه فأستجيب له.
فلا بدَّ أن نستحضر صفة السمع عندما نرفع أيدينا إلى الله جل وعلا وأن يكون دعاؤنا بصدق وإخلاص، فالله يسمع دعاءنا فيستجيب لنا، ولعل رجلاً مخلصاً واحداً قام في ثلث الليل الآخر فرفع يده فدعا الله جل وعلا؛ فسمع الله مناجاته وصوته الخافت، ويتذلّله وانكساره بين يديه جل وعلا استجاب الله له ورفع الغمة عن الأمة، والله جل وعلا وسع سمعه كل الأصوات، فهو يسمع من يخفت صوته مناجاة له؛ كما في حديث أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت بك يا أبا بكر وأنت تخافت بقراءتك، قال: إني أسمع من أناجي) فالله جل وعلا قريب من العبد مع علوه، ولا يخفى عليه شيء، ويثيب من يناجيه جل وعلا.
القسم الثاني: سمع تأييد ونصرة وتسديد، وهذا السمع لو استحضره أهل الإيمان وأهل الصدق وأهل الجهاد لفازوا به، وهذا السمع يُقبل عليه كل مسلم مؤمن صادق مصدق بقوة الله وقدرته، فموسى وهارون لما خافا من بطش فرعون، فقالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45]، قال الله تعالى مجيباً لهما: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: أسمع ما يقال لكما، واعلما أن نصري لكما بالتأييد والتسديد موجود.
فهذا سمع تأييد ونصرة وتسديد، فما أفقر العباد الآن إلى سمع الله جل وعلا سمع التأييد والتسديد والنصرة.
القسم الثالث: من أقسام السمع لله جل وعلا: سمع التهديد والوعيد، وما أحرى الكفار والمنافقين أن يستحضروا سمع الله جل وعلا الذي فيه الزجر والردع والتهديد والوعيد، هذا السمع نستنبطه من قول الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، هذا تهديد شديد؛ لأن الله يسمع المنافق الذي يكيد في الليل بالمؤمنين، ويسمع الكافر الذي يريد أن ينكس راية لا إله إلا الله ويرفع راية الكفر، فالله يسمع ذلك ويهدد بأنه يسمع ذلك؛ لأنهم راجعون إليه وسيحاسبهم.
أيضاً قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة:78] أي: إن كان مكراً دبر بليل وعاونهم على ذلك المنافقون فهو يعلمه، كما ذكر في غزوة الأحزاب أن المنافقين الذين تخلوا عن الله جل وعلا وعن رسوله ومشوا في ركاب الكفار، فإن الله يسمع هذا التدبير بالليل وهذا المكر ويهددهم بهذا السمع، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي: أنهم سيرجعون إليه وسيحاسبهم على ذلك؛ لأنه يسمع سرهم ونجواهم.
القسم الأخير: سمع إجابة الدعاء وسمع إثابة.(21/6)
إثبات السمع لله لا يستلزم إثبات الأذن لله تعالى
إذا أثبتنا لله السمع فإنه لا يستلزم أن نثبت له آلة السمع، فلا نثبت ولا ننفي؛ لعلنا إذا نفينا أن يكون لله أذن ونكون قد نفينا شيئاً ثابتاً لله جل وعلا، وتجرأنا على الله، والله جل وعلا يحرم علينا أن نتكلم عليه بغير علم، ولعلنا إذا أثبتنا أن لله أذناً ولا يكون لله أذن، فنكون قد تقولنا على الله بغير علم، فالصحيح الراجح في مسألة الأذن أننا لا نثبت ولا ننفي؛ لأن هذه من باب الصفات لله جل وعلا، لم يأتِ الشرع بإثباتها ولا بنفيها، ولكن هل يُتصور أن يسمع أحد من غير أذن؟ نعم؛ قد سمعت النار كلام الله جل وعلا، وسمعت الأرض والسماء أوامر الله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
وفي ذلك رد على المعتزلة الذين يقولون: أثبتم السمع فقد شبهتم الخالق بالمخلوق، وجعلتم أذناً لله، فنقول: لا يستلزم إثبات صفة السمع إثبات الأذن التي هي الآلة حاشا لله، فلا نثبت ولا ننفي.
أما بالنسبة للبصر فبصر الله جل وعلا يدرك كل المبصرات، ويرى كل شيء، يرى مخ ساق النملة السوداء في الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، لا تعطي عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً.
وهذه الرؤية تجعل الإنسان يرتدع ويخشى الله الذي يراه، ويرى تحركاته، ويرى ما يدبر بليل، ويرى ما يهدم به الدين، فقد أحاط الله بكل شيء رؤية، كما قال الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).(21/7)
أقسام بصر الله تعالى
بصر الله أقسام: بصر يراد به العلم، أو يلزم منه العلم، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] أي: عليم بما يعملون، وهذا يحتمل الزجر.
وبصرٌ يراد به التأييد والنصرة والتسديد، لقول الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
وبصر يراد به الإثابة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
أي: أنه يراك ويرى منك طاعتك ودعاءك وتذللك وانكسارك لله جل وعلا؛ فيثيبك على ذلك.
وأيضاً: قول الله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] تحتمل أيضاً هذه الإثابة؛ لأن الله بصيرٌ بالذي يعمل الخير، فيثيبه على ذلك.
وأيضاً قول الله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] فيراك حين تقوم الليل فيثيبك على هذا، فهذا أيضاً بصر إثابة وبصر تهديد؛ لأن الله يرى ما يحدث فيهدد من يخالف شرعه، أو يخذل دينه ولا ينصره.
قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] أي: يرى ما يفعل فيحاسبه عليه، وقال جل وعلا: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فهذا تهديد للمنافقين الذين ينافقون ويدسون السم لأهل الإسلام، فالله جل وعلا يخذلهم، بل ويهددهم بأنه يرى عملهم، بل وسيرى الناس عملهم في الدنيا فضيحة لهم، ثم يرجعون إليه ويبعثون؛ فيحاسبهم على نفاقهم أشد الحساب، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.(21/8)
إثبات صفة البصر لله لا يستلزم إثبات آلة البصر
لا يستلزم من إثبات البصر إثبات العين الجارحة لله جل وعلا، لكن العين ثبتت لله بأدلة أخرى جاءتنا من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وقال سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور) كما سنبين صفة العين.
وهناك دليلٌ من كتاب الله أن بعض الأشياء ترى من دون عين جارحة كالنار قال الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان:12] فالنار رأت الكفار ولم يثبت لها العين الجارحة.(21/9)
أقسام قدرة الله تعالى
الله جل وعلا قادر بقدرة، وقدرة الله أحاطت بكل شيء، والله على كل شيء قدير، وقدرة الله أقسام: القدرة على تغيير الإرادات وعلى تغيير ما في القلوب، وهذه أدق الأشياء، وإذا علمتم ذلك فإن المرء يخشى على نفسه، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، لعل المرء يكون مؤمناً في الصباح، فيغير الله ما في قلبه؛ فيغير إيمانه إلى كفر، فيمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ثم يصبح كافراً، والله يمحص البشر، ويبتليهم ويختبرهم بالمصائب؛ ليمحص ما في القلوب، ويميز الخبيث من الطيب، فهذا البلاء والاختبار؛ لتمييز الصف المسلم من الصف المنافق ومن الصف المخذل الكافر، سئل أعرابي: كيف عرفت ربك؟ قال: عرفت ربي بتغيير الإرادات.
أي: أن الله جل وعلا يملك القلب فيغير الهمم ويغير الإرادات.
والله سبحانه قد يبتلي قلب المرء؛ ليعلم هل هو صادق أم أنه لا يريد نصرة الله ولا نصرة رسوله ودينه؟ فهو سبحانه قادر على تغيير الإرادات، فيغير إرادة من يريد إهلاك المسلمين فيصبح يريد الخير للمسلمين، وقد حدث ذلك قديماً وسيحدث حديثاً.(21/10)
صور واقعية تثبت قدرة الله على تغيير الإرادات
من أشهر الصور التي تثبت قوة الله وقدرته جل وعلا على تغيير الإرادات والهمم، غزوة الأحزاب فقد كان عدد أهل الكفر من غطفان ستة آلاف مقاتل، ومن قريش أربعة آلاف مقاتل، ومن يهود بني قريظة وغيرهم، فكانوا أكثر من عشرة آلاف مقاتل، كل هؤلاء تكالبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن قوة الله وقدرته أظهرت أن النصر لا يكون بالسيف فقط، فهذه دالة على قدرة الله جل وعلا، وتجعل المرء إذا علم أن الله قادر على تغيير القلوب والهمم يدعو الله أن يصرف قلوب الذين يريدون تخذيل الدين إلى نصرة الدين، ويصرف قلوب الكافرين لهدم الدين إلى بناء الدين، والله ينصر دينه بالكافر وبالبر وبالفاجر، فالله جل وعلا جعل الخلل في الأحزاب الذين تحزبوا على دين الله، وأرادوا إهلاك واستئصال شأفة المسلمين، ولا يخفى علينا ما حدث في الصف المسلم من رعب وزلزلة، والقاعدة: أن المحن لابد أن يعقبها منح ولن يمكن المرء حتى يبتلى، فالصف المسلم بعد هذه الزلزلة التي وصفها الله جل وعلا بقوله: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11] من تكالب الأحزاب الكافرة عليهم، وتكالب المنافقين وخذلانهم وإرجافهم بأهل المدينة، وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] وأرادوا الرجوع، وكذلك نقض يهود بني قريظة للعهد؛ فأصبح الصف المسلم في زلزلة عظيمة شديدة جداً، فعلم المؤمنون أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وعلموا أن النصر لا يمكن أن يكون بالحسابات المادية بحال من الأحوال، وهذا رد قوي جداً على أصحاب الكفر التائه الضائع الذين جعلهم الله من الهمج الرعاع؛ كما قال علي بن أبي طالب: الناس عالم رباني أو متعلم أو همج رعاع، والهمج الرعاع مثل الذين يقيسون قدرة الله بقدرة البشر، يقولون: كيف يقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمام عشرة آلاف من أهل الكفر بسيوفهم ورماحهم وخيولهم وعتادهم؟ هل للنبي صلى الله عليه وسلم طاقة؟ وأصحابه لا يتجاوزون ثلاثة آلاف، فهل يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يواجههم؟ نقول: إن القوة الخفية التي هي قوة الله جل وعلا فوق ذلك كله، والذي يعلم قدرة المليك المقتدر يعلم أن قوة الله جل وعلا ليست في الموت فقط، أو أن يذيق الكافرين الموت، أو يقلب هذا على ذاك، لا، بل غيَّر الله سبحانه قلب رجل واحد وحوله من الكفر إلى الإسلام، ألا وهو نعيم بن مسعود الغطفاني وكان بغية غطفان هو تمر المدينة وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلخل الصفوف بذكاء منه، فقال: (أبايعكم على ثلث تمر المدينة على أن ترجعوا بجيوشكم، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! إن كان هذا أمر من الله سمعنا وأطعنا، وإن كان هذا أمر تحبه أنت سمعنا وأطعنا، وإن كان من أجلنا فوالله لا نعطيهم تمرة واحدة إلا بالبيع والشراء أو قرى، فألغى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصلح، وقال: شأنكم، وإنما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، قالوا: لنا الله ورسوله) هذا هو الرد القوي، فمن علم بقدرة الله فليقل: لنا الله، ومن جهل قدرة الله فليقل مثل ما قال ذلك الرجل: (لئن قدر الله علي ليعذبني) فهذا الرجل قدح في قدرة المليك المقتدر.
(أتى نعيم بن مسعود الغطفاني النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأخفى إسلامه عن الجميع، فقال: يا رسول الله قد أسلمت، ما تأمرني؟ قال: إنما أنت رجل واحد، ولكن خذل عنا ما استطعت) أي: حاول أن تخذل عنا الذين تمالئوا علينا، وهكذا جعل الله نصر المؤمنين على يد رجل واحدٍ، فذهب الرجل بدهاء الحرب والخدعة إلى غطفان وقريش وأخبرهم أن اليهود ستغدر بكم، وسيأتون إليكم ويقولون: ائتونا برهائن يكونون عندنا؛ حتى لا تغدرون، وهم يفعلون ذلك ثم يغدرون، ثم ذهب إلى اليهود وقال: إن قريشاً وغطفان سيغدرون بكم، فعليكم أن تستوثقوا منهم، فخذوا منهم رهائن، فاختلف الفريقان، ونجحت الخطة، ورد الله جل وعلا قريشاً وغطفان بكيدهم، وأبقى اليهود بحسرتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ كل أموالهم غنيمة له ونساءهم سبياً له وللمؤمنين، ثم بعد ذلك قتل مقاتلتهم، انظروا إلى قدرة الله جل وعلا، قدرة الإرادات! قال الله تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) من يستطيع حرب الله جل وعلا؟! من يقوى على أن يقاتل الله جل وعلا؟! من قاتل أولياء الله فالحرب بينه وبين الله، فإنَّ الله يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
قدرة الله المادية ظهرت جلية في أكثر من صورة من صور غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة بدر كان عدد المسلمين أربعة عشر رجلاً وثلاثمائة، وعدد المشركين ما يقارب ألفاً، وجعل الله النصر للمؤمنين: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].
وأيضاً في غزوة مؤتة كان الروم ثلاثمائة ألف بعددهم وعتادهم بينما عدد المسلمين ثلاثة آلاف، لا يمكن لعقل أن يتصور النصر للمؤمنين، لكن قدرة الله فوق كل قدرة، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]، فالله قادرٌ على أن يرسل الملائكة يقاتلون من أجل نصرة دينه، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، ومن استيقن هذه الآية علم أن الله غالب على أمره، وعلم أن الله ناصر دينه، وأن الله جل وعلا قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
ففي غزوة مؤتة أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم يخبره ما حصل للمسلمين فيها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس باكياً على مقتل هؤلاء الصحابة، ثم قال: (ثم استلم الراية سيف من سيوف الله جل وعلا استله الله على أعدائه، فجعل النصرة على يديه) أي: جعل الله النصر على يد خالد بن الوليد.
لما فقه هرقل هذا الكلام قال لـ خالد: أأنزل الله لك سيفاً من السماء تقاتل به فلا تنكل أبداً؟ وعمر بن الخطاب الذي يفقه أن النصر ليس من خالد ولا من أحد، وإنما النصر من عند الله، أول ما صار خليفة عزل خالداً، ولما سئل وعوتب على ذلك قال: حتى لا يظن الناس أن النصر من خالد، ولما تولى الراية أبو عبيدة بن الجراح جعل الله النصر على يديه؛ لأن النصر من عند الله جل وعلا، والقدرة قدرة الله، فمن استيقن بقدرة الله أتاه نصر الله، أما من لم يستيقن بقدرة الله جل وعلا فهو المخذول.(21/11)
الرد على الأشاعرة والمعتزلة في الصفات
الأشاعرة والمعتزلة قالوا بعدم إثبات الصفات، لكن الأشاعرة يثبتون صفة السمع والبصر والقدرة، ولكن قالوا: الله سميع بصير بعلم، وهناك فارق بين السمع والبصر والعلم، لكن هم يقولون: السمع والبصر يستلزمان العلم حسب زعمهم.
والرد عليهم بأمور: الأول: الأدلة التي سردناها من الكتاب والسنة في عدم استلزام السمع والبصر للعلم.
الثاني: نقول: إنكم خالفتم إجماع الصحابة.
الثالث: أنتم خالفتم ظاهر القرآن وظاهر السنة بدون قرينة.
الرابع: العقل يرد عليكم، فلا يستلزم العلم السمع والبصر، فالأعمى يعلم بوجود السماء ولا يراها، فهل يستلزم علم الأعمى بالسماء أن يراها؟ لا، أيضاً: الأصم الذي لا يسمع يعلم أن الناس يتكلمون ولا يسمع كلامهم، فلا يستلزم العلم صفة السمع والبصر وأيضاً القدرة.(21/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة الوجه
صفات الله عز وجل قد أخبر عنها عز وجل في كتابه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فأثبتها الصحابة الكرام وتابعوهم بلا تأويل ولا تشبيه، ولكن أهل البدع أبوا إلا تأويلها أو تعطيلها.
ومن هذه الصفات صفة الوجه، فقد ذكر عز وجل أن له وجهاً، وكذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأثبتها من اتبع طريق الرسول، وأبى أهل البدع إلا أن يؤولوها وينفوها؛ تحريفاً لكلام الله وكلام رسوله.(22/1)
إثبات صفات الله كما وردت دون تأويل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة، فهو سبحانه يسمع، وسمع الله أحاط بكل شيء، فسبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها، فلا يخفى عليه شيء حتى تفنن الحاجات واختلاف اللغات لا يختلف على الله جل وعلا، فلا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في جوفه، والله يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء.
وقلنا: سميع بسمع، لنرد على بعض طوائف أهل البدع الذين يقولون: سميع بصير بمعنى: عليم، ولو قلنا: إن الله يسمع الأصوات، يقولون: لا، وإنما يعلم الأصوات، ويعلم ما يقولون.
وإذا قلنا: إنه بصير يرى، قالوا: لا، بل هو بصير بمعنى يعلم هذه الأفعال التي تفعل من عباده.
فنرد عليهم بالأثر وبالنظر.
أما الأثر: فالأدلة ظاهرة.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، وقال: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
أما الأثر فقوله صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً بصيراً).
وأيضاً في اللغة معلوم أن السميع هو: من يسمع الأصوات.
وأن البصير هو: من يرى الأشياء.
أما هم فقالوا: لا نثبت السمع ولا البصر، ولكنه يعلم الأفعال التي تفعل، ويعلم الأقوال التي تقال.
ونرد عليهم من النظر: بأنهم أولوا السمع والبصر بالعلم، ولا يستلزم العلم السمع والبصر، فلو قلنا بقولهم فلابد أن ننفي صفتي السمع والبصر؛ لأن الأعمى يعلم بوجود سماء، وأرض، وجبال، وبحار، وهو لا يراها، فلا يستلزم العلم بوجود الجبال والسماء والأرض الرؤية.
وكذلك لو أولنا السماع بالعلم فإننا سننفي صفة السمع.
وهم لا يريدون نفي جميع الصفات مثل الجهمية الذين ينفون كل صفات الله جل وعلا، لكنهم قالوا: السمع بمعنى العلم، ويسمع الأقوال يعني: يعلم الأقوال، فنقول: العلم لا يستلزم السماع، فإذا كان هناك رجل أصم أو أبكم ويرى الناس يتكلمون يعلم بوجود كلام، وأصوات وحروف خارجة من هذه الأفواه، وهو مع ذلك لا يسمع، فلا يستلزم العلم السماع.
وهذه الصفات: السمع والبصر ومثلهما القدرة صفات ذاتية ذاتية، أي: لا تنفك عن الله.
فهي أزلية أبدية.
وإذا اقترن السمع بالبصر أو اقترنت الصفة مع صفة أخرى وصفة ثالثة فإن هذا الاقتران يجعل الصفة الثانية والثالثة على كمال فوق كمال، فيزداد الكمال فيكون أكمل، فقولك: سميع بصير أكمل من أن تقول: سميع فقط، أو بصير فقط، فهذا زيادة في الكمال؛ ولذلك استحسن لمن يتوسل إلى الله جل وعلا أن يكثر من ذكر أسماء الله الحسنى التي يتوسل بها، وصفاته العلى.(22/2)
صفة الوجه
دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل: الوجه، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال جل وعلا: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88].
وهو من الصفات الذاتية الخبرية، وسميت خبرية لأنه غير ممكن للعقل أن يأتي بها أبداً، وإنما ورد بها السمع، فهي صفة ذاتية لا تنفك عن الله، أزلية أبدية، وهي ثبوتية لأنها غير منفية، وهذه الصفة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويمكن تجوزاً أن يكون لها دليل من العقل.
أما ثبوتها بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، ولو قال: (ذي) لكانت ترجع إلى قوله: (ربك).
وقال جل وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فأضاف الوجه إلى الله جل وعلا، والمضاف إلى الله نوعان: أعيان ومعان، فإضافة الأعيان هي إضافة تشريف، مثل: الكعبة بيت الله، عيسى روح الله، محمد رسول الله.
أما المعاني فهي إضافة صفة إلى موصوف، والوجه صفة من صفات الله أضيفت إلى الله جل وعلا.
وأما ثبوتها بالسنة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل قال: (وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى)، فإذا كشفه رأوا الله جل وعلا.
وأيضاً في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، ويرفع إليه عمل النهار قبل الليل، حجابه النار) وفي رواية: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
والشاهد فيه قوله: (حجابه النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه) أي: وجه الله، فالهاء عائدة على الله جل وعلا، فالوجه مضاف إلى الله جل وعلا.
وقوله: (سبحات وجهه) أي: أنوار الله جل وعلا.
وأما ثبوته بالإجماع فقد أجمع سلف الأمة على أن لله وجهاً يليق بجلاله وكماله، لا يشبه وجه المخلوقين، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
ولا نكيف وجه الله جل وعلا الذي له العظمة والبهاء.
وقد وصف لنا الله جل وعلا بعض الصفات التي يتصف بها وجهه ومن هذه الصفات: الصفة الأولى: أنه ذو جلال وإكرام، قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27].
الصفة الثانية: البقاء، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] وهذه من صفات الله الأزلية الأبدية.
الصفة الثالثة: البهاء والعظمة، قال صلى الله عليه وسلم: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه) أي: بهاء الله جل وعلا، وعظمة وجه الله.
فهذه صفات وجه الله، وهي ثابتة بالكتاب وبالسنة وبإجماع الأمة، وله صفات البهاء والعظمة والجلال الإكرام والبقاء، فهذه صفات أزلية أبدية.
وعندما نعتقد أن لله وجهاً نشتاق لرؤية وجه الله جل وعلا، والمسلم إذا نظر إلى وجه الله فإن الجنة لا تعدل عنده شيئاً، فلا يمكن لنعيم أن يوازي نعيم النظر إلى وجه الله جل وعلا.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك)، وإذا لم نعتقد أن لله وجهاً فكيف نسأل الله جل وعلا أن ننظر إلى وجهه الكريم؟!(22/3)
اعتقاد أهل البدع في الوجه والرد على شبهاتهم
أهل البدع عكروا علينا هذا الفهم، وهذا الاعتقاد الصحيح.
فقالوا: أنتم تقولون: لله وجه، فشبهتم الخالق بالمخلوق.
لأننا لو قلنا: لله وجه فهذا جزء وبعض، وإذا قلتم: جزء وبعض فقد جزأتم الله، والله لا يتجزأ.
قالوا: وأنتم شبهتم الخالق بالمخلوق؛ لأن المخلوق له وجه وله يد وله ساق، فشبهتم الخالق بالمخلوق، والخالق منزه عن ذلك.
وقالوا: إن الوجه المراد به الثواب، وما يراد به الوجه حقيقة.
فنقول: الرد عليهم من وجوه: الوجه الأول: أننا نثبت لله وجهاً؛ لأن الله قد أثبته لنفسه، وقد أثبته له نبيه، ونحن لسنا بأعلم من الله جل وعلا، ولا أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله الذي يعلم بنفسه قد أثبت لنفسه وجهاً، والرسول الذي هو أعلم بربه من وحيه قد أثبت له الوجه.
فآمنا بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
أما هذه المقدمة التي قدمتموها وأن فيه تشبيه الخالق بالمخلوق فهي مقدمة باطلة؛ لأننا نثبت لله هذه الصفة دون أن تشابه صفات المخلوقين؛ وذلك تحت قاعدة قعدها الله في كل صفاته، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، والاشتراك في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى.
فعندما أقول: لي يد، وللحيوان يد، وللفيل يد، وللحمار يد، فهل يد الإنسان تشبه يد الفيل؟ لا، وعندما أقول: بأن لي وجهاً، وللمعز وجهاً، فهل وجهي مثل وجه الماعز؟
الجواب
لا.
إذاً: فلي وجه، ولله وجه.
ووجه الله يليق بجلاله وكماله، ووجه الإنسان يليق بنقصه وضعفه.
إذاً: نثبت ما أثبته الله لنفسه دون أن يشابه المخلوقين.
وأما الرد عليكم بأن المراد بالوجه: الثواب فنقول: أولاً: خالفتم ظاهر القرآن.
وظاهر القرآن هو ما قاله الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، فخالفتم الظاهر المعروف من الوجه، فإن الظاهر منه في اللغة معلوم، وإذا خالفتم هذا الظاهر وأولتموه فلا بد أن تأتوا بالقرينة؛ لأن الأصل في اللفظ أن يحمل على ظاهره إلا أن تأتي قرينة تصرفه عن الظاهر إلى المؤول، ولا قرينة لكم هنا.
ثانياً: خالفتم ظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو أعلم الناس بكلام الله جل وعلا، وأعلم الناس باللغة العربية فإنه قال: (اللهم إني أسألك النظر إلى وجهك الكريم)، وقال في دعاء دخول المسجد: (أعوذ بالله العظيم، ووجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)، فخالفتم ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم من دون قرينة صارفة للحديث عن ظاهره.
ثالثاً: لو تنزلنا معكم وقلنا: إن وجه الله هو الثواب، فكيف نعقل هذه الآية التي يقول فيها الله جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]؟ فإن تأويلها عندكم: ويبقى ثواب ربك ذو الجلال والإكرام.
فهل الثواب عاقل حتى يوصف بأنه: ذو جلال وإكرام؟ وهل هناك عاقل يصف الثواب بأنه: ذو جلال وإكرام؟ بل الأشد والأنكى من ذلك، وهو الذي بين ضعف عقولكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النار أو النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
وهذا تأويله عندكم: لأحرقت سبحات ثوابه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وهذا عجيب جداً! وهو يبين ضعف تأويلكم.
فإن الذي يحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه هو وجه الله، وأنوار وجه الله، وبهاء وجه الله جل وعلا.
فقالوا: لا نؤول الوجه بالثواب، ونؤوله بأمر آخر، فنقول: الوجه بمعنى: الذات.
والدليل على أن الوجه لا يراد به الوجه، وإنما يراد به الذات قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، قالوا: فهل يهلك كل شيء ويبقى وجه الله فقط؟ قالوا: ولو قلنا: بأن الوجه هو الوجه فلا بد أن نقول بأن كل شيء هالك إلى وجهه، أي: أن كل شيء سيفنى، ولا يبقى إلا الوجه، وهذا كلام ليس بصحيح، فلابد أن نقول: إن الوجه هو: الذات، وهذا كلام قوي.
فنقول لهم: قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فيها إثبات صفة الوجه، وكل: هنا للعموم، أي: كل شيء.
ولكن كل لفظ عام مؤول في القرآن وفي السنة، أما في القرآن فكما قال الله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] يعني: المساكن لم تدمر، مع أنه قال: ((تُدَمِّرُ كُلَّ)) يعني: كل شيء من المساكن والبيوت والناس، لكن بقيت المساكن، فنحن نؤول كل بمعنى: تدمر كل ما كان قابلاً للتدمير.
فهو مخصوص بالعرف.
وكذلك قوله: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) أي: كل شيء قابل للهلاك فهو هالك.
أما ذات الله ويد الله وساق الله وبصر الله وعين الله فهذه صفات أزلية أبدية ليست قابلة للهلاك، فنقول: (كل) هنا ليست على العموم.
فقول الله تعالى: ((كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)) يعني: يبقى وجه الله جل وعلا، وباللزوم إذا بقي الوجه يبقى الذات.
ونقول لهم: النبي عليه الصلاة والسلام غاير بين الوجه وبين الذات، فكيف تسوون أنتم بين الوجه وبين الذات؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم غاير بينهما، فعطف الوجه على الذات، وهذا العطف يدل على المغايرة؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم) فذكر الذات، ثم عطف عليه صفة الوجه، وهذا العطف يدل على المغايرة، وأن الوجه غير الذات، بل الوجه صفة للذات، لأنها أضيفت إليه، كما قال الله تعالى: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ))، فأضاف الصفة إلى الذات وهو الموصوف.(22/4)
معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله)
فإن قالوا: عندنا دليل آخر: وهو أن السلف أولوا هذا التأويل، فقالوا: وجه الله: الجهة، وذلك في قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فقد قال بعض السلف: أي: فثم جهة الله جل وعلا.
بمعنى: أنك أينما توجهت وأنت تصلي إذا كنت لا تعرف جهة القبلة فاجتهدت وصليت فأنت في جهة الله جل وعلا، وصحيح أن بعض السلف قال ذلك.
فنقول: نحن لا نخالفكم في هذا التفسير، وهذا التفسير لا ينافي إثبات الوجه لله.
وبيان ذلك أن بعض السلف أولوا الوجه في الآية على الجهة.
والأصل في أي لفظ أن يكون على ظاهره، إلا أن تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول، وهنا قرينة، وهي سبب النزول فسبب نزول الآية: أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، واجتهدوا رأيهم أين القبلة، فتوجه كل منهم باجتهاده إلى جهة وصلى، ولكن خافوا ألا تقبل الصلاة؛ لأنهم أخطئوا القبلة، فطيب الله قلوبهم، وبين أن ثوابهم لا يضيع، فأنزل قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] أي: فهناك جهة الله جل وعلا، يعني: أينما تولوا وجوهكم باجتهاد فصلاتكم صحيحة، وثوابكم محفوظ عند الله جل وعلا، وأنتم مأجورون على ذلك.
فنقول: إن هذا لا يخالف الحق، فنثبت الجهة ونثبت الوجه لله؛ لأن عندنا الدليل الذي يفسر قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ووجه الله أحاط بكل شيء؛ لأن الله قد أحاط بكل شيء، فوجه الله أحاط بكل شيء، فأينما تولوا فهناك وجه الله، فوجه الله أحاط بكل شيء وهو على عرشه، ودليل ذلك حديث الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم يصلي فلا يبصقن أمام وجهه، فإن الله قبل وجهه)، فإن الله أحاط بكل شيء، ووجه الله أحاط بكل شيء.
فنثبت لله الوجه، وأيضاً: نثبت له الجهة، ولا منافاة.
فوجه الله ثابت، والجهة أيضاً ثابتة، فأينما تولوا وجوهكم فهناك جهة الله؛ لأن الله قد أحاط بكم.
إذاً: هذه الصفة الذاتية الخبرية ثابتة بالكتاب وبالسنة وبإجماع السلف.(22/5)
معنى حديث (فإن الله خلق آدم على صورته)
يوجد إشكال واحد على هذه الصفة، وهذا الإشكال عجيب، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضرب الوجه)، ثم علل ذلك في رواية ابن خزيمة وغيره فقال: (فإن الله خلق آدم على صورته)، فتكريماً لهذا الوجه الذي خلقه الله على صورة الله قال: (لا تضربوا الوجه)، ثم قال: (فإن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية: (فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
فنقول: إن صفة الوجه ثابتة لله جل وعلا، وثبوت الوجه لله مندرج تحت قاعدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
فوجه الله ثابت، لكنه لا يشبه وجه المخلوقين.
وهذا الحديث يقول: (إن الله خلق آدم على صورته) وفي رواية أخرى قال: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
فنقول: أولاً: ثبت العرش ثم انقش.
فأكثر المحدثين على أن هذا الحديث ضعيف بزيادة: (الرحمن)، والاحتجاج فرع عن التصحيح، فإذا كان حديثاً ضعيفاً فلا نحتج به.
ثانياً: لو تنزلنا مع الخصم وقلنا: إن الحديث صحيح، ففي اللغة أن الضمير يعود على أقرب مذكور.
وأقرب مذكور هو آدم، فالهاء: عائدة على آدم.
أي: خلق الله آدم على صورته التي هو عليها، وهي: أن طوله ستون ذراعاً، وأن عرضه سبعة أذرع، وأن شعره كالشجرة.
فإن اعترض المعترض وقال: إن عندنا قرينة على أنها ترجع إلى الله، وذلك الحديث الذي في النسائي: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
فنقول: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن، أي: له وجه كما أن لله وجهاً، وله ساق كما أن لله ساقاً، وله يد كما أن لله يداً، ولا يستلزم التساوي في اسم الصفة التشابه والتماثل في الصفة نفسها، فالله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وإذا اعترض علينا المعترض بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن)، قد صححه بعض العلماء، ومنهم: الشيخ الألباني رحمه الله فنقول: إن تأويله الصحيح عن من صحح إسناد هذا الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: إن له وجهاً كما أن لله وجهاً، وله يد كما أن لله يداً، وله سمع كما أن لله سمعاً، وله بصر كما أن لله بصراً، وله ساق كما أن لله ساقاً.
أو أن الإضافة إلى الله هنا إضافة تشريف، ويكون التأويل الصحيح: إن الله خلق آدم على صورته أي له صفات كما أن لله صفات، له يد كما أن لله يداً، وله عين كما أن لله عيناً، وله سمع كما أن لله سمعاً.(22/6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة اليد
لقد أخبر الله عز وجل في كتابه الكريم أن له أسماءً وصفاتٍ، وكذلك أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أثبتها الصحابة ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم بإحسان كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله، ثم جاء المبتدعة فأرادوا نفيها أو تأويلها، فوقف لهم علماء السنة بالمرصاد، وردوا على شبههم، وبينوا بطلانها، ومن هذه الصفات صفة اليد لله عز وجل، فقد أثبتها أهل السنة كما أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله، وردوا على المبتدعة الذين لا يؤمنون بها.(23/1)
حكم صيام يوم السبت
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل: الوجه، والعينين، واليدين.
وقبل أن أتكلم عن هذه الصفات أريد أن أذكر كلام العلماء في حكم صيام يوم السبت منفرداً، قال الجمهور: إنه يكره إفراده، ولا يحرم، وذهب الشيخ الألباني إلى أن صيام يوم السبت يحرم على الإطلاق، وله سلف في ذلك، وهو الإمام ابن جرير الطبري، واستدلا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم).
قالا: فمعنى الحصر أن يوم السبت لا يصام فيه إلا الفرض، ويدخل تحت الفرض صيام رمضان والقضاء وكفارة النذر.
ولكن قد وردت أدلة أخرى تتعارض مع هذا الدليل، ولا بد من الجمع، ومن هذه الأحاديث أنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وكانت صائمة يوم الجمعة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (صمت أمس؟ قالت: لا)، وصوم يوم الجمعة معلوم إنه منهي عنه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام، ولا يوم الجمعة بصيام) فقال لها: (صمت أمس؟ قالت: لا، قال: تصومين غداً؟ قالت: لا، قال: إذاً: فافطري) يعني: لا تفردي يوم الجمعة بصيام.
ووجه الشاهد هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (تصومين غداً؟) وغداً هو السبت، فقد أباح لها أن تصوم يوم السبت مقروناً مع صيام الجمعة، وهذا قرينة قوية تصرف الحكم من التحريم إلى الكراهة على قول الجمهور، أو تجعل دائرة التحريم في الانفراد دون الاجتماع، وهذا هو أقوى الأقوال، وهو الصحيح؛ لأن الأصل في النهي التحريم ما لم تأت قرينة تصرفه من التحريم إلى الكراهة، وقد جاءت هنا القرينة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصوم يوم السبت ولا يأمرها بحرام.
فصيام يوم السبت لا يجوز منفرداً وإنما يجوز إذا كان مع يوم آخر، ولذلك استشكل بعض العلماء إذا كان يوم عرفة يوافق يوم السبت ولم يصم الإنسان العشر، فهل يصوم يوم عرفة منفرداً؟! وهل يدور ذلك بين التحريم أو الكراهة؟ فنقول: هذا اليوم يسمى يوم السبت، ويسمى يوم عرفة، فالذي صام يقول: صمت عرفة، ولم أصم السبت فتغاير المسمى.
وهنا إشكال وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، فإذا وافق يوم الصيام يوم السبت فهل يجوز له صيامه؟ نقول: النبي نهى عن استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين فقال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) ثم استثنى فقال: (إلا أن يكون صوم يوم أحدكم) يعني: عادة له، فمن كان عادته أن يصوم يوماً ويفطر يوماً فلا بأس أن يصوم يوم السبت.(23/2)
صفة اليد لله تعالى(23/3)
أدلة صفة اليد
صفة اليدين لله جل وعلا صفة خبرية ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، والقاعدة العقلية تقول: كل كمال يوصف به العبد فالله أولى به، وكل نقص ينزه عنه العبد فالله أولى أن ينزه.
فهذه الصفة ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل، ولإثبات هذه الصفة لوازم كثيرة منها الخلق، قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
ومنها: النفقة، قال تعالى: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله ملأ لا تغيضها النفقة).
ومنها: البطش، قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12].
لله عز وجل يدان، وأما قول الله جل وعلا: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فهو مفرد مضاف يعم الكثير، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] فهو للتعظيم، كما قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9]، ويد الله يمين وشمال، فقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله السماوات، أو يقبض السماوات بيمينه).
وفي رواية: (ويقبض الأرض بشماله)، وكلتا يدي ربي يمين، أي: من اليمن والبركة، كما أن اليمن والبركة تأتي من اليمين ولا تأتي من الشمال، وصفات الله كلها كمال وجمال؛ لأن اليد الشمال في الإنسان تكون دائماً أعجز من اليمين، فلا بد للإنسان أن ينزه الله عنها.(23/4)
تأويل المبتدعة لصفة اليد وشبههم
أهل البدعة والضلالة والتأويل قالوا: إن وصفنا الله باليد فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، بل اليد عندنا بمعنى القدرة، ومن الأدلة على ذلك: أن معنى ضرب اليد بالحديد أي: بقوة أو بقدرة، وهذا معروف في لغة العرب، والله جل وعلا لما وصف عباده بقوله: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] أي: أولي القوة.
وأيضاً لما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] أي: بقوة، فكل ذلك يثبت أن معنى اليد القدرة والقوة.
وجاءت طائفة أخرى وهم المحرفة الأشاعرة فقالوا: إن اليد بمعنى النعمة قالوا: والدليل على ذلك من السنة، وأيضاً لنا مسوغ من لغة العرب.
أما الدليل فقالوا: إذا أراد أن يمن أحد على أحد فإنه يقول له: كم أيد عندك لي؟ وذلك من لغة العرب كما جاء في قصة صلح الحديبية أن أبا بكر رضي الله عنه بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وعروة يقول له: ما أرى معك إلا أوباشاً من الناس يفرون عنك، فغضب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه غضباً شديداً وقال له كلمة شديدة قال: امصص بظر اللات، ويعتذر لـ أبي بكر رضي الله عنه عن ذلك بقول الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، ولذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عروة: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك يعني: لكلت لك الصاع بالصاعين، فوجه الشاهد قوله: يد لك عندي، يعني: نعمة أكرمتني بها، ولم أجزك عليها، وقبل أن نرد عليكم نفصل فرقكم إلى أكثر من طائفة.
الطائفة الأولى: طائفة الغلاة الجهمية الذين ينفون الاسم والصفة، ويثبتون الذات، فيقولون: لا سميع ولا سمع، لا بصير ولا بصر، فهؤلاء غلاة الجهمية، لكن أثبتوا ذاتاً لله جل وعلا، ولم يثبتوا الصفات، فيجاب عليهم بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: القول في الصفات فرعٌ عن القول في الذات، فإن أنتم أثبتم ذاتاً فيلزمكم أن تثبتوا الصفات؛ لأن القول في الصفات كالقول في الذات يحذو حذوه.
الطائفة الثانية: أهل التأويل من المعتزلة والأشاعرة، فنقول لهم: التأويل تأويلان: تأويل يكفر، وتأويل يفسق، أما التأويل الذي يكفر: فهو التأويل الذي ليس له مسوغ في اللغة، كمثل أن يقول الله جل وعلا: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، فيقولون: العين معناها الزرع، فهل العين في لغة العرب تكون زرعاً أو نباتاً؟ فهذا لا مسوغ له في اللغة فيكون كفراً؛ لأن مآله إلى الإنكار والجحود، فيجحدون بهذه الصفة، ويؤولونها بلا مسوغ من اللغة، هذا التأويل الأول.
أما التأويل الثاني: فهو تأويل المعتزلة والأشاعرة الذي له مسوغ من اللغة، وهذا محله التفسيق لا التكفير، فمن تأول الصفة بمسوغ في اللغة ولم يقل به النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الكرام، فهذا يصل به إلى الفسق؛ كما تأول الأشاعرة العين بالرؤية، أي: بلازم الصفة، أو كما تأولوا النزول بنزول الرحمة أو نزول الأمر، فهذا له مسوغ في اللغة فيصل بصاحبه إلى الفسق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك، والصحابة الكرام لم يقولوا بذلك.
فالقول فسق، ولكن القائل ليس بفاسق ولا كافر حتى تقام عليه الحجة، وتزال عنه الشبهة.(23/5)
الرد على من أول صفة اليد
الرد على هذه الشبهة التي قالوا فيها: إن اليد بمعنى القدرة وبمعنى النعمة كما يلي: أولاً: نقول لهم: خالفتم ظاهر القرآن؛ لأن الله جل وعلا قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10].
وقال جل وعلا: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) , فعداها بالباء، وأضافها لنفسه دلالة بأنه باشر الخلق باليد المعلومة لدينا معنى.
وأيضاً: إن أولتموها بمعنى النعمة فإن الله جل وعلا يقول: ((لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ))، فيكون المعنى: بنعمتي على قولكم! وهذه لا قرينة عليها، فخالفتم ظاهر القرآن والسنة.
ثانياً: أأنتم أعلم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل أنتم أعلم أم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أفلا يسعكم ما وسعهم؟ فرسول الله لما قرأ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ما قال: قدرة الله فوق قدرته، وما قال: نعمة الله فوق نعمتهم، فما قال ذلك صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بالله، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سكت عن هذا للعلم بالمعنى عندنا أفلا يسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم؟! ثالثاً: خالفتم إجماع السلف فقد أجمع السلف أن لله يداً حقيقية تليق بجلاله وكماله.
رابعاً: نقول تنزلاً مع الخصم: اليد بمعنى القدرة، فننظر إلى المعنى، قال الله تعالى: ((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) فهذا الدليل لا يسلم من المعارضة، وكل من يستدل على قاعدة أو على حكم لا بد له من دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا بد لهذا الدليل أن يسلم من المعارضة، وهذا التأويل لا يسلم من المعارضة، فقولهم: المعنى: لما خلقت بقدرتي، فيها أكثر من اعتراض: الاعتراض الأول: تجزئة الصفة، فقد جعلوا القدرة قدرتين، وتجزئة الصفة لا بد لها من دليل؛ لأن الصفة لا تتجزأ؛ فالقدرة عامة ولا تتجزأ إلا إذا دل الدليل على تجزئة الصفة، فلا يجوز أن نقول: لما خلقت بقدرتي؛ لأنها تجزئة لصفة الله جل وعلا، ولا يجوز على الله جل وعلا أن نجزئ صفته، هذا أول اعتراض، ولا يمكن أن يسلم منه هذا التأويل.
الاعتراض الثاني وهو أوجه وأقوى: قال الله تعالى منكراً على إبليس ممتدحاً آدم: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أي: للذي ميزته بهذه الميزة، وشرفته بهذا التشريف، بأن باشرت خلقه بيدي، فلو كان المعنى بقدرتي لتنطع إبليس وقال: يا رب! كيف ميزت آدم علي وقد خلقته بقدرتك وأنا خلقتني بقدرتك؟ لأن المحل هنا محل مدح وتمييز لآدم على إبليس بمباشرة الخلق بيده، ولو كان بالقدرة فإن إبليس خلق بالقدرة أيضاً.
فلا بد أن يقول إبليس: يا رب أنا خلقت بالقدرة وهو خلق بالقدرة فلماذا تميزه علي؟! فكان إبليس لعنة الله عليه أفقه من هؤلاء البله، فلما علم أن الله جل وعلا يفضل آدم عليه بمباشرة الخلق باليد تحول إلى اعتراض آخر وقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فتحول إلى القياس الفاسد.
فإبليس كان أفقه منهم، فعلم أن الله باشر خلق آدم بيده الشريفة المقدسة سبحانه وتعالى، فهو أفقه من الأشاعرة، وهذا الاعتراض لا يمكن أن يسلم منه هذا التأويل، ولا رد لهم عليه، فيسقط هذا التأويل؛ لأنه ليس له قرينة تصرف الآية عن ظاهرها إلى المؤول.
أما التأويل الثاني لليد الذي هو: بمعنى النعمة، ويقولون له مسوغ من اللغة، فنقول: أولاً: خالفتم ظاهر القرآن: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فاليد ليست النعمة، بل الظاهر أنها: اليد الحقيقية المعلومة، فاليد معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة.
ثانياً: خالفتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم لستم بأعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كانت اليد بمعنى النعمة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]، فمن تمام التبليغ التبيين، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] والقاعدة تقول: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذه صفة من صفات الله جل وعلا، فكيف يتأخر النبي صلى الله عليه وسلم عن تبيين ذلك؟! ثالثاً: خالفتم الإجماع؛ لأن السلف أجمعوا بأن اليد حقيقية يوصف بها الله جل وعلا.
رابعاً: تنزلاً مع الخصم نقول: إذا أولنا الآية كما أولتم فلا نسلم من المعارضة؛ لأنه يكون معنى قوله تعالى: ((يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)): يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي، فحصرنا نعم الله عز وجل بنعمتين فقط، مع أن الله جل وعلا يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
ويصرح في آية أخرى قائلاً: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} [النحل:53]، و (من): مبهمة تدل على العموم، يعني: ما بكم من أي نعمة فمن الله، فكيف حصرتم نعم الله جل وعلا في نعمتين؟! فلم تسلموا من هذا المعارض.
وبهذه الطريقة تبهت شبهتهم، ويسلم لنا الدليل بأن اليد يد حقيقية، وثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وإجماع السلف.(23/6)
إثبات صفة الكف والأصابع والأنامل لله
هل يمكن أن يوصف الله جل وعلا بالكف أو بالأصابع أو بالأنامل؟ أما الأصابع فنعم، فإذا أثبتنا لله صفة اليد فنحن نثبت لله جل وعلا الأصابع، وحديث الحبر أشهر دليل في ذلك، فقد دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يحمل الله جل وعلا الجبال على ذا، والبحار على ذا -إلى آخر الحديث- وقال: يهزهن هزاً؛ فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم)، إقراراً للحبر، فهذه سنة تقريرية، فهو يصف الله جل وعلا، ولو كان هذا الوصف لا يجوز على الله لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله، ولكنه أقر الحبر على هذا الوصف.
وأيضاً في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وكان أكثر دعائه يقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك).
وكذلك الأنامل يوصف الله جل وعلا بها، فقد جاء في الترمذي بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فرأيت ربي في المنام)، وهذه قاعدة عريضة لكل فرد من هذه الأمة أنه يمكن أن يرى ربه في المنام، قال: (رأيت ربي في المنام، فسألني: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: الله أعلم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قال: (فوضع يده على صدري) يعني: أن الله جل وعلا وضع يده على صدره، قال: (فوضع يده على صدري حتى شعرت ببرد أنامله)، فأضاف الأنامل لله جل وعلا، فإذاً يوصف الله جل وعلا بالأنامل؛ لأنه قال: (فشعرت ببرد أنامله) إلى آخر الحديث.
كذلك يوصف الله جل وعلا بالكف، فقد روى الدارقطني بإسناد صحيح وصححه ابن خزيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب، ثم قال: ومع كل ألف يدخل سبعون ألفاً، فكبر عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم يحثو الرحمن بكفه ثلاث حثيات، فكبر تكبيرة شديدة)، فأتى باسم الرحمن، لم يقل: الرب، أو الله، أو الخالق، وإنما قال: الرحمن إيماءً وإشارة برحمة الله جل وعلا، فإذا كانت الحثوات من الرحمن الرحيم فلعل كل المسلمين إن شاء الله يكونون في هذه الحثوة، ولذلك كبر عمر: قال: (ومع هؤلاء ثلاث حثيات يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) فقال: (يحثو الرحمن بكفه)، فوجه الشاهد قوله: بكفه، فلله كف.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(23/7)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - صفة النزول
يجب على الإنسان العاقل ألا يعمل ذهنه وفكره إلا في حدود قدرته وطاقته، وصفات ربنا سبحانه وتعالى لا مجال للعقل أن يتخيلها بحال؛ لأن الله لا نظير له ولا ند له، فنثبت صفة النزول وغيرها من الصفات كما جاءت في الكتاب والسنة، ونجريها على ظاهرها كما أجراها السلف؛ إن أردنا الفلاح كما أفلحوا.(24/1)
أقسام الصفات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فما زلنا مع صفات الله جل وعلا، وقلنا: إن صفات الله جل وعلا على قسمين: صفات ثبوتية وصفات سلبية.
أما الصفات الثبوتية: فهي التي أثبتها الله جل وعلا في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ذاتية وفعلية وخبرية.
أما الصفات الذاتية فهي التي لا تنفك عن الله جل وعلا، فهي أزلية: أي: أبدية، أما الفعلية فهي التي تتعلق بالمشيئة، أي: إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها، أما الصفات الخبرية: فضابطها: أن مسماها عندنا أجزاء وأبعاض.
وأما الصفات السلبية: فهي الصفات المنفية عن الله جل وعلا وضابطها: أن تجد قبلها: لا أو ما النافيتان كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] فهذه هي الصفات السلبية.
فصفات الله صفات ثبوتية وصفات سلبية، وما زلنا مع الصفات الثبوتية مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب تبارك وتعالى، وصفة النزول صفة ثبوتية وفعلية، أي: اختيارية، وضابط الصفات الفعلية: أن تضع قبلها (إن شاء)، مثلاً: إن شاء جاء وإن شاء لم يجئ، إن شاء فعل كذا وإن شاء لم يفعل، إن شاء استوى وإن شاء لم يستو، إن شاء أتى وإن شاء لم يأت.(24/2)
أدلة صفة النزول
الصفات الفعلية ثابتة لله جل وعلا بالكتاب والسنة وإجماع السلف، ومنها: صفة النزول، أما ثبوتها بالكتاب فبالاستنباط من قول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] وروى ابن منده بسند صحيح عن ابن مسعود قال: (أربعون سنة شاخصة أبصارهم ينتظرون القضاء، فينزل الله جل وعلا من العرش إلى الكرسي في ظلل من الغمام).
وهذا الأثر عن ابن مسعود إن كان سنده صحيحاً فهو من باب الموقوف الذي له حكم الرفع؛ لأنه لا يدخل الاجتهاد فيه.
أما من السنة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا جل وعلا حين يكون ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟) وفي رواية عن علي رضي الله عنه وأرضاه في مسند أحمد: (هل من سقيم فأشفيه؟ وهل من مستشفٍ فأشفيه)؟ وأيضاً في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل الله حين يكون ثلث الليل الآخر فيقول: أنا الملك)، وأتيت بهذه اللفظة لأنها مهمة جداً في الرد على أهل البدع، (فيقول: أنا الملك هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟)(24/3)
تعدد نزول الله إلى سماء الدنيا
نزول الله جل وعلا متعدد، فينزل جل وعلا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يكون ثلث الليل الآخر، نزولاً يليق بجلاله وكماله، وهذه من صفات الكمال والجلال؛ لأنها تدل على أن الله يفعل، والذي يفعل أكمل من الذي لا يفعل، والله جل وعلا فعال لما يريد، فينزل نزولاً يليق بجلاله وكماله إلى السماء الدنيا، فينزل كل ليلة حين يكون ثلث الليل الآخر، وينزل ليلة النصف من شعبان، ورد ذلك بأسانيد ضعيفة يعضد بعضها بعضاً، فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لكل أحد إلا المشرك والمشاحن) نعوذ بالله من المشاحنة، فيحرص المسلم أن يبيت وليس في قلبه على أحد شيء، فقد يطلع الله جل وعلا على نقاء قلبه فيغفر له، كما في الحديث: (يغفر لكل أحد إلا المشرك والمشاحن).
أيضاً: هناك نزول آخر، وهو نزول الله جل وعلا عشية عرفة، ووردت في هذا أحاديث أسانيدها ضعيفة لكن يستأنس بها، وتدل على أن الله ينزل عشية عرفة، فيباهي الملائكة بهؤلاء الشعث الغبر الذين أتوه جل وعلا خاضعين متذللين.
ولازم نزول الله جل وعلا قربه من عباده، مع علوه سبحانه، فهذا النزول قرب خاص يستلزم الرحمة، ويستلزم المغفرة والعطاء، فالنزول من الله جل وعلا يستلزم هذه الرحمات، فالنزول في ثلث الليل الآخر ليس عاماً ولكنه خاص لعباد الله المؤمنين، فإذا قلنا: إن هناك بلدة مليئة بالكفار، وليس فيها مسلم واحد فلا نزول في ثلث الليل الآخر لهذه البلدة، فالنزول خاص بالمؤمنين، كما أن المفخرة والمباهاة للملائكة بالحجاج فقط، أي: أن الله جل وعلا يباهي الملائكة بالحجيج، فكذلك النزول في الثلث الآخر لا يكون إلا للمؤمنين المستغفرين بالأسحار.(24/4)
تعبد الله بمقتضى صفة النزول
يستوجب على العبد أن يتعبد لله جل وعلا بأن يقوم في ثلث الليل الآخر، ولو قلنا: إن اليوم من طلوع الفجر فتكون أربع ساعات ما بين الثلث الآخر إلى طلوع الفجر، فتحسبها بهذا، ويكون ذلك هو ثلث الليل الآخر، فيقوم فيه العبد ذليلاً خاضعاً متذللاً متمسكاً أمام ربه، يرفع يديه ويعلم في قلبه أن الله حيي كريم ستير جواد كريم، يستحي أن يرد العبد خائباً، وهو ستير يستر عليه عيوبه، وكريم جواد يستجيب له ويغفر، ويرفعه إذا تذلل له وخضع بحق لله سبحانه جل وعلا.
وقرب العبد من الرب جل وعلا أكثر ما يكون في السجود، وفي ثلث الليل الآخر يخلو القلب من أي شواغل، فينتهي المرء من يومه وعمله ثم ينام، ويستيقظ خالي الذهن، والناس نيام وهو قائم، هذه الأوقات أوقات جلها إخلاص، أوقات كلها ذل ومسكنة لله جل وعلا، فدمعة واحدة تنزل من عين هذا العبد القائم الخائف الذي يقوم لله جل وعلا يستمطر بها رحماته جل في علاه في هذه الأوقات، وهذا الوقت من أوقات الإجابة، كما بينه ابن القيم.
فيستلزم أن العبد إذا علم أن الله ينزل ثلث الليل الآخر أن يجتهد في هذا الوقت، ويستغفر الله جل وعلا، ويطلب منه من فضله ويطمع في الطلب، ويستحيي أن يطلع الله جل وعلا عليه فيجده نائماً والآخرون قائمون.
اللهم اجعلنا ممن يقوم في الأسحار يا رب العالمين.(24/5)
إثبات عدم خلو العرش عند النزل إلى سماء الدنيا
لو سأل سائل: أين الله؟
الجواب
فوق العرش في السماء.
وإذا نزل الله جل وعلا من العرش فهل يخلو منه العرش؟ إذا أثبتنا لله النزول فنقول: هو نزول يليق بجلال الله وكماله، فمن قال: إن النزول يستلزم منه خلو من العرش فقد شبه الخالق بالمخلوق، فالعرش في اللغة: السرير الذي يجلس عليه الملك، كهذا الكرسي، فإذا نزل المرء من الكرسي فقد خلا منه، فمن قال: إذا نزل الله جل وعلا إلى السماء الدنيا خلا منه العرش فقد شبه الخالق بالمخلوق.
وإن قال: لا ينزل فقد قال بقول المعطلة الجهمية، والصواب الذي عليه إسحاق بن راهويه والإمام أحمد والشافعي والسلف الصالح: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، لأن نزوله يليق بجلال الله وكماله، والسماء لا تقله ولا ظله، فينزل الله جل وعلا من عرشه إلى السماء الدنيا، ولا يخلو منه العرش؛ لأن صفات الله لا يعلمها إلا هو جل وعلا.
ويمكن أن يقال: يستحب أن النائم ينام متوضئاً كما ورد الأثر في ذلك، فإذا نام صعدت روحه إلى العرش، فإن كان متوضئاً نائماً طاهراً تطوف حول العرش، وإن كان جنباً أو غير متوضئ تكون بعيداً عن العرش، وهو نائم على سريره، وروحه عند العرش تطوف، فهل أحد يعرف كيف تطوف الروح عند العرش؟ لا أحد يعرف ذلك.
فهذه الروح في جسدك ولا تعرف كيف تصعد إلى السماء، ولا تعرف شيئاً عن الملائكة، فنزول الله نزول يليق بجلاله وكماله ولا يخلو منه العرش.
ويبقى إشكال واحد فقط نرد عليه؛ لأن من أهل البدع من يقول: إذا قلتم: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فهنا في بلادنا ثلث ليل في وقت معين، ثم في بلاد أخرى يكون ثلث آخر، وهكذا، فهل يستلزم ذلك أن الله يبقى نازلاً كل الليل؟ نقول: هذا من كلام أهل البدع، أما نحن فنؤمن بما جاءنا، ولو كان هناك تفصيل لقاله النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن نؤمن أنه عندما يبدأ ثلث الليل فالله نازل في هذا الثلث، فإن كان في مصر ثلث الليل الآخر فالله نازل فيه، وإن كان في أمريكا مسلمون ففي ثلث الليل الآخر ينزل الله جل وعلا هناك وهكذا، فنؤمن بما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا نتبع المبتدعة ونقول: إن الله في كل الليل نازل، وإنما ينزل في ثلث الليل الآخر فقط.(24/6)
حكم تأويل صفة النزول إلى سماء الدنيا بنزول الأمر ونحوه
من أقوال أهل البدع -الذين لم يجعلونا نسلم في عبادتنا لله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا-: إن معنى نزول ربنا في ثلث الليل الآخر إلى السماء الدنيا: نزول أمره، ونزول ملائكته ورحمته، وإذا قلنا بنزوله فقد شبهنا الخالق بالمخلوق.
والرد عليهم من وجوه: الوجه الأول: هذا خلاف ظاهر الكتاب والسنة.
الثاني: أأنتم أعلم أم رسول الله؟! أأنتم أعلم أم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو كان النزول نزول الأمر أو نزول الملائكة أو نزول الرحمة، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يبينه فإما أنكم تتهمونه بالتقصير في البلاغ، وإما أنكم أعلم منه، ولم يسعكم ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم، فيهربون ويقولون: لا نتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير، ونقول: إذا لم تتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير فالنبي قد بلغ ما أمره الله بتبليغه، وقال: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله.
الثالث: أنتم خالفتم طريقة السلف، فإجماع الصحابة أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله جل وعلا.
الرابع: ليس لكم دليل صريح يؤول هذا الظاهر إلى المؤول الذي ادعيتموه، أين الدليل أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا للسماء الدنيا) فيه حذف، أي: أن الظاهر: أن النزول هنا مضاف للرب جل وعلا، فأين الدليل على حذف إضافة النزول إلى الرب نفسه سبحانه؟ هم يقولون: التقدير ينزل أمر ربنا، فنقول: الأصل عدم التقدير، وإن قلتم بالتقدير فأتونا بالدليل عليه، وعندهم دليل يثبت ذلك.
والقاعدة هذه لو حفظتموها فستردون على كل أهل البدع بنفس الطريقة.
الخامس: نتنزل مع الخصم ونقول: ينزل أمر ربنا، وتنزل الملائكة، وتنزل الرحمة، فهل يسلم هذا الكلام من معارضة أم لا؟ فلو قلنا: ينزل أمر ربنا تنزلاً مع الخصم فكيف نؤول حديث (فيقول: أنا الملك، هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟).
فأول اعتراض: هل أمر ربنا جل وعلا لا ينزل إلا في الثلث الآخر؟ وكيف تفعلون بقول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]؟ يعني: كل وقت هو في شأن، يعز أقواماً ويذل آخرين، ويعطي هذا ويمنع هذا، يميت هذا ويحيي هذا، يرفع أقواماً ويخفض آخرين كما قال سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يعني: كل حين وآن هو في شأن، فكيف خصصتم الأمر الذي ينزل ليل نهار وكل ساعة ودقيقة بثلث الليل الآخر؟ وإن قلتم: ينزل في ثلث الليل الآخر فإلى أين ينزل؟ إلى الأرض أم إلى السماء الدنيا؟ قال في الحديث: (إلى السماء الدنيا) يعني: لا ينزل للأرض، وفيها أن الله ينزل فكيف تؤولونه بالأمر؟! فهذا أول اعتراض عليهم، وهو اعتراض قوي لا يستطيعون رده.
الاعتراض الثاني: إن كان المراد نزول الأمر، فهل يقول: أنا الملك؟ والأمر كما هو معلوم صفة، فهل الصفة تقول: أنا الملك؟!! وهل أحد سمع صفة تقول له: تعال أولاً اذهب، أو افعل كذا؟ فهذا الاعتراض الثاني.
الاعتراض الثالث: لو قلنا: إن الأمر يقول: أنا الملك، فهل يقول أيضاً: هل من سائل فأتوب عليه؟ فهل الأمر هو الذي يتوب على العباد أم الله الذي يتوب على من يشاء وحده؟! الله الذي يتوب على العباد، وما قيل في الأمر يقال في الرحمة، أي: هل تختص الرحمة بالنزول في ثلث الليل الآخر؟ فالليل والنهار تأتينا فيهما آثار رحمة الله تترى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، هذه النعم من آثار رحمة الله جل وعلا كالمطر ونحوه، فهل ثلث الليل الآخر مختص برحمة الله جل وعلا دون ما سواه؟ حاشا لله.
ثم هل الرحمة تقول: أنا الملك؟ وهل الرحمة تقول: هل من سائل فأتوب عليه؟ وإذا قالوا: المراد نزول الملائكة، فيرد عليهم بنفس الردود، ثم نأتي إلى تأويل الدليل على زعمهم، فنقول: هل يسلم من المعارضة أم لا؟ أي: إذا قلنا: تنزل الملائكة في ثلث الليل الآخر، فهل هي تقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ إلى آخر الحديث، ثم إن قلنا: إن الملائكة تنزل إلى السماء الدنيا، فهل نزول الملائكة يعلمه أحد بعقله أم من الوحي؟ لا شك أنا لا نعلم ذلك إلا من الوحي.
فهل جاءنا الوحي بنزول الملائكة إلى السماء الدنيا أم إلى الأرض؟
الجواب
معلوم أن الملائكة تتعاقب علينا كل يوم، ويتقابلون في الفجر وفي العصر، وينزلون إلى الأرض، فلم خصصتم نزول الملائكة إلى السماء الدنيا فقط؟ ألم يقل الله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وهذا في الأرض فلم خصصتم ذلك بالسماء الدنيا؟ وأيضاً: هل الملك هو الذي يغفر؟ وهو الذي يتوب ويعطي؟ قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] فهل هم يغفرون لمن في الأرض أم يستغفرون؟ يستغفرون، فبطل هذا التأويل.
والصحيح أن نرجع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم، ونتعبد لله جل وعلا بهذه الصفة، أي: بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: (أنا الملك هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سقيم فأشفيه؟).(24/7)
الجمع بين استواء الله على عرشه مع نزوله إلى سماء الدنيا
إن قيل: لماذا لا يخلو العرش من الله وهو مستوٍ عليه إذا نزل إلى السماء الدنيا؟ فنقول: إذا قلت بذلك فقد جسمت، يعني: شبهته بالخلق؛ لأن السماء في نظرك تظله أو تقله وهذا ليس بصحيح، بل الكون كله في يد الرحمن كحبة خردل في يد أحدكم، فمن قال: إن الست السماوات تظل الله جل وعلا، فقد شبه الخالق بالمخلوق؛ لأن نزول الله ليس كنزول المخلوق، فأنا لو نزلت تحت الطاولة مثلاً فهي تظلني، وإن كنت عليها فهي تقلني؛ لأنني مخلوق، فلو قلت: إن السماوات الست تظل الله جل وعلا فقد شبهت الخالق بالمخلوق حتماً، وإن لم تصرح بذلك، لكن نقول: ينزل نزولاً يليق بجلاله، ولا يخلو منه العرش، والكون كله في يده سبحانه كحبة خردل في يد أحدكم، فنزوله صفة من الصفات التي تدل على كماله.
ولو قلنا: إن السماء تظله أو تقله لكان محتاجاً لها وحاشا لله، بل كل المخلوقات تحتاج إلى الله، قال سبحانه: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65] فهو قريب في علوه، وعال على عرشه حين ينزل إلى السماء الدنيا سبحانه.
وهذه يقبلها العقل؛ لأن الله جل وعلا قادر على كل شيء، وصفات الله لا يمكن أن تشابه صفات المخلوقين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(24/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - رؤية المؤمنين ربهم
اختلف أهل السنة والجماعة مع غيرهم من أهل البدع والضلالات في كثير من المسائل الاعتقادية، وقد صنفت في ذلك المصنفات الكثيرة، ومن هذه المسائل: مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وقد ذكر المصنف في هذه المادة أقوال الفرق فيها مع ذكر حجج كل قول، وبين الحق فيها مؤيداً بالحجة والبرهان.(25/1)
أنواع نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: لا زلنا مع كتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) للعلامة اللالكائي، وقد انتهينا إلى صفة من صفات الله جل وعلا الفعلية وهي صفة نزوله سبحانه وتعالى، وبينا أن الله جل وعلا ينزل نزولاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله إلى السماء الدنيا، فينزل نزولاً عاماً ونزولاً خاصاً، فالنزول العام هو في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر على خلاف سنبينه.
وينزل نزولاً خاصاً يوم عرفة فيباهي ملائكته بالحجيج، فهذا النزول خاص بالحجيج فقط، وهذه فرحة كبرى لأهل الحج الذين يقفون في عرفات، فإن الله جل وعلا ينزل إلى سماء الدنيا يباهي بهم الملائكة، فقد أتوا شعثاً غبراً خاضعين متذللين لله جل وعلا.
وينزل نزولاً خاصاً أيضاً في ليلة النصف من شعبان، وهذا النزول لا يحتاج من العبد أن يكون صائماً ولا مستغفراً ولا متقرباً بطاعة، بل هذه محض رحمة من الرب الكريم الجليل، ينزل في هذه الليلة فيغفر لكل عباده المسلمين إلا المشرك والمشاحن.
وأما النزول العام في كل ليلة فيحتاج من العبد إلى القيام، فإن الله ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر فيغفر لمن يستغفر، ويعطي من سأل، ويجيب من دعا، ويشفي من استشفى، وأما الذي لا يستشفي ولا يدعو ولا يسأل فليس له هذا الثواب، فيا حسرتا ثم يا حسرتا على من ضيع ثلث الليل الآخر ولم يقم يدع الله متذللاً خاضعاً ممتثلاً لربه جل وعلا! يستغفره فيغفر له، أو يدعوه فيجيبه، أو يسأله فيعطيه، أو يستشفي الله جل وعلا فيشفيه.
فهذا النزول يليق بجلال الله وكماله جل وعلا، وهو يعم المؤمنين والكافرين.
بقي هنا إشكال تكلمنا عنه في المرة السابقة وهو: إذا قلنا: إن الله جل وعلا ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، ففي مصر مثلاً ثلث الليل وفي أمريكا في نفس الوقت ليس كذلك، وفي المشرق ثلث الليل في وقت وفي المغرب ثلث الليل في وقت آخر، فيبقى الله جل وعلا طيلة الليل نازلاً، فهذا الإشكال هو الذي أورده أهل البدع في هذه المسألة.
والجواب عليه: أن الخطأ الذي وقع فيه أهل البدع أنهم قاسوا نزول الحق على نزول الخلق، وقاسوا نزول الخالق على نزول المخلوق، وهذا هو الذي جعلهم يقعون في هذه الأباطيل، فنقول: إنه حين يكون ثلث الليل الآخر فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا، فهو ثلث الليل هنا أو هناك، فالنزول مرتبط بثلث الليل الآخر.(25/2)
الجمع بين الروايات الواردة في وقت النزول
قسم بعض العلماء النزول إلى ثلاثة بمقتضى الأحاديث، فالحديث الأول في الكتاب: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل الله عز وجل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر).
وجاء في رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (يمهل الله عز وجل حتى إذا ذهب ثلث الليل نزل إلى السماء الدنيا)، وفي رواية أخرى قال: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل الأول، فإذا مضى ثلث الليل الأول هبط -يعني الله جل وعلا- إلى السماء الدنيا، فلم يزل بها حتى يطلع الفجر يقول: ألا سائل فأعطي)، ففي هذا دلالة على أن الله ينزل بعد ثلث الليل الأول، لكن في حديث أبي هريرة قال: (ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر)، وهذا إشكال.
وهناك حديث فيه تحديد النزول في آخر ثلاث ساعات تبقى -وهذا إشكال آخر- وهو حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، ينظر في الساعة الأولى منهن الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره) إلى آخر الحديث، فكيف نجمع بين هذه الروايات.
الجمع بين هذه الروايات: أن الحديث الأول أظهر لنا وقت نزول الله جل وعلا وهو حين يبقى الثلث الأخير، ونحن لا نعرف الثلث الأخير هل هو حين تبقى ثلاث ساعات أو أربع ساعات أو ساعتان؟ فجاء حديث أبي الدرداء وجعله ثلاث ساعات، فهذا ضابط لهذا، ويبقى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا) ولم يبين هل ينزل بعد ثلث الليل الأول بدقيقة، أو بعده بساعة، أو ساعتين أو ثلاث، أو حين يبقى الثلث الأخير؟ فهذه مطلقة ومجملة، والروايات الأخرى بينت الوقت وهو: حين يبقى ثلاث ساعات.
إذاً فأرجح الأقوال: أن الله جل وعلا ينزل حين يبقى الثلث الآخر، أي: قبل الفجر بثلاث ساعات.
وأما الذين قسموه إلى أول وأوسط فهو تقسيم ليس بجيد؛ لأنه يمكن الجمع بين الروايات، ولأن هذه الروايات كلها مطلقة قيدت بحديث: (ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر).(25/3)
رؤية الله جل وعلا في الآخرة
قبل أن ندخل في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة لابد من التفريق بين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (خلق الله آدم على صورته)، والحديث الضعيف الذي رواه النسائي: (خلق الله آدم على صورة الرحمن)، فالأول صحيح، والثاني مختلف فيه: والشيخ ابن باز رحمة الله عليه يصححه، ويقول في معناه: إن الله له وجه كما أن آدم له وجه، وله يد كما أن آدم له يد، وله رجل كما أن آدم له رجل، فلله جل وعلا يد وعين وساق ورجل، لكنها تليق بكمال الله وجلاله، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
أما بالنسبة لرؤية المؤمنين لربهم فهل منا أحد درب نفسه ليرى الله جل وعلا؟ وهل منا من نقى بصره لينظر إلى المليك المقتدر؟ وهل منا من لم يقع بصره على حرام؛ حتى لا يغار الله جل وعلا إذا انتهكت محارمه؟ نسأل الله أن يحفظ أبصارنا حتى نراه جل وعلا.(25/4)
الأدلة على رؤية المؤمنين لله
ورؤية المؤمنين لله المليك المقتدر ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل.(25/5)
الأدلة من القرآن الكريم
فأما الكتاب ففيه الآيات الباهرة التي تثبت رؤية المؤمنين لله جل وعلا.
أولها: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فـ (ناضرة) من النضارة، وهو نور يشع من وجوههم بالنظر إلى وجه الله الكريم كما فسره ابن عباس، فهذه الآية صريحة ونص قاطع بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وذلك لعدة أمور: أولها: أن النظر: فعله نَظَر، وهذا الفعل إما أن يتعدى بنفسه، أو يتعدى بـ (إلى)، أو يتعدى بـ (في)، فإذا تعدى هذا الفعل بـ (إلى) يكون معناه النظر بالعين والإبصار، أي: يبصرون الله جل وعلا بأعينهم، والذي يؤكد ذلك أنه أتى بمحل النظر وهو الوجه الذي فيه العين التي ينظرون بها إلى الله جل وعلا.
وأما إذا تعدى بنفسه فمعناه: الانتظار، فأقول: أنا ناظرك في المكان الفلاني الساعة الفلانية، أي: أنا منتظرك، ودلالة ذلك من كتاب الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون عندما يلتمسون النور من المؤمنين على الصراط: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: انتظرونا حتى نقتبس من نوركم؛ لنستهدي ونمر على الصراط.
وإذا تعدى بـ (في) يكون بمعنى التدبر والتفكر، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185].
إذاً: إذا تعدى بـ (في) فمعناه التفكر والتدبر، أما إذا تعدى بـ (إلى) فهو نص قاطع على رؤية الله جل وعلا بالعين المجردة.
فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فيه أن هذه النظرة كما قال ابن عباس وأنس: من النظر إلى وجه الله الكريم.
هذه أول آية تدل على رؤية المؤمنين لله جل وعلا.
الآية الثانية: قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وتفسير القرآن بالقرآن أولى التفاسير، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم فصل لنا هذه الآية بأبلغ بيان؛ وقد أمره الله جل وعلا بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فتعالوا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في صحيح مسلم: (الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم) اللهم ارزقنا ذلك يا أرحم الراحمين.
الآية الثالثة التي تثبت ذلك: قول الله تعالى عن المؤمنين: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:22 - 24].
فاستدل العلماء على الرؤية بقول الله تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} أي: ينظرون إلى وجه الله تعالى، فـ (ينظرون) هذا الفعل، والفاعل: المؤمنون، والمفعول به محذوف، والقاعدة تقول: نفي المعمول يؤذن بالعموم، أي: أن الأبرار ينظرون، لكن لا ينظرون إلى ثمار الجنة فقط، أو إلى الحور العين، أو إلى أشجار الموز أو التفاح، فالله تعالى لم يقل ذلك، بل ترك الآية عامة، والمنضور إليه غير مصرح به، فيدل على الإطلاق، أي: أنهم ينظرون إلى الحور العين، وإلى ثمار الجنة، وإلى أنهارها، وينظرون إلى ما هو أرقى من ذلك وأعلى وأنعم ألا وهو: وجه الله الكريم.
إذاً وجه الدلالة: أن حذف المنظور إليه فيه دلالة على العموم، أي: أنهم ينظرون إلى الله جل وعلا، وينظرون إلى النعم التي أعدها الله لهم في الجنة، وينظرون إلى كل خير وبر، وإلى كل ما يمتعهم، وأشد ما يتمتعون به: النظر إلى وجه الله الكريم.
أيضاً من الآيات الدالة على النظر إلى وجه الله الكريم ورؤية المؤمنين الله بأبصارهم يوم القيامة قول الله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق:35] أي: في الجنة {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، قال أنس وعلي بن أبي طالب: لهم فيها ما يشاءون: من الحور العين، ومن اللبن والخمر، ومن العسل المصفى، ومن كل ما يشتهون، حتى الذي يحب الأموال أو الجمال أو الأغنام -وكل هذا يكون تراباً يوم القيامة- فإنه إذا تمنى ذلك على الله أنشأ الله له الغنم من الذهب، أو الجو ذأوة أو مال من الذهب، وجاء في بعض الآثار: أن المؤمن ينظر إلى أمامه في الجنة فهو لا يريد، وإنما يريد الناحية الأخرى، فيشير إليها بأصبعه فتمشي معه حيثما سار، فللمؤمن في الجنة ما يشتهي، يقول صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وأعلى من ذلك المزيد، وهو: رؤية الله جل وعلا، وهذه لصاحب الحس المرهف، والقلب الواسع، الذي أحسن في عبادة الله جل وعلا فيجازى بالإحسان كما قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فالذي أحسن في عبادته لله جل وعلا يجازى بملء بصره من النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فكان جزاء وفاقاً، فمن عبد الله كأنه يراه كان جزاؤه أن يراه حقاً وحقيقة بعين اليقين في الآخرة.
ومن الأدلة أيضاً: قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، هذه الآية استدل بها الشافعي على رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا، حيث قال: إذا حجب الله نفسه عن الكفار في السخط أو في الغضب، ففي الرضا لا بد أن يراه المؤمنون، فإن حجب نفسه عن الكافرين فإنه يتجلى للمؤمنين؛ رضاً عنهم.
الآية السادسة التي تثبت رؤية الله جل وعلا -وهي ليست بصريحة في ذلك ولكن بدلالة اللزوم- وهي قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] فاللقي لغة يلزم منه المعاينة، فإذا التقيت بشخص فلا بد أن تعاينه إلا إذا منع من ذلك مانع كالعمى، ويوم القيامة ليس فيه عمى، وإنما يكون الأمر كما قال الله تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أي: قوي؛ حتى تنظر إلى الله جل وعلا.
فهذه الأدلة من الكتاب.(25/6)
الأدلة من السنة النبوية
وأما السنة فقد بلغت الأحاديث الدالة على رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، حد التواتر، وسوف نذكر طائفة يسيرة منها تبين المقصود.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال -وهذا فيه تشويق لرؤية الله جل وعلا، فقد كان صلى الله عليه وسلم دائماً يدعو: (اللهم! إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، فهذا النعيم ليس بعده نعيم-: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر هل تضارون برؤيته؟ قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: سترون ربكم كذلك) فالكاف هنا: تشبيه رؤية برؤية، لا تشبيه مرئي بمرئي؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، وفي رواية أخرى عن أبي موسى وصهيب وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عندما سئل: (هل نرى ربنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أترون القمر ليلة أربع عشرة؟ قالوا: نعم، قال: أترون الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: نعم، قال: سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، لا تضامّون في رؤيته)، وفي رواية: (لا تَضَامَون) بدون التشديد، ومعنى (تضامّون) أي: ينضم بعضكم إلى بعض، أي: لا يتزاحمون عند النظر، كما لا يتزاحمون عندما يرون القمر، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم سترون الله دون مزاحمة ودون أي تضام فيما بينكم.
ومعنى: (لا تضامون) بالتخفيف: من الضيم والظلم، أي: لا يحدث لكم أي ضرر، فيكون تفسير الحديث: أنكم ستنظرون إلى الله جل وعلا وترونه كما ترون القمر لا يلحقكم ضرر في ذلك.
وفي حديث أبي موسى في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبرياء يكشفه الله جل وعلا، فينظرون إلى الله جل وعلا)، وفي حديث صهيب: (أن الله جل وعلا يخاطب أهل الجنة بعد أن يدخلوا الجنة: هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فقالوا: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ فيكشف الله جل وعلا الحجاب فينظرون إلى ربهم من فوقهم، فما تنعموا بشيء كالنظر إلى وجه الله الكريم)، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا النظر إلى وجهه الكريم.(25/7)
دليل الإجماع والعقل
وأما الإجماع فقد أجمع السلف والصحابة الكرام أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة.
أما العقل: فإننا نستطيع بالعقل أن نثبت أن المؤمن سيرى ربه، وذلك أن العدم لا يرى، والعدم نقص وليس بكمال، ولا يرى إلا الموجود، فالذي يرى أكمل من الذي لا يرى، والله جل وعلا متصف بالكمال، فهذا يدل على أن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا.
إذاً فرؤية المؤمنين لله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل.(25/8)
مقدار رؤية المؤمنين لربهم
بقيت هنا مسألة وهي: مقدار رؤية المؤمنين لربهم، فقد جاء ذلك بأسانيد فيها مقال يعضد بعضها بعضاً، ففي السنن عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: مقدار رؤية المؤمنين لله جل وعلا كصلاة الجمعة.
أي: كمقدار صلاة الجمعة.(25/9)
مسألة: هل رؤية الله خاصة بالمؤمنين أو عامة للمؤمنين والكفار؟
وهنا مسألة في الرؤية وهي: هل رؤية الله تعالى في عرصات يوم القيامة خاصة بالمؤمنين فقط أم يراه الكفار أيضاً؟ اختلف العلماء في هذه على ثلاثة أقوال: القول الأول: إن الكل يرى الله جل وعلا: المؤمن والكافر على الإطلاق.
والقول الثاني: إنه لا يرى الله جل وعلا إلا المؤمن التقي النقي.
والقول الثالث: إن الله جل وعلا يراه في عرصات يوم القيامة المؤمنون والمنافقون.
ولكل قول دليل، فالذين قالوا بأن الكفار يرون الله جل وعلا يوم القيامة قالوا: إن هذه الرؤية ليست رؤية كرامة ولا رحمة ولا تشريف، ولكنها رؤية محاسبة، واستدلوا على ذلك بأدلة: منها: أولاً: قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قالوا: فقد حجبوا بعدما رأوا، وهذه ذلة ومهانة وتحزين لهم.
وأوضح دليل لهم في ذلك هو قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فالملاقاة يلزم منها المعاينة.
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أنه بعدما سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرون ربهم؟ فقال: (يأتي الله جل وعلا بالعبد ليس بينه وبينه أحد فيقول: عبدي! ألم أكرمك؟ ألم أسودك؟ ألم أعطك كذا وكذا وكذا فيقرره بنعائمه، فيقر بهذه النعم، ثم يقول: ما ظننت أنك ملاقي؟ فيقول: رب لا! ما ظننت ذلك، فيقول الله جل وعلا: أنساك اليوم كما نسيتني)، فهذا فيه دلالة على أنه ستحدث بينه وبين الله جل وعلا محادثة، وأنه يلقى الله جل وعلا، والملاقاة يلزم منها المعاينة.
ثالثاً: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، يذكره بكذا وكذا وكذا) أي: أن كل الناس سيحاسبهم الله جل وعلا.
واستدل أصحاب القول الثاني على أنه لا يرى الله إلا المؤمنون بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فالمؤمن يرى الله جل وعلا في الرضا والكافر يحجب في السخط.
ومن أدلتهم: حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أنه بعدما سأل المؤمنون النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرون ربهم؟ قال: هل ترون القمر؟ -إلى آخر الحديث، ثم قال: فينادي مناد: من كان يعبد أحداً فليتبعه) فمن كان يعبد الصليب فيتبع الصليب حتى يتهاوى به إلى نار جهنم، ومن كان يعبد عيسى فإن الشيطان يتمثل له بعيسى عليه السلام ويتهاوى به إلى نار جهنم، ومن كان يعبد الشمس فإنها تصور وتلقى في نار جهنم ويلقى خلفها في نار جهنم، فوجه الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الكافرين بعد أن ذكر أن المؤمنين يرون ربهم: إن كل كافر سيتبع ما كان يعبد، ففيه دلالة على أن المؤمن فقط هو الذي سيرى الله جل وعلا.
واستدل أصحاب القول الثالث بدليل واضح جلي وهو: حديث أبي هريرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال: (وكل يتبع معبوده) قال: (ثم يبقى المؤمنون والمنافقون وطائفة من أهل الكتاب)، فيبقى المؤمنون، والمنافقون الذين يسجدون رياء ونفاقاً، وطائفة من اليهود الذين وحدوا الله جل وعلا، (فيأتيهم الله جل وعلا على غير الصورة التي يعرفونها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله أحداً، فيقول الله جل وعلا لهم: هل بينكم وبينه آية؟ فيقولون: نعم، فيكشف الله جل وعلا عن ساق فيخرون جميعاً سجداً لله جل وعلا إلا المنافق) أي: المرائي الذي نافق وسجد نفاقاً ورياء، قال النبي صلى الله عليه وسلم واصفاً إياه: (إلا المنافق يرجع ظهره -أي: حلقات فقرات الظهر- طبقاً واحداً -أي: مستقيماً- فلا يستطيع السجود).
وجه الشاهد من الحديث: أن المؤمنين والمنافقين وطائفة من أهل الكتاب يرون الله جل وعلا.
فإن قيل: إذا كان الكافر لا يرى الله جل وعلا فمن باب أولى ألا يراه المنافق.
و
الجواب
أن رؤية المنافقين من باب التحزين وزيادة الحسرة عليهم، كما أنهم يرون الجنة كأنهم سيدخلونها، فيضرب بينهم بسور له باب، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فهم عندما يرون الله جل وعلا يستشعرون في أنفسهم أن الله حجب نفسه عن الكافرين وهم قد رأوه، فيستيقنون أنهم من أهل الجنة، ثم يخدعون، فلا يرون نوراً يمشون به إلى الجنة فيتساقطون في نار جهنم.
ومن شدة حسرة أهل النار أيضاً أن الحجاب مكشوف بينهم وبين أهل الجنة، فأهل الجنة يرون ما يحدث لأهل النار؛ ليحمدوا الله جل وعلا على هذه النهاية، وأهل النار يرون أهل الجنة فيزدادون حسرة وحزناً شديداً أنهم لم يكونوا من أهل الجنة.(25/10)
القول الراجح في رؤية الكافرين لربهم
القول الراجح في هذ المسألة هو أن الكافرين يرون الله جل وعلا رؤية محاسبة، فيقررهم بما كفروا به جل وعلا، ثم يتهاوون في نار جهنم ويتساقطون فيها، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يراه، كما نسأله أن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه الكريم في غير ضراء مضرة.(25/11)
إثبات رؤية الله جل وعلا
في قول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] دليل على أن الذي عبد الله وأحسن في عبادته أنه يرى الله جل وعلا رؤية كاملة.
ومن الأدلة على رؤية الله جل وعلا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فهذه الآية من الأدلة على رؤية الله جل وعلا من وجوه: الأول: أن موسى عليه السلام هو من أعلم الخلق بالله جل وعلا فلو كان السؤال معاباً على موسى لما سأل الله جل وعلا، ولو كان سأله جهلاً لا تعدياً لما أقره الله جل وعلا على ذلك، فالله تعالى لم يقر نوحاً عليه السلام عندما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] فقال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] ثم قال: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] فلم يقره على هذا الخطأ، ولو كان موسى عليه السلام مخطئاً في السؤال ما أقره الله جل وعلا، ولكنه هنا أقره فقال: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143].
ثانياً: أن الله جل وعلا لم يقل: أنا أرى، وإنما قال: ((لَنْ تَرَانِي)) أي في الدنيا؛ لأن بصرك لا يحتمل ذلك؛ ودليل ذلك أن الجبل الذي هو راسخ اشم شامخ دك عندما تجلى الله له.
ثالثاً: أن الله جل وعلا علق الرؤية على أمر ممكن، ولم يعلقها على أمر مستحيل فقال: ((فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ))، وهذا أمر ممكن وليس بمستحيل، فلو استقر الجبل مكانة لرأى موسى ربه جل وعلا، فهذه دلالة على أنه سيرى.
رابعاً: أن الله تجلى للجبل الجماد الذي ليس له ثواب ولا عليه عقاب، قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، فمن باب أولى أن يتجلى الله تعالى لمن هو أكرم من الجبل وهو الإنسان المؤمن.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(25/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مسائل في الرؤية
اختلف الناس في رؤية المؤمنين لربهم في الدنيا والآخرة ما بين مجيز للأمرين، ومانع لهما، ومتوسط بينهما، وهم أهل السنة حيث قالوا بالرؤية في الآخرة فقط.(26/1)
مذاهب أهل السنة في رؤية المؤمنين لربهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فإن الناس قد انقسموا في رؤية المؤمنين لربهم على أقوال ثلاثة: القول الأول: إن المؤمنين يرى الله في الدنيا والآخرة، وإلى ذلك ذهب أهل الوجد والتصوف وأهل التخييل والخيالات، كـ ابن عربي وغيره.
القول الثاني: إن الله لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإليه ذهب المعطلة الجهمية.
والقول الثالث: وهو الوسط بين الطرفين، وهو قول أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، الذين قالوا برؤية الله جل وعلا في الآخرة دون الدنيا.
الطائفة الأولى الذين قالوا: إن الله يرى في الدنيا والآخرة يرد عليهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسلم: (إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت) ففي هذا دلالة على أن الله جل وعلا لا يرى في الدنيا، وقال الله تعالى جواباً لأحب الخلق إليه في ذلك الوقت وهو موسى عليه السلام وذلك عندما سأل الله جل وعلا رؤيته: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143].
فإذاً النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت) وحتى هنا للغاية، أي: أنه بعد البعث يمكن أن يرى ربه جل وعلا.(26/2)
الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا
تنازع أهل السنة فيما بينهم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا بعيني رأسه على قولين: الأول: وهو قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها وعامة السلف على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه، حتى إنها أغلظت في القول فقالت: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الدنيا - أي: ليلة المعراج- فقد أعظم على الله الفرية -أي: الكذب أو الخطأ-.
والقول الثاني: وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على أن محمداً رأى ربه مرتين: ليلة أعرج به.(26/3)
الرد على القائلين بأن الله يرى في الدنيا
وقد وردت روايات عن ابن عباس وأبي هريرة في رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه منها: عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل).
وعنه في قوله جل وعلا: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] قال: دنى منه ربه فتدلى، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:9 - 10] قال: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم.
أي قد رأى ربه.
وفي رواية أخرى عنه قال: بلى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] وسئل عكرمة -الذي يأخذ عن ابن عباس -: هل رآه؟ قال: نعم، قد رآه ثم رآه، فسألت عنه الحسن فقال الحسن: رأى جماله وعظمته، ورأى كذا وكذا وكذا.
وعن أبي هريرة أنه سئل: هل رأى محمد ربه، قال: رآه، أو نعم قد رآه.
فهذه الروايات تثبت أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في ليلة المعراج بعيني رأسه.
وسئل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه.
وفي رواية أخرى في تفسير قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] قال: رأى ربه بقلبه.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين.
فكيف نجمع بين الروايات التي يقول فيها ابن عباس: رأى محمد ربه بقلبه، والروايات الأخر التي أطلق فيها فقال: رأى ربه؟
و
الجواب
أنه رآه بعينه ثم رآه بقلبه، أو رآه بقلبه أولاً ثم رآه بعينه.(26/4)
أقسام رؤية الله في الآخرة
يختم باب الرؤيا بأن أول من ينظر إلى الله جل وعلا يوم القيامة هم العميان {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، وهذه وردت بأسانيد ضعيفة في أن الله جل وعلا قال لجبريل: (سلبت حبيبتيه؟ قال: نعم، قال: جزاؤه الدوام أو الخلود في جنتي، ودوام النظر إلى وجهي)، وهذه ليس فيها إشارة على أنه أول من ينظر إلى الله جل وعلا في الجنة، لكن فيها إشارة على دوام نظره لله عز وجل.
وتنقسم رؤية الله جل وعلا إلى ثلاثة أقسام: الرؤية الأولى: في عرصات القيامة.
والثانية: يوم الجمعة.
والتفاوت في هذه الرؤيا هو من حيث القرب والبعد، فالأقرب يوم الجمعة في الدنيا هو الأقرب عند الله، وهذا يفتح باب التسابق والتنافس في المسارعة إلى الجمعة؛ ولذلك كان ابن مسعود يحرص حرصاً شديداً على أن يكون أول من في المسجد يوم الجمعة، فإذا دخل فوجد ثلاثة أو اثنين قال: ثالث ثلاثة، أو رابع أربعة لا يبعد هذا، لكن لا يكون خامسهم ولا سادسهم-عافنا الله من الكسل ومما نحن فيه- قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فالذين يبكرون يوم الجمعة هم الذين يقتربون من رؤية الله يوم الجمعة، وهم أكثر نعيماً من غيرهم.
وفضل آخر في التبكير ليوم الجمعة وهو حديث النبي صلى الله عليه وسلم في السنن حيث قال: (من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، وذهب إلى الجمعة ماشياً - هذا تقييد مهم جداً يعني: ليس بالسيارة- ثم دنا من الإمام فأنصت ولم يلغ، كتبت له كل خطوة بأجر سنة قيام وصيام)، يعني: لو مشى ربع ساعة فإن كل خطوة بأجر سنة قيام وصيام، فكم من الأجر العميم في هذا، وكم ضيعنا من هذا الخير.
ومن فضل التكبير يوم الجمعة أنك ترى الله جل وعلا على قرب منه، فتكون أقرب إلى الله، وتتمتع أكثر بالنظر إليه.
الرؤية الثالثة: في العيدين، وهذه للنساء، فهن لا يرينه يوم الجمعة على الراجح من الأقوال، ويرونه غدواً وعشياً.
وهنا قال الحسن: يرى الله جل وعلا في الآخرة، وأول من يراه هو الأعمى، وهذا لا يبعد؛ لأن الله جل وعلا كريم حليم إذا أخذ من عبده شيئاً فصبر ورضى بقضاء الله عوضه الله خيراً مما أخذ منه، والقياس في ذلك كثير ففقراء المهاجرين عانوا في الدنيا كثيراً من الفقر، وهاجروا من مكة إلى المدينة، فالله جل وعلا كافأهم وعوضهم أفضل مما أخذ منهم فأدخلهم الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم) ونصف اليوم: خمسمائة عام، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ما في أهل الصفة من بأس فقال لهم: (لو علمتم ما لكم عند الله جل وعلا لدعوتم الله أن يشد عليكم أكثر مما أنتم فيه) أو كمال قال صلى الله عليه وسلم، وهذه علامة الإخلاص، وعلامة محبة لله جل وعلا.
والمقصود أن القياس البديع في الشريعة يثبت أن الله جل وعلا إذا أخذ من عبده شيئاً فصبر عوضه خيراً منه، وكما في الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط).(26/5)
النهي عن التفكر في ذات الله
وردت بعض الآثار بأسانيد ضعيفة يعضد بعضها بعضاً في النهي عن التفكر في ذات الله، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتفكروا في الله، ولكن تفكروا في خلق الله، فإن الله لا تصل إليه فكرة) والنهي هنا للتحريم، أما المعاني فلا بد أن نتفكر فيها، ولا يجوز التفكر في كيفية صفات الله جل وعلا، ودليل ذلك ما ورد عن أم سلمة بسند صحيح رضي الله عنها وأرضاها -بسند صحيح- لما سئلت عن الاستواء قالت: الاستواء في اللغة معلوم - أي: تتفكر في معناه- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وقال ذلك ربيعة الرأي ومالك رحمهم الله.
فقوله: (لا تتفكروا) أي: لا تتفكروا في كيفية صفات الله جل وعلا، وأنى للعبد أن يتفكر فيمن الكون كله في يده كحبه خردل في يد أحدكم؟ وكيف يتفكر في الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع، والذي بصره ينفذ إلى جميع خلقه؟ فلا تواري عنه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، فبصره سبحانه ينفذ إلى جميع خلقه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه - أي: أنوار وجه الله جل وعلا - ما انتهى إليه بصره من خلقه) وبصر الله ينتهي إلى جميع خلقه، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فكيف يتفكر العبد في عين الله جل وعلا، أو في بصر الله جل وعلا؟ وكيف يتفكر العبد في ذات الله، أو في كيفية صفات الله جل وعلا، والسماوات كلها بما فيها وبما حوت مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته؟ ووالله ما قدروا الله حق قدره، كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، فالتفكر في كيفية صفات الله جل وعلا ليس تعظيماً لله، قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:19 - 20].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:15 - 18]، فلا تتفكروا في هذا الخالق العظيم! بل تفكروا في خلقه، فإن عجزتم عن وصف خلق من مخلوقات الله فأنتم عن وصف الله أعجز وأعجز، ففكروا في ديك مثلاً، كما ورد في أثر صححه بعض العلماء وضعفه آخرون، وهو مما يستأنس به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفكروا في بعض مخلوقات الله، خلق الله ديكاً رجله في الأرض ورأسه في السماء، ينظر إلى العرش، فكلما نظر قال: سبحانك ما عُبدت حق عبادتك، وفي رواية: قال: والذين يحلفون بك كذباً لا يعرفون عظمتك) فهل يستطيع أحد أن يتفكر في هذا المخلوق في طوله في عرضه في رأسه؟ وأشد من ذلك عظمة في الخلق ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك - من حملة العرش- ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) فهل يستطيع أحد أن يصف شحمة الأذن، أو يصف المكان الممتد بين شحمة الأذن إلى العاتق؟ فإن كان الإنسان عاجزاً في أن يتفكر في هذا المخلوق، فهو أعجز من أن يتفكر في صفات الخالق العظيم، وقد بين الله تعالى أنه جعل من الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ولا يستطيع أحد أن يصف لنا الملائكة الذين هم جسمين من الأجنحة.
وهل الأجنحة بدلاً عن اليد، الراجح الصحيح أن للملائكة أيدي، والأجنحة زيادة، ودليل ذلك من كتاب الله جل وعلا حيث قال: {والْمَلاَئكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام:93]، فالملك له أيدي ولا نعرف عددها، وهذا هو الذي فعله على بن المديني إذ جاء لغلام من السلاطين فقال له: أنت تتكلم في صفات الله جل وعلا، فأسألك سؤالاً واحداً: تصف لي مخلوقاً من مخلوقات الله، فإن عجزت عن وصف هذا المخلوق فأنت عن وصف صفات الله جل وعلا أعجز، فقال: تكلم، قال: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13 - 15]، قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته أو على هيئته له ستمائة جناح صف لي جبريل عليه السلام؟ فأسقط في يد الغلام ولم يعرف كيف يتكلم، ثم قال: أنحي عنك هذا وأقول: صف لي ثلاثة من هذه الأجنحة؟ ثم قال: أنحي عنك هذا، صف لي هذا الجناح الثالث، أين يكون؟ وكيف يكون؟ فأسقط في يد الغلام ورجع فقال: والله إني لأعجز عن وصف هذا الجناح الثالث، إذاً: فإني عن وصف ربي جل وعلا أعجز وأعجز.
فعلى الإنسان أن لا يتفكر في الله جل وعلا، ولا في كيفية صفاته، الله جل وعلا، ولكن في خلقه سبحانه، فهو لا يستطيع أن يصف مخلوقات الله فضلاً عن أن يصف صفات الله جل وعلا أو يكيفها.(26/6)
خطر التفكر في ذات الله على عقيدة المسلم
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتفكروا في الله) للتحريم؛ فالتفكر في الذات يؤول بالمرء إلى نتيجتين: النتيجة الأولى: أن ينفر من التكييف لصفات الله جل وعلا؛ لأنه بالتكييف سيصل إلى تخاريف ولا يستطيع أن يصل إلى التكييف الحقيقي، فينفر من هذا فيعطل، فينفي الصفات، ثم يرتقي فينفي الأسماء ويلتحق بأهل الكفر الذين هم من غلاة الجهمية.
النتيجة الثانية: أن يصل بنظره إلى صفات الله جل وعلا وتكييفه لها، فيقول: له يد، وهو ينزل ويجيء، ويأتي ويستوي، إذاً: فيده كيد البشر، وعينه كعين البشر، ويستوي كما يستوي البشر، فينزل الخالق منزلة المخلوق، ويصل إلى التثنية، وهو قول لأهل الكفر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(26/7)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة-ضوابط تكفير أهل البدع
شأن التكفير عظيم، وأمره خطير جداً، فمن ثبت إيمانه بيقين فلا يزول إلا بيقين، ولا يحكم على الشخص بالكفر العيني إلا إذا توافرت فيه الشروط وانتفت الموانع.(27/1)
سياق ما روي في تكفير المشبهة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي في تكفير المشبهة].
ختم المصنف هذا الباب بما روي في تكفير المشبهة، وهذا باب عظيم، وأصل بديع، وكان الحق أن نفصل فيه في كتاب الإيمان والكفر، ولكنا ننوه تنويهات ونقعد قواعداً ترسى لطالب العلم ما روي في تكفير المشبهة، فهم قوم مبتدعة أنزلوا صفات الخالق إلى منزلة صفات المخلوق، وقالوا: نثبت صفات الله، ولا نقول كما قالت الجهمية، بل نقول: لله يد، وساق، ورجل، وأنامل، وعين، لكن عين الله كعين المخلوق، ويد الله كيد المخلوق، وساق الله كساق المخلوق.(27/2)
خطر التكفير
التكفير أمر جلل خطير لا يجترئ عليه إلا مجترئ، ولا يتجاسر عليه إلا جريء؛ لأنه حق خالص لله جل وعلا، ولا يستطيعه إلا المسلمون، ولا يمكن لأحد أن يجترئ فيرمي أحداً بالكفر إلا إذا كان عنده برهان أسطع من شمس النهار، وإلا وقع في أمر خطير، وتحت طائلة حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) بمعنى: أنه إذا قال زيد لعمرو: أنت كافر، فإن لم يكن عمرو كافر رجعت هذه الكلمة على زيد فكفر زيد؛ لأنه كفر عمرو بغير بينه، بل رجماً بالغيب، وفي رواية أخرى: (من قال لأخيه: يا كافر أو يافاسق حارت عليه) فإن لم يكن في هذا الذي قيل له نفس الصفة حارت على قائلها، أي: رجعت عليه فكان فاسقاً أو كافراً، فهذا أمر جليل وعظيم.
ولا يجترئ عليه إلا الجاهلون.(27/3)
تكفير الجهمية
وعكس المشبهة هم الجهمية المعطلة، فالمشبهة عبدوا الله جل وعلا على أنه خلق من الخلق، فشبهوه بالمخلوق، أما هؤلاء فقد نفروا من التشبيه فعطلوا صفات الله جل وعلا، وقالوا: لا سميع ولا سمع، لا بصير ولا بصر، لا قدير ولا قدرة، ومنهم من قال: هو سميع بلا سمع، قدير بلا قدرة، بصير بلا بصر، ومنهم من نفى الاسم والصفة، فمنهم من نفى الصفة دون الاسم، وهؤلاء أيضاً على كفر، فالقول قول كفر، لكن القائل ليس بكافر، والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة.
والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان وقد أخذ هذه البدعة عن الجعد بن درهم فهو الذي أنشأها، لكن الجهم أخذها وجعلها تعلو إلى السماء، وجر الخلفاء عليها، وامتحن أهل العلم بهذه البدعة الظلماء، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أصل مقالة هؤلاء من أصل يهودي، وهي مقالة لبيد الأعصم الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نفى صفات الله جل وعلا وأسمائه.(27/4)
أنواع التكفير
الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر، ونحن بصدد بيان الكفر الأكبر والكلام على أهل البدع.
والتكفير نوعان: تكفير النوع، وتكفير العين، فتكفير النوع بمعنى أن القول أو الفعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزول عنه الشبه، وهذا التأصيل أتينا به من الآيات التي تكفر الذين يفعلون الكفر، فهي إنما جاءت للأعيان، ولم تأت للأنواع، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، وقال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، فكل هذه الآيات والأحاديث جاءت في الأعيان لا في الأنواع.
والسؤال هو: هل هناك دليل على التفريق بين كفر النوع وكفر العين مع أن الظاهر أن الأدلة كلها نزلت في تكفير الأعيان؟ الجواب هو أن دليل التفريق بين كفر النوع وكفر العين يستند على الوعيد، سواء الوعيد المطلق، أو الوعيد المقيد، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن في الخمر عشر -والملعون هو: المطرود من رحمة الله جل وعلا- شاربها، وحاملها، وعاصرها، ومعتصرها، وشاريها، وبائعها) فكل هؤلاء لعنوا في الخمر، وهذا وعيد مطلق، وهو يشابه كفر النوع.
وفي الصحيحين أن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه كان كثيراً ما يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما يؤتى به ليحد من شرب الخمر، فجيء به مرة وهو مخمور، فلما جلدوه بالنعال أو بالجريد، قال قائل: لعنة الله عليه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه، والله إني لا أراه إلا يحب الله ورسوله)، ووجه الدلالة أن النبي لعن في الخمر عشرة: الشارب، والحامل، والبائع، والمشتري، والعاصر، والمعتصر، فكل هؤلاء لعنوا في الخمر لعناً مطلقاً أو لعن نوع، ومع ذلك فالذي شربها وجيء به يجلد لم يوقع عليه النبي صلى الله عليه وسلم عين اللعن، فهذا تفريق بين النوع وبين العين من نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً فعل السلف يبين التفريق بين النوع والعين، فالإمام أحمد بن حنبل قال: من قال بخلق القرآن فقد كفر، والخليفة امتحنه في ذلك، بل جلده على ذلك، ومع ذلك سألوه: أنخرج عليه؟ قال: لا، والله! إن له عندي دعوة أدعو له كل يوم أو كل ليلة بالتسديد والتوفيق، وما كان يكفره، بل كان يصلي خلفه، مع أنه القائل: بأن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، واستفدنا من ذلك قاعدة مهمة وهي: من ثبت إيمانه بيقين، فلا يزول إلا بيقين، فهذا تفريق بين تكفير النوع وتكفير العين.
إذاً: فالكفر نوعان: كفر نوع، وكفر عين، تقول: القول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ولا بد أن تقام عليه الحجة بدليل قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فإذا وجد رجل يطوف بالقبر فيكفر الفعل، أما هذا الطائف بالقبر فليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون جاهلاً، أو نشأ في بيئة بعيدة لا يعلم شيئاً عن الدين بحال من الأحوال غير لا إله إلا الله محمد رسول الله.
رجل آخر وجد ساجداً أمام صنم، فيكون: السجود للصنم كفر، والساجد ليس بكافر؛ لاحتمال أن يكون يقرأ في القرآن وما رأى الصنم ثم مر على آية سجدة فسجد فصادف سجوده للصنم، فهذا الرجل يعذر أيضاً، ولا بد أن تقام عليه الحجة، والكفر يدرأ بأي عذر؛ ولذلك قال الإمام مالك: لو كان المرء على تسعة وتسعين كفراً وواحدة إيمان لحملته على الواحدة إحساناً للظن بالمسلم.(27/5)
الأسئلة(27/6)
أدلة تكفير المشبهة
وتكفير المشبهة له أكثر من وجه: الوجه الأول: أنهم كذبوا بصريح القرآن، فالله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهم يقولون: يد الله مثل يد المخلوق، وعين الله الخالق كعين المخلوق، ورجل الخالق كرجل المخلوق، وقال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وهذا من الله جل وعلا منكراً على من يجعل له كفؤاً، فقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: ليس لله سمي ولا كفؤ، وهؤلاء يقولون: صفات الخالق كصفات المخلوق.
أيضاً قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، فلا أحد يكافئ لله جل وعلا في ذاته ولا في صفاته، وأيضاً قال الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وفي آية أخرى قال: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فالذين يشبهون صفات الله جل وعلا بصفات المخلوق نزلوا الخالق منزلة المخلوق، فكفروا من هذا الوجه.
الوجه الثاني من أوجه تكفير المشبهة: أنهم اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم البلاغ والبيان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وقال جل وعلا في بيان التبليغ: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يبين أن يد الله كيد البشر، لم يبين الذكر الذي نزل إليه، فهذا اتهام صريح سافر للنبي بأنه قصر في البلاغ.
الوجه الثالث في تكفير المشبهة: هو الإلحاد في صفات الله جل وعلا، والله جل وعلا يقول تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، فمن باب الإلحاد في أسماء الله جل وعلا وصفاته تشبيه صفاته بصفات المخلوق.
الوجه الرابع والأخير: هو نسبة النقص والعيب إلى الله جل وعلا، وعدم توقير الله وعدم تعظيمه؛ لأنهم إذا قالوا عين الله كعين المخلوق، ويد الله كيد المخلوق وصفوا الله جل وعلا بالنقائص، والله جل وعلا يقول: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، يقول جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67].(27/7)
المفوضة
السؤال
من هم المفوضة؟
الجواب
المفوضة: هم الذين يفوضون ويمررون الكيفية والمعنى، ويقولون: السميع لا نعلم عنه إلا الألف واللام والسين والميم والياء والعين، ضمت هذه الحروف فنتجت هذه الكلمة: السميع.
وأنت لو قيل لك: هذا رجل سميع، فإنك تعلم أنه يسمع، وله أذن يسمع بها، فإذا قيل لك: الله سميع، تعلم أنه يسمع الخلق ويسمع ما تتكلم به، يقول مالك: الاستواء معلوم-أي: في اللغة، فتفسيره معلوم لدينا- والكيف مجهول، أي: لا يفسر، ولذلك أجملت بعض الكلمات في الصفات عن الإمام أحمد فقال: أمروها كما جاءت، وشيخ الإسلام ابن تيمية دافع عن الإمام أحمد، وقال: لا يقصد بها إلا إمرار الكيفية.(27/8)
حكم من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة
هناك أمور علمت من الدين بالضرورة، وهذه لا يدخل فيها تقسيم التكفير إلى تكفير النوع أو العين، فمن أنكر معلوماً من الدين بالضرورة كفر على الإطلاق، كأن يقول: رجل بيننا: فرضت أربع صلوات لا خمس صلوات، فلا يوجد هناك صلاة عصر، فهذا نقول عنه: مرتد، ولا بد أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
فالمعلوم من الدين بالضرورة لا حجة لمن أنكره، بل الحجة عليه قائمة، وقد علم بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا قضى الله ورسوله أمراً فلا يكون لهم الخيرة من أمرهم، وقد نزلت هذه الآيات عليهم وعلى مسامعهم، وأشربوها وعملوا بها، وعلم أن الذي يتقاعس عن تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه منافق معلوم النفاق، فالأمر كان معلوماً عندهم.(27/9)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات
أخبر الله عز وجل بأسمائه وصفاته في كتابه الكريم، ونبيه صلى الله عليه وسلم في سنته، ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل، ولابد أن نثبت كل الصفات الذاتية بأنواعها والسلبية إثباتاً يليق بجلاله وكماله، ولا دخل للعقل فيها، ولا اعتراض على ما أخبر الله عن نفسه.(28/1)
مسائل مهمة في باب صفات الله تعالى(28/2)
معنى التكييف والتمثيل والتشبيه والتعطيل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن المصنف بعد أن انتهى من الكلام على صفات الله جل وعلا، وبيان نوع هذه الصفات، وتكلم عن الصفات الثبوتية، وانتهى من الكلام عن الصفات، ورد على أهل البدع بأقوال السلف واعتقاد سلف هذه الأمة ابتدأ كتاب القدر، وقبل أن نبدأ في كتاب القدر لا بد أن نجمل المسائل المهمة في باب الصفات.
نحن نعتقد في الله جل وعلا ما اعتقده النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقده السلف الصالح، فنثبت له كل صفة أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى في كتابه، أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته بفهم سلف الأمة، ونثبت هذه الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل.
والتكييف: هو تكييف الصفة، كأن تقول: هذه الصفة التي تكلم عنها الله جل وعلا كيفيتها كذا، أو صورتها هكذا، وتقول مثلاً: في قول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، نثبت لله يد طولها كذا، ومقدارها كذا، ولها أصابع وأنامل، فهذا معنى التكييف.
والسلف الصالح كانوا يثبتون هذه الصفة بلا تكييف، ويؤمنون بها ويعرفون معناها، ولا يكيفونها، فعندما سئل مالك عن الاستواء: قال: الاستواء في اللغة معلوم -يعني: معروف- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فنحن نثبت الصفة من غير تكييف ولا تمثيل.
والتمثيل: هو المساواة في كل دقائق الصفة، كاليد اليمنى فإنها تماثل اليد اليسرى، كل هذه اليد بما فيها تساوي وتماثل اليد الأخرى، فهذا معنى المماثلة، ومثالها أن يقال في قوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]: نثبت لله عين مثل عين المخلوق تماماً.
ونحن إذ نثبت لله العين نثبتها بغير مماثلة، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنثبت الصفة دون تمثيل، ولا تكييف، ولا تشبيه.
والتشبيه: أن أكثر الصفات في الشيء تشبه أكثر الصفات في الشيء الآخر.
والتعطيل نوعان: تعطيل الاسم والصفة، وتعطيل الصفة.
فتعطيل الاسم والصفة أن يعني: يثبت لله ذاتاً موجودة لا تشبه ذوات المخلوقات، ثم ينفي عنه الاسم والصفة، فيقول: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، ولا قدير ولا قدرة، وهذا التعطيل ذهب إليه غلاة الجهمية، وأما الآخر فقد ذهب إليه المعتزلة، وهم أخف من الجهمية؛ لأنهم يثبتون الذات والاسم وينفون الصفة، فيقولون: سميع لكنه بلا سمع، حاشا لله، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، عزيز بلا عزة، فيسلبون الصفة من الاسم.
ونحن إذ نثبت الصفة لله جل وعلا لا نعطلها، فنثبت الاسم ونثبت ما يتضمن هذا الاسم من الصفة.
فاعتقادنا واعتقاد السلف الصالح في صفات الله جل وعلا أن نثبتها بغير تمثيل ولا تكييف ولا تشبيه، وأن ننفي عن الله ما نفاه عن نفسه، ونفاه عنه رسوله بلا تعطيل.(28/3)
الصفات الثبوتية والصفات السلبية
صفات الله على قسمين: صفات ثبوتية وصفات سلبية.
الصفات الثبوتية: هي الصفات التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله كما بيناه.
أما الصفات السلبية: فهي الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.(28/4)
ضابط الصفات السلبية
ضابط الصفات المنفية: أن يتقدم الصفة أداة نفي، كـ (لا) و (ما) و (ليس)، كما قال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] واللغوب: التعب، يعني: ما مسنا من تعب، فهذا نفي أيضاً.
وقول الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، السنة: الغفلة، والنوم معلوم، فإذاً: هذه صفة منفية عن الله جل وعلا، ضابطها: أن قبلها نفي، فقوله تعالى مثلاً: (وما ربك) قبلها (ما)، وأيضاً قول الله تعالى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] يعني: لا يتعبه حفظ السموات والأرض، أيضاً هذه صفة منفية عن الله جل وعلا.
فهذا ضابط لا بد من الالتزام به في أمر النفي.
وإذا وصفنا الله بالنفي فلا يجوز أن نصفه بالنفي المحض، والنفي المحض هو: أن تقول مثلاً: لا يتعب، لا ينام، (لا تأخذه سنة) لا يمسه نسيان، فهذا لا يجوز في حق الله جل وعلا؛ لأن النفي المحض لا كمال فيه، وضابط صفات الله جل وعلا: أنها كلها صفات كمال وجلال، فإذا كانت صفات الله جل وعلا كلها صفات كمال وجلال فلا تنفيها نفياً محضاً؛ لأن هذا لا يتضمن كمالاً، بل لا بد أن تنفي عن الله الصفة المنفية مع إثبات كمال الضد، وهذا ضابط في الصفات المنفية، ومثال ذلك: أنك إذا دخلت على وزير أو ملك فقلت له: أنت لست بسارق، ولا زان، ولا زبال، أنت لست بكذا وجلست تعدد المساوئ وتنفيها عنه، فسيكون رد فعله الضرب أو السجن؛ لأن هذا سوء أدب، وليس فيه مدح؛ لأنك عددت المساوئ ونفيتها عنه ولم تبين له كمالاً، أما إذا قلت له: أنت لست بسارق؛ بل أمين، وقد بلغت الذرى في الأمانة، أنت لست بزان، بل عفيف، فقد أثبت له كمال الضد، فإن كان هذا في حق العبد فهو في حق الله جل وعلا أولى.
فلا تقل في قوله الله جل وعلا لله جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]: إن الله ليس بظالم وتسكت لا يجوز لك ذلك- بل لا بد أن تقول: الله ليس بظالم؛ لأنه بلغ الكمال في العدل والرحمة.
فالله ليس بظالم؛ لكمال عدله، ولا يصيبه التعب؛ لكمال قدرته، و {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]؛ لكمال قيوميته وحياته جل وعلا، ولا يمسه لغوب؛ لكمال عزته وقوته وقدرته.
فنفي الصفة السلبية عن الله وإثبات كمال الضد ضابط مهم في الصفات المنفية.(28/5)
أقسام الصفات الذاتية
أما الصفات الثبوتية فتنقسم إلى ثلاث: صفات ذاتية، وضابط الصفات الذاتية: أنها لازمة للذات، لا تنفك عنها بحال من الأحوال أبداً وأزلاً؛ ولذا تسمى صفات ذاتية.
فهذه الصفات أبدية أزلية، يتصف الله بها ولا تنفك عنه بحال من الأحوال كالحياة والقدرة والعزة والسمع والبصر، فلا يمكن أن نقول: الله يسمع في وقت ولا يسمع في وقت، أو يسمع إن شاء ولا يسمع إن لم يشأ، ولا يجوز أن تقول: الله يقدر على الأمر في وقت ولا يقدر عليه في وقت آخر، فهذه صفات ذاتية لا تنفك عن الله جل وعلا.
القسم الثاني من الصفات الثبوتية: صفات فعلية، والصفات الفعلية ضابطها: أن تضع قبلها: إن شاء.
وهذه الصفات متجددة، فهي تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، كالاستواء مثلاً، فالله إن شاء استوى على العرش، وإن شاء لم يستو.
والمجيء: إن شاء جاء وإن شاء لم يجيء، إن شاء أتى وإن شاء لم يأت.
والنزول: إن شاء نزل وإن شاء لم ينزل.
والكلام: إن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم، قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] هذه الصفة متجددة تتعلق بمشيئة الله جل وعلا.
الثالث: صفات خبرية، والصفات الخبرية مسماها عند المخلوق أجزاء وأبعاض، كاليد، فإنها جزء أو بعض منك، وكذلك العين والرجل والساق.
فالله جل وعلا له ساق، قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، وهذه الصفة بالنسبة لله تسمى صفة خبرية لا مدخل للعقل فيها، فهي خبر محض من الله جل وعلا، ولله عين كما قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، والعين بالنسبة لك هي جزء أو بعض منك، ولكن بالنسبة لله جل وعلا لا يجوز أن نقول عنها أنها جزء أو بعض منه؛ لأنه لا أحد يعرف ذاته سبحانه ليقول ذلك يقال عن صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، إذاً: فالصفات الخبرية مسماها عندنا أجزاء وأبعاض، كالساق، والعين واليد والرجل والأصابع والأنامل، كل هذه الصفات صفات خبرية، وهي في حق الله ليست أجزاء ولا أبعاض.(28/6)
الاتفاق في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمى
الضابط الثالث لصفات الله جل وعلا: أن الاتفاق في اسم الصفة لا يستلزم التساوي في المسمى، فإذا قلت: للبقرة يد وللجمل يد، فقد اتفقت هذه الصفة في الاسم، ولكن لا يستلزم التساوي في المسمى، فيد البقرة لا تشابه يد الجمل، ولكن الله جل وعلا له يد ولك يد، فاتفاقهما في الاسم لا يلزم منه التشابه في المسمى، فيدك لا يمكن أن تشابه أو تماثل يد الخالق جل وعلا.
إذاً: هذا الضابط في غاية الأهمية، فعلينا أن نستحضره دائماً في صفات الله جل وعلا، وهو أن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق أو التساوي في المسمى.(28/7)
القول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات
وهناك قاعدة مهمة في الصفات يرد بها على الأشاعرة الذين يحرفون صفات الله جل وعلا ويدعون أنهم ينزهونه، وهي: القول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات.
فالأشاعرة يثبتون لله سبع صفات، والجواب عليهم أن القول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات، فكما أثبتم الحياة اثبتوا النزول، وكما أثبتم القدرة اثبتوا المحبة والإتيان.
فإن قالوا: لو أثبتنا النزول شبهنا الخالق بالخلق، فيكون: نزوله بمعنى رحمته، أو نزول أمره، وتكون المحبة بمعنى إرادة الثواب؛ لأننا لو قلنا: إنه يحب إذاً أثبتنا تغاير القلوب وميل القلب، وهذه كلها للبشر لا يمكن أن تكون للخالق، والجواب عليهم: أنكم تثبتون له القدرة، كما تثبتونها للبشر، فلم لا تقولون بأن قدرة البشر تساوي أو تماثل قدرة الخالق، فإن قالوا: لا، إن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] قلنا: كما قلتم في القدرة قولوا في النزول، والمجيء، والمحبة! فالقول في بعض الصفات كالقول في كل الصفات.(28/8)
القول في الصفات كالقول في الذات
هناك ضابط آخر في صفات الله جل وعلا يرد به على الجهمية: الذين يثبتون الذات ولكن لا يثبتون الاسم ولا الصفة، وهذا الضابط هو أن القول في الصفات كالقول في الذات، يحذو حذوها وينحو نحوها، فإذا تكلمتم في الذات فمثله تكلموا في الصفات.
فالجهمية يقولون: نثبت لله جل وعلا ذاتاً، وللمخلوق ذاتاً، وذات الخالق لا تشبه ذات المخلوق، فذات الخالق تليق بكماله وجلاله، وذات المخلوق تليق بنقصه، وهذا نتفق معهم عليه، لكنهم قالوا: نثبت للمخلوق صفات، ولا نثبت للخالق صفات، لأننا لو أثبتنا للخالق صفات وأثبتنا للمخلوق هذه الصفات شبهنا الخالق بالمخلوق، فنقول لهم: كما قلتم: إن هذه الذات لا يشبهها ذوات المخلوقات، أيضاً قولوا في الصفات: إن هذه الصفات لا تشبهها صفات المخلوقات.
هذا إجمال لمسألة الصفات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/9)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - هل محمد رأى ربه؟ الرد على أهل البدع في الرؤيا
رؤية الله والتمتع بالنظر إلى وجه الكريم نعمة من نعمه الجليلة التي أنعم بها على أهل كرامته؛ بل هي أفضل نعمة يسبغها الله على أهل جنته، وهي حقيقة ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع علماء سلف الأمة، ولا ينكرها إلا إنسان غلبت عليه شقوته وأضله هواه.(29/1)
حكم من أنكر رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن من جحد رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا يوم القيامة، فقد جحد الدليل القطعي الذي ثبت في الكتاب والسنة، ووصل إلى حد التواتر، ولهذا يكون كافراً.
وهذا الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية نقلاً عن الإمام أحمد لما سئل عمن جحد رؤية الله جل وعلا يوم القيامة فقال: يكفر بذلك؛ لأنه جحد دليلاً قطعياً ثابتاً من طريق قطعي.(29/2)
الدلالة على رؤية المؤمنين ربهم في قوله تعالى: (رب أرني أنظر إليك)
ثبتت رؤية الله بالكتاب والسنة والعقل، وزيادة على ثبوت الرؤية بالعقل نقول: قال الله تعالى عندما سأله موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وفي هذه الآية دلالة عقلية ثابتة أثبتها العلماء على أن المؤمنين يرون الله جل وعلا بدليل العقل، من وجوه: الوجه الأول: أن موسى عليه السلام في زمانه هو أعلم عباد الله بالله جل وعلا، فلا يمكن أن يتجرأ أو يتعدى حدوده مع الله جل وعلا فيسأله أمراً فيه تعدٍ أبداً، تأدباً مع الله جل وعلا، وإذا كان الأمر كذلك فسؤال الموتى لله أن يروه جل وعلا ليس فيه تعدٍ بل هو ممكن، ولو لم يكن ممكناً لما سأله موسى عليه السلام من ربه.
الوجه الثاني: قد يقول قائل: إنه ليس بمتعدٍ على الله، وليس متعدٍ للأدب مع الله جل وعلا، لكنه لا يعلم أن هذا السؤال لا يسأل، أي: أنه سأله جهلاً منه، كما سأل نوح ربه إنقاذ ابنه فقد سأله جاهلاً، فيمكن لموسى أن يسأل الله جل وعلا رؤيته وهو جاهل بأن هذا تعدٍ وحرام، والرد عليهم سهل ويسير وهو: أن الله جل وعلا لا يقر على خطأ أبداً، فلو كان هذا تعدياً وخطأ وجهل من موسى عليه السلام لما أقره الله جل وعلا، ولأنكر عليه كما أنكر على نوح في قوله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46].
الوجه الثالث: أن الله جل وعلا علق الرؤيا على ممكن، ولم يعلقها على مستحيل فقال: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولكن موسى لا يمكنهُ الرؤيا في الدنيا لضعف بصره عليه السلام وضعف قوته على تحمل تجلي الله جل وعلا له، وذلك بالنظر والقياس، فموسى عليه السلام نظر إلى الجبل الشامخ الراسخ وعندما تجلى الله له أصبح كثيباً مهيلا، فكيف بموسى الضعيف هل يستطيع أن يصبر على تجلي الله جل وعلا له، ولذلك فإن موسى استغفر وعلم أنه لا يستطيع ذلك.
أما بصر الإنسان في الآخرة فيخبر الله عنه ويقول: {فََبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أي: له قوة يستطيع الإنسان أن ينظر بها إلى الله جل وعلا.(29/3)
أقوال الناس في رؤية المؤمنين لربهم
أقوال الناس في رؤية المؤمنين لله جل وعلا ثلاثة: القول الأول: الله جل وعلا يُرى في الدنيا وفي الآخرة، وهذا قول أهل الوجد والارتقاء والفناء من أهل التصوف الذين يجدون في أنفسهم أنهم يرون الله ويرون الرسول، وأن الأولياء خير من الأنبياء، ومنهم من يدعي أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا اعترض عليهم بأن موسى عليه السلام من الأنبياء الأصفياء، ومن أولي العزم من الرسل، بل هو ثاني أو ثالث مرتبة عند الله جل وعلا، سأل الله أن يراه فلم يره، ولم يعطه الله جل وعلا ذلك، ردوا بقولهم: إن الولي هو الذي يرى الله، والولي أعلى مرتبة من النبي، ألا ترى أن الخضر عليه الصلاة والسلام، -وهم يقولون: إنه ولي- جاءه موسى يسعى حثيثاً حتى يتعلم منه وهو ولي وموسى نبي؟ فالأولياء عندهم أفضل من الأنبياء، والولاية درجة أعلى من درجة النبوة، فللولي أن يرى الله جل وعلا دون النبي.
وكذلك قالوا: إنه من الممكن للإنسان أن يرى الله، وهؤلاء هم أصحاب ابن عربي الذي يتبنى مذهب الحلول والاتحاد، ولذلك قالوا: لما طلب موسى من ربه أن يراه وتجلى الله جل وعلا رأى موسى نفسه فكأنما رأى الله جل وعلا! يعني: أن الله جل وعلا حل فيه، وهذا القول أشد من قول النصارى في عيسى عليه السلام، فمن الممكن عندهم للإنسان أن يرى الله؛ لأن الله حل في كل إنسان.
وهذا قول الفريق الأول من الناس، وكلامهم لا يمر على جاهل فضلاً على طالب العلم، وهذا القول ضعيف ونحن في غنى عن أن نرد عليه.
القول الثاني وهو على النقيض وهو قول أهل البدع من الجهمية وغيرهم، الذين قالوا: إن الله جل وعلا لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، فنفوا رؤية عن الله جل وعلا، وهؤلاء لنا معهم كلام آخر في النهاية.
القول الوسط هو قول أهل السنة والجماعة، الذين قالوا: إن الله جل وعلا يرى في الآخرة دون الدنيا.(29/4)
الاختلاف في رؤية محمد لربه في الدنيا
اختلف أهل العلم هل رأى محمد ربه جل وعلا في الدنيا أم لا؟ وذلك على قولين: القول الأول: وهو قول جمهرة من السلف ومن الصحابة، وهو قول عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وكثير من السلف، حيث قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير الله جل وعلا في الدنيا بعينه ولكن رآه بقلبه، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى لموسى عندما سأل الله أن يراه {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، واستدلوا أيضاً بحديث في الصحيح وهو أنه لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم فسأله أصحابه: (أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟!)، وفي رواية أخرى: (أرأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً) والأصح في هذا النور أنه الحجاب؛ لأن الله جل وعلا حجابه النور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه)، ثم قال: (حجابه النور إذا كشفه أحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، سبحانه وتعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم: رأى الحجاب عندما وصل إلى سدرة المنتهى.
القول الثاني: وهو قول ابن عباس، ورجحه الحافظ ابن حجر وبعض المتأخرين: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الدنيا، ويراه في الآخرة، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14]، وفي الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفيه رواية قال: (نور إني أراه)، يعني: أرى الله جل وعلا، فلكل دليل ولكل وجهة هو موليها، والخلاف معتبر.(29/5)
الراجح أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه
الراجح والصحيح هو قول عائشة وجمهرة السلف وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا؛ لقول الله: للآية: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وللحديث: (نور أنى أراه)، فحجاب الله جل وعلا النور.
والذي يعضد هذا القول هو قول الله تعالى في معرض المنة على رسوله صلى الله عليه وسلم في الإعجاز والمواساة ليلة المعراج قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] ومواساة ومنة قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، ومن آيات الله جل وعلا التي رآها: أنه رأى جبريل، ورأى آكل الربا، والزناة، وكل الآيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأعظم آية أن يرى ربه، وإذا رأى محمد ربه كان أولى بالذكر في الآية من الآيات التي هي أدنى منها في العظمة والمرتبة.
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، المقصود به جبريل عليه السلام كما في الصحيحين.(29/6)
الرد على القائلين بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه
الرد على استدلالهم بقوله عليه الصلاة والسلام: (نور إني أراه)، أن هذا الحديث الصحيح فيه أنه انقلب على الراوي، وهو وهم منه، والصحيح في الروايات كلها: قوله: (نور أنى أراه؟)، أي: كيف أراه؟ وأما ابن عباس وما ذهب إليه فقد وصلنا عنه قولان: القول الأول قال: محمد رأى ربه، بالإطلاق، ثم جاءت رواية بسند صحيح قال فيها: رأى محمد ربه مرتين بفؤاده.
فقيد الرؤية بالقلب، فيحمل قول ابن عباس المطلق على المقيد، ونحن نوافقهم في ذلك، بل إن عائشة توافق في ذلك حيث قالت: إن محمداً رأى ربه، ولذلك لما قالوا لها: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه قالت: قف شعري مما تقول، من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم الفرية)، يعني: أخطأ خطأ فاحشاً أن يقول: إنه رأى ربه، ثم استدلت على ذلك بقول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، وهذا الاستدلال فيه نظر، ولكن ما ذهبت إليه هو الصحيح، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الدنيا، ويراه في الآخرة.(29/7)
أدلة القول بأن الله لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة
القول الثالث: وهو قول الجهمية والنفاة الذين قالوا: إن الله جل وعلا لا يرى في الدنيا ولا يرى في الآخرة.
واستدلوا بقول الله تعالى عندما سأله موسى {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فـ (لن) أصلها في اللغة للتأديب، والتأديب يتضمن عدم الرؤية في الدنيا وعدم الرؤية في الآخرة.
واستدلوا كذلك بقول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، هذا الدليل السمعي، أما الدليل النظري فهو أنه لو أثبتم الرؤية فقد جسمتم؛ لأن المجسم هو الذي يرى، وإذاً زعمتم أن لله جسم، فقد شبهتم الخالق بالمخلوق.
وردوا على الاستدلال بقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، بأن المعنى: إلى ثواب ربها ناظرة، فينظرون إلى الأنهار وإلى الجنات وإلى حور العين وإلى الملائكة، ويتمتعون بنعم الله عليهم قد علموا بعذاب أهل النار.(29/8)
الرد على من قالوا بعدم الرؤية في الآخرة
الرد الأول: أن (لن) ليست للتأبيد فالسياق في الآية يدلنا على المعنى المراد منها، قال الله تعالى: {َلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] فعلق الأمر على محتمل لا على مستحيل، وهذا يدل على أن (لن) ليست نافية، وإذا قلنا بأن (لن) للتأبيد فقول الله جل وعلا لموسى (إنك لن تراني) يكون في الدنيا فقط دون الآخرة، فلا ذكر للآخرة في الآية، فلا يصح أن نقول إنهم لا يرون الله جل وعلا في الآخرة.
وإذا رجعنا إلى اللغة فسنجد أن (لن) في أصل اللغة ليست للتأبيد، وهذا الذي قرره ابن مالك فقال: إن (لن) لا تفيد التأييد إلا بقرائن.
والدليل على ذلك قول الله تعالى عن أهل الكفر: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، ثم بين لنا أنهم في الآخرة سيتمنون الموت، قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فقال: {لَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة:95] وتمنوه في الآخرة، فهذه دلالة قاطعة على أن (لن) لا تكون للتأبيد بحال من الأحوال، وإنما هي لمطلق النفي فقط.
أما قولهم: كيف تقولون: إنكم سترون الله والله جل وعلا يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103] فالجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: أن الإدراك غير الرؤية، فلم يقل الله جل وعلا لا تراه الأبصار وإنما قال:: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] والإدراك معناه الإحاطة، ودلالة ذلك أنه لما فر موسى بقومه من فرعون {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] ففرعون يرى موسى ومن معه وهم يرون فرعون ومن معه، ومع ذلك فموسى عليه السلام نفى الإدراك ولم ينف الرؤية، فهم يرونهم ولكن ما أحاطوا بهم، وما أدركوهم.
كذلك في قول الله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) أي: لا تحيط به جل وعلا، لكنها تراه، والكيفية لا يعلمها إلا الله جل وعلا، والرؤية أعم من الإدراك.
أما دليلهم العقلي وهو قولهم: إنكم لو أثبتم رؤية الله فقد جسمتم الله، وأصبح الخالق كالمخلوق، وشبهتم الخالق بالمخلوق، فالرد عليهم بأن الذي أودى بكم إلى هذا هو التشبيه، فقد شبهتم الخالق بالمخلوق، ونحن نقول: نثبت كل صفات الله جل وعلا بدون تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ولا يستلزم من رؤية الله جل وعلا أن يكون جسماً، ولو كان لازم هذه الآية التي تدل على الرؤية أن يكون جسماً فليكن جسماً؛ لأن لازم الحق حق، ولكننا نتوقف في مثل هذا الكلام فلا ننفيه ولا نثبته.
وأما قولهم في قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، أن النظرة تكون إلى ثواب ربهم فقد قدروا بكلامهم هذا أمراً محجوباً، والرد عليهم من ثلاثة وجوه: الأول: أن هذا خلاف فهم النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف ما بلغ به أمته؛ لأنكم لو قلتم: معنى هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] (إلى ثواب ربها ناظرة) فقد اتهمتم النبي أنه قصر في البلاغ، فهو يعلم أن الآية معناها: (إلى ثواب ربها ناظرة)، ولكنه قصر في التبليغ، وهذا اتهام صريح للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والله جل وعلا أمره بالتبليغ في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]، وقال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].
الثاني: خلاف فهم وإجماع السلف الصالح.
الثالث: يلزم من رؤية الله جل وعلا رؤية ثواب الله؛ لأن رؤية الله هو أعلى نعيم ممكن يصل إليه المرء، فمن رأى الأعلى يلزم منه أن يرى الأدنى، والتقسيم دائماً في الدنيا أن النعيم نعيمان، نعيم مادي حسي، وهو نعيم البدن، كالأكل والشرب والنكاح والجماع، ونعيم روحي وهو نعيم القلب، فيستلزم من حصول النعيم الأعلى الروحي وهو النظر إلى الله جل وعلى حصول النعيم الأدنى وهو نعيم البدن، والله جل وعلا أعطى المؤمنين ما يشتهون، وألذ ما يتمنون وأعظم ما يتنعمون به وهو رؤية الله جل وعلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(29/9)
إثبات رؤية من قال الله فيه (ونحشره يوم القيامة أعمى)
وقد يرد إشكال في قول الله تعالى في وصف الكافرين: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، وهو كيف يرى هذا الله جل وعلا وقد حشر أعمى البصر؟ ويعضد ذلك قول الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] والجواب على ذلك هو أن الراجح في تفسير هذه الآية ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعطاء حيث قالوا: معنى أعمى أي: عن حجته التي يدلي بها بين يدي الله جل وعلا، وأصم لا يسمع ما ينفعه، وأبكم لا يتكلم بما يكون حجة له، فالآيات التي جاءت في العمى مؤولة؛ لأن هناك أدلة أخرى تثبت أنهم يسمعون زفير النار، ويسمعون الحساب ويسمعون الله جل وعلا عندما يكلمهم، ويرون النار كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53]، ويرون الملائكة كما قال تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22].
والراجح أنهم يرون الله جل وعلا عند الحساب، وهذه الرؤية ليست رؤية رحمة، والله أعلم.(29/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
القدر سر الله في الكون، لا يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، وإن من الأهمية بمكان أن يتعلم الإنسان ما يحصن نفسه من شبه المؤولين، والمحرفين الزائغين حول القدر، كأن يعلم تعريفه وأهميته ومراتبه، وكيف يتعبد الإنسان ربه بالإيمان به.(30/1)
المداومة على الطاعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن الله جل وعلا يحب من العبد الديمومة على العمل، وقد حث الله على ذلك، وحث رسوله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
وقال جل وعلا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران:133].
وقد أنكر الله جل وعلا على الذين قاموا بطاعات ثم نقضوا هذه الطاعات وتركوها وعزفوا عنها فقال جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] أي: التي غزلت هذا الغزل وأتقنته ثم بعد ذلك تركته قطعاً، وما دامت عليه.
وأنكر الله جل وعلا على بني إسرائيل النصارى خاصة الذين اجتهدوا في عبادة الله جل وعلا بابتداع لا بشرع من عند الله جل وعلا، ثم بعد ذلك ما أداموا الطاعة، قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] حتى هذه تركوها.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض من أطاع الله جل وعلا ثم ترك هذه الطاعة، فقال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقيم من الليل ثم تركه).
فعلى العبد الذي يبارك له في عمل طاعة من الطاعات أن ويلزمها، ويلزم نفسه عليها، قال عمر بن الخطاب: من بورك له في عمل فليلزم هذا العمل.
يعني: من بارك الله له في الصدقة فليشد على نفسه وليكثر من الصدقة، ومن بارك الله له في الصيام فليكثر من الصيام وليلزمه، ومن بارك الله له في القيام فليداوم على القيام، وعليه باليسر فإن الله ييسر على العبد الذي يداوم على طاعته.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الأعمال إلى الله الدائم وإن قل).
إذ أن الديمومة أحب إلى الله جل وعلا، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا ترك من الليل شيئاً من القيام لوجع أو تعب أو ضيق وقت فإنه يستدرك ذلك بالنهار، فيصلي ثنتي عشرة ركعة لله جل وعلا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقام طاعة ثبت عليها ولم يتركها، وقد صح عنه أنه شغل عن السنة البعدية للظهر بأموال الصدقة ينفقها يميناً ويساراً ويوزعها على مستحقيها فلما قرب وقت العصر صلى العصر ثم بعد ذلك أعقب صلاة العصر بركعتي الظهر التي لم يصلها في وقتها، لذلك قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (ما عبد النبي صلى الله عليه وسلم عبادة أو صلى لله صلاة إلا وثبت عليها).
فإذا بورك للإنسان في عمل فلا بد أن يثبت عليه، وخاصة أهمها وهو طلب العلم، إذ أن الأمة ضاعت بضياع علمائها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أياماً يرفع فيها العلم ويظهر فيها الجهل ويكثر الهرج)، وما ضاعت الأمة إلا بضياع العلماء.
وقد قسم علي بن أبي طالب الناس على ثلاثة أصناف فقال: عالم رباني: وهو العالم الذي يستضيء بنور العلم، فلا يتعبد لله بعبادة إلا بعلم، ولا يسير على نهج إلا وله نور من العلم يسير عليه.
والعالم الرباني هو أرفع هذه المنازل على الإطلاق، وكما قال ابن عيينة: أفضل الخلق على الإطلاق الوسائط بين الخالق وبين المخلوق.
والثاني: متعلم على سبيل النجاة، فهو يسعى في طلب العلم فلا يترك جلسة علم إلا ويجلس فيها ليتعلم ويتبصر أمور دينه، فيتعلم كيف يتعبد لله جل وعلا، ويتعلم كيف يتعامل مع الناس، ويتعلم الحلال ليعمل به، والحرام ليتجنبه ويبتعد عنه، ويسعى جاهداً لتطبيق ذلك في حياته.
فهو كما وصفه الإمام علي رضي الله عنه متعلم على سبيل النجاة، فهو ينجو بتعلمه، (وإن الملائكة -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم بما يعمل).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كما في الصحيح: (من سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة).
والثالث: همج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، فإذا قال أحدهم: يميناً اتجهوا يميناً، أو إذا قال: يساراً اتجهوا يساراً؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور العلم، فقد شغلتهم الدنيا عن الدين، فالتهوا بلذات فانية وتركوا اللذات الباقية، ولأنهم لم يستضيئوا بنور العلم تراهم يتخبطون دائماً قد فقدوا البصيرة، وحتى إذا دعوا إلى الله جل وعلا لم يدعوا إلى الله على بصيرة، وإن تعبدوا تعبدوا على جهل، والذي يتعبد على جهل أبعد من الله جل وعلا من الذي يعصيه، لأن الذي يعصيه وهو على علم له أن يتوب ويرجع ثم يتعبد على علم، أما الذي يتعبد على جهل فهو أحب إلى الشيطان كما قال سفيان الثوري: البدع أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن الذي يتعبد على جهل لا بد أن يبتدع في دين الله جل وعلا، والمبتدع لا توبة له، كما جاء في بعض الآثار: الذي يبتدع في دين الله جل وعلا لا يوفق إلى توبة أبداً.(30/2)
المداومة على الطاعة قربة(30/3)
الإيمان بالقدر
إن سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عز وجل، وما روي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل دلالة تامة لا مراء فيها ولا جدال على إثبات القدر، كما يدل على ذلك ما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة؛ ومما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعتها ومعصيتها.
وقبل البدء في سرد الآيات التي تفسر القدر: لا بد أن نذكر جملة من مباحث القدر، كتعريفه لغة، ثم شرعاً ثم أهميته، ثم بعد ذلك الأدلة عليه، ومراتبه، وكيف يتعبد لله جل وعلا بالإيمان بالقدر؟(30/4)
تعريف القدر
القدر لغة: مأخوذ من التقدير، قال ابن تيمية: يجوز أن يكون قد أخذ من القضاء والقدر، أو أخذ من المداومة والمساواة، وقيل: أخذ من القدرة.
وشرعاً: هو أن تعلم يقيناً أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
أو: هو أن تعلم يقيناً أن الله علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فهو يعلم أحوال العباد، وأرزاق العباد، وأخلاق العباد، وآجالهم، وأهل الجنة منهم وأهل النار وأهل السعادة منهم وأهل الشقاوة، وأن الله قدر ذلك قبل أن يخلق الخلق أجمعين بخمسين ألف عام.
فما أخطأك لم يكن ليصيبك؛ لأنه كتب في علم الله السابق، وما أصابك لم يكن ليخطئك؛ لأنه كتب في علم الله السابق.
وعرف القدر أنه قدرة الله، وهو: أوجز ما يطالب فيه، كما قال الإمام أحمد: أجمل ما قيل فيه: القدر هو قدرة الله، واستحسن ذلك ابن عقيل قال: هذا من دقة فهم الإمام، فالقدر من لوازم ربوبية الله جل وعلا، ومن آمن بربوبية الله علم أن القدر هو قدرة الله جل وعلا، إذ هو سر مكتوم، من أسرار الله جل وعلا لم يطلع عليه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، هذا القدر هو الذي أعجز الناس إذ لا قياس فيه ولا عقل، بل من أدخل عقله في أمر القدر تاه في بحر الحيرة، ودائماً يتساءل الناس: الإنسان مخير أم مسير؟ وهل هو مجبر أم له اختيار؟(30/5)
أهمية الإيمان بالقدر
تكمن أهمية الإيمان بالقدر؛ في الركن السادس من أركان الإيمان، ومن نفاه أو تركه أو لم يعتقد بأن الله جل وعلا كتب كل شيء قبل أن يخلق كل شيء فهو كافر بالله العظيم، خارج من ملة الإسلام.
ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه وسأله وكان مما سأله أن قال: أخبرني عن الإيمان؟ -يريد: أركان الإيمان- فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، فهو الركن السادس من أركان الإيمان، والركن كما عرفه علماء الأصول: هو ماهية الشيء، وهو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم.
ومعنى يلزم من وجوده الوجود: أنه إذا وجد هذا الركن وجد الأمر، وإذا نفي نفي الأمر.
مثال ذلك: الركوع فهو ركن من أركان الصلاة، فإن وجد الركوع صحت الصلاة، وإن لم يوجد الركوع فالصلاة باطلة، فلو أن رجلاً كبر تكبيرة الإحرام ثم قرأ الفاتحة ثم سجد دون أن يركع فلا تصح ركعته بالإجماع؛ لأنه لم يأت بركن من أركان الصلاة، وكذلك الأمر بالنسبة للقدر فهو ركن من أركان الإيمان فالذي يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ثم لا يؤمن بالقدر فإنه لم يأت بالإيمان كله، فهو خارج من ملة الإسلام، ولذلك قال ابن القيم عن عوف بن مالك: قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام.
وفي المسند عن عبادة بن الصامت لما دخل عليه ابنه وسأله عن القدر أو قال: أوصني أوصاه، ثم قال: إن لم تؤمن بالقدر دخلت النار.
وفي رواية: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبرأ إلا من الكافر.
وقد بين اللالكائي أن طاوس قال]: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يقول: إن الأمر بقضاء وقدر.
قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال جل وعلا: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:53] أي: مكتوب في اللوح المحفوظ.
وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22].
اختلف العلماء: في عود الضمير في قوله: نبرأها، فقيل: على النفس، والمعنى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا في كتاب من قبل أن نبرأ النفس، وقيل: على الأرض، والمعنى: من قبل أن نبرأ الأرض، وقيل: إن الهاء عائدة على المصيبة، والتحقيق: أنها عائدة على كل ذلك: قبل أن يخلق الله النفس، وقبل أن يخلق الأرض، وقبل أن يخلق المصيبة التي تنزل على النفس، فقد كتبها الله في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: من قبل أن نبينها ونظهرها ونوجدها.
وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] قال العلماء: ومن يؤمن بأن هذه المصيبة كتبت عليه قبل أن يخلق هدى الله قلبه للإيمان، وجعله يستسلم لقضاء الله، وكان برداً وسلاماً عليه وأجر على ذلك.
فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط.
وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان).
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كراهة النذر فقال: (إن النذر يستخرج الله به من البخيل)، وقال أيضاً: (النذر لا يأتي بخير) أي أنه لا يرد قدر الله جل وعلا، بل إن الله قدر الأمر ويستخرج من البخيل ما نظر على نفسه.
وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها -يعني: تأخذ رزقها- ولتنكح -أي: تنكح من زوجها- فإن لها ما قدر لها) والمعنى: أن الذي كتب لها سيأتيها ولا يستطيع أحد رده، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين خطر عدم الإيمان بالقدر ويقول: (أخوف ما أخاف على أمتي حيف الأئمة -المضلين- وتكذيباً بالقدر، وإيماناً بالنجوم)، وفي رواية: (أخاف على أمتي تكذيباً بالقدر وإيماناً بالنجوم)، نعوذ بالله من الإيمان بالنجوم أو التكذيب بالقدر.
وجاء في القدر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن عباس مرشداً له -والحديث رواه أحمد في مسنده-: (يا غلام! إني أعلمك كلمات إلى أن: واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فلو اجتمعت الأمة قاطبة على أن يجروا لك ربحاً أو يوقعوا بك خسارة فلن يأتيك إلا ما قدره الله لك.
وجاء أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوا ضعف الباءة لديه، وهو يشتاق للنساء، فقال: (يا رسول الله! أأختصي -فإني لا أستطيع أن أتزوج-؟ فقال: يا أبا هريرة! جف القلم على ما أنت لاق) أي أن الأمر مكتوب سواءً اختصيت أم لا فما كتب ستلقاه.
كما أنه لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر العزل: وهو أن يجامع الرجل امرأته ثم إذا قرب الإنزال أنزل خارج الفرج؛ لأنه لا يريد أن تخصب البويضة فأجاب قائلاً: (إذا أرد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)؛ لأن الأمر إذا كتب وقضي فلا راد له، ولذلك طيب النبي صلى الله عليه وسلم قلوب الذين يلهثون وراء أطماع الدنيا، ويسارعون في كسب أكبر قدر منها -حتى أن جلهم ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (حمار بالليل جيفة بالنهار)، فلا هو ترك لنفسه وقتاً بالنهار ليتعلم، ولا بالليل ليقمه لربه- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها فأجملوا الطلب).
فلو أنك آمنت بالقدر وعلمت أن رزقك قد كَتِبَ وأنه لا شك آتيك، فلن تلهث وراء حطام هذه الدنيا الفانية، وقد كان الحسن البصري يَعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويطبقه فكان يأخذ التمر فيبيع تمرات قدر قوت يومه ثم يجمع حاجته ويذهب فيقول له الناس بع يا رجل فقد أتاك المشرتون فهذا رزق ساقه الله إليك فيقول: علمت أن رزقي بيد ربي ولن يصل إلى غيري فاطمأن قلبي؛ لأنه آمن بالله، وآمن أن الرزق قد كتب والأجل قد كتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجملوا الطلب)؛ لأن المكتوب سيأتي.
وكما أن الأجل سيأتي فالرزق يسعى إلى المرء أشد من سعي الأجل إليه، ولذلك جاء في بعض الآثار الإلهية: (عبدي انشغل بي أكفك الهموم كلها، وإن انشغلت بالدنيا وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ولن تأخذ إلا ما قسم لك) فلو رقيت إلى السماء أو غصت في أعماق المحيطات فلن تأخذ إلا ما كتب لك، فمن آمن بالقضاء والقدر ولم يوكل عقله وكان مستسلماً لربه فقد أراح واستراح، فتراه إن نزلت عليه البلايا والمصائب ضاحكاً مستبشراً يعلم أن الله حكيم ولم يقدر عليه إلا الخير، ولذلك قال بعض السلف: إذا نزلت المصيبة بالعبد فإنها تحمد على ثلاث: على أنها كانت مكتوبة في الأجل وقد وقع وانتهى الأمر، وعلى أنها لم تكن أكبر مما كانت، وعلى أن الله يرفق بالعبد إذا نزلت به المصيبة، فإنه حكيم عليم لطيف خبير.
إذاً القدر: قدرة الله وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذه هي الأدلة على القضاء والقدر، ولن ينتظم إيمان عبد بالقضاء والقدر حتى يؤمن بكل ما تقدم لأن ذلك لازم من لوازم الإيمان بالقدر.(30/6)
مراتب الإيمان بالقدر
إن إيمان العبد لن ينتظم ولن يستقيم حتى يؤمن بأربع مراتب، ومن لم يؤمن بمرتبة منها لم يؤمن بالقدر، وقد كان السلف لا يقسمون الإيمان بالقدر على أربع مراتب، بل كانوا يأتون بها مجملة، وكان شيخ الإسلام قدس الله روحه هو أول من قسم هذه التقسيمات، ولذلك بدعه أهل الجهالة والضلالات فقالوا: هذا مبتدع لا يتبع علم السلف، فالسلف لم يقولوا: الإيمان بالقدر أربع مراتب، وما أتى بها ابن تيمية إلا استنباطاً من أقوال السلف، وقسمها للتوضيح لا أنه أراد أن يبتدع، فجزاه الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.(30/7)
المرتبة الأولى: العلم
المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر: العلم، وهو أن تؤمن بعلم الله جل وعلا السابق لِكل شيء: ومما يدل على ثبوت علم الله السابق، أو علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون: قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فالله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] قال المفسرون: أي: هذا الضال يعلم الله أنه ضال وراض بالضلال، تصديقاً لقول الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17].
أما ابن عباس فقد قال في تفسير قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] أضله الله لعلمه السابق فيه أنه محل للضلال، فلا يصح أن يكون مسلماً، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وقال جل وعلا: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
كما أن الله جل وعلا لما اختار أنبياءه كان بعلمه السابق يعلم أن هذه القلوب طاهرة نقية، ولذلك قال الله تعالى عن إبراهيم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] والمعنى: نحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام محل للهداية، ومحل للنبوة، ومحل لأن يكون خليلاً لله جل وعلا؛ لأنه شاكر لأنعم الله جل وعلا.
ومما يدل على علم الله السابق أن الله لما فتن الكبراء بالعبيد وفضل العبيد عليهم؛ لعلمه السابق بما سيكون منهم قال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ} [الأنعام:53]، أي: الفقراء {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] فأجابهم الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53] فكان الله جل وعلا على علم سابق بهؤلاء أنهم سيشكرون نعمته جل وعلا، فأوضع فيهم هذه النعمة وهي نعمة الإسلام.
كما أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم واختيار صحابة رسول الله كان بعلم الله السابق، فمن وجد نفسه في خير وعلى خير فليستبشر؛ لأنه في علم الله السابق من أهل الخير، وليزدد من الخير الذي هو فيه، قال الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} [الفتح:26] أي: أنهم كانوا {أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26] في علم الله السابق، فإن الله علم أن أبا بكر أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وعلم أن عمر هو الفاروق فأودع في قلوبهم هذا الخير وجعلهم صحبة لنبيه صلى الله عليه وسلم.(30/8)
المرتبة الثانية: الكتابة
المرتبة الثانية من مراتب القدر والتي لا بد للمؤمن بالقدر أن يؤمن بها: الكتابة، وهي تلي العلم، إذ لا يكتب أحد شيئاً إلا وقد علم بهذا الشيء الذي يكتبه، فالله علم كل شيء قبل أن يخلق أي شيء، وكتب كل شيء قبل أن يخلق كل شيء.
والكتابة لها خمسة مقادير: أولاً: كتابة أزلية، والكتابة الأزلية هي كتابة كل شيء إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، والذكر: اسم جنس لأي كتاب ينزل، كالقرآن أو التوراة أو الإنجيل أو الزبور، وهو الكتاب الذي أنزل على داود، والمعنى: كتبنا في الذكر وهو اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون.
وقال الله تعالى عن آثار الذين يعملون الصالحات {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] والمعنى: أن كل شيء فعلوه من خير أحصاه في كتاب مبين، والإمام المبين هو اللوح المحفوظ.
ومما كتب في اللوح المحفوظ: القرآن الكريم، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22].
وميزة هذه الكتابة أنها لا تبدل ولا تغير، فما كتب في اللوح المحفوظ، من شقاوة العباد، أو سعادتهم، أو تصنيفهم من أهل الجنة، أو من أهل النار لا يتغير بحال من الأحوال، وما كتب فيها من أرزاق العباد، وتغير الأحوال، وأوقات الموت أو الحياة كل ذلك لا يتغير.
ثانياً: كتابة أخذ الميثاق، وهي الكتابة التي أخذ الله جل وعلا فيها الميثاق على عباده عندما خلق آدم، فكانت الكتابة الأولى في اللوح المحفوظ قبل الخلق أجمعين، وكانت الكتابة الثانية بعد خلق آدم، فقد ورد في الحديث: (أن الله لما مسح على ظهر آدم وأخرج ذريته قبضة باليمين وقبضة بيده الأخرى فقال باليمين: هذه للجنة ولا أبالي، وقال في اليد الأخرى: هذه للنار ولا أبالي)، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، فإن الله مسح على ظهر آدم فأخرج كل ذريته، وأخذ عليهم الميثاق وكتب عليهم كل شيء.
وفي الصحيحين أن: (النبي صلى الله عليه وسلم: لما سئل: يا رسول الله! أفرغ من الأمر وقضي أم نستقبل؟ -يعني: أكل الذي نعمله قد قضي وكتب، أم أننا نستقبله- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قضي أو فرغ منه، فقالوا: ففيم نعمل؟ -أي: إذا كان كل شيء قد كتب، فكتب أصحاب الجنة وأصحاب النار ففيم العمل؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فمن يسر له شرب الخمر فهو من أهل الخمر، ومن يسر له الزنا والفاحشة والقتل والسرقة والكذب والزور فهو من أهل ذلك، ومن يسأل الله الطاعة والجهاد وطلب العلم والذكر والصلاة فهو من أهل ذلك، فكل ميسر لما خلق له.
وجاء في المسند أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتابان: كتاب في يده اليمنى وكتاب في يده الأخرى، فقالوا: يا رسول الله! ما هذان الكتابان؟ قال: هذا كتاب بيد ربي اليمنى فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وأجمل عليه -أي: أغلق فلا يزاد ولا ينقص- وفي اليد الأخرى أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم وأجمل على ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، ويكون من أهل النار فيختم عليه بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ويكون في الكتاب من أهل الجنة فيعمل بعمل أهل الجنة ويختم له بعمل أهل الجنة) وهذا مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في السنن: (إن الله إذا أحب عبداً عسلة قالوا: يا رسول الله! وما عسلة؟ قال: إذا أحب الله عبداً وفقه لعمل الخير، فأماته عليه فختم له بعمل الخير، وإذا أبغض الله عبداً يسر له عمل أهل النار فختم عليه به) نعوذ بالله من ذلك.
ثالثاً: الكتابة العمرية، وهي القدير العمري للإنسان في بطن أمه، كما قال ابن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، وكان إبراهيم بن أدهم أو غيره يبكي طيلة الليل والنهار فيطرقون عليه الباب ويقولون: علام تبكي وأنت المتزهد المتعبد؟ فيقول: والله ما أعلم كتبت وأنا في بطن أمي من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة!.
وجاء في الصحيح عن ابن مسعود قال: (أخبرني الصادق المصدوق إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه نطفة أربعين ليلة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يأتي الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وعمله وأجله شقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بيه وبينها إلا ذراع -ويكون في الكتاب أنه من أهل النار- فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار.
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة).
وقد ورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يجاهد فقال الصحابة: يا رسول الله! هذا من أشجع الصحابة، وهو من أهل الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه من أهل النار)، وكان الرجل يجاهد شجاعة ويقاتل حمية ويثخن المشركين قتلاً فظن الصحابة أنه من أهل الجنة، ولكن لما كتب في علم الله السابق أنه من أهل النار قال رسول الله: (إنه من أهل النار)، فقال بعض أحد الصحابة: إن رسول الله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فلا بد أن أتتبع الرجل، فتتبع الرجل فوجده يقاتل بشدة وشجاعة ثم جرح، فلما جرح لم يحتمل جرحه فأخذ ذبابة سيفه فوضعها في بطنه فاتكأ عليها حتى قتل نفسه، فقال الرجل: (يا رسول الله! رأيت الرجل الذي قلت فيه: أنه من أهل النار فعل كذا وكذا وكذا، فقال: أشهد أني رسول الله)، فهذا الرجل قاتل وجاهد وليس بينه وبين الجنة إلا ذراع، ولما كتب في علم الله السابق أنه من أهل النار سبق عليه الكتاب وختم عليه بعمل أهل النار فقتل نفسه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة).
ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوكل بالرحم ملكاً فيقول: رب نطفة رب علقة رب مضغة، فإذا أذن الله بخلقه أمره بنفخ الروح، فإذا نفخ الروح قال: رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ متى أجله) فيكتب كل ذلك في صحيفة الملك، وهذه الصحيفة غير صحيفة اللوح المحفوظ، والفرق بين صحيفة اللوح المحفوظ وما كتب فيها وبين هذه الصحيفة: أن اللوح المحفوظ لا يغير فيه شيء ولا يبدل، أما صحائف الملائكة فيمكن أن يغير ما كتب فيها، ولذلك قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: يمحو ما يشاء في صحائف الملائكة ويثبت ما فيها وعنده الثابت في اللوح المحفوظ وهو في أم الكتاب، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يطوف بالكعبة ويقول: رب إن كنت قد كتبتني شقياً فامحها واكتبني عندك سعيداً، أي: إن كنت قد كتبتني في بطن أمي في صحيفة الملك شقياً فامحها وأثبتها عندك في اللوح المحفوظ سعيداً.
رابعاً: -المرتبة الرابعة من مراتب الكتابة- الكتابة العامية، وهذه الكتابة جاءت استنباطاً من بعض الآيات كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] والليلة المباركة هي ليلة القدر، قال ابن عباس: في ليلة القدر يكتب من يموت هذا العام ومن يحيا ومن يولد، ورزقه وأجله، وشقي في هذا العام أم سعيد؟ ويكتب في ليلة القدر حتى الحجاج، قال مجاهد: يمشي الرجل في الأسواق وقد كتب مع الأموات، وقال آخر: يمشي في الأسواق وقد كتب في ليلة القدر أنه مع الحجيج، فهذه الكتابة هي كتابة عامية تكتب كل عام في ليلة القدر.
خامساً: الكتابة اليومية، وهي من قول الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، قال بعض السلف: يرفع أقواماً في نفس اليوم ويخفض آخرين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويحيي ويميت ويعطي ويمنع وينفع ويضر سبحانه وتعالى، وكل ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة في الليل والنهار)، في الليل: أي: في الفجر، وفي النهار أي: في العصر، وعملهم أنهم يكتبون ما يفعل العباد في اليوم.(30/9)
المرتبة الثالثة: المشيئة
والمشيئة تعني أن الله كتب فشاء سبحانه وتعالى، ولا بد أن يؤمن العبد أنه لا يمكن أن يحدث شيئ إلا بمشيئة الله، فهجوم الروس على المسلمين بمشيئة الله، وضرب الأمريكان لأفغانستان بمشيئة الله، واحتلال اليهود لبيت المقدس وإفسادهم فيها بمشيئته، وظهور الحبشي قبل يوم القيامة وهدمه للكعبة واستخراجه لكنزها بمشيئة الله، وموت الرسول بمشيئة الله، وظهور المهدي في آخر الزمان بمشيئة الله جل وعلا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فعلى العبد أن يعلم أن كل شيء بمشيئة الله، وأن ذلك من حكمة حكيم عليم إذا شاء شيئاً كان هذا الشيء خاضع لحكمته، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:30 - 31] فمشيئته خاضعة لحكمته سبحانه وتعالى، وهي نافذة في كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة:253]، فلو شاء الله ما اقتتل الأفغان بعضهم مع بعض، ولا قاتل صدام ودخل على الكويت، ولا اقتتل اليهود مع المصريين عام سبعة وستين، ولا اقتتل يهود خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالله يقول: {َلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].
وقال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99] إذ أن مشيئة الله نافذة إذا شاء شيئاً كان وإذا لم يشأ لم يكن.
وقال جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] فإنهم ما فعلوه إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى، وكل ما سبق عن المشيئة فهو عن المشيئة الكونية، والإرادة الكونية غير الإرادة الشرعية التي هي المحبة.(30/10)
المرتبة الرابعة: الخلق
علم أن مراتب القدر أربع: الأولى: أن تؤمن بعلم الله السابق وأن كل شيء نشأ عن علمه سبحانه.
الثانية: الكتابة فالله كتب ما علمه جل وعلا.
الثالثة: المشيئة والإرادة.
الرابعة: التنفيذ، وهو ما عبرنا عنه بالخلق.
فالله علم ثم كتب ثم شاء وأراد ثم خلق، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] ومن الأشياء التي خلقها: السماوات والأرض، والخلق وأفعال الخلائق وأرزاقهم، فـ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، وأظهر من ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فإنه دليل على أن الله خلق أفعال العباد.
وجاء وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله كل صانع وصنعته)، وفيه دلالة على أن الله خلق كل شيء، حتى أفعال العباد.(30/11)
هل الإنسان مسير أم مخير؟
الناس في الإجابة على هذا السؤال فرق ثلاث: ففرقة غلت وفرقة جفت وفرقه وتوسطت، فكان في الأولى إفراط، وعند الثانية تفريط، أما الثالثة فوسط بين الإفراط والتفريط.
أما الذين غلو فهم القدرية إذ قالوا: الإنسان مخير في كل شيء، حتى أفعال العباد، فالعباد -عندهم- يخلقون أفعال أنفسهم، وجل وعلا -بزعمهم- لا يعلم أفعال العباد حتى يعملها العامل، ومن القدرية من يثبت علم الله لعمل العبد وينفي عن الله خلق أفعال العباد، فلم ينفقوا عن الله صفة العلم.
أما غلاة القدرية فقد نفوا العلم فقالوا: الله لا يعلم بعمل العبد حتى يعمله، فالإنسان عندهم مخير على الإطلاق.
وبعكس قول القدرية قالت الجبرية إذ الإنسان عندهم مسير على الإطلاق، فلا خيار له ولا اختيار ولا مشيئة ولا إرادة كما قال بعضهم: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء ولذلك كان متنطعهم قولهم: الشيطان أكبر عابد لله جل وعلا -لأنه مسير- فإن الله أجبره على ما فعل فرضي بما فعل وهو خاضع لله جل وعلا.
أما أهل السنة والجماعة فهم وسط بين الفريقين إذ قالوا: الإنسان مسير مخير، فالإنسان مخير في فعله، فهو مخير في اختياره لزوجته، واختياره لعمله، واختياره لدينه، ألا ترى أن من شاء أن يدخل في النصرانية يدخل، ومن أراد الإسلام دخل في الإسلام، ومن أراد الكفر فعل الكفر، ومن أراد الزنا فعل الزنا ولا مجبر لهم، له، فالإنسان مخير في إرادته، ومخير في طلبه، وكفه، في منعه، وعطائه، وهو -أي الإنسان- مسير في موته، في طوله وقصره، في سواده وبياضه فلم يتحكم امرئ بلونه فقال: أريد أن أكون أبيض البشرة، بل ما خلقك الله عليه فأنت مسير به، كما أنه في اختيار في هذه ومسير من ناحية أخرى وهو أن مشيئته تابعة لمشيئة الله جل وعلا، قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] جل وعلا.(30/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلق أفعال العباد [1]
لا يستقيم للعبد إيمانه حتى يؤمن بالقدر ومراتبه الأربع، وذلك نجاة له من الحيرة والتخبط، فالله علم فكتب، وإذا شاء خلق ما يريد، وإن العبد تحت قدرة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وليس بمقدور العبد أن يخرج عن أقدار الله تعالى، فهو الذي بيده الهداية والضلال، وكل ذلك حكمة منه وكمال مطلق.(31/1)
مقدمة في مراتب القدر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: ما زلنا في الكلام على أبواب القدر، وفي سياق ما جاء من الآيات في كتاب الله عز وجل، وما روي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر، وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، طاعاتها ومعاصيها.
وقد قلنا: إن القدر هو قدرة الله جل وعلا، وهو سر لم ينكشف لا لعالم ولا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل.
وقلنا: إن الذي يعمل عقله في مسائل القدر يتخبط في بحر الحيرة، فمن تمام الإيمان بالله جل وعلا الإيمان بالقدر.
والقدر بالنسبة لله تعالى هو صفة من صفاته، فإن التوحيد أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية، والإيمان بالقدر يعتبر من توحيد الربوبية؛ لأنه يختص بأفعال الله جل وعلا.
وقد قال الإمام أحمد: إن القدر هو قدرة الله جل وعلا، فلا يستقيم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر، وبمراتبه الأربع.(31/2)
مرتبة العلم
إن الذي يؤمن بأن الله قد قدر كل شيء لا بد عليه أن يؤمن بأن الله علم كل شيء، وقع أو سيقع، قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، وكل آية تثبت العلم لله تدل على ذلك، فالله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر، وهي مرتبة العلم.(31/3)
مرتبة الكتابة
المرتبة الثانية من مراتب القدر: مرتبة الكتابة، فالله قد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق.
وإن العبد الذي يتعبد لله جل وعلا مقراً بمراتب القدر، يرتاح ولا يتبرم في الدنيا عند حلول مصائبها؛ لأنه يعلم أن الله قد كتب كل شيء.
ولكن القول بأن الله كتب كل شيء كلمة مجملة تحتاج إلى تفصيل، وتفصيلها هو الكلام عن مراحلها.
والكلام عن مراحل الكتابة مهم جداً، فإن أرزاق العباد وآجالهم، وتحديد أهل الجنة وأهل النار وغير ذلك كله قد كُتب في اللوح المحفوظ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، وأما كيف كتب القلم؟ فالله أعلم بذلك، لكن القلم تكلم مع الله، فأمره الله أن يكتب فقال: سمعت وأطعت، فكتب كل كبيرة وصغيرة، وليس المكتوب في اللوح المحفوظ هو ما يتعلق بالبشر أو المخلوقات فقط، بل هو عام فيها وفي غيرها، وذلك أن الكلام صفات من صفات الله، وهذه الصفة قد كتبت في اللوح المحفوظ.
وهناك كتابة تكون في الرحم، وتسمى: الكتابة العمرية، وأما الكتابة التي تكتبها الملائكة كل يوم على الإنسان فهي الكتابة اليومية، وهناك أيضاً الكتابة العامية، وهي التي تكون في ليلة القدر.
وهنا سؤال، وهو: هل المكتوب في اللوح المحفوظ له أمد أو ليس له أمد؟
الجواب
إن له أمداً؛ لأنه جاء في الحديث: أن القلم قال: (ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، ولا شك أن هناك أحداثاً بعد يوم القيامة، وذلك مثل من سيتزوج الحورية الفلانية من الحور العين، ونحو ذلك.
فأفعال الله جل وعلا معنا بعد دخول الجنة وغيرها من هذه الأمور فإنها لم تكتب، ولم يكتب كل شيء يحصل بعد يوم القيامة، لكن كتبت بعض الأحداث كرؤية الله تعالى، والنعيم عند زيارته كل أسبوع وغيرها.
وصفات الله جل وعلا مكتوبة في اللوح في المحفوظ من نزول، ومجيء، وكلام وإعطاء، وإحياء، وإماتة.
وهناك كتابة أخرى أيضاً فيها صفات الله جل وعلا كصفة الرحمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب ربكم في كتاب عنده - عند العرش - رحمتي سبقت غضبي).
والرحمة والغضب صفتان من صفات الله جل وعلا.
وكذلك مكتوب في اللوح المحفوظ أن الله جل وعلا سيتكلم مع موسى بقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي} [الأعراف:144] ومكتوب أيضاً أن موسى سيقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] فيجيبه الله جل وعلا بقوله: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] ومكتوب أيضاً نزول الله كل ليلة إلى السماء الدنيا.(31/4)
مرتبة المشيئة
المراد بالمشيئة أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأما الخلق فسنتكلم عنه في مبحث مستقل.(31/5)
خلق أفعال العباد
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إن أفعال العباد كلها مخلوقة، طاعاتها ومعاصيها].
معنى أفعال العباد: هي كل ما يصدر من العبد من كلام، ومن حركات وسكنات، معصية كانت أو طاعة، فكل ذلك من أفعال العباد، وهي مخلوقة لله جل وعلا.(31/6)
قول القدرية بأن الله لم يخلق الشرور والمعاصي
إن القدرية قالوا: إن الله تعالى لم يخلق المعاصي والشرور، فظنوا أن الشر والمعصية لا يخلقهما الله تعالى، ولكن الآثار قد جاءت عن الصحابة بالسند الصحيح أنهم قالوا بأن الله خلق أفعال العباد، ومن هؤلاء الصحابة الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وأبي بن كعب وغيرهم.
وجاء ذلك عن التابعين، منهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر وغيرهم، وكذلك من بعدهم كـ أيوب السختياني وغيره، ومن الفقهاء أيضاً: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، والليث بن سعد، وأشهب بن عبد العزيز، فكل هؤلاء قالوا بذلك.(31/7)
دلالة الكتاب والسنة على خلق الله لأفعال العباد
إن مما يثبت أن الله خلق أفعال العباد أدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
أي: كل فعل فعلتموه فإن الله هو الذي خلقه بنص هذه الآية.
وقد ذكر البخاري في خلق أفعال العباد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته)، وفي رواية: (خلق الله كل صانع وصنعته).
فالصنعة هذه هي نتيجة لفعل الله، فإنه قد خلق كل صانع وصنعته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس).
فقوله: (كل شيء) لفظ عام.
قال الإمام البخاري: خلق الله أفعال العباد، الحركات والسكنات، واليقظة والنوم، والأصوات وغيرها، فكل ذلك خلقه الله جل وعلا.
وعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: خلق الله أفعال العباد، حتى وضعك يدك على خدك خلقها الله جل وعلا.
وقد كان علي بن أبي طالب ينكت بعصاه ويقول: هذه النكتة أو هذه الضربة في الأرض خلقها الله جل وعلا.
وكذلك ابتساماتك في كل لحظة من اللحظات من الله جل وعلا، فقد قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43].
والضحك فعل من أفعال العبد، والبكاء فعل من أفعال العبد، والله جل وعلا هو الذي هو أضحكك وهو الذي أبكاك.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (الأمر قد قضي، قالوا: على ما نستقبل أم على ما مضى؟ فقال: على ما مضى، فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لما خلق له).
ووجه الشاهد هو قوله: (كل ميسر)، يعني: إذا قدر الله لك باب الهداية خلق فيك العزيمة والإرادة للهداية، ثم خلق فيك فعل الهداية ووفقك له.
فالله جل وعلا خلق كل فعل فعله العبد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [جاء في الحديث عن حذيفة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المعروف كله صدقة، وإن الله صانع كل صانع وصنعته)].
وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
فقالت القدرية: هذه الآية ليست دليلاً على أن الله خلق أفعال العباد؛ لأن (ما) هنا موصولة بمعنى الذي، فالمعنى: والله خلقكم والذي تعملون، والذي كان يعمله قوم إبراهيم هو جعل الأخشاب أصناماً فقال لهم إبراهيم: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، أي: والذي تعملونه من هذه الأخشاب، فإن الله خلقها وخلقكم، قالوا: وهذا ليس له علاقة بأفعال العباد.
والرد عليهم هو أن قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] معناه: إن هذه الأخشاب التي أصبحت أصناماً تعبدونها خلقها الله، وإذا كان الله قد خلقها وهي نتيجة المقدمة وهي عملكم، فيلزم من هذا أن يكون الله قد خلق المقدمة التي هي: العمل.
فيرد عليهم من طريق اللزوم، فالأصنام هي النتيجة التي وصلتم إليها بعملكم، وهذه النتيجة التي وصلتم إليها الله خلقها، فمن باب أولى أن يكون الله هو الذي خلق العمل أو المقدمة التي أوصلكم بها إلى النتيجة.
وأيضاً إذا فسرنا (ما) بأنها مصدرية فسيصبح معناها: والله خلقكم وعملكم، وليس في هذا أي نزاع، وقد جاء في الآية الأخرى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
ووجه الشاهد من هذه الآية قوله: إن (كل) لفظ من ألفاظ العموم، ويدخل تحته كل شيء في السموات أو في الأرض، كبني آدم وأفعالهم، وبهذا دخلت أفعال العباد تحت ما خلقه الله تعالى بقدر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فأنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]).
وعليه فإن الله قد خلق مسبة أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم واتهامه بالسفه والكذب، وإن كان تعالى لا يرضى لنبيه أن يسب ويسفه ويكذب، وهذا يبين الفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:8]].
ووجه الاستدلال: أن الإلهام من الخلق، والشيخ الشعراوي رحمه الله ذكر أن المعنى: أعلمها بالفجور وبالتقوى، وكان يقول: علم الله أهل الجنة فكتبهم، وعلم أهل النار فكتبهم، وكان يضرب مثلاً على ذلك فقال: إذا نظر المدرس لخمسة من تلامذته، ورأى أن التلميذ الجيد جداً سيحصل على تسعين في المائة فكتب ذلك عنده، ورأى أن المهمل سيحصل على ثلاثين في المائة، وكتب ذلك، فإذا جاءت نهاية العام وحصل ما كتبه المدرس وأخبر به، فلا يُلام المدرس على ذلك؛ لأنه عمل على ما يعلمه، وبهذا يتبين معنى القدر، فلا يصح الاحتجاج بالقدر على فعل المخالفات.
فلو قلنا تنزلاً: إن معنى: (فَأَلْهَمَهَا) أي: أعلمها، فإن أم موسى عليه السلام أوحي إليها وحي إلهام، وهذا تفسير صحيح، ولكن الشعراوي له تأويلات أخرى.
والله جل وعلا أعلم البشر بقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
فأعلمهم الخير من الشر، والتقى من العصيان.
ووجه الدلالة في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] على خلق أفعال العباد: هي أن الله ألهمه فعل الشر، أي: خلق فيه إرادة الزنا مثلاً، ولكنه لم يخلق فيه نفس الفعل، فلو أنه زنا بامرأة، فإن هذا الشر قد علمه، ثم كتبه، وعند
السؤال
هل خلق الله هذا الزنا أو لا؟ فلو قلنا: تأدباً مع الله لا ينسب الشر إليه جل وعلا -أي: خلق الزنا- ولكنه خلق أسبابه فقط، فيلزم من هذا أن الزنا مخلوق لله جل وعلا، فخلاصة الأمر أن نقول: إن الزنا إذا نسبنا خلقه إلى الله جل وعلا فذلك منه حكمة وكمال، وإذا نسبناه للعبد نسبناه على أنه من الفجور الذي سيحاسب عليه؛ لأنه فاعل لذلك الفعل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [تفسير قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]].
يعني: أن الله جل وعلا هداه الطريقين: طريق الخير وطريق الشر.(31/8)
أنواع الهداية
الهدية أربعة أنواع:(31/9)
الهداية العامة
الهداية العامة تعم كل المخلوقات، فقد هدى الله آدم كيف يأتي امرأته، وهدى كل رجل كيف يسعى لرزقه، وهدى الحيوانات معرفة خالقها، وهداها كيف تجلب الرزق، وهو الذي هدى الثعلب أن ينام، وإذا نام أن يغمض واحدة ويترك الأخرى حتى ينقض على فريسته.
وهناك قصة طريفة ذكرها بعض العلماء في أن الله تعالى هو الذي هدى الفأرة إلى أن تعرف الفرق بين كثافة الماء وكثافة الزيت، وذلك أن رجلاً كان عنده زيت في إناء، فما استطاع الفأر أن يأخذ الزيت إذ كان بعيداً عنه، فذهب إلى مكان فيه ماء، فكان يأخذ الماء ويجعله في هذه الإناء، فكلما نزل الماء في الزيت ارتفع الزيت حتى ارتفع الزيت إلى آخر الإناء فشرب منه الفأر.
فمن الذي هدى هذا الفأر لمعرفة الفرق بين كثافة الماء وكثافة في الزيت؟ وكذلك النمل تكون طابوراً كاملاً حتى تنقض على الفريسة، ثم تذهب بها لتخزنها أعوماً.
وأيضاً هدى الله كل هذه المخلوقات لتسبيحه فقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
فهذه النقنقة من الضفدع تسبيحات لله جل وعلا، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع؛ لأنها تكثر من تسبيح الله جل وعلا بهذه النقنقة، وقيل: لأنها كانت تأخذ الماء وتلقي به في نار إبراهيم عليه السلام لحمايته منها.
والله هو الذي هدى الهدهد ليعرف أن الله جل وعلا يخرج الخبء من السماوات والأرض، وذلك عندما ذهب إلى بلقيس وقومها ووجدهم يسجدون للشمس من دون الله قال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:24 - 25].
فمن الذي هدى الهدهد ليعرف ذلك الأمر العظيم؟ إنه الله عز وجل، فهذه هي الهداية العامة.(31/10)
الهداية الخاصة
والهداية الثانية: هداية خاصة بالبشر، وهي هداية الإرشاد، أو هداية البيان، وهي تصديق لقول الله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وفي بعض التفاسير لقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:8] يعني: بين لها طريق الفجور وطريق التقى.
وهذه الهداية قد تكون لله جل وعلا أو لرسوله أو للدعاة إلى الله جل وعلا، ومنها قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: بينا لهم الطرق الصحيحة.
{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] وقوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر، وهذه الهداية أيضاً قد تكون للرسول قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
يعني: تبين وترشد الناس.(31/11)
هداية التوفيق
الهداية الثالثة هي: هداية التوفيق والسداد وخلق الإرادة في القلب، أو خلق العزيمة على فعل الخير، وهذه لا تكون إلا لله جل وعلا، وفصل الخطاب فيها قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
مع أنه تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
فكيف يثبت له الهداية هنا وينفيها في الآية الثانية إذ يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]؟
الجواب
أن المراد بالآية التي تنفي عن الهداية: نفي هداية السداد والتوفيق لا هداية البيان والإرشاد، وهذه الهدايات الثلاث تكون في الدنيا.(31/12)
هداية الآخرة إلى الجنة
الهداية الرابعة: هي هداية الآخرة، وهي هداية أهل الجنة إلى منازلهم يعرفونها كما كانوا يعرفون منازلهم في الدنيا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كل امرئ يدخل الجنة فإنه يعرف مكانه في الجنة، ويعرف ملكه، واللؤلؤة المجوفة التي يدخل فيها، كما كان يعرف بيته في الدنيا، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يجعلنا من المهديين هداية البيان والإرشاد، وهداية السداد والتوفيق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(31/13)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خلق أفعال العباد [2]
الله عز وجل خالق كل شيء بما في ذلك أفعال العباد من حركات وسكنات ومعاص وسيئات، ولكن ليس معنى ذلك أن العبد مجبور على فعله، بل قد جعل الله له مشيئة واختياراً، وفي سابق علمه سبحانه أن هذا طائع وهذا عاص، وقد ضلت الجبرية لما قالوا: إن الله أجبر العبد على الفعل فنسبوا إليه الظلم، سبحانه أن يظلم أحداً من خلقه.(32/1)
خلق الله لأفعال العباد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: ما زلنا مع القدر خيره وشره، وأنه ركن من أركان الإيمان، بل هو الركن السادس من أركان الإيمان، ولا يقبل إيمان عبد عند الله جل وعلا حتى يقابله وهو يؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الله جل وعلا إذا قدر على العبد أمراً فلا بد وأن يقع، وأن ما شاء الله في هذا الكون الشاسع وقع، وما لم يشأ لم يكن، بقدرته وعزته جل وعلا.
من مراتب القدر: الخلق، ومعناه عموم خلق الله جل وعلا لكل شيء، فالله علم فكتب فأراد فخلق سبحانه وتعالى، والله جل وعلا خلق كل شيء، ومن هذا الشيء أفعال العباد، فما من شيء في الكون إلا وهو بإرادته ومشيئته جل وعلا.(32/2)
الأدلة على خلق الله لأفعال العباد
خلق الله لأفعال العباد أمر دل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ولفظ (شيء) نكرة في سياق الإثبات يفيد الإطلاق، وكل من ألفاظ العموم، أي: أن الله جل وعلا خلق كل شيء، ومن هذا الشيء فعل العبد من طاعة أو معصية.
وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، وهذا تصريح بأن الله خلق أفعال العباد.
وقال جل وعلا: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]، فالضحك والبكاء من خلق الله جل وعلا.
هذا من الكتاب.
أما من السنة فما رواه البخاري في خلق أفعال العباد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، وفي حديث آخر قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس)، ولذا قال البخاري: سكنات الإنسان، وحركاته، وأصواته، وحروفه، كلها مخلوقة لله جل وعلا، حتى قال: ووضع المرء يده على خده مخلوقة لله جل وعلا.
هذا الدليل الأثري.
أما من جهة النظر والعقل؛ فإن العقل الصحيح لا يخالف النص الصريح، فالعقل يدل على أن الله قد خلق فعل العبد، ففعل العبد صفة من صفات العبد، ودائماً نقول: الصفة تتبع الموصوف، فقولنا: محمد كريم، أي: الكرم صفة من صفات محمد، فلا يأتيه أحد إلا ويكرمه ويهش ويبش عند لقائه، إما أن يكرمه بكلمة طيبة أو بما عنده من علم ومال، ومحمد هذا مخلوق لله، فإذا كان الموصوف مخلوقاً لله فمن باب أولى الصفة التابعة للموصوف، فهي مخلوق لله، فالكرم الذي هو صفة تابعة للموصوف الذي هو محمد مخلوقة لله جل وعلا.
إذاً: هذا فيه إثبات أن الله خلق كل أفعال العباد، حتى الفاحشة التي يفعلها العبد ويحاسب عليها خلقها الله، ويمدح الله جل وعلا أنه خلقها؛ لأن كل فعل ناتج عن الله كمال وجلال، فالشر والقبح والسوء ليست في فعل الله، حاشا لله، فهو ذو الجلال والكمال والإجلال.(32/3)
أثر اعتقاد العبد بأن الله خلق أفعال العباد
إذا علم العبد واعتقد في قلبه أن الله قد خلقه وخلق فعله من طاعة أو معصية، أثر ذلك فيه بأمور: أولاً: أن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً أنه أفقر ما يكون إلى الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي خلقه وخلق فيه الخير والشر، وهيأ له سبب الخير والشر، فالعبد فقير بذاته إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دينه إلى الله جل وعلا، فقير في أمر دنياه إلى الله جل وعلا، فهو فقير إلى أن يهتدي إلى الله جل وعلا، وأن يهديه إلى سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم، فقير إلى أن يهديه إلى الإسلام ثم إلى الإيمان ثم إلى الإحسان، فقير إلى أن يهديه ثم يثبت الهدى فيه ثم يزيده هدى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فقير إلى الله جل وعلا أن يعصمه من مضلات الفتن، فقير إلى الله جل وعلا في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن أن يثبته على الحق المبين أمام فتن تجعل الحليم حيران، لا يمكن لعبد أن يثبت إلا أن يثبته الله جل وعلا.
فإذا علم العبد أن الله هو الذي خلق التثبيت فيه، وخلق فيه الهداية، فإنه يستقم بذاته إلى الله جل وعلا، ويدعو الله متضرعاً متمسكناً خاضعاً ذليلاً له سبحانه حتى يثبته، ويعصمه من مضلات الفتن.
إن العبد فقير إلى الله في رزقه وفي كل شئون دنياه، ففي الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهو فقير إلى الله حتى يستجلب الرزق الذي يكون له قوتاً وكفافاً، وإن زيد له فيتصدق به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في السنن: (قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً أو قوتاً، وقنعه الله بما أتاه)، فهو فقير إلى ربه أن يقنعه بما آتاه، فلا ينظر إلى غيره فيحقد عليه أو يحسده، وفقير إلى الله بأن يكون رزقه مالاً حلالاً ليس فيه سحتاً؛ حتى لا يأكل حراماً فيرفع يده إلى الله فيرد خائباً، مأزوراً غير مأجور، وفي الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو فقير إلى الله في كل أحواله، فإذا علم العبد أن الله خلق فيه أفعاله فهو فقير إلى ربه أن يجعل كل فعله رضاً لربه جل وعلا، كما قيل: إذا أردت أن تعلم مكانتك عند الله جل وعلا فانظر أين أقامك؟ فهو الذي يقيمك سبحانه.
ثانياً: إذا علمت أن الله جل وعلا هو الذي خلق فعلك فلا يمكن أن يدخل العز إلى قلبك بعمل الطاعة، ولا يمكن أن تمن على ربك بطاعتك أبداً، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فإن كنت قائماً بالليل فالله هو الذي أقامك، وأثمر في قلبك أن تقوم خاشعاً متذللاً ذاكراً إياه، وهو الذي خلق ذلك فيك فلا تمن عليه؛ لأنك تعلم أن الطاعة التي تقيمها هو الذي خلقها فيك، وأودع في قلبك أن تهتم برضا ربك جل وعلا، فلا يمكن لك أن تمن على الله بجهاد في سبيله، لأنك -ووالله الذي لا إله إلا هو- ما وضعت نفسك في ساحة الوغى، بل إن الله جل وعلا هو الذي أوضعك، وما دمت قائماً بالليل فإن الله جل وعلا هو الذي أقامك، وما جلست في درس علم تتعلم ما ينفعك وتكون من خيرة الناس كما بين النبي صلى الله عليه وسلم (خيرة الناس هم العلماء، وطلبة العلم)، فما كنت في هذا المجلس إلا بالله جل وعلا، فهو الذي وضعك، فلا تمن على ربك إن علمت أن الخير كله بيد الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، فالله جل وعلا هو الذي خلق فيك هذه الطاعة فاشكر ربك ولا تمن عليه.
ثالثاً: إذا علمت بأن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك الخير والشر فإنك ستدعوه ليل نهار وتذكره ليل نهار، متضرعاً بأن يعصمك من مضلات الفتن.
إن أهل البدعة لا يريدون أن يتركوا أهل السنة ينعمون بعقيدتهم، ويعتقدون في ربهم أنه هو الذي خلق فيهم هذه الطاعة، ووفقهم إلى هذا الخير حتى لا يمنون على الله بإسلامهم كما قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]؟(32/4)
أدلة القائلين بأن الله لم يخلق أفعال العباد والرد عليهم
جاءت المعتزلة أهل التجهم والجبرية فردوا على الله ما أثبته في كتابه، وردوا على أهل السنة والجماعة اعتقادهم بأن الله هو الذي خلق فيهم هذه الأفعال، وقالوا: العبد خلق فعل نفسه، والطائع هو الذي أطاع الله، ولولا أنه أطاع الله ما أطيع الله جل وعلا، والعبد الذي يتصدق إنما يتصدق بنفسه أما الله فلم يوفقه لذلك، ولذلك كانت الجنة لنا أجرة وثمناً على أعمالنا، وعندنا على ذلك أدلة من الكتاب والسنة فمن الكتاب قول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فأثبت أن هناك خالقاً غير الله جل وعلا، وهم العباد الذين خلقوا أفعال أنفسهم، ثم قالوا -تعالى الله جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً-: إن الله جل وعلا جعل الجنة أجرة وثمناً للعمل، كما قال الله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، فإذا صلى وصام كانت أجرته الجنة، وقال جل وعلا: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
والرد عليهم أن يقال لهم: إن أدلتكم هذه أوهى من بيت العنكبوت، وسوف نثبت لكم بالأدلة على أن الله جل وعلا خلق أفعال العباد، والله إذا قال صدق {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، فقد أثبت في كتابه أنه خلق أفعال العباد، وأثبت في سنة نبيه أنه خلق أفعال العباد، وأنتم قد نسيتم ما أثبته الله جل وعلا فاجترأتم على ربكم فوقعتم في المحظور الذي قاله الله تعالى عنه: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169] أما الأدلة على أن الله خلق أفعال العباد فهي: قول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ومن هذا الشيء فعل العبد، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق كل صانع وصنعته)، فقد أثبت الله الخلق لنفسه، وأثبته له رسوله، وأجمعت الصحابة على ذلك، وأنتم خالفتم ظاهر الكتاب والسنة، وأيضاً إجماع الصحابة.(32/5)
الرد على استدلالهم بقوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين)
استدلالهم بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، مردود لأن الخلق يأتي على ثلاثة معاني: المعنى الأول: التقدير، بمعنى أن كل ما خلقه الله قدره، والله جل وعلا إذا قدر خلق، ولذلك قال الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، ثم إن من الممكن أن يكون التقدير بمعنى الدراسة، والتي يسمونها دراسة جدوى.
فأنت تقدر الشيء، وتحسب أن هذه تكون لها كذا، والمقدمة تكون كذا، والنتيجة تكون كذا، تقدر هذا كتابة، فهذه دراسة جدوى.
الله جل وعلا يقدر وهو أحسن المقدرين؛ لأن الله إذا قدر شيئاً أخرجه لحيز الوجود لأنه قادر {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، أما العباد فقد يقدرون ويخططون لكنهم لا يستطيعون التنفيذ، ولذلك قال: (لأنت تفري ما خلقت) يعني: تخرجه لحيز الوجود، والبعض يخلق ولا يفري، يعني: يقدر ولا يخرج ما قدره إلى حيز الوجود.
هذا المعنى الأول.
إذاً: نرد عليهم بأن معنى: أحسن الخالقين أي: أحسن المقدرين.
والمعنى الثاني: الإيجاد من العدم، وهذا ينفرد به الله جل وعلا، ولا يشترك فيه مع الله أحد، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، أي: أوجدهم من عدم {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، فالله جل وعلا هو الذي خلقه من عدم.
المعنى الثالث: التحويل من صورة إلى صورة، بمعنى: أنه إذا كانت الصورة خشبة فتحول إلى باب، وهذه يشترك فيها البشر، فيسمى المحول خالقاً لهذا الباب، وكذلك الحديد لو حول إلى سيارة، فهل هذا الخشب أو الحديد أنزله البشر من السماء؟
الجواب
لا.
فالنعمة تنسب إلى مسديها، وعلى هذا نقول: خلق الله العقل الذي فكر بالتحويل ثم هيأ له سبب ذلك، فوفقه إلى تحويل الحديد إلى سيارة.
إذاً: الرد على استدلالهم بالآية الأولى: أن المقصود بمعنى الخلق في هذه الآية: التقدير، وأن الله أحسن المقدرين؛ لأنه الذي يخرج ما قدره إلى حيز الوجود، أو التحويل من صورة إلى صورة، ونحن لا ننكر أن البشر يحولون من صورة إلى صورة، وهذا من الإنصاف والعدل، فالله سماهم بالخالقين؛ لأنهم حولوا من صورة إلى صورة.(32/6)
الرد على قولهم بأن الجنة ثمن للعمل
أما الدليل الثاني الذي استدلوا به وأن الجنة تعتبر ثمناً لأعمالهم، وأن الذي يصلي ثمنه وأجرته الجنة، فنقول: لو أن الله عذب أهل السموات والأرض الطائع، والصالح، والفاسق، والفاجر، والكافر لما كان ظالماً، فهو يفعل فيهم ما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، والجنة ليست ثمناً للعمل، ودليل ذلك قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) لكن العمل سبب في الوصول إلى رحمة الله ودخول الجنة، وليس ثمناً لها.(32/7)
الأدلة على إثبات مشيئة العبد
إذا كان الله خلق أفعال العباد، وهو الذي خلق فيهم الطاعة، وخلق فيهم المعصية، فأين العبد، وأين فعل العبد؟ فهل للعبد أن يقول: يا رب أنا عصيت، وأنت الذي خلقت في المعصية، أو يقول: يا رب أنت قدرت عليّ المعصية والسرقة، وخلقت في وازع المعصية؟ فهل للإنسان أن يفعل ذلك ويحتج بالقدر، أو هل ينسب للإنسان فعله حقيقة فيثاب عليه أو يعاقب، أم ينسب إليه مجازاً؟
الجواب
ليس للإنسان أن يفعل المعصية، ويحتج بالقدر، ففعله ينسب إليه حقيقة، فيثاب على الطاعة، ويعاقب على المعصية.
والأدلة على هذا نقلية وعقلية، أما النقلية فالله جل وعلا بين أن للعبد مشيئة، وإرادة، واختياراً، وعملاً، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، فجعل الكسب لهم، وأيضاً قال الله تعالى: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، فنسب العمل لهم، وقال جل علا: {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة:277]، فهم الذين فعلوا ذلك، وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة، وأيضاً قال جل وعلا: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر:55]، فجعل لهم مشيئة وإرادة، وقال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، فأثبت لهم إرادة، وقال جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، وقال جل وعلا أيضاً في المشيئة التي هي مقاربة للإرادة: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقال تعالى: {أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] باختيارهم.
فهذه أدلة متوافرة متواترة في كتاب الله على أن للعبد عملاً، وكسباً، وإرادة، واختياراً، ومشيئة.
أما من السنة فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم للعبد إرادة واختياراً وفعلاً، فقال الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فأضاف التزوج للعبد، فهذا فعل من أفعال العبد، وقال أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع فليكثر من ذلك عبد أو يستقل)، فجعل الإكثار من فعل الطاعات أو الإقلال منها من فعل العبد، وأيضاً قال لمولاه الذي قال له: أسألك مرافقتك في الجنة: (أعني على نفسك بكثرة السجود) فكل هذه أدلة من السنة على أن العبد فاعل مريد مختار له مشيئة وإرادة خاصة به.
أما الدليل النظري العقلي فإن الله قد كلف عباده بتكاليف، وجعل الثواب لمن فعل هذه التكاليف، والعقاب لمن لم يفعلها، فبالعقل نقول: الثواب والعقاب مقابل عمل، وإرادة، واختيار، وإلا فلو قلنا: إن الله جل وعلا يثيب أو يعاقب على ما لا يفعل العبد فهذا ظلم، والله جل وعلا منزه عن الظلم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً) إذا: الله جل وعلا جعل للعبد اختيار الفعل، وجعل له في النهاية ثواباً وعقاباً على فعله، ولو كان الثواب أو العقاب على غير الفعل كان ذلك ظلماً، والله منزه عن كل نقص أو ظلم.(32/8)
الجمع بين مشيئة الله ومشيئة العبد
إذا قلنا: إن الله هو الذي خلق فعل العبد، وإن العبد له فعل خاص به، وله اختيار، فكيف نجمع بينهما؟ يعني: إذا صليت أنت الظهر فإن الله خلق فيك وازعاً وإرادة لصلاة الظهر، ثم إنك أنت الذي صليت الظهر، فالفعل ينسب إليك.
والجمع بين هذا وذاك أن الفعل ينسب إلى الله جل وعلا خلقاً وإيجاداً، وينسب إلى العبد فعلاً واكتساباً، بمعنى: أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيك إرادة الصلاة، ووفقك لوقت الصلاة، وهيأ لك كل أسباب الصلاة لتصلي، وأنت الذي صليت، فنسبت الصلاة إليك كفعل واكتساب، والله جل وعلا هو الذي خلق ذلك فيك من عدم، وقديماً قالوا: العبد فاعل منفعل.
ومعنى: العبد فاعل أنه هو الذي يتدبر، ويجاهد، ويطلب العلم، ويصلي، ويتزوج، ويزني، ويسرق، ويغتاب، وينم.
ومعنى: العبد منفعل أن الله جل وعلا هو الذي خلق فيه إرادة الصلاة، وطلب العلم، والزكاة، والجهاد، وعلم منه سابقاً عدم حب الهدى، فخلق فيه إرادة الزنا، والسرقة، وفعل الفاحشة، والغيبة، والنميمة، وفتح له هذه الأبواب، وأغلق عليه أبواب الخير كلها.
إذاً: العبد فاعل حقيقة، ومنفعل، أي: خلق الله فيه إرادة هذا الفعل، فالفعل لا ينسب إلى الله على أنه فعله، وإنما أثر من فعله، فالزنا والسرقة مثلاً بالنسبة لله تسمى مفعولات وآثاراً، لكن بالنسبة للعبد تسمى فعلاً، فالصلاة، والصيام، والصدقة، والزنا، والسرقة، والغيبة، والنميمة، تسمى بالنسبة للعبد فعلاً، وبالنسبة لله جل وعلا مفعولات، وتنسب للعبد لأنه فاعل مكتسب، ولله جل وعلا لأنه الخالق الموجد.
فالفعل خلق لله، والعبد فاعل، فهو أثر الله، والمفعول غير الفاعل، فإذا قلت: خلق الله الزنا، فبالنسبة له هو خلق يحمد عليه؛ لأنه كمال وجلال، ولأنه فعله لحكمة عظيمة، أما الزاني والفعل فهو مفعول وأثر لخلق الله جل وعلا وليس فعلاً له، بل فعل للعبد حقيقة، وهذا كقول الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79]، ففي الآية الأولى قال: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، فلم يفرق بين الحسنة والسيئة، وفي الآية الثانية أعاد التفريق فقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ} [النحل:53]، أي: أن أي نعمة أنت تنعم بها من طاعة أو حسنة فمن الله، وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، فهذا من مفعولات الله.
ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، قال: كتبها وقدرها عليك وعلمها قبل أن توجد بخمسين ألف عام، فيعلم أنك ستقترف السوء، ثم تأتيك البلية بسبب هذا السوء، ولذلك يقال: ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
فكيف الجمع بين هذا وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، وحديث: (والشر ليس إليك)، فهل قضاء الله شر، وهل ينسب الشر إلى الله جل وعلا مع أنه خلقه أم لا؟ الجواب هو أن الفرق بين الإرادة الكونية والشرعية أن الكونية فيما يحبه الله وما لا يحبه، وأنه سيقع حتماً لا محالة، والشرعية خاصة فيما يحبه الله، وقد يقع وقد لا يقع، كما في قوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، فالسيئة لا تنسب إلى الله؛ لأنه لا يحبها، وقد تلتقي المحبة مع القضاء الكوني، فإيمان أبي جهل يحبه الله شرعاً، ولا يحبه كوناً.(32/9)
أثر علم العبد بأنه فاعل الطاعات والمعاصي على إيمانه وعبوديته
إذا علم العبد أنه هو الفاعل حقيقة للطاعات أو المعاصي كان لذلك العلم آثاراً في إيمانه وعبادته وهي كالتالي: أولاً: إذا علم ذلك فإنه لا يمكن له أن يحتج بالقدر على المعائب، فإذا عصى الله لن يقول: قدر الله علي، أو كتبه عليّ قبل أن يخلقني بخمسين ألف عام، فالقدر لا يحتج به على المعائب ولا على المعاصي.
ثانياً: إذا علم أنه فاعل ومريد فلا بد أن يحترز من كل معصية وخطأ وزلل، وكلما نزلت عليه فتنة قال: هذه مهلكتي حتى ينقذه الله منها، ويسارع في الخيرات، ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فلعل الله يرضى عنه.(32/10)
إبطال عقيدة أهل الجبر
أما أهل البدعة من الجبرية فقد قالوا بالجبر، وقالوا: العبد فاعل مجازاً لا حقيقة، وكل هذه الآيات والأحاديث لا تدل على أن العبد فعل الفعل، بل مجبور، وإبليس لم يسجد طاعة لله، ولم يجبره الله على ذلك، وجبريل سجد طاعة لله؛ لأن الله أجبره على ذلك، فإبليس وجبريل سواء عند هؤلاء البله السفهاء.
ثم قالوا: العبد ليس بفاعل حقيقة، وعندنا على ذلك أدلة كثيرة: أولاً: قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فقد نفى الله الرمي عن العبد ونسبه له.
ثم استدلوا بحديث (لن يدخل الجنة أحدكم بعمله) على أنه لا اعتبار لفعل العبد؛ لأنه مجبور على فعله.
فعندما يشرب أحدهم الخمر، إذا قيل له: اتقي الله، فقد لعن الرسول في الخمر عشرة فيقول: هذا ما قدره الله عليّ، وقد ذكر أن رجلاً قدرياً دخل على امرأته فوجد عليها رجلاً آخر فقال: هكذا تفعلين؟ فقالت: اسكت! قدر الله عليَّ هذا، فقال: نعم قدر الله عليك هذا! فتركها تفعل ما تشاء، وهذا فعل لا يقبله مجنون.
ولما جاء سارق إلى عمر بن الخطاب قال: مهلاً يا أمير المؤمنين! والله! ما سرقت إلا بقدر الله.
فقال: وأنا أقطع يدك بقدر الله.
وهكذا فهم يحتجون بالقدر، والرد عليهم يكون كالتالي: أولاً: أن الله أثبت أن العبد قادر، وله مشيئة وإرادة واختيار، وذلك في الكتاب والسنة والنظر، وقد سبق ذكر ذلك تحت عنوان الأدلة على إثبات مشيئة العبد.
أما آية: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فقد نفى الله فيها الرمي ((وَمَا رَمَيْتَ))، ثم أثبته مرة ثانية فقال: ((إِذْ رَمَيْتَ))، يعني: أنت رميت ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))، فالله تعالى أثبت له الرمي ولكن هناك شيء بعد الرمي ومتعلق به، وهو الإصابة والتسديد والتوفيق، فمهما ترمي يجوز أن تقع في عينه لكن لا تفقأ عينه إلا أن يقدر الله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ التراب ورماه، وقال: (شاهت الوجوه) وليس يمكن أن تصل إلى الوجوه، فهذه حفنة من التراب رماها في وجوه هؤلاء الكفرة ولا يمكن أن تصل إليهم بهذه الدفعة البسيطة، ولكنها بتوفيق من الله أصابتهم، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.
يصدق ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم (بك أصول، وبك أجول، وبك أقاتل)، أي: أنت الذي تسبب وتوفق.
فدليلهم باطل، ولازم دليلهم أيضاً باطل، ولو قلنا بقولكم وهو نفي الفعل حقيقة فسوف نقول: وما زنيت إذ زنيت.
ولكن حاشا لله، وما تركت إذ تركت.
ولكن حاشا لله، وما ضربت إذ ضربت.
ولكن حاشا لله، وسوف تتهموا الله جل وعلا وترموه بالعظائم حاشا لله، فلا بد أن نقول: إن المنفي هنا هو التسديد والتوفيق.
وأما استدلالهم بحديث (لن يدخل الجنة أحد بعمله)، على أن العمل ليس له أي اعتبار عند الله، فدل هذا على أن هذا الفاعل فاعل مجازاً لا حقيقة؛ لأن العمل ليس عليه ثواب ولا عقاب، فيدخل الله من يشاء الجنة، ومن يشاء النار.
فالجواب عليه بأن المنفي هنا هو أن يكون العمل ثمناً لدخول الجنة، فالعمل إنما هو سبب في وصول الرحمة إلى العبد، والعمل إنما هو من أجل التفاوت في الدرجات في الجنة، فهذا شهيد وهذا عالم، ولكل واحد منهم درجة معينة.
ولذلك قال: ((أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ))، أي: بسبب أنكم فعلتم الخير وصلت إليكم الرحمة، ودخلتم الجنة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(32/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الاحتجاج بالقدر
إن المؤمن حق الإيمان عندما يعرف أن الله خالق لأفعاله يترسخ في عقله وقلبه عظمة الله والخوف منه وعدم الأمن من مكره، ولا يصح للمؤمن بحال من الأحوال أن يحتج بالقدر على أفعاله إلا في حالات ذكرها أهل العلم استنباطاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(33/1)
أثر معرفة المؤمن أن الله خالق أفعال العباد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * -ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع أقوال أهل العلم في القدر والرد على أهل البدع من القدرية والجبرية.
إن معرفة المؤمن بأن الله جل وعلا قد خلق أفعال العباد له أثر في عقيدة المؤمن، فإذا علم أن الله هو الذي خلق فيه الطاعة وهمة الطاعة وإرادة الطاعة، علم أنه فقير لذات الله جل وعلا، فيتذلل ويتمسكن لله حتى يوفقه إلى الطاعة هذا أولاً.
ثانياً: إذا علم العبد أن الله هو الذي وفقه للطاعة فلا يمنن بطاعته على ربه؛ لأن المنة كلها لله، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] فلا يمن العبد على الله جل وعلا بطاعته.
ثالثاً: لا يأمن العبد على نفسه من مكر الله.
كما قال أبو بكر -وهذه فطنة وفقه عالٍ- منه رضي الله عنه: (والله! لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.
لو أن العبد طائع لله جل وعلا منفق مستغفر مجاهد، والله جل وعلا يرى من قلبه عدم الإخلاص، ختم له بعمل غير عمل أهل الخير، كما حدث مع الرجل الذي جاهد وقاتل حتى حسبه الصحابة أنه من أهل الجنة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل النار)، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فوجه الشاهد على القدر في الحديث (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وفيه رد على الجبرية الذين قالوا: ليس للعبد اختيار.
والقدرية تخالف الجبرية، فيقولون: إن العبد هو خالق فعل نفسه.(33/2)
إبطال الجبرية للشرع بالاحتجاج بالقدر
والجبرية هم الذين أبطلوا الشرع بالاحتجاج بالقدر، فأبطلوا الأمر والنهي والحكمة والتعليم بالقدر، فلا يوجد عندهم شيء اسمه أمر، ولا يوجد شيء اسمه نهي، فاحتجوا بقدرالله وقالو: إن الله جل وعلا سير العبد بأفعاله، وقد وصف الله لنا حالهم، فقال عز من قائل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35].
فرد الله عليهم برد قاطع في قوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل:35]، أي الكفار أمثالهم {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35].
وهنا محل الرد {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: أرسلنا الرسل بإقامة الحجة عليهم، ولقطع حجتهم ودحر شبهتهم؛ لأن الرسل جاءوا ليبينوا للمرء طريق الخير وطريق الشر، بل ويبين كل رسول لأمته بأن كل فرد منها مكلف وله اختيار وله إرادة، ألم تر أن الله جل وعلا قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]؟ آلات للتحرك والاختيار وللإرادة، ليفعلوا الفعل بإرادتهم واختيارهم، فالعبد لا يلومن إلا نفسه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
وقال الله عز وجل عنهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28].
وفي قولهم هذا فحش وتجبر وتجاسر وتجرؤ على الله لأنهم زعموا أن الله أمرهم بهذا الفعل، وأجبرهم عليه، فقالوا: نحن نسير على وفق ما أمرنا به.
فرد الله عليهم: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:29]، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].
أي: الله جل وعلا لم يأمركم بأن تفعلوا الفاحشة، بل أمركم أن تفعلوا الخير وتتركوا الفاحشة.
ثم قالوا: لم يشأ الله أن يهدينا، فقال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
أي: الله جل وعلا له الحجة البالغة، لأنه أخذ عليهم الميثاق وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، وشهدوا بذلك ثم أرسل الرسل ليذكرهم بهذا المقال، وقطع بذلك حجتهم، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، أي: بعد تبليغ هذه الرسالة.
وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149].
أي: له الحجة البالغة عليهم بأن قطع حجتهم، وجعلهم مكلفين، وجعلهم مختارين، وجعل لهم إرادة، وجعل لهم السمع والبصر والأفئدة التي تثبت الإرادة.
واحتجوا أيضاً بحديث احتجاج آدم وموسى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (التقى موسى عليه السلام بآدم في دار الآخرة، فقال: موسى لآدم أنت آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، أخرجتنا ونفسك من الجنة -وفي رواية أخرى: خيبتنا، يعني: بإخراجك إيانا من الجنة- فقال آدم: أنت موسى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً الترجيح بين الاحتجاجين-: فحاج آدم موسى -وفي رواية أخرى- قال: ألم تقرأ في التوراة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: نعم، قال: وخط الله التوراة قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فأقر موسى بذلك) هذا الحديث التي تعلق به الجبرية، وقالوا: هذا أبو البشر أرفع الناس منزلة في وقته وهو أول نبي من الأنبياء يحتج على المعصية بالقدر، يقول لموسى الله جل وعلا قدر علي أنني سأعصي قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة، فاحتج على ذلك بقدر الله جل وعلا.
وكانت إجابة آدم احتجاجاً بالقدر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حاج آدم موسى) يعني: الحجة كانت مع آدم على موسى لما احتج بالقدر، وهذا ضلال مبين، وفهم سقيم من الجبرية، حيث فهموا أن آدم احتج بالقدر بأن الله قدر عليه ذلك ولا بد أن يقع فيه، فنقول: حاشا لله أن يكون هذا النبي الكريم -الذي خلقه الله بيده وأكرمه بسجود الملائكة له- يحتج بالقدر، وقد امتلأ القرآن بالآيات الدالة على أن الله جل وعلا تاب على آدم بعد أن تاب من الذنب، وهو لم يحتج بالقدر على الله، بل أقر بالذنب واستغفر، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
فأقر هو وحواء بالذنب أمام الله جل وعلا، وقالا: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا))، فلم يحتجا بالقدر على هذه المعصية.(33/3)
ردود أهل السنة على الجبرية في فهمهم لحديث احتجاج آدم وموسى
اختلفت أقوال أهل العلم في معنى هذا الحديث على أربعة أقوال أو أكثر: القول الأول: قالوا: (فحاج آدم موسى) الحجة هنا حجة الأبوة؛ لأن آدم هو أب لموسى، والأب مع بنيه تكون الحجة دائماً مع الأب لأنه الأكبر.
ورد أهل السنة على هذا القول بأنه باطل مردود، فمنزلة الأبوة والبنوة لا تقلب الحق باطلاً ولا الصواب خطأ أو الخطأ صواباً، بل إن إبراهيم كان في منزلة البنوة وأبوه في منزلة الأبوة وكانت الحجة لإبراهيم في قوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43].
فكانت الحجة مع إبراهيم عليه السلام على أبيه، فمنزلة الأبوة والبنوة لا تقلب الحق باطلاً ولا الخطأ صواباً.
والرد الثاني على أقوالهم الباطلة والتي قالوا فيها: إن آدم احتج في هذا الحديث بالقدر على موسى؛ لأن موسى لامه على الذنب الذي وقع فيه، وآدم قد تاب من هذا الذنب، وإذا عير أحد بذنب قد تاب منه تكون الحجة معه؛ لأن (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت الآيات أن الذي يتوب يتوب الله عليه، فنقول هذا الرأي وإن كان أوجه من الأول لكنه باطل مردود من وجهين: الوجه الأول: لو كانت هذه هي حجة آدم لصرح بها لموسى، يعني لقال لموسى: كيف تلومني على ذنب قد تاب الله علي منه؟ ولم يقل آدم ذلك، فإن لم يقل آدم هذا بان لنا أن هذه ليست بجحة آدم.
الوجه الثاني في الرد على هذا التأويل: أن موسى عليه السلام لا يظن به أنه يعير أحداً بالذنب ويخفى عليه أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، فهذا قدح في مقدار موسى عليه السلام أن يعير أحداً بذنب قد تاب منه.
أما الإجابة الثالثة لأهل السنة والجماعة قالوا: حجة آدم أن موسى عيره في الدار الآخرة، وهي دار غير دار التكليف، لا يلام فيه المرء.(33/4)
الحالات التي يصح للمرء أن يحتج فيها بالقدر
يصح للمرء أن يحتج بالقدر في أربع حالات: الأولى: عند المصائب، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11].
يعني: يؤمن أنها بقدر الله، فيقول قدر الله علي ذلك، ويهتدي إلى هذا.
ومن يؤمن بالله ويؤمن أن هذه المصيبة وقعت عليه وأنها بلاء من الله جل وعلا قال تعالى عنه: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].
أي: يجعل قلبه مستسلماً لله جل وعلا ويعمره بالإيمان، إذاً احتجاج بالقدر على المصائب.
الثانية: يحتج بالقدر على الذنب إن تائب منه، فإن تاب يحتج بالقدر؛ لأن المرء دائر بين عينين: عين القدر وعين الشرع، فإن تاب من الذنب فهذا مأمور به شرعاً، ثم ينظر بعين القدر فيقول: الله جل وعلا قدر علي هذه المعصية ثم تاب علي بفضل منه ونعمة، فالله إن لم يوفقني لترك تلك المعصية فقد ختم لي بهذا العمل، فيشتد عبادة لله جل وعلا، وينظر أيضاً لحكمة الله أنه أنزل به هذا البلاء من فعله للذنب لينكسر أمام الله جل وعلا؛ لأنه إذا لم يفعل هذا الذنب قد يعجب بنفسه، وإذا عجب المرء بنفسه ووصل العجب إلى قلبه لم يدخل الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
الحالة الثالثة: أن تقع الخطيئة منه بغير إرادته، والدليل على أن المرء قد يقع في الخطأ دون إرادته: قتل موسى عليه السلام للقبطي، وقد قال بعد أن قتل {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15].
فهو لم يحتج بالقدر لكن له أنه يحتج به.
ودليل ذلك من السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر في الوادي نام، ونام الصحابة وكلفوا بلالاً أن يوقظهم، فغلبه النوم قدراً من الله جل وعلا لحكمة بليغة؛ وهي أن يبين للناس كيف يقضون الصلاة، فنام بلال ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواحنا بيد الله يقبضها وقت يشاء، ويرسلها ويبعثها وقت يشاء) فاحتج النبي صلى الله عليه وسلم هنا بالقدر على ترك صلاة الجماعة وهو خطيئة، وإن كان بسبب، فله أن يحتج بالقدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط) لكن ليس أي نوم، فلا يأتي شخص طيلة الليل إما سهران يتكلم مع امرأته في سمر لا فائدة منه، أو يقرأ كتاب قصص أو ملاهي، أو يلهو بالتلفون مع أخيه فيما لا مصلحة فيه، فيسمر بعد العشاء حتى يصل إلى منتصف الليل، ثم ينام حتى يصبح والشمس قد أشرقت، فهذا عاصٍ لله جل وعلا، ويخشى عليه.
وهناك قصة وقعت أيضاً بين الصحابة في نفس الأمر، فقد (طرق النبي صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة بالليل -والطروق هو الإتيان بالليل- ثم قال: ألا تصليان من الليل؟! فقام علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله! أرواحنا بيد الله يبعثها وقت ما شاء ويقبضها وقت ما شاء، وما نصلي إلا الفرائض، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما تكلم معه، مع أنه احتج بالقدر أمامه، فضرب على فخذيه وقال: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
وهذا موطن من المواطن الذي يحتج فيه بالقدر.
ومن المواطن أيضاً التي يحتج بها في القدر: إذا أخذ المرء بالأسباب، واستعان بالله، وحرص كل الحرص على ما ينفعه، ثم لم يصب الهدف، مثال ذلك: إذا كان لديه عمل معين، وهذا العمل يحتاج إلى أن يكون له سمات شخصية معينة ومهارة معينة، فاكتسب هذه المهارات والسمات الشخصية مثل العلم والحلم والصبر فتعلم هذه الصفات واكتسبها، ثم لما تقدم لهذا العمل لم يقبل، فهذا رجل له أن يحتج بالقدر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك -يعني: خذ بالأسباب الصحيحة-واستعن بالله، ولا تعجز فإن أصابك شيء -بعد أن أخذت بالأسباب ولم يوجد منك تفريط- فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان)، فللمرء أن يحتج بالقدر في هذه المواطن، فإذا حرص على ما ينفعه واستعان بالله جل وعلا وأخذ بكل الأسباب، ولم تصب معه فليقل: (قدر الله وما شاء فعل) فإذا قال ذلك: دخل الإيمان إلى قلبه، وكسب في الدنيا قبل أن يكسب في الآخرة.(33/5)
القضاء الكوني والقضاء الشرعي
القضاء قضاءان: قضاء كوني وقضاء شرعي، وضابط الفرق بين القضاء الكوني والشرعي، أن القضاء الكوني يكون فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه.
والضابط الثاني: أن القضاء الكوني لا بد أن يقع، قال تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117].
وضابط القضاء الشرعي: أولاً: أنه في ما يحبه الله خاصة.
ثانياً: أنه قد يقع وقد لا يقع، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].(33/6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - القضاء الشرعي والقضاء الكوني
إن الله عز وجل لما خلق الكون خلقه بقدر، فقدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل شيء سيكون كما قدره الله سبحانه، والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، فلا يكون المرء مؤمناً إذا لم يؤمن بهما، وليس معنى إيمان العبد بالقدر أن يترك العمل، ويقول: قدر الله علي ذلك، فالله لم يجبره بهذا القدر، إنما علم أن هذا العبد من أهل الجنة فيسر له عمل أهل الجنة، وعلم أن ذاك من أهل النار فيسر له عمل أهل النار، وهكذا فكل ميسر لما خلق له.(34/1)
القضاء الكوني والقضاء الشرعي وضابط كل نوع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن الناس يدورون في هذه الدنيا على أمرين: قدري كوني، وأمر شرعي.
والمرء في كل واقعة وفي كل نازلة له عينان ينظر بهما، عين الشرع وعين القدر.
وإن المصائب التي تنزل وتطرأ على الناس وعلى الأخوة المسلمين في كل مكان تحتاج إلى أن ندقق النظر فيها بعين القدر فنعلم أن الله جل وعلا قد قضى وقدر وكتب ذلك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف عام، وننظر إلى ما حدث من بني إسرائيل للأنبياء وللمرسلين، وما حدث ويحدث لهؤلاء الفلسطينيين على عين الله جل وعلا، ونعتقد أن الله هو الذي كتب ذلك وقدره، فنؤمن بالله ونسلم ونقول: قدر الله وما شاء فعل، وهذا هو الإيمان بالقدر الكوني.
وأما العين الثانية: وهي عين الشرع، أي: النظر الشرعي، وهو أن تعلم أنك مأمور شرعاً أن تهتم بأمر المسلمين، وتحزن لحزنهم، وتفرح لفرحهم، وتتألم لآلمهم، فالمؤمن الحق عند الله جل وعلا من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله، ووالى في الله وتبرأ في الله جل وعلا.
والقضاء قضاءان: قضاء كوني، وقضاء شرعي، وللقضاء الكوني ضابطان: الضابط الأول: أن القضاء الكوني لا بد أن يقع حتماً، والثاني: أن القضاء الكوني يكون فيما يحبه الله وما لا يحبه، فالقتل والتشريد والإبعاد والذبح الذي يحدث في فلسطين هذا يبغضه الله، ولا يمكن أن يكون شرعاً، وإنما هو كوناً.
وللقضاء الشرعي: ضابطان: الأول: أنه قد يقع وقد لا يقع، كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] فمنهم من عبد ومنهم من كفر.
والثاني: أنه لا يقع إلا في ما يحبه الله جل وعلا وكذلك الإذن والإرادة.(34/2)
أمثلة تطبيقية على القضاء الكوني والشرعي
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ} [سبأ:14].
هذا قضاء كوني، والضابط الأول فيه هو أنه لا بد أن يقع حتماً، وكذلك الضابط الثاني وهو أنه يقع في ما يحب وما لا يحب.
وهل الله يحب موت سليمان أو لا يحبه؟ في المسألة نظران نظر الرب، ونظر العبد، ويوضح ذلك حديثان، الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقائه، فقالت عائشة: أينا يحب الموت؟ فقال: ليس بذلك يا ابنة الصديق) ثم بين لها أن العبد عندما يصل إلى الأجل يبشر أو ينذر، فالمؤمن عندما يبشر يحب لقاء الله في هذا الوقت فيحب الله لقاءه.
إذاً: فحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)، ليس على الإطلاق، والحديث الثاني هو الذي يوضح لنا المسألة جلية، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن يكره الموت، وأكره إساءته) والجمع بين الحديثين: أن المؤمن يكره الموت، وما من أحد إلا ويكره الموت، ولكن عندما يبشر تتحول هذه الكراهية إلى حب؛ لأنه سيحب لقاء الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى)، وهنا يحب الله لقائه.
وأما كراهية الموت فقبل أن يبشر؛ لصعوبة الموت، فلما يبشر يقول: اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى.
ولذلك عندما قالت عائشة منكرة: أينا يحب الموت؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا يا ابنة الصديق، فبين لها أنه عندما يبشر المرء يحب لقاء الله، وكان من كرامات الشهداء في أفغانستان وفي أماكن أخرى أن الرجل عندما يقذف بالقذيفة ويرونه يقفز فيأولونه على أنه رأى الحور العين، أو رأى الجنة، فقبل أن تنتهي حياته يبشره الله جل وعلا كرامة له.
وأما قبل فلا يحب الموت لصعوبته؛ لأنه ما من أحد إلا ويجد صعوبة للموت، وصعوبته تحت القبر، لأن كل أحد سيضم عليه القبر.
وأما قول الله جل وعلا: (ما ترددت بشيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن)، فهو يكره الموت بسبب الإساءة والصعوبة التي فيه، وقوله: (وأكره أساءته)، وهذه الصعوبة في القدر، ولها أثرها المترتب عليها وهو الجنة، فلا يمكن أن يدخل الجنة حتى يموت، فلابد أن يموت للحاجة التي هي أعظم.
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].
هذا قضاء شرعي؛ لوجود الضابط الأول فيه، وهو أنه فيما يحبه الله؛ لأن الله جل وعلا يحب أن يعبده العبد، وأن يوحده في الأرض.
والضابط الثاني: وهو أنه قد يقع وقد لا يقع، وأكثر الناس ضلوا وكفروا.
وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112].
يقول ابن رشد رحمة الله عليه: ليس طالب العلم من يحفظ المسائل، وإنما طالب العلم من يضبط المسائل.
فقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] كوني؛ لأن الله إذا حكم فلا يحكم إلا بالحق، وإذا حكم وقع الحكم لا محالة، ولا أحد يمكن أن يرد على الله حكمه.
وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10]، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] يعني: فاقبلوه واعملوا به، أو لا تعملوا فحكم الله في الذبيحة أن تسموا الله عليها، وألا تأكلوا منها إلا إذا ذكر اسم الله عليها، وحكم الله أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً فلا ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره.
ولما طلق الملك امرأته ثلاثاً في عهد يحيى عليه السلام، وأراد أن يتزوجها استفتى يحيى، فقال له يحيى: لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك.
فما زالت هذه المرأة اللعينة بالرجل حتى قالت: اقتله، وأرحنا منه، فقال: إنه نبي! فقالت: اقتله.
فما زالت خلفه حتى قتل يحيى، فأخذ رأسه على طبق وأهداه لهذه البغي.
ولم يقف بنو إسرائيل عند ذلك، بل ذهبوا إلى زكريا وقتلوه، فقد اختبئ منهم في شجرة انشقت له، وقالت: اختبئ فيّ، فدخل فيها واختبئ ولم يسكت بنو إسرائيل عن ذلك، بل ذهبوا خلفه وكان معهم الشيطان، وهو رئيسهم، فقال: هو هنا مختبئ في هذه الشجرة، وقد كان طرف ثوبه ظاهراً في شق الشجرة، فأخذوا المنشار وشقوا الشجرة، فشقوا زكريا عليه السلام نصفين.
فإذا كانوا قد فعلوا ذلك مع أنبياء الله، بل ارتقوا واتهموا لوطاً بالزنا، وارتقوا أكثر واتهموا الله جل وعلا بالفقر وبالبخل، وأنه يبكي، وأنه ما كان يعلم ما يحدث في الأرض، فلا يستغرب الإنسان من هؤلاء أن يفعلوا ذلك مع آحاد الناس، والغرض المقصود أن هذا هو حكم الله، فمن شاء عمل به، ومن شاء تركه.
وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، بقضاء شرعي؛ فهناك أناس في السجن، وهناك أناس لا يجدون ما يأكلون، فهؤلاء في عسر مع أن الله يحب لهم اليسر.
وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27]، وهذا قضاء شرعي؛ لإنه يمكن أن يتوب أناس، ولا يتوب آخرون.
وقال الله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، وهذا قضاء كوني، وقال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وهذا كوني كذلك.
يعني أنه لابد أن يقع، ولا بد أن يكون النصر للمؤمنين، وإنشاء الله النصر للمؤمنين، ولو علت أصوات الكفار والمنافقين، فالله جل وعلا وعد المؤمنين بأن العاقبة لهم.
فهي لهم هنا قضاء كونياً، وهو قول الله جل وعلا: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، فالغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين ساروا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، بقضاء كوني.
فالأرض سيرثها المؤمنون إنشاء الله، ويكثرون من السبايا من الأمريكان وغيرهم بإذن الله.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، بقضاء شرعي.
وقال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، بقضاء كوني.
وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، وهذا قضاء كوني.
وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، بقضاء كوني.
وقال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]، وهذا قضاء كوني شرعي.
فعندما يكون شرعياً يكون المعنى: أمرنا مترفيها بفعل الخيرات والطاعات، فمنهم من يفسق فيستحق العقاب، فهذا شرعي.
ولو قلنا: إنه كوني، فعلى قراءة أخرى ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) بتشديد الميم في (أمرنا).
وقال الله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] والإذن هنا قضاء كوني.
وقال الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، وهذا قضاء شرعي.
فالله يريد أن تحرق وتكسر وتقطع إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، أو كان المشركون يستعينون بها على قتل المسلمين، فللمسلمين أن يفعلوا ذلك، ولهم أن يتركوه إذا لم يكن فيه مصلحة لهم، فلا يجوز أن يقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً، ولا يقطعوا شجرة، فالأمر برضاء الله جل وعلا في القطع وفي غير القطع.
وقال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، وهذا قضاء شرعي.
أي: هل الله أذن لكم بذلك في كتابه؟ وقال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وهذا شرعي.
وقال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:8 - 9] فالجعل الأول والجعل الثاني كوني؛ لأن المقصود بأن المتكلم يمر بهم وهم لا يرونه.
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس:100]، وهذا قضاء كوني؛ لأنه لا يحب أن يجعل الرجس على أحد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولكن قدر ذلك كوناً.
وقال الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97]، وهذا شرعي فمن الناس من يقوم ومنهم من لا يقوم، وقال الله سبحانه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33]، وهذا قضاء كوني؛ لأنه وقع فيما لا يحب الله جل وعلا، وقد يقع فيما يحبه الله كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137].
وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ويقول ال(34/3)
كل ميسر لما خلق له
إن المرء إذا اعتقد بربه أنه قدر وكتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، فإنه يكون له في ذلك عينان، عين ينظر بها للقدر، وعين ينظر بها للشرع، وهما متلازمتان، فإن عين القدر إيمان بربوبية الله جل وعلا، وعين الشرع إيمان بإلهية الله جل وعلا، فالمرء دائر بين القدر الكوني وبين الأمر الشرعي.
السؤال هنا: هل إذا علمت أن الله قد كتبك أو قدر عليك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، هل هذا يجعل المرء يتقاعس عن عبادة الله جل وعلا، أم يجعل المرء يشتد ويجتهد في عبادته سبحانه؟ والجواب أنه قد دار ذلك في رأس أحد الصحابة، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: هل أمر انتهى وكتب أم أمر مستقبل؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمر قد انتهى فقال: ففيم العمل)، فأوجز النبي صلى الله عليه وسلم له بكلمات من أجمع الكلمات وأوسعها في باب القدر، و (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) قد انتهى الأمر، وكتب الله أهل الجنة وكتب أهل النار، وفي الحديث أنه: (مسح على ظهر آدم، فأخذ بكفيه أو أخذ ذريته فقلبهما في كفيه، وقال هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي).
ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام، وخرج على الناس بكتابين، وقال: (فرغ ربكم من العباد، هذا كتاب بأهل الجنة بأسمائهم وأسماء أبائهم وذرياتهم، ثم أجمل لا يزاد فيه ولا ينقص، وهذا كتاب بأهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وذرياتهم، وأجمل عليه، لا يزاد فيه ولا ينقص، فرغ ربكم من العباد.
فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
وهذه فيها بشارة ونذارة وإجمال، وفيها النظر بعين القدر وعين الشرع بكلمات وجيزة، منه صلى الله عليه وسلم حيث بين أنه لا يتعارض قدر كوني مع أمر شرعي فالإيمان بالقدر إيمان بربوبية الله؛ لأن القدر هو قدرة الله جل وعلا، وهو صفة من صفات الربوبية، والإيمان بالأمر والنهي والمسارعة في الأمر إيمان بتوحيد الإلهية، ولا يستقيم توحيد المؤمن لله جل وعلا إلا بتوحيد الربوبية والإيمان بالقدر، وتوحيد الإلهية.
وفي هذا الحديث بشر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الخير الذين يسارعون في الخيرات بالخير، كالذين وسع الله جل وعلا عليهم في المال فهم ليل نهار يسلطونه على هلكته في الحق فهؤلاء يستبشرون خيراً؛ لأن الله تعالى بالظن الغالب قد يسرهم لما خلقهم له، فخلقهم ليكونوا عباداً متصدقين منفقين لله جل وعلا، ويسر للبعض الجلوس في مجالس العلم، فيتعلمون ويعملون حتى يرتقوا عنده سبحانه (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
فاعلم أن الله جل وعلا اصطفاك له، وكتبك قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة ممن يسارع في الخيرات، فاستبشر خيراً، وإذا وجدت نفسك قد فتح لك باب من أبواب الجهاد أو من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكنت في كل ساعات حياتك تعيش في ذكر الله أو استغفار أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر فإنك ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له)، أي أنك خلقت لهذا العمل، وخلقت للدين، كما قيل في شيخ الإسلام ابن تيمية: خلق الله هذا الرجل لدينه، فلا يعرف شيئاً إلا الدين، ولا يعرف شيئاً إلا لله جل وعلا، وكما قال الله لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، أي: اصطفاه الله جل وعلا، واصطنعه لنفسه ولدينه فقط.
وفي هذا الحديث أيضًا إنذار لأهل الفساد والغي والضلال، فالعبد الذي تغلق عليه أبواب الخير ولا تفتح له إلا أبواب الغي والضلال والزنا والفاحشة والكذب والغيبة والنميمة والبخل فهذا إنذار من النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (كل ميسر لما خلق له)، فلعله ما خلق إلا للنار والعياذ بالله.(34/4)
والناس في ذلك أصناف
والناس في ذلك على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: مؤمنون خلص: وهؤلاء هم الذين لهم البشارة، وهم الذين يستبشرون بأعمالهم الخيرة، وبأن الله جل وعلا اصطفاهم له، وهم الذين من نعومة أظفارهم قد نشئوا في عبادة الله جل وعلا، وهؤلاء هم الذين يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يضلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -ومنهم-: شاب نشأ في عبادة الله) فهو عبد أول ما فتحت عيناه فتحت على نور الإسلام، فعمل به، فهو ليل نهار يتعبد الله جل وعلا، فهذا هو الذي ينطبق عليه قول الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
وهو الذي انغمس في طلب العلم، أو في الجهاد في سبيل الله، أو في النفقة والصدقة، وهذا الذي يقال فيه: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) هذا الصنف الأول من الذين يسروا لما خلقوا له أي: للجنة.
الصنف الثاني مقابل الصنف الأول: وهم الذين خلقهم الله للنار، والذين فتح الله لهم أبواب الغي والضلال على مصراعيه، وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فالعبد الذي كلما أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو دعي إلى الإسلام استهزأ ولم يقبل فهو ميسر لما خلق له من النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7]، أي: طبع الله على قلوبهم، وأغلق عليهم أبواب الخير، وفتح لهم أبواب الشرور.
والصنف الثالث: صنف مخلط بين الصنفين المتقابلين، وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهذا لا يقال فيه خلق لما يسر له بالتصريح، وإنما يقال: إن علم الله في قلبه الخير ختم له بالخير، وأن علم الله في قلبه الشر ختم له بالشر.
وهذا ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها -فالأعمال بخواتيهما- وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع)، ويكون قد سبق في علم الله جل وعلا وعلم من قلبه الطهارة والصدق وإرادة الله جل وعلا، ولكن غلبته شهوته، فما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، أي: يختم له بعمل أهل الجنة.(34/5)
الإيمان بالقدر باعث على العبادة
إن الإيمان بالقدر لا يستدعي من الإنسان أن يترك العبادة أبداً، بل لا بد أن يجتهد في العبادة.
ولذلك كان من فقهاء الصحابة من يقول: والله ما اجتهدت اجتهادي إلا بعدما عرفت القدر، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر يمشيان فقال لـ علي: (هذان سيدا كهول أهل الجنة.
فقال علي متهللاً: أفلا أبشرهما يا رسول الله؟ قال: لا) إنهما إذا بشرا بأنهما سيدا كهول أهل الجنة فلن يملا من عبادة الله جل وعلا، بل سيجتهدان حتى تتقطع أوصالهما من أجل شكر الله جل وعلا، فيجتهدان بعدما يعرفان القدر في طاعة الله جل وعلا.(34/6)
أنواع الأقدار النازلة بالإنسان
الأقدار التي تنزل على الإنسان على قسمين: أقدار لا اختيار له فيها ولا إرادة، وهذه الأقدار مثل البلايا التي تنزل على الناس كالتقتيل والتشريد، وهجوم الكفرة على المسلمين، وعلو غيرهم عليهم، فكل هذه من الأقدار التي لا اختيار للعبد فيها، ولا يستطيع العبد أن يفعل معها شيئاً، بل إنها تنزل عليه فلا يستطيع ردها، فهذه يتعامل معها بالتسليم قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:156 - 157] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11] فيستسلم ويقول: هذه من عند الله، كتبت قبل أن أخلق بخمسين ألف سنة {يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] أي: يهد قلبه للإيمان، ويعمق الإيمان في قلبه، فيرضى بقدر الله جل وعلا، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط) هذه النوع الأول.
النوع الثاني من القدر: قدر شرعي ليس كونياً وهو البلايا والأقدار التي يستطيع المرء أن يدافعها، فإن لم يدافعها فهو آثم، مثاله: أن يدافع أسباب الموت بأسباب الحياة، فإذا جاءك رجل ليقتلك فإنك تدفع قدر الموت وأسبابه بقدر الحياة.
والجوع المميت تدفعه بالأكل من الميتة نفسها، وإن كانت محرمة، لإنك تدفع قدر الموت بالحياة.
والعطش تدفعه بالشراب، وهذا جاء من فعل النبي وقوله، وهو القدوة لنا.
فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، وقوله لمن سأله: من أي القوم أنتم؟ بعدما أخبروه بما يريد فقال: (نحن من ماء).
وقد خرج أبو بكر وعمر يدفعان قدر الجوع بمن يطعمهما، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دافع وأخذ بالأسباب عندما سار في الصحراء حتى وصل المدينة؛ لأنه أخذ رجلاً عالماً بالطريق، حتى لا يضيع نفسه، ومن مدافعته قوله صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام، فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء)، أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ولما سحر النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب، وقد كانت هذه الأسباب شرعية.
ومن ذلك أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمع أحدكم بالطاعون في أرض فلا يدخل ولا يخرح منها)، وعمر بن الخطاب كان يفعل ذلك، فإنه لما سمع بالطاعون في أرض الشام ما أراد أن يدخلها فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه: يا أمير المؤمنين! أتفر من قدر الله؟ قال: أفر من قدر الله إلى قدر الله.
وكذلك لما سرق الرجل، وقال: مهلاً يا أمير المؤمنين ما سرقت إلا بقدر الله.
قال: مهلاً وأنا أقطع يدك بقدر الله جل وعلا.
فهذه الأقدار لا بد أن يدفعها المرء بالوسائل الشرعية.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يؤمن بالقدر، ويعمل به حق العمل، ويعتقده في قلبه.(34/7)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تنزيه الله عن نسبة الشر إليه - أهل الفترة وحكمهم
العقول تعجز عن الإحاطة بكمال الله وجلاله، كما تقف حائرة عن معرفة كل الحكم الإلهية وراء خلق المصائب والشرور، فما يتراءى للعقل من شر في بعض خلق الله، فإنه يكمن خلفه خير أراده الله تعالى، فلا ينسب إلى الله خلق الشر المحض؛ لأن كل أسمائه وصفاته وأفعاله حسنى، ومن ذلك حكمه تعالى في أهل الفترة، فقد أرسل الله الرسل وأقام الحجة على الناس، وكل من لم تبلغه دعوة الله بأي وجه فإنه يمتحن يوم القيامة على الراجح عند أهل العلم.(35/1)
مقدمة بين يدي الدرس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: ما زلنا مع أبواب القدر، وهنا نتكلم عن مبحثين هامين وهما: تنزيه الإله جل وعلا عن أن ينسب له الشر، مع أنه خلق كل شيء في الكون.
والمبحث الثاني: أهل الفترة هل هم من أهل النيران، أم من أهل الجنان، أم أنهم يمتحنون يوم القيامة؟(35/2)
تنزيه الله تعالى عن نسبة الشر إليه
المسألة الأولى: تنزيه الله جل وعلا عن نسبة الشر، وهذه المسألة من أهم المسائل التي تضبط للمرء مسائل القدر, وحتى ندخل في غمار هذه المسألة الوعرة لابد من تأصيل ثلاث قضايا، وهذه القضايا توضح للمرء مسألة القدر.
التأصيل الأول: أن الله جل وعلا له الكمال المطلق, وله الجلال المطلق, كما له الأسماء الحسنى والصفات العلى, فأسماؤه كلها حسنى وكاملة، وصفاته كلها عليا وكاملة، وأفعاله كلها حسنى وكاملة.
إذًا: فكل اسم أو صفة أو فعل لله تعالى، ففيه الكمال المطلق، ولا يمكن أن ينسب إلى الله جل وعلا النقص، أو ننفي عنه الكمال المطلق.
التأصيل الثاني: أنه إذا كان الله جل وعلا له الكمال المطلق، فما من فعل يفعله إلا وله حكمة نابعة من اسم الله جل وعلا الحكيم، فهذا الاسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة كمال وهي صفة الحكمة، فهو سبحانه لم يفعل فعلاً، ولم يخلق خلقاً إلا وله في ذلك حكمة عظيمة.(35/3)
أنواع الشر
التأصيل الثالث: أن الشر الذي نراه، ويستقبحه العقل، ويستنكره الشرع، ويأباه القلب، عندما خلقه الله جل وعلا، فليس شراً محضاً عارِ عن الحكمة، إنما هو شر نسبي إضافي؛ لأن الشر نوعان: شر محض لا خير فيه من أي وجه من الوجوه.
وشر نسبي إضافي جزئي, فهو شر ومن وجه، ولكنه خير من وجه آخر.
بل قد يكون شراً من وجه واحد، ولكنه خير من وجوه، ومثال ذلك: خلق الله جل وعلا المصائب والبلايا، فإنها في حد ذاتها شر بالنسبة إلى من نزلت عليه وحلت به، لكنها خير من وجوه أخر، منها: أن هذه المصيبة التي نزلت على المرء مكفرة لذنوبه وسيئاته، ومنها: أن الله جل وعلا أصاب المرء بهذه المصبية؛ ليعتبر غيره ويحمد الله على العافية، فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، ثم يدعو له فيؤجر على ذلك، والملك يقول: آمين ولك مثل ذلك، ومنها: أن المصيبة تنزل على المرء؛ ليرتفع درجة عند الله جل وعلا، وتكون تلك المصيبة إشارة على أن الله يحب هذا العبد؛ لأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط.(35/4)
الكمال والجلال المطلقان لله تعالى في تقدير الابتلاء
إن الله جل وعلا له الكمال والجلال المطلق, لم يخلق شراً محضاً، ولكنه شر نسبي إضافي، وما خلق الله جل وعلا شيئاً إلا وله حكمة، كما قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، فالله جل وعلا لما فعل ما فعل كان ذلك الفعل نابعاً عن علم وعن حكمة بالغة كما سنبين.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا} [الذاريات:56] لعلة بليغة وهي: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
فالشرور التي خلقها الله جل وعلا إذا نسبناها لله تعالى فهل ننسبها له إطلاقاً أم نقيدها؟
و
الجواب
أن الشر إما أن يكون شراً محضاً أو شراً نسبياً إضافياً، فينظر في ذلك.
ومن الأمثلة على ذلك: فلسطين وما يحدث فيها من قتل وتشريد وهجوم ضار من هؤلاء الخنازير الذين يقتلون الطفل والشيخ والمرأة، ويهدمون كل شيء أمامهم، فإن الله هو الذي خلقهم وخلق فعلهم، وهو الذي قضى كوناً أن يحدث هذا لأهل فلسطين, فهل هذا شر محض أو شر إضافي؟ تفصيل
الجواب
أن يقال: إن قلنا بأنه شر محض، فقد نسبنا النقص لله جل وعلا، ونحن قد اعتقدنا في قلوبنا أن الله له الكمال المطلق، إذًا: فالشر الذي يقع على هؤلاء الفلسطينيين شر نسبي وفيه وجوه من الخير، وإذا دققنا النظر واعتقدنا اعتقاداً كاملاً أن الله له الكمال المطلق، فيجب أن نعلم أن الله جل وعلا ابتلى هذه الأمة بما يحدث فيها من شر؛ وذلك لتحقيق خير عظيم بعد هذا الشر، أو لخير تابع لهذا الشر, ونحن نذكر هنا الحكم التي ظهرت لنا فقط، وهناك حكم أبلغ من هذه قد أخفاها الله جل وعلا عنا، فمن هذه الحكم: أن الله تعالى يتخذ من هؤلاء من يرفعهم عنده شهداء، قال تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140]، فالله جل وعلا ابتلى هؤلاء بالقتل، ليتخذ منهم شهداء، وليصطفي منهم من يكون ولياً عنده جل وعلا.
ومنها: أن الله جل وعلا ابتلى هذه الأمة بما يحدث فيها؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليفصل بين الصفين، فإن الله حكم عدل يفرق بين المفترقين، ويساوي بين المتماثلين، قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153 - 154].
فهو بهذا يظهر المنافق الذي باع نفسه وقومه وشعبه؛ ليرضي أهل الكفر دون أهل الإسلام، ويظهر الله المؤمن الصادق الذي باع نفسه بدنه ومهجته لله جل وعلا، وكل ذلك منه حكمة عظيمة باهرة.
فكثيراً من العملاء ظهروا في هذه البلية، وظهر أنهم باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، وباعوا أنفسهم ودينهم بثمن بخس دراهم معدودة، وباعوا أنفسهم لا لله جل وعلا بل لأهل الكفر، وقد فضحهم الله بهذا البلايا.
ومن الحكم العظيمة مما يحدث في فلسطين: أن الله جل وعلا ابتلى هذه الأمة بهؤلاء الأنجاس؛ ليتحد الصف الإسلامي، فإن وحدة الصف لا تأتي إلا بعد التفرق، وبعد أن يأتي الهجوم الضاري من الأعداء.
وانظروا إلى الشعوب الإسلامية وإن اختلفت أجناسهم وألسنتهم، فقلوبهم كلها قد توحدت على شيء واحد، وهو بغض بني إسرائيل، ونصرة هؤلاء المستضعفين من المسلمين, فإن الله جل وعلا هو الذي يؤلف بين القلوب، وله ما يشاء فيما يفعل.
وأيضاً من الحكم البليغة في هذا البلاء، أن الله جل وعلا يبتلي الأمم التي عصت، وظهرت رعونتها وخرجت عن إطار شريعة الله جل وعلا، فيبتليها لترجع ولتتذلل ولتستغفر ولتتوب إلى الله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] والله جل وعلا لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفعه إلا بتوبة.
وأيضاً لقد ابتلى الله بهذه الأمة؛ ليبين لهم أن هؤلاء الأعداء لا عهد لهم ولا ميثاق فإنهم قد عاهدوا الله وخانوا عهده جل وعلا، وعاهدوا الرسل وخانوه، فالذين يتمسكون بهم تمسك الحية بفريستها ويقولون: لابد من سلام شامل عادل، أو نحن دعاة سلام، فإن الله جل وعلا يظهر لهم خطأ فهمهم، وخطأ منهجهم، ويبين أن هؤلاء لا يريدون سلاماً ولا أماناً، بل كلما تهيأت لهم الظروف انقضوا على فريستهم، كما نراهم اليوم مع الفلسطينيين, فيبين الله جل وعلا أن هؤلاء الأنجاس مغضوب عليهم، وأنهم ينقضون العهود، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة؛ ليضع الأمر عياناً أمام الناس جميعاً حتى لا يلبس أحد على أحد، وهاهم اليوم يقولون: نحن نريد سلام ولا نريد خراباً، ولا إزهاقاً للأرواح، فبين الله أن الذين يمدون أيديهم إليهم من أجل السلام، أنهم يرفضونها، بل يبترونها ويقطعونها، فهذه من الحكم البليغة من هذا الابتلاء.
إذاً: فالله جل وعلا لم يخلق شراً محضاً، بل خلق شراً نسبياً إضافياً.(35/5)
الحكمة من خلق إبليس
إن من الشرور التي تنسب إلى الله جل وعلا خلق إبليس, وإبليس هو من هو في الغواية والوسوسة وإضلال البشر، فإنه شر كله، ولكن إذا نظرت في الحكمة من خلقه، فإنك ستوقن بأن الله جل وعلا ما خلق إبليس إلا لحكمة عالية بليغة تابعة لهذا الشر، فالله حكم عدل لا يساوي بين المفترقين، ولا يجعل صف الكفار مع صف المسلمين، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:153 - 154].
ويوضح ذلك أن الله جل وعلا جعل إبليس يوسوس لهذا ويغوي هذا، حتى يميز بين المؤمن المخلص الذي باع نفسه لله جل وعلا، والذي لا يستجيب لهذه الغواية، وبين الذي يتبع نفسه شهواتها، ويتبع إبليس فيما يوسوس له.(35/6)
الحكمة من خلق الكفر
إن الله لا يحب الكفر ولا يريده، ولكنه شاءه كوناً لحكمة عالية بليغة، وهي: أن يتحقق علم الله جل وعلا في أن الخلق منهم المؤمن ومنهم الكافر, وهذا الشر الذي خلقه الله جل وعلا لم يكن شراً محضاً، ولكنه شر نسبي إضافي، أي: بالنسبة للشخص الذي نزل عليه هذا البلاء، أو نزل عليه هذا الشر, فهو شر بالنسبة له، أما لغيره فهو خير.(35/7)
الحكمة من تشريع الحدود
إن لله تعالى في تشريع الحدود حكم عظيمة، فالقصاص مثلاً هو: أن يقتل القاتل بالمقتول، وهذا القصاص شر بالنسبة للقاتل الذي سيقتل، وهو شر لأهله.
كذلك إذ أنهم سيحزنون على ميتهم، ولكن هذا القصاص بالنسبة لولي الدم، الذي يريد أن يقتص من قاتل أخيه، أو قاتل ابنه هو خير له، كما هو خير لباقي الناس، فإنك إذا قتلت القاتل ارتعد الناس واتعظوا بغيرهم، فيمتنعون عن القتل، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179]، مع أننا نعلم أن القصاص قتل، فكيف يكون فيه حياة كما في الآية؟
الجواب
لأنه يمنع الاقتتال.
وكذلك حد السرقة، أو حد الرجم للزاني المحصن، أو حد الجلد للزاني البكر، فهذه الحدود هي شر بالنسبة للمقطوع، أو المرجوم، لكنها خير لباقي البشر, فإذا رأى الرجل أن هذا تقطع يده في دراهم معدودة، خاف على يده وامتنع عن السرقة, وإذا رأى غيره يجلد ويفضح أمام البشر على الزنا، فإنه سيمتنع عن أن يهتك أعراض المسلمين, فظهر من هذا أن الله جل وعلا لم يخلق شراً محضاً، ولكنه خلق شراً نسبياً إضافياً.(35/8)
نسبة الشر إلى الله تعالى
إن هذه الشرور هي خلق الله جل وعلا، ولكن هل ننسب هذه الشرور إلى لله جل وعلا؟
الجواب
لابد لنا من التفصيل فيه، فقد قلنا بوجود شر لا شك فيه، ولكن هذا الشر ليس موجوداً في فعل الله، وإنما هو أثر عن فعل الله؛ لأن أفعال الله كلها كمال، فلا ينسب إليه نقص في حال من الأحوال، ولذلك: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد كثيراً ما يقول: سبوح قدوس) يعني: أنزه الله جل وعلا عن كل نقص, فالله جل وعلا هو السلام الذي سلم من كل عيب ونقص، والقدوس: هو الذي تقدس عن كل نقص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تعجب من شيء قال: (سبحان الله).
فأفعال الله كلها منزهة عن النقص، والشر نقص، فلا ينسب إلى فعل الله جل وعلا، إن كان أثراً عن فعل الله، أي: أن الشرور تنسب إلى مفعولات الله، ففعل الله تعالى كله خير وكمال، ومفعول الله جل وعلا قد يكون فيه شر، فإذا قلنا: إن الشر ينسب لمفعولات الله، ولا ينسب لفعل الله جل وعلا، نكون بذلك قد سلكنا طريق الأدب مع الله جل وعلا.(35/9)
الأدب مع الله في عدم نسبة الشر إليه
وطريق الأدب هذه قد استنبطت من فعل الأنبياء، فخليل الرحمن عندما تكلم عن الشر نسبه لنفسه وهذا من الأدب في نسبه الشر للمخلوق لا للخالق، قال تعالى حاكياً قول إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] فنسب المرض لنفسه، مع أن الله جل وعلا هو الخالق للمرض، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك) يعني: لا ينسب إليك الشر.
وهذا الأدب نجده كذلك عند مؤمني الجني إذ قالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:9 - 10]، فنسبوا الرشد لله جل وعلا، والشر بنو الفاعل فيه للمجهول؛ تأدباً مع الله جل وعلا.
وكذلك قصة الخضر يظهر فيها التأدب مع الله كما في قوله تعالى حاكياً عن الخضر جوابه على أسئلة موسى عليه السلام: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80 - 81]، وقال عن الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82].
فنسب إرادة بلوغ الغلامين أشدهما إلى الله تعالى؛ لأنه خير، ولكنه في خرق السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب إرادة العيب لنفسه؛ تأدباً مع الله تعالى.
وقد علمنا الله جل وعلا الأدب معه في مسألة الشرور، وأنه لا ينبغي أن ننسبها له، بل ننسبها للمخلوق نفسه، فإن النقص صفة لازمة للمخلوق، فقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] يعني: من شر هذه المخلوقات، فالشر يكون في المفعولات، لا في فعل الله تعالى: وكذلك قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1 - 4]، فالشر صفة لازمة للشيطان اللعين.
ولقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتأدب أيضاً بهذه الآداب، فقال: (اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشِرْكه وشَرَكِه)، فنسب للشيطان الشر والشرك، مع أن الله جل وعلا هو الخالق لكل شيء.
ومن الأدب مع الله في نسبة الشر أن ندخله في مطلقات وعمومات الخلق، ولا نفرده، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] والشر شيء، فهو داخل في هذا العموم.
فالآداب التي لابد أن يتأدب بها المرء في نسبة الشر إلى الله جل وعلا هي ما يلي: إما أن يبني الفاعل للمجهول: كقوله تعالى: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10]، أو ينسب الشر لنفسه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، أو ينسب الشر لخلقه، كقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وقوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله من شر الشيطان وشِركه وشَركه).
وإما أن يدخله في العموم كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16].
فإذا سأل سائل وقال: هل خلق الله الشر؟ فإنك إذا أنكرت أثبت خالقاً غير الله جل وعلا، وإذا أثبت أسأت الأدب مع الله، فالجواب السديد أن تثبت، ولكن بقيد، وهو أن الله خلق الشر في مفعولاته، وأما فعل الله فكله كمال وخير.(35/10)
أهل الفترة وحكمهم
المسألة الثانية: مسألة أهل الفترة: هل هم من أهل الجنة، أم من أهل النار؟ وهذه المسألة مستفادة من حديث رواه اللالكائي في (شرح أصول أهل السنة)، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (أربعة يحتجون على الله يوم القيامة: المجنون، وفي رواية: الأحمق، والثاني: الرجل الهرم، والثالث: الأصم, الرابع: أهل الفترة).(35/11)
ضابط أهل الفترة
أهل الفترة هم الذين انقطع عنهم الوحي، وهذا ضابط أول لمعرفة أهل الفترة، الضابط الثاني -وهو مهم جداً-: أنهم الذين لم تبلغهم دعوة نبي, فهؤلاء هم أهل الفترة.(35/12)
القول بنجاة أهل الفترة
وقد اختلف العلماء في مصير أهل الفترة يوم القيامة على أقوال نجملها فيما يلي: القول الأول: إنهم معذورون في الدنيا وفي الآخرة، واستدلوا على ذلك بأدلة من الكتاب ومن السنة: أما من الكتاب، فقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقوله جل وعلا: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى} [الملك:8 - 9] ووجه الدلالة: العموم في الآية، وهو أن كل من يدخلون النار يقولون: نعم جاءنا نذير، وما من فوج إلا وجاءهم نذير، وأهل الفترة لم يأتهم نذير، إذاً: فهم ليسوا من أهل النار.
كما استدل القائلون بهذا القول بعدة آيات تشبه هذا المعنى.
واستدلوا كذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده ما سمع بي من هذه الأمة -أي أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار)، ووجه الدلالة: مفهوم المخالفة أي: أنه إذا سمع به وآمن دخل الجنة، وإذا سمع ولم يؤمن دخل النار، وإذا لم يسمع فليس له نفس الحكم، بل حكمه يخالف ذلك، فيدخل الجنة.(35/13)
القول بأن أهل الفترة في النار
القول الثاني وعليه جماعة من أهل العلم، وهو ترجيح النووي: أن أهل الفترة من أهل النار ومخلدون فيها، واستدل أصحاب هذا القول على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة: أما من الكتاب، فقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ووجه الدلالة العموم، أي: أن كل من لم يؤمن فإنه يدخل في هذا العموم، فلا يغفر له، بل يكون مشركاً، وكذلك قول الله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18] فالآية هذه عامة، وما خصت كافراً دون كافر، والآيات الدالة على ذلك كثيرة.
وقد يستدل لهم أيضاً بحديث في صحيح مسلم (أنه جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار، فولى الرجل حزيناً، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن أبي وأباك في النار)، فلما كان أبو النبي وأبو الرجل في النار، وهما ممن لم يأتي لهما نبي، فهما من أهل الفترة، فيكون حكمهما هو حكم أهل الفترة.
وقد حاول السيوطي رد هذا القول بحديث موضوع وهو: (إن الله جل وعلا أحيا أم النبي، وأحيا أبا النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهما إلى الإسلام فأسلما)، فهما في الجنة، بل من الناس من قال: إن أبا طالب من أهل الجنة، ويرد هذا حديث: (إن أبي وأباك في النار) وأيضاً ما ومرد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، ثم استأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فلما لم يأذن الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأمه، دل ذلك على أنها كافرة في النار؛ لأن جل وعلا قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113].
وهذا القول رجحه النووي وجماعة من أهل العلم، وادعى بعضهم الإجماع على ذلك، وأن أهل الفترة معذبون مخلدون في نار جهم.
ولا يوجد الآن أحد من أهل فترة أبداً؛ لأن الإنترنت قد غزى كل مكان، فوصلت أخبار الإسلام والدعوة إلى كل إنسان، وخاصة أنه بعد أحداث سبتمبر لا يوجد أحد لم يسمع بالإسلام، حتى من أدغال أفريقيا الذين لا يعرفون أحداً غير الأسود أو القرود قد وصلهم خبر الإسلام.(35/14)
القول بالتفصيل ورجحانه
القول الثالث: التفصيل في ذلك -وهو الحق الذي لابد أن يظهر- وهو أن أهل الفترة معذورون في الدنيا ممتحنون أو مكلفون في الآخرة، والدليل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد وغيره: (أربع يحتجون على الله جل وعلا يوم القيامة: أصم يقول: رب: أتاني رسولك ولم أسمع شيئاً, وأحمق -يعني مجنون- يقول: رب! أتاني رسولك وكنت لا أعقل شيئاً، والأطفال يحذفونني بالعبر, وهرم يأتي يوم القيامة فيقول: رب! أتاني رسولك وما كنت أعقل شيئاً, والرابع: أهل الفترة -وهم فتر عنهم الوحي- وهؤلاء يحتجون أمام الله جل وعلا فيقولون: لم يأتنا رسول، ولم تأتنا دعوة، فيمتحنهم الله جل وعلا فيأمرهم بدخول النار) ومحل الشاهد: فيمتحنهم الله جل وعلا بدخولهم النار، وهنا يأتي القدر، فالذين قد كتب الله في سابق علمه أنهم يسمعون ويطيعون يأمرهم الله جل وعلا أن ينزلوا إلى النار, فإذا نزلوا إلى النار كانت برداً وسلاماً, والذين علم الله أنهم لا يطيعون بل يعصون الله لا ينزلون النار، فيعاقبهم الله بإدخالهم جهنم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بما كانوا عاملين) , فالله يعلم بهم سابقاً هل سيطيعون أم سيعصون؟ والذين في علم الله السابق أنهم يعصون يقولون: نحن نفر من النار أفندخلها؟ فيلقون فيها؛ لأنهم عصوا أمر الله جل وعلا.
فهذا الحديث قاطع للنزاع في أن هؤلاء يمتحنون يوم القيامة.(35/15)
الاعتراضات على القول بالتفصيل
اعترض أصحاب القول الأول والثاني على هذا القول بثلاثة اعتراضات: الأول: الأحاديث الدالة على أن أهل الفترة يكلفون يوم القيامة ضعيفة.
الثاني: كيف تقولون بالتكليف في دار الجزاء، ودار الجزاء لا عمل فيها ولا تكليف؟ الثالث: أن الله جل وعلا يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وليس في وسع الإنسان أن يدخل نار جهنم، فيكون الله قد كلفهم ما لا يطيقون، وهذا مخالف لأصل التشريع، وهو أن الله جل وعلا لا يكلف عبداً إلا ما يطيق.(35/16)
الرد على هذه الاعتراضات
والرد على هذه الاعتراضات أن يقال: أولاً: قولهم: إن هذه أحاديث ضعيفة، قول ضعيف؛ لأن هذه الأحاديث جاءت من طرق صحيحة لذاتها، وطرق حسنة، وجاءت أيضاً من طرق أخرى تقويها حتى ترتقي إلى الصحيح لغيره، كما جاءت من طرق ضعيفة تتقوى بطرق أخرى، فالقول بأن هذه الأحاديث ضعيفة قول مطروح.
ثانياً: وأما الاعتراض الثاني وهو كيف يكلفون في الآخرة، والآخرة دار جزاء لا دار تكليف؟ فيرد عليه بأننا معكم، فالآخرة دار الجزاء، وهي دار الاستقرار إما في الجنة وإما في النار، ولكن لا يمنع ذلك أن يكون على العرصات تكليف، فقد ورد الشرع بذلك، قال الله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمنين والمنافقين معاً يقفون ينتظرون الله، فيأتي الله جل وعلا ويقول: أنا ربكم، بعد أن يأمر الله جل وعلا كل من عبد شيئاً أن يذهب خلفه، فيكورون كلهم في النار، ثم قال -وهذا والشاهد من الحديث-: ويأتيهم الله جل وعلا بالعلامة التي يعرفونها، فيكشف عن ساقه، فينزل كل مؤمن كان يسجد سجوداً مخلصاً فيه لله جل وعلا فيسجد لله, والمنافق يرجع ظهره طبقة ولا يستطيع السجود) فهذا يكون في عرصات القيامة، وهو تكليف.
ثالثاً: وأما الاعتراض الثالث وهو: أنهم كلفوا ما لا يطيقون، فالجواب عليه أن تكليف الله لهم بالنزول إلى النار تكليف من حكيم عليم، وقد قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فهذا دليل على أن ما في الحديث ليس تكليفاً بما لا يطاق، ولذلك نظائر في الشرع، منها: فتنة الدجال , فالنبي صلى الله عليه وسلم لما وصفه قال: (معه نار وجنة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على المؤمن أن يدخل النار)، فهو هنا يأمره بدخول النار التي مع الدجال، وهذا الأمر والإنسان في الدنيا، فلو قلنا بقولكم لكان هذا أيضاً تكليف بما لا يطاق, إذ قال عليه الصلاة والسلام: (لا تدخلوا جنته، فإن جنته نار)، فيغمض المؤمن عينه ويدخل ناره، فيجدها برداً وسلاماً.
وكذلك: فإن الله جل وعلا يأمر الناس يوم القيامة في العرصات أن يمروا على متن الصراط، والصراط قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أحد من السيف، وأدق من الشعرة)، والمرور عليه مما لا يطاق، وهم يمرون عليه كالبرق وهو على متن جهنم.
إذاً: فلا حجة للقول بأن امتحان أهل الفترة تكليف بما لا يطاق المرء، فإن له نظائر من الشرع في الدنيا، كأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يدخل نار الدجال؛ لأنها ستكون عليه برداً وسلاماً, وفي الآخرة كأمر الله العباد أن يمروا على الصراط، وهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، وهو أيضاً على متن جهنم.
ولهذا فإن الصحيح الراجح أن أهل الفترة غير معذبين في الآخرة، بل هم ممتحنون فيها، معذورون في الدنيا.(35/17)
استشكال وجوابه
وقد يرد إشكال في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (إن أبي وأباك في النار)، وقوله: (واستأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي) وهو أن عبد الله أبا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة -لم يأته نبي- وكذلك أمه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما في النار.
الجواب
أن الضابط في معرفة أهل الفترة أنهم من لم يأتهم رسول، وكذلك: من لم تبلغهم الدعوة، فلو أن رجلاً قال: لن أفعل شيئاً، لأنه لم يأتني رسول، والله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ويقول: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، فيقال له: سنقيم عليك الحجة بأنه قد جاءك رسول، فالله جل وعلا يقول: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] والحجة التي تقام عليك هي رسالات الله جل وعلا, والتي بلغها لك الرسل أو ورثتهم، وهم العلماء، ففي الحديث: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم).
فأبوا النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغتهما دعوة إبراهيم، وإن لم نقل بأن دعوة إبراهيم قد بلغتهما، فدعوة عيسى عليه السلام، بدلالة أن في ذلك الزمان من تنصر، وهو ورقة بن نوفل، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم سألته عائشة كما في الصحيح قالت: (يا رسول الله! علي بن زيد بن جدعان كان يصل الرحم، ويكرم الضيف أله في هذا الفعل من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنه ما قال يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) وقد عرف رسول الله أن ابن جدعان سيعذب؛ لأنه قد بلغته دعوة موسى أو عيسى أو إبراهيم عليهم السلام.
إذاً: فهؤلاء ليسوا بأهل فترة، وإن تخلف عنهم الرسل فقد وصلتهم دعوة الرسل، فهذا رد على استدلال النووي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي وأباك في النار)، وحديث: (إن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فأبى عليه) على أن أهل الفترة في النار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(35/18)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - ذكر الوحي - الرسالة - النبوة - الفرق بين الرسول والنبي
إن الرسالة أو النبوة شرف لا يدانيه شرف، وما هي إلا اصطفاء واجتباء من الله لمن شاء من خلقه، لا كما تدعيه المبتدعة من أنه يمكن للإنسان أن يصل إليها بزهده وخلواته بربه، وقد ميز الله رسله وأنبياءه بميزات على سائر الخلق، وأيدهم بمعجزات ظاهرة باهرة؛ لتزداد ثقة الناس بهم، وليصدقهم أعداؤهم أو تقام الحجة عليهم، وقد حبا الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزات لم يعطها نبياً قبله، لكونه خاتمهم، وشريعته إلى الخلق كلهم، عربهم وعجمهم، أسودهم وأبيضهم، وكثير منها نراه اليوم بين أظهرنا واضحة للعيان.(36/1)
بيان ما يتضمنه باب بدء الوحي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوتي الكرام! ندخل في باب جديد في كتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) هذا الباب هو: بدء الوحي، وتوطئة لهذا الباب، نبدأ بالكلام على الرسالة والنبوة، والفرق بين الرسول والنبي، وأقوال أهل العلم في ذلك، ثم بعد ذلك نبين أن الله جل وعلا إذا اختار نبياً اختاره عن حكمة وعلم، واختاره بفضيلة كانت فيه وهبه الله إياها، ونبين عطب كلام الفلاسفة الذين قالوا: إن النبوة مكتسبة، ثم نختم بكيفية الوحي، ومجيء الوحي، أو إرهاصات ومقدمات في تهيئة الناس لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم.(36/2)
معنى النبي والرسول
النبي: مشتق من النبأ وهو الخبر، والنبي مُخبَر ومخبِر، مخبَر من قبل الله، أخبره الله بشيء سيخبره، قال الله تعالى حاكياً عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم:3] أي: من أخبرك؟ وهو مخبِر، أي: مخبِر عن الله جل وعلا بما أخبره به، قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] فمعنى: (نبئ) أي: أخبر.
إذاً: فالنبي مخبِر عن الله جل وعلا، ومخبَر من قبل الله جل وعلا.
وقيل: هو مشتق من النبوة، وهو الشيء المرتفع (العلامة)، وهو حق في حق الأنبياء؛ لأنهم أرفع الناس مقاماً، وهم العلامة على الهدى.
أما الرسول: فهو الموجه بأمر ليبلغه، وهو مشتق من قول الله تعالى حاكياً عن ملكة سبأ: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، وأيضاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجه رسله إلى ملوك فارس والروم، ونحوهم، فمنها: قوله: (باسم الله، من محمد رسول الله! السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم وإلا فعليك إثم الأريسيين) يعني: الفلاحين.(36/3)
أقوال أهل العلم في الفرق بين الرسول والنبي
اختلف أهل العلم في مسألة الفرق بين الرسول وبين النبي على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا فرق بين الرسول والنبي، وهذا القول أضعف الأقوال الثلاثة؛ لأن الله جل وعلا قد غاير بين الرسول والنبي، والرسول صلى الله عليه وسلم قد غاير بين النبي والرسول، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]، فوجه الشاهد قوله: ((مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ)) والأصل في العطف المغايرة، فيكون الرسول غير النبي.
أيضاً: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء فجعل لهم عدداً خاصاً بهم، وسئل عن عدد الرسل فجعل لهم عدداً خاصاً بهم، كما في الحديث: (سئل عن عدة الأنبياء، فقال: أربعة وعشرون ومائة ألف، وسئل عن عدة الرسل، فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً)، فهذا فيه دلالة على المغايرة بين الرسول والنبي، وهذا رد قاطع على هذا القول فيكون ضعيفاً.
القول الثاني: قول جمهرة من أهل العلم، وهو أن الرسول أعم من النبي، وبينهما أمر مخصوص، فكل رسول نبي ولا عكس، وقالوا: الرسول: هو من أوحي إليه بشيء وأمر بتبليغه، والنبي: هو من أوحي إليه بشيء ولم يؤمر بالتبليغ.
يعني: الرسول والنبي يتفقان في الوحي، ويختلفان في التبليغ، فالرسول أُمر بالتبليغ، والنبي لم يؤمر بالتبليغ، واستدلوا على قولهم بأن كل آيات القرآن: إذا ذكرت الرسول قرنت معه البلاغ، وأما الأنبياء إذا ذكروا فلم يقرن معهم البلاغ، من ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].
القول الثالث: -وهو من القوة بمكان وقاله قال بعض أهل العلم-: وهو أن هناك فرق بين الرسول والنبي، لكن الرسول هو الذي أوحي إليه بشرع جديد ناسخ للشرع الذي قبله، أو ناسخ لبعض الشرع الذي قبله، وأمر بتبليغ هذا الشرع.
أما النبي فهو الذي يأتي بعد رسول ولم يأتِ بشرع جديد، وإنما جاء بنفس الشرع الذي سبقه به الرسول الذي قبله؛ ليجدده للأمة، وأصحاب هذا القول استدلوا على ذلك بعدة أدلة قوية جداً: منها: أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، يأتي النبي ليحكم بشريعة الرسول الذي سبقه.
وأيضاً استدلوا بقول الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ))، قالوا: والإرسال لازمه البلاغ.
ونستدل لهم بآية أقوى من هذه في الدلالة، وهي قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، ولم يقل: الرسل، والبشارة والنذارة للرسول، وجعلها أيضاً صفة النبي، لكن ليس هذا القول براجح.
والذي يتبين لي أن الراجح هو القول الثاني، أي: أن كل رسول نبي ولا عكس؛ لأن التعريف في القول الثالث يعترض عليه بآدم عليه السلام، ففي صحيح ابن حبان سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أآدم نبي؟ قال: نعم)، فخبرونا من الرسول الذي جاء قبل آدم بشرع وجاء آدم ليجدد هذا الشرع؟! إذاً: فهذا التعريف غير مطرد ولا يسلم من معارض.
وأما الرد على استدلالهم بالآية الأقوى دلالة وهي قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، فنقول في الرد عليهم: ما من نبي ذكر في القرآن مبلغاً إلا وكان رسولاً، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، يعني: كل من قصصنا عليك في القرآن هم رسل مبلغون، ولا ينكر علينا إن قلنا: إنه نبي ورسول؛ لأن كل رسول نبي ولا عكس، فإذا ذكرتم أن الرسول نبي يصح من باب أولى.
إذاً: كل من قصصنا عليك في القرآن فهو رسول حتى ولو ذكرناه بلقب أنه نبي، وبهذا يكون الرسول أعم من النبي، إذاً: فكل رسول نبي ولا عكس، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بالتبليغ، والنبي: هو من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ، ولو بلغ لا ينكر عليه، لكنه لم يؤمر لزاماً بالتبليغ.(36/4)
الأقوال في مسألة النبوة والرسالة
النبوة غير مكتسبة، لكن الفلاسفة زعمت بأن النبوة مكتسبة، أي: يمكن للإنسان أن يتزهد وأن يصوم النهار ويقوم الليل، ثم يخلو بربه الساعات الطوال ويترك الدنيا وما فيها وما عليها، وبذلك يأتيه جبريل فيوحي إليه بوحي على زعم الفلاسفة في كون النبوة مكتسبة.
وهذا كلام باطل، بل هو أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، بل النبوة منة ومحض فضل ورحمة من الله جل وعلا، قال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6] ولما قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]، ردّ الله عليهم: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58].
يعني: النبوة هي محض رحمة ونعمة من الله جل وعلا، قال عز وجل: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86] أي: هي رحمة من الله جل وعلا، لا مكتسبة.
وإذا كانت النبوة محض فضل، فهل يمكن أن يضعها الله في أي أحد؟ حاشا لله، بل هي نابعة عن علم وحكمة، فقد اختار الله إبراهيم ليكون أبا الأنبياء على حكمة وعلم، واختار الله جل وعلا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أيضاً بحكمة وبعلم.(36/5)
ميزات الرسل على سائر الناس
هناك مميزات ميز الله بها الرسول أو النبي على البشر، منها: أن الله جل وعلا وصف الأنبياء والرسل بصفات تفوق صفات البشر، فهم أشرف نسباً، وأعظم الناس خَلقاً وخُلقاً، فقد هيأهم الله جل وعلا لأمر عظيم وهو أمر الرسالة والدعوة.(36/6)
نسب النبي صلى الله عليه وسلم
نحن بصدد الكلام على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبما حباه الله جل وعلا حتى صار سيد ولد آدم، وهو أعظم الخلق على الإطلاق، وأشرف الناس نسباً على الإطلاق، وهو أجملهم وجهاً وأحسنهم خُلقاً على الإطلاق، انظروا إلى نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اصطفى الله من ولد إسماعيل كنانة، ثم اصطفى قريشاً منهم، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)، هذه السلسلة هي أفضل سلسلة على الإطلاق، فالعرب هم أفضل الناس، وأفضل الناس من ولد إسماعيل كنانة، وأفضل ولد هؤلاء قريش، وأفضل قريش هم بنو هاشم، وأفضل إنسان في بني هاشم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اختارنا الله جل وعلا من خير القرون، من لدن آدم إلى القرن الذي كنت فيه)، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في خير القرون.
وأيضاً في الترمذي قال: (أنا خير الناس بيتاً، وأشرف الناس نسباً).(36/7)
صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية
أما خَلقاً فحدث وابتهج، وليبتهج قلبك بأن الله جل وعلا حبا رسوله صلى الله عليه وسلم بالقبول، فقد كان إذا رآه أحد أحبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر، وأجمل من الشمس، قال جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه كما في الترمذي: (نظرت إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى القمر ليلة البدر، فو الله لوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر ليلة البدر).
وفي مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سر -يعني: ابتهج- استنار وجهه كأنه قطعة من القمر).
وكانوا يعرفون فرح النبي صلى الله عليه وسلم باستنارة وجهه، وفي رواية أخرى قال: (كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كالشمس أو كالقمر مستديراً).
وفي البخاري أو في غيره: (كان النبي صلى الله عليه وسلم كثّ اللحية تعلوه الحمرة -يعني: بياض مشروب بحمرة- وكان وجهه مستديراً، وكان له جمة إلى شحمة أذنه) يعني: كان شعره ينزل إلى الأذن صلى الله عليه وسلم.
ووصفه بعض الواصفين، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عريض المنكبين، ضخم الرأس والأطراف والرجل، أوتي قوة أربعين رجلاً صلى الله عليه وسلم، ما رآه أحد إلا وأحبه، ما مس يده أحد إلا ولان قلبه قبل أن تلين يده، كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (والله ما مست يدي ديباجاً ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان التابعون يشتاقون إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وجهه أجمل وأحلى من القمر، بل هو أجمل من يوسف عليه السلام؛ لأننا كما سنبين في المعجزات التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جمعت له كل خصال الخير.
كان الواحد من التابعين يقف أمام ابن مسعود ويقول: (كنتم تجلسون مع رسول الله، والله لو كان رسول الله بيننا ما جعلناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أكتافنا! فقال له ابن مسعود: رويدك يا بني، لعلك لم تكن مؤمناً لو رأيته، فقد رأت قريشُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ورأوا الأعاجيب، انشقاق القمر، ورأوه عياناً ولم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فكان التابعون يتمنون رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو باعوا أنفسهم وأموالهم، ولذلك علماء الجرح والتعديل فضلوا الصحابة على غيرهم، وقالوا: ساعة واحدة فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خير من التابعين كلهم، بل بالأمة بعده، ولما قارنوا بين معاوية بن أبي سفيان وبين عمر بن عبد العزيز الذين سطروا له في التاريخ أنه خامس الخلفاء، قالوا: والله! لساعة من معاوية جلس فيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأمل وجهه الكريم، خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته.
فرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت عبادة، وبركة.(36/8)
أخلاقه صلى الله عليه وسلم
أما عن الخلُق، فهو الأسوة والقدوة، وقد ضيعنا هذه الأسوة! فنستغفره الله على ذلك.
كان النبي صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس وأرفعهم خُلقاً؛ لما وصفه الله جل وعلا ومدحه، مدحه بأعظم الصفات والسمات، فقال عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وفي الحديث: (سئلت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: عن خلقه صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن).
وأيضاً في الصحيحين عن أنس قال: (ما مست يدي ديباجاً ولا حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال: (لا والله ما قال لي لشيء أنا فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لمْ تفعله)، وهذا من أدب وخلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يطرح المعاتبة؛ لأن المعاتبة تجعل في القلوب شيئاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعقب ويقول: (لو قدر له لفعل) وهذا من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يحيل الأمر على قدر الله جل وعلا.
وكان يحث على حسن الأخلاق فيقول: (أقربكم مني منزلة يوم القيامة وأحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقاً، وأبعدكم مني منزلة يوم القيامة وأبغضكم إليَّ أسوؤكم أخلاقاً).
وكان يقول: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس وأحسنهم خُلُقاً، كان رفيقاً شفيقاً رحيماً بعباد الله جل وعلا، كانوا يقولون: (يا رسول الله! ألا تدعو على المشركين؟ فيقول: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً).
وكانت صفته في التوراة: (أنه ليس بصخاب في الأسواق، وليس بفاحش ولا بذيء ولا لعان) حتى إنه أنكر على عائشة عندما دخل بعض اليهود فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (السام عليك!) والسام بمعنى الموت، فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (وعليكم الموت يا أحفاد القردة والخنازير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يا عائشة يكفيك أن تقولي: وعليكم، إن الله تعالى لا يحب الفاحش البذيء)، فهو يعلم عائشة التأدب ويقول: (كان يكفيك أن تقولي: وعليكم، إن الله لا يحب الفاحش البذيء).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم رحيماً بعباد الله، قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
وفي الصحيح: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجبذه جبذة شديدة، حتى أثرت في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني من مال الله، ليس مالك ولا مال أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوه من المال، أو أمر له بعطاء) وجاء يهودي كان قد أقرض النبي صلى الله عليه وسلم قرضاً، فأغلظ على النبي صلى الله عليه وسلم في الطلب، فقام عمر يريد أن يضرب عنق هذا الكافر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم معلماً له: (أو غير ذلك، إن لصاحب الحق مقالاً، كان عليك أن تأمره بحسن الطلب، وتأمرني بحسن الأداء).
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب كل رفيق، ويجازي على الرفق ما لا يجازي على غيره)، وأيضاً في المسند عن الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود من الريح المرسلة، وهذا أيضاً من حسن الخلق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فقد جاءه رجل فتألفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن رأى الرجل ينظر إلى وادي من الغنم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هذا لك! قال: هذا لي! أتستهزئ بي؟ قال: هذا لك! فلما علم صدق النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قومه، فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر).
وفي الصحيحين: (مر الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي موسى الأشعري عند جبل أحد فقال صلى الله عليه وسلم: تمنيت أن يكون لي مثل هذا ذهباً فأنفقه حتى لا يبقى منه إلا ثلاثة دنانير) وكان النبي صلى الله عليه وسلم -مع جوده وكرمه- أزهد الناس في الدنيا، وكان يزهد أصحابه في الدنيا، فكان يقول: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه، وعالماً أو متعلماً)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما لي ولدنيا، ما أنا إلا كراكب قال تحت شجرة -من القيلولة- ثم تركها وراح).
ولما آلى من نسائه كما في الحديث الطويل الذي في البخاري دخل عليه عمر فوجد الحصير، قد أثر في جنبه صلى الله عليه وسلم فحزن لهذا، وقال: (يا رسول الله! أنت رسول الله والحصير قد أثر في جنبك، وكسرى وقيصر على الكفر يتنعمون في الحرير، وينامون على الفراش الوفير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضى يا عمر أن يكون لهم الدنيا ولنا الآخرة).
وكانت عائشة رضي الله عنها تصفه وتقول: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط).
فمن منا يفعل ذلك؟ لو أن الواحد منا جاهد نفسه وعمل بمقتضى الآيات التي تحض على العفو والصفح لما عاداه أحد، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، والثانية قول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، أي: من كان بينك وبينه عداوة شديدة، فتحسن إليه كأن تأتيه بهدية أو تكلمه بلين الكلام فإنه يصبح أحب الناس إليك، وقبل ذلك كله تنال الأجر من الله سبحانه وتعالى.
وكان صلى الله عليه وسلم محبوباً بين كل أصحابه، لدرجة أنه كان إذا تنخم فوقعت النخامة في يد أحدهم يدلك بها وجهه، وكانوا يعظمونه تعظيماً شديداً، ولذلك لما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا الذي يفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه، رجع إلى قريش وقال: (والله لقد دخلت على كسرى وقيصر، ودخلت على ملوك الدنيا فما رأيت أحداً يعظم ملكه مثل ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم) لِم؟ لهذه الأخلاقيات.
وأيضاً كان صلى الله عليه وسلم كامل الالتزام ملتزماً بالشرع، قالت عائشة رضي الله عنها: (وما مست يده الشريفة امرأة قط).(36/9)
إرهاصات ومعجزات النبي قبل ولادته وقبل بعثته
لقد اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون نبياً وهيأه لذلك، فهو أشرف الناس نسباً وأعظمهم خَلقاً وخُلُقاً صلى الله عليه وسلم.
قبل البعثة وقبل ظهور الأمر العظيم الذي سيشرق على هذه الدنيا، هيأ الله الدنيا لمخرج هذا الرجل العظيم، فهو أعظم رجل في العالم، وهو سيد الأولين والآخرين، وهو صاحب أعظم رسالة، وهو خاتم الأنبياء، فقبل ولادته ظهرت إرهاصات ومقدمات؛ حتى تتهيأ البشرية لمقدم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
وفي سنة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم حدثت معجزة من أكبر المعجزات، وكانت توطئة ليعلم الناس أنهم سيستقبلون أمراً عظيماً، ألا وهي أن أبرهة جاء ومعه الفيل ومعه جنوده لهدم الكعبة، وهذه المعجزة قصها الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن، فقال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:1 - 2]، ثم جاءت المعجزة الكبيرة: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3 - 4]، حتى إن عبد المطلب لما ذهب إلى أبرهة يطلب منه أن يرد عليه إبله، قال أبرهة: كنت عظيماً في عيني قبل اليوم، يعني: بما أنك عظيم قريش، وقريش الكعبة، فالأصل أن تتكلم عن الكعبة لا عن الإبل، فرد عليه عبد المطلب بقوله: أنا رب إبلي وللبيت رب يحميه، فتناثر الناس يميناً ويساراً وتركوا الكعبة لأبرهة، فلما دخل أبرهة مكة أنزل الله هذه المعجزة العظيمة: ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ))، ((تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ))، ((فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ))، فكانت إرهاصة وكالمقدمة والتوطئة لمبعث رجل عظيم.
أيضاً من المعجزات: أن أمه حين ولدت به رأت نوراً خرج من فرجها قد أضاء له قصور الشام.
فهذه كانت إرهاصات وتوطئة لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الرابعة من عمره، جاء ملكان فشقا بطن الرسول صلى الله عليه وسلم فاستخرجا قلبه وشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فقالا: هذا حظ الشيطان من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل الاعتزال والبدع يردون هذا الحديث، ويقولون: كيف يشق الملك بطن النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج قلبه، ويخرج حظ الشيطان منه؟! نقول: أنتم في العصور المادية الآن، فلو قام طبيب من الأطباء وعمل في البطن عمليات، فهل تصدقون ذلك؟ ستصدقون، وهذا ملك نزل من السماء إلى الأرض، وعلمه الحكيم العليم سبحانه وتعالى، فشق بطن النبي صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا تصدقون؟! ويقال: إنه حدث هذا الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: المرة الأولى: وهو ابن أربع سنوات، والمرة الثانية: وهو ابن عشر سنين، والمرة الثالثة: ليلة المعراج، حين نزل جبريل ففتح صدر النبي صلى الله عليه وسلم وملأه حكمة وعلماً؛ توطئة لأمر المعراج، وهذه كانت من المقدمات لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
أيضاً لما كان صغيراً وكان يحمل الحجر لبناء الكعبة، قال له العباس آمراً إياه: (يا بني! خذ إزارك وضعه على كتفك، فظهرت عورته فغشي عليه، فلم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عرياناً قط).
أيضاً: حفظ الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، وصانه من اعتقادات أهل الجهل ومن أخلاقياتهم، فكان يبغض الأوثان، ويبغض أخلاقيات أهل الجاهلية من شرب الخمر أو النظر إلى النساء، وكان يخلو بربه في غار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ثم يأتيه الملك.(36/10)
الوحي تعريفه ومراتبه
الوحي لغةً: هو الإلهام بخفاء، أو الإعلام بسرعة وصدق، والوحي يمكن أن يشترك فيه بعض الأولياء مع الأنبياء والرسل، ويمكن أن يوحى إلى بعض الأولياء وذلك بالإلهام.
وسنبين أن الإلهام وحي، وذلك كما في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111]، فقال: (أوحيت) باللفظ الصريح، وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، وهذا الوحي يسمى: إلهاماً، ويمكن أن يأتي الوحي بمعنى الإشارة قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11].
وأيضاً يشترك الأنبياء في هذا الوصف، ولكن بالنسبة للأنبياء هو نفث في الروح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها).
فالوحي مراتب: أولها: الرؤيا الصالحة، فالرؤيا من مقامات ومراتب الوحي، ورؤيا الأنبياء حق لا بد أن تبلغ فهي شرع، قال الله تعالى -مبيناً ذلك عن إبراهيم عليه السلام أنه قال-: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فهذه رؤيا وهي وحي وشرع؛ لأنه أخذ ابنه وتله للجبين يريد أن يذبحه، إذاً: فهذا وحي وهو أمر لا بد أن يعمل به.
وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان بدء الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يرى الرؤيا فتكون كفلق الصبح) يعني: تتحقق كفلق الصبح، وكانت هذه بداية الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيها: أن يكلمه الله بصوت مسموع، وهل الله جل وعلا يتكلم بصوت؟ نعم يتكلم الله بصوت مسموع، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشعراء:10].
ووجه الدلالة: أن النداء لا بد أن يكون بحرف وصوت، فالله جل وعلا يتكلم مع الرسول البشري من وراء حجاب، والرسول البشري يسمع صوت الله جل وعلا، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143].
وأيضاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه الله وحياً من وراء حجاب، وذلك لما عرج به، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يترد بين الله عز وجل وبين موسى عليه السلام، فيقول: (فرض الله عليّ خمسين صلاة، فقال موسى عليه السلام: أمتك لن تستطيع، فارجع إلى ربك فليخفف عنك، فيرجع إلى ربه، فيكلمه، فيسمع من الله جل وعلا، حتى وصل إلى أن الله جل وعلا قال: هي خمس في العمل وخمسون في الأجر، لا يبدل القول لدي).
ثالثها: أن يرسل الله الرسول الملكي جبريل عليه السلام إلى الرسول البشري فيوحي إليه، وكانت هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً على مراتب: الأولى: أن يأتيه وهو في غار حراء فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع صوتاً ويرى ضوءاً، وذلك توطئة للرسول صلى الله عليه وسلم لكي يتهيأ للوحي.
الثانية: لأت يأتيه على صورة بشر، وهذه أسهل المراتب في الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتي على صورة دحية الكلبي؛ لأنه كان من أجمل الناس وجهاً، وعندنا حديث ظاهر جداً أن الملك يأتي على صورة البشر ألا وهو حديث الإيمان، وهو عن عمر بن الخطاب أنه قال: (دخل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، ثم أسند ركبتيه إلى ركبتيه) ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (فهذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم)، إذاً: فأتاه على صورة بشر.
الثالثة: أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتاً كصلصلة الجرس، وهذه شديدة عليه، فقد كان يتصبب عرقاً في اليوم الشاتي، وهو يسمع حتى يعي ما يقال له، ثم يبلغ.
الرابعة: أن يرى الملك على صورته، والنبي صلى الله عله وسلم لم ير الملك على صورته إلا مرتين: المرة الأولى: مرة عندما كان في الغار، فرأى ملكاً بين السماء والأرض رجله إلى الأرض، وهو جالس على كرسي في السماء، فلما نظر إليه وقد سد الأفق خاف النبي صلى الله عليه وسلم وذعر، وذهب إلى أهله فقال: (زملوني زملوني)، لأنه رأى منظراً لا يمكن أن يتحمله أحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد البشر، وهو المرتفع المرتقي عند ربه وهو الشفيع، لما رأى هذا الملك خاف وذعر، وقال: (زملوني زملوني) فكيف يفعل المرء عندما يرى الملكين في القبر حين يأتيان يسألانه، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما وصفهما: أنهما أسودان أزرقان اشتد ذلك على الصحابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم فزع من الملك مع أنه أتاه بالخير وبالرحمة، فما بالك من ملك لا بد أن يفتنك في قبرك، وأنت عندما تراه تذهل، وهو يقول لك: (من ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرسول الذي بعث فيكم؟) نسأل الله أن يثبتنا في القبر وفي الآخرة، وأن يرفعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى.
والمرة الثانية: رآه جبريل على صورته عند سدرة المنتهى.
المعجزات التي حبا الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم بها، توطئة لرسالته صلى الله عليه وسلم هي معجزات حسية ومعنوية، وهي أكثر من أن تحصر، وهذه المعجزات فاقت معجزات موسى وعيسى ونوح، بل وإبراهيم عليه السلام، فمعجزة إبراهيم عليه السلام الكبرى التي حدثت له حدثت لأحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من التابعين وليس من الصحابة، فمعجزة إبراهيم عليه السلام الكبرى هي أنه ألقي في النار ونجاه الله، فكانت الحبال تحترق وهو لم يمسه شيء، فلما قال: حسبي الله ونعم الوكيل: قال الله تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69]، وهذا أبو مسلم الخولاني رحمه الله رحمة واسعة، أسره الأسود العنسي فقال المقربون لهذا الكذاب: إن بقي هذا الرجل سيفتن من عندك، لكن ألقه في النار، وكانت الفتنة أعظم وأعظم فألقاه في النار، فقال الله للنار: كوني برداً وسلاماً على هذا الرجل، فلما علم عمر بن الخطاب بهذه الحادثة بكى وقال: ليتني أرى من فعل الله به ما فعل بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
فهذه المعجزة الكبرى كانت مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي قد جمع الله له كل المعجزات التي أوتيها الرسل، كل ذلك سنبينه في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(36/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد البشر أجمعين، ومما يدل على فضله وكرمه وعلو منزلته عند الله أن الله أيده بالمعجزات الخارقة التي شملت كل ما أعطى الأنبياء قبله، فما من نبي سلف أعطاه الله معجزة إلا وأعطى نبينا ما يشابهها ويماثلها، ثم إنه خص بمعجزات معنوية وحسية فيها بيان زيادة فضله وشرفه عند الله جل وعلا.(37/1)
معجزات الرسل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد تكلمنا على سياق ما روي في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدرنا الباب على أن الله جل وعلا يختار من عباده أنبياء لهم مميزات وصفات تفضل مميزات وصفات البشر، وبينا الفرق بين النبي والرسول، والعلاقة بينهما، وبينا مقامات ومراتب الوحي.(37/2)
الحكمة من تأييد الرسل بالمعجزات
أقول: ما من نبي ولا رسول أرسله الله جل وعلا إلى قومه إلا أرسله لحكمة عظيمة، ومهمة جسيمة، وهي: إخراج الناس من عبادة الشيطان أو عبادة الأهواء أو عبادة الناس إلى عبادة رب الناس، سحب الناس بالسلاسل إلى الجنان، وإنقاذ الناس من النيران، فعندما يأتي الرسول إلى قومه فإن الناس من الأرض، والأرض مختلفة، فمنها ما يقبل الماء فيتشربه فينبت الكلأ، فهذا أنفع وأفضل الناس على الإطلاق.
ومن الأرض: ما لا يشرب الماء ولا ينبت الكلأ، وإنما هو قيعان يأخذ الماء فيحفظه، فيأتي الناس وينتفعون من هذا الماء.
ومن الأرض الثالثة: الأرض الملساء، التي لا تشرب الماء فتنبت الكلأ فينتفع الناس به، ولا هي تأخذ الماء فتحوطه حتى ينتفع الناس بالماء؛ فلذلك الرسول إذا أتى الناس فلتفاوت عقولهم وتفاوت نقاوة قلوبهم، منهم من يصدق قبل أن يرى أي آية، ومنهم من يجادل حتى يرى برهاناً، ومنهم من يجحد جحوداً بيناً، وعلى مر الدهور والعصور ظهر ذلك الأمر.
فمن أجل ذلك أيد الله جل وعلا رسله بآيات بينات باهرات، حتى يتبين لهؤلاء القوم فيقبلون من النبي أو الرسول الذي جاءهم واسطة بين الله وبينهم، فالله جل وعلا حبا الأنبياء بمعجزات وآيات حتى يصدقوا عند قومهم.
فخاتم الرسل وأفضل البشر على الإطلاق -كما قلنا: سيد ولد آدم على الإطلاق- هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الله له كل هذه الخصال سبحانه وتعالى، فما من آية ولا معجزة حبا الله بها رسولاً إلى قومه إلا وترى شبه هذه المعجزة والآية موجودة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سنبين.(37/3)
تعريف المعجزة
المعجزة: هي كل خارقة للعادة يقصد بها التحدي أو مقرون بها التحدي.
فالمعجزة: كل خارقة من خوارق العادات، لكنها مقرونة بالتحدي، وهذا القيد مهم جداً؛ حتى نفرق بين المعجزة وبين الكرامة.
فالكرامة: خارقة من خوارق العادات لكنها ليست مقرونة بالتحدي، ولا صاحب الكرامة يقوى أن يتنبأ فيقول: أنا نبي، فهو كذاب بهذا، أما النبي فيقول: أنا نبي، ويأتي بالمعجزات ويتحدى بها عباد الله جل وعلا، يتحدى أن يؤتى بمثلها كما سنبين، فهذا هو معنى المعجزة والفرق بينها وبين الكرامة.(37/4)
معجزات الرسول المشابهة لمعجزات الأنبياء(37/5)
معجزة غزوة الخندق ومشابهتها لمعجزات الأنبياء
ما من نبي إلا وآتاه الله معجزة، فهذا نوح عليه السلام حباه الله جل وعلا أمام قومه معجزة بليغة جداً في عصره وهي السفينة، فكان يصنع السفينة على الرمال، فكان كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، أي: كأنهم يقولون: ماذا يصنع؟! أيظن أن هذه السفينة تسير على الرمال؟! ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس! فكانوا يستغربون ويقولون: جُن الرجل! وهي معجزة مخفية، والله جل وعلا بين هذه المعجزة عندما أمر السماء أن تهطل مطراً، وأمر الأرض أن تتفجر عيوناً قال تعالى: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12].
ثم بعد ذلك لما قدر الأمر، وغرقت الدنيا وما فيها ظهرت هذه المعجزة، فنجى الله جل وعلا نوحاً ومن معه على هذه السفينة.
فهل هناك شبه في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة نوح؟ نعم، غزوة الأحزاب، فالله جل وعلا ابتلى الكفار فيها بريح عاتية تقلع الجذور من مكانها وتطاير الناس، وما بين المسلمين والمشركين إلا هذا الخندق، والريح لا تأتي بجانب النبي صلى الله عليه وسلم.(37/6)
كرامة أبي مسلم الخولاني ومشابهتها لمعجزة إبراهيم عليه السلام
كذلك إبراهيم عليه السلام حباه الله آية عظيمة أمام النمرود وأمام أهل الكفر؛ لأنهم قالوا: الذي سفه آلهتنا لابد أن نكيد له كيداً ويحرق، فأضرموا النار وألقوه فيها، فلما ألقوه كانت المعجزة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ فأتاه الغيث من الله جل وعلا، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
حتى أن الوثاق والحبل الذي وثقوا به إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام يحترق ولا تمس النار جسد إبراهيم! آية من آيات الله ومعجزة من المعجزات حتى يؤمنوا، ولكنهم قد طبع على قلوبهم.
كذلك محمد صلى الله عليه وسلم حباه الله هذه الآية؛ ليبين عظم وشرف وعلو مكانة نبيه صلى الله عليه وسلم عنده وحباها الله لتابعي من أتباع رسول الله، وليس لرسول الله، وإذا كان الشرف يمس التابع فمن باب أولى أن ينسب إلى المتبوع.
كان الشرف لـ أبي مسلم الخولاني عند أن أخذه الأسود العنسي وأراد تعذيبه؛ فقال بعض القوم: لو تركت هذا الرجل فسيفتنهم ولكن اقتله، فأضرم النار وألقى أبا مسلم الخولاني فيها فلم يحترق! وكانت هذه آية عظيمة جداً وتكرمة الله لهذه الأمة.
فهذه الأمة مشرفة بشرف ليس بعده ولا قبله شرف مثله كما سنبين ذلك، فأنبياء يصلون خلف آحاد هذه الأمة دلالة على شرف هذه الأمة، وهذه الأمة شرفها وعزها في تمسكها بكتاب ربها وبسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن تخلت عن سبب الشرف ذلت، وسنة الله لا تتبدل أبداً، فالله جل وعلا شرف هذه الأمة بـ أبي مسلم حتى قال عمر بعد أن رآه: الحمد لله الذي أراني من أمة محمد رجلاً حدث له ما حدث لإبراهيم عليه السلام.(37/7)
مشابهة معجزات رسول الله لمعجزات موسى عليه السلام
كذلك موسى عليه السلام حباه الله تسع آيات عظام، وأعظم هذه الآيات انقلاب المادة المحسوسة إلى شيء آخر، فالعصا يلقيها فتصبح ثعباناً حياً، قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف:107 - 108].
وقد حبا الله جل وعلا محمداً صلى الله عليه وسلم بما حبا به موسى وأكثر، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم جلس بين أصحابه في غزوة من الغزوات فأخذ عصاً مثل عصى موسى فهزها فانقلبت سيفاً صلتاًَ، وهذه نفس المعجزة! فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا يا رسول الله! فأحجم عنه، ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام الزبير: وقال: أنا، فأحجم عنه، فقال الثالثة، فقام سماك بن خرشة رضي الله عنه وأرضاه أبو دجانة فقال: أنا يا رسول الله! فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السيف، الذي كان عصا وانقلب بيد النبي صلى الله عليه وسلم سيفاً، فأخذه أبو دجانة.
انظروا إلى هذه الهمة العالية! {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فـ الزبير كأنه قال: لم أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السيف لهذا الرجل وقدمه علي؟! لابد أن لهذا الرجل مزية على أصحابه، فقال: والله لأتتبعن هذا الرجل، فتتبع الزبير أبا دجانة فأول ما بدأت الغزوة تعصب أبو دجانة بعصابة حمراء، إذا رآها الأنصار قالوا: تعصب أبو دجانة بعصابة الموت.
فأخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل بحقه، حتى إنه كان يقتل مقتلة عظيمة من أهل الكفر، ورأى رجلاً ملثماً، -هي امرأة- يتتبع الجرحى يجهز عليهم، فقام سراعاً إليه فلما علاه بالسيف ولول فإذا هي امرأة فقال: أستحي أن أجعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس امرأة وتركها، فعلم الزبير أن هذا الرجل أخذ السيف بحقه.
والمقصود: أن هذه الآية التي أوتيها موسى بانقلاب العصا إلى أفعى انقلبت العصا بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً صلتاً.
كذلك من الآيات التي أوتيها موسى عليه الصلاة والسلام القمّل والضفادع والطوفان، حيث دعا على قوم فرعون فأنزل الله عليهم هذه الأوبئة والأدوية.
وكذلك دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على قومه فقال: اللهم عليك بهم، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلوا بنفس هذه الأمراض استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.(37/8)
مشابهة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لمعجزات عيسى عليه السلام
كذلك عيسى عليه السلام حباه الله أيضاً بعض الآيات العظام، ألا وهي الطب، فكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وكان يعالج مرضى الصرع والجنون فكانت آية عظيمة.
كذلك: أكرم الله هذا النبي العظيم بنفس المعجزات؛ ليبين جلالة قدره وعلو مكانته عنده، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عالج المرضى بمعجزة من المعجزات التي حباه الله إياها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الغار مع أبي بكر وكان في الغار ثغرات سدها أبو بكر بجميع ما عنده، حتى إنه ما وجد شيئاً إلا رجله في ثغرة من الثغرات فسدها برجله، فلدغته عقرب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً على فخذ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فلم يخرج صوتاً خوفاً من أن يوقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أي رجل هذا الذي يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه؟! لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا من منا من يقدم نفسه من أجله صلى الله عليه وسلم؟! والله ما أرى ذلك، وعندي الدليل في ذلك، وهو: أن موت النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني موت سنته، ونحن نقدم الأهواء والعقول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقدم آراء أسافل الناس على سنته صلى الله عليه وسلم، فما رأيكم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً؟ والله أعلم هل كنا سنؤمن به أم لا؟ ولكن فضل الله علينا عظيم، الغرض المقصود: بكى أبو بكر ونزلت دموعه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وعلم الخبر فمس بيده الشريفة رجل أبي بكر فكان أبو بكر كأنما نشط من عقال، أي: كأنه لم يصب بشيء! كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر -اللهم أعد علينا خيبر يا رب العالمين! نسأل الله ربنا أن ينصر أهل الإسلام على أهل الكفر، ولكن لا تتوقعوا في هذه الأزمنة النصر إلا أن تعودوا إلى ربكم، والله لن ننتصر بقومية ولا حزبية، ولا بأغاني ولا بتمثيليات ومسرحيات، لن ننتصر بهذا قط، بل سننتصر بقوة الله وقوة الله لا تتنزل إلا على الذين اصطفاهم الله جل علا- أعاده الله علينا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، فباتوا يدوكون ليلتهم أيهم يعطى هذه الراية)، وكان ممن تشرئب عنقه لهذه الراية عمر الفاروق، فكان يتنافس على الخير، قال: وددت هذه الراية أن تكون لي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيدها بقيدين مهمين: (يحب الله ورسوله) فهذا فيه دلالة على الصدق والإخلاص في قلبه، وقوله: (ويحبه الله ورسوله) فيه دلالة على مكانته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، المهم: (إنه لما جاء الصباح سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن علي فقالوا: يشتكي عينه، فجاء علي فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في عينه، قال: فرأيت بها أشد ما أرى بالعين السليمة).
وأيضا لما ذهب عبد الله بن عتيق رضي الله عنه وأرضاه فقتل أبا رافع الذي كان يهجي النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما خرج من الباب سقط فكسرت ساقه؛ فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليها، فقام الرجل كأن ليس به بأس.(37/9)
المعجزات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم
فرسول صلى الله عليه وسلم أوتي هذه المعجزات التي حبا الله بها الأنبياء، ثم خصه الله جل وعلا بمعجزات عظيمة مقسمة على ثلاثة أقسام: علم، ومعناه: الإنباء بالغيوب، وقدرة، ومعناها: ما يحدث حسياً ومادياً أمام الناس، واستغناء، ومعناه: أن يحدث له استغناء عما يفتقر له الناس كما سنبين، وهذا تقسيم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(37/10)
من المعجزات الخاصة برسول الله اطلاعه على عالم الغيب
الأولى: مما خصه الله جل وعلا به: أن ينبئ بعلم الغيب، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينبئ بما يحدث في زمنه أو بعده بقليل حتى تكون معجزة، فأنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهزيمة كسرى وعلو الروم، فقال تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، ولذلك راهن أبو بكر على أن الروم ستغلب، وكتب الرهان مع قريش، والعلماء استنبطوا فقهياً أنه في هذه الحالات يجوز الرهان، أي: يجوز أن تراهن على أمر أنت متأكد تأكداً تاماً أنك ستفوز فيه، فـ أبو بكر راهن على غلبة الروم؛ فحدث وغلبت الروم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما تعقبه سراقة، قال: (أين أنت يا سراقة عندما ترتدي سواري كسرى؟)، ففتح الله المدائن، وخربت فارس، وسواري كسرى أخذهما سراقة، وبينها عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال: مصداقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم أنبأ بما يحدث بعد ذلك كما هو ماثل أمامنا في هذه العصور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنوات خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال الفاسق أو قال: الفويسق يتكلم في أمر العامة) وهذا واقع مشاهد، فكثير ممن تصور بصورة العلم وتكلم عنه وليس أهلاً له، وكذا كثير ممن تكلم في أمور العامة ليس أهلاً لها، فالرويبضة والفواسق كثروا في عصرنا، والمستمعون لهم أكثر، كهمج الرعاع، كما قسمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال: الناس على ثلاث: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.
والناعق: الرويبضة، والذين يتبعونه هم العامة، والعوام هوام وهم الذين لا يميزون بين الحق وبين الباطل.
كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، ويفشو الجهل، وينتشر الزنا).
والآن نحن في هذه العصور قد قبض العلم؛ لأن الله جل وعلا لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء.
وجبال أهل العلم ماتوا ورحلوا عنا، حتى أن شمس العلم كأنها غابت عنا، والساحة الآن أصبحت خالية خاوية من أهل العلم، فكل من ترون أو كل من تستمعون له أو كل من تصدر ما هو إلا داع، والدعاة الفارق بينهم وبين العلماء كما هو الفارق بين السماء والأرض، فالعالم يسيّر أمة، والداعي يؤثر في العامة، فالفارق بعيد، فالعالم هو الذي يرسم لأهل الدين والإسلام كيف يسيرون على نسق يرضي الله جل وعلا؛ فينتصرون بذلك، والداعي ما هو إلا جامع للناس حتى يستمعوا إلى العالم.
كذلك: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيختبئ كل يهودي خلف الشجر والحجر، فينطق الشجر والحجر يقول: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).
والراجح في ذلك والله أعلم: أن هذه المقتلة لن تكون إلا مع الدجال، ولن تكون قبله، فهذا الراجح والله أعلم وذلك عندما يفر الدجال من عيسى وينزل عيسى عليه السلام فيقتله، ثم يقتل المسلمون بني إسرائيل هؤلاء، وهذه تكون على مشارف علامات الساعة الكبرى.
كذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشراط الساعة الكبرى بالمغيبات.(37/11)
المعجزات المعنوية
الثاني من المعجزات: المعجزات المعنوية، ومن المعجزات المعنوية أكبر معجزة أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظم معجزة له وهي القرآن، حيث نزل بلسان قومه، وكانت قريش والعرب أفصح الناس بلاغة ترتقي إلى السماء، كان الواحد منهم إذا جلس فقال شعراً حفظ الحاضرون كل هذا الشعر، فإذا سكت قاموا فرددوا عليه شعره الذي قاله، ويذكر أن بعضهم قام خطيباً في الناس وكان ألثغ لا ينطق، حرف الراء إلا بصعوبة، فكان لا يستطيع أن ينطق حرف الراء من مخرجه، فقام فنثر شعراً أمام الناس حوالي ألف بيت لا يوجد به حرف راء، من الفصاحة والبلاغة، فأنزل الله هذه المعجزة الكبرى بلسانهم وتحداهم بها، وهي القرآن بفصاحته وبلاغته؛ لأنه كلام الله جل وعلا تكلم به وسمعه جبريل، فأسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وأعجزهم الله بذلك قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] وقال تعالى متحدياً لهم: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، ثم تنزل وقال: (فأتوا بسورة من مثله)، ثم تنزل وأمرهم أن يأتوا بآية، ثم بين عجزهم فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].(37/12)
المعجزات الحسية
أما المعجزات الحسية التي حبا الله النبي صلى الله عليه وسلم بها فهي كثر منها: أولاً: الإسراء والمعراج: فهذه من المعجزات الحسية التي وهبها الله لهذا النبي حتى يصدق بين قومه، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، فهذه المعجزة شوش علينا أهل البدع والضلالة حتى لا نعتقد فيها أن تكون معجزة كبيرة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال المعتزلة ومن وافقهم من أهل البدع: حادثة الإسراء ليس بالجسد والروح، بل بالروح، فلازم قولهم: أن الإسراء ما كان بالجسد وإنما كان بالروح فقط أي: كانت رؤيا منامية فقط.
ونحن نرد عليهم بعدة أدلة، أولها: لو قلتم مناماً لضيعتم هذه المعجزة ولأبدتموها، ولكنها بالجسد والروح بالأثر والنظر، أما بالأثر فقد قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] فالباء هنا باء خطاب لا باء تبعيض يعني: جزء منه، وهي الروح؛ لأنه قال: (بعبده) وعبد مفرد مضاف فيعم العبد كلية، بجسده وبروحه، فأسرى الله بنبيه صلى الله عليه وسلم بجسده وبروحه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
ثانيها: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] أي: رأى النبي جبريل عليه السلام على صورته مرة أخرى، فإذا رآه على صورته يكون بالروح أو بالجسد والروح وبأم عينه؟ بعينه، إذاً: كان المعراج بالجسد والروح، وكان يصعد إلى الله جل وعلا وينزل إلى موسى، فيكلمه موسى ويراجع ربه على الخمسين صلاة.
فقوم قريش اعترضوا اعتراضاً شديداً جداً، وأرادوا أن يكذبوه أمام أبي بكر فقالوا: انظر إلى صاحبك يزعم أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ونحن نضرب أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراًَ إياباً حتى نصل إلى بيت المقدس ونرجع إلى مكة، وهو يقطعها في ليلة واحدة؟! فاعترضوا على الجسد والروح لا المنام، فهذه معجزة أيضاً حباها الله هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وهي معجزة الإسراء.
كذلك من المعجزات الحسية: نبع الماء من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا في صلح الحديبية قد قل الماء عندهم، سواء أكان للشراب أم للوضوء، فجاء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه بركوة فيها ماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقوم عطشى ويريدون الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر جابراً أن ينادي على صحابته فجاءوا تباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع يده الشريفة على الماء فنبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوضأ القوم وشربوا، فسئل جابر: كم عددكم؟ فقال: لو كنا عشرة آلاف لشربنا وتوضأنا، من كثرة الماء الذي نبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك من المعجزات الحسية التي حبا الله بها هذا النبي وميزه عن باقي الأنبياء: بركة الطعام في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي يوم الحديبية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربط حجرين على بطنه وكل صحابي من الصحابة يربط حجراً واحداً على بطنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع يربط حجرين على بطنه، وأبو طلحة سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم خافتاً فعلم أن هذا من شدة الجوع؛ فذهب فزعاً إلى أم سليم فأعد طعاماً، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعال أنت والنفر الذين معك، وكانوا خمسة أو ثلاثة، فهو قال: خمسة يكفي بما عندنا من طعام، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في القوم: أن هلموا كل من كان موجوداً تعالوا، فكاد قلب أبي طلحة أن يطير، يقول: ما عندنا طعام من أين سيأكلون؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما أخذ صحابته إلى أم سليم قال: ائتني بالطعام، فأخذ الطعام ثم تفل فيه، وفي رواية أخرى: قرأ عليه ما شاء الله أن يقرأ، ثم بعد ذلك أمر أصحابه أن يدخلوا عشرة عشرة تباعاً، فيدخل العشرة فيأكلون حتى يشبعوا وتمتلئ بطونهم، ثم يخرجون ويدخل عشرة غيرهم، فيأكلون حتى تمتلئ بطونهم وهكذا، وهذا من بركة تفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطعام، أو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
كذلك من المعجزات الحسية التي خص بها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت تنبئ وتعلم الناس بصدقه: أنه كان ما رفع يده إلا استجيب له.
مثلاً: فـ أبو هريرة كانت أمه كافرة، وكانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء مرة أبو هريرة مغضباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن به شيء فسأله، فقال: ادع لأم أبي هريرة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لها، فذهب أبو هريرة يقرع عليها الباب فتلكأت، ثم بعد ذلك أدخلته، فوجد أنها كانت تغتسل، ثم تشهدت لله جل وعلا، وأسلمت بفضل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
كذلك الدعاء في الاستسقاء، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة جاء رجل فقال: يا رسول الله! هلك المال أو الأولاد والعيال ادع الله أن يسقينا، نزل القحط على المدينة فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا الله جل وعلا؛ فجاءت سحابة فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هطل المطر، وما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر إلا وقد أغرقت المدينة بالأمطار.
فهذه أيضاً من المعجزات التي حبا الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
من آخر المعجزات التي نتكلم عنها: هي انشقاق القمر، فقد كانت معجزة من المعجزات الباهرة لأهل قريش الذين تعنتوا حتى يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائتنا بآية، وألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله لرسوله بهذه الآية، فانشق القمر قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]، فانشق القمر؛ فنظر القوم إليه فإذا هو نصفين، شق عن يمين، وشق عن يسار! والأصل أنهم مع ذلك لابد أن يؤمنوا، فإن القمر قد انشق أمامهم فهي معجزة وآية من الآيات، فقالوا: لا، سحرنا محمد! ثم قال العاقل فيهم: إن محمداً لن يسحر جميع الناس، انتظروا الوفود التي تأتي من خارج مكة لعلهم رأوا القمر مكتملاً، فانتظروا الوفود فسألوهم، فكل منهم يقول: رأينا القمر انشق نصفين.
وهذه آية أيضاً من الآيات التي حباها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تدل على صدقه، ولكن إذا أراد الله أن يغوي قوماً فلن تجد لهم هادياً، من قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
وقد جاء العلم الحديث يصدق بذلك فقيل: إنهم صعدوا سطح القمر فوجدوا آثار هذا الانشقاق لكن ما آمنوا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، فهم أغبي من الحيوانات؛ لأن الله أراهم آيات عظام حتى في الجسد، فهم يحللون الأوعية الدموية، ويرون عظم خلق الله جل وعلا في الإنسان، ومع ذلك لا يؤمنون.
أختم من الآيات والمعجزات الباهرات التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ما كان صلى الله عليه وسلم يسير في مكان الشمس فيه حارقة إلا وترى النخل يأتي بعده أو الأشجار تأتي بعده لتظلله، وهذه هي المعجزة التي تكلم عنها الراهب بحيرا لما نظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صغير مع عمه أبي طالب قال: هذا سيد العالمين! هذا رسول رب العالمين! هذا رحمة للعالمين! فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: عرفته من آيات، ثم ذكر الآيات، قال: ما مر على العقبة إلا وكل شجر وحجر ساجد، وهذا لا يكون إلا لنبي، ثم ما جاء على شجر إلا وهو يظلله، يعني: كان القوم يجلسون والشجر يظللهم، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، تركهم الشجر وظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وعرفته بخاتم النبوة الذي هو كبيض الحمامة في ظهره.
وأيضاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يختلي ليقضي حاجته بحث عن مكان يبعد فيه، فبحث مرة عن مكان حتى يقضي حاجته دون أن يراه أحد فلم يجد، فأخذ شجرة بغصنها يجرها وراءه، ثم أخذ الأخرى فمشيا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضمهما ليكونا ساترين له صلى الله عليه وسلم، ثم قضى صلى الله عليه وسلم حاجته.
فهذه بعض المعجزات التي حبا الله بها رسوله، فهي دلائل واضحات حتى يظهر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، ولعلهم يستيقنون في ربهم فيعملون بسنته صلى الله عليه وسلم.
يبقى لنا الكلام على الكرامات، وهل حدث لهذه الأمة كرامات أم لا؟ من أيام القرون الأولى إلى يومنا هذا توجد كرامات كثيرة جداً، حدثت حتى لـ سفينة مع الأسد، والعصا التي أضاءت لـ أبي رضي الله عنه وأرضاه، والملائكة التي كانت تسلم على عمران بن الحصين، كل هذه سنتكلم عنها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(37/13)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خصائص النبي والفرق بين المعجزة والكرامة
لقد منَّ الله سبحانه وتعالى على عباده بأن شرع لهم الإسلام وهداهم إليه، واصطفى من خير خلقه من يبين للناس هذا الهدى والنور، وأيده بالمعجزات الدالة على صدق نبوته، لكي يؤمن به العباد، وينقادوا لدين رب الأرباب، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وخصها بخصائص وسمات لم تكن في الأمم السابقة؛ لكرامة هذا النبي عنده، ورحمة منه وفضلاً، فإن آمنت وصدقت علت وارتفعت وسادت، وإن كذبت وعاندت ذلت وهانت، وضربت عليها الذلة والمسكنة كما حصل للأمم من قبلها.(38/1)
طرف من خصائص المصطفى عليه الصلاة والسلام
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: تكلمنا عن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الله وهب لرسولنا ما وهب للأنبياء والرسل من معجزات، وقد خص الله النبي الكريم بخصائص غير التي أعطاها للأنبياء غيره صلى الله عليه وسلم، واليوم إن شاء الله نختم هذا الباب في الخصائص التي خصه الله بها.
فمن الخصائص التي اختص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم: أنه فضله عليهم، وجعله إمامهم، وذلك عندما أحيا الله جل وعلا له الأنبياء ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى، نسأل الله جل وعلا أن يحرره من أيدي الغاصبين.
الخاصية الثانية: عموم الرسالة، فما من نبي أرسله الله إلى قوم إلا وكانت دعوته خاصة بهم أي: لم تكن عامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (وكان كل نبي يبعث إلى أمته خاصة وبعثت إلى الناس عامة -أو كافة-).
وقد قال الله تعالى آمراً رسوله أن يقول للناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، فهذه خصيصة خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم على الأنبياء والمرسلين.
أما الخصيصة التي اختصت بها هذه الأمة: فهي أن الله شرف هذه الأمة بأن تكون خير أمة أخرجت للناس، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] فهي خير أمة مع أنها الآن في ذلة ومهانة، وذلك لأن قول الله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)) ليس على إطلاقه، وإنما هذه خصيصة لرسول الله وتشريفاً له، ولأمته، والله جل وعلا لم يجعل هذه الخيرية مطلقة، ولكن قيدها بقيود وسمات وصفات إذا وجدت وجدت الخيرية، كالحكم مع العلة، فالحكم يدور مع علته حيث دارت، فإذا وجدت وجد الحكم وإذا انتفت انتفى الحكم.
إذاً: هناك سمات لهذه الأمة وصفات إذا وجدت وجدت لها الخيرية وعزت وانتشرت تشريعاتها في ربوع الأرض، وإذا انتفت هذه السمات والصفات انتفت الخيرية كما نعيش في هذا الواقع المر، فالغرض المقصود: هو أن نعرف السمات والصفات التي إذا اتسمت بها هذه الأمة كانت خير أمة أخرجت للناس.(38/2)
الصفات المعقود عليها خيرية الأمة(38/3)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأول سمة من هذه السمات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)) وتطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان).
فخيرية الأمة مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان هذا دأب الصالحين من هذه الأمة.
وكان دأب رسول الله وصحابته أنهم لا يرون منكراً فيسكتون عليه، ولا يرون معروفاً إلا ويأمرون به، حتى في المكروهات والمستحبات، فعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان في السوق فشرى زيتاً وقبل أن ينقله من مكانه جاءه تاجر يشتري منه هذا الزيت بربح أكبر، فضرب رضي الله عنه وأرضاه على كتفيه منكراً عليه، وقال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: إذا ابتاع أحدكم فلا يبعه حتى يستوفيه) أي: حتى يحوزه.
حتى في الاجتهاد، أي: لو اجتهد عالم من علماء الصحابة فأخطأ ما كانوا يصبرون عليه، فهذا ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يقول بحل نكاح المتعة، وما الفرق بين نكاح المتعة والنكاح المؤقت؟ ونكاح المتعة: هو أن يتمتع الرجل بالمرأة مدة محدودة، مشروطة بينهما، ويفسخ العقد بعد انتهاء المدة، وهذا هو القيد، فإذا كانت مدة المتعة أسبوع فاليوم السابع يفسخ العقد، ويكون لها مهر يعطيها من استحل فرجها.
هذا هو نكاح المتعة، وقد كان حلالاً ثم حُرِم.
وقد حلل في خيبر وحرم فيها أيضاً، وذلك عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم علياً وقال: (حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، وحرم نكاح المتعة، ثم أحل نكاح المتعة مرة ثانية، ثم حرم في الفتح) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمه إلى يوم القيامة بالنص، فحرم ثم حلل ثم حرم بعد ذلك إلى يوم القيامة، وإنما هذا لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانت فيهم فتوة، فما كان يستطيع الواحد منهم أن يسافر شهراً، للقتال مثلاً وليس عنده نساء، فحلل لهم نكاح المتعة، ثم بعد ذلك حرم عليهم نهائياً.
أما النكاح المؤقت فهو نوعان: النوع الأول: هو أن يؤقت في العقد مشترطاً فيه، كأن يقول: سأتزوجك شهراً، فهذا النكاح المؤقت بالشهر هو نكاح متعة.
النوع الثاني: وهو أن لا يشترط في العقد أي وقت، لكن يضمر في نفسه الطلاق بعد شهر مثلاً فهذا اختلف فيه العلماء على قولين: القول الأول: قول الجمهور: إن العقد صحيح لا يشوبه شيء؛ لأن المهر مسمى والإيجاب والقبول والولي موجود، وإنما أضمر في نفسه الطلاق، فقال جمهور الفقهاء وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية: أن هذا العقد عقد صحيح.
القول الثاني: وهو لبعض العلماء، قالوا: إن العقد لا يصح؛ لحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا من حيث الأثر.
وهذا هو الراجح الصحيح، فالذي يسافر إلى أوروبا من أجل أن يتزوج بامرأة لمدة شهر ثم يطلقها، فهو آثم ولا يصح له هذا العقد على الراجح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
أما من حيث النظر: فهل كل واحد منا يرضى أن أخته أو بنته تتزوج برجل على أن يتمتع بفرجها شهراً ثم يتركها ويذهب، فإن أضمر في نفسه شيء يقدح في العقد فإن العقد بذلك لا يصح، وهو بذلك يقع في الزنا لا محالة، بل إن بعضهم قال: لو يقع في الزنا وليس عنده مال ولا نكاح ولا يستطيع فله أن يبدل أخرى.
إذاً فالمقصود: أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يبيح نكاح المتعة، فقال علي بن أبي طالب: ألا يتق الله ابن عباس! أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها يوم كذا ويوم كذا.
وأيضاً: زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يقول: إن الجد يشترك مع الإخوة في الميراث أي: أن الجد لا يحجب الإخوة، فهل الحجب هنا حجب حرمان أم حجب نقصان؟ لو قلنا على المذهب الراجح: فهو حجب حرمان، ولو قلنا على التشريك: فهو حجب نقصان.
والمهم في ذلك: أن زيد بن ثابت كان يقول: إن الجد مع الإخوة يشتركون في الميراث، وهذا قول الشافعي وقول جمهور العلماء، أما ابن عباس فكان يقول: ألا يتق الله زيد بن ثابت! أما يعلم أن الله جل وعلا سمى الجد أباً في كتاب الله، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف:38] وإبراهيم كان جداً ليوسف عليه السلام.
فكان ينكر المنكر رضي الله عنه.
فالأمة خيريتها مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالاستطاعة، فمن استطاع بيده ولم يأت بمضرة فلينكر بيده، ومن استطاع بلسانه فلينكر بلسانه، ومن لم يستطع فلينكر بقلبه.
كان بعض أهل الفتوى وهو من أهل العلم يقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقتصر باليد على الحاكم، وباللسان على أهل العلم والعلماء، وبالقلب على الناس العامة.
مسألة: حدثت عندنا في مصر مشاحنة بين شاب وبنت فأخذها واغتصبها أمام الناس، فهل لو قلنا بقول هذا الرجل المقلد الذي لا يعلم شيئاً، أن العامي ينكر بالقلب ويمشي، والعالم إذا جاءه لا يضربه ويبعده، وإنما يقول له: هذا حرام اتق الله في نفسك، هذا كلام باطل، فالأمة خيريتها كلها ارتبطت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).
ومن سمات الخيرية: تحكيم شرع الله، ولا بد أن نقارن بين الرعيل الأول الذين كانوا ينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف، وبين هذه الأمة التي ضاعت منها الخيرية وذلت، وأهينت؛ لأن المعروف انقلب منكراً، والمنكر انقلب معروفاً، ترى المجون من الممثلين والممثلات، وأهل الكرة، وهؤلاء هم الذين يتكلمون في الدين، أما أهل الدين فهم خلف الظهر ويوصفون بأنهم متشددون، وإرهابيون، ويأتي الرجل الجاهل يتكلم في الدين هذا يجوز وهذا لا يجوز.
ووجدت ممثلة ساقطة سفيهة كانت تقول: ما هو الفرق بين ابن لادن وشارون؟ هذه جاهلة سفيهة سوت بين رجل رفع راية لا إله إلا الله ولم يعط الدنية في دينه، برجل كافر خنزير من أحفاد القردة والخنازير، وتقول: ما الفرق بينهما؟ هذا إرهابي وهذا إرهابي.
وأشد منها سفاهة أخرى تتصل وتقول: هل نأخذ ديننا من الرجل الذي يقول: إن من يقول: إن الكرة الأرضية تدور فهو كافر؟ تقصد بذلك ابن باز الذي عقمت النساء أن تلد مثله، أعلم أهل الأرض على الإطلاق؛ لأنه جمع بين علم الحديث وعلم الفقه رحمة الله عليه، وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء.
فهذه السفيهة الجاهلة التي تؤثر على الجاهلات مثلها قالت: هل نأخذ ديننا من رجل يقول: من قال: إن الأرض تدور يكفر؟ والشيخ ما قال هكذا، ولو نظرت إلى ما يقوله الشيخ لوجدت أن الرجل عنده من العلم ما يبين لك قوته العلمية، فالحاصل أن الشيخ يقول: الشمس تدور، وأهل الجغرافيا دائماً في المدارس يقولون: الشمس ثابتة، والأرض تدور، وهذا ظاهره تكذيب الله جل وعلا حيث يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] فالشيخ ابن باز كان يقول: الشمس هي التي تتحرك والأرض ثابتة لا تتحرك، وإذا نظرت إلى قول الشيخ لوجدت أن الرجل بصير العلم، فعنده من الكتاب ما يساعده على قوله، قال الله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15] فعلماء الجيولوجيا وعلماء الصخور والجبال قالوا: الجبل الأشم الشامخ الشاهق الذي طوله خمسة عشر متراً فوق الأرض، تحته ثلاثون متراً.
فالله جل وعلا جعل هذه الجبال الشواهق رواسي حتى تثبت الأرض فلا تضطرب بالناس، فلا يستطيعون العيش عليها، وهذا من رحمة الله بالعباد، {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15] أي: لئلا تميد بكم، فالأرض ثابتة لا تتحرك، هذا من ناحية الأثر.
أما من ناحية النظر: فلو قلنا: إن جبل أحد الذي في المدينة خلف المسجد النبوي -إذا كانت الأرض تدور- انتقل من المدينة إلى مكة أي: تغير من مكانه حين ينتقل من المكان الذي كان فيه بسبب الدوران، مع أننا ما زلنا نرى جبل أحد مكانه.
أيضاً: لو أن الكرة الأرضية تدور لانقلب البعيد قريباً والقريب بعيداً.
فمثلاً: الإمارات والسعودية بينهما مسافة خمسة وثلاثين كيلو، فلو كان الطيران يصل خلال أربع ساعات فإنه بعد انتهاء الدورة سيصل في ساعتين، وما زلنا طول حياة الطائرات نأخذها في أربع ساعات، لا يتأخر الثانية الواحدة، لكن وإن كنا نخالف هذا الكلام؛ لأن العلم الحديث أثبت أن الأرض تدور ولا مخالفة لقول الله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15] نقول: هو جعل الجبال الرواسي حتى لا تضطرب الأرض بمن عليها، فلا يستطيعون العيش عليها، وإنما تدور دون أن تتمايل وتضطرب بالناس.
فالغرض المقصود: أن الرجل عنده من العلم وعنده من الأثر والنظر ما يقوي اجتهاده، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، فتأتي السفيهة تقلب المعروف منكراً، وتقول: نأخذ الدين من هذا الرجل.
أنا جلست مع رجل أتكلم معه على معاملة شرعية فقلت له: هذه المعاملة لا تجوز شرعاً؛ لأنك تبيع ما لا تملك، والألباني قال في المسألة بكذا.
فرد علي بأن الشيخ الألباني يعلم في الحديث وليس له سعة بالفقه، فجلست قدر إمكاني أذب عن الرجل؛ لأن الشيخ الألباني جبل، كما قال الذهبي في البخاري لما قال ابن حزم: إن البخاري مدلس.
فقال الذهبي: أما ا(38/4)
تحكيم شرع الله تعالى
أيضاً: من الصفات التي تتعلق بالخيرية: تحكيم شرع الله، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49].
وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
فتنحية الشرع شغب وخراب، والمؤمنون لما مكن الله لهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحكموا شرع الله جل وعلا، وأقاموا الحدود، وكانوا مثلاً رائعاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كان إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقسم ويقول: والذي نفسي بيده لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها، تحكيماً لشرع الله جل وعلا، ولما سرقت المرأة المخزومية وأراد بعض الناس أن لا يُقام عليها الحد، وقام أسامة شفيعاً لها اشتد النبي على أسامة، ورد عليه بهذا الكلام: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يشتد على الناس تحكيماً لشرع الله جل وعلا، وكان يدخل على التجار؛ لأن هذا من الشرع، أي: المعاملة من الشرع ومن الدين، فيدخل عليهم عمر ويقول للتاجر: تعلمت البيوع؟ فيقول: لا، فيضربه بالدرة، ويقول: والله! ستقع في الربا لا محالة، وكان يذهب إلى أهله ويقول: إني آمر الناس بشيء فأنتم أول من تفعلوه، فإن تقاعستم جلدتكم.
وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه مطواعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، محكماً لشرع الله، يرى أن أمر الرسول لا بد له من النفاذ.
فالغرض المقصود: أن تنحية الشرع سبب ذلت الأمة، أخذت دستورها من الناس بدلاً من شرع الله جل وعلا، فحكمت القوانين الوضعية، فكانت النتيجة أنهم ذلوا وأهينوا وخسروا، والذي نفسي بيده! أن هذه الأمة لن تقوم لها قائمة إلا إذا رجعت إلى كتاب الله، وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم فحكمت شريعة الله، والله لا بالغناء ولا بالتمثيليات ولا بالمسرحيات، ولا بالعاطفة، ولا بالتبرعات، ولا حتى بالعمليات الاستشهادية إن كانت لغير الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو! لن تستمطر هذه الأمة رحمة الله ونصره حتى ترجع إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
ومن سمات هذه الأمة التي علقت الخيرية بها، أنهم كانوا أزهد الناس في الدنيا؛ عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وقوله: (الدنيا ملعونة معلون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه).
وكان عود الحصير يؤثر على جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(38/5)
إباحة الغنائم لرسول الله ولم تبح لأحد قبله
من الخصائص التي اختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه أحلت له الغنائم، ولم تحل لأحد قبله، فكان الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الغنائم، فإذا دخلوا معركة وغنموا فيها شيئاً فإن هذه الغنيمة كان لها موضع يضعونها فيه، وتنزل نار من السماء فتأكلها، وما كانت حلالاً لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فشرف الله النبي صلى الله عليه وسلم بأن أحل له هذه الغنائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي قبلي) وهذا فضل الله على هذا الرسول.(38/6)
جعل الأرض مسجداً وطهوراً للنبي وأمته
ومن الخصائص التي اختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم: أن جعل له الأرض مسجداً وطهوراً، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الأمم قبله ما كانوا يصلون إلا في البيع والصوامع، وليس عندهم مكان آخر يصلون فيه.
أما هذه الأمة فقد خصها الله جل وعلا بأن أي امرئ أدركته الصلاة في أي بقعة من بقاع الأرض -إلا المقبرة والحمام- وكان معه ماء يتوضأ ويصلي، وإن لم يكن معه ماء فالصعيد الطيب طهور له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو لم يجد الماء عشر سنين) فيتيمم ثم يصلي ولو عشر سنين، وهذه خصيصة ورحمة لهذه الأمة.(38/7)
نصر النبي على عدوه بالرعب
ومن الخصائص التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب، فكان ما يسمع أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعداء الله، بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجيش الجيوش حتى يغزوهم إلا وأسلموا له قبل أن يغزوهم.
قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] فهذه خصيصة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد زالت الآن من المسلمين وانقلب الحال، فنصر الكفار علينا بالرعب، ما أن تسمع في أي بلدة من البلاد الإسلامية بأن أمريكا أو روسيا تجيش الجيوش أو حتى فقط تتحرك في البحار إلا سلموا لهم المفاتيح والرجال والنساء، وسلموا لهم الأموال، فنصروا علينا بالرعب، فأذلنا الله جل وعلا؛ لأننا لم نفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فما منا أحد إلا ويلهث وراء الكراسي أو وراء الدرهم والدينار، عبد الناس الآن الدرهم والدينار، يقول عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).
وقال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] فأهل زماننا تمسكوا بهذا الهشيم، وبهذه الدنيا، فوضع في قلوبهم الرعب، والوهن، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.(38/8)
تسوية الصفوف من خصائص الأمة وتركه من أسباب الفشل
من الخصائص التي خص الله بها نبيه، وخص بها هذه الأمة: أن هذه الأمة تصطف كما تصطف الملائكة، وهذا أضعف شيء نتكلم فيه، فالأمة مهزومة الآن، أقسم بالله أن سبب هزيمة الأمة: هو عدم تسوية الصفوف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استووا لا تختلفوا فتختلف قلوبكم).
وقال: (لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم، أو قلوبكم).
فالأمة لا تستوي الآن كما كان يستوي الصحابة رضوان الله عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هذه الخصيصة له، فيقول: (فضلت على الأنبياء أنا وأمتي بأننا نصطف في الصلاة عند مقابلة الله، كما تسوى الملائكة، وقد كانت الملائكة تسد الفرج، وكانت تكمل الصف الأول فالأول، تسوى المنكب بالمنكب والكعب بالكعب).
فالأمة الآن لا تمتثل بهذا، حتى الإمام يقول: استووا رحمنا وإياكم، الله أكبر، فيكبر وليس له من الأمر شيء، وكأن الأمر لا يعنيه، أنا كنت أصلي بالناس في هذا المسجد، وأنا لا أستطيع أن أصلي حتى أرى أن الصف كله قد استوى: المنكب بالمنكب والكعب بالكعب، وأنا أسوي الصفوف إذ طلع علي رجل وقال: ما هذا؟ أترانا غنم، أنت تسوي غنم يا غنم، فقلت له: لستم غنماً لكني أفعل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فعدم استواء الصفوف هو سبب هزيمة الأمة، فالأمة الآن لا تهتم حتى بالسواك، ولا بأي شيء من أمور الشرع، فهذه الخصيصة التي أضعناها ضعنا معها وذلت الأمة معها.(38/9)
الشفاعة العظمى
آخر الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم: الشفاعة، ما من نبي إلا ويقول يوم القيامة: نفسي نفسي، يشتد الكرب، ويعظم الخطب، وتقرب الشمس قدر ميل من رءوس الخلق، والناس يلجمهم العرق كل بعمله، فمنهم: من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم: من يكون إلى ركبتيه، ومنهم: من يكون إلى حقويه، ومنهم: من يصعد إلى صدره، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وكل الناس يذهبون إلى آدم في هرولة وفزع، فيقولون: أنت أبو البشر، اشفع لنا أن يقضي الله بيننا، فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح، ونوح يقول نفس الكلام، اذهبوا إلى إبراهيم، وإبراهيم يحيل إلى موسى، وموسى يحيل إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام، فيأتي الناس إلى عيسى عليه السلام فيقول: اذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا لها، أنا لها).
وفي رواية يقول: (أمتي أمتي) لا يقول: نفسي نفسي، فيذهب فيسجد لله جلا وعلا، عند العرش فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهل له، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع، وهذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشفع لكل الأمم أن يقضي بينهم حتى يرفع عنهم الكرب، هذه آخر الخصائص التي نذكرها مما خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم.(38/10)
واجب الأمة نحو نبيها
إذا علمنا أن هذا النبي هو سيد الأولين والآخرين، وأنه أكرم على الله من أي أحد من الأنبياء، فيجب علينا نحوه عدة واجبات: أولها وأهمها بل لا يتم الإيمان إلا بها: هو محبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من النفس، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه وهواه).
وفي رواية: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.
فقال عمر يا رسول الله، أنت أحب إلي من الناس أجمعين، لكن من نفسي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يا عمر، فقال: الآن يا رسول الله، قال: الآن يا عمر) أي أن عمر قال: أنت أحب إلي من نفسي، فلا يستقيم إيمان المسلم حتى يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه، ولما أيقين الصحابة بذلك ضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية دون نبيهم، لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120] فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الغار أولاً خشية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسد كل فتحة في الغار، وما بقيت إلا فتحة واحدة فسدها برجله رضي الله عنه وأرضاه؛ خوفاً على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونام النبي صلى الله عليه وسلم على فخذه، حتى جاءت حية فلدغت أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، فخاف أن يوقظ رسول الله، فما خشي على حياته ولكن خشي على قلق رسول صلى الله عليه وسلم فما تحرك، حتى ذرفت عينه، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على رجله فبرئ رضي الله عنه وأرضاه.
وكان يمشي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخشى من العدو أن يأتي من الخلف فيذهب خلفه، ثم يذهب إلى اليسار وهكذا؛ لأنه يعلم أن شمس الإسلام ستشرق مع هذا الرسول الكريم.
وكذلك طلحة رضي الله عنه وأرضاه كان الرسول أحب إليه من نفسه فكان يقدم نفس النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، وكان يقول: يا رسول الله! لا ترفع رأسك يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! أي: نفسي مقدمة على نفسك، ولما اشتد الخوف وتعالت السيوف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى بسيفه، وصد السيوف بيده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شلت يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء أبو بكر وعمر: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: أوجب الجنة بما فعله فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من صحابي إلا ويقول: فداك نفسي، فداك أبي وأمي يا رسول الله! حتى المرأة قيل لها: مات ابنك فتقول: ماذا فعل رسول الله؟ فرسول الله مقدم على أنفسهم.
وفي عصرنا هذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقدمه على نفسك بتقديم السنة عليها، والله! لو هددت أن تفصل رقبتك عن جسدك حتى تبتدع في دين الله فلا تفعل، بل فضل سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هواك وعلى البدعة.
ثانيها: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
وقال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
وقال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32] وكل آية فيها طاعة لله جل وعلا يقترن فيها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وواجبنا نحو النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى محاضرات.(38/11)
أوجه الاتفاق والافتراق بين المعجزة والكرامة
المعجزة والكرامة اتفقا وافترقا فما هي مواضع الاتفاق وما هي مواضع الافتراق؟ اتفقنا: في خرق العادة، وافترقا: في أن المعجزة يتحدى بها النبي أمته؛ تبييناً لصدق رسالته، وأما الكرامة: فلا يستطيع الولي أن يتحدى بها الناس ويقول: أوحي إلي، وإلا أصبح كذاباً.
لكن المعجزة لم يطلبها النبي، وإنما أيده الله بها حتى يبين صدقه عند قومه.
فالمقصود: اتفقا في خرق العادة، وافترقا في أن المعجزة يتحدى بها، والكرامة لا يتحدى بها.(38/12)
بعض الكرامات التي حدثت للأولياء
هناك كرامات حدثت لأولياء الله الصالحين في عصر النبي، لما كانوا أولياء لله جل وعلا بحق.
منها: أن أسيد بن حضير رضي الله عنه وأرضاه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء، وهذا يبين أن السمر بعد العشاء لا يجوز باللهو، إلا إذا كان الرجل مع امرأته، أو كان يتكلم في مصالح المسلمين وإلا فالسمر مكروه.
فـ أسيد بن حضير كان عند النبي صلى الله عليه وسلم واشتدت الظلمة، فخرج في ظلام دامس، فكان معه عصا، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم -أي: أنه كان يتكئ على عصا- وكان كل صحابي يتمسك بهذه السنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد ومعه عصا ينكت بها، فأنارت العصا أمامه -أي: أمام أسيد - حتى وصل إلى بيته، وقيل: في رواية: كان معه صحابي آخر، وكان معه عصا فأنارت عصا هذا وعصا هذا بنور مشرق، حتى افترقا، فلما افترقا انقسم النور نصفين، نور مع أسيد بن حضير ونور مع الآخر.
ومن الكرامات أيضاً: كرامة لـ عمران بن حصين رضي الله عنه وأرضاه، فقد كانت الملائكة تذهب إليه فتسلم عليه، قال: فلما اكتويت انقطعت عني الملائكة؛ لأن الاكتواء ينزل المرء من درجة التوكل العليا إلى درجة أقل، فلا يكون من السبعين الألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب.
قال: فلما انقطعت عن الاكتواء رجعت الملائكة فسلمت علي.
ومن الكرامات أيضاً: كان عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أضياف، فكان يضع لهم الطعام فلا يأكلون لقمة إلا وتنبت تحتها غيرها، فكلما أكلوا ازداد الطعام.
ومن الكرامات: ما حدث لـ سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما كان في الجيش وكاد أن يظل رأى أسداً فقال له: يا أبا الحارث -كنية الأسد- إني سفينة مولى رسول الله، دلني على الجيش.
فتحرك ذنب الأسد فأخذه حتى وصل به إلى الجيش، فلما وصل سفينة نظر الأسد إليه، وكأنه يسلم على سفينة، ثم رحل.
من الكرامات أيضاً: ما حدث لـ عمر بن الخطاب وهو يخطب في المدينة، فكشف الله له الحجاب فوجد سارية والجيش معه، وقد أحاط الروم بهم فقال: الجبل الجبل يا سارية! فبلغ الصوت إلى سارية، فأخذ سارية الجيش، أي: يتراجع إليه، فجعلوا الجبل خلف ظهورهم، فهزموا الروم.
فلما رجعوا بعد شهر قالوا: والله! لقد كدنا أن نهزم شر هزيمة فسمعنا صوتاً يقول: الجبل الجبل يا سارية! فلما احتمينا بالجبل هزمناهم، وكان الانتصار لنا كرامة؛ لأنهم صدقوا الله فصدقهم، ولأنهم اعتزوا بدين الله فعزهم الله، وائتمروا بأمر الله، وتمسكوا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فرفعهم الله جل وعلا.
أعجب من هذا في الكرامات: ما حدث لـ سعد بن أبي وقاص عندما هجم على فارس، وكان المخطط: أن عمر بن الخطاب هو الذي يخرج بالجيش إلى فارس من أجل أن يقضي على عرش كسرى، فاستشار الصحابة فأشاروا عليه: أن تخرج واحداً من الصحابة ولا تخرج أنت، من أجل أن يكونوا حماية لك؛ لأنك أمير المؤمنين، فأخذ بهذه المشورة وقال: نؤمر عليهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فأتمر سعد بن أبي وقاص وخرج بالجيش إلى أهل فارس، وكان بينهم وبين الصحابة نهراً، فجلس سعد بن أبي وقاص كثيراً فقال: يا سلمان! أرشدنا -لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين بـ سلمان في مثل هذه الأحداث- قال سلمان: دعني ثلاثة أيام، فمر سلمان على الجيش ينظر فإذا به يجدهم يقيمون الليل ذكراً لله جل وعلا، ويقرءون القرآن كدوي النحل، وبالنهار يتدربون، أو صيام -أي: منهم الصائم ومنهم الذي يتدرب- ومنهم الذي: يذكر الله جل وعلا، ومنهم الذي يجهز خيله، فلما نظر في القوم قال: هؤلاء القوم النصر حليفهم، نظرت إلى قوم موسى فرأيتهم لا يدانون هؤلاء القوم، ورأيت الله جل وعلا قد شق لهم البحر نصفين كالطود العظيم، ومشوا في البحر، وإن هذه الأمة أفضل من أمة موسى، وإني أقول: اعبر البحر بخيولك وتوكل على الله يا سعد! وإن الله سيجعل النصر حليفك.
فقام سعد خطيباً في الناس، فقال: أيها الناس! انظروا إلي فإذا نزلت إلى الماء فكبروا وانزلوا ورائي، فأخذ فرسه وقال: باسم الله، الله أكبر، فمشى بخيله على الماء، فكبر الجيش فمشوا بالخيول على الماء، كأنهم يمشون على الأرض، فكان الخيل كلما تعب أنشأ الله له ربوة فاستراح عليها، ثم بعد ذلك يكمل المسير، حتى عبروا النهر، ودخلوا وأخذوا سواري كسرى، وحملوه على جملين من بلاد ما وراء النهر، وذهبوا به إلى الحجاز إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
فكانت لهم مثل هذه الكرامات لأنهم امتثلوا لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فسادوا الأرض.
أما الآن فهل يمشي أحد على الماء، أو يذهب إلى شارون دون أن يراه أحد؟ لن تجد.
بل هل تجد حتى دون الكرامات، فهل يرفع المرء يده فيستجاب له؟ لا يستجاب له، أقول والله! إن من أسباب هذا: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر) فإن سكتنا يرفع خيارنا أكف الضراعة إلى الله جل وعلا فلا يستجاب لهم، قال الله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، ولكنها تصيب الكل.
فأمة لا تعرف قدر نجاتها، لن تأتِ الكرامات لها، هؤلاء عرفوا قدر الرجال امتثالاً لقول الله تعالى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] فالله جل وعلا يعطي كل ذي قدر قدره، وكل ذي فضل فضله، ولذلك جعل الجنة درجات ومنازل؛ من أجل أن يفرق بين الناس، فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، وقال سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، والصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم كانوا ينزلون الناس منازلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم بالقول وبالفعل، فقدَّم أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه في مرض موته وقال: (مروا أبا بكر) فلما قالت له عائشة: إنه رجل بكاء، قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، إنكن صويحبات يوسف) أي: تقلن شيئاً، وتضمرن غير الذي تقلن، فقال: مروا أبا بكر؛ لأنه يعلم أن أبا بكر هو الذي يستحق هذه.
وأبو بكر نفسه كان يعلم أصحاب الفضل فيؤت كل ذي فضل فضله، وينزل الناس منازلهم، وهو حتى على مرض الموت.
فكتب يستخلف عمر فقام الناس فقالوا: يا أبا بكر، تجعل علينا هذا الشديد! ماذا تقول لربك إذا سألك؟ قال: لو سألني ربي أقول: جعلت عليهم خيرهم، وأتقاهم.
فكان يعرف لكل ذي فضل فضله، فلما أنزل الناس منازلهم، أنزله الله جل وعلا منزلته وجعله فوق البشر.
ووقف أبو سفيان وسهيل بن عمرو -سادة قريش على الإطلاق- على الباب ينتظرون الإذن من عمر وبلال نائم في بيته، ثم جاء بلال بعدما وقفوا ساعة، فلما علم عمر أن بلالاً على الباب قال: ائذنوا لـ بلال، فدخل بلال، فقال أبو سفيان: العبد الأسود يدخل، ونحن سادة قريش نقف على باب عمر، فقال سهيل بن عمرو وكان حكيماً: سبقك إلى الإسلام فسبق إلى المكان، فقام عمر يبين مكانة بلال فقال: بلال سيدنا، بلال العبد الأسود يقول عنه عمر الفاروق خير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر: سيدنا، عرفوا منازل الناس فعرف الله جل وعلا لهم منزلتهم، وآتاهم من فضله فرفعهم على البشر.
نسأل الله جل وعلا أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يجعلنا ممن يتمثل بكتاب الله، وبسنة نبيه، وأن ننزل الناس منازلهم عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل).(38/13)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - سياق ما روي عن النبي في دعائم الإيمان وقواعده
كل من أتى بكلمة التوحيد، واعتقد معناها، وعمل بمقتضاها، واجتنب نواقضها فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا، ثم إن زاد في أعمال البر والإحسان ارتفعت درجته وزاد إيمانه، وإن عصى بأي نوع من أنواع المعاصي مما لا يخرجه من الإسلام كتلك النواقض العظام، فقد نقص إيمانه عند ذوي العرفان، ثم يعذب في النار على قدر معاصيه ومآله إلى الجنان، لا كما تقول المعتزلة والخوارج من كونه بعصيانه مخلداً في النيران، فهذا ادعاء ترده السنة والقرآن.(39/1)
جماع الكلام في الإيمان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوتي الكرام، مع باب جديد في كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهناك معترك دامٍ بين أهل السنة والجماعة وبين أهل الفرقة والضلالة.(39/2)
تعريف الإسلام لغة وشرعاً
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [جماع الكلام في الإيمان.
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن دعائم الإيمان وقواعده: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان].
الإسلام لغة: الاستسلام المحض، والإذعان والخضوع التام لله جل وعلا، قال الله مادحاً إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] وذلك لأنه استسلم وانقاد لأوامر ربه سبحانه، ثم قال: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: استسلمت الاستسلام المحض لله جل وعلا، ولذلك لما أوحى إليه ربه أن يذبح ابنه قال: سمعت وأطعت، فقال تعالى مخبراً عنه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فكان الخضوع التام من إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وقد جمع الله تعالى بين الاستسلام والإحسان فقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] فالاستسلام والخضوع التام أصل من أصول الإحسان في عبادة الله جل وعلا.
ويبين تعالى أن كل ما في السماوات والأرض قد خضع واستسلم استسلاماً تاماً له جل وعلا، فقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83] وهذا هو الخضوع التام لربوبية الله جل وعلا.(39/3)
معنى الإسلام منفرداً عن الإيمان ومقترناً به
وأما الإسلام شرعاً فله معانٍ كثيرة؛ لأن الإسلام يذكر في كتاب الله جل وعلا منفرداً ومقترناً.
فإذا أطلق الإسلام في الكتاب منفرداً كان معناه الدين كله بمراتبه الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] فالإسلام هنا يقتضي الإسلام والإيمان والإحسان، وأيضاً قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فهاتان الآيتان أثبتتا أن الله تعالى إذا ذكر الإسلام في كتابه منفرداً فإنه يكون بمعنى الإيمان والإحسان جميعاً.
ويذكر الإسلام مقترناً كذلك، وكثيراً ما يقترن بالإيمان، فإذا اقترن الإسلام بالإيمان كان للإسلام معنى وللإيمان معنى، فإذا ذكر الإسلام مقترناً بالإيمان قصد به الأعمال الظاهرة أي: أعمال الجوارح من ركوع وسجود وصدقة وزكاة وحج، فكل هذه من أعمال الجوارح، ودليل ذلك أوضح ما يكون في كتاب الله، قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، فخص القلب بالإيمان، وقال: ((قُولُوا أَسْلَمْنَا)) فالإسلام هو قول اللسان، واللسان من الجوارح، فإذا اقترن الإسلام بالإيمان كان بمعنى الأعمال الظاهرة.
وأشهر من ذلك في الدلالة حديث جبريل المشهور: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أخبرني عن الإسلام، قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة) إلى آخر الأعمال الظاهرة، ولما سأله عن الإيمان ذكر له الأعمال الباطنة.(39/4)
تعريف الإيمان لغة وشرعاً
أما الإيمان فيأتي في اللغة مطلقاً بمعنى التصديق، قال الله تعالى حاكياً عن إخوة يوسف: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:16 - 17] يعني: ما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين.
وله في اللغة معانٍ كثيرة، وأهل البدع يتمسكون بهذا التعريف فقط كما سنبين.
والإيمان يتعدى بنفسه، ويتعدى باللام، ويتعدى بالباء، فإذا تعدى بنفسه فمعناه: التأمين، أي: من الأمان، تقول: أمنته، ضد خوفته، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد).
والإيمان أيضاً مشتق من اسم الله جل وعلا (المؤمن)، والمؤمن اسم من أسماء الله جل وعلا، يتضمن صفة كمال وهي صفة الأمن، بمعنى: أن الله جل وعلا اسمه (المؤمن)؛ لأنه يؤمن عباده من الخوف والفزع يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، فهذا هو مقتضى اسم الله المؤمن.
ويتعدى الإيمان كذلك بالباء، فتقول: آمنت بالله أو آمنت برسول الله، قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:136] إلى آخر الآيات.
ولما جاء الرجل يستنصح النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، فتعدى الإيمان بالباء، وصار معناه: التصديق، قال تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)) أي: صدقنا بالله، بمعنى: صدقنا بوجود الله جل وعلا، وأنه مستو على عرشه، وآمنا بربوبية الله، وأنه خالق رازق مدبر آمر ناهٍ، وصدقنا بأن لله أسماء حسنى وصفات عُلى، وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق إلا هو سبحانه، ومعنى آمنت برسول الله: أي: صدقت بأنه مرسل من قبل الله جل وعلا، وصدقت برسالته التي أوحيت إليه.
ويتعدى باللام الإيمان -وهذا النوع مهم جداً- قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، فجاء بمعنى الاتباع، فلو تعدى الإيمان باللام كان معناه الاتباع والانقياد، قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} فلم يتبع أحد إبراهيم عليه السلام في دعوته إلا لوط عليه السلام، {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]، فتقول: آمنت لله أي: أذعنت وخضعت وانقدت لأحكام الله ولأوامره، ولا يمكن أن أعترض على أمر من أوامره سبحانه، وآمنت لرسول الله أي: اتبعت الرسول فلا أتعبد عبادة إلا وأنا متبع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأجمل الشافعي معنى الإيمان بمعانيه الثلاثة في كلمة واحدة، فقال: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، وعلى مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، وعلى مراد رسول الله.
أما تعريف الإيمان شرعاً: فهو التصديق المقرون بالانقياد والإذعان، فالتصديق المقرون بالانقياد والإذعان، فيه دلالة على أن من وقر في قلبه إيمان فلا بد أن يتضح على ظاهره.(39/5)
معنى الإيمان عند انفراده عن الإسلام واقترانه به
ويأتي الإيمان أيضاً منفرداً ومقترناً، فإذا جاء الإيمان منفرداً كان معناه كلية الدين مثل الإسلام تماماً، ولو جاء مقترناً كان له معنى آخر غير المعنى الظاهر، وهو المعنى الباطن، ودليل ذلك قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] فهذه أعمال باطنة.
ثم قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3] فهذه أعمال ظاهرة.
إذاً: فهذه الآية أثبتت أن الإيمان إذا انفرد كان بمعنى الدين كله ظاهراً وباطناً.
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم أن تؤمنوا بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، ثم قال: وتؤدوا الخمس من المغنم).
فهذه أعمال ظاهرة أيضاً، فإذا أطلق الإيمان دخل معه الإسلام والإحسان؛ لأنه مرتبة من مراتبه، أما إذا اقترن بالإسلام فيدل على الأعمال الباطنة فقط، قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وفي مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)، وفي حديث جبريل المشهور: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن -أي: بالقلب- بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره).
وفي رواية أخرى (قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله).
إذاً: فالإيمان إذا اقترن بالإسلام كان معناه الباطن.(39/6)
العلاقة بين الإسلام والإيمان
إذا عرفنا تعريف الإسلام والإيمان لغة وشرعاً فإنه يستلزم منا أن نبين العلاقة بين الإسلام والإيمان، فالإيمان والإسلام بينهما عموم وخصوص من وجه، بمعنى أن الإيمان أعم من جهة ذاته، والإسلام أعم من جهة ناسه، فالإيمان في نفسه إسلام وزيادة، والإسلام أعم من الإيمان من جهة ناسه؛ لأن المسلمين كثيرون والمؤمنين قلة.
والإيمان هو ما وقر في القلب ولكن لابد أن يصدقه العمل بالجوارح، فإذا صلح القلب صلح الجسد وصلحت الجوارح.
أما الإسلام في ذاته فهو الأعمال الظاهرة فقط، كقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله جل وعلا) فالإسلام أعمال ظاهرة فقط، أما الإيمان فباطن، لكن الأعمال الظاهرة ترتبط به، فكل مؤمن مسلم ولا عكس؛ لأنه قد يكون مسلماً لكنه منافق في الباطن، والعياذ بالله.
إذاً: فالإسلام والإيمان بينهما عموم وخصوص، فالإيمان أعم من جهة ذاته والإسلام أعم من جهة ناسه، ويرتبطان بارتباط وثيق جداً، فلا انفكاك بين الإسلام والإيمان، فإن المسلم لا يقبل إسلامه عند ربه جل وعلا إلا إذا كان معه أصل الإيمان وأصل التصديق وأصل الانقياد القلبي، وأيضاً المؤمن لا يقبل عند ربه إلا إذا كان معه أصل الإسلام وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وشيء من أعمال الجوارح كما سنبين.(39/7)
القائلون بأن الإسلام والإيمان شيء واحد وأدلتهم والرد عليها
هذا الذي تقدم من العلاقة بين الإسلام والإيمان هو ما عليه جمهور أهل العلم، بخلاف البخاري وطائفة من أهل العلم فإنهم قالوا: بل الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان ولا فرق بينهما.
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة جداً، وأقوى هذه الأدلة هو قول الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] فذكر الإيمان أولاً ثم ذكر في نهاية الآية الإسلام مع أن البيت واحد وهو بيت لوط عليه السلام، فدل على أن الإيمان يساوي الإسلام، والإسلام يساوي الإيمان ولا فرق بينهما، والرد عليهم من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: اختلف الأصوليون فيما إذا اختلف المقطوع به مع المظنون به، فما الذي يقدم؟
و
الجواب
يقدم المقطوع به طبعاً، وعندنا أدلة قاطعة بنص صريح أن الإيمان يختلف عن الإسلام كما في الحديث الصحيح: (جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة) إلى آخر الأعمال الظاهرة، قال: (فأخبرني عن الإيمان) وما أحاله على الإسلام، وهذا فرق قاطع بينهما بنص قاطع فقال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته) وهذه أعمال قلبية.
وهذه الآية الكريمة التي استدل بها الإمام البخاري وغيره التأويل فيها محتمل، فيكون دليلهم مظنوناً لا مقطوعاً، وحديث جبريل نص قاطع فيقدم المقطوع على المظنون.
الوجه الثاني: نقول: وإذا رددنا عليك بأن المقطوع يقدم على المظنون، وأن عندنا تفسيراً لهذه الآية: فأول تأويل فيه أننا نقول: إن كل مؤمن مسلم ولا عكس، فإن كان مؤمناً متصفاً بالإيمان صح وصفنا له بالإسلام، فيكون في الآية الأولى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] الذين هم بيت لوط عليه السلام، وقوله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] هم بيت لوط عليه السلام أيضاً، فلما كان وصفهم في لفظ الآية بالإيمان فمن باب أولى أن يصفهم بالإسلام.
والوجه الثالث: نقول: إن المؤمنين في الجزء الأول من الآية هم أناس معينون، والمسلمون في آخر الآية هم أناس آخرون، قال تعالى في الآية الأولى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] أي: لوط وبناته، فهم الذين آمنوا بالله جل وعلا واستسلموا له ظاهراً وباطناً، وهم المؤمنون الخلص، وقال في الثانية: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] فخرجت زوجة لوط عليه السلام من الآية الأولى؛ لأنها لم تكن من المؤمنين الخلص كلوط وبناته، وناسب دخولها في الآية الثانية من حيث الظاهر؛ لأن المقصود بالإسلام فيها الشعائر والأعمال الظاهرة فقط، وبهذا يتضح جلياً أن هناك فرقاً بين الإسلام والإيمان وليس كما قال الإمام البخاري وغيره من أهل العلم رحمهم الله تعالى.
إذاً: فالصحيح الراجح أن هناك فرقاً بين الإيمان والإسلام، وأن الإيمان أعم من الإسلام.(39/8)
أقوال السلف في الإيمان
قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أن الإيمان قول وعمل واعتقاد.
وقال الشافعي: كل من أدركتهم من التابعين وتابعي التابعين يقولون: الإيمان قول وعمل ونية.
وقال الثوري: الإيمان قول وعمل وقصد واعتقاد.
أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد أجمل وقال: كل هذه التعريفات تساوي تعريف أن الإيمان قول وعمل، أي: قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالجوارح، وعمل بالقلب.
قوله: (قول باللسان) أي: كأن تقول: لا إله إلا الله، فلا يمكن أن تدخل في دائرة الإسلام حتى تشهد أن لا إله إلا الله، إلا الأخرس، فإن الإشارة تقبل منه، لكن إذا كان يستطيع النطق والكلام فإن الإسلام لا يقبل منه بحال من الأحوال إلا أن يقول: لا إله إلا الله، حتى وإن أقر في قلبه بالإيمان، قال الله تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)) يعني: قولوا باللسان.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا -أي: باللسان-: لا إله إلا الله).
ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه وهو على فراش الموت (قال: يا عم! قل: لا إله إلا الله -أي: باللسان- كلمة أحاج لك بها عند الله جل وعلا) فلا إله إلا الله هي قول اللسان.
أما القول الثاني فهو قول القلب: وهو التصديق التام والانقياد والإقرار والإذعان لله جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33].(39/9)
شبهة والرد عليها
لو قيل: من كان مصدقاً بقلبه لكنه لم ينطق بشهادة الحق بلسانه، فإنه يعتبر في الآخرة مؤمناً، بدليل قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] وقوله صلى الله عليه وسلم عن مضغة القلب: (إذا صلحت صلح الجسد كله) فهل هذا الكلام صحيح؟
الجواب
من كان كما ذكر يعتبر كافراً في الدنيا فيقتل مثل الحربي، وهو في الآخرة في جهنم خالد مخلد فيها أبداً، وأوضح مثال هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعتقد أن دين النبي صلى الله عليه وسلم خير الأديان، فقال: لولا الملامة لأقررت بها عينك، فمنعه الكبر الذي في قلبه أن ينطق بكلمة التوحيد، وقال: والله لا يعلو استي بحال من الأحوال، فهو في ضحضاح من النار خالداً مخلداً فيها أبداً.
وكان إبليس أيضاً من أشد الناس إيماناً بالوعد والوعيد، ومن أشد الناس إقراراً بربوبية الله جل وعلا، فقد قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]، فقد كان مقراً في قلبه، ومع ذلك لم ينفعه هذا الإقرار فهو في جهنم خالداً فيها أبداً.
وقال الله تعالى عن فرعون ومن معه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
إذاً: فإقرار القلب وتصديقه إن لم يصاحبه تلفظ باللسان فلا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأيضاً: لابد مع اعتقاد القلب من عمله وعمل الجوارح، فعمل الجوارح: كالذكر وقراءة القرآن والركوع والسجود والصدقات والزكاة، وعمل القلب: كالاتباع والتوكل والإخلاص والمحبة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(39/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أقوال أهل العلم والسلف في الإيمان
الإيمان بالله تعالى ليس مجرد كلمة يقولها الشخص، أو اعتقاد يعتقده في قلبه دون أن تصدقه جوارحه، إنما الإيمان قول وعمل واعتقاد، فكل إناء بما فيه ينضح، فإن كان القلب مؤمناً حقاً فإن أثر ذلك سوف يظهر على جوارحه، ولنعلم أن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، وإنما ما وقر في القلب وصدقه العمل.(40/1)
المراد بالإيمان عند السلف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني الكرام، ما زلنا مع الإسلام والإيمان والعلاقة بينهما، وندخل بإذن الله في مسائل مهمة جداً في الإيمان.
وقد تكلمنا سابقاً عن معنى الإسلام والإيمان لغة وشرعاً، والعلاقة بينهما، وقلنا: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا!! أي: إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى، وإذا افترقا في الذكر اجتمعا في المعنى، بمعنى: أن الإسلام والإيمان إذا جاءا معاً كان للإسلام معنى وللإيمان معنى آخر، فمعنى الإسلام: الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة، أي: الأعمال القلبية، كما جاء في بعض الأحاديث، وإن كان في إسناد بعضها كلام، فالإسلام يكون علانية والإيمان في القلب، وقلنا: إن بينهما عموم وخصوص، فكل مؤمن مسلم ولا عكس، فالإيمان عام في ذاته وخاص في ناسه، وأما الإسلام فعام في ناسه خاص في ذاته.
والآن -إن شاء الله- نتكلم بالتوسعة عن أقوال أهل العلم والسلف في الإيمان: قلنا: إن ابن عبد البر نقل إجماع أهل العلم من السلف الصالح أن الإيمان قول وعمل، ورووا عن الشافعي أنه قال: قول وعمل ونية، وعن الثوري: قول وعمل ونية واعتقاد، وقال ابن عيينة: قول وعمل واعتقاد وسنة، وقلنا: معنى قول أهل العلم: قول وعمل، أي: قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح.
فقول اللسان نحو: لا إله إلا الله، قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل أمنت بالله ثم استقم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)، أي: حتى يقولوا بألسنتهم، ويشهدوا أن لا إله إلا الله، وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (يا عم! قل كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله)، وهذه الكلمة هي: لا إله إلا الله، فهذا هو قول اللسان.
أما قول القلب: فهو الإقرار والتصديق، أي: بأن تستيقن في قلبك أن الله هو الخالق الرازق المدبر الآمر الناهي السيد المطاع، أنه لا معبود بحق إلا الله، ولا مستحق للعبادة على الإطلاق أحد إلا الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وقال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15].
أي: لا شك دخل في قلوبهم، بل آمنوا بيقين تام وأقروا بربوبية الله وألوهيته، جل وعلا.
وأما وعمل القلب: فهو الإخلاص، وهو أصل أعمال القلوب، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقال صلى الله عليه وسلم، كما جاء كل ذلك في الصحيحين: (عن الله جل وعلا أنه قال: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، نعوذ بالله من الشرك ومن أدنى الرياء.
ومن أعمال القلوب: التوكل، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
ومنها: المحبة، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وليس هذا موضع البسط في الأعمال القلبية.
وأما عمل الجوارح، فكالصلاة والصيام، قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، أو (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، قراءتان صحيحتان.(40/2)
أصناف الناس بالنسبة لتعريف الإيمان
فهذا هو مجمل الكلام بالنسبة لتعريف السلف للإيمان، أي: أنه قول وعمل، والناس بالنسبة لهذا التعريف على أربعة أصناف: الصنف الأول: من توفر عنده قول القلب، فاستقر في قلبه يقيناً وجزماً أن الله هو الخالق الرازق المدبر الآمر السيد المطاع، الناهي المستحق للعبادة وحده، لكنه لم يتلفظ بلسانه، ولم ينقد بجوارحه ولا بقلبه، فهذا الصنف، هو كافر ظاهراً وباطناً، نحاربه حتى يقول: لا إله إلا الله أو يدفع الجزية، وفي الآخرة هو خالد مخلد في نار جهنم؛ لأنه استيقن في قلبه وجحد ولم ينقد بجوارحه.
مثال ذلك: عم النبي صلى الله عليه وسلم، هو أول الأمثلة التي تقال في هذا الباب، فإنه استقر في قلبه يقيناً بأن دين النبي صلى الله عليه وسلم هو خير الأديان، وأن النبي صلى الله عليه سلم صادق مصدوق، وأنه يوحى إليه، وأن الله هو المستحق للعبادة، وأن هذا الدين هو أفضل الأديان على الإطلاق، ومع ذلك لم ينقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم لا لشرع الله، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه في ضحضاح من نار جهنم.
المثل الثاني الذي يبين لنا أن من استقر في قلبه يقيناً بالربوبية والإلهية وصدق بالرسول ولم ينقد له أنه من أهل النار: هو الوليد بن المغيرة، فقد جلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فلما سمع القرآن قال لـ أبي جهل: والله لقد جلست مع الشعراء وليس هذا بشعر، وجلست مع الكهنة وليس هذا بتكهن، ومدح القرآن بالكلمات المشهورة المعلومة عنه، فكان أبو جهل يعلم أن هذا الرجل يحب المال، انظروا إلى الذي استحب الدنيا على الآخرة، وقدم الدراهم المعدودة الفانية على الآخرة الباقية، فقال أبو جهل: يا عم أو يا خال، قد رجعت من عند الناس، وقد جمعوا لك الأموال حتى تتكلم لنا في محمد، أو تقول فيه قولاً، فقال القول المشهور، كما جاء ذلك في سورة المدثر: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18 - 25]، فقال الله تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]، عقاباً له؛ لأنه استيقن بقلبه أن هذا الكلام هو كلام الله، وليس من الشعر ولا من الكهانة في شيء، ومع ذلك طمس الله على قلبه، وطمس بصيرته، نعوذ بالله من ذلك، فإذا ختم الله على قلب أحد فقد انتهى أمره، وكانت نهايته إلى بوار، ولو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوه أو يهدوا قلبه فلن يفعلوا ذلك؛ لأن الأمر بيد الملك المقتدر.
المثل الثالث: أبو جهل نفسه، وإن وردت القصة التي سأذكرها لكم بأسانيد ضعيفة، لكنها تبين ما لـ أبي جهل من حقد دفين، وحسد كبير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: والله إني لأعلم أنه لصادق - أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- وأعلم أنه نبي، لكن كنا وبنو هاشم-يعني: نحن وبنو هاشم -كفرسي رهان، نتسابق في العلو والمنزلة والشرف، يقولون: منا كذا، ونقول: منا كذا، فقالوا: منا نبي، فأنى يكون لنا نبي، والله لا نصدقه أبداً.
فهذا يدل على الحقد الدفين الذي في قلبه، فقد استيقن بصدق الرسول، ومع ذلك جابه الرسول وقاتله قتالاً عنيفاً، وصدق فيهم قول الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، نعوذ بالله من ذلك، فقد استقر في قلوبهم الحق ولكن لم ينقادوا له.
ورئيسهم في ذلك -وهو آخر مثل نضربه-: هو إبليس عليه لعنة الله، فقد استقر في قلبه بأن الله أمره أمراً، وهذا الأمر فيه مصلحه له، لكن الكبر والعناد جعلاه لم ينقد لله جل وعلا، وهو يعلم أن الله جل وعلا أمره بذلك ليختبر انقياده لأوامره جل وعلا، فإن هذا الأمر كان لتشريف آدم، لكن الأصل هو أن الله جل وعلا أراد أن يكشف المعلوم في إبليس، كما قال ابن كثير في تفسير قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، قال: يعلم الله من إبليس أنه يجحد أمره وأنه يتكبر، فابتلاه بالسجود، فإبليس كان مستيقن بربوبية الله جل وعلا، وكان مستيقن بأن الرسول الذي بعث في الأمة حق، ومع ذلك يغوي الناس، وجحد بآيات الله جل وعلا.
الصنف الثاني بالنسبة للإيمان: صنف أتى بقول اللسان، بل وانقاد بالجوارح، ولكن خلا قلبه من التصديق من الانقياد، نعوذ بالله أن نكون كذلك، وهؤلاء هم المنافقون، وقد وصفهم الله بقوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، شك كبير، كما قال تعالى حاكياً قولهم: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [هود:62]، وقال عنهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143].
فهؤلاء لهم ما لنا وعليهم ما علينا، في الدنيا، أي: أن لهم الأمان، وعصمة الدم، وعصمة المال، والغنائم والفيء تقسم عليهم، ولهم المناكحة منا والتوارث، ولنا المناكحة منهم والتوارث، ولكن في الآخرة هم في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].
فهؤلاء توفر فيهم قول اللسان، فقد قالوا: لا إله إلا الله، وكثير من الناس ممن تتعايشون معهم، قد طفح النفاق من قلوبهم، ونضح حتى في أعينهم، وعلى ألسنتهم بالكلام، فهؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، بل وانقادوا، فهم يصلون معنا، ويستقبلون قبلتنا، ويذبحون كما نذبح، ويسبحون كما نسبح، وينفقون كما ننفق، وهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى الله جل وعلا، وإذا خلوا إلى بمحارم الله انتهكوها، وهم لا يقومون إلى الصلاة إلا كسالى، قال الله عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:8 - 9]، وقال في آية أخرى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
الصنف الثالث بالنسبة للإيمان -الذي هو قول وعمل-: أناس توفر فيهم قول القلب، وهو التصديق والإقرار، وتوفر فيهم قول اللسان، لكن لم تنقد الجوارح ولم ينقد القلب، فقالوا: لا إله إلا الله باللسان، أقروا وبالقلب بأنه لا معبود بحق إلا الله، فهؤلاء هم الذين حدث فيهم الاختلاف، وهؤلاء هم الذين ندخل مع أهل البدع المعترك الدامي في الخلاف فيهم: هل هم مسلمون أم منافقون أم كفار؟ وسوف نرجئ هذا الخلاف العريض حتى نتكلم عن مرجئة الفقهاء، وكيفية نرد عليهم.
الصنف الرابع: هؤلاء الذين حباهم الله ومنحهم: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، منحهم الله قول اللسان، وقول القلب: التصديق والإقرار، وعمل الجوارح، وعمل القلب أيضاً، وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام، وجاء تقسيمهم هذا في آية واحدة من كتاب الله، وهي قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]، فأكثر المفسرين قالوا: الظالم لنفسه: هو الذي اقترف الذنوب والآثام، ومع ذلك هو مقر بخطيئته، ويعمل عملاً صالحاً.
والمقتصد: هو الذي أدى الفرائض، وترك المحرمات ولم يرتق بالسنن.
أما السابقون بالخيرات: فهم الذين أدوا الأوامر والفرائض، وارتقوا بالنوافل المطلقة والنوافل الراتبة، وانتهوا عن المحرمات.
هذا تفسير أكثر المفسرين لهذه الآية، لكن عائشة رضي الله عنها وأرضاها فسرت الآية بطريقة أخرى، بأن السابق للخيرات: هو الذي ينفق ويصلي ويصوم، وقلبه وجل أن لا يقبل عمله عند الله جل وعلا، أي: يخشى من مكر الله جلا وعلا.
والمقتصد: هو الذي يسارع أيضاً في الخيرات لكن أقل من الأول، ثم قالت لـ عروة: أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، هذا الكلام تقوله عائشة رضي الله عنها وأرضاها لـ عروة، الذي يعتبر أحد الفقهاء السبعة، وهو أكثر من روى عن عائشة، وهو الذي وقف أمام الكعبة وقال: اللهم اجعل الناس تحمل عني الحديث، فحمل الناس عنه الحديث، وكان من الفقهاء المعدودين، ومع ذلك قالت له عائشة: أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك، نسأل الله العفو والعافية.
نحن الآن في زمن الذي يصلي فيه الفرائض ويجتنب المحرمات دون المكروهات، ويترك النوافل، فهذا من أولياء الله الصالحين، فبحق: نحن أصلاً نحتقر أنفسنا أمام القوم الذين سبقونا، نسأل الله جل وعلا أن لا يفضحنا أمامهم.
المقصود: أن الصنف الرابع من أهل الإيمان هم المؤمنون الذين توفر فيهم قول اللسان وقول القلب، وعمل الجوارح وعمل القلب، ولابد أن نعرف العلاقة بين عمل الجوارح وعمل القلب؛ لكي نقوى على فهم الخلاف فيما بعد، فإن هذه العلاقة إما علاقة تباين، أي: لا توجد علاقة بينهما، وإما علاقة تلازم وارتباط وثيق، بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا زال عمل القلب زال عمل الجوارح، وكل إناء بما فيه ينضح، إن كان فيه خير نضح بالخير، وإلا فلا، والعلاقة بحق: هي علاقة تلازم وارتباط، وعلى ذلك أدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف.(40/3)
أدلة التلازم الوثيق بين عمل القلب وعمل الجوارح
الأدلة على أن التلازم وثيق بين عمل الجوارح، وعمل القلب من الكتاب والسنة، ثم من أقوال السلف:(40/4)
الأدلة القرآنية على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح
فأما من الكتاب: فقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:82].
فما ذكر الله الإيمان في موضع من كتابه إلا وذكر قرينه العمل الصالح، إشارة إلى أن الإيمان الذي وقر في القلب لا بد أن يصدقه شيء في الظاهر، وهو العمل؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، هذا في الداخل لا نعرفه ولا نراه، ثم قال الله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، والتوكل هذا عمل باطني، ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، فذكر الصلاة والإنفاق، وهذا عمل ظاهري؛ وذلك لأن هناك ترابط وثيق بين عمل القلب وعمل الجوارح.
ومن الأدلة من كتاب الله قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فلأن التوبة عمل قلبي لم يكتف الله بذلك، ولم يرض بها فقط حتى يدخل المرء الإسلام، بل ربط التوبة بما يظهرها وهو العمل الصالح: كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك قال العلماء: إن الفاسق لا تقبل شهادته إلا أن يتوب، وكيف تعرف توبته؟ يقول الجمهور من أهل العلم: إن التوبة تكون بالظاهر، فإذا استقام مع الناس في الصلوات، وكان يخرج الزكاة، وعلم باستقامة حاله وحسن خلقه، فهذه هي التوبة، أي: الأمر الظاهري، مع أن التوبة عمل قلبي، لكن لا بد من الأمر الظاهري؛ ليتبين ما في القلب.
ومن الأدلة من كتاب الله قوله تعالى عن جزاء المحاربين وعن توبتهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33 - 34].
اختلف العلماء في توبة المحارب الذي تقطع يده ويصلب وينفى من الأرض، أي: كيف تعرف؟ فـ ابن القاسم المالكي قال: لابد أن يذهب إلى الأمير ويشهر توبته، وهذا قول المالكية.
وقال جمهور الفقهاء -وهو الراجح- إنه يقطن بيته، ويذهب إلى الصلاة في أوقاتها، ويحسن خلقه مع جيرانه ومع الناس فتعرف بذلك توبته.
فهذه التوبة التي هي عمل قلبي، ظهرت على الجوارح في الخارج، كما قال الله تعالى في الآية التي ذكرناها سابقاً {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة:11].
وأيضاً قال الله تعالى -مبيناً أن تشابه الظاهر مرتبط بتشابه الباطن- قال عن اليهود لعنة الله عليهم: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118]، فربط الظاهر بالباطن، فلما تشابه الظاهر بالظاهر، تشابه الباطن بالباطن، وهذه دلالة على أن الترابط وثيق بينهما، وسنة الله لا يمكن أن تتبدل.
أيضاً قال الله تعالى عن النفاق والمنافقين؛ لأن النفاق عمل قلبي، فمن أجل أن نعرفه قال الله تعالى لنبيه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
فأنت تعرفه أولاً من خلال وجهه؛ لأن ما في القلب يظهر على الوجه، تراه فتقول: وجهك وجه منافق، أذكر شيخاً من مشايخنا أفنى عمره في الدعوة، جلس مرة فقال: رأيت من الناس مفتي من المفتيين، ورأيت النفاق ينضح على وجهه نضحاً.
وثانياً: تعرفهم من خلال كلامهم، فبعضهم تسمعه يقول: هل نأخذ علمنا من رجل يقول: من قال: إن الأرض كروية يكفر؟ نأخذ العلم من هذا!، والله هذا نفاق بين، أو آخر يقوم علناً أمام الناس فيقول: أتريدون تحكيم الشريعة؟ تريدون قطع يد السارق، ما هذا التخلف، مع أن هذا حكم الله من فوق سبع سماوات، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال: (والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، فهذا نفاق ينضح، وآخر يقول: أتريدون جلد الزاني مائة جلدة؟ والله هذه وحشية.
فهؤلاء أصبح النفاق ظاهراً على وجوههم وفي كلامهم.
أيضاً: قال الله تعالى -منكراً على بني إسرائيل، ومبيناً أن الإيمان، أو الكفر الذي في القلب، لا بد أن ينضح في الخارج- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93]، أي: إذا كنتم مؤمنين حقاً فلم عبدتم العجل؟ ولم أطعتم غير الله تعالى؟ بل هذا كفر في قلوبكم.
أيضاً: من الأمور التي تبين ارتباط الظاهر بالباطن: أن الله سمى أعمال الظاهر إيماناً، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، فبإجماع المفسرين أنها الصلاة، وكما في حديث البخاري عن البراء -الطويل- وفيه أنه قال: (هي الصلاة)، وذلك حين حولت القبلة إلى الكعبة، فقال القوم: ما بال إخواننا الذين ماتوا، وما بال صلاتنا التي صليناها من قبل فقال الله جل وعلا تطميناً لقلوبهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، فسمى الصلاة إيماناً.
أيضاً: بين الله جل وعلا الارتباط الوثيق في كتابه بين الظاهر والباطن، وأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140] فبين الله جل وعلا أن هؤلاء الذين يجلسون في المجالس التي يكفر فيها بالله، أو يستهزأ فيها بآياته، أو بأوليائه الصالحين، دون إنكار، فإن هؤلاء من يجلسون معهم فيهم نفس الكفر؛ لأن القلب نضح وظهر ما فيه، فهو ساكت راض بهذا الكفر، فصاحبه كافر مثلهم.
لذلك استنبط العلماء قاعدة مهمة جداً من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي قولهم: إن لم تزل المنكر فزل.
أي: اخرج فلو جلست فأنت مثلهم؛ لأنك راض بفعلهم، فإن جلست مع شراب الخمر، ولم تنههم وتنكر عليهم، فأنت مثلهم، إن جلست مع الزناة ولم تنكر عليهم، بل ولم يتحرك قلبك غضباً لله جل وعلا فأنت منهم.
فهذه أدلة من كتاب الله جل وعلا على أن الظاهر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالباطن.(40/5)
الأدلة الحديثية على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح
أما الأدلة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فأشهر حديث هو ما في الصحيحين: وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).
وحديث آخر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي قال: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، فاختلاف القدم بالقدم والمنكب بالمنكب يؤثر في اختلاف القلب؛ لأن الظاهر يؤثر في الباطن، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بأهل الكفر؛ لأن التشبه بهم في الظاهر يقود إلى التشبه بالباطن، قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، وفي رواية: (لو وجد منهم من ينكح أمه، لوجد في أمتي من يفعل ذلك)، وقد وجد من كان يطأ أمه، والعياذ بالله.
فهذه أدلة من السنة أيضاً على أن الظاهر يرتبط بالباطن، وأن القلب إذا وجد فيه إيمان فلابد أن ينضح على الجوارح.
ولذلك قال الحسن البصري: الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وقال سعيد بن المسيب -وكثير من أهل العلم يرفعون هذا الأثر، والصحيح أنه من قول سعيد بن المسيب - وذلك حين دخل رحمه الله المسجد فوجد رجلاً يصلي، وأثناء الصلاة كان يلعب برأسه ولحيته، وينظر في يده، فقال سعيد بن المسيب: لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان في سفرة من الأسفار، فصلى بالناس الفجر، فبعدما سلم وجد اثنين جالسين ولم يصليا، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: (ألستما بمسلمين؟!)، فهو رآهما ما صليا، فقال هذا ليس بفعل المسلم الصادق؛ لأن المسلم في الباطن لابد أن يظهر هذا الإسلام وهذا الإيمان في الظاهر، ومن ذلك أداء الصلاة: (فقالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم)، هذا يبين أن المرء إذا دخل ووجد الناس يصلون فليصل معهم، (فقال: إذا صليتم في رحالكم فدخلتم المسجد فصلوا مع الإمام فهي فرض له ونافلة لكم).
أيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده) ثم فسر الإيمان بالله وحده بالأعمال الظاهرة فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، وكلها أعمال ظاهرة فسماها إيماناً.
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في السنن: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، فجعل علامة إيمان الرجل أنه يحافظ على الوضوء، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (الوضوء شطر الإيما).
وأيضاً: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمانة من الأعمال الظاهرة، أي: أن تأمن الشخص على مالك، وعلى نفسك، وعلى عرضك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، وأهم الأمانات هي الأمانة في الدين، الأمانة بينك وبين ربك جل وعلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال:27]، وكم منا قد خان الله، فما منا من أحد إلا وقد خان الله ورسوله، فلو نظر أحدنا في نفسه لوجد أنه وجد بدعة لم ينكرها، فهذه خيانة لله ورسوله، أو وجد انتهاكاً لحرمة من حرمات الله جل وعلا فلم يتكلم ولم يغيره أو لم يدع لأخ له مسلم في ضيق من أمره، أو لم يتعاون معه على البر والتقوى، فهذه خيانة لله ولرسوله، نعوذ بالله من ذلك، فالأمانة أمانة مع الله أولاً، ثم أمانة مع الرسول، ومن الخيانة التي خنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم ما نرى من الموالد والرقص والطبل وهذه المهاترات التي يحسب أصحابها أنها احتفالات برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن على سكوت، فلم نذهب لننكر ونغير، والله هذه خيانة لرسول الله، وكم منا من ترك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ويحسب أنه على شيء.
ثم هناك أمانة مع نفسك، وذلك أنك إذا كنت وحدك فلا تخن نفسك وتظلمها فتنتهك محارم الله، فالأمانة مع النفس أن تجعلها قدر الإمكان تستقيم على دين الله جل وعلا.
ثم هناك أمانة مع الغير، وهذه قد ضاعت عند كثير من الناس في زماننا هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتجد الأخ يسرق أخاه، والأخت تسرق أختها، وإذا ذهبت إلى المحاكم وجدت الكثير من أصحاب هذه المشاكل، نسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا، آمين يا رب العالمين.
وكان بعض السلف يقول: من لا أمانة له لا إيمان له، وأختم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من شعب الإيما).
فهذه كلها دلائل على أن الإيمان الظاهر يرتبط بالإيمان الباطن، أو أن الأعمال الظاهرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالباطن.(40/6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - خصال الإيمان
الإيمان هو من أهم مراتب الدين، ولا يتحقق الإيمان إلا إذا ظهرت صفات على صاحبه تدل على إيمانه، ومن تلك الصفات: تحقيق كلمة لا إله إلا الله قولاً وعملاً، وكذلك الصلاة التي من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين، والحياء من الصفات البارزة لأهل الإيمان كذلك، فهو الداعي لجميع خصال الخير في الإنسان وغيرها من الصفات التي تميز الشخصية المؤمنة عن بقية الشخصيات الأخرى.(41/1)
ذكر طرق من خصال الإيمان
الأدلة على أن التلازم وثيق بين عمل الجوارح، وعمل القلب من الكتاب والسنة، ثم من أقوال السلف:(41/2)
الخصلة الأولى: كلمة التوحيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسول.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب المبارك كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للإمام العلامة اللالكائي، واليوم بإذن الله ندخل معركة ضد أهل البدعة والضلالة ومن المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان أي ذنب، وإيمان أي امرئ كإيمان أبي بكر، وإيمان أبي بكر كإيمان جبريل عليه السلام.
توطئة لهذا الرد: قدم العلامة المصنف للرد على أهل الضلالة والبدعة ومن المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ثمرة الإيمان، وليست لازمة من لوازمه خلافاً لأهل السنة، بذكر خصال الإيمان أو الصفات المعدودة فيه، التي أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، وكأنه يقول بلسان حاله: إن الأعمال الظاهرة من الإيمان، وتدخل تحت مسماه، ورأس الأمر عنده قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (الإيمان بضع وستون).
وفي رواية البخاري: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فأعلى هذه الخصال وأعلى شعبة من شعب الإيمان هي: لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله هي قول باللسان، وتدخل في مسمى الإيمان بل هي أصل الإيمان، ولا يشهد لأحد بالإسلام حتى يتلفظ بها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله).
ولا إله إلا الله هي مفتاح الجنة، لكن هذا المفتاح لا بد له من أسنان، فلا يمكن أن يفتح إلا بهذه الأسنان، فلا إله إلا الله إذا قالها المرء عصم دمه وماله وحسابه عند الله جل وعلا، هذا إذا عمل بمقتضاها واجتنب نواقضها.(41/3)
شروط لا إله إلا الله
تقيد هذه المقولة بقيود وشروط عدها بعض العلماء سبعة وهي أكثر من ذلك.
وهذه القيود هي التي تنفع صاحبها في الآخرة لا في الدنيا، وفي الدنيا لو قالها -أي: كلمة التوحيد- دون أن يأتي بشروطها لدخل في الإسلام وكان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، أما في الآخرة فلا بد أن يأتي بهذه القيود والشروط ألا وهي كما يلي: الشرط الأول: العلم المنافي للجهل، ودليله قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
فطلب العلم بها يجب أولاً قبل العبادة.
الشرط الثاني: القبول، المنافي للرد عن استكبار، ودليقه قول الله تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فالذي يقول: لا إله إلا الله لا بد أن يكون مذعناً لله جل وعلا.
الشرط الثالث: اليقين المنافي للشك، ودليله: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15].
الشرط الرابع: الانقياد، والإذعان والاستسلام لله جل وعلا، فقد مدح الله إبراهيم عليه السلام لاستسلامه له إذ قال له: أسلم كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ} [البقرة:131] يعني: استسلمت.
دليل هذا الشرط: قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125].
الشرط الخامس: المحبة ودليلها: قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا} [البقرة:165].
الشرط السادس: الصدق المنافي للكذب، ودليله: قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33].
قوله عليه الصلاة والسلام: (تحروا الصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة).
الشرط السابع: الإخلاص، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].(41/4)
الخصلة الثانية: الصلاة
الصلاة خصلة من خصال الإيمان، نبني على ذلك قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143].
أي: وما كان الله ليضيع صلاتكم، وقد أجمع المفسرين على ذلك، وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس لما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (آمركم بأربع: آمركم بالإيمان بالله وحده).
ثم فسر ما الإيمان بالله فقال: (شهادة أن لا إله إلا الله).
وهذه أعلى الخصال، ثم قال: (وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم).
وهي من الأعمال الظاهرة التي تدخل في مسمى الإيمان، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة، والصلاة من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدهما فقد هدم الدين.(41/5)
حكم تارك الصلاة
لا إله إلا الله أعلى شجرة الإيمان -كما مثلها ابن القيم - فكلما قربت الخصال منها أخذت حكمها، وحكمها: أن من تركها كفر، ومن قالها دخل الإسلام.
(وأدناها إماطة الأذى).
وكلما قربت الخصال من إماطة الأذى أخذت حكمها، يعني: لو ترك بعض الأعمال التي تقترب من إماطة الأذى لا يخرج عن الملة، لكن لا يكون مؤمناً كامل الإيمان.
ولذلك اختلف أهل السنة والجماعة في حكم من ترك الصلاة على قولين: القول الأول: قول الجمهور أن تارك الصلاة ليس بكافر، إلا إذا جحدها، فيكفر بالجحود والإنكار.
واستدلوا من الكتاب بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وترك الصلاة ليس بشرك، إذ هي داخلة تحت قوله: (دُونَ ذَلِكَ) فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء سبحانه.
أما الأحاديث فكثيرة جداً، منها: قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة) ولم يذكر الصلاة وقال (من قال: لا إله إلا الله مستيقناً بها قبله دخل الجنة) ولا ذكر للصلاة في هذه الأحاديث.
وحديث بريدة لما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات في اليوم والليلة افترضهن الله على عباده، فمن أحسن وضوءهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة) وإن لم يحسن وضوءهن فليس له عند الله عهد أن يدخل الجنة، فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
فهو في المشيئة إذاً، فليس بكافر، وهذا حديث قوي.
ومنها: حديث صلة الذي رواه عن حذيفة لما قال حذيفة: يدرس الإسلام -يعني: يندثر الإسلام- حتى لا يبقى منه شيء، فيبقى الرجل الكبير يقول: لا إله إلا الله، أدركت أبائي يقولون ذلك، لا يعرف من الإسلام إلا هذا القول -أي: لا إله إلا الله- فقال صلة مستغرباً: الرجل لا يصلي ولا يصوم ولا يعرف شيئاً عن قواعد الإسلام فكيف ينجيه قول: لا إله إلا الله؟ فقال حذيفة: مبيناً له: تنجيهم يا صلة! تنجيهم يا صلة! تنجيهم يا صلة! الشاهد من هذا الحديث: أن الذي ينجيهم: هو لا إله إلا الله؛ فإنه ما ذكر صلاة ولا صياماً ولا زكاة، وإنما قال فقط: لا إله إلا الله، فقال حذيفة: تنجيهم يا صلة! يعني: لا إله إلا الله تنجيهم.
ومنها: حديث في الصحيحين وهو أرجح حديث لهم، وهو حديث القبضة، وفيه أن الله جل وعلا يجعل المؤمنين يشفعون في إخوانهم، فيقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون ويزكون ويحجون معنا، فيأمرهم الله جل وعلى أن يخرجوا من النار من عرفوا، وكان في قلبه مثقال ذرة وشعيرة من إيمان إلى آخر الحديث، بعد ما ينتهي المؤمنون يشفع الملائكة، فيخرجون الذي أكلتهم النار وبقي منه أثر السجود، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا: (شفع المؤمنون وشفعت الملائكة وبقي أرحم الراحمين، فيقبض الله قبضة فيخرج كل من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من خير فيدخله الجنة).
فهذه جمل من أدلة أهل السنة والجماعة الذين قالوا: إن تارك الصلاة ليس بكافر ولكنه فاسق فاعل لكبيرة مستحق للعذاب.
أما القول الثاني: فهو قول بعض الحنابلة، وبعض الشافعية، منهم الإمام ابن خزيمة، وحاصل هذا القول: أن حكم تارك الصلاة كافر، ولهم أدلة كثيرة في الكتاب والسنة.
أما من الكتاب فقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
فمفهوم المخالفة: إن لم يتوبوا ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوان لنا أي: مرتدين.
وكذلك قول الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:42 - 45] والشاهد: أن أهل النار ذكروا أن سبب دخولهم فيها: هو أنهم ليسوا من المصلين، فلذلك سلكهم الله في سقر وأحرقهم بنار تلظى.
وأما من السنة: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).
وكذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً في آخر المسجد لا يصلي فقال له: (ألست بمسلم؟! أما صليت معنا؟!).
الراجح من القولين في تارك الصلاة: أنه كافر يخرج من الملة، فهو خالد مخلد في نار جهنم.(41/6)
الخصلة الثالثة: الأمانة
ومن خصال الإيمان: الأمانة.
والأصل فيها أنها من عمل القلب، وأعماله من الإيمان.
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له).
ومعنى (لا إيمان) أي: لا إيمان كامل، للذي يخون الأمانة.(41/7)
أنواع الأمانة
والأمانة أمانتان: أمانة مع الله ورسوله، وأمانة مع الخلق.
فأمانته مع الله كما قال تعالى: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال:27]، فخيانة الله جل وعلى كخيانة شرعه، وخيانة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأمانة لا تؤدى إلا بعبادة الله، فالذي يسرق من صلاته مثلاً غير مؤتمن أو غير أمين مع الله جل وعلى في عبادته له سبحانه.
أما خيانة الرسول فمنها: عدم تسوية الصفوف، فاعوجاجها ليس أمانة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن خيانة الأمانة: الابتداع في دين الله جل وعلا، وعدم تبليغ الدعوة.
ومن خيانة الأمانة أيضاً: أن تسكت عن بدعة ولا تنكرها.
ومن خيانة الأمانة لله جل وعلا: أن ترى من يحرف دينه، وكتابه، ويزعم أموراً لا يرضاها الله ولا رسوله فتسكت عنها ولا تنكرها ولا تبينها.
وأما الأمانة مع الخلق فهي من قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] فعدم الغيبة، وعدم النميمة، يكون من الأمانة، وكذا إذا استودع عندك إنسان وديعة فمن الأمانة أن تؤديها كما هي، وإذا أدى إليك قولاً فمن الأمانة أن تبلغه كما هو بلا زيادة ولا تحريف.
فالمؤمن الغير أمين ليس بمؤمن كامل الإيمان.(41/8)
الخصلة الرابعة: الحياء
الحياء خصلة من خصال الإيمان، وهو من الأعمال القلبية أيضاً.
والحياء: هو خلق يمنع المرء من أن يقترف الآثام.(41/9)
أنواع الحياء
الحياء حياءان: حياء من الله جل وعلا ورسوله، وحياء من خلق الله.
فأما الحياء من الله: فهو بأن لا نقترف الآثام والمعاصي وهو يرانا جل وعلا.
وأما الحياء من الرسول صلى الله عليه وسلم: فهو بأن لا نبلغ دعوته كما هي، والحياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا نصدق خبره، فرسول الله يقول: (بين يدي الساعة سنين خداعة، يكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: وما الروبيضة يا رسول الله؟ قال: الفاسق أو الفويسق).
ثم ذكر المؤلف خصالاً كثيرة عد منها أكثر من ستين خصلة، فينبغي مراجعتها، وأما هذه الأعمال الظاهرة فهي من الإيمان، لا كما يقول المرجئة، فهم يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان.(41/10)
نبذة تعريفية عن فرقة المرجئة
اسم المرجئة مشتق من الإرجاء، معناه: التأخير، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106].
وقد ظهرت هذه الطائفة في آخر القرن الأول، ففي عصر الفتن ظهرت المرجئة بعد ما خرجت الخوارج على علي، وعثمان رضي الله عنهما.
وأول من تكلم بالإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الإرجاء عنده غير الإرجاء الذي ينكره أهل السنة والجماعة.
فقد كان الإرجاء عند الحسن بن محمد بن الحنفية أنه قال: نحن نقر بخلافة الشيخين: أبي بكر وعمر، ونرجئ أمر عثمان، وأمر علي لله جل وعلا.
ومن رموز المرجئة حماد بن أبي سليمان، بل يقال: إنه أول من أنشأ مذهب الإرجاء في مسمى الإيمان، وهو من أهل الكوفة، وتلميذ إبراهيم النخعي، وهو شيخ لـ أبي حنيفة، وكان يقول حماد: الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم اختلفوا بعد حماد بن سليمان وبعد ما أخذ أبو حنيفة عنه هذا المذهب إلى فرق كثيرة.
فمنهم من قال: الإيمان هو المعرفة، أي: إن عرفت أنه يوجد رب خالق للكون فقط فأنت مؤمن، وعندهم من هو أشر من إبليس يستوي إيمانه مع إيمان جبريل؛ ولذلك كفرهم كثير من أهل السنة والجماعة.
وفرقة أخرى قالت: الإقرار هو الإيمان، وفرقة ثالثة قالت: التصديق هو الإيمان، وبعضهم قال: الإقرار والتصديق وقول اللسان هو الإيمان، وبعضهم ومنهم الكرامية قالوا: العمل فقط عمل الجوارح.
أما مرجئة الفقهاء الذين بينهم وبين أهل السنة والجماعة بعض الخلاف وبعض الاتفاق فقد قالوا: الإيمان إقرار بالقلب، وأقروا بأعمال القلوب، لكن قالوا: أعمال الجوارح ليست من الإيمان، بل هي ثمرة بالإيمان، فهذا قول مرجئة الفقهاء في أمر الإيمان.
أما قولهم في الكفر فهم يقولون: إن الأقوال أو الأفعال الكفرية ليست كفرية، أي: سب الرسول أو سب الشريعة ليس بكفر وإنما علامة على الكفر الداخلي.
وهم يقولون هذا؛ لأن منهج المرجئة في الإيمان: أن الإيمان إقرار وتصديق، فيقرون بأعمال القلوب، أما أعمال الجوارح فليست عندهم من الإيمان، والكفر عندهم علامة على ما في داخل القلب، ولهم أدلة في ذلك.
منها: قول الله جل وعلا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] قالوا: فالإيمان في اللغة: التصديق، والتوحيد: هو التصديق، فالأعمال ليست تصديقاً فلا تدخل في مسمى الإيمان.
ومنها: أنهم قالوا: إن الله جل وعلا عطف الأعمال على الإيمان، والأصل في العطف المغايرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، فجعل العمل الصالح غير الإيمان.
وقالوا كذلك: إذا قلنا: بأن الإيمان هو التصديق، فلا يكون الكفر إلا التكذيب، فحصروا الكفر بالتكذيب.(41/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الإيمان يزيد وينقص
من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الناس يتفاوتون في التصديق والإيمان، والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
أما مسألة الاستثناء في الإيمان فأهل السنة مختلفون فيها على أقوال عدة.(42/1)
زيادة الإيمان ونقصانه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي في باب: جماع الكلام في الإيمان، وقد سبق الكلام على الإسلام والإيمان والعلاقة بينهما، وبيّنا فصل الخطاب في تعريف الإيمان لغةً وشرعاً، وبينا أيضاً أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ظاهر الإيمان وباطنه.
وسنتكلم هنا عن الاستثناء في الإيمان، وعن زيادة الإيمان ونقصانه فأقول: باب جماع ما قيل في الإيمان والكلام على أن الإيمان يزيد وينقص.
إن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فيزيد بكل طاعة يطيع المرء بها ربه جل وعلا حتى يصير كالجبال، فيعيش المرء بجسده مع الناس وروحه في السماء مع الملائكة.
وأيضاً ينزل الإيمان بسبب المعاصي حتى يتسفل المرء، فيعيش بجسده مع الناس وهو بروحه مع الجن والشياطين في سابع أرض.
قال بعض السلف: يزيد الإيمان حتى يصير كالجبال، وينقص حتى يصير كالهباء.
أجمع أهل السنة والجماعة خلافاً للمرجئة على أن الإيمان يزيد وينقص، ثم اختلفوا فيما بينهم في محل الإيمان هل هو القلب أم العقل.
والصحيح: أن محل الإيمان هو القلب، والإيمان الذي في القلب قول وعمل، فقول القلب هو التصديق، وعمله هو الانقياد والاتباع واليقين إلى آخر هذه التسلسلات.
ثم اختلفوا فيما بينهم: هل زيادة الإيمان تكون في التصديق أم في الأعمال فقط؟ وقد اتسعت دائرة الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وهو خلاف لفظي، والراجح: أن الإيمان يزيد في التصديق وينقص، ويزيد في الأعمال الظاهرة وفي أعمال القلوب وينقص.(42/2)
الأدلة على تفاوت التصديق
إن تصديق الملائكة لا يساويه تصديق أحد من الخلق، فتصديق الصحابة الكرام لا يداني تصديق الملائكة الذين رأوا كمال الله جل وعلا، وجماله وعظمته وآثار قوته وجبروته.
وأيضاً فتصديق الصحابة الكرام لا يداني تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أُوحي إليه، وكذلك تصديق التابعين لا يساوي تصديق الصحابة، بل إن الصحابة الكرام يتفاوتون فيما بينهم في التصديق، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه سبق الجميع؛ لتصديق قلبه بالله جل وعلا، وبما أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه أمثلة تبين لك زيادة التصديق وعلوه إلى السماء: فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلو التصديق، وذلك لما غاضب أبو بكر عمر رضوان الله عليهما، فجاء أبو بكر وحسر عن ركبته، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (أما صاحبكم فقد غامر)، وعلم أن هناك مشاحاة بينه وبين أحد الصحابة، فلما جاء عمر بعده نظر النبي صلى الله عليه وسلم إليه مغضباً وتمعر وجهه، وعُرف الغضب في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (هلا تركتم لي صاحبي؟! صدقني وكذبتموني)، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بعلوه في التصديق.
وأيضاً: ظهر علو تصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه على الصحابة بما فيهم عمر وعثمان وعلي في مواقف كثيرة جداً.
منها: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر من قال: (إن نبي الله قد مات علوته بسيفي هذا، إن رسول الله ذهب إلى ربه وسيرجع كما ذهب موسى إلى ربه ورجع، ثم دخل الصديق بعلو صدقه في قلبه على النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قبل النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه وقال: طبت يا رسول الله حياً وميتاً، ثم خرج على الناس فقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
فخر عمر رضي الله عنه وأرضاه مغشياً عليه؛ لأنه لم يحتمل الموقف، لكن تصديق أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه كان أقوى فثبت في هذا الموقف؛ لذلك فالعلماء حينما يفاضلون بين الملُهم وبين الصديق فإنهم يقولون: الصديق أعلى مقاماً من الملهم، فـ عمر كان ملهماً بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في هذه الأمة ملهم فهو عمر بن الخطاب)، لكن الصديق لم يحتج إلى إلهام؛ لأن قلبه ناصع، فيجري الحق على قلبه دون إلهام.
ودليل ذلك أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه وافق كلامه كلام النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وأما عمر فلم يتحمل هذا الموقف فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: نعم، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: نعم، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله ولن يخذلني الله جل وعلا، ثم رجع عمر وقال: أذهبُ إلى أبي بكر لعله يؤثر في رسول الله، فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟! فقال أبو بكر بتصديقه التام المجرد في قلبه الناصع، مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هو رسول الله ولن يخذله الله، والزم غرز رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فهذا يدل على التفاوت في التصديق القلبي بين الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.
وأيضاً: مما يدل على التفاوت في الإخلاص والمحبة، قول عمر رضي الله عنه وأرضاه لما استعلى يقينه بربه: والله إني لا أحمل هم الإجابة -أي: إجابة الدعاء- ولكني أحمل هم الدعاء، فإذا رفعت يدي لله جل وعلا فإن الله سيقبل دعائي يقيناً؛ عملاً بقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
فاستيقن بقول الله تعالى، فقال: والله إني لا أحمل هم الإجابة؛ لأني على يقين منها؛ لأن القائل هو الله، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].
واستعلى يقين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لما شرب السم أمام ملك الروم أو الفرس، واستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره شيء).
فاستيقن في هذا وعلم النتيجة يقيناً ثم وقف أمام الرجل وأخذ السم وقال: أشرب هذا أمامك ولا أموت، فأخذ السم وقال: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) وشرب السم ولم يحدث له شيء.
وكذلك همم الصحابة علت لما علا اليقين والتصديق في قلوبهم، فجاء رجل في غزوة أحد أو في غيرها للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله ما يضحك الرب؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تتقدم مقبلاً غير مدبر، وتخلع درعك وتقدم نحرك أمام الأعداء، فتقاتل حتى تقتل في سبيل الله، قال: أيضحك الرب من ذلك؟ قال: يضحك الرب من ذلك، قال: يا رسول الله، إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك، ثم أخذ الدرع فألقاه، وأخذ السيف ودخل حين حمى الوطيس يقاتل في سبيل الله، وقدم نحره حتى قتل في سبيل الله)، ونحن على يقين أن الله سيضحك له يوم القيامة، ثم ينال رحمات الله في الفردوس الأعلى إن شاء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحسبه كذلك بإذن ربنا الجليل، وقبح الله المبتدعة الذين ينفون صفة الضحك.(42/3)
حال الصديقين وحال المنافقين في غزوة الخندق
لقد فصل الله بين صف الصديقين وصف المنافقين في غزوة الخندق، لما تألب الناس من مشارق الأرض ومغاربها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى إنه لم يستطع أحد من الصحابة أن يقضي حاجته، وعندما ظهرت كدية كبيرة وهم يحفرون الخندق ولم يستطيعوا أن يفعلوا لها شيئاً، جاء النبي صلى الله عليه وسلم فضربها حتى فلقها نصفين، ثم قال: (الله أكبر، أعطيت الكنزين: الأحمر والأصفر)، يعني: بلاد فارس والروم.
فلتصديق ويقين وإيمان الصحابة صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22].
أما المنافقون الذين في قلوبهم ريب فقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]؛ لأن الريب يملأ قلوبهم.
فالإيمان يزيد وينقص، ومحله القلب، فيزيد بالتصديق، بأعمال القلب من إخلاص ومحبة ويقين وتوكل على الله جل وعلا، وهناك أمثلة كثيرة جداً في التوكل، فمنها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
وكما فعل كثير من الصحابة كان يكتفي بقوت يومه؛ لأنه يعلم أن الرزق بيد الله، وكان الحسن البصري تاجراً فكان يعرض بضاعته فإذا اكتفى بقوت يومه انتهى، وقال: الحمد لله، وأخذ تجارته، قالوا: يا رجل يأتي الناس إليك لتربح في التجارة، قال: علمت أن رزقي بيد ربي ولن يصل إلى غيري فاطمأن قلبي.(42/4)
أدلة زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة وآثار الصحابة
الإيمان إذا علت بشاشته في القلب أصبح أصحابه يعيشون بين الناس بأجسادهم وأرواحهم هناك مع الملائكة في عليين، والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب أدلة متوافر متضافرة، وأيضاً هناك أدلة من السنة متوافرة متضافرة على ذلك.
أما أدلة الكتاب: فيقول الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76].
وقوله جل وعلا: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وقوله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] وكل هذا من كتاب الله جل وعلا.
وأيضاً: قصة إبراهيم تبين لنا أن علو مقام الإيمان يصل بعد ذلك إلى الطمأنينة، قال إبراهيم عليه السلام كما قال الله عنه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] يعني: أعلى ما يكون من مقامات الإيمان أن تصل إلى الطمأنينة.
والآيات بنفس النسق كثيرة جداً.
أما السنة النبوية: فهناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن).
الشاهد قوله: (ناقصات عقل ودين)، ووجه الدلالة أن ما كان قابلاً للنقصان فهو يقبل الزيادة.
وفي حديث الشفاعة الطويل: (ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال كذا ومثقال كذا)، حتى وصل بها في التناقص إلى مثقال ذرة، فهذه دلالة على أن الإيمان يقل ويقل إلى أن يصل إلى مثقال ذرة من الإيمان.
ومنها أيضاً: في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، وفي رواية أخرى قال: (ما أبقى من مثقال حبة خردل من إيمان بعد هذا) يعني: الإنكار بالقلب.
وأيضاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فتتفاوت هذه الدرجات، فهي سبعون درجة من الأولى إلى الأخيرة التي هي أعلاها، فكلما قرب المرء منها علا إيمانه، وكلما قرب من الإماطة قل إيمانه أو قلّت درجات الإيمان عنده.
ومنها أيضاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يتراءى أهل الجنة كما تتراءون النجوم) يعني: يتراءى أهل الدرجة الأقل مع الدرجة الأكبر كما تتراءون النجوم.
فهذه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على ذلك، وهناك أحاديث كثيرة على هذا النسق.
أما الآثار: فمنها: قول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في دعائه (اللهم زدني فقهاً ويقيناً وإيماناً) يعني: أنه كان يدعو الله جل وعلا أن يزيده إيماناً.
وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يقول: (الفقيه حق الفقيه هو الذي يتعاهد إيمانه نقص أم زاد) فالفطن الذي يجعل لنفسه ساعة ينظر في إيمانياته علت أم انتقصت، وما هي الأسباب التي يعلو بها الإيمان فيأخذ بها، وما هي الأسباب التي ينقص فيها الإيمان فيبعد عنها.
ولذلك كان وهب بن منبه كما في مسند الإمام أحمد يقول: على المرء أربع ساعات، منها ساعة يخلو بنفسه يتدبر أمره ينظر علا إيمانه أم قل.
وكما في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فزاد الإيمان على إيماننا) يعني: ازداد إيماناً على إيمان بالقرآن.
وكان عمر بن الخطاب يجتمع في حلقات العلم والذكر ويقول للصحابة: (هلموا نذكر الله ساعة) أي: تعالوا وأقبلوا.
وأيضاً في حديث حنظلة رضي الله عنه وأرضاه لما قال: (نافق حنظلة فخرج أبو بكر وخرج عمر فقالا: ما بالك؟ فقال: أجلس عند رسول الله فكأني أرى الجنة والنار، فإذا رجعت إلى بيتي عافست النساء والأطفال نقص الإيمان، فقالا: والله نحن كذلك، فلما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) إلى آخر الحديث.
الشاهد أنه لما قال: (نافق حنظلة) يعني: الإيمان نزل من علوه إلى النفاق.
وأيضاً قال ابن أبي مليكة من التابعين: (أدركت ثلاثين صحابياً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم لا يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل، ويخشى على نفسه النفاق) ووجه الدلالة: أن الواحد منهم لم يكن يقول: إن إيمانه وصل إلى إيمان جبريل؛ لأن التصديق متفاوت، فجبريل يكلم الله جل وعلا والله يكلمه، وينظر إلى جبروت الله جل وعلا، فالإيمان عنده أعلى ما يكون.
إذاً: فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فعلى كل امرئ منا إذا زل أو إذا عصى الله علم أن الإيمان قد قل فلا بد أن يتعاهد إيمانه قلبه، فيتوب إلى الله توبة نصوحاً؛ لأن الله يفرح بتوبة العبد أشد من فرح المرء الذي أشرف على الهلاك فوجد النجاة، فالله يفرح بتوبة العبد ويرتقي العبد بهذه التوبة إلى الله جل وعلا فيعلو إيمانه أيضاً.
وأيضاً من الأحاديث التي تثبت الزيادة والنقصان في الإيمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، فهذا فيه دلالة على أنه لما يزني المرء فإن إيمانه ينقص، ويكون كالظلة مرتفعاً عنه حال الزنا، فكلما ارتكب المرء المعصية أو اتبع هواه على شرع الله جل وعلا فإن إيمانه يقل، وكلما اتبع أوامر الله جل وعلا وآثر الله وأوامره على نفسه وشهوته وهواه فإن إيمانه يعلو ويرتقي إلى الله جل وعلا.(42/5)
مراتب الإيمان عند الزيادة والنقصان
للإيمان ثلاث مراتب عند الزيادة والنقصان: المرتبة الأولى: مطلق الإيمان، وهي أدنى مرتبة، وهي التي تمنع المرء من الخلود في النار، يعني: ينقص الإيمان شيئاً فشيئاً إلى حد يمنع المرء أن يخلد في نار جهنم.
وهذه المرتبة هي التي يكون فيها مطلق الإيمان أو أصل الإيمان موجوداً، وينجو صاحبها من النار، وهذه تستنبط من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يأمر الملائكة بأن يخرجوا من النار ممن فيهم علامات الصلاة لم تحترق، فتخرجهم الملائكة، والمؤمنون يشفعون فيخرجون من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) وفي هذا دلالة على أن معهم أصل الإيمان الذي هو أدنى مراتبه.
المرتبة الثانية: الإيمان الواجب أو الإيمان الكامل أو الإيمان المطلق، وهذه المرتبة هي التي ينجو صاحبها من النار، ويدخل الجنة بعد الحساب، والإيمان المطلق الواجب هو الذي أدى صاحبه الواجبات وترك المحرمات، وترك النوافل واقترف المكروهات، وهو لا يأثم؛ لأن المكروه لا يأثم فاعله ويثاب تاركه، وعكسه المستحبات.
وهذا يستدل له بحديث الأعرابي الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (آلله بعثك؟ ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله افترض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: أعلي غيرها يا رسول الله؟ قال: لا، قال: والله لا أزيد -ثم ذكر له النبي الزكاة ثم الصوم ثم الحج- فقال: أعلي غيرها؟ قال: لا، قال: والله لا أزيد عن ذلك ولا أنقص، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق)، وفي رواية: (دخل الجنة إن صدق).
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الرجل إذا قام بالواجبات وترك المحرمات فإنه يدخل الجنة بعد المحاسبة.
المرتبة الثالثة: هي المرتبة التي يدخل أصحابها الجنة من أول وهلة، فلا حساب عليهم ولا عذاب، وهذه المرتبة مرتبة الإيمان المطلق: الواجب والمستحب، وهؤلاء هم الذين أتوا بالواجبات وتركوا المحرمات، ثم أتبعوا الواجبات بالنوافل وأتبعوا ترك المحرمات بترك المكروهات.
وهؤلاء الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدخلون الجنة بغير عذاب ولا حساب، ووصفهم بقوله: (هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) وهم سبعون ألفاً.
وفي رواية أخرى قال: (مع كل واحد منهم سبعون ألفاً) أيضاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، هذه المرتبة الثالثة التي نختم بها مراتب الإيمان، وأصحابها يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، نسأل الله أن نكون جميعاً منهم.(42/6)
حكم الاستثناء في الإيمان
الجزء الثاني الذي نتكلم عنه في باب الاستثناء في الإيمان، كأن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا الأمر زلت فيها الأقدام حتى بين أهل السنة والجماعة، فقد حدث خلاف عريض بينهم، وهي على أقوال كثيرة نحصرها في أربعة أقوال: القول الأول: قول الجهمية ومرجئة الأحناف الذين قالوا: إن الاستثناء في الإيمان لا يجوز، فعندهم لو قال المرء: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو كافر، مع أن مرجئة الأحناف التكفير عندهم بعيد، لكنهم قالوا: لو قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهذا يكفر بذلك؛ لأنه بالاستثناء كأنه شك في دين الله، والله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يشكوا، فليس هناك ثمة ريب ولا شك، فهذا قول مرجئة الأحناف.
والجهمية قالوا: لا يجوز أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، ولو قال بذلك فهو شاك في دين الله ويكفر.
والشافعية قالوا: يجوز الاستثناء في الإيمان، ولذلك من الطرائف أن الأحناف قالوا: يجوز للحنفي أن ينكح الشافعية قياساً على أهل الكتاب؛ لأن الشافعية يقولون: يجوز للمرء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
القول الثاني: قول الشافعية وجمهرة من أهل السنة والجماعة: وهو أنه يجب على المرء إذا سئل: أنت مؤمن؟ أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا يقول: أنا مؤمن بالجزم، فالأحناف وأصحاب القول الأول لابد عندهم أن يقول: أنا مؤمن، جزماً، أما أصحاب القول الثاني فنظروا للمآل والمستقبل والآخرة، فقالوا: وجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
وأيضاً قالوا: لنا في ذلك أدلة أخرى وهي أن الذي يقول: أنا مؤمن، جزماً، قد زكى نفسه ووقع في المحذور، وقد قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وهناك قول آخر: وهو إذا قال: أنا مؤمن دون أن يقول: إن شاء الله، فأي مراتب الإيمان يكون فيها، العليا أم الوسطى أم الدنيا؟ وهذا مخالف لطبيعة الإنسان، فالإنسان ظلوم جهول، والإنسان ينسى ويخطئ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فهو إذا لم يلتزم بفعل الواجبات وترك المحرمات يكون كاذباً في دعواه.
إذاً: فأصحاب هذا القول نظروا للمآل؛ لأن المؤمن جزماً يكون منتهاه إلى الجنة، لكن لا أحد يجزم أنه في الجنة، فـ أبو بكر نفسه رضي الله عنه وأرضاه قال: (لو وضعت اليمنى في الجنة وبقيت اليسرى خارجها فإني لا آمن مكر الله) وعمر بن الخطاب الفاروق -وما أدراكم ما عمر - يقول: (لو نودي في عرصات القيامة: أن كل من في عرصات القيامة يدخل الجنة إلا رجل لقلت: أنا) فلا يأمن أحد مكر الله جل وعلا.
وفي الحديث: (أن رجلاً من بني إسرائيل كان يمر على صاحب له يعصي الله جل وعلا فينصحه في الله، وكان لا يأخذ بالنصيحة، فلما تضايق منه قال له: والله لا يغفر الله لك، فقال الله: من ذا الذي يتألى عليَّ -أي: من ذا الذي يقسم؟ - قد غفرت له وعذبتك).
فالمآل يعلمه الله جل وعلا، ويدل لذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح المرء مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً)، وقال: (القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ولذلك كان يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يدعو الله جل وعلا أن يثبت قلبه، فالمآل إلى الله جل وعلا لا يعلمه أحد.(42/7)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - هل للمعاصي صغائر وكبائر
من رحمة الله عز وجل أن جعل المعاصي صغائر وكبائر، ولو كانت المعاصي كلها صغائر فقط لتساهل الخلق في أمرها، ولو كانت كلها كبائر لأصاب الناس حرج ومشقة.
وإذا وقع المسلم في كبيرة من الكبائر فلا يسلب منه أصل الإيمان، بل يبقى في دائرة الإسلام، وأمره في الآخرة إلى الله، إن شاء عذبه على قدر معاصيه، ثم أدخله الجنة، وإن شاء غفر له وأدخله الجنة برحمته، ومن الغلو أن يقال: إن صاحب الكبيرة كافر مخلد في النار، ومن التفريط أن يقال: إنه مؤمن لا تضره المعصية ولا تؤثر في إيمانه.(43/1)
اختلاف أهل العلم في انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اختلف العلماء في مسألة الكبيرة: هل في المعاصي كبائر وصغائر؟ وهل الذي يفعل الكبيرة كالذي يفعل الصغيرة؟ فبعض العلماء قال: ليس ثمة خلاف بين المعاصي، وكلها شيء واحد، وبعضهم قال: كل المعاصي كبائر، وهؤلاء نظروا إلى عظمة من عُصي، أي: إلى عظمة الله جل وعلا.
والذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة: أن المعاصي صنفان: كبائر وصغائر، وهذا يدل عليه الكتاب والسنة.
أما في الكتاب فقد قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فنص على الكبائر، فمفهوم المخالفة: أن غير الكبائر صغائر.
وأيضاً قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فنص على الكبائر، ونص أيضاً على اللمم، وهي الصغائر.
إذاً: فالصحيح الذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة: أن المعاصي منها: الكبائر، ومنها: الصغائر.
وأما من السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج إلى الحج والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، والصلوات الخمس، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فـ (ما) في قوله: (ما اجتنبت الكبائر) شرطية بمعنى: إذا اجتنبت الكبائر، والمقصود: أنه لما قال: (إذا اجتنبت الكبائر)، فالذنوب التي بين الصلوات، وبين الحج والحج، والعمرة والعمرة، تكفر إذا كانت صغائر، أما الكبائر فلا تفكر إلا بالتوبة.
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور)، فأهل السنة والجماعة اتفقوا على أن هناك كبائر وصغائر.(43/2)
اختلاف العلماء في مرتكب الكبيرة
الذي يرتكب الكبيرة، كأن يزني، أو يشرب الخمر، أو يأكل الربا، أو يكذب أو يشهد زوراً، هل هو مخلد في نار جهنم؟ أو يعذب ثم يدخل الجنة؟ وما هي أحكامه في الدنيا والتي لا بد أن نتعامل معه بها؟ اختلفت أقوال العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: قول الخوارج والمعتزلة.(43/3)
رأي الخوارج والمعتزلة في مرتكب الكبيرة
فالخوارج قالوا: مرتكب الكبيرة، كشارب الخمر، والسارق، والزاني، كافر خارج من الملة، وبهذا قال مصطفى شكري.
وحكمه في الدنيا: أنه يقتل، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وإذا مات لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا توارث بينه وبين أهله من المسلمين، فإذا شرب الإنسان الخمر مرة فإنه يقتل، وإذا مات لا يغسل ولا يصلى عليه.
أما المعتزلة فاستحيت من هذا القول وقالوا: إن من شرب الخمر أو زني أو ارتكب غير ذلك من الكبائر فإنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين، لا كافر ولا مؤمن.
وقولهم هذا كأنه استحياء من أن يقولوا: كفر، فقالوا: هو في منزلة بين منزلتين في الدنيا، حتى يفروا من مسألة قتله وعدم الصلاة عليه.
أما في الآخرة: فقد اتفق المعتزلة والخوارج على أن من شرب الخمر أو زنى أو كذب أو سرق أو أكل الربا أنه خالد مخلد في نار جنهم، لا يخرج منها أبداً، واستدلوا على قولهم بأدلة من الكتاب ومن السنة.(43/4)
أدلة الخوارج والمعتزلة على أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن
استدل الخوارج والمعتزلة على قولهم بأدلة أولها: أن الشارع -وهو الله عز وجل أما الرسول فإنه ناقل للشرع- ترع من مرتكب الكبيرة اسم الإيمان، وإذا نزع منه اسم الإيمان فقد وضعه في دائرة الكفر، وذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، إذاً: فالزاني عند الخوارج والمعتزلة في الظاهر أنه كافر وليس بمؤمن بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه أبصارهم وهو مؤمن)، ففاعل الكبيرة ينزع منه اسم الإيمان، وهذا أول صنف من أصناف الأدلة.
ثانيها: قالوا: إن الله جل وعلا جعل مآل الذي يرتكب الكبيرة إلى النار، لا إلى الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث)، وقال: (لا يدخل الجنة نمام)، والديوث: هو الذي يرضى الخبث في أهل بيته، كأن يجعل امرأته تمشي في الشارع متبرجة مثلاً، فهذا من الدياثة.
والنمام: هو الذي ينقل الكلام ليفسد بين الآخرين.
أيضاً: يستدلون بحديث: (لا يدخل الجنة منان) وهو الذي يمن بالخير الذي يفعله، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن هؤلاء لا يدخلون الجنة لكفرهم.
ثالثها: البراءة من الذين يفعلون الكبيرة، كقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)، كالذي يغش في الامتحانات مثلاً، وقد رأينا أناس يغشون في امتحان الشريعة، فإن قيل له: (من غشنا فليس منا) قال: هذا تعاون على البر والتقوى، وليس بغش! والذي أتذاكر معه في الامتحان إنما يذكرني وأذكره!! وقد يقول: إن الغش شيء لا أعرفه، ولكن هذا يذكرني بما نسيت فقط فليس بغش.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد قال بعض أهل العلم: من غش في امتحانات البكالوريوس أو النظام فلا يجوز له أن يعمل بهذا البكالوريوس، والمال الذي يأخذه يمكن أن يكون مشبوهاً أي: فيه شبه.
فكل منا يفتش في نفسه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن جلس أو مكث بين أظهر المشركين)، فقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا يتبرأ إلا من الكافر.
إذاً: من غش أو جلس بين أظهر المشركين، أو طلب الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين فهو من هذا الصنف.
رابعها: أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نقل الشرع عن الله جل وعلا سمى الكبيرة والمعصية كفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً -بالتصريح- يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر)، أي: الذي يحلف بالنبي، وحياة أمه، ورحمة أبيه، كل هذا كفر.
فهذه أدلة جيشوها وأثبتوا فيها أن كل مرتكب كبيرة كافر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا الفعل كفراً، وتبرأ ممن فعل ذلك، وجزم بأنه: (لا يدخل الجنة نمام ولا قتات).
وهؤلاء هم أهل الغلو والإفراط.(43/5)
رأي المرجئة في مرتكب الكبيرة
في المقابل جاء أصحاب التفريط، وهم المرجئة، فلم يفرقوا بين كبيرة ولا غيرها، وقالوا: لو زنى وشرب الخمر وأكل الربا، فإيمانه كإيمان جبريل، لا يقل عنه قيد أنملة -كما يقولون- واستدلوا على ذلك بقول ناقل الشرع صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، فقالوا: هذا الرجل الذي فعل الكبائر هو عند الله مثله مثل جبريل، طالما قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وأجود الناس في تطبيق مذهب المرجئة هم المصريون، حيث يقولون: طالما القلب نقي أبيض، والإنسان يقول: لا إله إلا الله، فمكتوب أنه مسلم ولو فعل أي معصية، فإن (لا إله إلا الله) تشفع له، وطالما أن قلب الرجل أبيض نقي فإيمانه كإيمان جبريل، كما ذهبت إليه المرجئة.
وهكذا فإن أهل البدع إما في غلو وإفراط وإما في جفو وتفريط.(43/6)
رأي أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة
إن أهل السنة والجماعة جاءوا بالحق البين، فهم وسط بين طرفين، حيث قالوا: مرتكب الكبيرة في الدنيا فاسق فاجر، له معاملات خاصة: فنحبه في الله على إيمانه وقوله: لا إله إلا الله، وعلى صلاته، ونبغضه بأكله للربا، كما نبغضه ونهجره لله جل وعلا للبدعة التي يبتدعها، وبالمعاصي التي يقترفها.
وقالوا: ننظر إليه بعينين: عين الشرع، وعين القدر، فأما عين القدر: فلأن الذي قدر عليه أن يعصي، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقه بخمسين ألف عام هو الله، فنقول: كتب الله عليه ذلك، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، ونبكي عليه، فربما كان أحدنا في مكانه.
وأما النظر إليه بعين الشرع: فلأنه قد عصى الله فلا بد أن نعاديه ونبغضه، وعند النظر إليه بعين القدر فلابد أن نشفق عليه وننصحه، ونحمد الله أنا لسنا مثله، هذا كله في الدنيا.
أما في الآخرة فمآله إلى الجنة، سواء عذب حتى نظف من هذه المعاصي والكبائر، أو غفر الله له من أول وهلة فأدخله الجنة دون عذاب، سواء زنى أو سرق أو أكل الربا.(43/7)
الرد على الدليل الأول للخوارج
الخوارج هم أهل الغلو والإفراط، ولذلك قالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
فدل هذا على نزع الإيمان من مرتكب الكبيرة.
فإن رددت عليهم بقول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، أو بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، فسوف يقولون لك: نحن نوافقك على ذلك، فصاحب الكبيرة إذا ذكر الله واستغفر وتاب قبلت توبته.
ولذلك لما كانوا في السجون إذا اغتاب أحدهم يكفر بذلك، ثم يخرج ويغتسل ويرجع تائباً إلى الله بعد ذلك، فكأنه تجدد دينه مرة أخرى, إذاً: فهذا لا يكفي في الرد عليهم، ولكن الجواب عليهم أن يقال لهم: لا نوافقكم على ذلك؛ لأن مراتب الدين ثلاثة: إسلام، وإيمان، وإحسان، فإذا أسقطتم الزاني من درجة الإيمان، فلابد أن ينزل إلى درجة الإسلام، لكنكم أنزلتموه من مرتبة الإيمان إلى الكفر، وهذا غير صحيح، فلكي يكفر العبد لابد أن ينزل من مرتبة الإحسان إلى الإيمان، ثم من مرتبة الإيمان إلى الإسلام، ثم يخرج من الإسلام إلى الكفر، وأنتم أخرجتموه من الإيمان إلى الكفر مباشرة، ولم تتدرجوا في مراتب الدين.
فالعاصي قد ينزل من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام، فإن قالوا: ما دليلكم على ذلك؟ قلنا: دليلنا: أن المسلم هو الذي لا يخلد في النار، ومآله إلى الجنة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق)، فالنبي صلى الله عليه وسلم أثبت له على الأقل أصل الإيمان الذي هو الإسلام، فالمسلم يدخل الجنة بأصل الإسلام وإن زنى وسرق، فالزنى والسرقة أسقطته من مرتبة الإيمان إلى الإسلام، لا إلى الكفر.
ولذلك قال بعض السلف: إذا زنا المرء رفع إيمانه كالظلة عليه، ثم إذا رجع إلى ربه نزل إيمانه إلى قلبه كما كان.
هذا هو الرد على النوع الأول من أدلتهم.(43/8)
الرد على الدليل الثاني للخوارج
النوع الثاني من أدلتهم: هو أن الله جعل مآل مرتكب الكبيرة إلى النار في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) و (لا يدخل الجنة قتات) و (لا يدخل الجنة نمام) وفي قوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمنان والديوث)، وقوله صلى الله عليه وسلم في المتبرجات: (صنفان من أمتي لم أرهما، لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها: صنف بأيديهم سياط، كأذناب البقر يعلون بها ظهور الناس، وكاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، رءوسهن كأسنمة البخت)، فهؤلاء لا يدخلون الجنة.
والرد عليهم: هو أن دخول الجنة دخولان: الدخول الأول: دخول أولي بغير حساب ولا عذاب؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قيل: من هم يا رسول الله! قال: الذين لا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، وفي رواية قال: (ومع كل واحد منهم سبعون ألفاً، فكبر عمر، ثم قال: ويحثوا الله بكفه، ثلاث حثيات)، فالرحمن يحثوا ممن يدخلون الجنة بلا حساب، ثلاث حثيات.
وهذه زيادة صحيحة.
فهؤلاء يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا دخول أولي.
وفي حديث أظنه صحيح الإسناد: (أن الإسلام يأتي يوم القيامة فيتمثل لـ عمر بن الخطاب، فيأخذ بيده، فيحتج أمام ربه، فيقول: هذا الذي أعزني، فيأخذ بيد عمر فيدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب) وأرجو أن يكون صحيحاً، والغرض: هو بيان أن في الجنة دخولاً أولياً من غير حساب ولا عذاب!! الدخول الثاني: هو الدخول الثانوي، بعد التنظيف من الذنوب بالعذاب، حيث يدخل من غلبت سيئاتهم حسناتهم النار، حتى يحترقوا ويصيروا حمماً، فعندما يصيرون حمماً يخرجهم الله من النار، فيدخلهم في نهر اسمه نهر الحياة، فيحيون، ثم بعد ذلك يدخلهم الجنة، إذاً: فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، وقوله: (لا يدخل الجنة ديوث)، وقوله: (لا يدخل الجنة قتات)، وقوله في الكاسيات العاريات: (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) المقصود به: نفي الدخول الأولي، حيث جاءت القرائن بجيوشاً مجيشة، فأخرجت الدخول الثانوي وأبقت الدخول الأولي.
فمن هذه القرائن: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله مصدقاً بها قلبه دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) وإن كان ديوثاً، بأن أراد الخبث لأهل بيته، أو شرب الخمر، لكن بشرط: أن يقولها -أي: كلمة التوحيد- صادقاً بها قلبه، أو مخلصاً لله جل وعلا.
ومن القرائن كذلك: قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، فقوله: (ما دون ذلك) أي: دون الشرك، فيدخل في ذلك النمام، والقتات، وشارب الخمر، والزاني، والسارق، والمغتاب، والديوث، وكل هؤلاء قد يدخلون في مغفرة الله جل وعلا.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) أي: لا يدخلها دخولاً أولياً، وقوله عن المتبرجات: (ولا يجدن ريحها) أي: أول الأمر، ثم بعد ذلك يجدن ريحها عندما يدخلن الجنة إن شاء الله.
نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنان، مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، هذا هو الرد على النوع الثاني من أدلة الخوارج القائلين بتكفير مرتكب الكبيرة.(43/9)
الرد على الدليل الثالث للخوارج
النوع الثالث من أدلتهم: هو البراءة ممن يفعل الكبائر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن مكث أو جلس بين أظهر المشركين).
فتبرأ من الناس التي تقعد في لندن، وفي إنجلترا وأمريكا، وأسبانيا، هؤلاء الذين يعيشون من أجل الدنيا والدرهم والدينار، تبرأ منهم النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فقال: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين، قالوا: علامَ يا رسول الله! قال: لا تراءى نارهما)، أي: أن المؤمن لا ينبغي له الجلوس في مكان يرى فيه نار الكفار من ذلك المكان، للدلالة على بعد المسافة التي لابد أن يبتعد المؤمنون فيها عن الكفار؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] أي: أن الفتنة ستعم الكل.
فالذين يعيشون في بلاد الغرب من أجل الدرهم والدينار وقعوا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، وفي رواية: (تعس عبد الزوجة).
كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا).
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن فعل ذلك، فهل معنى ذلك أن صاحبه خرج من الملة؟ أم تبرأ من هذا العمل؟ إذاً: فيجاب على استدلالهم بأن التبرؤ، إما تبرؤ فخرج به صاحبه من الملة، وإما تبرؤ من العمل؟ والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تبرأ من عمل المعصية، والذي يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تبرأ من عمل من يعصيه قول الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216]، فدل على أن البراءة من العمل.
إذاً: فقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين)، أي: من عمله، وقوله: (أنا بريء ممن غش)، أي: من عمله، فلم يتبرأ منه، فلا يخرج من دائرة الإسلام، وإنما يستحق العقاب بعصيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، أي: استحق العذاب، وهو في مشيئة الله جل وعلا.
كما يحاب عليهم أيضاً بما فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما سمع أناساً يقولون: (صبأنا صبأنا)، يريدون أن يقولوا: أسلمنا، أسلمنا، لكن ما أحسنوا أن يقولوا ذلك، فقتل فيهم خالد رضي الله عنه، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد).
فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من عمل خالد، ولكنه لم يتبرأ منه، فهل يجرؤ أحد أن يقول: إن خالداً في نار جهنم خالداً مخلداً فيها؛ لأن الرسول تبرأ من عمله؟ حاشا لله أن يكون ذلك، بل هو بإذن الله مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
نسأل الله أن نكون معهم.(43/10)
الرد على الدليل الرابع للخوارج
النوع الرابع من أدلتهم: هو أن المعصية سماها النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
فعلى قولهم هذا: فحرب الخليج بين الكويت والعراق كان العراقيون والكويتيون فيها كلهم كفرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)! واستدلوا كذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر -أي: فعلهما كفر- الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت).
ويجاب على هذه الأدلة بأن الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر.
والذي يفرق بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر هي القرائن المحتفة بالأدلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، أي: يقاتل بعضكم بعضاً، فظاهر الحديث أن الذين يفعلون ذلك كفرة، ولكن قد جاءت القرائن وأثبتت لنا أنهم ليسوا بكفرة، وأن فعلهم كفر أصغر، وكبيرة من الكبائر، لكنها ليست بكفر أكبر.
فمن هذه القرائن: قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
ولما كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم بالناس دخل الحسن فافتن به النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم، فنزل من على المنبر، وأخذه وضمه، وقال: (صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، فأخذه وضمه صلى الله عليه وسلم وقال: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وهما معاوية ومن معه، وطائفة علي رضي الله عنه وأرضاه، فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين.
إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، المقصود به: الكفر الأصغر لا الأكبر، فالذي حدث بين الكويت والعراق كان معصية، والمتقاتلون عصاة، ومن وافق على ذلك عاص، فالعراق باغية، والكويت لا بد أن تدفع الثأر عنه، فيدخلون تحت الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
وأما النائحة، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها تأتي يوم القيامة تطربل بطربال من زفت أو قار)، أي: أنها تعذب بمعصيتها حتى تزيد حسناتها على سيئاتها ثم تدخل الجنة، إذاً: ليست بكافرة؛ لأن الكافر يخلد في النار.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية أتى بأمر يذهب العقول، ويجعل الإنسان يخشى على نفسه أن يقع في شرك، قال: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، قال: الشرك هنا عام، سواء كان أكبر أم أصغر، أي: أن الشرك الأكبر والأصغر لا يغفره الله جل وعلا.
وإن كان في هذا الكلام بعض النظر، لكن ينبغي على المرء أن يخشى على نفسه أن يقع في الشرك الأصغر، فيحلف بغير الله ولو ناسياً، فإن فعل ذلك فلا بد أن يُكَفِّر، ويقول: لا إله إلا الله، حتى لا تكتب في صفحاته، فلا يغفر له على قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، وأشهد ألا إله إلا أنت، وأستغفرك وأتوب إليك.(43/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - سياق ما روي عن النبي في الذنوب التي عدهن من الكبائر
إن الخطأ والتقصير من طبيعة الإنسان إلا من عصمه الله، فلما كان الأمر كذلك فتح الرحمن سبحانه لعباده أبواب رحمته، وحذرهم من الإصرار على المنكرات، والإعراض عن البحث عن المكفرات، ودعاهم إلى التوبة، والتوبة لا يقبل منها إلا النصوح، وهي ما اجتمع فيها ثلاثة أشياء: الندم على ما كان، والعزم على عدم العودة، والإقلاع عن المعصية، وإن كانت المعصية متعلقة بآدمي فلابد من التحلل منه؛ ولذا اختلف العلماء في توبة القاتل.(44/1)
الكبائر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا فيما سبق عن الكبائر، وحد الكبيرة والصغيرة، والفرق بينهما، وذكرنا هل للكبائر مكفرات من الأعمال أم لا؟ وذكرنا الخلاف بين العلماء في ذلك.
ثم ساق المؤلف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذنوب التي عدهن في الكبائر مثل: الشرك بالله، والقتل والزنى، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وأكل الربا، والسحر، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والسرقة، واستحلال البيت الحرام، والطعن في الأعراض، وتكلمنا على كثير من هذه الكبائر، وبقي منها مسألة السحر؛ لأنها وردت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) فذكر منها (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين والسحر) والسحر أيضاً من الكبائر.(44/2)
السحر تعريفه وأقسامه
السحر في اللغة: كل ما خفي سببه، وهو قسمان: سحر حقيقي، وسحر تخييلي.
القسم الأول: السحر الحقيقي: وهو نوعان: النوع الأول: سحر يستخدم فيه الساحر الاستعانة بالشياطين، كما قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، فهذا النوع فيه استخدام الشياطين والجن، حيث يستمتع به الإنس، ويلبي له رغباته في الإضرار بالآخرين، أو في جلب المنفعة له أو دفع المضرة عنه، في شيء لا يستطيعه البشر وهو في قوة الجان، وهذا ليس بدون مقابل؛ لأن الجني لا يمتع الإنسي بهذه الطلبات إلا وهو أيضاً يتمتع منه، فيجعل هذا الآدمي يشرك بالله، ويعمل المنكرات، ويقدم القرابين للجن، وهكذا يستمتع كلاً منهما بالآخر، وهذا مصداقاً لقول الله تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:128]، فقوله جل وعلا: {اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128]، فيه دلالة واضحة على أن الإنسي يستمتع بالجني وأيضا ً الجني يستمتع بالإنسي، حتى في أمر الجماع، فإن الجني يشارك الإنسي في ذلك، وليس هذا مقام التفصيل في هذا الموضوع.
النوع الثاني من أنواع السحر الحقيقي: استخدام الساحر للعقاقير والأدوية، يعني: يضعها في مشروب ويقدمه للذي يريد أن يسحره، فتقع في معدة الرجل، فيتأثر به بدنه وعقله وذهنه، وحياته كلها تنقلب رأساً على عقب، وترى ذلك بالتجربة، فإذا قرأ المعالج على الذي شرب السحر، فإن معدته تغلي كالمرجل، فيرى تحركات غريبة في معدته، وهذا من أثر السحر.
فالنوع الأول من القسم الأول هو من أكبر الكبائر؛ لأنه شرك أكبر، فالساحر يستعين بغير الله جل وعلا، ونحن شرطنا في الاستعانة بغير الله جل وعلا شروطاً: أن يكون المستعان به حياً حاضراً قادراً، وذلك حتى تكون هذه الاستعانة غير شركية، أما إن كان غائباً، مثل الشياطين والجن، فهذه الاستعانة كفرية شركية، ويتدرج به المرء من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر، فهذه من الكبائر، ويدخل هذا النوع في الخلاف المشهور بين العلماء: هل الكبائر لها مكفرات من الأعمال أم لا؟ وقلنا: إن هذه المسألة فيها قولان لأهل العلم: أحدهما: أن الأعمال تكفر الكبائر، بدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (هل يبقى من درنه شيء؟) فإن كان بسبب ثواب يوم وليلة لا يبقى من درنه شيء، فكذلك الأعمال تكفر الكبائر.
أما النوع الثاني من القسم الأول فهو ظلم ليس بشرك.
القسم الثاني: السحر التخييلي: وهو ليس سحراً حقيقياً، وإنما هو خفة يد، أو خفة حركة، فهو يسحر الأعين، لا يقلب الحقائق، وهذا كما قص الله علينا في سحرة فرعون، فإنهم كانوا لا يقلبون الحقائق، يعني: أن الحبال لم تقلب حيات حقيقة، بل كانت محشوة بزئبق، وكانت تتحرك أمام الناس، ولذلك قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فهذا النوع أيضاً من المنهي عنه؛ لأن فيه تزييف وتزوير وغش، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا)، فهو أيضاً من الكبائر.(44/3)
إيذاء الجار
ثم ذكر بعد ذلك مسألة الجار، وأن إيذاءه من الكبائر، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من لا يأمن جاره بوائقه).
وهناك حديث آخر يدل على لعن الذي يؤذي جاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في مسند أحمد - جاءه رجل فقال: يا رسول الله! جاري يؤذيني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ أمتعتك وضعها في وسط الطريق، ففعل، فكان كلما مر عليه أحد يقول: يا فلان، من فعل بك هذا؟! فيقول: جاري، فيقول: لعنة الله على جارك، فكل من يمر عليه يلعن جاره)، فهذا فيه دلالة على أن إيذاء الجار من الكبائر، ويدخل أيضا الخلاف: هل تكفرها الأعمال أم لا؟ ويبدو لي أن الإمام العلامة -أي: المؤلف- يرى أن هذه الكبائر لابد لها من توبة، وأن هذه الأعمال يمكن أن لا تكفرها، وهو بذلك كأنه ينحو نحو الجمهور، أي: أن الكبائر لابد لها من توبة، ولذلك عقب بعدها بذكر أحاديث وآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب التوبة، وتقديم التوبة عن المعاصي، ووجوب استحلال المسلمين بعضهم من بعض قبل نزول الموت، فبدأ يتكلم عن التوبة بعد أن تكلم عن الكبائر، وكأنه يشعر بأن هذه الكبيرة لا تمحى ولا تكفر إلا بأن يأتي المرء ربه جل وعلا بتوبة نصوح.(44/4)
التوبة
التوبة لغة: مأخوذة من تاب يتوب، أي: رجع يرجع، فهي من الرجوع.
والتوبة شرعاً: هي الرجوع إلى الله جلا وعلا بصدق وعزم وحزم، وهي الإقلاع عن الذنب خوفاً من الله -أي: ليس استحياء من البشر مثلاً، أو خوفاً على مكانة أو وجاهة- والعزم على عدم فعل هذا الذنب.(44/5)
التوبة
التوبة لغة: مأخوذة من تاب يتوب، أي: رجع يرجع، فهي من الرجوع.
والتوبة شرعاً: هي الرجوع إلى الله جلا وعلا بصدق وعزم وحزم، وهي الإقلاع عن الذنب خوفاً من الله -أي: ليس استحياء من البشر مثلاً، أو خوفاً على مكانة أو وجاهة- والعزم على عدم فعل هذا الذنب.(44/6)
حكم التوبة
التوبة واجبة، فقد أوجبها الله على كل المؤمنين قاطبة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا} [التحريم:8]، فهذا أمر، والظاهر في الأمر الوجوب، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8]، إلى آخر الآيات، وأيضاً قال الله تعالى آمراً عباده المؤمنين: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، فقسم الناس إلى قسمين: تائب وظالم، فيدل ذلك على أن الذي لا يحدث لذنبه توبة، فهو ظالم، بعيد عن الله جل وعلا.
أيضاً في السنة قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالتوبة، فالصحابة الذين هم أجل الناس وأعظمهم قدراً عند الله جل وعلا، قد أمرهم الرسول أن يكثروا من التوبة، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم عن الأغر بن عبد الله المزني - أنه قال في مجلس الصحابة: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة).
وفي الصحيح أيضاً عن ابن عمر: أنهم كانوا يعدون للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين مرة، أي: يستغفر الله ويتوب إليه، فقد كان يأتمر بأمر الله عند أن قال له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
فالتوبة مأمور بها كل مؤمن، حتى وإن لم يستحدث ذباً، فإنه يستغفر لتقصيره في طاعة الله؛ لأن التقصير في طاعة الله ذنب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وخرج منه يستغفر الله، فقال: (إنه ليران على قلبي).
والعلماء استنبطوا من ذلك أنه إذا دخل الخلا لم يذكر الله جل وعلا بلسانه، فكان يستغفر الله عندما يخرج، مع أن قلبه ذاكر لله جل وعلا، ولكنه يستغفر بعد الخروج لأن لسانه كف عن ذكر الله جل وعلا، وقد كانت وصيته صلى الله عليه وسلم: (اجعل لسانك رطباً بذكر الله جل وعلا).
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! عبد يذنب الذنب، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يكتب عليه، يعني: يكتب أنه أذنب الذنب، فقال: يا رسول الله! أرأيت لو استغفر، قال: يغفر له، قال: ثم أذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم استغفر، قال: يغفر له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إن الله لا يمل حتى تملوا)، يعني: كلما فعلتم الذنوب ثم استغفرتم فإن الله سيغفر لكم.
وأيضاً في مسند أحمد ورد (أنه جاء رجل مستغفراً ربه فقال: إني قد أذنبت ذنباً، فقال الله تعالى: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفره، اشهدوا أني قد غفرت له، ثم عاد فاقترف نفس الذنب مرة ثانية بعد أن عزم على الإقلاع، ثم جاء فقال: رب إني قد أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، اشهدوا أني قد غفرت له، ثم جاء الثالثة، فقال الله تعالى: عبدي افعل ما شئت ثم استغفرني فسأغفر لك).
ولا عجب في ذلك، فإن الله جل وعلا يفرح أشد الفرح بتوبة العبد المذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولأتى بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر الله لهم).
وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله أشد فرحاً بتوبة العبد من أحدكم كانت معه راحلة في وهدة من أرض قاحلة، ما فيها شيء، وكانت الراحلة عليها زاده ومتاعه فرحلت عنه، فعلم أن الموت سيأتيه، ثم ذهب إلى ظل شجرة يستظل بها وهو ينتظر الموت، فنام ثم استيقظ فوجد الراحلة أمامه، فمن شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، والله جل وعلا يعذره؛ لأنه من شدة الفرح قد يحدث الذهول للمرء، فلا يؤآخذ على ما يقول.
فالله جل وعلا أشد فرحاً بتوبة العبد من هذا الذي فرح بقدوم راحلته إليه، والمراد التوبة الحقيقية، فيجب أن نحث أنفسنا وغيرنا على التوبة.
والتوبة ليست بجهد منا، بل إنما التوبة من الله جل وعلا، فالتوبة محفوفة بتوبتين: توبة قبلية، وتوبة بعدية، وكلاهما من الله جل وعلا، لكن التوبة البعدية هي قبول توبة العبد، قال الله تعالى عن الثلاثة الذين خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]، أولاً: تاب عليهم، أي: أودع في قلوبهم التوبة، وبعد ذلك: مكنهم أن يرفعوا الأيدي، وأن يتذللوا ويتضرعوا ويخضعوا لله جل وعلا توبة إليه، فيقبل هذه التوبة، فالتوبة محفوفة بتوبتين توبة قبلية من الله جل وعلا، وتوبة بعدية هي منه سبحانه أيضاً، أي: قبول توبة العبد التي هي في الوسط.(44/7)
شروط قبول التوبة
ولكي تقبل التوبة يجب أن تتوفر فيها شروطها، وهي ثلاثة إذا كان الذنب بين العبد وبين الله، وأربعة إذا كان الذنب يتعلق بحق آدمي على التفصيل الآتي: الشرط الأول: الندم على ارتكاب المعصية، فلا يتصور في عبدٍ مصر على معصية، يتغنى بها، ويباهي بها الناس، ويحارب الله جل وعلا بها، وينشرها بين الناس، أنه يتوب، أو أنه يريد أن يتوب.
فالذي يتوب بحق هو الذي لابد أن يكون في قلبه الحسرة والألم على أنه تجرأ على محارم الله جل وعلا، فالندم أول شروط التوبة، كما في مسند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، فحتى تكون التوبة مقبولة عند الله لابد أن يتوفر فيها الندم.
وعندما أقول: للتوبة شروط حتى يقبلها الله، فهذا يعني: أنه إذا اختل شرط منها فإنها غير مقبولة عند الله جل وعلا، فإن كانت الشروط خمسة، وأتى بأربعة، فإنها لا تقبل عند الله جل وعلا.
الشرط الثاني: الإقلاع عن الذنب، فإن العبد إذا قال: أريد أن أتوب، أو أنا نادم على ما فعلت، وهو مصر على ذنبه، فهذا مستهزئ والعياذ بالله، وقد يصل إلى الكفر؛ لأنه يقول: أنا أريد أن أتوب، وهو يزيف هذا في قلبه بحبه لهذه المعصية، كما ورد عن بعضهم أنه يدخل ليزني ويقول: التوبة يا رب، فهذا استهزاء، وقد يصل به إلى الكفر، فلابد من الإقلاع عن الذنب، وهذا هو الشرط الثاني للتوبة، حتى تكون مقبولة عند الله جل وعلا.
الشرط الثالث: العزم على عدم فعل هذه المعصية، أي: العزم على عدم الرجوع للمعصية، وإلا فلا يكون صادقاً عند الله جل وعلا.
وهذه الشروط إذا كان الذنب بينه وبين الله جل وعلا، أما إذا كان الذنب في حق للآدمي، فلا بد من شرط رابع ينضم إلى هذه الشروط الثلاثة، والقول فيه كالتالي: الشرط الرابع: إرجاع الحق إلى صاحبه، فلا تكتمل التوبة في عبد غصب أو سرق أو اغتاب أو سب أو شتم، حتى يتحلل من ذلك، وحتى يرد الحقوق إلى أهلها، فيتحلل مما بدر منه بلسانه من سب أو شتم أو غيبة، وذلك بطلب السماح من الشخص الذي ظلمه، هذا هو الشرط الرابع، له صور: الصورة الأولى: أن يكون قد اغتاب امرأ مسلماً في مجلس، فتوبته لابد أن تتوفر فيها الشروط الثلاثة أولاً، أما الشرط الرابع، فعند الجمهور أنه لا تكتمل التوبة حتى يذهب إلى الذي اغتابه، فيقول له: قد اغتبتك، وأنا أتحلل منك، أي: اقتص مني، أو سامحني، فإن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما سب عمر بعد غضبه منه، ذهب إليه ليستسمحه، فـ عمر لم يرض، أي: أن أبا بكر أراد أن يقتص عمر منه، أو أن يتحلل مما فعل مع عمر وأيضاً ورد أنه سب بعض الأنصار فقال الأنصاري: يغفر الله لك، فقال أبو بكر: لابد أن تقتص مني، الآن تسبني؛ لأنه يعلم أن التوبة لا تكون إلا بذلك، قال: يا أبا بكر لا أقتص منك، يغفر الله لك.
فالغرض المقصود: أنه لابد أن يتحلل، والجمهور استدلوا على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل، فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار يوم القيامة، ولكن الحسنات والسيئات)، فعلى عرصات يوم القيامة ليس هناك دراهم ولا دنانير، بل هي حسنات تؤخذ من المغتاب أو من الغاصب أو من السارق أو من القاتل، تؤخذ من صحيفته إلى صحيفة هذا الذي وقع في حقه أو عرضه.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله له قول آخر، غير قول الشافعية والمالكية والحنابلة والأحناف، وقوله هذا ترجيح للرواية الأخرى عن الحنابلة، حيث قال: إن المغتاب لا يذهب ويتحلل ممن اغتابه، بل له أن يتوب إلى الله جل وعلا، بأن تتوفر فيه الشروط الثلاثة، ثم بعد ذلك يذهب إلى المجلس الذي اغتاب فيه نفس الرجل، فينشر محاسن هذا الرجل، وحجته في ذلك حجة عظيمة؛ لأنه يغوص في المعاني، وينظر إلى مقاصد الشريعة، فقد قال: لو ذهب الرجل إلى الذي اغتابه وقال له: اغتبتك، أو سببتك، أو انتقصت من قدرك، لحدثت المشاحنة والمشاجرة بينهما، ويمكن أن تصل إلى القتال، فإن العرب قديماً كانوا يقتتلون على جمل أو فرس أو أي شيء، فما بالك بالمسبة، فنظر رحمه الله إلى ذلك وقال: حتى تتآلف القلوب، ويكون الوئام منتشراً بين الناس، فلا يذهب ولا يتحلل منه لكن يستغفر الله، ويدعو له، ثم ينشر محاسنه بنفس المجلس الذي سبه فيه.
ونحن نقول الراجح من ذلك هو التفصيل، وهذا التفصيل يكون على أمرين: الأمر الأول: هو أن تنظر في حال الذي وقعت في حقه الغيبة، فتنظر فيه وفي شخصيته وأخلاقياته ودينه، فإن كان تقياً ورعاً سليماً مسامحاً، فهذا وجب عليك أن تذهب إليه، وتتحلل منه، وتصرح له أنك وقعت فيه؛ لأنه بدينه وورعه وتقواه، سيسامحك، أو يقول لك: أقتص منك الآن، ولن تحدث المشاحنة بعد ذلك؛ لأنه يعلم من دين الله جل وعلا أن الله سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25].
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج رجل، في المرة الأولى والثانية والثالثة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فيخرج نفس الرجل)، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص، ذهب إليه لينظر اجتهاده في العبادة، فوجده في الليل نائماً، فقال: لعله إذا أرخى الليل سدوله قام الرجل يصلي لله جل وعلا، فقد شهد له النبي بالجنة، فوجده نائماً طوال الليل، ثم في النهار قال ابن عمر: يصوم النهار، فلعله بالصوم بلغ ما بلغ، فما وجده صائماً، فلما استشكل عليه هذا الأمر، كيف لا تقوم الليل، ولا تصوم النهار؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لك بالجنة، فقال: والله يا هذا ليس عندي كثير صيام ولا صلاة، ولكني أبيت وليس على أحد في قلبي شيء، وهذا مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير)، فهذا يجب على المرء أن يتحلل منه، فيذهب ويقول له: سببتك في مجلس كذا، وأنا أريد أن أتحلل منك؛ لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه؛ لأنه ليست ثمة درهم ولا دينار يوم القيامة، بل هي الحسنات والسيئات).
الأمر الثاني: أن يكون الرجل ليس بهذه الصفات، أي: ليس دينا ولا ورعاً ولا تقياً، بل رجل قلبه غليظ، وهو سريع الغضب، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: (سريع الغضب بطيء الرضا)، فهذا -عملاً بمقاصد الشريعة- لا يجوز لك أن تتحلل منه، أي: لا يجوز لك أن تذهب إليه وتقول: أنا سببتك، أو اغتبتك أو وقعت فيك؛ لأنه سيأتي بمفسدة أعظم من المصلحة المرجوة، والقاعدة الفقهية تقول: إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن كانت المصلحة أن يتحلل منه حتى لا تكون هذه الغيبة في صحيفته، فإن المفسدة أعظم، وهي التقاتل والتدابر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولعل الله يرضي هذا الشخص يوم القيامة فيعطيه من حسنات غير حسنات هذا الرجل، ويقول خذ بيد أخيك وادخل الجنة.
الصورة الثانية: رجل أكل على رجل آخر مالاً، أو أكل أموال الناس بالباطل، سواء في معاملة تجارية، أو في قضية نصب، أو قضية غصب، فحتى تكتمل التوبة، فلا بد من أن توفر الشروط الثلاثة، والشرط الرابع أن يتحلل من صاحب المال، وقد اتفق العلماء على أنه يجب عليه أن يرد هذا المال لصاحبه، فإذا ذهب إلى الرجل فلم يجده، فإنه يرده إلى الورثة، فإن لم يجد هذا الوريث، فيعطي الذي بعده، فإن لم يجد له ورثة، ولا يستطيع أن يصل إلى هذا الرجل -الذي يريد أن يرد عليه الحق- فله في ذلك طريقان: الطريق الأول: أن يتصدق بهذا المال لهذا الرجل، يعني: ينوي أن هذه الصدقة لهذا الرجل الذي أخذت منه المال ولم أجده، وهذا بشرط أنه لم يجده، فإن وجده وفعل ذلك، فإنه يضمن، يعني: لو أخذ مالاً من عمرو، ثم أراد أن يتوب، ولم يبحث عن عمرو حتى يرد له المال، بل تصدق به بنية أنه عن عمرو، ثم خرج عمرو وظهر، فإنه في هذه الحالة يضمن له هذا المال، ويجب عليه أن يرده لعمرو؛ لأن شرط التصدق عنه أن لا يجده أولا يجد له وريثاً، فإذا توفر هذا الشرط وتصدق عنه فلعل الله جل وعلا أن يرضيه يوم القيامة بهذه الصدقة، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه اشترى جارية، ثم قام ليعطي المال أو حق الجارية للرجل فلم يجده، فبحث عنه وجد في البحث فلم يجده، فقال: اللهم هذه الصدقة عن رب الجارية -أو حاكم أو مالك هذه الجارية- فتصدق بها، وقال: فإن رضي في الآخرة بهذا الصدقة، فهي له، فإن لم يرض فهي لي، ويأخذ من حسناتي ما يكفيه لهذا الثمن أو لحق الجارية.(44/8)
الخلاف في توبة القاتل
الصورة الثالثة: القتل، وهذه الصورة مشكلة، وفيها خلاف كثير بين العلماء، يعني: رجل قتل نفساً مسلمة، فأراد أن يتوب، فهل له توبة؟ وما شروطها؟ نقول: مسألة قاتل النفس المؤمنة عمداً، وهل له توبة أم لا؟ اختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه -معلم ابن عباس - وهو لـ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أنه ليس له توبة، ولأصحاب هذا القول في ذلك أدلة من الأثر ومن النظر: أما من الأثر فقالوا: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
فهذه الآية صريحة، وهي من أقوى الأدلة على خلود القاتل في النار، وإن كان مسلماً، كما أن فيها قوله تعالى: ((وَلَعَنَهُ))، واللعن: أصله الطرد من رحمة الله جل وعلا.
وقالوا أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (لا يزال المؤمن في سعة من دينه ما لم يصب دماً حراما)؛ لأنه من الإفساد في الأرض.
ويستدل لهم أيضا بالقياس: وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين- أنه قال: (من قتل نفسه بحديدة فهو بحديدته يتوجؤها في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها، ومن تحسى سماً فهو في نار جهنم يتحساه، خالداً مخلداً فيها)، فهذا قاتل نفسه، ونفس الغير تساوي نفسه، فالعلة مشتركة، إذاً: فالقياس صحيح، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
والعلماء لما تلكموا في قاعدة الإكراه قالوا: إن الله جل وعلا رفع عن المكره الإثم إلا في القتل والزنا، فلو أكره على شرب الخمر يشرب، ولو أكره على أن ينطق كلمة الكفر ينطق، ولو أكره على الزنا لا يفعل؛ لأن عرض أخيه مثل عرضه، ولو أكره على القتل فإنه لا يفعل بالاتفاق؛ لأنهم قالوا: إن نفسه ليست بأولى من نفس أخيه، فبالقياس على هذا الحديث أن يقال: إذا كان قاتل نفسه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها، فقاتل غيره يأخذ نفس الحكم، وهذه أدلة قوية جداً لهذا الفريق.
أما دليلهم النظري فقالوا: إن التوبة للقاتل لا بد أن تتوفر فيها أربعة شروط: الشروط الثلاثة المعروفة، والشرط الرابع أن يتحلل، وكيف يتحلل وهو قد أزهق روح أخيه ولا يستطيع ردها؟ فيتعذر عليه -نظراً- أن يتحلل، ونحن قلنا: إن التوبة في حق الغير لا يمكن أن تقبل عند الله جل وعلا حتى تكتمل الشروط الأربعة، وهذا يتعذر عليه أن يتحلل، ويتعذر عليه أن يرد الروح في هذا الجسد، فقالوا: فإن كان باب التحلل والأداء مغلق، فقد تعذر عليه التوبة، فلا توبة لقاتل.
القول الثاني: قول الجمهور من الفقهاء والمحدثين، وهو أنهم قالوا: للقاتل توبة، وعندنا أدلة من الأثر ومن النظر: أما من الأثر: فقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53].
فالذنوب: جمع معرف بالألف واللام فيفيد العموم، أي: كل الذنوب، فيدخل فيها القتل، ويدخل فيها الشرك كذلك، لكن بشرط أن يكون تائباً، والذي جعلنا نقيد هذا القيد أو نشترط هذا الشرط -مع أن ظاهر الآية العموم: ((يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)) - هو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فيغفر ما دون ذلك لمن يشاء، أي: دون الشرك كالقتل، فهو دون الشرك.
إذاً: القتل يدخل في نص الآية بأنه في مشيئة الله جل وعلا، فإذا كان في مشيئة الله فالنتيجة عدم الخلود في نار جهنم؛ لأن الكافر الذي يخلد في نار جهنم لا يدخل في مشيئة الله جل وعلا، أي: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، بل هو معذب حتماً بنص قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ))، فإذا كان القاتل تحت المشيئة، فهو لا يخلد في النار، إذاً: فله توبة.
واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70]، إذاً: فليس له التوبة فقط، بل يبدل الله سيئاته حسنات فوق ذلك.
لكن الفريق الأول ردوا عن الاستدلال بهذه الآية، فقد قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: كنا نرى اللين في هذه الآية: ((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ))، قلنا: حتى قاتل النفس، حتى المشرك، حتى الزاني، إذا تاب يبدل الله سيئاته حسنات، هذا لين عظيم جداً، ثم نزلت الشدة في هذه الآية: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)).
فهو رضي الله عنه يلمح بأن هذه ناسخة للآية الأخرى، وهذا الذي صرح به ابن عباس -أي: لمح زيد وصرح ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه- حين قال: لا توبة للقاتل، فقالوا له: كيف تفعل بهذه الآية، فقال: هذه الآية منسوخة، هذه كانت في أقوام من أهل الكفر يزنون ويشربون الخمر، ويقتلون ويسرقون، فجاءوا يسلمون في مكة، فاشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغفر لهم ما قد سلف، فنزلت هذه الآية في مكة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، ثم نزلت آية النساء في المدينة، والمتأخر ينسخ المتقدم، أي: ما نزل في المدينة ينسخ ما نزل في مكة، هكذا قالوا، وسنبين كيف ردوا عليهم.
واستدلوا أيضاً بقول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
وجه الشاهد قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82].
ووجه الدلالة: أن (من) تعتبر من الأسماء المبهمة، أي: أنها اسم موصول بمعنى الذي، وهي من ألفاظ العموم، فمعنى الآية: أي أحد تاب، سواء أكان مشركاً، أم كان قاتلاً، فإن الله يغفر له ما دام قد تاب من ذنبه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
قالوا: وعندنا من الأحاديث ما يثبت ذلك، أولها ما ورد: (أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم ذهب إلى راهب -عابد- فسأله: هل لي من توبة؟ قال: قتلت تسعة وتسعين نفساً، ليس لك توبة، فقتله، فأكمل به المائة -وهذا فيه دليل على أن الفرق كبير بين العابد والعالم، فشتان شتان بين القمر وسائر النجوم، فإن العالم وريث النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كالقمر والعابد كالنجوم، والفرق بينهما كبير- ثم ذهب إلى عالم، فقال: قتلت مائة نفس، هل لي من توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة، اذهب إلى أرض كذا فإن فيها أناساً صالحون فاعبد الله جل وعلا معهم، فذهب الرجل ليتوب إلى الله، فقبض في الطريق)، إلى آخر القصة، فالمقصود: أنه قد قتل مائة نفس ومع ذلك فإن العالم دله على التوبة، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
لكن يشكل علينا أننا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة حدثت في بني إسرائيل، فكيف نستدل بها على ما نحن فيه؟ نقول: الخلاف الأصولي كبير في مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فـ الشنقيطي وغيره يرجح: أنه ليس بشرع لنا على الاتفاق، لكن الصحيح الراجح ما قاله الجمهور، وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما ينسخه.
ومثال النسخ ما جاء في الطهارة، فقد كان في زمن بني إسرائيل إذا وقعت النجاسة على الثوب، فإنهم يقرضونها ويقطعون مكانها، لكن الله جل وعلا خفف علينا، وجعل في الماء طهوراً لنا.
واستدلوا من الحديث أيضاً بحديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نزني، ولا نشرك بالله، ولا نقتل أولادنا، إلى آخر ما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له).
فإذا كان كفارة له فهذه توبة، فهو لا يخلد في النار، فوجه الشاهد: قوله: فهو كفارة له، ووجه الدلالة أنه لا يخلد في النار.
واستدلوا أيضاً بحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: عبدي! إن أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً -هذا قيد وشرط مهم جداً- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة)، وجه الشاهد: قوله: بقراب الأرض خطايا.
ووجه الدلالة: أن خطايا نكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق، أي: يدخل في ذلك كل الخطايا ما عدا الشرك؛ لأنه اشترط بعد ذلك عدم دخوله.
إذاً: فهذا الحديث أيضاً حجة لمن يقول بأن القاتل له توبة؛ لأنه مهما أتى الله جل وعلا بأي ذنب غير الشرك فإن الله يتوب عليه، فإنه سبحانه سوف يأتيه بقرابها مغفرة.
وهناك أحاديث كثيرة استدلوا بها على أن القاتل له توبة، ولكن نكتفي هنا بما ذكرنا.
أما استدلالهم من النظر، فقد استدلوا بقياس الأولى، حيث قالوا: المشرك أو الكافر له توبة، ومعروف أن الشرك أعظم الذنوب، وهو أكبر الكبائر، فما بالكم بالأقل منه، يعني: الكافر الذي أشرك بالله جل وعلا له توبة، وفتح الله له الباب على مصراعيه أن يتوب، فمن باب أولى ما هو دون الشرك(44/9)
ثمرات التوبة
أول ثمرات هذه التوبة وأفضلها وأعلاها وأقواها: حب الله للتائبين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فالذي يتوب إلى الله جل وعلا محبوب عند الله، فإنك إذا تبت إلى ربك جل وعلا رفعك إلى عليين، وذكر اسمك عند أشرف الخلق، ألا وهم الملائكة، كما في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله جل وعلا إذا أحب عبداً نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فاحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه، ثم يكتب له القبول في الأرض)، فإذا أحبك الله جل وعلا أدخلك الجنة، وإذا أحبك الله جل وعلا سدد خطاك، ومنعك من كل خطيئة ورذيلة، وإذا وقعت في السفه أو المعصية، رفعك الله جل وعلا بعدها إلى توبة، بل إلى درجة أكبر، وكان سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به ويدك التي تبطش بها، جمع ذلك كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه -فأحب شيء الفرض- وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، فأي درجة فوق هذه الدرجة، فبعد تتابع النوافل، يصل العبد إلى درجة المحبوبية، هذه الدرجة -أوصلنا الله وإياكم إليها- لا ينزل العبد منها أبداً، يعني: إذا ارتقى إلى درجة المحبوبية، فإنه لا ينزل منها، ولا يشكل علينا أنه يعصي؛ لأننا نقول: إن الله سيلهمه التوبة، ويكون بحالة أحسن من الأول، ألم يأتكم نبأ المهدي المنتظر؟ كيف سيقود الأمة، وقد كان متخلفاً عنهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلحه الله في ليلة)، يعني: قبل ذلك لم يكن بنفس الجهد الذي صار إليه؛ لأنه بعد هذه الليلة سارع في الخيرات، ولسان حاله يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به).(44/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أهل الكبائر
من فضل الله على العباد ورحمته بهم أن جعل الإيمان يتفاضل زيادة ونقصاناً، وذلك لأن العباد ليسوا معصومين من الخطأ إلا من عصمه الله، فلو كان كل من وقع في كبيرة كفر -كما زعمت الخوارج- ثم في الآخرة يخلد في النار كما زعموا هم والمعتزلة؛ لكان هذا تكليفاً بما لا يطاق، وحاشا الشارع الحكيم عنه، وليس الأمر كما زعمت المرجئة أن الإنسان له أن يفعل ما يحلو له من الفجور ثم يكون مؤمناً كامل الإيمان، كجبريل والصديق، ما دام أن أصل الإيمان في قلبه، وهذا تنافيه الحكمة الإلهية والعدل الرباني بين العباد، وإنما من فعل معصية دون المكفرات فهو فاسق بمعصيته مؤمن بأصل إيمانه، وهذا قول الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة.(45/1)
حكم أهل الكبائر عند أهل الغلو، وأهل التفريط
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فنتكلم في هذا الدرس على فساق أهل القبلة، أهل المعاصي والكبائر، وفي هذا الباب مسائل، منها: هل أهل الكبائر مخلدون في نار جهنم؟ وهل أهل الكبائر كفار خرجوا من الملة كما قال أهل الغلو والإسراف، كالخوارج الحرورية أم لا؟ فإن الخوارج الحرورية قالوا: إن أهل الكبائر كفار مرتدون خارجون من الملة، وإذا ماتوا فلا يدفنون في مقابر المسلمين ولا يصلى عليهم، بل إن كانوا أحياء فإنه يفسخ عقد زواج أحدهم من امرأته وتطلق منه، ويعامل معاملة المرتد، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل.
أما المعتزلة فقالوا: لا نقول: إنه كافر، وإنما نقول: هو بمنزلة بين المنزلتين، فلا هو كافر ولا مسلم، وإنما هو في منزلة بينهما.
والصحيح: أن هذا الكلام تغطية لهم حتى لا يتهموا بأنهم خوارج، لكن قولهم يئول إلى قول الخوارج: إنهم -أي: أصحاب الكبائر- مخلدون في نار جهنم.
فهذا الكلام هو كلام أهل الغلو، وهناك من يضاد هذا القول، وهو قول أهل التفريط، وهم أهل الأرجاء، فإن المرجئة قالوا: كل مسلم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً هو رسول الله، وصلى إلى هذه القبلة، وذبح ذبيحتنا، أو أكل من ذبيحتنا فهو مؤمن كامل الإيمان، يرتقي إلى إيمان أبي بكر وعمر، بل يرتقي فوق ذلك إلى إيمان جبريل، وهو من أول وهلة يدخل الجنة، وهذه هي بدعة المرجئة.
فأما أدلة الخوارج على ما ذهبوا إليه: فقد صنفوا أدلتهم من الكتاب ومن السنة.
فأما من الكتاب: فاستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
فقالوا: وجه الدلالة أن قوله: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً)، فقال: (ظلماً) والظلم ليس بكفر، وإنما هو معصية وكبيرة.
وقد قال الله عنهم: (وسيصلون سعيراً)، وليس لنا دليل يدل على خروجهم من هذا السعير.
فقالوا: إن أهل المعاصي خالدون في نار جهنم، استدلالاً بهذه الآية.
وأما أدلتهم من السنة فاستدلوا بما يلي: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عن أهل المعاصي، وهذا دليل على أنهم كفار.
ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربهما وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن).
فنفى عنه الإيمان، وإذا نفى عنه الإيمان فهو فاسق.
وأيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له).
فنفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الخائن، فأصبح كافراً؛ لأن المقابل للإيمان هو الكفر.
فإذاً: الخائن كافر، والعاصي كافر، والزاني كافر، والسارق كافر كل هذا على قولهم.
ثانياً: أنه أثبت الكفر لأهل المعاصي، وهذه أصرح في الدلالة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فأثبت الكفر لهم بقتال بعضهم لبعض.
والأحاديث مثل ذلك كثيرة منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: -كما في الصحيحين-: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
قوله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان في أمتي هما بهم كفر: النياحة على الميت، والفخر بالأحساب) وفي الرواية الأخرى: (الفخر بالأنساب، والاستسقاء بالنجوم).
وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) والحلف بغير الله هو: القسم بغيره، فالذي يحلف بحياته، أو بالنبي، أو بشرفه فكل هذا معصية، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، ونزع عنه الإيمان.
ثالثاً: البراءة من الشخص، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتبرأ من أحد إلا إذا كان عمله كفراً، ولو كان مؤمناً لانضم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى حظيرة المسلمين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين) وفي رواية أخرى: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين).
فهذه البراءة من الشخص دلالة على كفره.
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا).
فهذه هي أدلة الخوارج الذين يقولون: إن فاعل الكبيرة كافر خالد مخلد في نار جهنم.
أما في الجهة المقابلة لهم فهم المرجئة، الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، فالرجل عندهم وإن زنى وإن سرق طالما أنه شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فهو مؤمن.
وقد أخذوا بأحاديث الوعد، فالخوارج أخذوا بآيات وأحاديث الوعيد، المرجئة أخذوا بأحاديث الوعد.
ومن أدلتهم: أولاً: قول الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:14 - 15]، فهنا أسلوب حصر، أي: أن النار لا يصلاها إلا الشقي، ثم وصفه بقوله: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] إذاً فيكون الأتقى هو الذي سيجنبها، وهو: الذي ليس بشقي، فلم يكذب، ولم يتول، ولم يجحد.
فإذاً: المسلم الذي لا يكذب بآيات الله، ولا يكذب بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتولى جاحداً، وإن ترك العمل، فهذا سيدخل الجنة ولا يخرج منها.
ولا يمكن أن تمسه النار ولو وهلة.
واستدلوا من السنة بأدلة كثيرة، وهي أحاديث الوعد، ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه دخل الجنة).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأشهد أن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق دخل الجنة على ما كان من عمل)، أي: أي عمل عمله فسيدخل به الجنة.
واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل جاءني فبشرني: أن من قال من أمتك: لا إله إلا الله، أو مات لا يشرك بالله من أمتك فسيدخل الجنة.
فقال أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فقال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، ثم قال الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي ذر).
فهذه دلالة واضحة على أن أهل الكبائر والمعاصي يدخلون الجنة، ولا يسمعون حسيس النار من أول وهلة.
إذاً: فالخوارج والمرجئة طرفان متضادان: الطرف الأول: الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن أهل المعاصي مخلدون في نار جهنم.
والطرف الثاني: المرجئة الذين يقولون: إن أهل الكبائر وإن زنوا، وإن سرقوا، وإن فعلوا كل الكبائر فهم في الجنة من أول وهلة.(45/2)
حكم أهل الكبائر عند أهل السنة، وأدلتهم
ودائماً القول الوسط هو الذي يزن الأمور، وهو قول أهل السنة والجماعة الذين معهم الحق فإنهم قالوا: لا نقول: إن صاحب الكبيرة يكون كافراً خارجاً من الملة، ولا نقول: إنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، ولكن نقول: هو فاسق بكبيرته، مؤمن بأصل إيمانه.
فننزع عنه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل، ونبقي له مطلق الإيمان، أي: أصل الإيمان.(45/3)
أقسام الإيمان المطلق
والإيمان المطلق ثلاثة أقسام: القسم الأول: الإيمان الواجب، وهو الإيمان الذي ينجي صاحبه من النار من أول وهلة، وصاحبه هو الذي أتى بالفرائض وانتهى عن المحرمات، كما في الحديث: (والله! لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق).
القسم الثاني: الكمال المستحب.
القسم الثالث: الإحسان.(45/4)
حكم العاصي عند أهل السنة والجماعة
أهل السنة والجماعة لا ينزعون عن العاصي مطلق الإيمان فيقولون: إنه كافر، ولا يطلقون عليه الإيمان المطلق، أي: الإيمان الكامل، بل يقولون: هو فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه.
وأدلتهم على ذلك ما يلي: أولاً: حكمه في الدنيا: ننظر إليه بعينين: عين الشرع وعين القدر.
فننظر إليه بعين القدر فنقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، فعلنا لو كنا في موقفه لكنا فساقاً مثله، ولكن الله عصمنا من ذلك.
ثم ننظر إليه بعين الشرع، فنبغضه ونبغض فعله ونهجره لعله يرجع، وننصحه في الله، ونأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر.
فهذا هو حكمه في الدنيا.
أما حكمه في الآخرة عند أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هو تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه على سيئاته، ثم بعد ذلك يدخله الجنة، كما في حديث الشفاعة عنه صلى الله عليه وسلم، أنهم يصيرون حمماً بعدما يعذبون من الكبائر التي اقترفوها، أو يدخله الله الجنة من أول وهلة ويغفر له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
قالوا: والأدلة على ذلك كثيرة، منها: أولاً: أن الله جل وعلا بين أن الذي لا يشرك به مآله إلى الجنة، فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة)، وفي رواية: (من قال: لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبه دخل الجنة).
وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً).
فالشاهد فيه: أن الذي لا يشرك بالله شيئاً لا يعذبه الله، أي: يدخله الجنة.
ويستدلون أيضاً بالأحاديث التي يستدل بها المرجئة.
إذاً: فالدليل الأول عند أهل السنة الجماعة: أن الله بين أن الذي لا يشرك به شيئاً مآله إلى الجنة، وإذا كان مآله إلى الجنة فهو ليس بكافر؛ لأن الكافر مخلد في النار.
ثانياً: إن الله أطلق اسم الإيمان على الذي اقترف المعاصي، فسماه مؤمناً، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، والقتال من أشد الكبائر، ومع ذلك سماهم مؤمنين.
ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن ابني هذا سيد -أي: الحسن - وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
فسماهما: مسلمين.
والطائفة الأولى: هي طائفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ومن معه، والطائفة الثانية هي طائفة معاوية رضي الله عنه وأرضاه ومن معه.
فلم ينف عنهم اسم الإيمان، وأيضاً أهل الكبائر سماهم مؤمنين، وإذا سماهم مؤمنين فقد نفى عنهم اسم الكفر.
ثالثاً: أن كل من اقترف كبيرة فأقيم عليه الحد فإن الحد كفارة له، وذلك كما في قصة الغامدية، فإنه لما ضربها خالد بالحجر فانتثر الدم عليه فقال: لعنة الله عليك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبها، -أي: لا تلعنها- إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)، وفي الرواية الأخرى: (لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم)، فسمى هذا الحد توبة.
وفي الطبراني والنسائي حديث صريح في ذلك: وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجم كفارة لما صنعت).
وفي حديث عبادة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً)، وقال في نهاية الحديث: (فمن اقترف ذلك فأقيم عليه الحد فمن عوقب به فهو كفارة له).
إذاً: فالحد كفارة، وإذا كان لهم كفارة فليس بكفر.
وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّه} [المائدة:38]، ثم بعد ذلك بين أن الله غفور رحيم.
ومن الأدلة أيضاً: إجماع السلف، فقد أجمعوا على أن من أقيم عليه الحد فإنه لا يسأل عنه يوم القيامة.
رابعاً: أن بعض الأدلة جاءت وأثبتت أن أهل الكبائر يدخلون النار ثم بعد ذلك يخرجون منها، يعني: لا يخلدون في نار جهنم.
وأصرح ما يكون من هذه الأدلة حديث الشفاعة، فعندما يشفع الله المؤمنين في إخوانهم فيقولون: ربنا إخواننا يصلون معنا، ويزكون معنا، ويحجون معنا.
فالله جل وعلا يشفعهم فيهم، فيذهبون فيخرجون من النار من يعرفونهم، ثم يشفع الله الملائكة، فيعرفون أهل الإسلام بعلامة الصلاة، أي: بمواضع السجود؛ لأن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل مواضع السجود.
ثم بعد ذلك يقبض الرحمن قبضة فيخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو وزن شعيرة من خردل من إيمان.
ففي هذا دلالة أيضاً على أن أهل الكبائر لا يخلدون في نار جهنم.
خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر، والشفاعة ممنوعة للكافرين، ولا تقبل عند الله بحال من الأحوال، فالكافر لا يُشفع فيه، إلا لـ أبي طالب استثناءً واحداً؛ كرامةً للنبي صلى الله عليه وسلم، وتسديداً لهذا الرجل الذي ذب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر حتى يدخلوا الجنة، ويخرجوا من النار.
فهذه أدلة واضحة جلية تثبت أن أهل الكبائر في مشيئة الرحمن، إن شاء عذبهم ومآلهم إلى الجنة، وإن شاء غفر لهم، فدخلوا الجنة من أول وهلة.
فأهل السنة والجماعة يقولون: إن أهل الكبائر ليسوا مخلدين في نار جهنم، بل هم تحت المشيئة.(45/5)
رد أهل السنة والجماعة على المرجئة
والمرجئة يستدلون بحديث: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة) فعندهم كل من قال: لا إله إلا الله فسيدخل الجنة من أول وهلة، ولا يعذب في حال من الأحوال.
والرد عليهم أن نقول: إن هناك من المسلمين من سيدخلون النار لمعاصيهم حتى يصيروا حمماً، ثم بعد ذلك يلقون في نهر الحياة، ثم يدخلون الجنة.
وهؤلاء هم الجهنميون الذين يدخلون الجنة بعد عذاب.
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى الرجل يقاتل شجاعة وحمية وهم يقولون: هذا رجل يقاتل وينافح عن الدين والإسلام، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو في النار).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم، ومن تحسا سماً فهو يتحساه في قعر جهنم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة).
ففي هذا النص الصريح أنه قتل نفسه، وهذه كبيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (عذب به)، فإذاً: هو سوف يعذب به، ثم يدخل الجنة بقوله: لا إله إلا الله، إذا أتى بشروطها.
إذاً: فحديث: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة)، له أدلة خصصته.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16] فنقول: النار في هذه الآية إما أن تكون ناراً خاصة، وهي نار الكفار التي هي دركات، والدرك الأسفل فيها للمنافقين، فيكون الأشقى هو الذي يصلى النار الكبرى، والنار في قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى} [الليل:14 - 15] هي نار الكفار؛ لأن النار ناران: نار الموحدين، ونار الكفار، والمقصود في هذه الآية: نار الكفار، فتخرج بذلك نار الموحدين التي يعذبون فيها ثم يلقون في نهر الحياة.
ووجه ثانٍ من الرد عليهم أن يقال: قوله تعالى: ((فأنذرتكم ناراً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى)) الصلي صليان: صلي بخلود، وصلي حتى الموت.
فالصلي بخلود يكون للكافر، والصلي حتى الموت يكون للمسلم؛ بقرينة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يصيروا حمماً، ثم يلقون في نهر الحياة) أما نار الكافر فلا يموت فيها ولا يحيا، كما قال الله تعالى: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13].
أما أهل التوحيد فيموتون في النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يصيروا حمماً)، إلا شيئاً واحداً لا تأكله النار، وهو أثر السجود.
وهؤلاء الجهنميون يموتون، ثم يلقون في نهر الحياة بعد ذلك، ثم يدخلون الجنة.(45/6)
رد أهل السنة والجماعة على الخوارج
أما الخوارج فيستدلون بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت النار امرأة في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض).
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قتل نفسه: (هو في النار).
ونقول لهم: إن قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) على بابها، وهي محمولة على أنهم يستحلون أكل مال اليتامى، وقد حرمه الله، فيكون الاستحلال قد أخرجهم من الملة، وكفروا بهذا الاستحلال، فيمكثون في النار، وهذا له قرائن كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً نقول: إن النار ناران: نار الموحدين ونار الكفار، فهؤلاء سيصلون سعيراً، وهي نار الموحدين، فيبقون فيها قدر الكبيرة التي اقترفوها، ثم بعد ذلك ينتقلون إلى الجنة.
نسأل الله ربنا أن يجمعنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من أول وهلة.
وأما الرد عليهم في استدلالهم بالأحاديث: فنقول: إن الكفر كفران، كفر أكبر يخرج من الملة، ويخلد صاحبه في النار، وكفر أصغر لا يخلد صاحبه في النار.
وهذا التقسيم من استقراء الأدلة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).
وهذه الأدلة ونحوها الأصل أنها على بابها، فتكون كفراً أكبر، إلا أن تأتي قرينة تبين أنه ليس المقصود بها الكفر الأكبر.
ففي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] سماهما مؤمنين.
فإذاً هذه طائفة مؤمنة، وهذه طائفة مؤمنة، مع أنهم يتقاتلون.
فيكون الكفر الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ليس المقصود به الكفر الأكبر، وإنما المقصود به كفر آخر، وهو الكفر الأصغر.
وكذلك نقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
أما الدليل الآخر الذي استدلوا به: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان هما بهم كفر: النياحة على الميت والفخر بالأحساب)، فإن النياحة على الميت كفر من هذا الباب، أي: كفر أصغر؛ لأنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن المرأة التي تنوح تأتي يوم القيامة وعليها سربال من قطران تعذب به في عرصات يوم القيامة، ثم ترى سبيلها إما إلى النار وإما إلى الجنة.
والكافر مآله إلى الخلود في النار، وهذه المرأة إذا كانت ترى سبيلها إما إلى الجنة وإما إلى النار فهي ليست بكافرة.
إذاً: ليس المراد في هذا الدليل بالكفر الكفر الأكبر.
وأما الصنف الثالث من أدلتهم: وهو البراءة من الفاعل، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) بقوله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين).
فنقول: إن البراءة براءتان: البراءة الأولى: براءة من الشخص كليةً، وبراءة من العمل.
فإذا كانت البراءة من الشخص كليةً فمعنى ذلك أن هذا الرجل كافر خارج من الملة، ولا بد أن نتبرأ منه، فلا نجالسه، ولا نواليه، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِم} [الممتحنة:4]، أي: الكفار {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة:4].
فهذه براءة من الشخص كلية، ومن كل أفعاله؛ لأن كل أفعاله كفر فخرج بها من الإسلام، وأحاط الكفر به من كل جانب.
والبراءة الثانية: براءة من العمل، يعني: أن هذا العمل يشابه عمل الكفار، ففيه شبه من الكفار، ولكن الشخص كله ليس بكافر.
والدليل على ذلك أولاً: قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216].
فتبرأ من عملهم، فالبراءة من العمل لا تخرج صاحبها من الملة، لكن البراءة من الشخص كلية تخرجه من الملة.
ثانياً: لما جاء خالد بن الوليد رضي الله عنه قوماً فقالوا: صبأنا صبأنا ولم يستطيعوا أن يقولوا: أسلمنا أسلمنا، فقتلهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد).
ولم يقل: من خالداً، ولم يكفر خالد رضي الله عنه وأرضاه، بل هو سيف الله المسلول، وأسد من أسد الله.
إذاً: تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فعل خالد فتبين بهذا أن البراءة براءتان، وأن المقصود بها في حديث: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين) البراءة من العمل والفعل، لا البراءة من الدين.
أو أن المقصود: البراءة مما هو عليه من كفر.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر، بمعنى: أنه لو قال دون أن يعمل فليس بمؤمن، ولو عمل دون أن يقول فليس بمؤمن، ولو لم يكن هناك نية -وهي: الاعتقاد الصحيح في القلب- فليس بمؤمن.
يقول الإمام البخاري: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول فقط.(45/7)
بيان أن الإيمان يزيد وينقص
قال تعالى حاكياً عن إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
فهو عنده علم اليقين، ولكنه يريد أن يرى الطير المذبوح يطير أمامه، فهو يريد أن يصل إلى عين اليقين.
فهذه دلالة على أن الإيمان يزيد.
فأول المراتب: علم اليقين، ثم حق اليقين، ثم عين اليقين.
فأنت الآن تعلم الجنة، وهذا علم يقين، وفي عرصات يوم القيامة ستعرف أنها حق اليقين، وبعد أن تدخلها -إن شاء الله- ستعرف أنها عين اليقين.
فهذه هي الزيادة.
وما كان دليلاً على الزيادة فهو دليل على النقصان.
ومما يستدل به على أن الإيمان يزيد وينقص حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
فيقول الله عز وجل: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية؟).
فهذا دليل على أنه ينقص الإيمان حتى يصل إلى مثقال حبة أو ذرة أو خردلة من إيمان.
وأيضاً روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يخرج من النار من كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة).
وهذا دليل عن أن الإيمان ينقص، ويدل بالإشارة على الكمال.
وأيضاً: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم).
وهذا دليل على زيادة الإيمان.
وروى المؤلف أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب لله، وأبغض لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان).
وهذا دليل على زيادة الإيمان.
وأيضاً روى المؤلف بإسناده عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، إذ عرض علي عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: الدين).
وهذا دليل على الزيادة والنقصان.
ووجه الدلالة من الحديث: أن الدين قد يبلغ إلى الثدي، وقد ينزل إلى الحقو، وقد ينزل إلى الركبة.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يجر ثيابه إيماناً، كحال عمر رضي الله عنه وأرضاه.
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) وهذا دليل على أن الإيمان ينقص.(45/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - أصول اعتقاد المرجئة
من الفرق المخالفة لمنهج السلف في الاعتقاد المرجئة، فقد خالفوا أهل السنة في مسمى الإيمان، وقالوا بعدم زيادة الإيمان، وقد رد علماء السنة عليهم، وبينوا ضلالهم، وهم أصناف، فمنهم الغلاة، ومنهم مرجئة الفقهاء.(46/1)
حقيقة الإيمان عند القدرية والمرجئة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا في الكلام على المرجئة، وقد ذيل الإمام العلامة اللالكائي الكلام على منهج المرجئة وأصول اعتقادهم، وبما روي في تضليل المرجئة، ثم بعد ذلك نوه بنسقه العجيب على معتقد الخوارج والمعتزلة في الكلام على الكبائر وتقسيمها.
كما سنبين أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، واختلاف العلماء في ذلك، وبيان أكبر الكبائر والتقسيم التأصيلي في ذلك بما يمس العقيدة.
لقد روى اللالكائي بسنده -وإن كان هذا السند الذي رواه فيه ضعف- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية والمرجئة)، والقدرية هم عكس الجبرية.
فالقدرية ينفون القدر ويقولون: إن الأمر أنف، يعني: أنه لم يسبق به القلم، بل إن الله جل وعلا لا يعلم الأمر مما يعمله العباد إلا بعد عملهم له.
وأيضاً روى في هذا الكتاب العظيم حديث: (صنفان من أمتي كلاهما في النار: قوم يقولون: إنما الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق، وآخرون يقولون: إن أولينا كانوا ضلالاً، يقولون: خمس صلوات في اليوم والليلة وإنما هما صلاتان).
الإيمان عند المرجئة هو الكلام، فإذا قال المرء: لا إله إلا الله أصبح مؤمناً كامل الإيمان.
وفي رواية عن سفيان الثوري عن ابن عباس قال: اتقوا الإرجاء فإنه شعبة من النصرانية.(46/2)
حقيقة الخلاف في الإيمان بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة
لقد بينا بالتفصيل الإرجاء، وبينا أن أخف طوائف المرجئة هم مرجئة الفقهاء، الذين هم الأحناف، وقلنا: إن بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة والجماعة خلافاً لفظياً وخلافاً حقيقياً.(46/3)
صور من الخلاف الحقيقي بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة في الإيمان
لقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف لفظي، يعني: صوري، بحيث إذا نظرت إلى المعنى والحقيقة وجدت الاتفاق بين أهل السنة والجماعة وبينهم.
لكن هناك خلاف حقيقي، فمثلاً: أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان يزيد وينقص، والمرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض فلا يزيد ولا ينقص، لكن في الحقيقة هم يقرون بالتفاوت بين أهل الإسلام، فمنهم من يكون في الفردوس الأعلى، ومنهم من يكون في أنزل درجة، ولا شك أن الذين في الفردوس الأعلى هم أعلى إيماناً من الذين هم في أنزل درجة، فتكون النتيجة واحدة، وهي أن الإيمان يتفاوت بين الناس.
كذلك المرجئة يقولون: مرتكب الكبيرة، مستحق للوعيد، وأهل السنة والجماعة يقولون: هو فاسق بكبيرته، وهو داخل تحت مشيئة الله جل وعلا إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فالخلاف هنا حقيقي؛ لأن المرجئة يجعلون أصل الإيمان واحد، وليس هذا بصحيح، بل هناك تفاوت في أصل الإيمان، فأصل الإيمان عند إبراهيم عليه السلام غير آحاد آمته.
أيضاً: المرجئة حصروا الكفر في التكذيب والاستحلال، فعندهم إذا أتى إنسان بمكفر، فإنه لا يكفر إلا إذا استحل بقلبه؛ لأن التكذيب والاعتقاد محله القلب، فقالوا: لو سجد لصنم، أو سب الله، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس بكافر حتى يستحل بقلبه.
وقد قلنا: إن هذه الأعمال كفر مستقل، لكن المرجئة لا يقولون بأن الأعمال فيها كفر مستقل، وإنما يقولون: إن الأعمال علامة على الكفر القلبي، فأداروا مسألة الإيمان والكفر وقالوا: محلها القلب، ويقول: أهل السنة والجماعة محل الإيمان والكفر القلب واللسان والجوارح، فالإيمان في القلب الإقرار والتصديق، وهو قول القلب، وعمل القلب من توكل وخوف ورجاء، أيضاً الكفر فيه محله القلب، كالاستكبار، والإيذاء، والإعراض، وعدم الانقياد، والخوف من غير الله جل وعلا كالخوف منه سبحانه إلى آخر هذه.
والإيمان محله الجوارح، كالصلاة والصيام والحج والصدقة، كذلك الكفر محله الجوارح، فمن صلى لغير الله جل وعلا فقد كفر، وكذا من سجد لصنم.
أيضاً اللسان، فمحل الإيمان فيه بالنطق بكلمه بالتوحيد: لا إله إلا الله، والكفر بالنطق بكلمة الكفر، إلا المكره، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106].(46/4)
أقوال بعض العلماء في المرجئة
قال إبراهيم النخعي: تركت المرجئة الدين أرق من ثوب سابري، يعني: الدين عندهم رقيق لدرجة أنه عري.
أما سعيد بن جبير فقد أغلظ فيهم القول وقال: المرجئة يهود القبلة.(46/5)
رأي علماء الإسلام في أبي حنيفة وما نسب إليه
ثم بعد ذلك أتى بباب كامل في الكلام على أبي حنيفة، وأبو حنيفة هو الإمام العلم الذي اتبع الناس مذهبه، وكان علماً من أعلام الأمة، حتى قال فيه الشافعي: الفقهاء عيال على أبي حنيفة.
وكان من الزهاد العباد، ومن العلماء الذين ظهر فيهم الرأي أكثر من الأثر، وهذا له أسبابه؛ وذلك لأن أبا حنيفة كان في العراق، والتشيع كان موجوداً في العراق وفي بلاد فارس، فكان الشيعة الرافضة يختلقون الأحاديث في فضائل علي، ويختلقون الأحاديث في ذم معاوية، فكان أبو حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه ينأى بنفسه أن يأخذ حديثاً من عراقي، حتى قال: لا تأخذ حديثاً من عراقي، وأيضاً كانت بلاد فارس تدخل على العراق؛ لأن الحدود والتخوم كلها متقاربة، فكانت المسائل تستجد على أبي حنيفة فلا يجد أثراً، والعلماء الجهابذة النقاد الذين يخوضون في الأدلة، عندما تستجد عليهم مستجدات، فإنهم ينظرون في الدليل، ثم يقيسون عليه.
ويقول الإمام مالك في أبي حنيفة في مجلس التحديث في المدينة: لو ناظرني أبو حنيفة على أن هذا الجدار، ذهب لأقنعني به، وهذا من رجاحة عقل أبي حنيفة وقوته، فكانت الأئمة تثني الثناء الحسن على أبي حنيفة، لكن أخذ عليه كثيراً في مذهبه أنه لم يكن يتبع الأثر ويقدم الرأي عليه، وقلنا: إن العلة في ذلك: أنه لم يكن يأخذ أحاديث العراقيين، وأيضاً أبو حنيفة لم يكن محدثاً ولا راوياً، فضعفه بعض العلماء في مسألة النقل والرواية، أما الكلام الذي نقل عنه في هذا الكتاب فضربت عنه صفحاً؛ لأن فيه أن أبا حنيفة استتيب، وفيه أن أبا حنيفة كان مرجئاً؛ وكان يقول للزاني: أنت مؤمن، فإن قال له الزاني: أنت الذي تقول أني مؤمن، قال أبو حنيفة؛ أنا أخطأت حين قلت لك: إنك مؤمن، إلى آخر هذه الحكايات التي رويت في كتاب تاريخ بغداد للخطيب وغيره.
لكن نقول: هذه الحكايات كلها لم تثبت عنه ولم نر سنداًً صحيحاً بذلك، بل لو ثبتت لقام هؤلاء الأعلام المشاهير كـ الشافعي ومالك وأحمد بذم أبي حنيفة ولبينوا عواره.
وهناك دلالة بينة واضحة على براءة أبي حنيفة من مثل هذه الحكايات وذلك أن الله جل وعلا كتب لمذهبه القبول، فكل الأعاجم يأخذون بمذهب أبي حنيفة، وسمعت أن أهل أفغانستان يكادون يقتتلون لو أن واحداً خالف مذهب أبي حنيفة، ومعلوم أن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء: (أن يا جبريل إني أحب فلاناًَ فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبونه، ثم يكتب له القبول في الأرض)، وقد كتب الله القبول لهذا العلم العالم الجهبذ في الأرض، فنضرب صفحاً عن هذا الكلام الذي نقل عنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(46/6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - كبائر الذنوب
الذنوب تنقسم إلى: صغائر وكبائر، ومن رحمة الله بعباده أن جعل الحسنات يذهبن السيئات، وبما أن الإنسان معرض للذنوب فحري به أن يكثر من فعل الطاعات؛ حتى تكفر عنه المعاصي والسيئات، وقد حذر الشرع من الوقوع في الذنوب وخاصة الكبائر منها، وأعظم الذنوب وأكبرها الشرك بالله، فعلى المرء أن يجتنب الذنوب صغيرها وكبيرها.(47/1)
حقيقة الذنوب وتفاوتها وأقسامها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: من بديع نسق المصنف رحمه الله أنه تكلم عن الذنوب ليلمح بذلك إلى مذهب المعتزلة والخوارج وحكم مرتكب الكبيرة الذي فصلنا فيه القول سابقاً.
أقول مستعيناً بالله اختلف العلماء في الذنوب على قولين.
القول الأول: أن الذنوب صنف واحد كلها كبائر، وهؤلاء يلحظون عظمة الله جل وعلا، كما قال بعض السلف، لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
القول الثاني: قول الجمهور وهو الحق، ويقولون: إن الذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر، وصغائر، وقول الجمهور صحيح؛ لأن الأثر والنظر يدلان على ذلك.
أما الأثر: فقد صرح الله جل وعلا في كتابه فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وهذا تنصيص يفهم منه: أن هناك ذنوباً دون الكبائر وهي الصغائر.
وأيضاً قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وقال أبو هريرة: (اللمم) القبلة وهي فوق النظرة، فإذا الكبائر فوق والقبلة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه أعد القبلة من الصغائر.
وأيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ وفي رواية: ألا أنبئكم بالكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)، فهذا تنصيص من النبي صلى الله عليه وسلم على الكبائر، فدل ذلك على أن هناك ما هو دون الكبائر.
أما النظر: فمعروف أن هناك تخصيصاً بين الكبائر وبين الصغائر؛ لأن الشريعة السمحاء، لم تفرق بين المتماثلين ولكنها فرقت بين المختلفين.
قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، فالله جل وعلا يفرق بين المفترقين، وهنا لم تسور الشريعة بين الذي قبل أو فاخذ وبين الذي وطأ وزني، فالزنا فيه الحد وليس في التقبيل والمفاخذة الحد؛ لأنه جاء في الحديث: (أن رجلاً قبل امرأة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقم علي الحد فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة حتى أقيمت الصلاة وصلى معه، ثم قال: أين السائل؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر الله لك، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]) فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على هذا الرجل الذي قبل؛ لأن القبلة لا تساوي الوطء، بل السب لا يساوي الغيبة والنميمة، كذلك إن رضي في أهله بعض الخبث دون الزنا لا يكون كالديوث؛ لأن الديوث لا يدخل الجنة.
فهذه دلالة بالنظر على أن الفريقين المختلفين لا يستويان، فهذا من النظر الذي يدل على تفصيل الذنوب وتقسيمها إلى كبائر وصغائر.(47/2)
بعض الأحاديث التي ذكر فيها أمهات الكبائر
لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات الكبائر في خمسة أو ستة أحاديث منها: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات)، فهذه سبع من الموبقات المهلكات كما سنبينها إن شاء الله بالتفصيل.
ومنها: ما في الصحيحين أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أن تزاني بحليلة جارك).
ومنها أيضاً: ما في الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بالكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) ومنها أيضاً: ما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أو ذكر عنده الكبائر، فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس ثم قال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فقال الصحابي: ما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).
فهذه مجموعة من الأحاديث جمعت أمهات الكبائر.(47/3)
أقوال العلماء في حد الكبائر وضبطها وعددها
لقد اختلف العلماء في حد الكبائر وضبطها وكم هي، فقال ابن مسعود هي أربع، وسنده الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قلت: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك).
وسئل ابن عمر عن الكبائر فقال: هي سبع، وسنده في ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات) فلما روي إلى حبر الأمة ابن عباس: أن ابن عمر قال: هي سبع قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، فبين أنها كثيرة.
ونقول: الحد الذي حده ابن عباس كان حداً واضحاً فقال: كل ما أوجب الله على عمل من نار فهو كبير، وهذا حد قاطع، يعني: كل شيء أوجب الله النار على من فعله فهو من الكبائر.
وقال سعيد بن جبير: من حد على عمل فهو من الكبائر.
ثم إن شيخ الإسلام جمع هذه الأقوال وقال: كل لعن في عمل فهو من الكبيرة، وكل ما أوجب حداً فهو كبيرة، وكل ما جاء النص بالويل والثبور والعذاب في الآخرة فهو من الكبائر.
يعني: إذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله كذا، فهذا الفعل من الكبائر، ويدخل في ذلك أمر يستخف به الناس، وهو الاستنزاه من البول، فعدم الاستنزاه أو عدم الاستتار من البول من الكبائر، فقد جاء في الحديث عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين يعذبان، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى بل هو كبير، أما الأول فكان لا يستنزه من بوله)، فويل لمن لا يحسن الاستنجاء ويل له؛ لأنه قد فعل كبيرة، وفي رواية أخرى قال: (لا يستتر من بوله)، فويل ثم ويل لمن يتكشف ولا يستر عورته؛ فإن كشف العورات فيها العذاب في القبر، بل عامة عذاب القبر من عدم الاستنزاه من البول.
وأيضاً: الغيبة والنميمة هما من الكبائر.
وأيضاً: التخلي في الطرق في الأماكن، أو المثمرة -أي: التي فيها شجر أو هي ظل للناس- ببول أو غائط من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا اللعانين، قالوا: يا رسول الله! ما اللاعنان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم).
الغرض المقصود: أن ما فيه لعن أو أوجب حداً أو كان فيه عذاب في الآخرة، فهو كبيرة من الكبائر.
س(47/4)
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لأكبر الكبائر
إن أكبر الكبائر هو الشرك بالله، والشرك أولى التفسير به ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، أي: تجعل لله نداً في الأسماء والصفات، وتجعل له نداًُ في الربوبية، وتجعل له نداً في الإلهية كما سنبين.(47/5)
أقسام الشرك
والشرك قسمان: شرك أكبر، وشرك أصغر.(47/6)
حقيقة الشرك الأصغر ومعناه
الشرك الأصغر: هو شرك الإرادات والنيات، كأن يقوم المرء يريد أن يصلي فيرى نظر الناس إليه فيحسن من صلاته، فيطيل في القيام وفي الركوع وفي السجود؛ لنظر الناس أو لمقامهم منه، فهذا شرك النيات والإرادات.
وقد ورد عن بعض السلف: أن رجلاً دخل المسجد يصلي فأطال القيام وأحسن الركوع والسجود، فكان الناس ينظرون إليه ويتعجبون ويقولون: ما أحسن صلاة هذا الرجل، لكنه كان مرائياً في صلاته؛ ولذلك فإنه بعدما جاء إليهم قال: وأنا كذلك صائم، فهذا يبين أنه كان يرائي في عمله، ولا يفعل ذلك لله جل وعلا، فهذا يحبط عمله، وهذا من الشرك الأصغر.
قال ابن القيم: يسير الرياء شرك أصغر، ومفهوم المخالفة: أن كثير الرياء شرك أكبر، يعني: الرياء الذي يتمكن في القلب ويتولد عنه النفاق.(47/7)
من صور الشرك الأصغر
من صور الشرك الأصغر: المراءاة، فيتصدق ليقال: متصدق، ويعلم ليقال: معلم، ويجاهد ليقال: مجاهد، وهذا جزاؤه في الدنيا من جنس عمله، وفي الآخرة له الثبور والنار، إلا أن يغفر الله له.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به)، نعوذ بالله من ذلك، وهذا الشرك خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حيث قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، قالوا: يا رسول الله! وما الشرك الخفي؟ قال: الرياء)، فهو أخف من دبيب النمل.(47/8)
حقيقة الشرك الأكبر وحكم مرتكبه في الدنيا والآخرة
الشرك الأكبر هو أظلم الظلم، وأعظم الذنوب، وأكبر الكبائر، وما ذلك إلا لأن عقوبته في الدنيا وخيمة، وفي الآخرة أشد وأنكى.
أما في الدنيا: فإن الذي يشرك بالله جل وعلا فهو حلال الدم، إن كان مسلماً فهو مرتد بذلك، فيستتاب ثلاثة أيام، وبعض العلماء يقولون: يقتل في وقتها دون استتابة؛ لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فهو حلال الدم في الدنيا.
وإن كان مشركاً فهو مخير بين ثلاث: إما أن يسلم، وإما أن تضرب عليه الجزية ذليلاً صاغراً، وإما أن يقتل فيكون حلال الدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) فهو مخذول في الدنيا.
أما المشرك في الآخرة فلا يغفر له، وإنما يخلد في نار جهنم، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وأيضاً: فإنه حرام عليه الجنة، فلا يمكن أن يشم رائحتها، ولا يدخلها بحال من الأحوال، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، إذاً: فله عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة، وكذا من وقع في الشرك الأكبر، الذي هو أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.(47/9)
أنواع الشرك
أنواع الشرك: شرك في الأسماء والصفات، وشرك في الربوبية، وشرك في الإلهية.(47/10)
الشرك في الربوبية وذكر بعض صوره
الشرك في الربوبية: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، ومعنى الرب: الخالق الرازق المدبر الآمر الناهي السيد المطاع، فهذه من لوازم الربوبية، فلا بد أن تعتقدها اعتقاداً جازماً، ولو خلا القلب من هذا الاعتقاد لوقع المرء في الشرك، فلا بد أن تعتقد بأن الله جل وعلا هو الذي يدبر الكون كله، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، وتعتقد أن الله جل وعلا هو الخالق، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62]، أن الله جل وعلا هو الرازق، قال تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، وأن الله جل وعلا هو الآمر الناهي المشرع، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وهناك فرق بين الخلق فالأمر: هو التشريع من الله جل وعلا.
فمن صور الشرك التي دبت في هذه الأمة في الربوبية أن يصرف هذا الاعتقاد الذي هو لله جل وعلا لغيره سبحانه.
ومن صور الشرك في الربوبية: أن تعتقد بأن هناك خالقاً غير الله جل وعلا، كما اعتقدت الثنوية والمنوية أن للكون خالقين: خالقاً للظلمة، وخالقاً للنور، وهذا شرك في ربوبية الله جل وعلا، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وقال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهذه صورة من صور الشرك الربوبية.
ومن صور شرك الربوبية: ما يحدث من غلاة الصوفية، من اعتقادهم: أن في هذا الكون أقطاباً وأبدلاً يتحكمون فيه من دون الله جل وعلا، حيث يعتقدون أن هناك من يحرك الكون أو يجعل المطر ينزل من دون الله جل وعلا، وهذا شرك في الربوبية.
ومن صور شرك الربوبية أيضاً عند غلاة الصوفية: الاعتقاد في الأولياء، أي: بأنهم ينفعون أو يضرون، فتراهم يذهبون إلى البدوي أو عبد القادر الجيلاني أو الحسيني ويعتقدون فيه أنه ينفع ويضر، وأعظم من ذلك أنهم يعتقدون في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينفع ويضر، وأنه لم يمت حقيقة، مما جعلهم يقولون: إن في هذه الدنيا من يرى عياناً الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن لازم قولهم: أن الصحبة لا تنتهي إلى يوم القيامة، وهذا كلام بعيد جداً، لا يصدر إلا من لا علم له، بل فكره فكر المعتزلة المحضة، وسنبين ذلك مفصلاً.
الغرض المقصود: أنهم يعتقدون في غير الله ما لا يكون إلا لله وحده جل وعلا.
ومن صور الشرك في الربوبية أيضاً: الاعتقاد في النجوم السيارة أنها تتحكم في المطر أو في الأرزاق، وأن هذه النجوم تضر وتنفع أو تنزل المطر، فالاعتقاد المستلزم لهذا الطلب هو شرك في الربوبية.
ومن صور شرك الربوبية أيضاً: ما كان في المشركين الذين يتخذون الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، أي: من صور شرك الربوبية: أن يأمر أحداً وينهى خلاف أمر الله ونهيه، فيقدم هذا الأمر أو النهي على أمر الله أو نهيه فهذا شرك في الربوبية؛ لأن السيد المشرع والآمر والناهي هو الله جل وعلا.
جاء في الحديث: (دخل عدي بن حاتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، فقام عدي منتفضاً فقال: يا رسول الله ما عبدناهم من دون الله -أي: ما سجدنا لهم ولا قربنا القرابين لهم- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أما حرموا عليكم الحلال فحرمتموه، وأحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: تلك عبادتكم إياهم)، يعني: أن هؤلاء أحلوا الحرام وحرموا الحلال من دون الله، ونصبوا أنفسهم أرباباًًَ من دون الله، فتابعتموهم في ذلك، ومن اعتقد في غير الله أن له التشريع أو الأمر والنهي فقد وقع في شرك الربوبية.(47/11)
الشرك في الأسماء والصفات وذكر بعض صوره
كلنا يعلم أن الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال المطلق والجلال المطلق هو لله جل وعلا.
فالشرك في الأسماء والصفات ضابطه: أن تشبه صفات الخالق بصفات المخلوق، هذا هو الضابط، وقال نعيم بن حماد من شبه الخالق بالمخلوق فقد كفر، فضابط ذلك: أن يشبه الاسم بالاسم أو الصفة بالصفة، كما قالت المشبهة: إن الله ينزل، إلى السماء الدنيا كما ينزل أحدنا من سريره إلى الأرض، أو ينزل أحدنا من الأعلى إلى الأسفل، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فهذا شرك في أسماء الله جل وعلا، وشرك في صفاته جل وعلا.
كذلك يقولون: الله يضحك، وضحك الله كضحك البشر، فهذا شرك في صفات الله جل وعلا؛ لأنهم شبهوا صفات الله بصفات المخلوق.
كذلك يثبتون الله يداً لكن، يقولون: يد الله كيد المخلوق، لها أصابع، أنامل، وكذا، فيشبهون يد الخالق بيد المخلوق، وهذا شرك في صفات الله جل وعلا، وظاهره الكفر؛ لأنهم شبهوا الخالق بالمخلوق.
ومن الشرك في الأسماء أيضاً: أن يشتق للآلهة الباطلة أسماء من أسماء الله جل وعلا، كالذين اشتقوا اللات من اسم الله، أو الإله، واشتقوا العزى من اسم العزيز، واشتقوا مناة من المنان، فهذه من صور الشرك في أسماء الله جل وعلا.
ومن الشرك في أسماء الله وصفاته: التعطيل الكامل، أو التعطيل الجزئي، أما التعطيل الكامل: فهو نفي الاسم والصفة، وأما التعطيل الجزئي: فهو نفي الصفة دون الاسم، والتعطيل الكامل هو مذهب غلاة الجهمية الذين قالوا: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، فهؤلاء شبهوا الله بالعدم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المعطل يبعد عدماً والمشبه يعبد صنماً.
وأما المعتزلة فقد نفوا الصفة لكن أثبتوا الاسم، وهذا نوع من الشرك في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.(47/12)
الشرك في الإلهية وذكر بعض صوره
إن الشرك في الإلهية هو الذي أنزل الله من أجله الكتب، وأرسل من أجله الرسل، وهو الذي دب في الأمة، فكثير من المسلمين الآن مكتوب على بطاقته: مسلم، ولكنه مشرك بالله، ولا يدري أنه مشرك، وقد أشرك بالله في كثير من العبادات.
وضابط شرك الإلهية: أن كل عبادة ثبتت بالكتاب والسنة أنها لله، فصرفها لغير الله شرك.
من صور هذا الشرك المتفشي في الناس: السجود لغير الله جل وعلا، كسجود الأعاجم فارس والروم لملوكهم، وعظمائهم، ولذلك جاء في بعض الأحاديث: (أن معاذ بن جبل لما قدم من الشام ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم سجد له، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال معاذ: رأيت فارس والروم يفعلون ذلك بملوكهم، وأنت أحق بالسجود منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها) لعظم حق الزوج.
فالغرض المقصود أن السجود لغير الله، كالسجود للصنم أو السجود للمعظمين كما تفعل فارس والروم، من صور الشرك في العبادة، أو الشرك في الإلهية.
ومن صور الشرك في الإلهية: الطواف، بالقبور، فالطواف بقبر البدوي شرك أشهر من نار على علم، فهناك ممن ينتسب إلى الإسلام يطوفون بالقبور حقاً ليس خيالاً، ومنهم الذين يحجون إلى البدوي؛ لأنهم يعتقدون أن الحج إلى البدوي أولى بكثير من الحج إلى الكعبة، بستين حجة أو أكثر، فالطواف عبادة لله جل وعلا، والدليل على أنه عبادة قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، والأمر، ظاهر الوجوب.
إذاً: فهذا الطواف عبادة، فصرفه لغير الله شرك.
وجاء أن الطواف من ذكر الله، وإذا كان الطواف من الذكر فهو عبادة، فإذا كان لغير الله كالطواف بقبر فهو من صور الشرك في الإلهية.
وهناك صورة من صور الشرك في الإلهية وهي منتشرة بين الناس: وهي المعالجة من مس الجن، فبسبب الجهل وقع المعالج والمعالج في الشرك، أما الذين يعالجون الناس فيقعون في الشرك وذلك بالاستعانة بالجن والاستعانة بغير الله شرك، وهذا يقع من المعالج.
أما المريض فيقع فيه الشرك؛ لأن كثيراً من المعالجين يقول له: الجني يأمرك أن تذبح فرخة حمراء في بيضاء في سوداء، طولها كذا، فهذا المريض يقوم بالذبح لغير الله تعالى، وهذا شرك؛ لأن الذبح لا يكون إلا لله جل وعلا، والذبح عبادة لله جل وعلا، والدليل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} [الأنعام:162]، والنسك: هو الذبح، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].
إذاً: فالذبح عبادة وصرفها لغير الله شرك.
هذا هو النوع الثالث من أنواع الشرك، أي: الشرك في الإلهية، وهو أكبر الكبائر، وهو لا يغفر في الآخرة، وحكم مرتكبه: الدخول في نار جهنم خالداً مخلداً فيها.(47/13)
حكم عقوق الوالدين وذكر بعض صور العقوق
ٍلقد ثنى النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم الكبائر بعد الشرك، ألا وهو عقوق الوالدين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين).
فالله جل وعلا لعظم حق الوالدين قرن برهما وطاعتهما بتوحيده سبحانه، فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وقال عز وجل: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، وكذلك قال سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، وكما في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين).
فالغرض المقصود: أن بر الوالدين واجب شرعاً، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أوسط أبواب الجنة هما الوالدان، وبين أن الجنة تحت أقدام الأمهات، فلن يصل عبد إلى ربه أبداً إلا ببر الوالدين.
ومن صور عقوق الوالدين وهو أخف العقوق: التأفف، كما قال الله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، ومن باب أولى عدم السب والشتم والإيذاء لهما والاستكبار عليهما، وعدم الائتمار بأمرهما، فإذا كان الوالد مثلاً: يرى في زوجتك خصلة من الخصال التي تبعد عن الإيمان، أو رأى ملحظاً شرعياً في أهلك فأمرك أن تطلق أهلك، فإنك إن عصيته فأنت عاق؛ لأنه قد لحظ على امرأتك ملحظاً شرعياً، وهو ما فعل ذلك إلا خوفاً عليك، وإن استدل مستدل بأن إبراهيم عندما جاء إلى زيارة إسماعيل فلم يجده، وإنما وجد زوجته فسألها عن حالها مع إسماعيل، فاشتكت من ظنك العيش، فقال لها: إذا جاء إسماعيل فقولي له: جاء شخص صفته كذا؛ ويقرأ عليك السلام ويقول غير عتبة بابك، قال إسماعيل: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، وطلقها سمعاً وطاعة لأبيه، فإننا لا نقول في ذلك: إن كان أبوك مثل إبراهيم فافعل مثل ما فعل إسماعيل، ولا نقول: إن كان أبوك مثل عمر فافعل مثل ما فعل ابن عمر؛ لأن إبراهيم عليه السلام رأى ملحظاً شرعياً على امرأة إسماعيل، أما ابن عمر فلم يكن يرى ملحظاً شرعياً، بل كان يحب امرأته وأبى أن يطلق لما أمره عمر، لكن عمر الملهم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان نبياً بعدي لكان عمر) وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إن يكن في أمتي محدث فإنه عمر) رضي الله عنه وأرضاه، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (لو سلك عمر فجاً لسلك الشيطان فجاً غير هذا الفج)، وهذه المناقب فيها دلالة كبيرة جداً على أن عمر له فراسة فائقة، ولا نظن في عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يكون بهواه رأى أن يطلق ابنه امرأته، ولكن لعله لحظ فيها ملحظاً شرعياً فأمر ابن عمر ابنه بتطليق امرأته، مع أن ابنه لم ير ذلك؛ لأن الحب والعاطفة تجعل الرجل لا يبصر خطأ امرأته، فلم ير ما رآه عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر: (أطع أباك).
فنقول: إذا كان الأب يرى ملحظاًًَ شرعياً فلا تعقه وائتمر بأمره إن كان يريد لك الخير، ويلحظ الملحظ الشرعي؟! أما إن كان خلاف الملحظ الشرعي فلا سمع ولا طاعة للأب في ذلك؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وهناك آباء كثيرون يتضايقون من شدة التزام زوجة الابن فتجد بعض الأمهات تقول: لماذا لا تسلم على ابني الآخر؟ ولماذا لا تجلس وتأكل معه؟ فتقول: لابنها: طلقها؛ فهذه تهجرنا وتجافينا، نقول: طاعة الأم هنا معصية؛ لأنها ما أرادت طلاقها إلا عن هوى ومضادة ومحادة لله ورسوله؛ لأنه ما أرادت ذلك إلا لأنها تتمسك بدين الله جل وعلا، فالغرض المقصود أن هذا يسمع لها ويطيع إن كان الأمر فيه ملحظاً شرعياً وإن لم يكن فلا يسمع ولا يطع.
أيضاً من صور العقوق للوالدين: الخروج إلى الجهاد في سبيل الله؛ جهاد لطلب لا جهاد الدفع بدون إذنهما، فهذا عقوق، ولذلك عقاب هذا الرجل أن يقف بين الجنة والنار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل خرج ليجاهد دون إذن والديه:: (ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما).
إذاً: فعقوق الوالدين كبيرة بعد كبيرة الشرك.(47/14)
عظم قتل النفس التي حرم الله وحكم توبة القاتل
يقول: النبي صلى الله عليه وسلم في عدد الكبائر: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق).
قتل النفس من الكبائر؛ لأنه فساد عريض في الأرض، ودم المسلم عند الله أشرف من الكعبة، وأعظم وأشرف من السماوات والأرض، ولذلك فإن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه طاف بالكعبة فقال: أنت الكعبة شرفك الله وعظمك، وحرمة دم المسلم عند الله جل وعلا أعظم منك وأشرف.
وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو اجتمع أهل السماوت والأرض على قتل مسلم لأكبهم الله في النار ولا يبالي) وذلك لأن دم المسلم شريف عزيز عظيم عند الله جل وعلا، ونحن نرى الآن أن دم المسلم صار رخيصاً بين أيدي الكفار؛ لأننا هجرنا دين الله، فنسأل الله جل وعلا ألا نسقط من عينه، وأن يردنا إليه رداً جميلاً؛ لكن لو تمسكنا بديننا وتمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا لرفع الله عنا هذه الذلة المهانة.
إن من الأدلة التي تثبت أن قتل النفس من الكبائر: اختلاف العلماء في توبة القاتل، فـ ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن القاتل لا توبة له، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93].
وجاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما زال المرء في سعة حتى يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً)، أي: انتهى أمره ورق دينه إن فعل ذلك؛ لأنه تعدى حدود الله جل وعلا، والجمهور على أن للقاتل توبة، وهذا هو الصحيح، والذي يفصل النزاع ويقطعه قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، فهذا من الأثر.
أما من النظر: فقياس الأولى، وذلك أنه قد اتفق العلماء على أن للمشرك الذي أشرك بالله توبة، وأنه إذا تاب من شركه ودخل الإسلام قبل الله توبته، والإسلام يجب ما قبله، فمن باب أولى القاتل أن يكون له توبة.(47/15)
كبيرة أكل الربا وخطرها على الأمة
الكبيرة الرابعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في تعداد الكبائر: أكل الربا، فالربا أعظم خطر على الأمة، وما والفقر والضيق الذي تعيشه الأمم إلا بسبب الربا؛ لأن الربا موعود صاحبه وآكله بالعذاب والنكال والويل والثبور في الآخرة، وفي الدنيا بالحرب، بل يقول ابن عباس: هي حرب في الدنيا وحرب في الآخرة، وفسر قول الله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]، قال: يقال لهم في عرصات يوم القيامة: على آكلي الربا أن يسلوا سيوفهم أو يرفعوا رماحهم؛ فهي الحرب مع الله جل وعلا، وهل أحد يحارب الله جل وعلا؟! وهل أحد يستطيع أن يواجه قوة الله جل وعلا؟! فالحرب في الدنيا وأيضاً في الآخرة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم -منفراً عن أكل الربا ومبيناًَ أنه من الكبائر-: (لعن الله آكل الربا -اللعن معناه: الطرد من رحمة الله- وموكله وكاتبه وشاهديه)، فملعون في الربا أربعة، وفي الخمر عشرة، لكن آكل الربا عذابه شديد، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسبح في نهر من الدم ويلقم حجراً، كلما وصل إلى حافة النهر ألقمه الملك الحجر، ثم يرجع إلى آخر النهر فهو يسبح في نهر من الدم جزاءً وفاقاً، فآكل الربا أيضاً فاعل لكبيرة لا بد أن يتوب منها.(47/16)
مآل آكل مال اليتيم
الكبيرة الخامسة: أكل مال اليتيم، الأصل فيه -أي: ما اليتيم- أن ولي اليتيم يرعى به اليتيم، فالولي أمين على مال اليتيم، بل يعمل فيه بما ينفع اليتيم، فإن كان الذي اؤتمن آكلاً له، فقد وقع في إثم كبير، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فهذه دلالة على أن آكل مال اليتيم فاعل لكبيرة، لا بد له أن يتوب منها.(47/17)
حكم التولي يوم الزحف
الكبيرة السادسة: التولي يوم الزحف، إذا اصطف الجيشان: جيش المسلمين، وجيش الكفار، فلا يجوز للمسلم أن يفر من العدو؛ فإنه سيفت في الصف المسلم، وسيخذل فيه، وهذا من أكبر الكبائر؛ ولذلك شدد الله جل وعلا على المؤمنين، وحذرهم من أن يتولوا أمام الكفار، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16]، فقوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [الأنفال:16]، دلالة على أن هذا من الكبائر.
أيضاً من علامات الساعة: (أنه ستحدث مقتلة عظيمة بين الروم وبين المسلمين، وقبل ذلك يشترك مع الروم، فسقة المسلمين، فيقاتلون عدواً للروم وعدواً لهؤلاء المسلمين الفسقة الذين اتحدوا معهم ووالوهم، فيقتلون ويغنمون، ثم يقوم رجل من الروم فيرفع الصليب، ويقول: انتصر الصليب، فقام رجل مسلم فقتله انتصاراً للدين)، فهذه دلالة واضحة على أن من فعل كبيرة مثل هذا الذي والى غير المسلمين وقاتل معهم، أنه لا يكفر، لأن الإيمان تحرك في قلبه وقتل هذا الكافر.
ثم قال: (ثم انحاز المسلمون عن الروم فذهبوا إلى الفئة المؤمنة الظاهرة على الحق، التي لم يضرها من خالفها ولا خذلها، فلما انحازوا لهم جاء الروم تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً فيقولون: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نأتيكم بإخواننا، فيشترطون شرطة تقاتل إما النصر وإما الشهادة، فينهزم ثلث: لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث، هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، ولا يفتنون أبدا ً).
وذلك لأن هؤلاء تولوا يوم الزحف وهؤلاء من أسوأ الطائفة المسلمة؛ لأنها خذلت هذه الطائفة المؤمنة.(47/18)
حكم قذف المحصنات وعظم ذلك عند الله
الكبيرة السابعة: قذف المحصنات، جاءت الشريعة بحفظ الضروريات الخمس وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض.
فقد جعل الله جل وعلا لحفظ الأعراض، سياجاً قوياً؛ ولذلك قال عن الذين يقذفون المحصنات: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] أي: إن لم يأتوا بأربعة شهداء، وقال شيخ الإسلام: ما أقيم حد الرجم أو حد الجلد في الزنا بشهود أربعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصري، ونحن نقول: إلى عصرنا هذا لم يقم حد الزنا على أحد بأربعة شهود؛ لأنه لا بد لكل واحد من هؤلاء الشهود الأربعة أن يقول: رأيت رجلاً على امرأة ورأيت ذكره في فرجها، ولذلك عندما اتهم المغيرة بن شعبة بالزنا قال أبو بكرة: رأيت رجلاً على امرأة ورأيت الفرج في الفرج، فـ عمر نظر إلى أن صحابياً من الصحابة سيرجم، وينتشر أمره أمام التابعين، وكان عمر مخلصاً لله جل وعلا، فطيب الله قلبه بالستر على بعض الصحابة؛ ثم قال: وجاء رجل آخر مع أبا بكرة وقال: رأيت رجلاً على امرأة وفرجه في فرجها، ثم قال الثالث نفس القول، ثم جاء الرابع قال: رأيت رجلاً على امرأة وسمعت صوتاً، قيل له: هل رأيت الفرج في الفرج؟ قال: ما رأيت الفرج في الفرج، فقال عمر للثلاثة: قوموا لأجلدكم، فجلدهم الحد، ثم قال: الحمد لله الذي ستر على صحابي من صحابة رسول الله، فلما جلد أبا بكرة وصاحبيه، قال عمر لـ أبي بكرة: تب لأقبل شهادتك، قال: والله لا أرجع عن قولي، فلم تقبل شهادة أبي بكرة، لكن قبلت روايته؛ لأن هناك فارق بين الرواية وبين الشهادة.
فإذاً المقصود أن قذف المحصنات من الكبائر، ولذلك جعل الله للأعراض سياجاً عظيماً جداً، وكان أشد ما وقع في القذف على المحصنات ما وقع في حادثة الإفك، فبرأ الله عائشة رضي الله عنها وأرضاها من فوق سبع سماوات.
هذه أمهات الكبائر التي تكلم عنها وساقها في روايته، وبيناها وشرحناها.(47/19)
أقوال العلماء في كون الكبائر تكفر بالحسنات والطاعات
هناك سؤال يطرح نفسه ألا وهو: هل الكبائر كفارة؟ أقول: لقد اتفق العلماء على أن للصغائر كفارة لكن النزاع في الذي فعل الكبيرة ثم لم يتب، فهل فعل الحسنات يكفر الكبيرة، كما جاء في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، يعني: أن كل سيئة إذا أتبعتها بحسنة فإنها تمحها، لكن هل الكبائر تدخل في هذا الباب؟ وهل الحديث على إطلاقه أم هو مقيد بالصغائر؟ هذا هو محل النزاع.
أقول: هذه المسألة فيها قولان: القول الأول: أن الكبائر لها مكفرات، من صلاة، ووضوء، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والحج، بعد الحج والعمرة بعد العمرة، ورمضان إلى رمضان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن).
هذه الرواية جاءت مطلقة، لكن هناك رواية أخرى جاءت مقيدة، حيث قال فيها صلى الله عليه وسلم: (ما اجتنبت الكبائر).
وعمدة أدلة أصحاب هذا القول -وهو من أقوى ما يكون-: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه في مجلس التعليم، ويضرب لهم الأمثال حتى يقرب المعلومة إلى الأذهان، فقال لهم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء) أي: لا يبقى من درنه شيء من صغائر وكبائر ثم قال: (كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا)، أي: أن الصلوات الخمس مثل النهر تنزل على معاصي المرء فتبيدها، بحيث لا يبقى من الكبائر ولا من الصغائر شيء، لكن ليست تلك الصلوات التي نصليها هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنها تكفر الكبائر والصغائر؛ لأن هذه الصلاة التي نصليها فيها نقص، ونرجوا من الله أن يتقبل منها الربع فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه الأمر دخل في الصلاة، ويتدبر كلام الله تعالى، ويتدبر التسبيح في الركوع والسجود، ويتمهما.
وهذا عروة بن الزبير رحمه الله لما دب السرطان في رجله، قالوا له: لا بد أن تشرب الخمر حتى نقطع رجلك؛ لأنك لا تحتمل، فقال: لا، إن شرب الخمر حرام، مع أنه ضرورة من الضرورات التي تبيح المحظورات، لكن كان الرجل قلبه منشغلاً بربه، فقال: لا، لكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها، فلما كبر وبدأ في القراءة قطعوا رجله، قالوا: فما شعر بها إلا بعدما حسمت وأغمي عليه، رحمه الله تعالى.
فهذه هي الصلاة التي تكفر الكبيرة.
وهذا أخوه عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه كان إذا قام فصلى أمام الكعبة طرح كل شيء خلفه، ذكر ابن كثير -كما في البداية والنهاية-: أنه صلى أمام الكعبة حين حاصره الحجاج عليه من الله ما يستحق، وهو في صلاته، فقذفه بالمنجنيق وكان مشتعلاً ناراً، فتدحرج النار على رجله، ولم ينتفض ولم يتحرك، بل أعظم من ذلك أنه صلى مرة قيام الليل وكان له ولد صغير عنده، فجاءت حية فالتفت على الولد وصرخ أهله وصرخ الجيران والتف الجيران من كل مكان من أجل أن الحية التفت على ولده، وهو في صلاته لم يعلم شيئاًً مما يحدث، فتركت الحية الولد، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]، فصلاح الأب يحفظ الأولاد.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الصالحين.
إذاً: فهذه الصلاة هي التي تكفر الذنوب، وهي التي لا تبقي شيئاً من درن العبد، واستدلوا أيضاً بحديث الحج، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
قالوا: فهذا فيه دلالة على أن الحسنات تكفر الكبائر والصغائر.
القول الثاني: قول الجمهور: وهو أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة الخاصة، واستدلوا على ذلك بأن كل الروايات التي أتت مطلقة قيدت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فهذا التقييد من النبي صلى الله عليه وسلم فيه دلالة على أن الكبائر لا تكفر بالحسنات.
وأما حديث الحج: فتلك مسألة خاصة، فليس كل من ذهب إلى الحج يرجع كيوم ولدته أمه، بل لا بد من صفات تتوافر في هذا الحاج، وهي أنه لم يرفث ولم يفسق، حتى يرجع كيوم ولدته أمه.
لكن نحسن الظن بالله جل وعلا ونميل إلى أصحاب القول الأول، أي: بأن الصلوات والجمعة إلى الجمعة والحج تكفر الكبائر والصغائر؛ فإنا لا نقدر على عذاب الله جل وعلا ولا نقوى على سخط الله.
رفعنا الله وإياكم إلى الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.(47/20)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الرد على المرجئة
المرجئة من الفرق الضالة في باب الإيمان، فقد خالفوا أهل السنة فيه، ولهم شبه بين باطلة، وهم أنواع: فمنهم الغلاة، ومنهم مرجئة الفقهاء الذين أخروا العمل عن مسمى الإيمان، ويعتقدون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهذا مخالف لأدلة الكتاب والسنة ومخالف لما كان عليه سلف الأمة.(48/1)
معنى الإرجاء، وأول من قال به
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: بدأ المؤلف رحمه الله بخصال الإيمان توطئة لأمر مهم ألا وهو الرد على المرجئة، وذكر أن من خصال الإيمان البذاذة، ويستدل لذلك بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (البذاذة من الإيمان)، وهذا الحديث وإن ضعفه بعض العلماء فقد حسنه آخرون، وآخرهم الشيخ الألباني حيث حسن هذا الحديث أو صححه، ويشهد له حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن الإرفاه، وكان يحتفي أحياناً) يعني: كان يمشي حافياً أحياناً، وهذه مآلها إلى الزهد، والزهد من علامات الإيمان، والتمسك بالدنيا ليس من علامات الإيمان، بل من علامات نقص الإيمان عند العبد، ولذلك ورد بسند صحيح عن عمر أنه كان ينصح إخوانه ويقول: اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم.
وليس الزهد في أن الإنسان لا يمتلك المال، بل الزهد أن يزهد قلبه من المال والدنيا، ولذلك سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الزهد فقيل: هل الغني يكون زاهداً؟ قال: يكون زاهداً على شرط أنه إذا خرج منه درهم لا يتأثر به قلبه، وإذا دخل آخر لا يتأثر أيضاً به قلبه، فهذه دلالة على أن الدنيا لو كانت في اليد فليس فيها مسبة أو ملامة، لكن إذا تمكنت من القلب فهذا هو النكران وهذه هي محل الملامة.
ثم انتقل المؤلف فتكلم عن المرجئة، وهجم على أهل البدعة والضلالة، والمرجئة قال فيهم بعض السلف: هؤلاء هم يهود هذه الأمة، أو: يهود أهل القبلة المرجئة، وقال بعضهم: مجوس هذه الأمة المرجئة.
والمرجئة مشتقة من الإرجاء، والإرجاء معناه التأخير، كما قال الإمام الطبري.
والحسن بن محمد بن الحنفية الذي كان أول من قال بالإرجاء، إذ كان يقر بخلافة الشيخين أبي بكر وعمر ويقول: نرجئ إمامة عثمان وعلي إلى الله جل وعلا، فكان لا يقر بإمامة الإمامين الشيخين عثمان وعلي، فقال: نرجئ أمرهما إلى الله جل وعلا، ولذلك سمي من اتبعه بالمرجئة، ثم ندم ورجع عن ذلك.
وأهل السنة الجماعة لا يخالفون الحسن بن محمد بن الحنفية في قوله، وليس هذا محل نزاع بينه وبين أهل السنة والجماعة، لكن من جاء بعده كـ ذر الهمداني وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة هم الذين اختلف معهم أهل السنة والجماعة؛ لأن هؤلاء يقولون: الإيمان شيء واحد، لا يتبعض ولا يتجزأ، وهذا هو محل النزاع بيننا وبينهم، فهؤلاء لا يتصورون أن يجتمع في المؤمن إيمان وكفر، أو نفاق وإيمان، ويقولون: إما إيمان وإما كفر، إما إيمان وإما نفاق، ولا يجتمع هذا وهذا، وهذا أيضاً أصل من أصول الخوارج، فالمرجئة تتفق مع الخوارج والمعتزلة في هذا الأصل، إلا أن الخوارج غلوا وأفرطوا، فنظروا إلى أحاديث الوعد فقالوا: من فعل المعصية أو الكبيرة فقد خرج من الإيمان؛ لأن بعض الإيمان إذا انتفى انتفى الإيمان كله؛ لأنه شيء واحد، وأما المرجئة ففرطوا وجفوا وقالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، ونحن الآن بصدد الكلام على المرجئة، وبينا أن دائرة المرجئة مع المعتزلة مع الخوارج دائرة واحدة ظهرت في أواخر القرن الأول.
فأصَّل المرجئة أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، ولا يجتمع في المؤمن إيمان وكفر، ولا إيمان ونفاق، وترد عليهم أدلة الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فأثبت لهم الإيمان وأثبت عليهم الكفر، ولكنه كفر دون كفر، وأصرح من ذلك حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، فقد أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه صفة من صفات النفاق مع أن أصل الإيمان معهم، وإنما ينتفي عنه الإيمان المطلق ويبقى مطلق الإيمان، بمعنى: ينتفي الإيمان الكامل ويبقى أصل الإيمان، مع أن فيهم شعبة من الكفر وشعبة من النفاق، لكن معهم أصل الإيمان، فهذا رد صريح على المرجئة.
والمقصود أن المرجئة ضلال وأهل بدعة، وهم الذين قالوا: إن الإيمان لا يتجزأ ولا يتبعض، وأيضاً قالوا: الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان.(48/2)
ردود العلماء على المرجئة
لقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على المرجئة بالإجمال ثم فصل الرد، ورد عليهم أيضاً ابن حزم مستدلاً بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، أي: الصادقون في إيمانهم، فقال: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا))، فجعل عدم الارتياب -وهو الشك- والإيمان سواء وهما من عمل القلب، ثم قال: ((وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)) وهذا عمل الجوارح، فبمجمل هذه الأفعال الإيمان، ونفي الارتياب، والمجاهدة في سبيل الله بالمال والنفس، يصدق عليه أن يكون مؤمناً صادقاً، فهذا رد على المرجئة الذين لا يدخلون الأعمال في الإيمان.
وأيضاً قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فتحكيم شرع الله غير الإيمان، فالإيمان محله القلب، والتحكيم محله الجوارح وهو اعتقاد القلب بأن الرب هو السيد الآمر الناهي المطاع، وجعل التسليم أيضاً غير الإيمان، فالتسليم عمل من أعمال القلوب، وهذا فيه رد على غلاة المرجئة الذين ينفون أيضاً أعمال القلوب من مسمى الإيمان، وإن كان غالبهم من مرجئة الفقهاء يدخلون أعمال القلوب في مسمى الإيمان، فهذا رد شيخ الإسلام وابن حزم على هؤلاء المرجئة، ولقد رد ابن تيمية بنفس طويل في كتاب الإيمان على المرجئة في ذلك، وبين أن الأعمال متلازمة مع الإيمان، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وأوضح ذلك بضرب الأمثلة على ذلك منها قوله: لا يتصور في رجل يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، ثم بعد ذلك لا يسجد لله سجدة، ولا يتصدق لله بدرهم، ولا يطوف حول البيت، بل هذا ليس في قلبه إيمان البتة، وكذلك قال: إن الإيمان الذي في القلب إن كان تاماً ظهر ذلك على الجوارح، ثم نقل تأكيداً لكلامه عن الحسن أنه قال: الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، وهذه المضغة هي مضغة القلب.(48/3)
أدلة المرجئة على الإرجاء
استدل المرجئة على الإرجاء بأدلة كثيرة تبين أن الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان، وأدلتنا من الكتاب والسنة: قال الله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، فالإيمان هنا بمعنى التصديق، والأعمال ليست من التصديق.
الدليل الثاني: أن الإيمان شيء واحد لا يتبعض، فإذا قلنا بأن الأعمال من الإيمان للزم انتفاء الإيمان بالكلية عند انتفاء بعض الأعمال.
الدليل الثالث: قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فاستشهدوا بهذه الآية على أن محل الإيمان هو القلب فقط، فعمل الجوارح لا تدخل في القلب، ولذلك إذا كان الإيمان التصديق فمقابله الكفر وهو التكذيب، فدائرة الإيمان والكفر عندهم هي على القلب، فلو سجد رجل للصنم، أو سب الله، أو سب الرسول، لا يكفر حتى يستحل بقلبه؛ لأن مظان الكفر والإيمان عندهم يلازم هذا القلب، مستدلين بقول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فقالوا: محل الإيمان أو محل الكفر هو القلب.
الدليل الرابع من أدلتهم: العطف، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، فعطف الأعمال الصالحة على الإيمان، والأصل في العطف المغايرة، فدل بذلك على أن الأعمال الصالحة غير الإيمان.(48/4)
الرد على استدلال المرجئة
مما يرد عليهم عقلاً أن الذي يدعي حب الله ثم يسب الله فإننا نكذبه مع أن الذي في قلبه لم يظهر عليه في الخارج، ولقلنا له: لو كنت تحب الله حقاً لاتبعت شرعه، ولو كنت تحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقاً لاتبعت سنته.
ومن الأدلة أيضاً أن الآية صرحت بأن الصلاة إيمان فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، فإنه باتفاق المفسرين أن المعنى: وما كان الله ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، ويدل عليه حديث: (فمن تركها فقد كفر)، فسلب الإيمان بترك عمل من أعمال الجوارح، وهو الصلاة، وسماها الله إيماناً، بل جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حداً فاصلاً بين أهل الإيمان وأهل الكفر.
ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الحياء شعبة من شعب الإيمان) فالحياء هنا عمل قلبي، وسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإيمان، وإماطة الأذى سماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من شعب الإيمان، فهذه دلالة على أن هذه الأعمال من الإيمان لا تخرج عنه، فإذا اعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح فلابد أن نرد على أهل البدع الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان.
فنقول: فساد هذا القول تعرفه من لازمه، إذ لازم هذا القول أن كل تارك للصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد في سبيل الله، والذكر، وتلاوة القرآن، مؤمن كامل الإيمان، بل إيمانه مثل إيمان أبي بكر الذي كان يقوم الليل، ويصوم النهار، وينفق ماله للدعوة في سبيل الله، بل إيمانه إيمان جبريل!(48/5)
الرد على الشبهة الأولى من شبه المرجئة
هذه البدعة المزرية قد انتشرت في أجوائنا، وكثير من الذين ينتسبون إلى أهل السنة والجماعة يتمذهبون بهذا المذهب مذهب المرجئة وإن كان خفياً، فيقولون بلازم هذا القول، فلا بد للتصدي لهذه البدعة والرد عليها، فنقول: أولاً: احتجاجهم بأن الأعمال ليست من الإيمان لقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، فقالوا: الإيمان في اللغة معناه التصديق، وهذه الآية دالة على ذلك، فإن كان الإيمان هو التصديق فالتصديق عمل القلب، وليس له بالجوارح أي علاقة، فالرد عليهم في ذلك أن نقول: أولاً: لا نسلم لكم بأن الإيمان في اللغة معناه التصديق، فإن الإيمان في اللغة يتعدى بنفسه، ويتعدى بالباء، ويتعدى باللام، فله ثلاثة معان في اللغة: يتعدى بنفسه فيكون بمعنى التأمين ضد التخويف، قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، وتقول: أمنته، ضد خوفته، فهذا معنى من معاني الإيمان في اللغة، ويأتي أيضاً متعدياً بالباء فيكون معناه التصديق، قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى} [البقرة:136]، إلى آخر الآيات، آمنا بالله أي: صدقنا بالله جل وعلا، صدقنا بوجود الله، صدقنا بربوبية الله، صدقنا بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، صدقنا بألوهية الله جل وعلا، وصدقنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله، كما قال الشافعي: آمنت برسول الله، وبما جاء على لسان رسول الله، على مراد رسول الله، أي: صدقت بأن محمداً أرسل من قبل الرب جل وعلا، وأنه أوحي إليه بهذه الرسالة، وأن القرآن كلام الله جاءنا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فيتعدى بالباء فيكون معناه: التصديق الذي فرغتم كل هذه المعاني إلى هذا المعنى فقط.
ويتعدى باللام فيكون معناه الاتباع والانقياد والاستسلام تقول: آمنت لله، أي: استسلمت لله، استسلمت لأمر لله، وتقول: آمنت لرسول الله، أي: استسلمت لأمر رسول الله واتبعت شرعه، ودليل ذلك قول الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] يعني: اتبعه لوط على ما هو عليه من الخير، فاستسلم له لوط وانقاد له.
فيكون الإيمان في اللغة له أكثر من معنى، فلا تسلم مقدمتكم.
ثانياً: نقول: نتنزل معكم ونقول: نحصر معنى الإيمان بالتصديق في اللغة ثم ننظر هل له معنى آخر في الشرع؟ فنجد أن الإيمان في الشرع معناه التصديق المستلزم للانقياد والاتباع والاستسلام، وإذا خالف التعريف في الشرع التعريف في اللغة قدم تعريف الشرع.
ونظير ذلك الصلاة، فإن الصلاة في اللغة معناها: الدعاء، لكن معناها في الشرع: أفعال مخصوصة في أوقات مخصوصة، فيقدم التعريف الشرعي على اللغوي، فإذا قيل لك: قم فصل ركعتين، فليس المعنى: قم فادع الله، إلا أن تأتي قرينة أحالت من مفهوم الشرع إلى مفهوم اللغة.
إذاً: مفهوم الشرع عندنا يقدم على مفهوم اللغة، ومفهوم الشرع هو التصديق المستلزم للانقياد، والانقياد هنا يكون بعمل القلب وعمل جوارح، وعليه تكون أعمال القلوب وأعمال الجوارح دخلت أيضاً في مسمى الإيمان.
ويمكن أن نرد عليهم أيضاً في تعريف اللغة وقولهم: بأن الإيمان التصديق، والأعمال لا تدخل في التصديق، فنقول: نسلم لكم بأن الإيمان في اللغة معناه التصديق، لكن من قال لكم: إن الأعمال تخرج من مسمى التصديق، نحن نقول بقولكم: الإيمان هو التصديق، وندخل الأعمال في التصديق، وعندنا دليل من الشرع في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي) إلى آخر الحديث، ثم قال: (والفرج يصدق هذا أو يكذبه)، فالتصديق أيضاً على عمل الفرج وهو الوطء، وينسحب بعد ذلك على عمل اليد، وعمل العين.(48/6)
الرد على الشبهة الثانية من شبه المرجئة
الشبهة الثانية أنهم قالوا: الإيمان واحد لا يتبعض، فلازم القول لذلك أن كمال الإيمان شيء واحد لو انتفى منه جزء انتفى باقيه، فنقول: هذا المقدمة مخالفة ومصادمة لصريح الكتاب، وصريح السنة، وصريح الآثار التي وردت عن السلف والتابعين، أما المصادمة لصريح الكتاب فإن الله جل وعلا بين وأثبت للمرء إيمان وكفر، وإيمان ونفاق في كتابه وأيضاً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دلالتها أن الإيمان يتبعض، إذ هو شعب كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وستون) وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وذكر ابن القيم أن شعبة الإيمان القريبة من لا إله إلا الله تأخذ حكم لا إله إلا الله، فالذي يكفر بعدم قول لا إله إلا الله يكفر بالشعبة التي قربت من لا إله إلا الله مثل الصلاة، حيث يكفر لتركها، وإذا نزلت الشعبة إلى مرتبة الأذى أخذت حكمها، وتارك هذه الشعبة إيمانه ناقص غير كامل.
ونقول: الإيمان حقيقة مركبة من قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، ونقل الشافعي الإجماع على ذلك، ونقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع من أدرك من التابعين ومن بعدهم من الصحابة على أن الإيمان قول وعمل ونية، فعمل القلب: هو تحركه إذا سمع أمراً من أوامر الله جل وعلا، ويعزم عزماً صادقاً على فعله، أما قول القلب: فهو التصديق والإقرار، فهو التصديق والجزم بأن الله هو خالق السماء، وخالق الأرض، وأنه الرازق الأوحد، وأنه المعطي المانع، الضار النافع، إلى غير ذلك.
والمرجئة تتفق مع أهل السنة والجماعة في ذلك، أما قول اللسان وعمل الجوارح فهو ما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة).
ومن أعمال القلوب: الانقياد والخوف والحياء والرجاء، وهي داخلة في مسمى الإيمان.
ومن أعمال الجوارح: الصلاة، والزكاة، والحج، فمنها عبادات بدنية كالصلاة، ومنها عبادات مالية كالزكاة، ومنها عبادات بدنية مالية كالحج، وهذه كلها تدخل في مسمى الإيمان بإجماع السلف.
وهناك آيات كثيرة تدل على ذلك منها قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، فكل هذه من أعمال القلب، ثم قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ} [المائدة:55]، وهذه أيضاً أعمال، ثم ختم الآية بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، فهنا صريح الكتاب يثبت أن المؤمن الحق هو من أتى بأعمال القلوب وأعمال الجوارح، ضاماً إلى ذلك تصديق القلب وقول اللسان بالشهادتين.
أما الأحاديث فمنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت) ـ يعني بالإيمان وعمرت ـ (صلح الجسد) فالجوارح تابعة للقلب.
فالقول بأن الإيمان حقيقة مركبة من قول وعمل مضاد لما قالته المرجئة: بأنه جزء واحد لا يتبعض.(48/7)
الرد على الشبهة الثالثة من شبه المرجئة
الشبهة الثالثة: استشهادهم بهذه الآية: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، على أن الإيمان محله القلب، والكفر محله القلب أيضاً من أفسد ما يكون؛ لأن هذا دليل عليهم، ولازم هذا القول أن من سجد للصنم لا يكفر إلا باستحلال القلب، ويلزم أن من سب الله وسب الرسول لا يكفر إلا باستحلال القلب، وقد خرج علينا من صرح بهذا، فنحن نقول: هذا كلام باطل جداً؛ لأن من الأعمال ما هو كفر، ومن الأقوال ما هو كفر، فسب الدين كفر وهو قول، وسب الله كفر وهو قول، والاستهزاء بالدين كفر قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فإن كان هذا الاستهزاء كفراً فمن باب أولى سب الله أو سب الدين أو الرسول فهو كفر باتفاق أهل السنة والجماعة، وأيضاً الأعمال منها ما هو كفر مثل السجود لصنم، والطواف للقبر، وهذا باتفاق أهل السنة والجماعة، فما دام أن من الأعمال ما هو كفر ومن الأقوال ما هو كفر، فإذاً: محل الإيمان ليس القلب فقط، بل محل الإيمان القلب واللسان والجوارح.
ومما يستدل به عليهم في ذلك قول الله تعالى: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ))، فالله جل وعلا نفى عنه الكفر بعد أن نطق بالكفر؛ لأنه كان مكرهاً، فمفهوم المخالفة في هذه الآية أنه إذا لم يكن مكرهاً وقد نطق بكلمة الكفر فحكمه أنه كافر بدليل الخطاب من الآية.
ومثل هذا ما قاله عمار بن ياسر من كلمة الكفر فاشتكى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد)، مفهوم المخالفة: إن لم تكن مكرهاً ونطقت بهذه الكلمة التي هي كلمة الكفر فحكمك أن تكون كافراً أصلاً.
فالمرجئة يلزمون بهذه الآية؛ لأنهم يقولون: محل الكفر القلب، والآية تدل على أن هناك كفراً بالقول، ومع أن الآية نزلت في شأن عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، إلا أن السبب لا يخصص، لكن هو مؤثر في هذه الأحكام.
إذاً: فالآية دليل عليهم، وتدل على أن الإيمان محله القلب والجوارح واللسان.(48/8)
الرد على الشبهة الرابعة من شبه المرجئة
الشبهة الرابعة: العطف في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، وأصل العطف المغايرة.
فنقول: عطف شيء على شيء إما أن يكونا متباينين -يعني: مختلفين في الجنس- ولا علاقة بينهما فهؤلاء يشتركان في الحكم فقط، مثل قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، فجنس السماء غير جنس الأرض، ومع ذلك اشتركا في الحكم وهو الخلق، بمعنى: أن الله جل وعلا خلق السماء وخلق الأرض، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، جنس الظلمات يغاير ويخالف جنس النور وأيضاً يشتركان في الحكم، فهل الإيمان والأعمال الصالحة من هذا الباب؟
الجواب
ليسا من هذا الباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي جلس في مؤخرة المسجد ولم يصل: (ألست بمسلم؟ أما صليت معنا)، فربط الإسلام بالصلاة، مما يدل على التلازم بين الإيمان والصلاة، ومر الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل -كما في الصحيح- ينصح أخاه في الحياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء من الإيمان)، معنى ذلك أن إيمانه سيظهر عليه بحيائه من الله، وحيائه من الملائكة، وحيائه من الرسول، أو حيائه من الصالحين، فالنبي صلى الله عليه وسلم استدل على أنه لو وجد إيمان في القلب فلابد أن يظهر على أعمال الجوارح.
الثانية: عطف شيء على شيء يتلازم معه، حتى لو كانت الأجناس مختلفة، مثال ذلك قول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فطاعة الله وطاعة الرسول متلازمان، فإن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهنا عطف طاعة مستقلة لله وعطف طاعة مستقلة للرسول، لكن هذه الطاعة المستقلة لله والطاعة المستقلة للرسول متلازمان؛ لقول الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، والإيمان والأعمال الصالحة تدخل في هذا القسم؛ لأن من لوازم الإيمان القلبي عمل الجوارح.
ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]، فالمحبة عمل قلبي ومع ذلك استلزمت عمل الجوارح وهو الاتباع، يعني: اتباع الرسول في صلاته، ونومه، وفي إتيانه لنسائه، وفي سنن العبادات والعادات، فإنك إن عملتها اتباعاً أجرت عليها.
ومن ذلك أيضاً حديث في الصحيحين وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ألا وهي القلب)، فالقلب إذا صلح بالإيمان ظهر هذا الصلاح على الجسد وهو الجوارح، فإذاً: الأعمال إذا عطفت على الإيمان يمكن أن تدخل من هذا الباب وهو باب التلازم، يعني: عطف اللازم على الملزوم، من أنه إذا وجد الإيمان في القلب لزم أن يظهر على الجوارح، ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن وجد في القلب إيمان تام فلابد أن يظهر على الجوارح، فإذا انتفت أعمال الجوارح انتفى إيمان القلب، فإن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، فالعطف هنا يدخل من باب التلازم، وبهذا يرد على المرجئة الذين يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، بل هي ثمرة من ثمرات الإيمان، فنقول: بل هي من الإيمان، فهي إما في دائرته وإما متلازمة معه، وإن كانت الدائرة غير الدائرة لكن هناك تلازم، بمعنى: أنه لو انتفى سقطت الدائرتان، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
النوع الثالث في العطف: عطف خاص على عام، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4]، فالروح هو جبريل، وهو من الملائكة، لكنه خص بالذكر للتأكيد.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فالصلاة الوسطى هي صلاة من الصلوات، فعطف الخاص على العام؛ ليدل على التأكيد، يعني: أؤكد على هذه الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد وتر أهله) أي: قطع أهله، ولم تكن فيه بركة، أو حبط عمله كما في بعض الروايات.
ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء) مع أن النساء من متاع الدنيا كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران:14]، إلى أن قال: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14]، فهو عطف خاص على عام للتأكيد.
ونقول: الإيمان أيضاً يمكن أن يدخل من هذا الباب، فقد جاء في الحديث: (الإيمان بضع وستون)، وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة)، فهو يدل على أن هذه الجزئيات كلها جزء من كل، فكأن الإيمان شجرة كبيرة وكل غصن من هذه الأغصان جزء من هذه الشجرة، فإذا أفردت الحياء فقط وعطفته على الشجرة، فجزء من الشجرة عطفته على الشجرة، وهو الخاص على العام.
إذاً نقول: العطف الذي احتجوا به في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، خاطئ ولا دلالة لهم فيه؛ فإن هذا العطف إما عطف تلازم وإما عطف خاص على عام، وهذا أيضاً لا يخرج الأعمال من دائرة الإيمان.
فهذا هو الرد على المرجئة، وهم مع ذلك أقرب الطوائف إلى أهل السنة خاصة مرجئة الأحناف.(48/9)
الخلاف بين أهل السنة والمرجئة لفظي وحقيقي
مرجئة الأحناف خالفوا أهل السنة والجماعة في أشياء، ولذلك قال شيخ الإسلام في الفتاوى: الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الأحناف -أي: مرجئة الفقهاء- خلاف صوري لفظي فقط، وليس خلافاً حقيقياً، وقرر ذلك شارح الطحاوية.
وقد جاءت بعض الأحاديث فيها ضعف في ذم المرجئة، منها: (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب، القدرية والمرجئة)، والراجح أن النزاع بين المرجئة وبين أهل السنة والجماعة نزاع لفظي في نقطتين، وهو نزاع حقيقي خلافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية وشارح الطحاوية في نقطتين أيضاً، أما الخلاف اللفظي الصوري بين مرجئة الأحناف وبين أهل السنة والجماعة فهو قولهم: الأعمال ثمرة من ثمرات الإيمان، وقول أهل السنة والجماعة أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، والنتيجة واحدة بين الطرفين من جهة أن ثمرة الأعمال للمؤمن تجعله يتفاوت في الدرجات، فمنهم من يكون في الفردوس الأعلى، ومنهم من ينزل عنها، ومنهم من يكون في آخر درجة من درجات الجنة، وهذه دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص مع أنهم لا يقولون بهذا القول ولا يصرحون به، لكن النتيجة عندهم أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاوتون في ذلك، ولذلك قال الطحاوي: وأهله في أصله سواء، يعني: متساوون، أما في الدرجات فبينهم تفاوت، فمنهم من يرتقي ومنهم من ينزل، وهنا ملحظ لأهل السنة والجماعة وهو أن الناس لا يستوون في أصل الإيمان على الراجح من ذلك، بل هم يتساوون في مطلق الإيمان، أما في أصله فلا، وهناك من أهل السنة والجماعة وهم المالكية يقولون: إن أصل الإيمان لا يزيد، والصحيح الراجح: أنهم أيضاً يتفاوتون في أصل الإيمان، فمنهم من هو أعلم الناس بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ يتدبر آيات الله المرئية، وآيات الله الكونية، فهذا يقوي أصل الإيمان، وأيضاً المخبر ليس كالمعاين، ولذلك نستدل على أنهم يتفاوتون في أصل الإيمان بقول إبراهيم لله جل وعلا: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، لأن عين اليقين تجعل الأصل عنده أدق، والنبي صلى الله عليه وسلم جلس مع أصحابه فقال: (من أعجب الناس أيماناً؟)، أو قال: (من أعرف الخلق إيماناً) فقالوا: يا رسول الله! الملائكة، فقال: (الملائكة عند ربهم يشاهدون) أي: قدرة الله جلا وعلا، والأمر الذي ينزل إليهم، والنهي، والإعطاء والمنع، والإحياء والإماتة، فهذا يزيد في أصل الإيمان، فقالوا: أنت يا رسول الله! فقال: (أنا يأتيني الوحي)، فقالوا: نحن يا رسول الله! فقال: (أنا بينكم أخبركم، أعجب الناس إيماناً -أو- أعجب الخلق إيماناً أناس يأتون بعدي ما تأتيهم إلا صحف فيؤمنون بما فيها!) ومع ذلك لا يقول أحد: إن في آخر الزمان رجل إيمانه أقوى من إيمان أبي بكر، أو إيمانه أقوى من إيمان أدنى الصحابة، ولذلك جاء بعض التابعين فقال لـ ابن مسعود: لو كنا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحملناه فوق أكتافنا وما جعلناه يسير على الأرض، وجعل العلماء الصحابة عدولاً؛ لرؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رؤيته لا يعادلها شيء، فرؤية النبي صلى الله عليه وسلم تزيد الإيمان، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم والمعجزات التي تحدث أمامهم تجعل الإيمان عندهم أقوى بكثير، وهم في الأصل ليسوا سواء، ويتفاوتون في الجنة، فالإيمان يزيد وينقص.
والخلاف اللفظي الثاني هو في شأن أهل الكبائر، فهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، لكن قالوا: إن الذي فعل الذنب مستحق للعذاب، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وهذا قول أهل السنة والجماعة، فقد اتفقوا مع أهل السنة والجماعة في المآل واختلفوا في اللفظ، فهم يسمون أهل الكبائر مؤمنين، أما أهل السنة والجماعة فيسمون صاحب الكبيرة مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته، ولا تقول: هو مؤمن فقط، ويمكن أن تنزله من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام.
فهاتان نقطتان اتفق أهل السنة والجماعة مع المرجئة فيهما، والخلاف صوري ولفظي بينهم، أما النقطة الحقيقية في الخلاف فهي أنهم حصروا الإيمان والكفر في القلب، وأهل السنة والجماعة يختلفون معهم في ذلك؛ لأن محل الإيمان عندهم القلب والجوارح واللسان، والإيمان عندهم: قول وعمل واعتقاد، أما المرجئة فحصروا الإيمان في القلب.
النقطة الثانية: أنهم حصروا الكفر في التكذيب، وهذا خلاف كبير لأهل السنة والجماعة، إذ إن الكفر عندنا كفر إعراض، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، وكفر إباء واستكبار، لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، وكفر استهزاء، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، فأنواع الكفر كثيرة، وقد عددناها ستة أو سبعة من أنواع الكفر، وهم حصروا الكفر في التكذيب، ونحن نخالفهم في ذلك ونقول: بل الكفر أكثر من التكذيب والاستحلال؛ لأن كل مرجئ يقول: إذا فعل المؤمن ما يكفر به فليس بكافر حتى يستحل بقلبه ما فعل، وأهل السنة يخالفونهم في ذلك فإن الرجل إذا ألقى المصحف في الحشوش قلنا: هذا الفعل فعل كفر، والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبه كما فصلنا، فالمقصود أنهم يقولون: إن الذي ألقى المصحف في الحشوش لا يكفر إلا أن يستحل بقلبه، أو يقولون: إن العمل هذا ليس كفراً بذاته، بل هو علامة على الكفر الذي في القلب، وعلامة على التكذيب والاستحلال الذي في القلب، وهذا خلاف ما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأن من الأعمال ما هو كفر بذاته، وهناك من الأقوال ما هو كفر لذاته، يخرج به الشخص من الملة بعد إقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة منه، فهذه هي النقاط التي اختلف فيها أهل السنة والجماعة اختلافاً حقيقياً مع المرجئة.(48/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - جواز الكذب في الإصلاح - الشفاعة
الكذب من كبائر الذنوب، ولكنه يجوز للإصلاح بين المسلمين، وقد ثبتت الرخصة في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر أهل العلم صوراً يجوز فيها الكذب وضوابطها.(49/1)
خطر الكذب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: إخوتي الكرام! فمازلنا مع هذا الكتاب المبارك للإمام العلامة اللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة, وبعدما ساق هذا العلامة السياق البديع في الرد على المرجئة، وتكلم على حكم أهل الكبائر وعدد من الكبائر ما عدد، ساق بعد ذلك بالتناسق البديع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب للإصلاح، والكذب من الكبائر أيضاً، ولو لم يفرد الكذب بالكلام على أنه من الكبائر، لكنه يفهم من خلال السياق، ثم تكلم عما يمحو الكبائر، وهل تشترط في الكبائر التوبة أم أنها تمحى بالمكفرات؟ ذكر هنا سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب للإصلاح، وهذه استثناءات من القاعدة العريضة المستقاة من الكتاب والسنة، فالغرض المقصود: أنه ألمح إلى دخول الكذب في ضمن الكبائر ولم يصرح، وهل يكون مرتكب الكبيرة خالداً في النار إذا مات مصراً عليها، أم أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنفعه ويكون داخلاً تحت مشيئة الله جل في علاه؟ وقد أردف المؤلف هذا بذكر شفاعته صلى الله عليه وسلم الخاصة بأصحاب الكبائر.
فنتكلم عن الكذب ونقول: الكذب لغة: ضد الصدق, واصطلاحاً: هو الإخبار بخلاف الواقع، كأن تقول مثلاً: انتصر الروم، والروم قد هزموا، وهذا ما قرره الحافظ ابن حجر في تعريف الكذب اصطلاحاً.
والكذب مذموم شرعاً, وهو من الكبائر، فقد ذمه الله جل وعلا في كتابه وذمه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، فقال الله تعالى مبيناً لنا أن العذاب الشديد الأليم يكون لأهل الكذب والفجور: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]، وبين أن لعنته جل وعلا تنزل على الكاذبين المكذبين لله جل وعلا ولرسوله, وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث) وفي رواية قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً - وذكر منها- إذا حدث كذب)، فعدها من الكبائر التي يتصف بها المنافقون، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً عظم خطر الكذب، فقد جاء في السنن أو في مسند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب -هنا عظم الخطر- وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذباً) والعياذ بالله.
وعواقب الكذب وخيمة في الدنيا والآخرة: كمحق البركة من الرزق والبيت بأسره، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما, وإن كنتما وبدلا محقت بركة بيعهما)، فبالكذب تمحق البركة، بل الأشد من ذلك والأنكى يكون في الآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم يوم القيامة ومنهم الكذاب).
وهنا مسألة مهمة وهي: هل الله عز وجل لا يكلم أحداً يوم القيامة ولا ينظر إليه سواء كان مؤمناً أو كافراً؟
الجواب
هذا عام خصص بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) وما منكم من أحد: نكرة في سياق النفي فهي تفيد العموم، فوجب تأويل النص السابق: بأنه لا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يكلمهم بعطف ورفق وما أشبه ذلك.
مسألة أخرى: هل يرون الله عز وجل في المحشر على خلاف صورته أم لا؟
الجواب
لا، بل يرون الله على ما هو عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يأتيهم الله جل وعلا في صورة غير التي يعرفونها, فيقول: ما تريدون؟ يقولون: ننتظر ربنا، قال: أتعرفونه؟ قالوا: نعرفه بعلامة بيننا وبينه)، فلم يأتهيم على نفس صورته، لكنه يكشف العلامة لعباده وهي الساق، فإذا كشف عن ساقه جل وعلا سجد الكل إلا المنافقون؛ فإن ظهورهم تصير كالرخام طبقة واحدة، والله أعلم.
والحق أن الكذب أصبح فساده مستشرياً عريضاً في المجتمعات، والكذاب قد يهدم بيوتاً بل مجتمعات بأسرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الكبائر، فإن كان من الكبائر فعلى العبد أن ينأى بنفسه عن أن يكون كذاباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل كما في السنن: (أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم, أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، ثم قيل له: أيكون المؤمن كذاباًَ؟ قال: لا)، فلا يجتمع الكذب والإيمان في قلب مؤمن أبداً، فإذا رأيت العبد يكذب فاعلم أن هذه إشارة وعلامة على أنه ليس بمؤمن الإيمان الكامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أيكذب المؤمن؟ قال: لا) فالكذب حرام، بل إنه كبيرة من الكبائر التي تدخل في مسألة الخلاف الذي تكلمنا عنه في مسألة المكفرات, وهل الأعمال تكفر الكبائر أم لا؟(49/2)
الأحوال التي يجوز فيها الكذب
ذكر المؤلف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز الكذب، ونحن نعلم أن الكذب حرام؛ لعموم النهي عنه، فهل يستثنى من هذا العموم شيء؟ نقول: نعم، يستثنى من هذا العموم في حرمة الكذب ثلاثة أحوال سنبينها، وقبل ذكرها نقرر قاعدة مهمة تنفع طلاب العلم عند سيرهم في هذا الطريق: القاعدة الأولى: من مقاصد الشريعة: درء المفاسد وجلب المصالح, وتمخضت هذه القاعدة وهذا المقصد قواعد كثيرة منها: أولاً: إذا تعارضت مصلحتان لا يمكن الجمع بينهما قدمت الكبرى على الصغرى.
ثانياً: إذا تعارضت مفسدتان لا يمكن دفعهما معاً دفعت الكبرى واحتملت الصغرى، وكل ذلك مستند لآيات وأحاديث منها: قول الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، فبالرغم من أن مسبة الآلهة التي تعبد من دون الله طاعة وقربة إلا أن الله جل في علاه نهانا عن ذلك مراعاة للمفاسد والمصالح؛ لأنك إذا سبيت آلهتهم فستدفعهم إلى سب الله جل في علاه.
ومن الأدلة أيضاً: ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم)، فلم يفعل ذلك من أجل المصلحة والمفسدة.
أما بالنسبة لتعارض المفاسد مع المصالح، فإن درء المفاسد يقدم على جلب المصالح؛ ولذلك حرم الله تعالى الخمر مع أن فيه منافع، لكن المفسدة فيه كانت أعظم من المصلحة، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، مفسدة كبيرة، {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، ففي هذه الحالة نرفع المفسدة الكبيرة الموجودة في الخمر: من زوال العقل وانتشار الفساد والصد عن سبيل الله وعن الصلاة، ويكون درء هذه المفسدة العظيمة أولى من جلب المصلحة الكامنة في الربح الزهيد المترتب على بيع الخمر ونحوه.
ومثال تعارض المصلحة مع مصلحة أخرى: إذا تعارضت مصلحة رفع إعلاء راية لا إله إلا الله ونصر المسلمين مع مصلحة حفظ نفسك التي تسجد لله وتنكأ في أعداء الله، فعند ذلك تقدم المصلحة الكبرى المتضمنة إعلاء كلمة التوحيد على حساب تفويت المصلحة الصغرى الكامنة في حفظ النفس الذي هو من مقاصد الشريعة.
أما إذا تعارضت مصلحة العامة مع مصلحة الخاصة فإنها تقدم المصلحة العامة على الخاصة، وهذا مثل تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي، فمن مقاصد الشريعة تقديم المصلحة العامة مصلحة المجتمع على مصلحة الخاصة أو الفرد.
إذاً: يجوز أن يكذب الإنسان مراعاة للمصالح والمفاسد، ومراعاة لمقاصد الشريعة، وهذا هو التأصيل العلمي لهذه المسألة، فنقول: يجوز الكذب في ثلاثة أحوال: الأولى: الإصلاح بين الناس, فللمرء أن يكذب من أجل الإصلاح بين الناس، إذ إن الإصلاح بين الناس هو من أسمى ما يكون في التعامل بين المسلمين؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128]، وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، (وفساد ذات البين هي الحالقة)، فهي التي تضيع الأمم، وما التشرذم والتفرق وعدم الوحدة الذي نعيشه الآن إلا بسبب التفكك وعدم الترابط, فالله جل وعلا حذرنا من فساد ذات البين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فساد ذات البين هي الحالقة، ولا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) , ففساد ذات البين هو سبب التدابر والتباغض, وهو سبب التشرذم والتفرق الحاصل للأمة كما هو حال واقعنا المعاصر الذي نعيشه الآن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً)، فللمرء هنا أن يقع في هذه المفسدة الصغرى -وهي الكذب- لدرء المفسدة الكبرى: وهي فساد ذات البين، فله أن يكذب بين قبيلة وقبيلة، أو دولة ودولة، أو أشخاص وأشخاص؛ حتى يصلح بينهم, فللمرء أن يذهب إلى زيد وعمرو مثلاً، فيقول لزيد: سمعت عمراً يثني عليك ثناء عالياً، فهو يرى فيك رجلاً يقتدى ويتأسى به فتلين قلبه بالكلام الطيب حتى تصلح بينهما, فهذا يجوز من باب غمر المفسدة الصغرى في خضم المصلحة العظمى الكبيرة: ألا وهي التآلف والتواد والترابط، كما قال الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فإن العزة والقوة تكون في التلاحم والترابط، ولذلك روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس أو الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً) يعني: أنه يكذب، لكنه مأجور عند الله جل في علاه بسبب الكذبات؛ لأنه يأتي بالإصلاح, فهذه أول الحالات التي يمكن للإنسان أن يكذب فيها من أجل مصلحة أكبر.
الحالة الثانية: بين الرجل وزوجته: كأن يبغض الرجل زوجته بسبب صعوبة التعامل معها وعدم لينها معه، فمثل هذا يجوز أن يكذب عليها فيقول: كأني أرى قطعة من القمر أمامي، وأنا أحبك أكثر من نفسي، فالشرع أجاز له أن يكذب عليها، مع أنه يريد أن يلوي عنقها، وأباح له أن يكذب على زوجته حتى في الأموال التي معه؛ من أجل أن يؤلف قلبها؛ لأنه يعلم أن المقصود من الزواج: حصول السكن والمودة والرحمة، كما قال عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، ومن المعروف: أن تكذب عليها حتى تطيب قلبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في النساء) ومن الغريب: أن هذا الكذب يعد من باب التقوى في النساء؛ لأنهن ناقصات عقل ودين, وهذا أيضاً من المفاسد التي يجوز الوقوع فيها مراعاة للمفسدة الكبرى التي قد تقع بسبب هذه العقول الخربة؛ لأن الإنسان لو وقف أمام زوجته موقف الرجل الصنديد الصلب فإنه إما أن يجن وإما أن يقتلها، فلابد أن يصلح من حاله معها ولو بالكذب عليها؛ حتى يحصل المقصود من الزواج، وقد جاء في مسند الإمام أحمد حديث فيه ضعف: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعدما حذر من الكذب: (إلا لرجل يكذب على أهله)، أي: يتلطف مع أهله بالمحبة والود.
الحالة الثالثة التي يجوز فيها الكذب: الحرب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة)، فيجوز لك أن تكذب على الكافرين في الحرب، ولو اتهموا الإسلام بالكذب، فتقع في المفسدة الصغيرة وهي الكذب من أجل المصلحة العظمى المتمثلة في نصرة هذا الدين ورفع رايته، لكن هل للرجل المجاهد إذا أراد الدخول إلى دولة ما أن يكذب وأن يزور لأجل هذه المصلحة؟
الجواب
لا بد له من مراعاة أمور قبل ذلك، فإذا دخل بأمان هذه الدولة، فهل له أن يخون هذا الأمان أم لا؟ وهل هذه البلدة حربية ضد الإسلام أم لا؟ فهذه ضوابط لا بد أن يعرفها من يريد التزوير أو الكذب في الحرب، وسيأتي الكلام عنها بمشيئة الله تعالى.
والغرض المقصود: أنه يجوز للمرء في هذه الحالات الثلاث أن يرتكب المفسدة الصغيرة لاستجلاب مصلحة أكبر منها.
والخلاصة في هذا: أن المرء يجوز له أن يفعل المحرم مثل الكذب، لجلب منفعة لا يستغنى عنها، أو لدفع مضرة لا يمكن أن تدفع إلا بالكذب، ومثل هذا: أن يكذب التاجر على صاحب الضرائب مدعياً الخسارة في تجارته وعدم الربح ليتهرب من هذه المكوس المحرمة؛ لأنه يدفع هذه المفسدة العظمى بمفسدة صغرى، وهي الكذب.
رجل أيضاً من المؤمنين مطارد من قبل الظلمة، وهذا الرجل المؤمن دخل عند رجل آخر فجاء إليه هذا الظالم وسأله عن الرجل المؤمن، وهذا الرجل يعلم أن هذا الظالم يريد قتل المؤمن، ففي هذه الحالة يجوز لهذا الرجل أن يكذب ويدعي عدم وجوده عنده؛ لأن هذه المضرة المتمثلة في القتل لا تندفع إلا بالكذب فجاز.
كذلك: إذا احتاج إلى شيء ضروري لا غنى له عنه، ولا يمكن أن يحصله إلا بالكذب فله ذلك، كما أنه لو أراد أن يحصل على منفعة ضرورية لا غنى له عنها، ولا يحصلها إلا بأن يرشي هذا المرتشي الذي يأكل سحتاً، فيجوز أن تعطيه؛ لأنه لن يمشي لك هذه المعاملة التي هي حق صرف لك إلا بذلك.
إذاً: ضابط هذا الأمر أنك تقع في هذه المفسدة الصغيرة لدفع مضرة ستقع عليك لا تندفع إلا بالكذب، أو جلب مصلحة ضرورية لك -وهذا القيد مهم- لا يمكن أن تجتلبها إلا بهذا الكذب، وقد قال العلماء: لا بد أن تكون هذه الضرورة أخروية لا دنيوية, فلا يكذب من أجل أن يتحصل على مسألة دنيوية تنفعه في دنياه دون آخرته، هذا ضابط الكلام في جواز الكذب.(49/3)
الشفاعة
ثم بعد أن بين الإمام الأحوال التي يجوز فيها الكذب وأن الإنسان قد يقع في المحرم دون أن يكتب عليه شيء، ذكر هل يخلد في النار من وقع في كبيرة الكذب أم أنه تحت مشيئة الرحمن؟ وهل تنفعه الشفاعة أم لا؟ فدخل في باب آخر: وهو سياق ما روي في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر.
أقول: الشفاعة في اللغة: هي جعل الوتر شفعاً، فتجعل الواحد اثنين، أما في الاصطلاح: فهي التوسط من أجل جلب مصلحة أو دفع مضرة، سواء بين بني البشر أو بين الله جل وعلا وبين خلقه كما سنبين, والشفاعة حق تام محض صرف لله جل وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فالشفاعة ليست لأحد، وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه العظيم شفاعة مثبتة وشفاعة منفية: أما الشفاعة المنفية فهي شفاعة الكافرين, قال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فهذا نفي عام، ينفي فيه الشفاعة للمشركين كما قال الله تعالى حاكياً لنا على لسانهم أنهم قالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] , فهذه الشفاعة منفية عن الكافرين، واستثنت منها شفاعة واحدة كما سنبين لاحقاً.(49/4)
شروط الشفاعة
الشفاعة المثبتة: هي الشفاعة للمؤمنين، ويدخل في المؤمنين أهل الكبائر الذين هم عصاة الموحدين، وقد أثبت الله جل وعلا هذه الشفاعة بشرطين لا بد من توافرهما في هذه الشفاعة: الشرط الأول: الإذن للشافع, قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، أي: فلا أحد يمكنه أن يشفع عند الله جل وعلا في أحد أن يدخله الجنة، لا مجاهد ولا حافظ قرآن ولا مؤمن ولا ملائكة ولا حتى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد إذن الله جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهذا أسلوب حصر مفاده: أن الشفاعة لا تكون إلا بهذا الإذن.
الشرط الثاني: رضا الله عن الشافع والمشفوع، قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وهذا عموم، فلا بد أن يرضى الله عن الشافع وعن المشفوع حتى تقبل الشفاعة، وقد جمعهم الله في آية واحدة فقال: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، فجمع الشرطين: الإذن والرضا حتى تقبل الشفاعة.(49/5)
أنواع الشفاعة
الشفاعة تنقسم إلى قسمين: شفاعة عامة، وشفاعة خاصة، فالشفاعة الخاصة: هي لنبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يشترك معه أحد فيها، وتكون من الموقف الذي يشتد فيه الكرب، وتدنو فيه الشمس من الرءوس قدر ميل، ويغرق الناس في عرقهم، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه وإلى ساقيه وإلى ركبتيه وإلى حقويه وإلى صدره وإلى أذنه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فلشدة وقع الكرب على الناس يذهبون إلى آدم فيقولون: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، ألا تشفع لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول آدم: نفسي نفسي، ثم يحيلهم إلى نوح فيقول: نفسي نفسي، ثم يحيلهم إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيذهبون إلى إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث ويقول: نفسي نفسي، ثم يحيلهم إلى موسى، ومن ثم إلى عيسى عليه السلام، فيقول عيسى: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فيذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم بالمؤمنين فيقول: أنا لها أنا لها، وفي رواية: أمتي أمتي، قال: (فأذهب فأسجد تحت العرش، فأحمد الله بمحامد يعلمني إياها، فيقول الله: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع)، وهذه كرامة كبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، للمقام المحمود الذي اختصه الله تعالى به؛ ليبين بذلك أنه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الشفاعة في أهل المحشر جميعاً حتى يقضي الله بين الخلائق، وهذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشترك معه فيها أحد، وهو المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يقال بعد الأذان: (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)، فإن الله يبعثه المقام المحمود في عرصات يوم القيامة.
ومن أنواع الشفاعة الخاصة به: الشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة، فلا يدخل بشر الجنة حتى الأنبياء إلا بشفاعته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يطرق الباب -كما جاء في الحديث- فيقال: من؟ فيقول: محمد فيقال: ما أمرنا أن نفتح إلا لك، فلا أحد يدخل الجنة أبداً وإن كان من مستحقيها إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الشفاعة الثالثة الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم: فهي الشفاعة المستثناة لعمه، حتى إن إبراهيم عليه السلام لا يشفع لأبيه، فقد تبرأ منه لما رآه عدواً لله جل وعلا، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يشفع في عمه أبي طالب، فبعد أن كان في الدرك الأسفل من النار أصبح عليه نعل أو نعلان من نار يغلي منهما دماغه ومع ذلك يقول: ما رأيت أحداً أشد عذاباً مني في النار، وفي البخاري: (أن العباس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعلت لعمك وقد كان يحوطك وينصرك؟ فقال: لولاي لكان في الدرك الأسفل من النار).
أما الشفاعة الرابعة: فهي مشتركة بين المؤمنين والملائكة والأنبياء والمرسلين، حتى إن الله جل وعلا يقول: (شفعت الملائكة وشفع المؤمنون وشفع الأنبياء, وبقيت شفاعة رب العالمين، فيقبض قبضة فيخرج من النار كل من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من الإيمان)، فهذه الشفاعة عامة يشترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون والملائكة.
ومن هذه الشفاعات أيضاً: الشفاعة في أهل الكبائر، وهذا هو الشاهد وهو السياق الذي أورد من أجله أحاديث الشفاعة, فإنه يشفع لأهل الكبائر الذين يستحقون النار ولم يتوبوا من هذه الكبائر، وهذا قيد مهم جداً؛ لأنهم لو تابوا لما استحقوا العذاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
ودليل هذه الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (لكل نبي دعوة مستجابة دعاها على قومه، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي) وفي رواية أخرى: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، وفي بعض الروايات وإن كانت لا تصح إلا موقوفة يقول: (أتحسبونها للمتقين للمؤمنين؟) يعني: أن الشفاعة هذه لا تكون للمتقين والمؤمنين، قال: (لا، بل هي للمذنبين من أمتي) فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر الذين استحقوا النار ألا يدخلوها ويدخلوا الجنة.
ومن الشفاعات أيضاً: أنه يشفع في أناس دخلوا النار وماتوا، كما في مسند أحمد، قال بالتصريح: (فيموتون فيصيرون حمماً ثم يؤخذون إلى نهر الحياة)، فهؤلاء أهل الكبائر الذين أدخلهم الله النار، بعدما عذبوا بكبائرهم فيموتون ويصيرون حمماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم، وتشفع الملائكة، ويشفع المؤمنون، فيخرجون من هذه النار ويدخلون في نهر الحياة فيخرجون ويدخلون الجنة، كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آخر أمتي دخولاً الجنة من الذين يفعلون الكبائر فيموتون، ثم يلقون في نهر الحياة، فبعدما يخرجه الله يقول: رب أبعدني عن النار -يعني: أن لهيبها قد أصابه- فيبعده الله عن النار، فينظر فيجد شجرة يريد أن يستظل بها، فيقول: رب اجعلني تحت هذه الشجرة لأستظل بظلها، فيقول الله: ويحك يا ابن آدم! لو أعطيتك هذه لسألتني غيرها، فيعطي المواثيق والأقسام أنه لا يسأله غيرها، فما أن أجلسه الله تحت هذه الشجرة حتى نظر إلى أهل الجنة فاشرأبت عنقه)، وهو لا يستطيع الصبر ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يعقب على هذا ويقول: (وربك يعذره)؛ وهذه دلالة يستدل بها العلماء: أن الإنسان لو أقسم على غالب ظنه، ثم وجد الأمر مخالفاً لقسمه فإنه لا يحنث، وهنا يرى أهل الجنة يتمتعون وهو في الخلف فيقول: رب! قربني من هؤلاء، فيقول: (ويحك يا ابن آدم! أما أخذت عليك المواثيق ألا تسأل؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: وربك يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه)، فيقربه الله جل وعلا.
وهنا قاعدة مهمة: وهي أن الله جل وعلا إذا أراد شيئاً هيأ له سببه، فاستبشر خيراً، فإن أراد الله جل وعلا بك خيراً هيأ لك أسبابه، فجعلك تحضر دروس العلم، وجعلك تفعل ما يفعل المؤمنون المتقون، وجعل همك كله منصباً في كيفية إرضاء الله جل وعلا, وهنا أراد الله جل وعلا لهذا الرجل أن يدخل الجنة فطمعه فيها، فهو الكريم ولن يخيب من طمع في كرمه، وعند ذلك يريه الله الجنة فيقول: رب أدخلنيها فيدخله الله الجنة، ويعطيه مثل ملْك ملِك من ملوك الدنيا وفوقه عشر مرات بفضل الله ورحمته، فهؤلاء هم أهل الكبائر الذين يدخلون الجنة بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبشفاعة المؤمنين والأنبياء والملائكة.
ثم بعد ذلك الشفاعة الخامسة والأخيرة: وهي شفاعته صلى الله عليه وسلم في أناس كانوا في درجة أقل في الجنة ليرتقوا إلى الدرجات العلى، ولم يكن عمله قد أوصله إلى هذه الدرجة العليا فيرتقي بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يكون دون الفردوس فيرتقي بشفاعة النبي إلى الفردوس.
وإذا كان الأب مثلاً في درجة عالية والابن في درجة أنزل منه فإنه يرتقي بشفاعة النبي إلى درجة الأب، أو العكس كما بين الله جل وعلا ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] يعني: ما أنقصناهم من عملهم من شيء.
نسأل الله جل وعلا أن يجعل النبي صلى الله عليه وسلم شفيعاً لنا، وأن يشفع فينا الملائكة، ونسأله جل وعلا أن يقبلنا في الصالحين الموفقين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(49/6)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الحوض
من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالحوض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفاته، ولكل نبي حوض تشرب منه أمته، ويحرم من ورود الحوض أهل البدعة والضلالة؛ ولذا حرم الشرع كل البدع، وبالغ في الزجر عنها والتنفير منها، فينبغي معرفة ضابط البدع وأنواعها من أجل الحذر من الوقوع فيها.(50/1)
الإيمان بالحوض
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]،.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الله جل وعلا يبين أن فلاح المؤمنين بإيمانهم بالغيب، وهذا الذي يدل على صدق الإيمان في القلب، فبدأ المصنف بالغيبيات، وأول ما بدأ به سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحوض.
والحوض لغة: الجمع، ويطلق على المكان الذي يتجمع فيه الماء.
وشرعاً: هو الحوض الذي شرف به الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض كما سنبين، بل يشترك إخوانه من الأنبياء والمرسلين في هذه الفضيلة الكبيرة ألا وهي الحوض.(50/2)
أدلة ثبوت الحوض من الكتاب والسنة والإجماع
الحوض الذي شرف الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة ثابت في الكتاب بالإشارة، وفي السنة بالتواتر، فهو ثابت كالجبال الرواسي، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، والكوثر فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نهر من أنهار الجنة، يصب في حوض النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة.
قلنا: إنه ثابت بالكتاب والسنة، وأيضاً أجمع السلف الصالح على ثبوت الحوض للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه فضيلة تشرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إظهاراً لمكانته ومنزلته عند الله يوم القيامة، وأجمع السلف على ذلك، وهذا الإجماع ما انخرق، لكن خالف أهل السنة والجماعة الخوارج والمعتزلة فأنكروا الحوض، وهؤلاء -جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل- إن شاء الله سيحرمون ويصدون عن هذا الحوض، وهم أشد ما يحتاجون إلى هذا الحوض في عرصات يوم القيامة.
وقد جاءت أحاديث كثيرة متواترة تبين الحوض، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض -أي: أنا الذي أتقدمكم على الحوض- ولأذودن عن حوضي) أي: يزيح الناس من الأمم الأخرى عن الحوض، وهذه مزية لهذه الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين أمته وبين الأمم التي سبقت وآمنت بالرسل غير النبي صلى الله عليه وسلم.(50/3)
بيان صفة الحوض كما ورد في الأحاديث
وردت أحاديث كثيرة تبين الحوض وتصفه، وهذه الأحاديث وإن كان فيها اختلاف في ظاهرها، لكن الاختلاف تمثيلي وتقريبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم اختلفت الروايات عنه في طول هذا الحوض وعرضه، ففي بعض الروايات أنه بين أيلة وعدن، أو بين مقامي هذا ومسيرة ثلاثة أيام، فبين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث مختلفة مواضع أو مساحة هذا الحوض، وهذه الأحاديث لا تختلف أبداً؛ لأنها تمثيلية تقريبية، وفي رواية: طول هذا الحوض مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر، ومعنى ذلك: أنه دائري أو مربع وزواياه مستوية، وتستوي فيه الأطراف، أما عدد الأواني التي ستشرب منها هذه الأمة فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها كعدد نجوم السماء، فيستنبط من هذا سعة وكثرة هذه الأواني حتى تسع هذه الأمة بأسرها.
ويستنبط من الرواية الأخرى: (كنجوم السماء): أنها تتلألئ، فيتمتع الشارب متعة معنوية ومتعة حسية، أما المتعة الحسية عندما يشرب من هذا الحوض، شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً، فماؤه عذب زلال، أحلى من العسل.
والمتعة المعنوية متعة الروح عند النظر إلى هذه الأواني وهي تتلألئ، كما تتلألئ النجوم في السماء فهي زينة للسماء، وأيضاً هذه الأواني زينة يتمتع الناظر إليها، فيتمتع الشارب حسياً بالشرب شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً، ويتمتع معنوياً بالنظر في هذه الأواني اللامعة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف هذا الحوض العظيم: (له ميزابان) يعني: كل ميزاب يصب على الحوض، ميزاب من ذهب وميزاب من ورق، والورق: الفضة، وهذا الحديث يستدل به الفقهاء على أن الذهب والفضة إذا حرم على المؤمن والمسلم استعمال أوانيها في الدنيا، فهي له في الآخرة، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا)، يعني للكفار: (ولكم في الآخرة)، فالميزاب الأول من ذهب والميزاب الثاني من فضة، يصبان في هذا الحوض من نهر الكوثر.
وهذا الماء أبيض من اللبن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماؤه أبيض من اللبن)، وفي رواية أخرى قال: (ماؤه أبيض من الورق) يعني: أبيض من الفضة، وهذا فيه زيادة في المعنى، فليس أبيض فقط، بل فيه بريق ولمعان، كأنه يخطف الأبصار، ليس الخطف الذي ورد في الآية، ولكنه يجعل الأبصار تتلألئ إذا نظرت إلى هذا الماء العذب، الذي هو أبيض من الورق، وأبيض من اللبن، أما طعمه فأحلى من العسل، كأنك تشرب العسل، وينزل في صدرك بحلاوته، فهذا الماء أحلى من العسل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ورائحته أطيب من المسك، فلونه أبيض من اللبن، وطعمه أحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة المسك، وأفضل ما فيه: أن المرء إذا شرب منه لا يحتاج إلا شربة واحدة بيد النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة فلا يظمأ بعد هذه الشربة أبداً، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.(50/4)
حاجة الناس الشديدة يوم القيامة إلى الحوض
يوم القيامة تشتد الحاجة إلى الحوض، لأن الناس في كرب شديد، وفي ظمأ وجهد شديدين في عرصات يوم القيامة، فهم يحتاجون إلى شربة ماء؛ حتى يروي كل واحد منهم هذا الظمأ الذي فيه، وهذه الشدة وهذا الكرب في عرصات يوم القيامة، فحاجة الناس إلى الماء تشتد جداً في عرصات يوم القيامة، خاصة عندما يتلألئ بريق هذا الحوض، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الشمس تدنو من الرءوس قدر ميل، فيعرق كل امرئ على حسب طاعته، فمنهم من يعرق فيصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ساقيه، ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل العرق إلى صدره، كل بحسب معصيته وطاعته، ومنهم من يصل العرق إلى أذنيه، ومنهم من يغطيه ويلجمه العرق إلجاماً، نعوذ بالله أن نكون كذلك.
فهؤلاء من شدة ما يعانون، ومن قرب الشمس منهم، يحتاجون أشد ما يحتاجون إلى الشرب من هذا الماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأمته: هلموا هلموا، حتى يسقيهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحوض الشريف.(50/5)
لكل نبي حوض
ليست ميزة الحوض خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل يشترك في هذا الخاصية جميع الأنبياء والمرسلين، فلكل نبي حوض، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لكل نبي حوضاً)، وهو حديث يتسامح في إسناده؛ لأنه بمجموع طرقه حسن، قال: (إن لكل نبي حوضاً، وإنهم ليتباهون بأكثرهم وارداً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم وارداً) ويرد على بعضهم الفئة من الناس، ويرد على بعض الأنبياء العصبة من الناس، ويرد على بعضهم الرجلان والرجل، وبعض الأنبياء لا يرد أحد على حوضه، فيقال له: قد بلغت قد بلغت، يعني: ما عليك إلا البلاغ، كما قال الله تعالى: {فاعلموا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92] أي: ما عليك إلا البلاغ، حتى وإن لم يستمع أحد، فقد بلغت وتشكر على هذا، والله سيشكر لك صنيعك، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني أكثر الناس وارداً).(50/6)
مزية هذه الأمة على غيرها من الأمم عند ورودها الحوض
خير الأمم وأكثرها هي هذه الأمة التي ترد على هذا الحوض، ومن الممكن أن تتداخل الأمم بعضها مع بعض، فيذهبون إلى حوض النبي؛ لأنه أشد حلاوة، وأشد بريقاً، وأكثر وارداً، فيتهافتون فيتداخلون مع هذه الأمة، فهل النبي صلى الله عليه وسلم يميز هذه الأمة وهو لم يرها؟ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأذود عن حوضي لأمتي، كما يذود أحدكم البعير الغريبة) يعني: كل إبل غريبة ليست من إبله يذودها عن حوضه، حتى تأتي إبله وتشرب من هذا الحوض، (فقالوا: يارسول الله! أوتعرف أمتك) أي: أمتك التي جاءت بعدك أوتعرفها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ترد أمتي على الحوض غراً محجلين)، وهذه ميزة خاصة لهذه الأمة الخيرية، ولا أمة تشترك معها في هذه الخاصية، قال: (ترد هذه الأمة على الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء)، ولذلك كان أبو هريرة عندما يتوضأ يقول: أيها الناس: أطيلوا غرتكم، والغرة هي: البياض في الوجه، ولا تطال على الراجح، فالصحيح أن التحجيل هو: البياض الذي في الرجل، أرأيت الخيل السود البهم، خيول فيها بياض في الرأس وبياض في الرجل، تعرف من بين الخيول السود البهم، كذلك هذه الأمة يردون على الحوض غراً محجلين.(50/7)
المحرومون من ورود الحوض والشرب منه
فإذا كانت هذه الأمة ترد والنبي صلى الله عليه وسلم يميز هذه الأمة عن الأمم السابقة، وهو الذي يسقيهم بيده، فهل من محروم في هذا اليوم العصيب؟ عندما يشتد الكرب، عندما يريد كل واحد من الناس أن يروي ظمأه، هل من مصدود محروم لا يشرب من يد النبي صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً؟ نقول: نعم والله، فإن الجزاء من جنس العمل، فإن الذين أنكروا هذا الحوض، وأنكروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكروا ما هو ثابت بالتواتر، جزاؤهم من جنس عملهم، فإن الله جل وعلا يصدهم عن الحوض ويحرمون منه، فلا يشربون من هذا الحوض، وهم أشد الناس حاجة إلى شربة ماء واحدة، يروون بها هذا الظمأ، كما ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليختلجن رجال من دوني، فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، لا تدري ماذا أحدثوا بعدك).
وفي رواية أخرى: عندما يقال له: (لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي).
إذاً: أهل البدع وأهل الأهواء محرومون من الشرب من يد النبي صلى الله عليه وسلم، محرومون من أن يشربوا شربة هنيئة لا يظمئون بعدها أبداً من يد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه إشارة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم تبين عظم وخطر البدعة وأنها أشد من الكبائر، فأعظم الكبائر هي البدعة؛ لأن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، أرأيتم! كل الناس سيشربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم إلا المبتدع، حتى العاصي وفاعل الكبيرة سيشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، إلا المبتدع لعظم جرمه؛ لأن البدعة بريد للكفر، والبدعة هي أحب إلى الشيطان من المعصية، فالمعصية وإن كانت كبيرة يتوب منها الإنسان، أما البدعة لا توبة له، لا أقول: لا توبة له شرعاً، أقول: لا توبة له كوناً، فهو أصلاً في الشرع فتح الله له باب التوبة، وأمره بالتوبة، فقد قسم الله الناس إلى ظالم وتائب، فهو مأمور بالتوبة محثوث عليها، فلا بد من أن يتوب إلى الله، لكن كوناً يمنع منها، وقد ورد في ذلك كثير من الآثار أنه لا توبة لصاحب بدعة؛ لأنها تترسخ في قلبه ويدافع عنها وينافح عنها، ويأتي بالأكاذيب والأباطيل والموضوعات حتى ينافح ويدافع عن هذه البدعة، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونعوذ بالله من البدعة ومن أهل البدع.(50/8)
وقت الحوض ومكانه
الصحيح الراجح: أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يكون في عرصات يوم القيامة قبل المرور على الصراط، فالذي يشرب شربة لا يظمأ بعدها أبداً، نقول: بإذن الله أنه يمر كالريح أو يمر كأجاويد الخيل على الصراط حتى ينجو ويدخل الجنة بسلام.(50/9)
البدعة لغة وشرعاً
البدعة لغة: مشتقة من الابتداع، والابتداع معناه: الاختراع، فالبدعة هي: الطريقة المخترعة على غير مثال سابق، وأما شرعاً فأجمل ما يقال في البدعة ما قاله الشاطبي: هي: طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشريعة، يعني: توازيها وتشاكلها وتشابهها، أو يقصد السلوك عليها: التقرب إلى الله جل وعلا، ويقصد بالعمل بها: التقرب إلى الله جل وعلا، كما قال الله تعال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، ومعنى طريقة في الدين مخترعة: لم يأت دليل من الكتاب ولا من السنة أن هذه عبادة، وهم يتعبدون بها لله جل وعلا، فهي مخترعة؛ لأنها لم ترد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن، أو على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث النبوية.
فهي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية وتشاكلها، كصلاة الألفية مثلاً، أو صلاة الرغائب، أو صوم يوم في زمان لم يشرعه الله جل وعلا ولم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يضاهي الشرعية، يعني: يشاكل ويشابه ما أصل شرعاً، وورد به الكتاب ووردت به السنة.
والمقصود بها: أن يتقرب إلى الله جل وعلا، كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، فيقصدون بذلك التقرب إلى الله جل وعلا.(50/10)
الدلائل من الكتاب والسنة والعقل على ذم البدعة وأهلها
والبدعة مذمومة شرعاً وعقلاً، أما شرعاً فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى} [القصص:50]، وقال جل وعلا: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، وقال جل وعلا في سياق ذم النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27]، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ماليس منه فهو رد) من أحدث أي: ابتدع واخترع فهو باطل مردود على وجهه، وفي رواية أخرى قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وأيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رغب عن سنتي -يعني: ابتدع غير سننتي - فليس مني)، فقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي السنن أيضاً عن علي قال: (لعن الله من غير منار الأرض، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً)، فإن كان الذي يؤوي المحدث المبتدع ملعوناً، فما بالكم بالذي يبتدع في دين الله جل وعلا؟ والآثار في ذلك كثيرة، وأيضاً عن العرباض بن سارية كما في مسند أحمد وفي السنن أنه قال: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)، وأيضاً في خطبة الحاجة ما كان يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه شيئاً إلا ويقول: (إن الحمد لله -إلى آخر ما يقول- وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة -وفي رواية عند النسائي قال:- وكل ضلالة في النار) يعني: البدعة ليس منها حسنة ومنها سيئة، بل كل البدع ضلالة، كما ورد بسند صحيح رواه الدارمي وغيره عن ابن عمر أنه قال: كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وقد دخل على أناس يسبحون بالحصى يقول الرجل: كبروا مائة سبحوا مائة هللوا مائة فدخل ابن مسعود وهم يذكرون الله جل وعلا على هيئة حلق، ولا يقولون شيئاً فيه تخاريف، ولا فيه شرك، بل أقوال فيها تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، فقال ابن مسعود مندهشاً مما يفعلون: أما أنكم على ملة أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة.
لأنكم أتيتم بعبادة لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأتيتم بعبادة لم يأت بها الصحابة الكرام، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فقال: أوصني.
قال: أوصيك بتقوى الله، والسمع والطاعة، واتبع ولا تبتدع.
ولذلك قال ابن المسيب: من أحيا بدعة فقد أمات سنة، فالذي يحيي البدع، هو الذي يميت السنن، فالدين كله يهدم بالبدع.
وقال بعضهم: إني أرجو أن أدخل المسجد فأجده يشتعل ناراً خير لي من أن أجد فيه بدعة، فانظروا إلى حرص السلف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الثوري: البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، فإن المعصية يتوب المرء منها، وإن البدعة لا يتوب المرء منها، والآثار في ذلك كثيرة.(50/11)
أقسام البدعة
البدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة مكفرة، وبدعة مفسقة، البدعة المكفرة: هي البدعة في أصول الاعتقاد، فالبدعة المكفرة هي البدعة في الأصول، يعني: البدعة في العقيدة، وأمثالها كثيرة جداً، كبدعة الجهمية المعطلة الذين ينفون أسماء الله وصفاته، والذين يقولون: لا سميع ولا سمع، ولا بصير ولا بصر، فهذه بدعة كفرية، يكفر بها صاحبها، لكن يكفر نوعاً لا عيناً، فالقول قول كفر، والفعل فعل كفر، والقائل والفاعل ليس بكافر حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة كما قعدنا في مسائل الإيمان.
ومن البدع الكفرية بدعة غلاة الرافضة من العلويين والنصيريين الذين يعتقدون في علي أنه إله، أو الذين يعتقدون أن الرسالة كانت ستنزل على علي فأخطأ جبريل، فأنزلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بدعة الدروز الذين يعتقدون أنهم لا يكلفون إلا بعد الأربعين، وهم يبيحون مع ذلك الزنا واللواط، بل يستبيحون وطء المحارم، فهذه من البدع المكفرة، ومن البدع الكفرية ما ورد عن غلاة الصوفية الذين يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يعتقد إلا في الله جل وعلا، فقائلهم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وعقب ابن رجب في هذا البيت قال: ما ترك هذا الرجل لله شيئاً، كل شيء أصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: الدنيا وضرتها، أي الدنيا والآخرة.
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم، اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله جل وعلا.
وكذلك اعتقادهم في مسألة الأقطاب والأبدال، هذه أيضاً بدع مكفرة يخرج صاحبها من الملة.
أما القسم الثاني من البدعة: فهي البدع المفسقة، وهذه البدعة تكون في الفروع وليس في الأصول، يعني: تكون في العبادات، وإذا قلت: في العبادات تخرج العادات.
والبدعة في العبادات هي البدعة المفسقة، وقد قسمها العلماء إلى بدعة أصلية، وهي: تأصيل عبادة ليس لها موضوع في الشرع، وبدعة زمانية، وبدعة مكانية، وبدعة في الهيئة وفي الصورة، وليس هذا مجال التفصيل فيها.(50/12)
البدعة في شهر رجب
من البدعة في شهر رجب أن يخصه المرء بصيام، كثير من الناس لا يصومون، حتى إذا أتى رجب يكثر من الصيام فيه وهذه بدعة مميتة مردودة على صاحبها، وكان أهل الجاهلية يعظمون شهر رجب ويصومون فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل نهى أصحابه عن ذلك، ولم يرد حديث يخص رجب بالصيام إلا حديثاً واحداً قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (صم من الحرم واترك) وهذ الحديث ضعيف يستأنس به فقط، وما ورد في الأشهر الحرم من حديث صحيح إلا في الشهر الحرام، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصيام بعد رمضان هو الشهر المحرم، فهذا الشهر هو الذي حث فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الصوم، أما رجب فلا.
أيضاًَ من البدع التي كان أبو بكر وعمر ينهيان عنها أن عمر كان يسير بالدرة، فإذا وجد أحدهم صائماً في رجب يضربه ويقول: تفعل ما يفعل أهل الجاهلية؟ وقال ابن عمر: هذا شهر عظمه أهل الجاهلية فهو كغيره من الشهور، صم فيه ولا تصم فيه، زد عليه من الخير ولا تزد، يعني: لا تفعل الخير خاصة لهذا الشهر.
أيضاً من البدع في هذا الشهر ما يعرفه كثير من المصريين وهو عمرة رجب، وخميس رجب، ولكن خميس رجب أشهر، وهو أن الإنسان يذهب إلى المقابر في خميس رجب، يجمعون النساء ويأتون بالحلوى وبالطعام ويذهبون إلى المقابر، زيارة في خميس رجب، وهذه من البدع المميتة أيضاً، وكأن المقابر لا تزار إلا في رجب فقط، وكأن الموتى لا يدعى لهم إلا في رجب! أيضاً من البدعة تخصيص رجب بعمرة؛ لأنهم يعتقدون أن هذه العمرة عمرة ميمونة مباركة في شهر رجب، هذه أيضاً من البدع.(50/13)
اختلاف العلماء في حكم العتيرة والفرع
هناك مسألة اختلف فيها العلماء، وهل هي من البدع أم من السنة؟ ألا وهي مسألة العتيرة، جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العتيرة حق)، والعتيرة: هي الذبيحة، فقدكان أهل الجاهلية يذبحون في رجب، وأيضاً الفرع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا فرع ولا عتيرة)، وقد اختلف العلماء في العتيرة، وهي ذبيحة في رجب؛ ولذلك تكثر الأسئلة فيها هل يسن أن يذبح المرء في رجب، كما هو مشهور في الولائم وفي العقيقة وفي الأضحية؟ وهل من ضمن إراقة الدماء المشروعة العتيرة أم لا؟ اختلف العلماء لاختلاف الأحاديث، وورد حديث في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العتيرة حق)، وورد في البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة)، والفرع: هو أول مولود للناقة، كان أهل الجاهلية أيضاً يعظمونه، فيذبحون الفرع قربة لآلهتهم الباطلة، ولا يأخذون منه شيئاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وبين أن هذه من أفعال الجاهلية، فلا تشاكلوا ولا تشابهوا أهل الجاهلية.
وأما العتيرة، فقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (العتيرة حق)، فلذلك قال النووي: يستحب للمرء أن يذبح في رجب، أي: يذبح ذبيحة، فيفرق لحم هذه الذبيحة على الفقراء والمساكين، وهذه قربة لله جل وعلا بإراقة الدماء في رجب، والمعتمد في المذهب أنها ليست مستحبة، ولكنها مكروهة جمعاً بين الحديثين، الحديث الأول الذي رواه البخاري: (لا فرع ولا عتيرة)، والحديث الثاني حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العتيرة حق).
ونقول: الجمع هذا جمع حسن، وجمع النووي أيضاً جمع حسن على أساس أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة) أي: في أيام الجاهلية، كما كانوا يتقربون بها إلى الآلهة الباطلة، أما إذا تقربوا بها لله جل وعلا فذبحوا في رجب وأراقوا الدماء ووزعوها من أجل الفقراء والمساكين، فهذا لله جل وعلا، ويستحب ويستحسن له أن يذبح في رجب، فالراجح فيها: أنها لا تنزل عن درجة الإباحة.(50/14)
حكم صوم شعبان
قال العلماء: يستحب صوم الكثير من هذا الشهر، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، أما البدعة فهي التي أصَّلها المبتدعة الذين يتبعون أهواءهم في ليلة النصف من شعبان، ففي ليلة النصف من شعبان ترى كثيراً من الناس يقيمون الليل، أو يصلون صلاة يسمونها صلاة الألفية، فيها أذكار مخصوصة وركوع وسجود وإطالة، يعني: كلام كثيرٌ جداً، وصلاة مبتدعة مخترعة يصلونها في هذه الليلة.
قال زياد القاضي عند ابن أبي مليكة: إن أجر ليلة النصف من شعبان -يعني: قيام ليلة النصف من شعبان- كأجر قيام ليلة القدر أنها خير من ألف شهر، فقال ابن أبي مليكة: لو معي عصا أو درة عمر لأوجعته ضرباً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤكد ذلك والصحابة لم يفعلوا ذلك، فهذه بدعة مميتة؛ لأن ليلة النصف من شعبان لا تقام بصلاة ولا بعبادة ولا باستغفار من أول الليل إلى آخر الليل، ولا يصام نهار النصف من شعبان، وهذه البدع كثير من الناس يعملها، وكثير من الناس ممن نعرفهم يصوم يوم النصف من شعبان، ويقيم هذه الليلة، وله بذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لكل أحد إلا المشرك أو المشاحن)، فهذا فيه إشكال أنه قد ورد بالأسانيد وإن كان فيها ضعف، لكن يعضد بعضها بعضاً في فضل هذه الليلة، فلها فضل، فإن كان لها فضل فلا بد علينا أن نجتهد في هذه الليلة التي لها الفضل، وكفى بفضلها أن الله جل وعلا ينزل نزولاً خاصاً، غير نزول كل ليلة في ثلث الليل الآخر، ينزل نزولاً خاصاً فيغفر لكل الناس الذين هم على الإيمان والإسلام، يغفر للمؤمنين والمسلمين، جميعاً إلا الكافر أو المشاحن الذي في صدره شيء من أخيه، أي: الذي هجر أخاه فوق ثلاث، وهذه الفضيلة تستلزم الاجتهاد في العبادة حتى يشملنا الله بعفوه وبمغفرته.
وهذا الإشكال ضعيف، لكن هذا الإشكال لا بد أن نرده بعلم؛ لأنهم أتوا بدليل يدل على فضل هذه الليلة، وهذا اليوم، فكيف نمنعهم من عبادة في يوم فيه فضل وليلة فيها فضل؟ هذا الحديث أسانيده ضعيفة، لكن يعضد بشواهده، وهو حسن لغيره، ويحتج به شيخ الإسلام ابن تيمية، وفيه: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان يغفر لكل واحد، إلا المشاحن والكافر، لكن هذا حديث يشكل علينا نحن؛ لأنه قد ثبت فضل اليوم وثبتت فضل الليلة، فلا بد أن نجتهد حتى يشملنا الله جل وعلا بكرمه وعفوه وعطائه في هذا اليوم الذي فيه الفضل العميم.
أما رأيتم فضل السحر، وأن الله ينزل في السحر، فينبغي لك أن تقوم وتستغفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟)، وفي رواية وفي رواية عند الطبراني قال: (هل من مستشف فأشفيه؟).
والرد على ذلك: أن فضل الليلة أو فضل اليوم لا يستلزم إنشاء عبادة، وهناك نظائر من الشرع في ذلك؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد ثبت فضل ليلة الجمعة، وثبت فضل يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه مات وفيه تقوم الساعة)، وخير الأيام: هو يوم عيد المسلمين، وخير أيام السنة على مدار الأسبوع كله هو يوم الجمعة، بل ليلة الجمعة هي من أفضل الليالي، ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إفراد يوم الجمعة بصيام، بل ونهى عن إفراد ليلة الجمعة بقيام، فهذا ثبت فضله وثبت النهي عن الاجتهاد في العبادة فيه، فلا يستلزم أصولياً لثبوت الفضل ثبوت العبادة، إذ إن الأصل في العبادات التوقيف، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فهذه الشبهة ترد على أصحابها فنقول: ثبت الفضل ونحن مع الفضل ندور، لكن لا ننشئ عبادة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان خيراً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيراً لفعله أبو بكر، ولفعله عمر.
فهذه بدعة مميتة أيضاً من بدع شعبان، نربأ بأنفسنا أن نفعلها حتى لا نذادَ عن الحوض، وأي امرئ قد وقع في بدعة ضلالة، وقد بين له أهل السنة وأقام الحجة عليه من يعلم بهذه السنة ولم يتبع، فهذا مصدود مردود عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
وصلِّ اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/15)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - عذاب القبر ونعيمه
القبر هو أول منازل الآخرة، وهو البداية الحقيقية لرحلة الدار الآخرة، فإن كانت سهلة وهيّنة هان وسهل ما بعدها، وفيه يسأل العبد عن ربه ودينه ونبيه، فإن أحسن الإجابة أنعم الله عليه في قبره، وإن أخفق أتاه العذاب الشديد والعياذ بالله.
والنعيم والعذاب في القبر يكون على الروح وأيضاً على البدن أحياناً، والله على كل شيء قادر.(51/1)
الموت أول منازل الآخرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الحمد لله الذي هز بالموت عروش القياصرة، وقصم ظهور الجبابرة، وأرغم أنوف المتجبرة، فالموت أول منازل الآخرة.
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن المسلمين إذا نزلوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير، وأن عذاب القبر حق، والإيمان به واجب.
روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]).
وروى أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من دفن الرجل وقف على قبره وقال: (استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل).
وروى بسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحدكم يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار، يقال له: هذا مكانك إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (ما من عبد يموت إلا وعرضت روحه إن كان من أهل الجنة على الجنة، وإن كان من أهل النار على النار) إلى آخر الروايات التي ساقها في مساق الكلام على الإيمان بالغيب.
الموت هو أول منازل الآخرة، فالذي يطلب الرضا من ربه جل وعلا والتقرب إليه فلا بد أن يستعد للرحيل.(51/2)
مباحث الكلام عن الموت
الكلام على الموت سيكون في أكثر من مبحث.
أولها: الكلام على الموت والاستعداد للرحيل.
المبحث الثاني: نزول القبر، وما يتعلق به من ضمة القبر، وهل هي عامة أم خاصة؟ وسؤال القبر، وهل سؤال القبر خاص بهذه الأمة أم لغيرها من الأمم؟ وهل يختص أحد بعدم سؤاله في قبره؟ المبحث الثالث: عذاب القبر ونعيمه وإثبات ذلك بالدليل، والرد على المخالفين الذين قالوا: لا عذاب ولا نعيم في القبر، ثم الحديث عن أنواع عذاب القبر.
ثم نتكلم: هل العذاب على الروح فقط أم على الاثنين معاً؟ والخلاف في ذلك.
ثم نبحث عن مسألة تزاور الأموات بعد الموت.
ثم بعد ذلك نختم بأمرين: الأمر الأول: سماع الموتى: فهل يسمعون كل أحد أم سماعهم خاص أم أنهم لا يسمعون أبداً؟ الأمر الثاني: ما الذي يبلى في القبر؟ هل كل إنسان يبلى في القبر؟ فهل يبقى منه شيء؟ وهل بعض الناس لا تبلى أجسادهم في القبر؟(51/3)
لكل إنسان أجل محدد معلوم عند الله
الموت هو أول منازل الآخرة: فما من أحد إلا وسيموت وسيقبض وسيأتيه أجله، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، وقال جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] فهذا تنصيص على أن الموت لا يفوت أحداً، وأن هذا الكأس كل منا سيشربه، وإذا كان كل واحد منا سيموت وسيقبض فله أجل مضروب ومعلوم، ومقدر ومكتوب في اللوح المحفوظ.
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سمع أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها تقول: اللهم! متعني بزوجي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتعني بأبي: أبي سفيان، ومتعني بأخي: معاوية بن أبي سفيان، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: قد سألت الله جل وعلا آجالاً مضروبة وأرزاقاً مقسومة، وآثاراً موطوءة لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر، ولو أنك سألت الله جل وعلا أن يعافيك من عذاب الآخرة وعذاب القبر لكان خيراً لك).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليبين أن لكل أجل كتاب، وأن كل إنسان لا بد أن يموت في وقته، قال الله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38]، وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]، فالأجل مضروب ومكتوب ومعلوم، والمرء لا يتقدم ولا يتأخر عما كتب من أجله كما في الحديث أن الملك يقول: (أي رب! ذكر أم أنثى؟ أي رب! كم عمره؟) فيكتب العمر، وصحائف الملائكة يمكن أن تتغير فيها هذه الثوابت، لكنها في اللوح المحفوظ قد كتبت، وعلم عمر المرء ومدة حياته، لكن الله جل وعلا بحكمته لم يبين للناس متى سيموتون، فما اطلع أحدنا على الغيب، ولا علم متى سيموت، والحكمة في ذلك: أن يجتهد المرء؛ ليصل إلى ربه وإلى طاعة ربه وإلى رضا ربه باجتهاد عالٍ، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]؛ لأنه إذا جهل أجله فإن الله جل وعلا مد له حتى يجتهد في عبادته.
قال ابن عيينة مترجماً لبعض رواة الحديث: هذا الراوي لو قيل له: ستموت غداً ما زاد في عبادته شيئاً؛ لأنه كان يجتهد اجتهاداً عالياً، حتى يصل إلى ربه جل وعلا وهو مجتهد في عبادته، طائع لربه متذلل متمسكن لله جل وعلا.
وكان عمر بن الخطاب ينصح الأمة، ينصح الصحابة الكرام، وينصح التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين بأن يجتهدوا في العبادة، فإنهم حتماً راجعون إلى الله جل وعلا، فقال: قد ارتحلت الدنيا مدبرة، وقد ارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
وكان يقول رضي الله عنه وأرضاه: إن الدنيا تطلعت مدبرة، وتطلعت الآخرة مقبلة، فعليكم بالجد والسعي.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقبض على لحيته ويقول: يا دنيا! غري غيري طلقتك ثلاثاً.
وكان بعضهم ينشد ويقول: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا والموت هو من أقوى دواعي استكمال إيمان العبد، إذ إن الله جل وعلا قد علق الفلاح والهدى بالإيمان بالغيب، فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4 - 5]، فربط الفلاح والهدى بالإيمان بالغيب.
أول المباحث: بعدما يموت المرء، ويأتي الملكان فيسحبان روحه، فإن كان من المؤمنين جاء الملك بكفن وحنوط من الجنة، وطيب من الجنة، فأخرج روحه بسهولة، فتخرج فيرتقي بها الملك إلى السماء فتقول الملائكة: روح من هذه الطيبة؟ أو يمدحون هذه الروح ويسألون عنها، فيقال: فلان بن فلان بأحلى وأجمل أسمائه التي كان يحبها في الدنيا، ثم يصعد إلى السماء السابعة فيقال: (صدق عبدي فاكتبوا كتاب عبدي في عليين).
أما إن كانت الأخرى والعياذ بالله فيكون حنوط من النار وكفن من النار، فيأخذها الملك ويصعد بها إلى السماء بأنتن ريح فتقول الملائكة: ما هذه الريح النتنة؟ فيقال: فلان بن فلان بأبغض أسمائه، ثم يصعد إلى السماء السابعة فيقال: (قد كذب عبدي فاكتبوا كتاب عبدي في سجين) فبعد أن يموت المرء ويكفن ثم ينقل إلى القبر، وتبقى روحه فيبشر فإن كان من أهل الإيمان كأنه ينادي ويقول: قدموني قدموني، وإن كان من أهل الكفر والعصيان والعياذ بالله فيقال: (يا ويليها إلى أين تذهبون بها؟) فالأحاديث أثبتت أن كل الخلائق تسمع هذا، كل الخلائق من شجر وحجر وثمر وطير إلا الثقلين: الجن والإنس، وإلا لما كان للغيب فائدة، ولذلك نصح النبي صلى الله عليه وسلم أمته فقال: (أسرعوا بالجنازة) وبين العلة في ذلك: (إن كان خيراً قدمتموها إليه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن أكتافكم).(51/4)
ضمة القبر
نأتي إلى المبحث المهم وهو: أول شيء القبر الميت هو القبضة التي تختلف منها الأضلاع ولا يستثنى من ذلك أحد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم بين وأشفق على عبد صالح اهتز عرش الرحمن لموته وهو سعد بن معاذ كما ورد في بعض الأحاديث وصححه بعض العلماء: (إن العرش اهتز فرحاً بقدوم سعد بن معاذ) فعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للقبر ضمة إذا نجا منها أحد نجا سعد بن معاذ) رواه أحمد في مسنده، وصححه بعض العلماء، يعني: هذه الضمة لا ينجو منها أحد، ولو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ، وفي حديث آخر فيه ضعف (أن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد طفلاً يقبر فأشفق عليه من ضمة القبر).
قال بعض العلماء الأفاضل: إن هذه الضمة بالنسبة للمؤمن كضمة الأم الحنون لابنها عطفاً عليه، وهذا بعيد، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم أشفق على سعد وقال: (لو نجا منها أحد -أي الضمة التي تختلف منها الأضلاع- لنجا سعد بن معاذ) رضي الله عنه وأرضاه، وما الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشفق على طفل كما روي ما دامت ضمة الأرض له كضمة الأم الحنون؟! بل هي ضمة فيها آلام لكنها تتفاوت في القوة بين المؤمن الخالص وبين الفاسق وبين المسلم وبين الكافر، فالكافر تتمزق وتختلف أضلاعه، فأول ما يحدث له عند نزول القبر هو هذه الضمة.(51/5)
أحاديث في ذكر فتنة القبر
بعد الضمة يأتي إليه ملكان يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ وورد في ذكر فتنة القبر أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر، وأنكرها كثير من المعتزلة وأهل الكلام كما سنبين.
من هذه الأحاديث: حديث البراء الطويل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل المرء إلى قبره جاءه ملكان فيقعدانه فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيك؟ فإن كان من المؤمنين قال: ربي الله، وديني الإسلام، وعن الرجل يقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: صدقت، أما إن كان من الآخرين فيقول: ها، ها، لا أدري، فيضرب ضربة يصعق منها كل الخلائق إلا الثقلين، فيقال له: لا دريت ولا تليت) وهذا الحديث يثبت سؤال الملكين.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الملكين بأنهما أسودان أزرقان، تتصدع القلوب وترتجف من هول الموقف، لا يستطيع أن يثبت في هذه الفتنة إلا من ثبته الله؛ ولذلك ارتجفت قلوب الصحابة لما علمت بمنكر ونكير وعندما علمت بسؤال الملكين، فالله جل وعلا طمأن قلوبهم بهذه الآية العظيمة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] فأول منازل الآخرة القبر، فإن الله يثبت ويلهم الحجة المؤمن الخالص الذي تعبد لله في الدنيا، وتعرف إلى الله في الرخاء فعرفه الله في الشدة.
ومن الأحاديث التي تثبت سؤال الملكين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ما أُدخل أحد القبر إلا وقال: (سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) فهذا نص يبين سؤال الميت في قبره.
وورد حديث عام في الصحيحن عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها لما دخلت عليها اليهودية تبين لها فتنة القبر فاستنكرت ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما دخل عليها وعرضت عليه كلام اليهودية (إنكم تفتنون في قبوركم) والفتنة عامة من سؤال ومن عذاب، وهذا يدل على أن الملائكة تسأل العبد في قبره.
وقد أنكر بعض المبتدعة سؤال الملكين في القبر، وأنكروا عذاب القبر، وسنبين الشبه التي احتجوا بها، لكن الخلاف بين أهل السنة والجماعة: هل سؤال الملكين على الروح أم على البدن أم على الروح والبدن؟ القول الأول لجمهور أهل السنة والجماعة: أن سؤال الملكين للميت يكون على الروح وعلى البدن؛ لأن الأحاديث صرحت أن روح المرء ترجع إلى جسده عندما يقبض، فيأتي الملك فيجلسه بروحه وجسده ويسأله فيجيب بروحه وجسده، والأحاديث في ذلك كثيرة.
أما ابن حزم فقال: السؤال لا يكون إلا على الروح، وفي قول للإمام أحمد بن حنبل، أن السؤال لا يكون على الروح بل يكون على البدن.
قال ابن حزم: الأحاديث التي أثبتت نعيم أو عذاب تثبت أن ذلك على الروح، وأن أرواح الشهداء كحواصل طير خضر تعلق من أشجار الجنة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في روح المؤمن: (نسمة كطائر تسرح في رياض الجنة)، فكل الأحاديث جاءت على الروح ولم تأت على البدن، وخالف ذلك أحمد بن حنبل وقال: السؤال لا يكون إلا على الجسد، واستدل على ذلك أن الضرب والعذاب يكون على الجسد، والله قادر أن يجعل الجسد ينطق كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65] وبين الله جل وعلا في أكثر من آية أن الأيدي تتكلم وأن الأرجل تتكلم وأن الله يختم على الأفواه، فالله قادر على أن يجعل السؤال للجسد والجسد هو الذي يجيب.
والصحيح الراجح في ذلك: أن السؤال على البدن وعلى الروح، وأن الروح ترجع إلى الجسد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الروح ترجع إلى الجسد، ثم يجلس فيسأله الملك فيجيب.(51/6)
الأصناف المستثنون من فتنة القبر
هل سؤال الملكين عام أم خاص؟ يعني هل يشمل كل الناس أم يستثنى منه أناس؟ نقول: هذا السؤال عام في كل الأمم، في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي اليهود من باب أولى أما في اليهود فبالنص؛ لأن يهودية قالت لـ عائشة: ((تفتنون في قبوركم)) فهذه اعتقدت أنهم سيفتنون في القبور، والأمم السابقة أيضاً تفتن بقياس الأولى، إذ إن الله جل وعلا رفع الأغلال ورفع الآصار عن هذه الأمة، وهذه الأمة مرحومة تعمل عملاً قليلاً وتأخذ أجراً كبيراً، فإن كانت ستفتن في قبرها فمن باب أولى الأمم الأخرى.
والمستثنى من السؤال أو من فتنة القبر أصناف من الناس: الصنف الأول: الشهداء -جعلنا الله وإياكم منهم- فالشهداء يقيهم الله جل وعلا فتنة القبر العظيمة الشديدة، فالملكان الأسودان الأزرقان، اللذان ترتجف وتتصدع القلوب والأفئدة من هول ذلك الموقف، ينجي الله جل وعلا الشهيد من هذه الفتنة ولا يسأل في القبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألوه: (يا رسول الله! ما بال الناس يفتنون في قبورهم ما عدا الشهداء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كفى ببوارق السيوف فتنة) والعلة في ذلك: أن سؤال الملكين في القبر هو اختبار لصدق المرء، هل آمن بصدق أم كان من المرتابين أم كان من المنافقين؟ والشهيد قد بين وأظهر صدقه بأنه بذل روحه فداء لهذا الدين، وإرضاءً لله جل وعلا، ولذلك ألحق بعض العلماء الصديقين مع الشهداء، وقالوا: إن هذا من باب أولى، وفيه نظر؛ لأن القياس في الغيبيات لا يصح، فالغيبيات لا يصح فيها إلا النقل لا العقل، لكن بدقة النظر للعلة نجد أن السؤال هو اختبار للصدق، والصديق قد ظهر صدقه من أول إيمانه فهذا لا يسأل في القبر وإن كان في الأمر نظر.
الصنف الثاني: المرابطون على ثغور الإسلام.
فهؤلاء نجاهم الله من فتنة القبر كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر ومن قيامه، فإن مات أجري عليه عمله ورزقه وأمن الفتان) أي: أمن فتنة سؤال القبر، فهنيئاً لمن يرابط على ثغور المسلمين فهو يؤمَّن من فتنة القبر أيضاً.
الصنف الثالث: الأطفال؛ لأن السؤال في القبر من أجل التكليف والاختبار والصبي ليس بمكلف فلا سؤال للصبي.
الصنف الرابع: المبطون، فإن المبطون شهيد، وهو يلحق بالشهيد، وقد وردت الآثار بأن الذي مات بداء البطن يؤمَّن من فتنة القبر.
الصنف الخامس: الذين يقرءون سورة تبارك كل ليلة، وهذا يكون على حسب الديمومة.
وكذلك الذي يستديم قراءة سورة البقرة كل يوم وليلة يؤمَّن من فتنة القبر أيضاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن سورة الملك: (هي المنجية هي المانعة) أو قال: (سورة ثلاثون آية شفعت لصاحبها من عذاب القبر) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الصنف السادس: من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، فهذا من الذين يؤمنهم الله جل وعلا من فتنة القبر.(51/7)
عذاب القبر ونعيمه
ثبت عذاب القبر بالكتاب والسنة، ويصح أن نقول: وبالنظر أيضاً.
أما الكتاب فقد الله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، والشاهد هو ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) إذاً النار التي يعرضون عليها غدواً وعشياً هي قبل يوم القيامة.
الدليل الثاني: قول الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]، فسر ابن مسعود وغيره من الصحابة العذاب الأدنى: أنه عذاب القبر.
وقول الله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] الفاء هنا للتعقيب والسرعة، والتعقيب والسرعة لا يناسبها يوم القيامة بل يناسبها بعد الموت، فقد أغرقوا فماتوا فأدخلوا النار، وهذا يدل على أنه في البرزخ.
ومن الأدلة على عذاب القبر ونعيمه من السنة عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تفتنون في قبوركم) كما في الصحيحين.
والحديث الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل منكم إلا ويعرض له مقعده: إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، يعرض له مقعد من أهل الجنة يأتيه من طيبها وريحها وإن كان من أهل النار يأتيه من أهل النار حتى يبعث يوم القيامة).
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن ابن عباس: (أنه مر بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان بكبير، بل هو كبير، أما الأول: فكان لا يستتر -أو لا يستنزه- من بوله، وأما الثاني: فكان يمشي بين الناس بالنميمة) فسمع النبي صلى الله عليه وسلم عذابهما في القبر.
وفي الحديث أن الملك يأتي بمطرقة يضرب بها بين عيني المرء فيهوي به إلى سبع أرضين، فيه دلالة على عذاب القبر.
وأما نعيم القبر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان من أهل الجنة فيفتح له باب من الجنة) فيشم رائحة طيب أهل الجنة ويرى فيها نعيم أهل الجنة.
وبهذا يكون قد ثبت عذاب القبر ونعيمه من الكتاب ومن السنة.(51/8)
الرد على من ينكر نعيم القبر وعذابه
خالف في عذاب القبر ونعيمه المعتزلة وكثير من الناس في هذه العصور الذين يقولون: إنك ترى النبي صلى الله عليه وسلم في وقتك الحاضر يقظة، ومن أهل الاعتزال الذين يقدمون العقل على النقل الذين قالوا: لا عذاب في القبر ولا نعيم، وعندنا من الأدلة من الأثر ومن النظر.
أما من الأثر: فيستدلون بقول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] ويقولون: إن المقبور لا يعذب ولا ينعم؛ لأن الله جل وعلا قال: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56].
ووجه الدلالة: أنهم يقولون: إن الآية فيها نص صريح: أنه لا يموت إلا موتة واحدة فإذا نزل قبراً فعادت روحه إلى جسده فسئل فبعدما سئل عذب أو نعم ثم مات مرة ثانية، فهذه موتتان، وهذا يعارض هذه الآية.
الأثر الثاني الذي استدلوا به على أنه لا عذاب ولا نعيم في القبر قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وقال الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] فقد ثبت بالدليل الصحيح أن الميت لا يسمع، فكيف نقول: إنه لا يسمع، ثم يجيب، فهو لا يسمع السؤال أصالة فلا يصح أن يجيب الإجابة.
هذا ما استدلوا به من الأثر، أما من النظر فقالوا: نحن نرى المصلوب أمامنا شهوراً ولا نرى عذاباً ولا نرى نعيماً ولا نرى عليه أثر من سؤال الملكين، ولا شيء مما تقولون، فهذه أدلة من الأثر ومن النظر ترد على من قال بأن في القبر عذاباً وأن في القبر نعيماً.
وقد أثبتنا بأن في القبر عذاباً وفي القبر نعيم، وإذا وافقتم على هذا واعتقدتم هذا وجب عليكم الرد على المخالف، والمخالفون اليوم كثر، والمعتزلة صورها كثيرة في هذه العصور، ويظهرون على شاشات التلفاز، فكثير من الناس ينكرون عذاب القبر وسؤال الملكين علناً أمام الناس، فكيف يكون الرد على هذه البدعة المميتة؟ فهم ينكرون حتى الدجال لكن الكلام هنا على أمر ثابت وراسخ في العقيدة وهم ينكرونه، فما من صاحب بدعة إلا وله دليل من الكتاب أو من السنة كما بينا ذلك كيف نرد عليهم؟ نحن الآن أثبتنا أنه ثمة عذاب وثمة نعيم في القبر؛ لأنه أول منازل الآخرة، وهم ردوا علينا وقالوا: لا عذاب ولا نعيم، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] فإن قلتم بعذاب أو نعيم في القبر ففيها حياة ثم موت ثم بعد ذلك حياة ثم موت، وبذلك تكون موتتان والله نصَّ على موتة واحدة، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ} [الدخان:56].
والجواب على هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: نقول لهم: نحن نوافقكم على هذه الآية وأن ما يحدث في القبر ليس بموت، بل هو نوم، والنوم يسمى موتاً مجازاً كما قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] والحديث صريح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المستبشر بالخير: (فيقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة فيقال له: نم -لم يقل له مت- كنوم العروس) فهذه نومة وليست موتة وتسمى موتة مجازاً، فتبقى الآية على صريحها أنها ليست إلا موتة واحدة التي هي موتة الدنيا ونحن نوافق على ذلك.
ويبين لنا ذلك أيضاً حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندما يستقيظ من نومه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) فسماها موتة مع أنها نومة، فأصبح النوم هنا بمعنى الموت مجازاً، فالذي يحدث في القبر ليس بموت، ونحن نوافق على هذه الآية، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] التي هي موتة الدنيا، وهذه ليست بموتة ولكنها نوم.
الوجه الثاني: أن الاستثناء في هذه الآية استثناء منقطع {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] وهذا كلام عن أهل الجنة، فإذا دخلوا الجنة لا يموتون، ولا يكون لهم موت، وإلا فقد وردت الأدلة على أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار صاروا حمماً فماتوا، فتكون الآية خاصة بمن دخل الجنة وأنه يتنعم ويتلذذ فلا يموت بعد ذلك، فإذا دخل الجنة فلا موت له، بل يعيش في نعيم وخلود أبدي، فإنه يذبح الموت على عرصات يوم القيامة، ثم يقال: (يا أهل النار! خلود بلا موت، يا أهل الجنة! خلود بلا موت) هذا الوجه الثاني في الرد عليهم.
أما الدليل الثاني الذي استدلوا به علينا وقالوا لا عذاب ولا نعيم في القبر فهو قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وقول الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] فكيف يجيب وهو لا يسمع؟ وقالوا: أنتم زعمتم أنه يأتيه ملكان فيقعدانه ويسألانه وهو لا يسمع فكيف سيجيب؟ فنرد عليهم ونقول: قال الله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] فإذا كان الرسول لا يُسمِعُ الموتى، فإن المَلَك سيُسمعه، فنفي السماع عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] نفى الله جل وعلا قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على إسماع الميت، ولكن الله قادر على أن يجعل الملك يسمع هذا المقبور.
الأمر الثاني: السماع سماعان: سماع إجابة وسماع على الإطلاق بالآلة، فسماع الإجابة: أن يسمع فيجيب، وهذه منفية عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يسمعون ولا يجيبون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أهل قليب بدر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر: يا رسول الله! تكلم الأموات؟) يعني: كيف يسمعونك؟ فقال: (ما أنتم بأسمع منهم الآن) يعني: إنهم يسمعونني أشد مما تسمعون أنتم، لكنهم لا يجيبون وليس لهم القدرة على الإجابة، فإذاً: النفي هنا نفي سماع الإجابة ولا إشكال فيه.
السماع الثاني: إذا قلنا: نفي السماع الكلي المطلق فهو نفي عن قدرة النبي أن يسمعهم ولا تستلزم نفي أن الملائكة يعطيهم الله قدرة فيُسمعوا الميت المقبور فيسألانه حتى يجيب، وهذا الرد على الدليل الثاني من الأثر.
أما دليلهم الثالث والذي هو من النظر: فقالوا: وجدنا المصلوب أمامنا ميتاً وهو لا يسأل ولا يضرب ولا يعذب ولا ينعم، تأتي إلى من يصلب أمامك فهل ترى فيه تغييراً؟ وهل ترى فيه عذاباً؟ وهل ينزل إلى سابع أرض؟ وهل تأتيه الحيات فتعذبه؟ لا ترى ذلك، والذين قتلتهم الكلاب والسباع والحيتان أين عذابهم؟ وكيف سؤالهم؟ حتى قال بعضهم من المتأخرين: وضعنا السماعات في القبر فما سمعنا أسئلة، وما سمعنا أجوبة، وما سمعنا عذاباً، فكيف تقنعوننا بهذا العذاب؟! فهذا هو نظرهم فكيف نرد عليهم؟ سأؤصل لكم أصلاً مهماً جداً لطالب العلم وهو أن الدور ثلاثة كل دار لها حكم يختص بها وهي: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، فدار الدنيا لها أحكام، وأحكامها تقع على البدن والروح تكون تابعة، كالسارق الذي تقطع يده، فهذه على البدن وهو يتألم معنوياً، فالروح تابعة.
ودار البرزخ تقع أحكامها على الروح والجسد يكون تابعاً، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة).
الدار الثالثة التي لها حكم خاص هي: دار الآخرة، ودار الآخرة تجمع الشمل، فدار الآخرة تقع أحكامها على البدن وعلى الروح خلافاً للنصارى الذين يعتقدون أن المتعة في الآخرة لا تكون إلا معنوية، وأن العذاب لا يكون إلا معنوياً، وهذه عقيدة الشيخ أحمد ديدات غفر الله له ذلك، فهو يعتقد هذه العقيدة، ولذلك ننصح من يناظر النصارى أو يحاول أن يدعو الكفار أن يكون متقناً لشريعته أولاً ثم يتطلع بعد ذلك لأصحاب الأديان الأخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من تعمق في دينه فليناظر أهل الأديان الأخر، فهو يعتقد هذه العقيدة: أن النعيم الأخروي نعيم معنوي، وأن العذاب الأخروي عذاب معنوي، والصحيح الراجح: أن النعيم والعذاب يقع على البدن ويقع على الروح.
هذا التأصيل مهم جداً يصاحبنا في الرد عليهم، فنقول: إن هناك اختلافاً في الحياتين، فلا يقاس أمر الدنيا على أمر البرزخ؛ لأن هذه حياة لها أحكام خاصة بها، وهذه حياة لها أحكام خاصة ومثال ذلك: إذا دخلت على رجلين نائمين: الأول: يرى رؤيا أنه في جهنم يأخذ من صديدها، ويشرب من حميمها - والعياذ بالله- ويعذب في نار جهنم وتراه يتحرك كأنه يتعذب في نار جهنم، والآخر: يرى أنه في رياض الجنة يسرح، ويعانق حور العين، ويتمتع بالثمار والأنهار، ويشرب من اللبن ومن الخمر، وأنت واقف بينهما لا تعرف ماذا يحدث لهذا وماذا يحدث لهذا؟ وكذلك عندما تقف أمام المصلوب فهو يعذب وينعم وأنت لا تدري.
وكذلك في الدنيا -من باب قياس الأولى- فعند خروج الروح يأتي الملك فيضربه، يقول الله تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] وأنت لا ترى ذلك، وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:85 - 87] هذا في الدنيا وليس في البرزخ فقبل أن يموت تأتي الملائكة إلى الميت لتسحب روحه وأنت لا ترى ذلك، أما الفاسق أو الكافر فيضرب على وجهه وعلى ظهره قال تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، وأنت لا ترى ولا تسمع ذلك، فهذا من ناحية النظر والقياس، وهذا قياس مع الفارق، ولا بد في القياس أن يكونا متماثلين، والأصل والفرع هنا غير متماثلين.(51/9)
أنواع العذاب في القبر
أنواع العذاب متنوع، وعلى الراجح أن العذاب يكون على الروح تارة، وتارة على البدن.
النوع الأول: العذاب بالمطرقة فقد دلت الأحاديث على ذلك: أن ملكاً يأتي بمطرقة لو اجتمع الثقلان على حملها لا يستطيعون ذلك، فيضرب ضربة بالمطرقة يصرخ صرخة يسمعها كل الخلائق إلا الجن والإنس.
النوع الثاني من أنواع العذاب: الحيات، فيسلط الله عليه حيتين كما في حديث أحمد عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (إن الرجل إذا أُدخل في قبره وكان من أهل الفسق أتته حيتان: حية عند رأسه وحية عند رجله فيقرصانه وينهشانه حتى يجتمعا عند وسطه).
النوع الثالث من العذاب: أن يسبح في نهر من الدم، وهذا يختص بآكل الربا -والعياذ بالله- كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يسبح في نهر من الدم ويلقم حجراً إذا وصل إلى أول النهر حتى يصل إلى آخره ويرجع ويسبح في نهر من الدم.
ومن أنواع العذاب التي تقع في القبر التنور، وهو تنور الزناة والعياذ بالله، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.(51/10)
خلاف العلماء في عذاب الروح أو البدن في البرزخ
هل عذاب البرزخ يكون على الجسد أو البدن؟ فيه أقول: القول الأول: قال به طائفة من أهل العلم ومنهم ابن حزم أن النعيم أو العذاب لا يكون إلا على الروح، ويستدل بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (روح المؤمن طائر يطير في رياض الجنة) وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء كحواصل طير خضر تعلق من شجر الجنة).
وأيضاً ورد في تفسير قول الله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14] قال ابن مسعود: (الفجار) أي الكفار أرواحهم في حواصل طير سود تطير بهم في الجحيم في سابع أرض في سجين، في الأرض السابعة.
القول الثاني: أنه على البدن لا على الروح، وهذا لازم قول الإمام أحمد بن حنبل؛ لأنه قال: لا يسأل إلا البدن، فلازم قوله أنه لا يقع النعيم أو العذاب إلا على البدن، ويستدل لهم أيضاً بحديث المطرقة وحديث الحيات؛ لأن هذا العذاب لا يكون إلا على الجسد فقط.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية القول الثالث وهو الصحيح، وقد جمع شمل الأدلة، قال: يقع العذاب والنعيم تارة على البدن، وتارة على الروح، وتارة على البدن والروح؛ لأن المفارقة لا تكون كلية حتى ولو أن الجسد بلي، فالأجساد إن بليت يشعر بالألم عجب الذنب فقط، وأما الأحاديث التي استدل بها من قال بالروح، والأحاديث التي استدل بها من قال بالبدن فالذي يجمع بينها حديث الإسراء والمعراج، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسبح في البرزخ، فهذا فيه عذاب البدن والروح، بل ورأى عمرو بن لحي وهو في النار قال: تندلق اأقتابه وهو يدور حول أمعائه؛ لأنه سيب السوائب، فالنبي صلى الله عليه وسلم رآه جسداً وروحاً، ورأى كذلك الزناة والمرأة التي تعلقت من ثديها وتحتها نار، فهذا إشعار بأن النعيم والعذاب يقعان على البدن والروح.(51/11)
تزاور الأموات
وردت بعض الآثار أنه عندما يقبر الميت وينزل إلى قبره يجتمع عليه أهله ومقربوه وأحبابه وأصحابه يسألون عن أهل الدنيا، ماذا فعلوا؟ فإن كان من أهل النار والعياذ بالله وكانوا من الصالحين يقول لهم: أما أتاكم؟ فيقولون: ويل أمه، إنه قد ذهب به إلى أمه الهاوية، وهذه الآثار كثيرة جداً ولكنها آثار ضعيفة.
أما التزاور فقد ورد بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه فإنهم يتزاورون على أكفانهم) فالأب يتزاور مع ابنه ومع أخيه ومع عمه ومع خالته، فيحدث التزاور بينهم، لكن إذا أثبتنا التزاور فهل يقع التزاور من الروح والبدن كما قال: (في أكفانهم) أم الأرواح فقط؟ الراجح: أن التزاور لا يكون إلا بالأرواح في رياض الجنة فيذهبون ويروحون ويجيئون ويتزاورون في رياض الجنة بالأرواح، وإذا كانت الزيارة بالأرواح فأين يتزاورون؟ فنقول: الأرواح متفاوتة كما أن الأبدان متفاوتة والأعمال متفاوتة، فأرواح الأنبياء في عليين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! الرفيق الأعلى، اللهم! الرفيق الأعلى) وأرواح الصديقين والشهداء في حواصل طير يسبحون في رياض الجنة، وأرواح المؤمنين الذين ليسوا بشهداء كالطير ليسوا في حواصل طير، بل كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: نسمة كالطير أو هي طير تسرح أيضاً في رياض الجنة، فهؤلاء يتزاورون في أماكنهم، وأرواح الأطفال في حواصل عصافير يكفلهم إبراهيم عليه السلام وهم في الجنة، أما أرواح الكافرين فإنهم في حواصل طير سود يأكلون من النار والعياذ بالله، فأهل الصلاح الذين هم في علو أهل الشهادة يتزاورون في رياض الجنة، والمؤمنون الخلص أيضاً يتزاورون هناك، وبعض المؤمنين يُحبسون وتقف أرواحهم على أبواب الجنة؛ يحبسهم عن الجنة الدَين أو غيره، وردت أدلة أثبتت أن المرء يحبس في قبره بدينه، وغيره من الأفعال التي فعلها تحبسه عن الجنة، فهؤلاء لا يتزاورون في الجنة، لكن إن كانوا على أبواب الجنة فهم يتزاورون على أبواب الجنة.(51/12)
سماع الأموات
اختلف العلماء في سماع الأموات على قولين: القول الأول: قول جمهور أهل السنة والجماعة وهو: أن الأموات لا يسمعون، واستدلوا على ذلك بالنفي العام المطلق في قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وقول الله جل وعلا: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80].
القول الثاني لطائفة من أهل السنة والجماعة: أثبتوا لهم السماع، واستدلوا على ذلك بأحاديث، فالحديث الأول حديث قليب بدر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)؟ فبين لـ عمر أنهم يسمعون، وقال: (ما أنتم بأسمع منهم) في هذه اللحظات.
وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليسمع قرع نعالهم)، يسمع قرع النعال فهو يسمع.
ووردت أحاديث أيضاً كلها ضعيفة، لكن يعضد بعضها بعضاً أن المرء إذا مر على قريبه في القبر فسلم عليه وقال: السلام عليكم رد الله عليه روحه فرد عليه السلام، فهذه دلالة على أنه يسمع السلام ويرد أيضاً السلام.
والراجح من هذه الأقوال: هو قول جمهور أهل السنة والجماعة أن الأموات لا يسمعون، والجمع بين النفي العام المطلق هذا وبين الأحاديث التي أثبتت النفي بأن نقول: هذا خصوص من عموم، فإنهم لا يسمعون مطلقاً إلا في حالات: الحالة الأولى: عندما يقبر ويولي عنه فإنه يسمع قرع النعال.
الحالة الثانية: عندما يسلم عليه فيرد الله عليه روحه، وأنا أشك في هذا؛ لأن معنى أن الله يرد عليه روحه أنه لا فرق بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فأنا أشك في هذه المسألة، والأسانيد التي وردت في رد السلام كلها ضعيفة، وإن كان لها أصل.
الحالة الثالثة: أنه لا يسمع إلا الملك الذي يسأله، وقصة قليب بدر خاصة بقليب بدر، تسلية من الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم وتبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً للذين عاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم في مطلع دعوته.(51/13)
الذين لا تبلى أجسادهم في القبر
الأجساد التي لا تبلى في القبر أجساد الأنبياء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وكذلك أجساد الشهداء، فقد وردت آثار كثيرة جداً أن أجساد الشهداء لا تبلى، فإن عبد الله بن حرام أبو جابر رضي الله عنه وأرضاه لما قتل في أحد، بعد ستة أشهر كشف عنه جابر فوجده كما هو إلا تغير يسير في أذنه، وفي خلافة معاوية أيضاً عندما أراد أن يجري عيناً من أحد، فمر بها على قبور شهداء أحد، فنبشوا ووجدوهم كما هم، وأصيبت رجل حمزة رضي الله عنه وأرضاه فأدمت، وهذا فيه دلالة على أنه كما كان، وكان الدم حاراً.
وعمر رضي الله عنه وأرضاه وجد جسد دانيال النبي الكريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام فعمى قبره على الناس، والمقصود: أنه وجد جسده كاملاً، فقد حرم الله جل وعلا على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
وشيء واحد فقط لا يبلى من جميع الناس وهو عجب الذنب كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وعند قيام الساعة الله جل وعلا يأمر السماء فتمطر مطراً يشبه المني، فينبت المرء منه من عجب الذنب، فعجب الذنب أيضاً لا يبلى ولا يفنى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(51/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - البعث والنشور
أخبر الله تعالى بالبعث من بعد الموت، ودلل على ذلك بأدلة هي في الأصل أقيسة عقلية كقياس الأولى وقياس المثل ودليل المشاهدة وغيرها لتقوم على الناس الحجة في ذلك، وبين سبحانه أحوال الناس بعد البعث وعند العرصات، وأصناف الناس عند العرض عليه سبحانه وتعالى، فعلى المرء أن يؤمن بذلك، وأن يستعد له بالأعمال الصالحة.(52/1)
الخلاف في عدد النفخات في الصور
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: ففي كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي تكلمنا عن مسألة الاحتضار ثم النزول إلى القبر وسؤال الملكين والاختلاف في ذلك وترجيح أن في القبر أسئلة من الملائكة، وأنه يكون فيه العذاب والنعيم، وبينا اختلاف العلماء في مسألة: هل العذاب والنعيم على الروح أم على البدن أم على الروح والبدن؟ ثم تكلمنا عن المنزلة الثانية من منازل الآخرة ألا وهي منزلة النفخ في الصور التي هي بداية الآخرة، وتكلمنا عن اختلاف العلماء في مسألة: هل النفخ نفختان أو ثلاث أو أربع؟ وذكرنا أن فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: قول من قال بنفختين.
القول الثاني: قول شيخ الإسلام أنها ثلاث نفخات.
القول الثالث: قول ابن حزم، فإنه قال بأربع نفخات، والصحيح: أن النفخ في الصور نفختان.(52/2)
أدلة إثبات البعث
البعث والنشور هو قيام الناس من القبور.
ولعظم هذه المسألة وخطرها نوع الله وصنف الأدلة في كتابه الكريم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا وسيقف أمام ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، كل أعماله في صحائفه مسطرة، لا يغيب عن الله شيء منها ألبتة، وسيقف كل امرئ منا أمام ربه جل وعلا المحسن يجازى بإحسانه والمسيء يجازى بما عمل، ونسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من المحسنين.
والأدلة على البعث متنوعة، منها: الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، فكل هذه الأدلة تدل على أن الله جل وعلا يبعث من في القبور، قال الله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، ثم بين الله جل وعلا ونوع الأدلة للناس حتى يستيقنوا أن البعث لا بد أن يكون للناس أجمعين، وهذه الأدلة كلها ضروب وأقيسة عقلية؛ ليطمئن القلب أن المرء لا بد أنه سيقف أمام ربه.
النوع الأول من الأدلة التي هي ضروب وأقيسة عقلية: قياس الأولى أو القياس الجلي، فإن الله جل وعلا أمر العباد أن يسيروا في الأرض فينظروا كيف خلق هذا الخلق الذي أبهر به العقول، فالسماء رفعها بغير عمد، والأنهار أجراها في هذه الأراضي، وأرسى الجبال الشم الشوامخ، كل هذه تدل على قدرة الله جل وعلا، وأمرنا الله أن نتدبر أخلق الإنسان أكبر أم خلق السماوات والأرض؟ أي عاقل لا يحتاج إلى أن يفكر ويتدبر؟ فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، ولذلك قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ} [غافر:57]، ثم بين الله جل وعلا هذا الخلق العظيم الذي خلقه الله، فإذا خلق الأعظم فمن باب أولى أن يخلق الأقل منه، ولذلك قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى} [الأحقاف:33]؛ لأنه خلق الأعظم، فالأدنى أسهل أن يخلقه، وأيضاً قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ} [الإسراء:99]، فهذا يثبت أن البعث قائم، وأن الناس سيقومون حتماً من القبور إلى الله جل وعلا، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالله جل وعلا إذا خلق الأكبر فمن باب أولى أنه يستطيع أن يخلق الأقل والأصغر.
النوع الثاني من الأدلة على البعث: قياس المثل، فإن الله جل وعلا ضرب لنا مثلاً عقلياً أيضاً، فالإنسان الصانع لو صنع سيارة بعقل مدبر ورسم الرسم التصويري لها ثم أخذ الآلات وركب هذه السيارة فجاءت بصورة معينة، وهو الذي ابتدأها وتعب حتى ابتدأها، فإذا هدمت هذه السيارة هل يسهل عليه أن يعيد مثلها أم لا؟ في الواقع المشاهد أن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده، فالله جل وعلا قرب لأذهاننا هذا المثل العظيم، فقال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال الله تعالى أيضاً مبيناً لنا ذلك: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، وقال جل وعلا: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79]، فضرب لنا قياساً بديعاً هو: أن الإعادة مثل الابتداء، بل هو أسهل؛ لأن الذي ابتدأ شيئاً يسهل عليه أن يعيده.
النوع الثالث من أنواع الأدلة التي تدل على البعث، وأننا سنقوم أمام الله جل وعلا: واقع مشاهد، بين لنا الله جل وعلا أمراً مشاهداً وقال: أنتم ستقومون مثل هذا الأمر المشاهد، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]؛ فبين الله لنا أن الأرض القحلة الميتة إذا نزل عليها المطر اهتزت وربت وأنبتت، فهذه دلالة على أننا سنقوم بعد الموت، قال الله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39].
إذاً: الله سيحيي الموتى كما أحيا الأرض، ولكن كيف سيحيي الموتى؟ يبين الله لنا هذا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم تمطر السماء مطراً كالطل، أو كالظل أو كالظِل) وفي رواية: (كمني الرجل)، فالسماء هنا بدل أن تمطر ماءً ستمطر يوم القيامة ما هو أشبه بمني الرجل، فتمطر كمني الرجل مطراً، فينزل على عجب الذنب، وهو العظم الذي لا يبلى أبداً في الإنسان، فكل شيء في الإنسان يبلى بعد موته إلا عجب الذنب، فهذا العظم ينبت منه الإنسان عندما ينزل المطر، فكما ينزل المطر في الأرض، فتحيا الأرض والنبات فكذلك الإنسان ينزل عليه المطر كالمني فينبت من عجب الذنب، فيقوم الإنسان كما قامت هذه النبتة من الأرض.
النوع الرابع: أن الله جل وعلا قال: أميت واحداً أمامكم وأحييه، حتى تستيقنوا أن هذه الإماتة والإحياء هي التي ستحدث يوم القيامة، فالله جل وعلا ضرب هذه الأمثلة الواقعة أمام بني إسرائيل، قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]، وأيضاً في حادثة البقرة لما قتل الرجل عمه وألقاه على قرية وذهب إلى أهل القرية وقال: قتله اليهود، فقتل عمه ليستعجل الميراث، ثم أخذ جثته وألقاها في قرية، وقال: أريد دم عمي، أو الفدية، أو دية عمي، فأنتم الذين قتلتموه، فحاروا فيه، فأوحى الله إلى موسى أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة، إلى أن قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، فقام الرجل وقال: قتلني ابن أخي.
فأحياه الله أمامهم عياناً، فهذه دلالة أيضاً على البعث.
فهذه أدلة متنوعة تثبت لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، وكل منا سيقف أمام ربه، قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259]، وأهل الكهف أيضاً جعلهم الله مثلاً مضروباً ليتبين لنا أن الله جل وعلا سيبعث من في القبور، إذاً: فالبعث قائم، والدليل عليه من الكتاب والسنة قائم جلي كالشمس الساطعة في رابعة النهار، فيستلزم منا ذلك أن نؤمن بهذا البعث، ونخلص أعمالنا لله جل وعلا حتى نقف أمامه بنظافة من كل دنس ومن كل رجس ومن كل سيئة.(52/3)
هل البعث خلق جديد أم إعادة للخلق القديم؟
يتعلق بالبعث أمر مهم جداً، ألا وهو: هل البعث هو نفس الخلق أم يتغاير؟ أقول: البعث خلق جديد، يتفق في الجنس ويختلف في السمة والنوع والصفة، فيتفق معه في الجنس فهو نفس الخلق، فأنت محمد مثلاً، مت وسيبعثك الله محمداً، لكن صفاتك وطبيعتك تختلف عن صفاتك وطبيعتك في الدنيا، والدليل على ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال: (ليس بين ما في الجنة وبين ما في الدنيا إلا الاسم) موز موز، عنب عنب، اسم فقط، لكن يختلف في الطعم والرائحة، وإنما الاسم مشترك والجنس واحد.
وأيضاً أنت محمد في الدنيا وأنت محمد في الآخرة متفق في الجنس وفي الهيئة، لكن الصفة والسمة مختلفة تماماً، والذي يدلنا على ذلك هو أنك إذا أخذت رجلاً فألقيته في النار فسيحرق ويموت، وتخرج روحه، فهذه ليست الآخرة، أما في الآخرة فإنه إذا ألقي في النار فإنه لا يموت -أقصد الكافر- فإنه كما قال معاذ: الأرواح تسكن أجساداً لا تموت، فهذا أول تغاير بين الدنيا الآخرة، فالإنسان الكافر يحترق ويبقى في النار ولا يموت، وصور الله لنا هذه الصورة الهائلة فقال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [إبراهيم:17]، يعني: أسباب الموت كلها موجودة: جوع عطش حر برد إهانة تنكيل كل ذلك من أسباب الموت، وهي موجودة ولكنه لا يموت، قال: ((وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ)) أي: يحيط به الموت {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17]؛ لأن الله جل وعلا أبقاهم، والطبيعة قد تغيرت.
وأيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر يوم القيامة كجبل أحد)، فضرس الكافر في الآخرة يكون كجبل أحد، حتى ينكل به أشد النكال، فهذه دلالة أيضاً على أن خلقك يوم القيامة يكون مغايراً في طبيعته لخلقك وأنت في الدنيا، فأنت في الآخرة أوضح وأجلى وأرقى من ذلك، أسأل الله أن نكون كلنا من هؤلاء عندما ننظر إلى ربنا.
وموسى لما طلب رؤية الله جل وعلا في الدنيا ما استطاع؛ لأن طبيعته البشرية لا تستطيع ولا تحتمل أن تنظر إلى الله جل وعلا، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فلا الجبل يحتمل ولا طبيعة موسى عليه السلام تحتمل، لكن أنت في الآخرة قال الله عنك: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، فستنظر إلى أنوار سبحات وجه الله جل وعلا يوم القيامة، ولكن لن تنظر إلى الله جل وعلا بطبيعتك هذه، بل الطبيعة ستتغير، كما قال عز وجل: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ولذلك في عرصات يوم القيامة ترى الملائكة وترى الجن وأنت في الدنيا لا تراهم، كما قال عز وجل عن الدنيا: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فأنت لا ترى الجن، لكن يوم القيامة على عرصاتها تقف أنت وبجانبك الجن، وتنظر إلى الملائكة فالله جل وعلا ينادي: فلان بن فلان فيأتيه ملكان، ويأخذانه إلى العرض على الله جل وعلا وهو ينظر إليهما، وينظر أيضاً إلى الجن والشياطين، وينظر إلى الكل، فهذه دلالة على أن الطبيعة تتغاير، والعبد يرى ربه يوم القيامة في الجنة ويتمتع أكبر المتعة وأحسن المتعة برؤية ربه جل وعلا، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنات عدن)، فإذا نزع رداء الكبر فكل منا سيرى ربه جل وعلا.
فهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على أن الطبيعة متغايرة، فأنت في الخلق الأول في الدنيا غير ما تكون عليه في الخلق الثاني في الآخرة، نسأل الله جل وعلا أن يجعل خلقنا في الآخرة على أحسن صورة، وأن تكون على أتم ما يكون في يوم البعث، وأن يجعلنا ممن ينظرون إلى المليك المقتدر.(52/4)
كيفية الحشر وبيان مكانه
يقوم الشخص من القبر إلى أرض المحشر التي قال عنها الله جل وعلا: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، وهي كالقرص النقي أي كالعجينة البيضاء التي ليس فيها ثمة شيء، أرض لم يعص فيها الله جل وعلا قط، ولم يرق فيها دم قط، كلها بيضاء عفراء نقية، يقف عليها الأشخاص، ويحشرون جميعاً لا يتخلف أحد عن الله جل وعلا، قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، وقال جل وعلا: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52].
فكل إنسان سيقف أمام ربه جل وعلا، ولا يتخلف أحد عن الحشر إلى أرض المحشر، وستحشر على هيئة بينها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بين أنك ستحشر كما ولدت عارياً غير مكسي ولا مختون، كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً)، فالكل سيحشرون حفاة عراة غرلاً، يعني: غير مختونين، وأي شيء نقص منك سيأتيك يوم القيامة.
فهذا الحديث لما سمعته عائشة اندهشت، فقالت: يا رسول الله! الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) هذا اليوم يشيب له الولدان، كما قال عز وجل: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين أن الشمس تدنو من الرءوس، فيبلغ الكرب والغم من الناس مبلغاً، لا يطيقونه ولا يحتملونه.
ثم يحشرون إلى المليك المقتدر، يقف المرء على عرصات يوم القيامة فينادى: فلان بن فلان، فيأتي ملكان فيأخذانه، وكأنه ذاهب إلى محكمة، بل هي محكمة، لكن الله جل وعلا هو الحاكم وهو القاضي سبحانه وتعالى إن صح أن نطلق على الله هذه الألفاظ، فإن هذا من باب الأخبار لا من باب الصفات ولا الأسماء، فالله جل وعلا هو الذي سيقضي في أمرك أو سيحكم في أمرك، ولا يغيب عنه شيء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الله الناس أجمعين الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو منهم الشمس) الحديث، قال عز وجل: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].(52/5)
العرض على الله وأصناف الناس فيه
قال الله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:48 - 49]، الناس في ذلك اليوم على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: صنف يرخي الله عليه ستره وكنفه، ثم يعرفه ذنوبه، فيقول: عبدي أما عملت ذنب كذا يوم كذا؟ أما انتهكت حرمة كذا يوم كذا؟ والعبد يقول: أي رب، أعرف ذلك وأقره، فيرخي عليه ستره، ويقول: عبدي قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم.
وذلك من رحمة الله ومن كرم الله.
الصنف الثاني: صنف يناقش الحساب، وهذا الصنف هو الذي يعذبه الله على ذنوبه، ويقول: فعلت كذا وكذا وكذا، ولا يغفر ذنباً من هذه الذنوب بحال من الأحوال، وهذا الذي لا يغفر له الذنب، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قد هلك) وسيأتي بيان ذلك.
الصنف الثالث: صنف مفضوح -نسأل الله أن يرخي علينا ستره في الدنيا والآخرة- والفضيحة الكبرى إنما تكون على عرصات يوم القيامة وليست في الدنيا؛ لأن في الدنيا قد تكون على مجموعة خمسين شخصاًً أو عشرين شخصاً أو بلدة بأكملها أو على الإنترنت، لكن الفضيحة هذه لا تساوي شيئاً بالنسبة للفضيحة الكبرى يوم القيامة، فليس هناك فضيحة من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة إلى آخر مخلوق سيخلق عندما لا يقال: الله الله إلى قيام الساعة تعادل الفضيحة الكبرى.
والفضيحة أنواع أيضاً: فضيحة لأهل الإيمان الذين هم من الفسق بمكان، وهم لا يخلدون في النار، وفضيحة لأهل الكفر، أما فضيحة أهل الإيمان فكل غادر ينشر له لواء، فيقال: هذه غدرة فلان، يقرؤها القارئ وغير القارئ، واللواء: علم، فكما أن الناس يسيرون بأعلام يعرفون بلادهم بهذه الأعلام، هذا الرجل أيضاً الغادر له لواء منشور أمام الخلائق أجمعين، يراه رسول الله ويراه آدم ويراه نوح، وينظرون إليه، وأفاضل الخلق سيرون هذه الفضيحة، هذا لأهل الإيمان، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وأما الكافر فهذا بالقول وبالفعل، فيقال عنه على رءوس الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، لعنة من الملائكة ومن الله ومن أهل الإيمان، يقال: ألا لعنة الله على الظالمين.
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله جل وعلا ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يجد إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: أن صدقة واحدة يمكن أن تنجيك من عذاب الله يوم القيامة.
وأيضاً في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: يدنو المؤمن من ربه فيرخي عليه ستره وكنفه ثم يعرفه يقول: عبدي! هل تعرف كذا؟ يذكر له الذنب الذي أذنبه، وانتهاك الحرمة التي انتهكها، فيقول: أي رب أعرف، فيقر ولا يعترض، فيقول: عبدي! هل تعرف ذنب كذا؟ يقول: نعم رب أعرف، فيقول: عبدي تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب أعرف، فيقر ولا يعترض على ربه، وهذا هو العبد الذي غلبته شهوته، وغلبه هواه، ولكنه خاضع مسكين، يعلم أن أمره بيد ربه، فيقول: رب نعم أعرف، فيقول: (عبدي! سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها عليك اليوم) وفي رواية: (أغفرها لك اليوم) فيغفرها الله، فهذا المؤمن المذنب.
وأما المنافق -نعوذ بالله من النفاق- والكافر فيقال على رءوس الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
الصنف الثالث: صنف يناقشون الحساب وتعدد سيئاتهم -والعياذ بالله-، وهؤلاء لا بد أن يدخلوا نار جهنم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، وفي رواية أخرى: (من نوقش الحساب هلك)، فـ عائشة -وهي فقيهة- اعترضت بدليل، فرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وبين لها الحجة، ولذلك ما أنكر عليها أنها اعترضت؛ لأن عندها دليل، فإنها قالت: يا رسول الله! أوليس الله قد قال: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك العرض) أي: يعرض على الله، فيعرفه ذنوبه ويقول: عبدي! تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم رب، فيقر، فيقول الله: (أغفرها لك اليوم).
وقوله: (ذاك العرض، من نوقش الحساب فقد هلك) لا بد لهذا من تفسير، وقد فسره علماؤنا فقالوا: مناقشة الحساب أن يعدد عليه ذنوبه كلها، ذنباً ذنباً، ولا يغفر له منها ذنباً واحداً، كما روى اللالكائي في هذا الكتاب العظيم عن الحسن البصري أنه سئل: ما هو سوء الحساب؟ فقال: أن تعد السيئات أو الذنوب ولا يغفر ذنباً واحداً منها أبداً.
فهذا الذي إذا نوقش الحساب عذب يدخل الجنة وقت ما يشاء الله جل وعلا.
فإذا حشروا وسئلوا ووفاهم الله أعمالهم، أدخل الله أهل الجنة الجنة، وأدخل أهل النار النار.
ثم ذكر المصنف رحمه الله الميزان، وما الذي يوزن: الأعمال أم الأشخاص؟ وذلك بعد أن بين لنا أصناف أهل الجنة وأصناف أهل النار.(52/6)
مصير اليهود والنصارى إذا ماتوا على غير ملة الإسلام
بوب المصنف باباً من أهم الأبواب؛ لأن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام ضيعوا عقائد الناس وميعوها، هذا الباب هو باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن اليهود والنصارى إذا ماتوا على غير ملة الإسلام يدخلون النار.
فهذا واضح وهل يحتاج النهار إلى دليل؟ وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل فعندنا من قال بوحدة الأديان، وعندنا من قال: أخي بطرس، وعندنا من يقول: بيني وبينهم خلة، والله عز وجل يقول: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فهو مع ذلك يقول: الأديان السماوية والتسامح في النصرانية والتسامح في اليهودية فسنبين لهم لعلهم يتركونها، أو نبين لنا حتى نثبت على عقيدتنا ونعلم أن هذا الكلام هراء، وأن هذا الكلام يصل بالمرء إلى الكفر، فإن قائل هذا الكلام إن لم يتق الله في نفسه يكفر هو أيضاً، فيحشر معه، والمرء مع من أحب.
قال الله تعالى مبيناً أنه لا يقبل أبداً من أحد إلا الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فالدين معرف بالألف واللام فيفيد العموم، فالأديان كلها التي نزلت تساوي الإسلام، فحصر كل الأديان وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وتفسيها بلآية الأخرى، من باب تفسير القرآن بالقرآن، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] أي: لا يقبل منه بحال من الأحوال، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17].
قال سعيد بن جبير: هم اليهود والنصارى.
وأوضح من ذلك ما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به، إلا كان من أصحاب النار)، فالنصراني الذي لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به محمد يكون من أصحاب النار، واليهودي الذي لم يؤمن بمحمد وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يكون من أصحاب النار، بنص الحديث، وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى عمر يقرأ في التوراة، فقال: (أمتهوك فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) أي: يكون خلفي، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
فكل إنسان وكل نبي وكل أحد رأى رسول الله لا يسعه غير أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كرامة من الله لهذه الأمة، حتى عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان لا يحكم إلا بشريعة محمد، بل لا يؤم أمة محمد؛ كرامة لهذه الأمة، فإنه ينزل عيسى على جناح الملك، فيجد الصلاة قد أقيمت والمهدي سيكبر، فيراه المهدي أو يشم رائحته، فإن عيسى عليه السلام ينزل وكأن حب اللؤلؤ يتقاطر منه عليه السلام، فيرجع المهدي؛ لأنه يعرف مقامه، ويريد أن يقدم النبي، فيقول عيسى: لا، تقدم؛ إمامكم منكم؛ تكرمة الله لهذه الأمة.
ولذلك أول أمة تحاسب هي هذه الأمة، لكرامة نبيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي تحت العرش ويقول: (يا رب أمتي أمتي، أمتي أمتي).
وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي)، فكرامة هذه الأمة واسعة جداً، فهذه الأمة لا بد لكل الأمم أن تنزل تحت لوائها، ولا بد أن تتبعها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).(52/7)
حكم من لم يكفر اليهود والنصارى
اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم هم أهل كفر، وهم أهل ضلال، ومن لم يكفرهم ويعتقد خلودهم في نار جهنم إذا ماتوا على الكفر بعد إقامة الحجة عليهم، وبعد بيان حالهم من الكتاب والسنة فهو كافر خارج من الملة، خالد مخلد في النار.
إذا رأيت الرجل يقول: النصراني دينه دين سماحة، أو هذا أخونا في الدين، فهذا على خطر عظيم، فمن كان هذا حاله فقل له: النصارى ألا يقولون: باسم الله باسم الأب باسم كذا باسم كذا؟! فسيقول: نعم، فقل له: ألا يقولون في عيسى: إنه إله وإنه ابن الله وإنه ثالث ثلاثة؟ فالنصارى يقولون بألوهية عيسى، فمنهم من يقول بالأقانيم الثلاثة، ويقولون: فيه شيء من الناموس وشيء من اللاهوت، وعقيدة النصارى كلها كذلك، فهم يقولون عن عيسى: ابن الله، فأنت ائت بالمصحف وقل له: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، فهل تكفرهم أم لا تكفرهم؟ إذا قال: لا، هم إخواننا في العقيدة، فقل له: أنت كافر؛ لأنه كذَّب الله جل وعلا؛ لأن الله -ومن أصدق من الله حديثاً، ومن أصدق من الله قيلاً- قال: إنهم كفار، فكيف يقول: هم مسلمون؟! فهذه دلالة على أن من لم يكفرهم يكفر بعد إقامة الحجة عليه، وأيضاً الله جل وعلا قال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، فهذا مسطر عندهم: محمد صلى الله عليه وسلم، مسطر في التوراة والإنجيل، وهم ينكرون، فالذي لا يكفرهم بعد إقامة الحجة عليه فهو كافر خالد مخلد في نار جهنم إن لم يتب ويموت على التوبة.
إذاً: هذا الباب من أهم الأبواب، ومنه يتبين لنا أن الذين يميعون العقائد عند الناس هم أضل الناس، ولذلك قال سفيان بن عيينة: كنا نقول عن علمائنا الذين يضلون: إنهم أشبه ما يكون باليهود؛ لأنهم يضلون على علم، فالذين يميعون العقيدة عند الناس هم في ضلال مبين إن لم يكونوا على كفر.
فإذا قيل: إنهم لا يقولون ذلك، بل يعتقدون كفرهم، لكن يقولون ذلك حفاظاً على الكراسي، فنقول: مآلهم إلى الله، لكن الظاهر عندنا أنه إذا كفر اليهود أمامهم، ثم لم يكفرونهم كفروا، وأيضاً النصارى، وعندنا حديث جلي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، فينادى اليهود فيقول الله تعالى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزيراً ابن الله - حاشا لله- فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقول الله تعالى مبكتاً إياهم: اشربوا، فيتساقطون في نار جهنم، ثم يؤتى بالنصارى فينادى على النصارى: ما كنتم تعبدون، فيقولون: كنا نعبد المسيح وينسبونه إلى الله جل وعلا - حاشا لله - فيقول الله تعالى: كذبتم، لم يتخذ الله صاحبة ولا ولداً، فيقول الله جل وعلا: ما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقول الله تعالى مبكتاً لهم: اشربوا، فيتساقطون في نار جهنم) والعياذ بالله.
فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض وأضل أهل الأرض، نعوذ بالله أن نقول بقولهم، ونعوذ بالله أن نعمي على الناس، وأن نميع عقائدهم فلا يعرفون الكافر من المسلم.
وأشد ما يكون على الناس ألا يفرقوا بين الكافر وبين المسلم؛ لأن للكافر أحكاماً وللمسلم أحكاماً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(52/8)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - الميزان
يؤمن أهل السنة والجماعة بميزان حقيقي توزن فيه أعمال العباد وصحائفهم والعباد أنفسهم، فمن ثقلت موازينه بأعماله الصالحة نجا، ومن خفت موازينه هوى، وبعد الميزان يجوز الناس على الصراط المضروب على متن جهنم، فمنهم من يجوز عليه كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل، ومنهم من تخطفه كلاليب كشوك السعدان فيكردس في نار جهنم.(53/1)
أدلة البعث والنشور
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: ما زلنا مع الجزء السادس من هذا الكتاب المبارك العظيم: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للعلامة اللالكائي.
انتهينا من الكلام على البعث وأدلته التي بينها لنا الله جل وعلا، ثم تكلمنا على العرض والحساب، وكيفية عرض الناس يوم القيامة ليحاسبوا أمام ربهم، ثم ختمنا بالحديث عن اليهود والنصارى وأنهم إذا ماتوا على غير ملة الإسلام فهم من أهل النار خالدين فيها.
ومن باب التذكير بما مضى نقول: كل منا يؤمن ويستيقن ويعلم أنه سيقف أمام ربه، ويحاسب على ما قدم، وأن الله جل وعلا سوف يجازيه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عقاباً إن شاء ذلك وإن شاء غفر له ذلك، وقد بين الله لنا الأدلة على البعث والنشور، فإذا قال لك كافر: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا فبم ستجيبه؟ هل ستقنعه بالضرب؟ كلا، ولكن لابد أن تبين له قولك بالدليل والحجة والبرهان على أدلة البعث التي تعتقد أنت بها، وأنك ستبعث وستحاسب على ما قدمت.
نذكر أولاً تصنيف الأدلة إجمالاً ثم نفصل: ضروب الأدلة هي: قياس جلي هذا الضرب الأول وهو قياس الأولى، والضرب الثاني من الأدلة: قياس المثلية وهو قياس الغائب على الشاهد، ثم نبين أن البعث نفسه قد ظهر لنا جلياً في الحياة الدنيا.
ومعنى قياس الأولى: أنه إذا كان الحكم متوفر في الأدنى فهو في الأعلى من باب أولى، ودليل ذلك قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، فالله جل وعلا أمر العباد أن ينظروا في خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الإنسان؛ فمن باب أولى أن يخلق الإنسان مرة ثانية.
والصنف الثاني من الأدلة هو العقيدة، فهي فرض عين على كل إنسان أن يتقنها، قال الله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، فقاس الإعادة على البداءة، وهذا ظاهر جداً، فإن كان قد ابتدأ شيئاً فأيسر عليه أن يعيده، مثال ذلك: الرجل لو صنع صنعة وسهلت عليه هذه الصنعة، فإذا أراد أن يعيدها كانت أسهل وأسهل.
الصنف الثالث من الأدلة: هو الحكم على اليهود والنصارى، فحكمهم أهل كتاب، فإن أسلموا فحكمهم مؤمنون، فإن ماتوا على ما هم عليه فحكمهم في الآخرة أنهم في النار، وتعاملنا معهم في الدنيا كأهل كتاب، هذا هو التفصيل.
فأما حكمهم في الدنيا فهم كفار بدليل قول الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] والنصارى يقولون بذلك، وكذا قول الله في آية أصرح من ذلك تدل على أن الدين عند الله الإسلام، وأن الله لا يقبل من أحد غيره يقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
والدليل على أنهم لو ماتوا على ذلك فهم أصحاب النار قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] فإذا مات اليهودي أو مات النصراني على ملته فمآله إلى النار، ثم لا يخرج منها أبداً، والدليل على هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:48]، وجه الاستدلال من هذا الشاهد: أن اليهود قد أشركوا وقالوا: عزيرٌ ابن الله، ونسبوه لله، هذا هو وجه الشاهد ووجه الاستدلال بالترتيب العلمي الذي قد تستدل به.
إذاً: الكفار من المشركين، والله لا يغفر لمشرك، وأيضًا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صرح بأنهم خالدون فيها ولن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولا أرحامهم، قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) يعني: خالداً مخلداً فيها.(53/2)