موقف الشرع من علم أسرار الحروف
ذكر ابن خلدون: أن بعض المتصوفة خاضوا في نوع من السحر هو علم أسرار الحروف، وهذا نوع من أنواع السحر، يظل الشخص يفسر لك (بسم الله الرحمن الرحيم) في شهر، يقول لك: الباء تعني كذا وتفيد كذا، والباء من كذا، وأصلها كذا، ومردها إلى كذا، والمحاضرة التي بعدها عن السين وهي تفيد كذا، وأصلها كذا، وذاهبة إلى أين، وأتت من أين، وهذا ما يعرف بالتفسير العددي للقرآن الكريم، وعبد الرزاق نوفل هو إمام أئمة هؤلاء الدجالين السحرة.
وفي أحداث سبتمبر رأينا أناساً يستشهدون بالآية رقم مائة وعشرة من سورة التوبة على أن البرج مائة وعشرة، مع أن البرجين كانا مائتين وعشرين، وهذا ما يدل على كذبهم، فيستخدمون أسرار الحروف، وهذا النوع هو المسمى بالسيمياء، نقل وضعه من الطلسمات في اصطلاح أهل التصوف من المتصوفة استعمل هذا الاستعمال الخاص.
ويذكر ابن خلدون: أن هذا العلم حدث في الملة بعد صدر منها، يعني: خلف الأمة لم يكونوا يعرفون علم السيمياء هذا، ولا علم تفسير القرآن بالأعداد، ولا علم التفسير بالحروف، وعند ظهور غلاة من المتصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحفظ، وظهور الخوارق على أيديهم، والتصرفات على عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزل الوجود على الواحد وترتيبه، وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي سارية في الأكوان على هذا النظام، والأكوان من لدن الإبداع الأول تنتقل في طوره، وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوع، ولا تحاط بالعدد مسائله، وتعددت فيه تآليف البوني وابن عربي وغيرهما ممن اتبع آثارهما، وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة في الأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان.
وفي الشهر الماضي رأينا بعض الأوراق التي فيها معالجة بعض الأمراض بالأسماء الحسنى، وهذا الباب من أبواب السحر، يقولون: الذي عنده جذام يكون علاجه في اسم الله كذا، يقرؤه ألف مرة، أو مائة مرة، أو ثلاثمائة وسبعين مرة، أو مائة واثنين وخمسين مرة، فمن أتيتم بهذه الأعداد؟ وما يدريكم بأن هذا الاسم هو الذي يوافق هذا المرض؟ ألستم تعرفون أن الدواء إذا وافق الداء كماً، وقدراً وكيفاً أصابه بإذن الله تعالى، وممكن أن شخصاً يأخذ علاجاً لكن لا يبرأ؛ لأن العلاج هذا لا يناسب الداء، أو أنه مناسب للداء لكن الجرعة التي يأخذها ليست كافية، ومما يدل على ذلك: (أن رجلاً أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! إن أخي استطلق بطنه، - يعني: بطنه توجعه - فقال: مره فليشرب عسلاً، فشرب عسلاً فلم يبرأ، فأتى أليه مرة أخرى وقال: يا رسول الله! لم يحصل أي شيء إنه مريض، قال: مره فليشرب عسلاً، ثم مره فليشرب عسلاً، حتى برأ).
يقول ابن القيم عليه رحمة الله: لم يبرأ أولاً لأنه لم يأخذ القدر الكافي من الدواء، فلو قال لك: أنت علاجك بإذن الله تعالى في هذا الدواء، فتقول: من أجل أن أخلص نفسي أشربه كاملاً من أجل أن أرى صدق هذا الطبيب من كذبه، ثم تفاجأ بأن الطبيب صار كذاباً؛ لأنك تصاب بتسمم، وفي الحقيقة الطبيب ليس كاذباً، الطبيب محق في صرف هذا الدواء وهو المناسب للداء، لكن المناسب له بالكيفية المعينة، وأنت خالفت الكيفية، فربما تصاب بداء أعظم من دائك الذي تريد التطبب والعلاج منه.
نتوقف عند هذا الحد، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله.(61/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - السحر بين الحقيقة والخيال
السحر له حقيقة، وهو حرام في شريعة الإسلام، تعلمه وتعليمه وممارسته، ومذهب جماهير العلماء أن الساحر كافر، وحده القتل، وقد أرشدنا القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام إلى كيفية العلاج من السحر، فقد سُحر النبي عليه الصلاة والسلام فأنزلت عليه سورة الفلق، ورقى نفسه حتى شفي.(62/1)
سياق ما روي في أن السحر له حقيقة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
هل السحر حقيقة أم خيال؟ والخيال: بمعنى التخييل، والوهم: أن يتوهم الإنسان أن التراب صار ذهباً، أو أن الذهب صار تراباً، أم أنه بالفعل قد صار الأبيض أسود، أو صار الأسود أبيض؟ اختلف العلماء: هل للسحر حقيقة في قلب طبائع الأشياء وأصولها، أم أنه ما هو إلا تخييل؟ يقول الله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] فهل هذا تخييل أم أنها بالفعل كانت تسعى، فانقلبت وتحولت من عصا إلى حية؟ أم أنه خيل إليه فقط أنها تسعى، وهي في حقيقة الأمر لا تسعى؟ اختلف أهل العلم في هذه القضية: هل للسحر حقيقة أم أنه خيالات وأوهام؟ وهذه مسألة محل بحث، وسوف نسرد الأدلة فيها فيما يلي: أولاً: قال الله عز وجل: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102].
فتبين بهذا أن السحر علم، وباتفاق أهل العلم أنه من العلوم الضارة.
والعلوم: إما نافعة، وإما ضارة.
فالعلوم النافعة: هي التي تخدم دين الله عز وجل، أو أنها هي من دين الله، كعلم التفسير، وعلم التوحيد والعقيدة، وعلم الحديث وعلم الفقه، والعلوم التي تخدم هذه العلوم وهي علوم الآلة: كعلم اللغة العربية والأدب وغير ذلك، وأصول الفقه وأصول الحديث، كل هذه العلوم تسمى علوم الآلة، وهي التي نتوصل من خلالها إلى فهم كتاب الله تعالى، وفهم سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وفهم الفقه الصحيح على هذه الأصول الشرعية.
فالعلوم هذه هي العلوم النافعة، ومن العلوم النافعة كذلك: العلوم التي تخدم عمارة الكون بما لا يتعارض مع دين الله عز وجل، كعلوم الطب والفيزياء والهندسة وغير ذلك.
أما العلوم الضارة فهي العلوم المحرمة، كعلم النجوم، أن تتعلم من النجوم ما يعارض الشرع، وعلم السحر وعلم التنجيم، وعلم السيمة الذي يعرف عند السلف بعلم السيمياء، وهو الذي عبر عنه بعض المفسرين: بمعرفة طبائع وأصول الأحرف، فهذا علم قد تبنته البهائية يقولون: بسم الله الرحمن الرحيم، الباء تعني كذا والسين تعني كذا، والميم تعني كذا، وهذا في الحقيقة لا علاقة له أبداً بالمنهجية السلفية في تفسير كتاب الله عز وجل.
فهذا من العلوم الضارة كذلك، وقد تبنته بعض الفرق الضالة، وغير ذلك من العلوم التي تتعارض مع دين الله عز وجل حلاً وحرمة.
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} [يونس:80]؛ أي: الذين يسحرون غيرهم.
وقال تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116].
فهذه الآيات كلها تدل على أن للسحر حقيقة، وهذا مذهب جماهير العلماء أن السحر له حقيقة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عمر، وعثمان، وجندب، وعائشة، وحفصة أنهم أمروا بقتل الساحر وقالوا: حد الساحر ضربة بالسيف].(62/2)
شرح حديث عائشة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم
قال: [وعن عائشة قالت: (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله)]، بسبب السحر الذي سحر به عليه الصلاة والسلام.
قال: [وعن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه شيء - أي: من السحر - حتى كان يرى أنه يأتي نساءه ولا يأتيهن)].
وهو في حقيقة الأمر لم يأتهن، لكنه كان يخيل إليه أنه قد أتاهن، فانتبه من نومه فقال: [(يا عائشة، إن الله تعالى أفتاني فيما استفتيته)]، يعني: إن الله تعالى أراني حقيقة رؤيا قد رأيتها، (أتاني آتيان -أي: رجلان- فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب)، يعني: مسحور، من الطب، وسموا المرض علاجاً أو صحة كما سموا السحر طباً من باب التفاؤل، كما سموا الشقاء سعادة من باب التفاؤل.
[(قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم)]، ولبيد بن الأعصم رجل من اليهود سحر النبي صلى الله عليه وسلم، [(قال الملك لصاحبه: فيم؟ قال: في مشط ومشاطة)]، المشط هو الذي يرجل به الشعر، والمشاطة: هي الشعر الذي يخرج في أثناء التمشيط وتسريح الشعر.
قال: [(وأين؟ قال: في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان)]، أي: في طلعة نخل، وأنتم تعلمون أن قشر النخل يسمى الطلعة، فقد وضعه لبيد بن الأعصم في هذه الطلعة في بئر يسمى: بئر ذروان.
قال: [(فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر فاستخرجه)].
وفي رواية عند البخاري كذلك: (أنه أرسل بعض أصحابه فاستخرجه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذه البئر التي رأيتها كأن ماءها نقاعة الحناء).
أي: هذه البئر هي التي قد رأيتها في المنام، وكأن ماءه كماء الحناء المنقوع، قال: (وكأن نخلها رءوس الشياطين)، يعني النخل الذي خرج من هذا البئر كأنه رءوس الشياطين.
قال: [(قالت عائشة: فقلت له: ألا تنتصر يا رسول الله!)].
وفي رواية: (ألا تنتشر)، أي: ألا تعالج نفسك بالنشرة، والنشرة عند المسلمين الأوائل وعند العرب معروفة، وهي: ضرب من ضروب العلاج كان الصحابة رضي الله عنهم يتعاطونه، ولا يزال إلى يومنا هذا من يتعاطى النشرة ويعالج بها من بعض الأمراض.(62/3)
علاج السحر وشروط الانتفاع به
كثير من الشباب في مقتبل عمرهم الزوجي أو بعد زواجهم، يشكون أنهم لا يقدرون على وصل نسائهم، فيشكو ذلك ولا علة فيه في الحقيقة، فهو يرى أنه كان قبل أن يقترب من امرأته طبيعياً، فإذا اقترب منها لا يقوى على وصالها.
فلاشك أن العلاج الشرعي في هذه القضايا هو ما أسماه العلماء: بالنشرة، وهي عبارة عن سبع ورقات خضر من ورق السدر، أو ورق النبق، والسدر والنبق هما شجرة واحدة تسمى السدر، وتسمى النبق في بعض النصوص، فتؤخذ الورقات السبع وتدق بين حجرين دقاً، ويطحنهما طحناً، حتى يصيرا كالعجينة، ثم يضعها في ماء كثير يسع للاغتسال، ثم يقرأ على هذا الماء آية الكرسي، والفاتحة، ويقرأ المعوذتين والإخلاص، يفعل ذلك ثلاث مرات، ثم يشرب من هذا الماء ويتظلع، فإذا شبع من هذا الماء اغتسل بالباقي.
ويعتقد أن العلاج من عند الله عز وجل، وأن الشفاء من عند الله؛ لأن اعتقادك أن الدواء شفاء بذاته هذا باب من أبواب الشرك، وإنما الدواء سبيل وسبب للشفاء، أما الشافي على الحقيقة فهو الله عز وجل.
وترك الأسباب -كما يقول أهل العلم- قدح في التوحيد، والاعتماد على الأسباب شرك بالله تعالى.
قدح في التوحيد أن تترك السبب، وشرك بالله أن تعتمد على السبب، تقول: أنا مريض بكذا، وعلاج هذا المرض هو الدواء الفلاني، فكوني قد أخذت هذا الدواء فلابد أن يتم العلاج، وأن يذهب الداء وأن تذهب العلة؛ لأن هذا الداء يناسبه الدواء، فإما أن يتعاطى الرجل الدواء بنسبة معينة، فتوافق هذه الجرعات ما عندك من مرض.
أما تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أتاه رجل وقال: (يا رسول الله! إن أخي يشتكي بطنه، فقال: أسقه عسلاً، فذهب فأمر أخاه أن يشرب العسل، ثم أتاه مرة أخرى فقال: (يا رسول الله، إن أخي لا يزال يشتكي بطنه، قال: أسقه عسلاً، فعل ذلك ثلاث مرات، وفي الثالثة قال النبي عليه الصلاة والسلام: صدق الله وكذبت بطن أخيك)؛ لأن الله تعالى صادق فيما أخبر سبحانه وتعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69].
يقول ابن القيم في شرح هذا الحديث: العلاج لا يؤثر في الداء إلا إذا ساواه في العطية.
فربما لا يذهب الداء إلا إذا أخذت جرعة بمقدار معين، أما إذا أخذت أكثر منها أو أقل فلا.
ألا ترون أن رجلاً يذهب إلى الصيدلية فيأتي بزجاجة من الأدوية فيتعجل الشفاء زعماً وظناً منه أنه لو تناولها كلها لكان ذلك أعجل في ذهاب المرض، فإذا به يموت أو يسم أو يمرض مرضاً خطيراً أعظم مما كان عنده، فيقول: كيف ذلك وقد أخذت العلاج أخذاً ربما لم يأخذه أحد مثلي؟! نعم لم يأخذه أحد مثلك، لكنك أخطأت الطريق، وربما وصفها لك الطبيب أن تشرب ملعقتين، فأنت شربت ملعقة واحدة، فقد أخذت جرعة أقل من الجرعة المطلوبة التي توازي مقاومة الداء، وهكذا في كل علاج.
هب أنك أخذت العلاج المناسب للداء، ولكن الله تعالى ما أذن لهذا الدواء أن يقوم بدور الطعام في البدن، وأن تكون في هذه الحالة قد قمت بأخذ السبب، كما لو أنك أردت أن تتزوج، وأن يكون لك ولد، فالسبب الموصل لحصول الولد أن تتزوج، ولا يتصور أن إنساناً عاصياً يقول: الله تعالى قادر أن يرزقني الولد بغير زوجة، فأنا أطلب من الله أن يرزقني الولد، ولكني أعزم ألا أتزوج، هذا لا يقوله إلا إنسان مجنون قد ذهب عقله.
أو يقول: الله تعالى قادر على أن يطعمني ويسقيني، نعم هو قادر على ذلك، ولكن القادر على ذلك هو الذي أمرك أن تأكل وأن تشرب؛ لأن الطعام والشراب سبب، وربما أكلت وشربت قدر ما يأكل عشرة وزيادة، ولكنك لا تشعر بالشبع ولا بالري؛ لأن الله أفقد من هذا الطعام خاصية الشبع، أراد لك أن تكون جائعاً مهما أكلت، فالذي يشبع في الحقيقة هو الله، والذي يروي من الضمأ في الحقيقة هو الله.
وربما تشرب، أو يشرب الإنسان الماء، ثم يشرب بعد الماء ماءً، وبعد الماء ماءً، وهكذا، ومع هذا يشعر دائماً بأنه عطشان، وإذا أراد الله تعالى لآخر أن يروى ولو بجرعة أو شربة ماء لكان ذلك، والله تعالى على كل شيء قدير.
إذاً: فلابد من اتخاذ الأسباب وعدم الركون إليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم طعام طعم وشفاء سقم)، يعني: من شرب ماء زمزم بنية أنه طعام طعم كفاه هذا الماء، وأنتم تعلمون أن أبا ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه ظل في أول العهد المكي في بئر زمزم أربعين يوماً ليس له من طعام إلا التمر، ولا من شراب إلا ماء زمزم، وخرج وقد صارت بطنه تجاعيد لحم من غذاء الماء، ومن غذاء التمر.
رجل لا طعام له إلا التمر والماء، مع أن الواحد منا الآن توضع أمامه المشنة من التمر والقلال من ماء زمزم، فإذا فرغ منها قال: أين الطعام؟ كأنه لا يعتمد على هذا، ولو لمجرد أنه سبب.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ماء زمزم لما شرب له).
تذهب إلى الحرم، وتشرب ماء زمزم بنية طلب العلم والجد فيه، وأن تبلغ فيه مبلغ السيوطي وابن حجر وفلان وفلان، وأنت في قمة الكسل لا(62/4)
الرد على من أنكر أن النبي سحر
قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على أحد شيئاً) -يعني: أنا أكره أن أثير على أحد ولو كان يهودياً شيئاً تقوم به الفتنة- ونزلت: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] إلى آخر السورة].
وهذا الحديث في صحيح البخاري، ومسلم.
والعجيب أن هذا الحديث أثار جدلاً لدى الأوساط العلمية، لكن في الحقيقة: لم يقل بتأويل هذا الحديث وصرفه عن ظاهره إلا كل إنسان فقد عقله، أو على الأقل لم تنضبط عنده الأصول العلمية السلفية.
فالكثير يستنكر هذا الحديث ويقول: هو حديث في غاية النكارة.
وليس في الحديث نكارة، ونحن قد علمنا أن الحديث في الصحيحين، اتفق عليه البخاري ومسلم، فكيف يحكم عليه بالنكارة، وإذا كان الحديث متفقاً عليه فهو في أعلى درجات الصحة؟ فكيف يحكم عليه بالنكارة لمجرد أن عقول هؤلاء لم تقبله؟ ولم يقل بإنكار هذا الحديث إلا المعتزلة والجهمية.
المعتزلة الذين اعتمدوا العقل أصلاً في قبول الأخبار أو ردها، فما وافق العقل من الأخبار قبلوه، وما رده العقل من الأخبار ردوه ولم يعتمدوه.
واعتبروا أن العقل حاكم على النص، والحقيقة عند أهل السنة: أن النص حاكم على العقل، وإلا لو كان العقل حاكماً على النص، فالعقول مختلفة ومتباينة، فما يقبل هذا لا يقبله ذاك والعكس بالعكس، وبالتالي: لا تنضبط الأمور العلمية، ولا تستقر الأحكام الشرعية، فيحصل اضطراب وخلل في المسائل الشرعية، بل في دين الله عز وجل كله.
ولذلك قبل العلماء هذا الحديث؛ لأنه قد توفرت فيه شروط الثبوت كلها، ومعلوم أن شروط القبول أو الثبوت كثيرة جداً اتفق العلماء على بعضها واختلفوا في البعض الآخر.
أما ما اتفقوا عليه بغير منازع فهو: شرط اتصال الرواية، وعدالة الرواة، وضبط الرواة، وانتفاء الشذوذ والعلة، هذه خمسة شروط اتفق عليها العلماء.
فهذا الحديث قد توفرت فيه هذه الشروط الخمسة.
واتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث، وكما يقول العلماء: الأحاديث المتفق عليها عند البخاري ومسلم في أعلى درجات الصحة، ليس صحيحاً فحسب، بل في قمة درجات الصحة، فكيف ترد هذه الأخبار لمجرد التوهم العقلي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسحر؟ ثم يثيرون شبهة أخرى فيقولون: سحر النبي عليه الصلاة والسلام يؤدي إلى إبطال الشرع بعدم الوثوق في كلام النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وأنه يأتي نساءه ولم يأتهن، لكن يخيل إليه ذلك.
فما المانع أن يخيل إليه أن الله تعالى أوحى إليه وفي الحقيقة لم يوح إليه؟ فيتكلم بكلام يظن أنه وحي وليس الأمر كذلك.
هكذا أثاروا هذه الشبهة، والرد عليها: أن التخييل في السحر: هو من باب الأمراض التي تلحق الأنبياء، فإن الأنبياء يبتلون ويمرضون، ويعذبون، كما فعلت بنو إسرائيل في أنبيائها، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يمرض بالحمى وبالسخونة، وكان يوعك في فراشه وعك اثنين منكم، كما قال: (إني أوعك كما يوعك الاثنين منكم)، يعني: يتألم، وقال في سكرة الموت: (إن للموت لسكرات)، وكان يعاني منها عليه الصلاة والسلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم جلس مدة من الزمان قبل أن يموت بساعات وهو مريض أصابته الحمى، وغير ذلك من الأمراض التي يشترك فيها الأنبياء مع غير الأنبياء.
وهذا أمر لا يؤثر على الوحي مطلقاً، ودليل ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينس شيئاً مما أوحى الله تعالى به إليه، وكلفه أن يبلغ ذلك إلى الأمة.(62/5)
عصمة النبي في باب البلاغ
أما عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في باب التلقي والبلاغ فثابتة بالقرآن والسنة، وإجماع الأمة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم فيما تلقى عن ربه وفيما بلغه إلى الناس، لم يخف عنه شيئاً، ولم يزد في الشرع شيئاً، هذا أمر محل إجماع، ودليل الإجماع: نصوص الكتاب والسنة، ولذلك النسيان عرض من الأعراض، وقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيان، ولو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسى أو أن نسيان الأنبياء يطعن في الشرع؛ لأنه ربما نسي حكماً شرعياً، فأبدل مكانه كلاماً من عنده ظناً منه أنه وحي وليس كذلك، فلابد أن نقول حينئذ: إن نسيان الأنبياء أمر قد يقدح في الشرع، وليس كذلك باتفاق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نسي ولكن نسيانه لم يكن له أدنى تأثير على الوحي، لا من قريب ولا من بعيد؛ بدليل أنه عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً من أصحابه يقرأ في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فقال: (يرحم الله فلاناً قد ذكرني آية كنت قد نسيتها).
وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام الظهر مرة ركعتين، ثم سلم، فتهمهم الصحابة فيما بينهم، ولم يجرؤ أحد أن يراجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك إلا رجلاً طويلة يداه يلقب: بذي اليدين، فقام إليه وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله: أم نسيت، ولو كان النسيان ممتنعاً في حق الأنبياء لقال له: كيف تعتقد في النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينسى؟ أما علمت أن النسيان يؤثر في الوحي، ويؤثر في البلاغ؟ فلما لم يقل له ذلك؛ فدل هذا على إقرار هذا الصاحب أن الأنبياء ينسون، وأنه لا حرج عليهم في ذلك، وأنهم ما نسوا شيئاً إلا بعد البلاغ.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما كان يتعجل أن يحفظ ما يلقى إليه عن طريق جبريل ويحاول قبل أن ينصرف جبريل عنه أن يحفظ الآيات التي نزلت، فأنزل الله تعالى قرآناً يضمن له أنه لا ينسى ذلك قبل البلاغ، فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
يعني: لا تتعجل أن تحفظ ما يلقيه عليك جبريل ولا تهتم لذلك، فسيعيده لك مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً حتى تحفظه حفظاً جيداً، وتفهم معناه وتأويله وتفسيره، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19]، أي: شرحه وتوضيحه وتفسيره، فلا تحمل الهم يا محمد، إنك لن تنسى أمراً قبل أن تبلغه للناس، مستحيل أن يكون ذلك؛ لأن هذا باب من أبواب العصمة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من أن يتلقى الوحي عن الله ثم ينساه، وقد لا يبلغه للأمة، هذا مستحيل! ومن قال بذلك كفر بالله تعالى، لأنه يلزمه أن يقول: إن الشريعة لم تتم، وإن الدين لم يكمل، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].
فالنبي عليه الصلاة والسلام ما مات حتى بلغ دين الله تعالى كاملاً، وأقره الله تعالى على ذلك قبيل موته، فأنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فالذي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم نسي أن يبلغ شيئاً يلزمه أن يقول: إن الدين لم يكمل، وإن الشريعة لم تتم، وبالتالي: يلزمه أن يكذب الله تعالى فيما أخبر وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فإذا كان النبي نسي شيئاً فالدين لم يكمل، فتكون هذه الآية كذب عياذاً بالله تعالى.
فهذا باب من أبواب الضلال العظيم.
والنبي عليه الصلاة والسلام لما قام إليه ذو اليدين وقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة؟ أي: أنزل عليك جبريل يأمرك بقصر الصلاة، فصليت الظهر ركعتين بدل الأربع، أم أنك نسيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قصرت وما نسيت)، يعني: لم ينزل علي الوحي بأنها قصرت، وما أظن أني نسيت، فقال: يا رسول الله! بل قد صليت ركعتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحيح ما يقوله صاحبكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! فقام وكبر وصلى ركعتين ثم سلم، ثم سجد للسهو).
فالنبي صلى الله عليه وسلم نسي بعد البلاغ، إذ إن ذا اليدين ما قال له ذلك إلا لشرع قد استقر عنده آنفاً أن الظهر أربع ركعات.
إذاً: النسيان الطارئ على الأنبياء لا يطرأ إلا بعد البلاغ، أما قبل البلاغ فمستحيل؛ لأن هذا يناقض عصمة التلقي والبلاغ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، بل كل الأنبياء معصومون في هذا الباب.
فقالت له عائشة: (يا رسول(62/6)
شرح حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات)
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات)]، أي: إياكم أن تقربوا هذه الموبقات المهلكات التي إذا اجتمعت على صاحبها، أو انفردت به واحدة منهن أهلكته ودمرته، والسبع الموبقات، أي: المهلكات.
قال: [(قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله)]؛ لأن الشرك بالله أعظم ذنب، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
والذي دون الشرك هو الكبائر والصغائر من الذنوب، أما الشرك فهو أكبر الكبائر على الإطلاق، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، ومغفرة ما دون الشرك متعلق بالمشيئة، ولذلك قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وأصحاب الكبائر في مشيئة الله إن شاء عذبهم غير ظالم لهم، وإن شاء عفا عنهم متفضلاً عليهم سبحانه وتعالى.
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، وغير ذلك من آيات الوعيد والتهديد فيمن أشرك بالله تعالى.
قال: [(اجتنبوا السبع الموبقات.
قيل: يا رسول الله! ما هن؟ قال: الإشراك بالله، والسحر)].
فتبين أن السحر له حقيقة، وله واقع، والعجيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر السحر بعد الشرك بالله، فكأنه من أخطر الذنوب والمعاصي.
ومن أهل العلم من ذهب إلى كفر الساحر، بل ذهب جماهير العلماء إلى أن الساحر كافر.
قال: [(وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)]، فكل نفس معصومة إلا ما أحل الله تعالى إزهاقها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
(النفس بالنفس) يعني: لا تقتل نفس إلا إذا قتلت، فتقتل حداً وقصاصاً بمن قتلتها.
(والتارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين) هو المرتد.
و (الثيب الزاني) ولم يقل: الزاني؛ لأن مطلق الزنا قبل الإحصان لا يستوجب إلا الجلد مائة وتغريب عام على خلاف في التغريب، فإن بلاد الكفر لا يأمن المرء فيها على دينه، فكأنه في سياحة لا منفى.
أنت كنت تشعر بشيء مما يسميه الغرب: الحرية، فهذه كذبة، ولا تزال معلومة لأهل العلم وأهل الإيمان أنها كذبة وخدعة، والله ليست حرية مطلقة، ما قيمة الحرية إذا أعطتني هذه البلاد حرية الزنا، والقتل، والخمر، وأكل الخنزير، والتعامل بالربا؟ هذا هو السجن الحقيقي الذي يؤدي بصاحبه إلى نار جهنم عياذاً بالله.
فمهما عومل المرء في بلاد الإسلام بعنف وقوة وقسوة فهو خير له ألف مرة من بلاد يرى فيها في الظاهر الحرية، وهي ليست كذلك، أي حرية من يحكي لك الكبائر، ويقصها لك، ومستعد أن يقبل منك أي حل إلا أن تقول له: اذهب إلى بلادك وارجع إلى بلادك، فلا يقبل هذا الحل؛ لأنه ألف حياة المعاصي، وأنتم تعلمون أن المعصية الأولى تؤدي إلى الثانية، والثانية تؤدي إلى الثالثة وهكذا، ولا يزال المرء إذا عصى الله تعالى في أمر من الأمور يستعظم المعصية في أول الأمر، فالذي يزني مثلاً أو يشرب الخمر، كان مثلك تماماً قبل أن يزني أو يشرب، كان لا يستسيغه، لكن مرة مع الثانية مع الثالثة استساغه، وصار أمراً مألوفاً له، وكذلك الزاني إذا زنى أول مرة ارتعدت فرائصه، وظن أن الله تعالى لا يغفر له، ثم يمنيه الشيطان ويزين له المعصية مرة ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة حتى يدمن الزنا، ولا يستغني عنه إلا من رحم الله.
ثم بعد ذلك هذا الشعور الإيماني الذي ارتجف منه في أول مرة لا يشعر به بعد ذلك، فيموت قلبه تماماً ولا يفكر في الله تعالى، ولا يفكر لا في جنة ولا في نار، إنما جنته هي فعله سائر المحرمات، نسأل الله العافية لنا ولكم.
فهذه الحرية التي يتمتع بها بلاد الغرب ما هي بالنسبة للمؤمن إلا نار جهنم، ولذلك أهل الإيمان لا يطيقون أبداً المكث في بلاد الكفر، وهم مأمورون أن يتركوا هذه البلاد، وأن يذهبوا إلى بلاد المسلمين، خاصة في هذه الأيام التي صارت فيها أوروبا وأمريكا بلاد حرب على الإسلام والمسلمين، ويجب على المسلمين والموحدين في كل بلاد أوروبا وأمريكا أن يتركوها وأن يعودوا إلى بلادهم شاءوا أم أبوا، فهذا حكم الله عز وجل.
قال: [(الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا)]، فالربا من أعظم الكبائر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أكل ديناراً من الربا وهو يعلم أنه ربا فهو أشد عند الله من ست وثلاثين زنية)، مَن مِن الناس يستشعر أنه وهو يأكل مال الربا أنه يقع في ذنب أعظم من ست وثلاثين م(62/7)
النهي عن تعلم السحر وممارسته
قال: [وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم باباً من النجوم تعلم باباً من السحر زاد ما زاد)]، أي: فمن تعلم باباً من النجوم فقد تعلم باباً من السحر، والله تعالى يقول: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، فبين أن للنجم منفعة كما بين أن للنجم مضرة ومفسدة، فمنفعة النجم: أن تهتدي به إلى الطرق، وإلى الأوطان، ومعرفة الأشهر بدايتها ونهايتها وغير ذلك، وهذا من العلم النافع بالنجوم، والعلم المضر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بفضل الله فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فقد أصبح كافراً بي مؤمناً بالكوكب).
قال: [وعن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة قال: كنت كاتباً لـ جزء بن معاوية ثم الأحنف بن قيس، وأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة، قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة].
هذا الكتاب كتبه أمير المؤمنين عمر لولاته: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس.
يعني: إذا رأيتم الرجل تزوج أمه أو أخته، أو ابنته أو عمته أو خالته أو جدته ففرقوا بينهما، وانهوهم عن الزمزمة، والزمزمة نوع من أنواع السحر.
قال: [فقتلنا ثلاث سواحر، وفرقنا بين الرجل ومحارمه كما نص على ذلك كتاب الله تعالى.
وصنع طعاماً كثيراً، وألقوا وقر بغل أو بغلين من ورق، وعرض السيف على فخذه فأكلوا بغير زمزمة]، والحديث يطول شرحه جداً وهو عند البخاري في الصحيح.
قال: [وعن رجل من ولد عروة بن مسعود أنه دخل على عائشة وسمع أمه وجدته، سمع امرأة تسأل عائشة: هل علي جناح أن أزم جملي؟ أي: هل علي وزر وذنب وإثم أن أسحر جملي؟]، وبلا شك أن الجمل في الظاهر هو الجمل البعير، ولكنها أرادت هنا بالجمل البعل والزوج.
قال: [فقالت عائشة: لا.
قالت: يا أم المؤمنين! إنها تعني زوجها -أي: هذه المرأة لا تقصد الجمل، وإنما تقصد البعل أو الزوج- قالت عائشة: ردوها علي، فقالت وهي راجعة: ملحة ملحة في النار، ملحة ملحة في النار، وهذا كلام يستخدمه السحرة ويفهمون معناه، فقالت عائشة: اغسلوا على أثرها بالماء والسدر]، يعني: اغسلوا أثر خطواتها التي مشتها في الطريق بماء وسدر.
فتبين أن هذا أحد العلاجات لذهاب السحر، وهو غسل الأماكن بالماء والسدر.(62/8)
ما ينبغي أن يتمتع به المعالج بالقرآن من خصال
والعلاج بالقرآن الكريم لا ننكره، وإنما نقول بمشروعيته، ونعتقد صحته في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هؤلاء الإخوة المعالجون بالقرآن في الغالب أنهم يتصدرون بغير علم فيفسدون أكثر مما يصلحون، قد يكون كثير منهم في الغالب ما عنده شغل، وليس له مصدر دخل فيتخذ هذا مصدراً للدخل، وعدته قليلة، فتصور أن هذا أخف عمل يحتاج إلى عدة، فيستقبل المريض على قفاه وعلى وجهه وعلى صدره ويلاقيه وهو كامل البدن فيخرج بغير ذراع، أو بغير رجل، أو بغير ضلع.
ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب أحداً، ولم يثبت عن شيخ الإسلام ولا عن الإمام أحمد، والإمام أحمد بن حنبل لم يكن متخصصاً بشأن العفاريت، فلم يكن عالم متخصصاً من الأئمة لهذا الكلام.
فهذا الأمر يريد جبالاً من التقوى، لأن الجني وهو في بدن المصروع يراك قادماً عليه فيفر ويهرب.
أحمد بن حنبل ثبت عنه رضي الله تعالى عنه ورحمه أنه كان يرسل نعله، كان يبعثه مع ابن هاني، أو مع عبد الله ولده، فيأتي إلى المصروع، فينطق الجني من غير أن يكلمه عبد الله ولا ابن هاني، ويقول: قل لـ أحمد: لو أمرتنا أن نخرج من بغداد لخرجنا، ليس من هذا المصروع فقط، فـ أحمد بن حنبل كان بغدادياً، فهو من بلد صدام، فأين الثرى من الثريا؟ أما بعض أهل العلم الموثوق بدينهم وأمانتهم وورعهم، فإن الله تعالى يجري على أيديهم الطيبة الطاهرة كثيراً من الشفاء من حالات المرض، وهذا الذي يقدره الإنسان ويحترمه أشد الاحترام.
الجن يحتاجون إلى علم راسخ أصيل حتى لا يزل المؤمن مع الجن، فقد يضحك عليه هؤلاء الجن، كما رأيت بعين رأسي منذ سنوات عديدة سنة خمس وثمانين في الجمعية الشرعية بالمنصورة، واحداً من كبار القوم بل أقول: إنه صاحب مدرسة الجن في هذا العصر، أتته امرأة مصروعة على باب المسجد وقال له وليها: هذه امرأة مصروعة، وأريد أن تعالجها، وأن تقرأ عليها، فقرأ عليها إلى أن حضر الجني، فقال له الشيخ: اخرج، قال: لن أخرج إلا إذا أعطيتني سيجارة، ثم قال له الجني: أنا أشربها لكن لابد أن تولعها، فقال له: أولعها لك، ثم قال له الجني: اشرب منها نفسين، فشرب الشيخ منها نفسين ووضع السجارة في فم المصروع، وهكذا أصبح الشيخ بالنسبة للجني لا قيمة له، فالجني عرفه من أول جولة، وانتهى أمره مهما فعل لا يمكن أن يحترمه الجني.
فتصور أن إنساناً لا يحترم أحداً من الإنس ولا من الجن، هذا لخوائه وفراغه مع الله عز وجل، ولو كان صاحب علم لأخبره بحرمة الدخان فوراً، وأتى له بالآيات والأحاديث التي تذيبه ويجعله يهرب من بدن المصروع.
إنما هذا الإنسان هو الذي يسيره الجن، فكيف يستقيم هذا؟! وهذا رجل أتى إلى هذا المسجد سنة ست وثمانين وسبع وثمانين، وكان له مجلس عظيم جداً يشهده أناس كثيرون، وكان صاحب دعوة زواج الإنسي من جنية، وقال: قال بذلك ابن تيمية، والإمام مالك.
وفي الحقيقة الإمامان قالا بإمكانية وقوع ذلك مع حرمتها، وهناك فرق بين إمكانية الوقوع ومشروعية الوقوع، بدليل أن الناس تسرق وتقتل وتزني وتشرب الخمر وغير ذلك، فهذا ممكن الوقوع لكنه ليس مشروعاً، فكذلك زواج الإنس والجن ممكن الوقوع، لكنه ليس مشروعاً.
وضحك على هذه التفاهة الآلاف من الناس التي كانت تحضر له في هذا المكان، ومن ضمن ما قال: يوم الأحد الآتي سنزوج فلاناً من خشخاشة من الجن، فكلما يقول لها تظهر من أجل أن تنظر تلاقي العدد يزيد أربعة أضعاف، فإذا خشخاشة مشغولة وما قدرت تأتي، واعتذرت لي بالتلفون.
وقد التقيت به في مؤسسة الريان، وكان قد تقدم باثني عشر كتاباً لكي نطبعها، وكل هذه الكتب عن الجن، قال لي: أنا عندي موسوعة من خمسة وعشرين كتاباً، قلت: لم هذا كله؟ والآيات والأحاديث المتعلقة بهذا العالم لا تتعدى عشر صفحات في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه السلام، لم هذا الكم الهائل تشغل الناس بالكلام الفارغ؟ قال لي: هذا كلام فارغ؟ قلت: نعم، وأنا قد أعددت لك رسالة وأسميتها: إرشاد المحتار في الرد على الشيخ العطار.
فقرأ الرسالة ثم قلت له: سأشرح هذه الرسالة في يوم الأحد القادم في مسجد الرحمة، أنا سأجلس بجانبك وأنت تقول الذي عندك وأنا أقول الذي عندي، فقال لي: لأجل هذا لا تحرجني، قلت له: إذاً: تقسم لي على كتاب الله تعالى أن خشخاشة هذه اتصلت عليك، وأنك تعلم امرأة من الجن معروفة لديك، وأنها على وعد معك أنها ستتزوج محمداً هذا؟ قال: لا والله، ولكن أحببنا أن نجمع الناس؛ لكي نقول لهم أي شيء.
فقلت: ما دام أنت جمعت الناس فلم لم تقل شيئاً، وقد ظللت شهر أو شهرين في وسط عمان تعد الناس بإيقاع الزواج، لم لم تنفذه؟! فاقتنع الرجل أن هذا غير مشروع، ولا يجوز وقوعه وغير ذلك.
وحكيت له أن رجلاً كان معنا قبل سنة خمس وسبعين في الأردن، وفعلاً كانت تظهر(62/9)
قصة عائشة رضي الله عنها والمرأة الساحرة
قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك -أي: بعد موته عليه الصلاة والسلام مباشرة، فلازال موته حديثاً- تسأل عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعلم].
أي: أن هذه المرأة كانت تتعلم السحر، وأتت بعض أعمال السحر وهي لم تعلم أن هذا سحر، لكنها أرادت أن تتوب إلى الله عز وجل، فأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تسأله عن صحة توبتها.
قال: [قالت عائشة لـ عروة: يا ابن أخي! فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، تقول: إني لأخاف أن أكون قد هلكت، ثم تقص القصة، قالت: كان لي زوج فغاب عني، فدخلت عليَّ عجوز فشكوت إليها ذلك، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فسأجعله يأتي.
فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين -والكلب الأسود شيطان بنص الحديث- فركبت أحدهما وركبت الآخر -والكلب لا يركب- فلم يكن كشيء حتى وصلنا إلى بابل -وهي المدينة المعروفة- فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر.
فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت ففزعت ولم أفعل، فرجعت إليهما فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم.
فقالا: هل رأيت شيئاً؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي، ما بلت في التنور -والتنور هو الفرن- فارجعي إلى بلادك ولا تكفري، وأبيت -أي: فأرادت أن تتعلم السحر وأبت أن ترجع- فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعر جلدي، ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت لم تفعلي فارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك]، يعني: أنت الآن لا زلت بخير.
قال: [قالت: فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد قد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني].
يعني: لما بالت في التنور رأت فارساً مقنعاً مربوطاً في الحديد قد خرج من بدنها وصار يحلق في السماء حتى غاب عنها.
قال: [قالت: حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك].
وهذا يؤيد مذهب من ذهب إلى كفر الساحر.
قال: [ثم قالا: اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً وما قالا لي شيئاًَ، قالت: بلى.
إن تريدي شيئاً إلا كان].
المرأة العجوز تقول لهذه المرأة بعد هذا الذي خرج منها ورأته بعيني رأسها: لا تطلبي شيئاً إلا كان.
قال: [ثم قالت: خذي هذه الحنطة فابذري، فبذرت، فقلت: اطلعي فطلعت، فقلت: احقلي -أي: املئي الحقل بهذا البذر- فأحقلت، ثم قلت: افركي ففركت، ثم قلت: أيبسي -يعني: صيري جامدة- فيبست، ثم قلت: اطحني فطحنت، ثم قلت: اخبزي فخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان سقط في يدي وندمت.
والله يا أم المؤمنين! ما فعلت شيئاً قط ولا أفعله أبداً، قالت عائشة: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ متوافرون -أي: كثيرون لما سألتهم عن ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم- فما عرفوا ما يقولون لها].
وكان أمرهم مبنياً على الورع، فما عرفوا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، قال: [إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما.
قال هشام: فلو جاءتنا اليوم أفتيناها بالضمان].
كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان).
يعني: الذي فعلته قبل ذلك أنت ضامنة له، فما أفسدتي شيئاً إلا وقد وجب عليك أن تصلحي ما قد أفسدت.(62/10)
ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن إبليس خلق من خلق الله
قال: [ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن إبليس خلق من خلق الله].
إبليس مصدر الشر، ومع هذا فالله هو الذي خلقه، والله تعالى أذن في وقوع الشر كما أذن في وقوع الخير، وهو الخالق الموجد للشر كما أنه الخالق والموجد للخير.
أما العبد فهو المكتسب للخير والشر، العبد هو الذي مارس بجوارحه صورة الخير وصورة الشر.
أما الذي أذن في وجود الخير والشر فهو الله عز وجل.
قال: [ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن إبليس والجن خلق من خلق الله يرون من يريهم الله لا كما زعمت المبتدعة أن الجن لا حقيقة لهم، وأن إبليس كل رجل سوء]، وهذا قول الفلاسفة وقال بقولهم الجهمية.
قالوا: ما هناك شيء اسمه المسيح الدجال، والمهدي المنتظر.
والمستقر في عقيدة أهل السنة والجماعة: أن عيسى بن مريم لم يمت، ولم يقتل، ولم يصلب، وإنما رفعه الله عز وجل إليه، فهو عنده حي، وسينزل في آخر الزمان يدعو بدعوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ويضع يده في يدي المهدي المنتظر، وهو الذي يقتل المسيح الدجال عند باب لد في فلسطين.
وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة وليس فيها خلاف.
أما أهل البدع فقالوا: لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه المسيح الدجال، إنما هو رمز للشر.
وكذلك المسيح عيسى بن مريم إنما هو رمز للخير، وما ورد أن المسيح عيسى بن مريم يقتل المسيح الدجال، فهو كناية عن انتصار الخير على الشر في آخر الزمان، وهذا ضلال مبين قال به كثير من المعاصرين فضلاً عن المتقدمين.
فالجهمية أو المبتدعة عموماً أتباع الفلاسفة يقولون: بأن إبليس ليس له حقيقة، ولا كنه، إنما هو رمز الشر، أراد الله عز وجل أن يعبر به على عادة العرب، كالأم لما تريد أن تخوف ابنها تقول: اسكت وإلا سآتي لك بالعفريت، فانبطع في ذهن هذا الغلام الصغير أن العفريت شيء مخيف، فيخرج الولد بهذا الانطباع ويتربى على أن العفريت عبارة عن رمز الشر وليس جسماً، ولا كنهاً.
وقالوا أيضاً: لا يوجد شيء اسمه إبليس أو شياطين أو جن، إنما هي أسماء للشر.
كما يقولون أيضاً: السحر مجاز عن الشر، ومعلوم أن السحر له حقيقة، وهذا مذهب جماهير أهل العلم من أهل السنة والجماعة أن السحر له حقيقة.
وبعضهم يقول: السحر ليس له حقيقة، وإنما هو خيالات وتوهمات، وهذا بلا شك رأي فاسد باطل ترد عليه أدلة الرأي الأول.
قال: [قال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجن على ثلاثة أصناف: ثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون)]، يعني: يروحون ويجيئون مسافرين قاعدين وغير ذلك.
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أحتفظ بزكاة رمضان، وأتاني آت من الليل، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وحالي شديدة -يعني: أنه محتاج وله عيال- قال: فرحمته فخليت سبيله، فلما أصبح أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: يا نبي الله! زعم أنه محتاج وحاله شديدة فرحمته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود، فلما كان في الليلة الثانية رصده أبو هريرة فجاءه فأخذه فقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، زعمت أنك لا تعود فقد عدت، قال: دعني فإني محتاج وحالي شديدة، فخلى سبيله، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك الليلة؟ قال: يا رسول الله! شكا حاجة وعيالاً وإني رحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فلما كان في الليلة الثالثة راقبه أبو هريرة فتخبأ له فأخذه فقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها)]، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا حريصين على الخير.
قال: [(إذا أخذت مضجعك -يعني إذا أردت أن تنام- فاقرأ آية الكرسي): {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] إلى آخر الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأصبح فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما فعل أسيرك الليلة؟ قال: يا نبي الله! علمني كلمات زعم أن الله ينفعني بها، قال: وما هي؟ قال: أمرني أن أقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها، فإنه لن يزال علي من الله حافظ، ولا يقربني شيطان حتى أصبح، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد صدقك وهو كذوب)].
أي: فيما أخبرك به إنه لصادق وإن كان الأصل فيه أنه كذوب، قال: [(أتدري من يخاطبك يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: فذاك شيطان)]، وهذا الحديث في البخاري.
وعليه فلا ي(62/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد اختص الله عز وجل الأنبياء والرسل بالمعجزات، واختص الأولياء بالكرامات، وكل ذلك من خوارق العادات، ولكن معجزات الرسل مصحوبة بالتحدي لأقوامهم، وإقامة الحجة عليهم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أكثر الرسل معجزات، منها ما حصل وشهد عليه أصحابه، كنبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الحصى والطعام بين يديه، ومنها ما حصل بعد وفاته من بشارات ودلائل على نبوته، أما أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم فهو القرآن والذي سيبقى ما بقيت السماوات والأرض.(63/1)
الفرق بين المعجزة والكرامة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لقد اختص الله عز وجل الأنبياء والرسل بالمعجزات، واختص الأولياء بالكرامات، وجعل الجميع يشتركون في صفة وهي: أن ما يحدث لهم هو من خوارق العادات، فالمعجزة خارقة للعادة، والكرامة خارقة للعادة، بل حتى السحر كذلك، لكن المعجزة تختلف عن الكرامة بأنها خاصة بالنبي، ولذلك سميت معجزة؛ لأنها مصحوبة بالتحدي، فالنبي يتحدى قومه أن يأتوا بمثلها، ولذلك تحدى الله تعالى في كتابه أبلغ العرب وأفصحهم أن يأتوا بمثل هذه القرآن، أو بعشر آيات، أو بسورة، أو بآية، فما أفلح أبلغهم وأفصحهم وأبينهم وأعذبهم لساناً أن يأتي بآية واحدة تشبه آية من كتاب الله عز وجل، مع أن الله تعالى تحداهم في مجال مشهود لهم فيه بالكفاءة.
كان الأعرابي في باديته يعلم لحن القارئ؛ لأن الآية عنده لا تستقيم على ذلك النحو، فإذا صححها التالي وافقه على هذا التصحيح، وهو أعرابي ربما لم يسمع أهل العلم من قبل، لكن القوم كانوا أبلغ الخلق، ومع هذا فقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا ولو بآية واحدة مما أوحاه الله وأنزله على محمد عليه الصلاة والسلام فعجزوا عن ذلك، ولذلك المعجزات لا تكون إلا للأنبياء، بخلاف الكرامة فإنها تكون للنبي ولغيره، لأن المعجزة ما هي إلا كرامة لهذا النبي، وإظهار لنبوته.
كما أن المعجزة مصحوبة بالتحدي، وإلا فلن تكون معجزة، أما الكرامة فغير مصحوبة بالتحدي، وإلا كانت معجزة، ولذلك إذا أجرى الله تعالى كرامة على يد رجل صالح فلا يحل له أن يتحدى بها، وإلا كانت باباً عظيماً من أبواب فساد القلب لمن جرت على يديه هذه الكرامة، ويوشك أن تؤخذ منه، وأن يحرمها بقية حياته؛ لأنه لا يحل له أن يتحدى بها، بل الكرامة للأولياء والصالحين إنما هي محض فضل من الله عز وجل.
وإذا أردنا أن نفرق بين الكرامة وبين السحر، ونميز بين ما إذا كانت هذه الخارقة للعادة هي كرامة أم دجل، فلابد من النظر إلى من جرت على يديه هذه الخوارق، وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله وكلام من سبقه وأتى بعده، يقول: لا تحكم على فعل الرجل إلا إذا نظرت إلى دينه واستقامته، فإذا جرت على يديه أمور خارقة للعادة فلا تحكم بأنها كرامة أو دجل إلا بعد النظر إلى استقامة الرجل وإلى دينه، فإذا كان مستقيماً فهذه كرامة، وإذا كان غير مستقيم فهذا دجل، ويقول في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان): إذا رأيت الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تحكم له حتى ترى أمن أهل الاستقامة هو أم لا؟ فإذا كان من أهل الاستقامة فاعلم أن ما هو عليه كرامة من الله عز وجل وإلا فلا.
هذه مقدمة سريعة في بيان الفرق بين المعجزة وبين الكرامة، وبين السحر أو الدجل.(63/2)
حديث قصة أبي سفيان مع هرقل وما فيها من المعجزات
لم يأت النبي عليه الصلاة والسلام بمعجزة واحدة فحسب بل أتى بمعجزات عدة، بل هو أكثر الأنبياء معجزة، وإذا كان قد جرى على يد موسى أو عيسى أو إبراهيم عليهم السلام بعض الأمور الخارقة للعادة، وهي معجزات في حق الأنبياء، فلابد أن تعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد جرت على يديه المئات من المعجزات الخارقة للعادة، والتي لا تكون إلا على يد نبي، نذكر بعضاً منها: قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن عباس قال: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في -أي: من فمه إلى مسمعه مباشرة- قال: انطلقت في المدة التي كانت بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم، جاء به دحية الكلبي رضي الله عنه، فدفعه إلى عظيم بصرى -أي: إلى أمير بصرى، وهي إحدى القرى بالشام، وهي غير البصرة التي هي إحدى مدن العراق- قال: فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل] وهو سيد مملكة الشام، وكانت الشام تحت حكم الرومان في ذلك الوقت، وأبو سفيان لما ترك مكة وذهب إلى الشام كان هذا في مدة عهد صلح الحديبية بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين مشركي مكة.(63/3)
أسئلة هرقل لأبي سفيان
وكان أبو سفيان أثناء حديثه مع هرقل يتمنى لو أنه يكذب كذبة واحدة، ولكن لما كان الكذب صفة مذمومة حتى في الجاهلية، وخاف أبو سفيان أن يؤثر عنه الكذب في قومه ترك ذلك، وكان يريد أن يكذب إظهاراً لعوار يلحق محمداً عليه الصلاة والسلام.
[قال هرقل لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ أهو من أوضع القوم، أو من أعلى القوم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب]، وهذا صحيح، أما من جهة الحسب فهو خيار من خيار من خيار.
[قال: فهل كان من آبائه ملك؟ -يعني: من عائلته: أبوه، جده، جد أبيه، جد جده- قال أبو سفيان: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول؟ -أي: قبل أن يزعم أنه نبي، وأنه يأتيه الوحي والخبر من السماء؟ - قال: قلت: لا].
وأنتم تعلمون أن أهل الجاهلية كانوا يدعونه الصادق الأمين قبل أن يوحى إليه، ولو أنه قال: نعم، لطولب بالبينة، ولكن أبا سفيان صدق في الجواب.
[قال هرقل: من تبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: لا، بل ضعفاؤهم هم الذين اتبعوه، قال: فهل يزيدون أم ينقصون؟ -أتباعه عليه الصلاة والسلام في زيادة مستمرة أم ينقصون؟ - فقال: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة لدينه؟] بيت القصيد هنا: هل يرتد سخطة لدينه؟ أما الذين ارتدوا فهم كثير، لكن هل فعلاً يرتد أحد سخطة لدينه؟ الآن كثير من المسلمين إذا ذهب إلى بلاد الكفر، وضاق به الحال هناك ذهب إلى الكنائس وإلى أديرة اليهود يأخذ مالاً مقابل أن يغير اسمه وبطاقته وينطق بشهادة الكفر، أن ينخلع من إسلامه ويدخل في دين اليهود أو النصارى، لكن الذي دفعه إلى ذلك هو حاجته، لكنه في الحقيقة وفي قرارة نفسه لا يرتد سخطة لدينه، بل حبه لدينه سيظهر وقتاً ما، فهو يسأله هنا: هل يرتد منهم أحد بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ [فقال أبو سفيان: لا.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، يصيب منا ونصيب منه].
أي: يأخذ منا تارة ونأخذ منه تارة، يغلبنا تارة، ونغلبه أخرى.
[فقال هرقل: هل يغدر؟ قلت: لا، ونحن في مدة لا ندري ما هو صانع فيها]، هذه هي الفرصة الوحيدة لـ أبي سفيان التي استطاع أن يدخل منها ويطعن في النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: إذا كان الغدر ليس من شيمته، وليس معروفاً عنه حتى قبل البعثة، فكيف يغدر؟ الإجابة سليمة إلى الآن، لكنه أراد أن يغمز النبي من خلال هذه الإجابة، ثم يقول: [فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه.
قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ -هل زعم أحد قبله أنه نبي؟ - قال أبو سفيان: لا].(63/4)
رد هرقل على إجابات أبي سفيان واستنتاجاته منها
[قال هرقل لترجمانه: قل له -أي: قل لـ أبي سفيان - إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها].
إذاً ليس هناك نبي عنده منقصة في قومه، ولا في حسبه، فقد أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل وهم أشراف أقوامهم، وأحساب أقوامهم.
قال: [وسألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لكان رجلاً يطلب ملك آبائه]، أي: له حق مسلوب مغصوب يطالب به الآن، بعد أن اشتد ساعده يطالب بثأر آبائه وأجداده.
[وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال هرقل: وهم أتباع الرسل].
ولذلك الإسلام ينتشر بحمد الله عز وجل في طبقة الفقراء أكثر من انتشاره في طبقة الأغنياء، والالتزام والإقبال على دين الله عز وجل، والتمسك بالسنة إنما يكون بين الفقراء أكثر، فالإسلام ينتشر، والالتزام يظهر، وتظهر السنن في وسط هؤلاء الأقوام على علة فيهم على أية حال، لكن يبقى أن الإسلام يجد طريقه سهلاً ميسوراً إلى قلوب الفقراء والمساكين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وهو حديث حسن على الراجح، وغير ذلك من الآيات التي وردت في كتاب الله تحث على صحبة المساكين، وعدم ازدرائهم، وكذلك في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والناظر إلى أتباعه يجد أن من أوائل أتباعه صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وغير ذلك من الموالي والعبيد.
قال: [وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويذهب يكذب على الله عز وجل]، يعني: لا يتصور أنه يدع الكذب عليكم ثم يكذب على الله! لأن الذي يكذب على الله من باب أولى أن يكذب على الناس، والذي اعتاد الكذب في حديث الناس ربما يكذب على الله عز وجل، فإذا كان النبي عليه السلام لا يعلم عنه الكذب قط في حديثه مع الناس فمن باب أولى ألا يفتري الكذب على الله عز وجل بأن الله أرسله، وأن الله أوحى إليه، وأن الله تعالى كلفه بالرسالة والنبوة كل هذا ممتنع في حقه؛ لأنه لم يعلم عنه الكذب في حديث الناس؛ فمن باب أولى أن يكون كذلك مع الله.
قال: [وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة لدينه؟ فزعمت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب].
يعني: إذا تمكن نور الإيمان من القلب لا يمكن أن ينخلع منه، ولذلك الذي يرتد عن دينه، أو منهجه، أو مسلكه لابد أن تعلم أن أصل تربيته على هذا النهج كان فيها خلل، فالذي يتحول عن تمسكه بالكتاب والسنة ويترك مذهب ومنهج السلف وسبيلهم فلابد أن تعلم مهما طال التزامه وانخرط في سلك السلف لابد أن تعلم أن تربيته إنما كانت تربية سطحية ليس فيها تأصيل، ولذلك لما عرض عليه منهج الغير تحول إليه، ولذلك لا يمكن لأحد قط أن يتعرف على منهج الخلفاء الراشدين، والأئمة المتبوعين وكلامهم في المنهج، والمسلك، والمشرب، والأخلاق، والسلوك، ثم يتعرف على أئمة الرواية كـ البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وأحمد بن حنبل وغيرهم ثم يرضى أن يكون بعد هؤلاء العظماء الشرفاء تبعاً لواحد من الناس خطؤه أكثر من صوابه، لابد أن يكون في تربيته خلل.
قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت.
أنهم يزيدون، قال: وكذلك الإيمان حتى يتم].
يعني: كذلك الإيمان يزيد حتى يبلغ المنتهى، وتصوروا أن الرجل الكافر يعلم أن الإيمان يزيد وينقص! لماذا؟ لأن الإيمان هو دين الأنبياء جميعاً، وهرقل كان نصرانياً يعلم من دين عيسى عليه السلام أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد حتى يبلغ درجة التمام، وينقص بالمعاصي حتى لا يبقى منه شيء.
ولذلك قال سفيان: واعلم أن أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: لا تقل: وينقص، قال: اسكت يا صبي -وفي راوية: اسكت يا غبي- إنما ينقص حتى لا يبقى منه شيء.
وأظن أن رواية: (اسكت يا غبي) إنما هي تصحيف صبي؛ لأن إبراهيم أصغر من سفيان، وسفيان كان إماماً منذ كان عمره عشرين عاماً، وهكذا أئمة الدين السابقين، كما ثبت عن مالك رحمه الله أنه قال: ما جلست في مجلسي هذا -أي: في مجلس التدريس والإفتاء- إلا بعد أن أجازني سبعون من أهل المدينة، قيل: كم كان عمرك وقتئذ قال: لقد بلغت خمسة عشر عاماً! وكذلك ثبت عن الشافعي عليه رحمة الله أنه بلغ الإمامة في صباه، قيل له: متى؟ قال: قبل أن تنبت لحيتي، وفي رواية: قبل أن يسود وجهي، أي: تنبت لحيتي.
قال: [وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم]، يعني: الإيمان ي(63/5)
تصديق هرقل لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام
[قال هرقل: إن كان ما تقول حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم -أي: من العرب- ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين].
وهذه بشرى النبي عليه الصلاة والسلام لنا، أن الإسلام سيدخل كل بيت من حجر أو مدر، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز به الله تعالى الإسلام، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله.(63/6)
قراءة هرقل لكتاب النبي وما يستفاد منه
[دعا هرقل بكتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي حمله إليه دحية الكلبي فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى هرقل عظيم الروم)]، وليس هذا تفخيماً لـ هرقل وهو كافر؛ حتى لا يعترض عليه بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا للمنافق يا سيد)، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما خاطبه بما اتصف به على الحقيقة؛ لأنه كان فعلاً عظيم الروم وسيدهم في ذلك الوقت، وأخبره أنه رسول الله، قال: [(من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى)]، لم يقل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ لأنه لا سلام من الله له، ولا بركة من الله على هرقل؛ لأنه كافر.
ومن أراد أن يسلم على الكفار يقول: سلام على من اتبع الهدى، ومعناها: لو اتبعت الهدى يا هرقل فسلام عليك من الله ومنا.
[أما بعد]، وفي هذا سنية أن يقول الرجل بعد المقدمة: (أما بعد)، وهي كلمة للفصل بين المقدمة وبين ما بعدها، وهي تقال في الخطب، والرسائل، والرسالة المكتوبة ما هي إلا خطبة موجهة إلى القارئ، بخلاف الخطبة والكلمة المسموعة فهي رسالة موجهة إلى مستمع، ويستحب أن يكون بين المقدمة وبين غرض الرسالة كلمة أما بعد؛ ليعلم أن ما بعد هذه الكلمة هو أصل الرسالة، وكل رسالة وخطبة إنما تتكون من مقدمة، وغرض، ونهاية.
ثم قال: [(فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: أدعوك للإسلام- أسلم تسلم)] تسلم من القتال، تسلم من الآفات، تسلم من العاهات، تسلم من المصائب، تسلم من لقاء عدوك؛ لأن أهل الإيمان هم أعداء هرقل في ذلك الوقت، ويمكن أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (تسلم) أي: من عذاب الله في الآخرة إذا أسلمت في الدنيا.
قال: [(يؤتك الله أجرك مرتين)] لماذا مرتين وليس مرة واحدة؟ لأن العظيم في الغالب إذا أسلم أسلم من بعده، فيأخذ أجر إسلامه هو، ثم يأخذ أجر إسلام من تبعه على الإسلام، [(فإن توليت -أي: فإن أعرضت وكذبت ولم تسلم- فإن عليك إثم الأريسيين)]، والأريس: هو الفلاح، وهذا يدل على أن ولاية الشام إنما كان عملها الفلاحة والزراعة، يعني: بامتناعك عن الإسلام فيمتنع من بعدك في مملكتك وولايتك، فكما أنك إذا أسلمت تأخذ أجرين، أجر إسلامك وإسلام من تبعك، فإذا جحدت وكذبت ولم تسلم فإن عليك إثمك وإثم من تبعك، وهم الأريسيون، وهم أصحاب مملكة الشام.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [({يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64] إلى قوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64])]، هذه الآية وجهت إلى هرقل، والكافر نجس العقيدة، ويستشهد بها ابن حزم وغيره كالشيخ الألباني عليه رحمة الله وكثير من أتباع مدرسته إن لم تكن كل المدرسة، وكذلك بعض علماء الحجاز يستشهدون بأن مس القرآن للجنب والحائض جائز من باب أولى، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أرسل بهذا الكتاب وفيه آية من كتاب الله عز وجل إلى رجل كافر، وهو يعلم أنه لا محالة سوف يأخذه بيده، فمن باب أولى أن يأخذه المسلم الذي لا ينجس؛ فإن الجنابة ليست بنجاسة، وقد ورد في الحديث: (أن أبا هريرة رضي الله عنه أجنب، فتنحى من طريق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم دعاه النبي عليه السلام فلم يأته، فقال: ما منعك؟ قال: يا رسول الله إني نجس، قال: إن المؤمن لا ينجس) فإذا كان الأمر كذلك، وأن الجنب والحائض ليسوا بنجس؛ فمن باب أولى أن يقرأ كتاب الله عز وجل.
[فلما فرغ هرقل من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر هرقل بـ أبي سفيان ومن معه فأخرجوهم، فقال: أبو سفيان لأصحابه حينها: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة -أي: لقد ظهر أمر ابن أبي كبشة، وأبو كبشة هو من أجداد النبي عليه الصلاة والسلام-[إنه ليخافه ملك بني الأصفر]، أي: الروم، قال لهم: إذا كان هرقل نفسه يخشاه فكيف بنا؟ ويقول: إن ملك محمد سيبلغ ما تحت قدمي هنا.
قال: [فما زلت موقناً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام] والحديث أخرجه البخاري ومسلم.(63/7)
معجزة انشقاق القمر
قال: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهدوا)] أي: انظروا وعاينوا انشقاق القمر فإنه لم ينشق إلا بعد أن أمرته، أو لم ينشق إلا بعد أن طلبت انشقاقه من ربي، فهي معجزة ساقها الله تعالى إليه لم تكن لنبي قبله، وهذا الحديث كذلك أخرجه الشيخان.
[وعن عبد الله قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام شقة فوق الجبل، وشقة يسترها الجبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهد)]، أي: اشهد يا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[وعنه قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال القوم: هذا سحر سحركموه ابن أبي كبشة فسلوا السفار)] يعني: المسافرين الذين يأتون من خارج مكة؛ لأن أهل مكة المعاندين أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: يا محمد! إذا كنت صادقاً فيما تقول فأرنا آية مثلما صنع الأنبياء من قبلك، فقد كانوا يأتون بآيات يعجز عنها الخلق، قال: بأي آية؟ قالوا: اطلب من ربك أن يشق القمر فلقتين، وهذا ليس أمامه على الأرض ليتصرف فيه كما يريد، هذا شيء في السماء لا يمكن له أن يبلغه، وكأنهم اختاروا ذلك تعجيزاً له، فقال: إذا نشق آمنتم؟ قالوا: نعم، فلما طلب من ربه أن يفلق له القمر فلقتين وفعل، قالوا: هذا سحر مبين! ثم قال أنصفهم: اسألوا المسافرين إن كانوا رأوا ذلك، واختاروا المسافرين؛ لأن القمر واحد لأهل الحضر وأهل السفر، فإذا كان القمر انشق، ففعلاً سيراه المسافرون، فسلوهم إذا قدموا، فإن كان مثل ما رأيتم فقد صدق، وإلا فهو سحر سحركموه ابن أبي كبشة، فلما قدموا السفار وسألوهم، قالوا: نعم.
قد رأيناه انشق.
[وعن أنس قال: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام) أخرجه البخاري ومسلم.
ولفظ أبي داود: (انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فلقتين أو فرقتين).
أما رواية ابن عباس فقال: (إن القمر انشق على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنه بلغني أنه كانت فلقة على البيت، وفلقة على أبي قبيس)] فلقة من القمر على البيت يراها من كان في البيت فوق البيت، والبيت هو البيت الحرام، وأبو قبيس اسم جبل في منى.
[وعن جبير بن محمد بن الزبير عن أبيه عن جده أنه قال: في قول الله عز وجل: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] قال: انشق ونحن بمكة]، وهذا كان في أول بعثته عليه الصلاة والسلام.
بعض الناس يزعم أن القمر انشق مرتين، والصواب أن القمر انشق مرة واحدة، وهي هذه الذي نذكرها، وقد كانت على يد النبي عليه الصلاة والسلام، وهي معجزة من معجزاته التي أتى بها، ومن قال: إنه انشق مرتين إنما تصحف عليه لفظ فلقتين، أو فرقتين، فقرأها مرتين، والصواب أن القمر لم ينشق إلا مرة واحدة، فلقة فوق البيت، والأخرى فوق جبل أبي قبيس.(63/8)
معجزة حنين الجذع
لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وجد أرضاً لأخواله من بني النجار فيها قبور مشركين قديمة فنبشها ونقلها، ثم بنى النبي عليه الصلاة والسلام المسجد النبوي في هذه الأرض، وكان بين المقابر نخيل، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام أعمدة المسجد عبارة عن هذه النخيل، وكان يسقف المسجد بالجريد.
فالجذع هو أحد أصول النخل التي كانت في قبلة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه قطعها حتى يقف عليها مرتفعاً ليخطب في الناس، وهذا من السنن الثابتة: أنه يسن للمتكلم أن يجلس في مكان مرتفع حتى يراه الناس، عمل بهذه السنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأمر بها، وعمل بها خلفاؤه، وكل من تكلم على مشروعية ذلك وسنيته.
قال: [عن ابن عمر: (أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع -إما مستنداً عليه، وإما واقفاً فوقه- فلما اتخذ المنبر تحول إليه -أي: تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى الوقوف على هذا المنبر وترك الجذع- فحن الجذع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه)] يعني: هذا الجذع حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واحتضنه ومسحه حتى سكن وهدأ.
[وعن ابن عمر: (أن تميم الداري لما ثقل النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: يا رسول الله! ألا أتخذ لك منبراً؟ -يعني: ألا أصنع لك منبراً- يحمل عظامك أو يجمعك)] والخطيب غالباً يريد شيئاً يجمعه، ولذلك إذا جلس في مكان على قدر بدنه فإن ذلك يفيده أفضل من أن يجلس في العراء، ولعله إذا أراد أن يجلس وقع أو زلت مقعدته، أو قدمه، بخلاف ما لو كان له مكان محكم يجلس فيه إذا مال يمنة أو يسرة فإنه لا يخشى عليه الوقوع والسقوط؛ لأن المنبر يحوطه من جميع الجوانب، ولذلك قال تميم: [(ألا أتخذ لك منبراً يحمل عظامك أو يجمعك، فاتخذ له مرقاتين، وكانت سواري المسجد جذوعاً وسقايفها جذوعاً)]، يعني: الأعمدة التي هي السواري كانت جذوع نخل، وكذلك سقف المسجد كانت عليه جذوع أخرى وأعمدة من النخيل، ثم بعد ذلك كان عريشه من الأوراق والقش وغير ذلك.
[وعن ابن عباس: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر تحول النبي عليه الصلاة والسلام إلى المنبر، فحن الجذع فاحتضنه فسكن).
وقال أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد، فجاء رومي -في اسمه اختلاف كثير، والراجح أن اسمه: ميمون - فقال: ألا نصنع لك شيئاً تقعد عليه فكأنك قائم؟ فصنع له منبراً درجتين، ويقعد على الثالثة)]، وهذا يدل على أن المنبر ثلاث درجات اثنتان يرقاهما الخطيب، والثالثة يجلس عليها، قال: [(فلما قعد نبي الله صلى الله عليه وسلم على المنبر خار الجذع كخوار الثور -يعني: أخرج صوتاً يشبه خوار الثور- حتى ارتج المسجد لخواره؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فالتزمه وهو يخور، فلما التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن، ثم قال: والذي نفسي بيده! لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة) حزناً على رسول الله عليه الصلاة والسلام].
كان النبي عليه الصلاة والسلام رحمة حتى للجمادات، أما عن كونه جماداً ويعقل فدليل هذا قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] كل هذا من خوارق العادات التي جرت على يديه عليه الصلاة والسلام.
[وعن أنس قال: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبراً، قال: فبنوا له منبراً له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله -أي: تئن وتحن حنين الحزين الواله الشفيق- فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام فاحتضنها فسكتت)، وكان الحسن بن أبي الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول عليه الصلاة والسلام شوقاً إليه لمكانه من الله عز وجل، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
وعن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع، إذ كان في المسجد عريشاً، وكان يخطب إليه، فقال له رجل من أصحابه: هل لك أن نجعل لك عريشاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس ويسمعوا خطبتك؟ قال: نعم، فصنعوا له ثلاث درجات هي التي على المنبر -أي: هي التي عليها المنابر إلى يومنا هذا- فلما صنع المنبر ووضع في موضعه الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يأتي المنبر مر عليه، فلما جاوزه حن الجذع حتى سقط، فرجع رسول ا(63/9)
معجزة جريان الماء من بين أصابع النبي عليه الصلاة والسلام
[عن عبد الله بن مسعود قال: (كنا نعد الآيات بركة -أي: المعجزات- وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فعز الماء -أي: قل- فقال: اطلبوا فضلة من ماء)] النبي عليه الصلاة والسلام لما قل الماء معهم وهم في سفر أشرفوا على الهلاك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: اطلبوا لي الماء ولو كان فضلاً يسيراً، [قال: (فأتي بها في إناء قليل، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله عز وجل -أي: تعالوا إلى الماء الطاهر المبارك من عند الله عز وجل- قال ابن مسعود: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى ارتوينا، وقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)]، فهاتان معجزتان: نبع الماء، وتسبيح الطعام.
[وعن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بإناء فيه ماء فأغمر أصابعه -يعني: أدخلها في الماء- ولا يكاد يغمرها، فجعلوا يتوضئون، وجعل الماء ينبع من بين أصابعه، قال: قلت لـ أنس: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثمائة)] تصور أن فضلة من ماء يضع النبي عليه الصلاة والسلام أصابعه فيها ولا يكاد يغمرها، لأن أصابعه هذه تصل إلى قعر الإناء، وهذا يدل على قلة الماء وندرته مع الصحابة في ذلك الوقت، ومع هذا توضئوا منه وشربوا حتى ارتووا وهم زهاء ثلاثمائة! هذا يدل فعلاً على أن البركة من عند الله عز وجل، وأن هذا لا يكون ولا يجرى إلا على يد نبي صلى الله عليه وسلم.
[وعن جابر قال: (أصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام)] يعني: فزعنا إلى رسول الله، نحن سنموت في الصحراء، ونحن في سفر ولا ملاذ لنا ولا ملجأ إلا إليك بعد الله عز وجل، فاطلب من ربك أن يغيثنا، وأن يروي ظمأنا، قال: [(أصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فدعا بتور فيه ماء)] والتور: إناء صغير يسع مداً وثلثاً بالرطل العراقي أو كما قال أهل العلم، قال: [(فوضع كفه فيه حتى توضأنا وشربنا)].
انظر إلى الصحابة رضي الله عنهم، لم يقولوا: حتى شربنا وتوضأنا، وإنما قالوا: حتى توضأنا أولاً، وهذا يدل على حرصهم البالغ على العبادة، ثم على أنفسهم بعد ذلك، [(فقال: خذوا باسم الله حتى توضأنا وكفانا)، قال الراوي عن جابر: قلت لـ جابر: (كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، ولكنا كنا ألفاً وخمسمائة)، رواه البخاري]، ألف وخمسمائة شخص يتوضئون من تور لا يأخذ إلا مداً أو مدين! [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لـ أم سليم -وهي زوجة أبي طلحة وأم أنس بن مالك - (لقد سمعت صوت رسول الله عليه الصلاة والسلام ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟)] وهذا يدل على كمال شفقة أصحابه عليه الصلاة والسلام، وحرصهم ومتابعتهم لأحوله أولاً بأول رضي الله عنهم أجمعين وصلى الله على نبينا محمد.
[قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام] قرص الشعير هذا لو وضع أمامك لن تأكله حتى لو مت من الجوع، ثم وضعته في طرف خمارها، ووضعت بقية الخمار على أنس حتى لا يراه أحد وهو ذاهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ من أجل أن يعطيه أقراص الشعير، وكأنه سر كبير، لا يوجد أحد ضعيف من الصحابة، فالخبر هذا كله عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو الضعيف، ومصدر هذا الضعف هو الجوع، قال: [(فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، وقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ قال: قلت: نعم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بطعام؟ قال: قلت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: قوموا، قال: فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئنا أبا طلحة فأخبرته -لم يأخذ منه الطعام وإنما أمر أنساً أن يرجع إلى البيت في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام وصحبة من معه- قال: فقال أبو طلحة: يا أم سليم! قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، قالت أم سليم: الله ورسوله أعلم)] يعني: إذا كان النبي أتى معهم فهو من سيتولى الأمر بنفسه، قال: [(فانطلق أبو طلحة حتى تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي يا أم سليم ما عندك -يعني: هاتي الذي عندك- فأتت بذلك ا(63/10)
تسبيح الحصى في يد النبي عليه الصلاة والسلام
[قال: سويد بن يزيد السلمي: (مررت بمسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا أبو ذر فسلمت وجلست إليه، فذكر عثمان فقال: لا أقول أبداً إلا خيراً لشيء رأيته من رسول الله عليه الصلاة والسلام في خلواته، فمر به فاتبعته حتى انتهى إلى موضع قد سماه، فجلس فقال: يا أبا ذر! ما جاء بك؟ قلت: الله ورسوله؛ إذ جاء أبو بكر فسلم وجلس عن يمين رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم جاء عمر فسلم وجلس عن يمين أبي بكر، وجاء عثمان فسلم وجلس عن يمين عمر، فتناول النبي عليه الصلاة والسلام سبع أو تسع حصيات فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل)]، وهذه الرواية فيها ضعف.
والصحيحة [عن ابن عباس قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني عامر قال: أرني هذا) أنتم تعرفون أن من علامات نبوته على بدنه الخاتم الذي بين كتفيه في ظهره، فجاء رجل من بني عامر يقول: [(أرني هذا الخاتم الذي بين كتفيك، فإن يك بك طب داويتك فإني أطب العرب)]، يعني: إذا كان هذا الختم عبارة عن عيب في بدنك فأنا أعالجك منه، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إني أريك آية)] هذا الخاتم ليس داء وإنما هو علامة على النبوة، وإذا كنت تريد آية على إثبات نبوتي أريتك، [(قال: نعم، قال: ادع ذاك العذق، قال: فنظر إلى عذق في نخلة فدعاه فجاء ينقز حتى قام بين يديه، فقال: قل له يرجع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعذق: ارجع إلى مكانك، فرجع إلى مكانه، فقال: يا بني عامر! ما رأيت كاليوم أسحر)]، أي: ما رأيت ساحراً كما رأيت هذا الرجل اليوم.
[وعن عبد الله بن مسعود قال: (كنت غلاماً يافعاً في غنم لـ عقبة بن أبي معيط أرعاها، فأتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه، فقال: يا غلام هل عندك من لبن؟ قال: فقلت: نعم، ولكن مؤتمن)] أنا صحيح أرعى الغنم وفي الغنم من هي والدة ولها ضرع يدر اللبن، لكن أنا مؤتمن لا أستطيع أن أعطيك لبناً، [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل، قال: فأتيته بعناق جذعة فاعتقلها رسول الله عليه الصلاة والسلام -يعني: أنامها، وأراحها على الأرض- ثم جعل يمسح ضرعها ويدعو حتى حلبت -وهذا يوافق حديث أم معبد - قال: وأتاه أبو بكر بصحن فاحتلب فيه، ثم قال لـ أبي بكر: اشرب فشرب أبو بكر، ثم شرب النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام للضرع: اقلص -يعني: ارجع إلى ما كنت عليه آنفاً- فقلص فعاد كما كان، قال: ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد فقلت: يا رسول الله! علمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن، قال: فمسح رأسي ثم قال: إنك غلام معلم، فأخذت منه سبعين سورة)].
هذه بعض معجزاته عليه الصلاة والسلام، وقد أوتي من المعجزات ما لم يؤته نبي قبله، وهذه المعجزات إنما كانت مصحوبة بالتحدي، ولم يحدث مثلها أو قريب منها لأحد ولا حتى من الصالحين، بل ولا من الخلفاء الراشدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(63/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد اختص الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل بخصائص على سائر البشر، وخص نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص تميزه عن سائر الأنبياء والرسل، فهو سيد ولد آدم، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع، وقد أوتي جوامع الكلم، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وأحلت له ولأمته الغنائم، وغير ذلك من الخصائص والمميزات التي امتن الله بها على نبيه وعلى أمته، أما صفاته الخَلْقية والخُلُقية فقد زخرت بها كتب السير، فهو أكمل الخلق على الإطلاق خلقاً وخُلُقاً صلى الله عليه وسلم.(64/1)
ذكر رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه لبعض الأنبياء ليلة أسري به
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لا زال الكلام عن معجزاته عليه الصلاة والسلام وشمائله ومناقبه موصولاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو العالية: حدثني ابن عم نبيكم -وهو ابن عباس رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي موسى آدم طوالاً جعداً)] هنا يذكر أوصاف موسى عليه السلام، وكانت هذه الرؤية رؤية حقيقة، وهي رؤية في اليقظة، فأحد أوصاف موسى أنه كان طويلاً، وقوله: (آدم) يعني: فيه شيء من السمرة.
[(كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض -يعني: يميل إلى البياض المشرب بحمرة- سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن النار، ورأيت الدجال، في آيات أراهن الله عز وجل إياه، فلا تكن في مرية من لقائه -أي: أنه لقي موسى ليلة أسري به- {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2])]، أي: جعلنا موسى هدى لبني إسرائيل، وهذا الحديث عند البخاري ومسلم.
[وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني رأيت موسى وعيسى وإبراهيم -أي: ليلة أسري به رأى موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام- فأما عيسى فأحمر جعد -والجعد بخلاف السبط- عريض البدن، وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال أزد شنوءة، وأما إبراهيم فإذا أردتم أن تعرفوا شبهه ومثله فانظروا إلى صاحبكم، يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام)].
فكان عليه الصلاة والسلام أشبه الناس بإبراهيم عليه السلام، والحديث أخرجه البخاري.(64/2)
حديث عائشة في قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبيها إلى المدينة
قال: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أريت دار هجرتكم -يعني: المدينة- أريت سبخة ذات نخل بين لابتين، وبهما حرتان)]، يعني: قبل أن أدخل المدينة قد رأيتها، قيل: رآها على قطعة من قماش، وقيل: أنه رآها في المنام وغير ذلك من تأويلات هذا الحديث.
والراجح من أقوال أهل العلم: أنه يتكلم هنا عن رؤيته للمدينة في المنام، ولا مانع أن يكون رآها مصورة على قطعة من قماش أو زجاج أو صخر أو غير ذلك، المهم أنه رأى المدينة ورأى أنها في واد بين لابتين -أي: بين جبلين عظيمين- وفي سفح هذين الجبلين حرتان عظيمان، والحرة: هي الكومة أو الجبل الصغير من حجارة سوداء.
[قالت: (فهاجر من هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: لما ذكر لهم هذا الكلام هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة- ورجع إلى المدينة بعض من هاجر إلى أرض الحبشة -كما فعل جعفر رضي الله عنه- وتجهز أبو بكر مهاجراً إلى المدينة)]، يعني: أراد أبو بكر أن يهاجر إلى المدينة لما سمع أن النبي عليه الصلاة والسلام أريها في المنام، فأراد أن يحوز قصب السبق في الهجرة إلى المدينة قبل أن يأذن عليه الصلاة والسلام، [فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك -أي: تمهل يا أبا بكر! - فإني أرجو أن يؤذن لي) أي: بالهجرة من مكة إلى المدينة، فإذا كان الأمر كذلك، فأنت صاحبي في هذه الهجرة، [(فقال أبو بكر: أوترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم)، فحبس أبو بكر الصديق رضي الله عنه نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر]، وهكذا أعد أبو بكر راحلتين لهذه الرحلة العظيمة التي هي أعظم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق، كما أنه حبس نفسه على صحبة النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفكر بالهجرة وحده قط.
[قالت عائشة: (فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يزور أبا بكر غدوة وعشياً، ولم يكن معتاداً أن يزوره في وقت القيلولة أو في وقت الظهيرة، ففي وقت الظهيرة وأبو بكر رضي الله عنه قائل في بيته ناداه مناد: [هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها]، وهذا قول عائشة.
[قال أبو بكر: (فداه أبي وأمي إن جاء به هذه الساعة إلا لأمر)] يعني: ما جاء به في هذه الساعة على غير عادته في زيارتنا إلا أمر عظيم دفعه إلى ذلك.
[قالت: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام حين دخل لـ أبي بكر: أخرج مَن عِندَك؛ لأن الأمر يستدعي السرية التامة- قالت: فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله!)]، وهو يتكلم عن أبيه وعن بنيه وعن زوجه، وهؤلاء هم أهل النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى: أنهم يحفظون السر كـ أبي بكر تماماً بتمام وسواء بسواء، [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنه قد أذن لي في الخروج -أي: في الهجرة من مكة إلى المدينة -فقال أبو بكر: فالصحبة يا رسول الله! -يعني: ائذن لي أن أصحبك في هذه الرحلة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم.
فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله! أحد راحلتي هاتين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بالثمن آخذها، قالت: فجهزناهما أحث الجهاز -يعني: أحسن الجهاز- فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء ابنة أبي بكر من نطاقها -أي: من خمارها- فأوكت به الجراب -أي: فربطت به الجراب- فلذلك كانت تسمى ذات النطاق -وفي رواية: ذات النطاقين- لأنها قطعت خمارها نصفين وأوكت به الجراب فسميت ذات النطاقين -ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل يقال له: ثور، فمكث فيه ثلاث ليال)]، وهذا الحديث عند البخاري ومسلم.(64/3)
حديث حزام بن هشام عن أبيه عن جده في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
قال: [وعن حزام بن هشام عن أبيه عن جده حبيش -وهو صاحب للنبي عليه الصلاة والسلام- قال: (إن النبي حين خرج من مكة خرج منها مهاجراً إلى المدينة)]، والنبي عليه الصلاة والسلام ما خرج من مكة قط بعد البعثة إلا مهاجراً، لم يخرج منها إلا إلى الطائف، أما قبل البعثة فقد خرج في رحلات تجارية إلى الشام وغيرها، أما خروجه بعد البعثة وقبل الهجرة فلم يكن إلا مرة واحدة إلى الطائف.
قال: [حين خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه، ومولى لـ أبي بكر وهو عامر بن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد الله بن الأريقط].(64/4)
اختلاف العلماء في حكم الاستعانة بالمشرك
وعبد الله بن الأريقط كان كافراً في ذلك الوقت، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام استعمله واستخدمه في الاستعانة به في الدلالة على الطريق، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الاستعانة بالكافر أو المشرك في قضاء بعض الأعمال والمصالح، كما ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم في حال غزو العراق للكويت، واستخدموا بلاد الكفر بأسرها، ونزلوا أرض الجزيرة، ويحتجون في ذلك باستعانة النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الرجل وهو عبد الله بن الأريقط في الدلالة على الطريق.
وعلى أية حال هذا كلام سبق به أهل العلم، وقضية الاستعانة بالكافرين هي محل نزاع طويل بين أهل العلم، وقد ذكر هذا الخلاف غير واحد من أهل العلم، وتوسع فيه جداً الإمام الشوكاني، وكذلك الصنعاني وابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله عز وجل.
أما القائلون بجواز الاستعانة فإنهم يحتجون بهذا الحديث وبغيره من الأدلة التي يفهم منها فهماً بعيداً جواز الاستعانة، وبعضهم يمنع مطلقاً، والبعض يقول: يجوز الاستعانة بالمشرك إذا كان في موطن الذل والصغار، وأنه لا تأثير له على المسلم بعد ذلك، وأن دوره ينتهي بمجرد أداء مهمته، وقيدوا ذلك بشروط طويلة كثيرة، وأظن أن هذا أرجح الأقوال.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما استعان بهذا الرجل استعان به فقط في الدلالة على الطريق، في حين أن جانبه مأمون ولا خوف منه، وأن مهمته تنتهي بانتهاء هجرة النبي عليه السلام أو معرفته للطريق.
فقد أتى النبي عليه الصلاة والسلام رجل مشرك يريد أن يحارب معه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع.
فإنا لا نستعين بمشرك)؛ لأن الدلالة على الطريق بخلاف المشاركة في الغزو والجهاد، فقد أراد هذا المشرك أن يشارك في الغزو والقتال، فرده عليه الصلاة والسلام، فكيف يؤذن لهؤلاء القوم بدخول أرض الجزيرة التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يجتمع بالمدينة -أي: بالجزيرة- أهل دينين ولا يجتمع فيها أهل ملتين سواء، فهؤلاء إنما حرصوا كل الحرص من أول الأمر على أن يكون لهم وجود بعد أن فشلوا سنوات طويلة في عهد سعود ومن بعده فيصل ومن بعد فيصل خالد، ولكنهم نجحوا في هذا العهد، وهذه قصة معلومة وأمر مدروس بين هؤلاء القوم وبين العميل الكبير صدام حسين، فهؤلاء القوم دخلوا هذه البلاد للسيطرة الكاملة على حقول البترول أولاً، ثم لاعتقادهم أن أرض الجزيرة تئول إليهم في آخر الزمان وقبل نزول المسيح عليه السلام.
هكذا معتقدهم.
ولذلك تنبه لذلك كثير من أهل العلم، فقال الشيخ الألباني عليه رحمة الله: إن هؤلاء إنما أتوا لاسترداد خيبر، والعجيب أن هذا الكلام يردده هؤلاء الآن في أرض الجزيرة، يقولون: لا نخرج منها وقد دخلناها إلا بعد أن نسترد خيبر كما سلبت منا، وهذا كلام تنبه له الشيخ الألباني وغيره من أهل العلم، وكان هذا فيضاً من فيوضات الرحمن تبارك وتعالى على أهل العلم، فهؤلاء لهم مطامع عظيمة جداً، وهم اليهود والنصارى، فقد كانت مطامعهم من قبل من النيل إلى الفرات، ولكن الآن مطامعهم أن يكون العالم كله تحت سيطرتهم وتحت أمرهم.
الأمر الثاني: أن غالب البترول في أمريكا الذي كانوا يحتضنونه منذ خمسين عاماً تحت الأرض أوشك على النفاد، فلابد من بترول وإلا ستضيع أمريكا وستضيع سيطرة أمريكا والنظام العالمي الموحد، فإنها من جهة أرادت أن تحقق مكسباً اعتقادياً بسيطرتها على الأرض، والأمر الثاني: أرادت أن تبقى السيطرة والزعامة هناك، ولا تبقى هذه السيطرة ولا تلك الزعامة إلا ببقاء مسوغات الحياة بوجود البترول فيها.(64/5)
معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في حلبه شاة أم معبد
قال: [(خرج النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً إلى المدينة ومعه مولى لـ أبي بكر وهو عامر بن فهيرة، ومعهم عبد الله بن الأريقط، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في تلك الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟! فقالت: خلفها الجهد عن الغنم)]، هذه الشاة من فرط إعيائها ما استطاعت أن تلحق ببقية الشياه، فتخلفت في الخيمة، [(فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك)] أي: هي ليس فيها لبن، ولو كانت مما تُحلب فإن جهدها وتعبها يمنعها من ذلك.
[قال: (أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: نعم.
إن رأيت فيها حليباً فاحلبها)]، هذه الشاة ليس فيها حليب، وهي لم تلد ولم يقربها فحل، ولكن أنت وشأنك إذا أردت أن تحلبها وتستجيب لك فافعل، [(فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه -أي: فتدفق اللبن عليه- ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط -أي: يروي القوم والفئة من الناس- فحلب فيه ثجاً -يعني: نزولاً سريعاً- حتى علاه البهاء -يعني: علاه الرغوة اللبنية وهذا للدلالة على أنه قد امتلأ- ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب صلى الله عليه وسلم)]، آخر من شرب الرسول عليه الصلاة والسلام امتثالاً لأمره: (إن ساقي القوم آخرهم شرباً).
[قال: (ثم أراضوا -يعني: استراحوا شيئاً من الزمان يسيراً- ثم حلب حلبة ثانية ثم غادره عندها، ثم بايعها وارتحلوا عنها)] (ثم بايعها) أي: أسلمت على يديه عليه الصلاة والسلام لما رأت من معجزاته في شاتها، ومن مزيد رحمته عليه الصلاة والسلام أنه حلب حلبة ثانية وجعلها خاصة بصاحبة الشاة، وهي أم معبد رضي الله عنها، قال: [(فقلما لبثت -أي: لبثت هذه المرأة وقتاً يسيراً- حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلىً وضحى، مخهن قليل)] والمخ بمعنى: سوق الشياه والأعنز التي ساقها أبو معبد كادت تكون عظاماً، يعني: غدت خماصاً وعادت خماصاً، لم تعد بطاناً.
قال: [(فلما رأى أبو معبد اللبن عجب)] وأنتم تعلمون أن هذا في طريق الرحلة إلى المدينة، فهذا الكلام تم في الصحراء، فمن أين لـ أم معبد اللبن؟ لكن انظر إلى تقدير الله عز وجل في هذا اليوم بالذات تتخلف هذه الشاة دون بقية الشياه، حتى تتم المعجزة أمام عين أم معبد صاحبة الشاة، والأمور تجري بمقادير.(64/6)
وصف أم معبد للنبي صلى الله عليه وسلم
[قال: (فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلى -يعني: يتمايلن من فرط الهزال والضعف- مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد! والشاء عازب حيال؟ -يعني: لها حول لم يقربها الفحل- قالت: لا والله؛ إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا)] أي: قصت له القصة التي رأتها بعينيها، [قال: (صفيه لي يا أم معبد! قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة)] يعني: حسن المنظر، هذه أوصاف نبينا عليه الصلاة والسلام، [(أبلج الوجه)] يعني: نير الوجه، [(حسن الخلق لم تعبه علة)] يعني: بلغ في الكمال البشري منتهاه صلى الله عليه وسلم، [(ولم يزربه صقلة -أي: ولم يعبه أدنى شيء- وسيم قسيم)] وسيم من الوسامة، وقسيم أي: جميل، [(في عينيه دعج -أي: في عينيه سواد شديد- وفي أشفاره غطف، وفي صوته صهل -يعني: بحة- وفي عنقه سطع -أي: طول- وفي لحيته كثافة)] يعني: كث اللحية وكثيفها [أزج أقرن، إن صمت فعليه وقار) يعني: لو سكت يعلوه الوقار، [(وإن تكلم سما به)]، يعني: إن تكلم ازداد وقاراً وسما به وعلا، [(أكمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأعلاهم من قريب، حلو المنطق، كلامه جميل لا يمله السامع، فضل لا نزر به ولا هزر) أي: لا يتكلم بكلام لا قيمة له، [(ولا يهذر في كلامه)] أي: لا يقول كلاماً مستقبحاً، [(كأن منطقه خرزات)]، أرأيتم عقد اللؤلؤ؟ كأن كلامه عقد يتساقط حبة بعد الأخرى.
قالت: [(نظم يتحدرن، ربعه يأسن من طول، وتقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً)].
إن وصفه عليه الصلاة والسلام عجيب جداً، ومن أراد أن يتعرف على شمائله ومناقبه وخلقته عليه الصلاة والسلام وخُلُقه فلينظر في كتاب الشمائل للإمام الترمذي، فموضوع الكتاب من أوله إلى آخره هو بيان حاله ووصفه عليه الصلاة والسلام.
قالت المرأة: [(وله رفقاء -يعني: أصحاب- يحفون به -أي: يحوطونه من كل جانب-، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر بادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند)] محفود أي: مسارع في خدمته، محشود عنده حشد من الناس يحفون به من كل جانب لخدمته، (لا عابس ولا مفند)، يعني: لا يتكلم بكلام فيه عبس، ولا أصابه الخرف ولا أصابه شيء في عقله.
[قال أبو معبد: (هذا والله صاحب قريش) هذا الرجل الذي كنا نسمع عنه، وإنه نبي آخر الزمان وإنه من قريش؛ الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، قال: (ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، فأصبح صوت بمكة عالياً يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه.
يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد قالا بمعنى: أنهما بقيا في خيمة أم معبد وقت القيلولة: هما نزلاها في هدى واهتدت به فقد ساد من أمسى رفيق محمد فيا آل قصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا يجازى وسؤدد ليهن بني كعب مقام فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حايل فتحلبت عليه بصريح ضرة الشاة مزبد فغادره رهناً لديها لحالب يرددها في مصدر ثم مورد] أي: ترك لها الحلوب الثاني لديها رهناً [ليهن أبا بكر سعادة جده بصحبته من يسعد الله يسعد] إلى آخر هذه الأبيات.(64/7)
سياق ما روي من فضائل النبي عليه الصلاة والسلام التي خصه الله بها من بين سائر الأنبياء
إن المعجزات التي مضت معجزات عامة، ربما وقعت لبعض الأنبياء والمرسلين، ولكن الله تبارك وتعالى خص نبيه محمداً ببعض المعجزات والخصائص التي منعها حتى من الأنبياء من قبله.(64/8)
أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم
قال: [فمنها: أنه أوتي جوامع الكلم]، وأرجح الأقوال في معنى جوامع الكلم: أنه القرآن الكريم، لكن لا يمنع أن يكون جوامع الكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام، فهو من أحسن الناس منطقاً، ومن أبينهم وأفصحهم في لغة العرب، ولذلك كان الواحد منهم إذا عجز أن يأتي بكلام يشبه كلام الله عز وجل إنما يأتي بكلام يظن أنه يشبه كلام النبوة، ولا يفلح في ذلك كذلك.
ومعنى جوامع الكلم: الكلام القليل المبنى الكثير المعنى، آية تتكون من كلمتين أو ثلاث كلمات، أو حديث يتكون من كلمتين أو ثلاث كلمات، فإذا به قاعدة عظيمة تصلح لفض المنازعات والخصومات إلى قيام الساعة.
فمثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) إلى آخر حديث عمر رضي الله عنه، هذا كلام عظيم يضبط مسائل النيات الصالحة وغير الصالحة، ويرتب الثواب والعقاب عليها، ويرتب الصلاح والفساد عليها، وغير ذلك إلى قيام الساعة في أعمال العباد، فإذا أردت أن تحتج على صحة العمل أو فساده أو على الثواب والعقاب فإنما حجتك هذا الحديث: (إنما الأعمال بالنيات)، حتى صار هذا الحديث مثلاً دارجاً على ألسنة العوام.
مثال آخر: قوله عليه الصلاة والسلام في عالم القضاء: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، هذه قاعدة في القضاء تصلح لفض النزاع إلى قيام الساعة، فالقاضي لا يأمر المدعى عليه باليمين إلا إذا عجز المدعي عن إتيانه بالبينة، والمطلوب من المدعي أن يبرز البينة ولا يمين عليه.
هذه قاعدة عامة، وأنتم تعلمون أن بعض أهل العلم كـ ابن رجب الحنبلي والإمام النووي وغيرهم من أهل العلم اعتنوا عناية فائقة بكلامه عليه الصلاة والسلام، فكل كلامه يصلح أن يكون قاعدة تضبط أمراً من الأمور إلى قيام الساعة.
فجمع الإمام النووي عليه رحمة الله ما ظن أنه من جوامع الكلم، فبلغ أربعين أو أربعين ونيفاً، ثم جاء من بعده ابن رجب الحنبلي وزاد عليه عشرة من الأحاديث وهي المعروفة بجامع العلوم والحكم، فهذه الأحاديث كلها من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، كلام قليل المبنى كثير المعنى يصلح أن يكون قواعد ثابتة راسخة إلى قيام الساعة.(64/9)
بعثه إلى الناس عامة
قال: [وبعث إلى الناس عامة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة].
فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس عامة، إلى الأحمر والأسود والأبيض، إلى العجم وإلى العرب، إلى الإنس وإلى الجن كذلك، فالجن مكلفون كتكليف البشر سواء بسواء، بالإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام، والعمل بأوامره على مقتضى أصل خلقتهم وما يتفق مع خلقتهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام من مناقبه وشمائله أنه بعث إلى الناس عامة، وكان النبي من قبله يبعث إلى الناس خاصة.(64/10)
نصره بالرعب مسيرة شهر
قال: [ونصر بأنه يرعب عدوه على مسيرة شهر]؛ لقوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، يعني: يسمع العدو أن محمداً وجيشه قد انطلقوا من المدينة -وبين محمد عليه الصلاة والسلام وبين العدو مسيرة شهر على الأقدام أو ركوباً- فينهزم العدو في عقر داره، وأنتم تعلمون أن الهزيمة النفسية أعظم من الهزيمة المادية، إذا انهزم الإنسان في نفسه سهل أن ينهزم في بدنه، يعني: يتملك العدو الرعب؛ فإذا سمع العدو بمخرج النبي عليه الصلاة والسلام ارتعدت فرائصه، وخاف خوفاً لا يؤهله للمقابلة واللقاء بجيش النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يكون على مسيرة شهر، وأنتم تعلمون أن بين المدينة ومكة قرابة عشرين يوماً وزيادة، فتصور لو أن العدو بمكة والنبي عليه الصلاة والسلام خارج من المدينة هو وأصحابه، فإن القوم ينهزمون في عقر دارهم قبل أن يخرج النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من المدينة النبوية.(64/11)
كونه خاتم الأنبياء
قال: [وختم به النبيون فلا نبي بعده]؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي)، هذا الكلام صريح للغبي والأعمى، فالغبي يفهم هذا الكلام فضلاً عن طلاب العلم والناس الطيبين أمثالكم، لكن بعض الملاحدة لم يهدأ له بال، وأنتم تعلمون أن المجرم رشاد خليفة الذي هلك سنة (88) بأمريكا وادعى النبوة هناك، سمى نفسه: (لا) ولما احتج عليه بأن النبوة انقطعت بالنبي عليه الصلاة والسلام، قال: ومن قال هذا، النبي عليه الصلاة والسلام بشر بي.
قال: أنا خاتم النبيين، والخاتم يوضع في الأصبع، يعني: أنا زينة النبيين وحلية الأنبياء، و (لا) الذي هو أنا نبي بعدي! والله العظيم قال هذا، وسمى نفسه (لا) حتى إنه لما نزل مطار القاهرة ومعه الجنسية الأمريكية قال أحدهم: إن اسم رشاد خليفة هذا قد غيره ولم يعد هذا الاسم له.
قال: والقرآن شهد بنبوته، قيل: كيف ذلك؟ قال: لفظ الرشاد عندما تأتي بمادة رشد في القرآن الكريم ستجدها وردت في القرآن الكريم (19) مرة، وأنتم تعلمون أن العدد عندنا مقدس، فكيف يكون اسمه (لا) وكيف يكون اسمه (رشاد)؟ هذا تخبط وضرب في الظلمات.(64/12)
إعطاؤه الشفاعة في أمته ومفاتيح خزائن الأرض
قال: [وأعطي الشفاعة في أمته -أي: لأمته- وأعطي مفاتيح خزائن الأرض؛ لكرامته على الله عز وجل فأبى أن يأخذها].
عرض الله عليه خزائن الأرض، وخيره بين أن يكون ملكاً نبياً، فقد كان سليمان عليه السلام ملكاً نبياً، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ماذا يختار، فأشار عليه جبريل بما هو خير، قال: (بل عبد نبي)، يعني: اختر يا محمد! أن تكون عبداً نبياً، ولا داعي للملك، وأنتم تعلمون أن الله تعالى خيره أن يجعل له الجبال ذهباً، فأبى ذلك وهذا هو الزهد الحقيقي، أن تكون الدنيا فعلاً تعرض عليك وأنت ترفضها، أما الآن فالناس يزهدون رغماً عن أنوفهم بقرار وزاري!(64/13)
تسميته بأحمد، وأحلت له الغنائم ولم تحل لنبي قبله
قال: [فأبى أن يأخذها واختار الدار الآخرة، وسمي أحمد صلى الله عليه وسلم -كما جاء في سورة الصف- فجعل معاني نبوته وأفعاله في اسمه، فكانت أموره كلها محمودة وأقواله مرضية، وأحلت له الغنائم ولم تحل لنبي قبله]، وهذا كنا قد ذكرناه من قبل في أثناء شرح صحيح مسلم، وذكرنا الأدلة من الصحيحين وغيرهما؛ أن الغنائم من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وشرحنا حديث: (فضلت على الأنبياء بخمس)، وذكرنا أن النبي عليه الصلاة والسلام أحلت له ولأمته الغنائم، ولم تكن حلالاً للأمم السابقة كلها، فأول نبي أحلت له الغنائم هو نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، فالأنبياء من قبله كانوا إذا غنموا مغنماً وقفوا عندها في الحرب لا ينفكون عنها حتى يعرفوا: هل قبل الله تبارك وتعالى منهم ذلك أم لا؟ وعلامة ما بينهم وبين ربهم أن تنزل نار من السماء تأكل هذه الغنائم، والحديث في البخاري.
وأما الغنائم في شرع نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فهي حلال له ولنا، لقوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي).(64/14)
جعلت الأرض له ولأمته مسجداً وطهوراً
قال: [وجعلت له الأرض ولأمته مسجداً]، معناه: أن الأرض طاهرة إلا ما تيقنا نجاسته، كالمقبرة والحمام ومرابض الإبل؛ وذكر مرابض الإبل لأنها من الشيطان، والحمام لأنه مظنة النجاسة، والمقبرة لاختلاطها بالدماء وصديد الموتى، وما إذا تيقنا نجاسته بوقوع البول فيه دون جفاف الأرض أو تطهيرها بالماء، فهذه الأماكن نجسة وما عداها طاهرة، فأينما أدركتك الصلاة فعندك المسجد -وهو الأرض- وعندك الطهور -وهو صعيد الأرض- تتيمم وتصلي.
أما اليهود والنصارى فإن جميع الأرض عندهم نجسة إلا ما تيقنوا طهارته، وهي البيع والكنائس.
فانظروا إلى الفرق بين هذه الأمة والأمم السابقة، إنه لفرق عجيب جداً، ولذلك وضع الله تبارك وتعالى الإصر والأغلال التي افترضها على الأمم السابقة عنا ورحمنا فيها، فجعل لنا الأرض كلها طاهرة إلا ما تيقنا نجاسته، وجعل لأهل الكتاب الأرض كلها نجسة إلا البيع والكنائس، فصلاة الواحد منهم لا تصح إلا في البيع والكنائس، وهذا الشيء بكامله كان قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، أما بعد البعثة فلا صلاة له؛ لأنه بمجرد البعثة إن لم يؤمن فهو كافر، فلا صلاة له ولا طاعة له مقبولة.(64/15)
جعلت صفوف أمته في الصلاة كصفوف الملائكة عند ربها
قال: [وجعلت له الأرض ولأمته مسجداً، وكان غيره من الأنبياء لا تجزئ صلاته إلا في كنائسهم وبيعهم، وجعلت صفوف أمته -أي: في الصلاة- كصفوف الملائكة عند ربها].
يعني: وأنتم تقوم في الصلاة اعلم أن هذا فيه وجه شبه بصفة الملائكة في صفها عند ربها.(64/16)
أحاديث واردة في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأمته
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست)]، يعني: خص من دون الأنبياء بستة أشياء، مع أنه خص بأشياء كثيرة جداً، قال: [(أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون).
قال: (ومثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى قصراً فأجمله -يعني: زينه وأحسنه- إلا موضع لبنة، فطاف الناس بالقصر فعجبوا لبنيانه وقالوا: ما أحسن هذا القصر لو تمت هذه اللبنة، قال: فأنا تلك اللبنة)]، يعني: هو المتمم لرسالة الأنبياء من قبله والخاتم لها، بل هو الناسخ لما تقدمه من رسالات ونبوات.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت بخصال ست لا أقولهن فخراً)]؛ لأننا مطالبون أن نؤمن بجميع الأنبياء وألا نفضل بين الأنبياء؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا أنا خير من يونس بن متى)، ويونس بن متى نبي من الأنبياء، والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق قاطبة، وهذا أمر قد أجمعت عليه الأمة وقد وردت به الأدلة، والنبي عليه الصلاة والسلام نفسه قال: (أنا خير ولد آدم ولا فخر)، والمعلوم أن يونس بن متى من ولد آدم، والله تعالى يقول في أمره لنا بالإيمان بالرسل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، أي: لا نفرق بين أحد من رسله في مبدأ الإيمان، فنحن كما نؤمن بمحمد نؤمن بعيسى وموسى وجميع الأنبياء المذكورين في القرآن والسنة وغير المذكورين إجمالاً، نؤمن بأن الله تعالى أرسل قبل نبينا أنبياء ورسلاً وأنزل معهم الكتب، وكانوا هداة مهديين بهداية ربهم تبارك وتعالى، نؤمن بهم جميعاً إجمالاً، ونؤمن بنبينا إجمالاً وتفصيلاً، فإيماننا بالنبي عليه الصلاة والسلام كنفس إيماننا بموسى وعيسى من جهة أنه نبي أرسله الله عز وجل، وأنزل معه الكتب، وأمره أن ينزل في بني إسرائيل أو في قوم كذا وكذا.
فالأمر الذي ورد في النصوص في عدم التفريق بين الأنبياء هو أمر بعدم التفرقة في مبدأ الإيمان بالأنبياء، أما النصوص الواردة بأن النبي عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق وهو خير الأنبياء وفضل على الأنبياء فهذا أمر معلوم، وإنما هي خصائص خصه الله تبارك وتعالى بها.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فضلت بخصال ست لا أقولهن فخراً)]؛ لأنه من أشد الناس تواضعاً عليه الصلاة والسلام.
قال: [(لم يعطهن أحد كان قبلي، قال: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر)]، وأنتم تعلمون حديث الشفاعة الطويل الذي فيه: أن الناس هرعوا في الموقف إلى آدم فذكر خطيئته، ثم إلى إبراهيم فذكر خطيئته، ثم إلى موسى فذكر خطيئته، ثم إلى عيسى حتى أتوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: (أنا لها أنا لها، فذهب فخر تحت العرش ساجداً حتى دعاه ربه بقوله: اشفع تشفع وسل تعطه) صلى الله على نبينا محمد.
قال: [(وجعلت لي الأرض مساجد وطهوراً، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب، والذي نفسي بيده إن صاحبكم -أي: أنا- لصاحب لواء الحمد يوم القيامة غير فخر، تحته آدم ومن دونه)]، يعني: لواء الحمد يحمله النبي عليه الصلاة والسلام، وتحت لواء الحمد جميع الأنبياء والمرسلين بما فيهم آدم، والمعلوم أن آدم هو أول نبي، وأما أول رسول فهو نوح عليه السلام.
[وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث -أي: نحن المؤمنين المسلمين- جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت ترابها لنا طهوراً، وجعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتينا الآيات الأخر من سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط أحد قبلي، ولا يعطى أحد منه بعدي)] أي: من أول قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] إلى آخر سورة البقرة.
فهذه الآيات من سورة البقرة نزل بها جبريل مرة، وأعطيها النبي عليه الصلاة والسلام من كنز تحت العرش في رحلة معراجه إلى السماء.
[وكان علي بن أبي طالب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، قلنا: ما هو يا رسول الله؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت لي الأرض طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم)].
فالأمة لها خصائص تخصها دون بقية الأمم، ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم له خصائص تخصه دون بقية الأنبياء.
[وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يؤتهن نبي قبلي: أرسلت إلى الأبيض والأسود والأحمر، -وهذا يد(64/17)
الأسئلة(64/18)
الحكم على حديث (عبدي لا تخف) وحديث صلاة الحاجة
س
السؤال
ما قولكم في الأحاديث الآتية: الحديث القدسي: (عبدي لا تخف من ذي سلطان مادام سلطاني لا يزول) إلى آخر الحديث؟
الجواب
هذا حديث غير صحيح.
السؤال
حديث صلاة الحاجة؟
الجواب
حديث صلاة الحاجة قد أنكره بعض أهل العلم، ولكنه حديث صحيح، والراجح من أقوال المحدثين: أن من كان في حاجة أو عرضت له حاجة فليركع ركعتين، ثم ليدع الله عز وجل.
السؤال: وحديث: (من تعار من الليل- أي: من قام واستيقظ من نومه في الليل- فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) إلى آخر الحديث: (ثم توضأ فصلى ركعتين ودعا الله ما رد الله دعاءه)، يعني: الذي يفعل هذا وله حاجة فإنها مقضية بإذن الله تعالى؟ الجواب: هناك شواهد كثيرة جداً للحديث الأول التي تدل على ما يسمى في الشرع بصلاة الحاجة.(64/19)
حكم النداء في المساجد عن الأولاد الضائعين
السؤال
هل النداء عن الأولاد التائهين في مكبر صوت المسجد من إنشاد الضالة المنهي عنه؟
الجواب
لا، ليس منه، يدل على ذلك سبب ورود الحديث، كما يدل عليه لغة العرب، فسبب ورود الحديث أن بعيراً ضل، فناداه صاحبه في المسجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم الرجل ينشد الضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك)، يقول أهل العلم والشراح من المحدثين وأهل اللغة: الضالة تطلق على ذوات الأربع فقط، وما دون ذلك يجوز النداء عنه في المسجد وفي غيره.(64/20)
حكم الإعلان عن المتوفى في المساجد بالمكبر
السؤال
ما حكم الإعلام عن المتوفى بواسطة مكبر الصوت في المسجد؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن العزاء ابتداء، ويقول سعيد بن المسيب: كنا نعد الاجتماع للعزاء من النياحة، فالأفضل عندما يموت شخص أن نخبر الأهل والجيران والخلان والأصحاب؛ وكل واحد يخبر الآخر بالهاتف، وكل واحد يخبر الآخر عن طريق الزيارة أو المسارعة في نشر الخبر أو غير ذلك، أو بدعوة الناس في المسجد إلى أن يحضروا الجنازة غداً في المكان الفلاني، وقد مات كثير من أهل العلم في الأيام الأخيرة، وهذه من علامات الساعة، وكان آخر من مات من الفضلاء الشيخ سيد سابق رحمه الله، فذهبنا وصلينا في الشارع وانسدت الطرق بواسطة الهواتف التي اتصل بها طوال الليل فقط، ولم يحصل أكثر من ذلك، لا عزاء ولا نداء ولا شيء من هذا القبيل، فليس بلازم أن تستخدم ميكرفون المسجد أو تدور بطبلة في البلد، أو بميكرفون سيارة نقل وغير ذلك، فلا يجوز هذا.(64/21)
الحكم فيما إذا نزف الدم من الرجل وهو يصلي
السؤال
إذا نزف الرجل وهو يصلي فهل يقطع صلاته أم يتمها؟
الجواب
على أية حال النزيف لا يفسد الوضوء، وجاء عن غير واحد من السلف أن النزيف منه الغسل، يعني: الذي يلزمه غسل موضع الدم فقط، كما جاء عن ابن عمر وجابر وابن سيرين والحسن البصري وغيرهم: النزيف منه الغسل، أما الحديث الوارد عند ابن ماجة: (أن الرعاف يفسد الوضوء)، فهو حديث ضعيف.(64/22)
معنى البيع والكنائس
السؤال
ما هي البيع؟
الجواب
البيع: اسم معابد اليهود، كما أن الكنائس اسم معابد النصارى، كما أن المساجد اسم معابد المسلمين.(64/23)
بيان متى يكون الدعاء في الوتر وغيره
السؤال
إذا صلى الرجل وقنت بالليل فهل يدعو في آخر وتره أم قبل الوتر؟
الجواب
الدعاء يكون في آخر ركعة بعد القيام من الركوع، والدعاء في غير الوتر يكون قبل الركوع من آخر ركعة.(64/24)
ما يفعله من عصى الله ثم أراد التوبة وطلب العلم
السؤال
ماذا يفعل من كان في أول سن البلوغ والمراهقة ومارس مع الصبية والفتيات الأقارب الفحشاء في نهار رمضان، علماً بأنهم كانوا ممسكين، ولكنهم مارسوا الفحشاء، حيث لم يكونوا يعلمون بمدى حرمة ذلك، ولا عقوبته، وإن كانوا يعلمون بفطرتهم أن ذلك حرام، فهل يفسد صيامهم، وعليهم إعادة؟ مع العلم أن ذلك تكرر خلال رمضانين، وقام أحدهم -عندما نوى التوبة- بحصر الأيام التي فعل فيها ذلك وصام أغلبها، ولضعف بدنه وفتور صحته فدى عن الباقي، وأقلع عن تلك الأفعال ومصاحبة هؤلاء الأقارب، وكان ذلك منذ أربع سنين تقريباً، ولكن لا زال ألم المعصية يقلقه ويريد القول الفصل في ذلك، فهل يكفيه ما فعل، وإن لم يكن فأين السبيل يرحمكم الله، وماذا يفعل من يريد التخلص من مظلمة عرض مع العلم أن صاحبها ذو قرابة، وإن صارحه بذلك قد تنقطع صلة الرحم ولا يعفو إلا قليلاً، وأن الحكمة في سؤالهم العفو وابتغاء وجه الله ويحدث ما يحدث أم ماذا؟ والذي يريد طلب العلم مع العلم بفقره الواضح، وأن أهله وأبويه يضطرونه لجلب المال، هل عليه أن يستجيب لهم وينعزل في المنزل بعد ذلك للقراءة حتى يتيسر الحال، أم يضرب بهم عرض الحائط، ويتفرغ لطلب العلم، خاصة وأن جهله قد أورده الموارد؟ أسألك بالله أن تكون بي رفيقاً في الجواب، فإني لا أهنأ بعيش ولا بنوم وأشعر أنني من كثرة ذنوبي أن توبتي لن تقبل، وأنني سأصير بعد حياتي هذه والعياذ بالله حطباً لجهنم، فأرجو مراعاة إقبالي على ربي وحالتي النفسية، وبم تنصحني لأجتنب حياة الفساد وأحيا حياة كريمة؟
الجواب
على أية حال هذه الرسالة تشير إلى توبة صاحبها، فهنيئاً له أنه يتقلب بالليل والنهار ألماً، فهذا يدل على صدق التوبة والأوبة والرجوع إلى الله عز وجل، ولكن سؤال السائل ينقسم إلى عدة أمور: الأمر الأول: أنه وقع في الفحشاء، والواضح من قراءة الرسالة بتمامها أنه وقع في الزنا، فإن تكرر منه هذا فإجماع أهل العلم أن كل زنا يحتاج إلى كفارة، ولا تجزئ كل كفارة واحدة لمجموعة من الوقائع أو الفحشاء، فعلى الأخ أن يتقرب إلى الله عز وجل في صدق توبته بأن يصوم شهرين متتابعين ومعها يوم إذا كان ذلك في رمضان لكل وقعة فاحشة وقع فيها بغير اتصال، وإذا كنت تتلذذ بهذه المعصية فاعلم أنك لو داومت على الصيام فإنك تستمرئ صوم الدهر كله.
وكثير من السلف كانوا يقولون: لقد عانينا قيام الليل عاماً حتى صار سجية، وقد سأل غير واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يقدرون على سرد الصوم، فأذن لبعضهم ولم يأذن للبعض الآخر، فكل هذه النصوص هي بشرى لك بأنك إذا ألفت أن تصوم هذه الكفارات فستكون في نهاية الأمر سجية لك، وما الذي يمنعك أن تصوم عاماً أو عامين أو ثلاثة، كفارات لهذه الفواحش التي وقعت فيها؟ الأمر الثاني: أن صحبة هذا الرجل كلها صحبة فساد كما هو واضح من سؤاله، وأنتم تعلمون أن من عوامل نجاح التوبة التخلص من أصحاب السوء، ولا أدل على ذلك من هذا الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم ختمها بالراهب فأتم المائة؛ فأمر به أن يرحل عن بلده؛ لأن بها قوماً سوءاً، إلى أرض أناس صالحين يعينونه على طاعة الله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
ويقول الحسن البصري: صديقك من صادقك -أي: من نصحك- لا من صدقك، صديقك من صادقك، أي: من نصحك وأخذ على يديك وأرجعك إلى الصواب، لا من صدقك في كل ما تقول من خير وشر، فإن هذا ليس بصاحب.
وأنصح هذا الأخ السائل أن يحرص على طلب العلم فإنه النجاة كل النجاة، وما أوقعه فيما وقع فيه إلا الجهل كما يقول، وهو صادق إن شاء الله في زعمه أنه لم يكن يعرف أن هذا حرام أو لا يعرف عقوبة هذا الفعل، غير أنه يعلم بفطرته أن هذا الفعل قبيح، بل إن لفظة قبيح تعتبر قولاً رقيقاً بالنسبة لهذه المسائل، فهذا وقوع في الفاحشة.
فعلى أية حال لو فرضنا صدقه -والأصل فيه الصدق- فيجب عليه أن يتخلص من صحبته تماماً، وأن يقبل على الله تبارك وتعالى، ولا يجد أحسن من طلب العلم؛ ففيه النجاة كل النجاة، ويتخلص من الصحبة السيئة، ولا ينام وحده حتى لا يفكر في مقدمات هذه المعصية مرة أخرى، وألا يغلبه الشيطان في وحدته، ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يسافر الرجل وحده ولا يبيتن وحده)؛ وذلك لتسلط الشيطان وغلبته على هذا الوحيد الشريف، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، فربما حدثتك نفسك بالوقوع في المعصية، ولكنك لعلمك أن فلاناً أو فلاناً ينظر إليك تكف عن هذه المعصية؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (استحيوا من الله على قدر حيائكم من رجلين صالحين من قومكم)، فتصور لو أنك أردت أن تنظر إلى امرأة أجنبية جميلة تمر في الشارع، ولكن معك رجل من صالحي قومك، هل تجرؤ أن تنظر إليها؟! فاستحي من الله عز وجل استحياءك من هذا الرجل الصالح.
أما ما ذكره من صلة(64/25)
بيان ما يفعله من وقع في عرض أخيه
السؤال
ماذا يفعل من وقع في عرض فلان؟
الجواب
إذا كنت وقعت في عرضه بالغيبة والنميمة فلا بأس أن تذهب إليه وتستسمحه، وإذا كان يحدث من ذلك مفسدة عظيمة فقم الليل دعاء له واستغفاراً له، وإن كنت ذا مال فتصدق عنه، يعني: ابذل له كما بذلت عليه.(64/26)
حكم تحريك الأصبع عند التشهد في الصلاة
السؤال
عند التشهد في الصلاة الأولى تحريك الإصبع، أم الإشارة به فقط؟
الجواب
المسألة محل نزاع، لكن الذي يترجح لدي أن التحريك زيادة من زائدة بن قدامة، وإن كانت هذه اللفظة قد جاءت في صحيح مسلم، فالحافظ ابن حجر غمزها في تلخيص الحبير، والإمام البيهقي في كتابه السنن غمزها وقال: هذه اللفظة إما أنها شاذة، وإما أن يحمل التحريك على الإشارة، وسئل أحمد بن حنبل: ماذا نعمل في التشهد؟ قال: تنصب السبابة بشدة.
قيل له: أنحركها؟ قال: لا، فمن أقوال أهل العلم الذي يترجح لدي: أنك تشير بالسبابة دون أن تحركها خفضاً ورفعاً، والله تعالى أعلم، وعلى أية حال، هذه من المسائل المختلف فيها، والخلاف فيها أمره هين.(64/27)
حكم الاستمناء
السؤال
رجل أصيب بمرض في شيء من عضوه التناسلي، ولا يستريح إلا بالاستمناء مرة كل شهر أو شهرين فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب
على أية حال يا أخي! لابد أن تعلم أن النار حفت بالشهوات، وأن الجنة حفت بالمكاره، فمن الشهوات الاستمناء، والاستمناء حرام، وهذا الراجح من أقوال أهل العلم، وأقوال أهل العلم في الاستمناء ثلاثة: منهم من قال بالجواز، ومنهم من قال: بالحرمة مطلقاً، ومنهم من فصل فقال: لا يكون الاستمناء مأذوناً فيه أو مباحاً إلا في حال حرب أو سفر أو غياب الرجل عن امرأته، وخوفه أن يقع في الفتنة، يعني: لو أن امرأة جميلة عرضت عليك، فإما أن تزني وإما أن تستمني، ولا خيار ثالث في هذه القضية، فأيهما أولى؟ الاستمناء بغير تردد، فكلاهما ضرر، وكلاهما حرام، لكن ليست حرمة الاستمناء كحرمة الزنا الصريح، فارتكاب أخف الضررين أولى من ارتكاب الضرر الأكبر.
والإمام الشافعي عليه رحمة الله احتج على حرمة الاستمناء بقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، فأنت لست مأذوناً إلا مع امرأتك الحرة أو مع إمائك، فمن ابتغى بعد ذلك استمتاعاً مع غير الأمة والمرأة الحرة فإنه يكون متعدياً، حده: ((فَمَنِ ابْتَغَى)) أي: فمن أراد بعد الحرة والأمة ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)) والعدوان هنا يفيد الحرمة في مقابلة حل الزوجة والأمة، فعلى جهة المقابلة يكون حراماً.(64/28)
حكم الذهاب إلى أمريكا للعمل
السؤال
عرض علي السفر إلى أمريكا للعمل أكثر من مرة ورفضت ذلك، فما قولكم في السفر هناك للعمل، خاصة وأن من يذهبون يعملون في مجالات تخدم القوم، وتعينهم على التفوق في مجالات الكمبيوتر والتكنولوجيا؟
الجواب
على أية حال أظن أن بلادنا -والحمد لله- فيها من التقدم التكنولوجي وفي عالم الكمبيوتر وغيره الشيء الذي يغنينا ويسد الحاجة، لكن إذا أردت أن تذهب هناك كرحلة علمية فأهلاً وسهلاً بشرط أن تصحب معك امرأتك، أو ألا تغيب عنها أكثر من أربعة أشهر لحاجتك إليها وحاجتها إليك، فإن عمر وابنته حفصة رضي الله عنهما قد حددا أقصى مدة يمكن أن تحتملها المرأة في غياب زوجها، وهي أربعة أشهر؛ ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقسم الجيش أقساماً فلا يزيد قسم عن أربعة أشهر حتى يأذن لهم بالرجوع إلى زوجاتهم في المدينة، لكن لابد أن تعلم أن الذهاب إلى بلاد الكفر عموماً أمر منكر في الشرع، والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في سنن أبي داود قال: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين)، فهذا الحديث فيه ترهيب ووعيد شديد لمن يذهب إلى هناك بغير حاجة ولا ضرورة ولا مصلحة شرعية، إن الدعاة يذهبون هناك من أجل الدعوة، وهذا أمر قد كلفنا الله عز وجل به، أما أن تذهب إلى هناك لترى المومسات فهذا هو الإجرام، كما أنك حين تذهب إلى هناك، يحصل لك تمييع لعقيدتك، فالأرض غالباً تلعب مع أصحابها، فالأرض هناك تلعب مع الكفر، وإنك إذا نظرت فوق وتحت وفي جميع الجوانب لا تجد إلا كفراً بواحاً، وعندما تذهب إلى هناك ستجد صعوبة في كل شيء، ولو أردت أن تكون متمسكاً بدينك فإنك تجد صعوبة في ذلك.
وأذكر أنني لما ذهبت إلى هناك قلت لهم: إنني مقاطع للحم الذي في هذا البلد نهائياً، فمعذرة أريد سمكاً، فقالوا لي: إنهم يشوونه بشحم الخنزير، وما قيل لي هذا الكلام إلا بعد أن أكلت سمكاً حتى شبعت، وعندما سافرت إلى منطقة اسمها (بورتلاند) في غرب أمريكا أحضروا لي لحماً، فقلت لهم: الأصل في لحوم هذه البلاد التحري، فقالوا: يا شيخ! إننا ذبحنا هذا في إحدى رحلات الصيد، فقلت: إذن لا مشكلة نأكله، فلابد في كل مرة أن تسأل وتتحرى، فقلت: ألا تخلصوننا من هذا القلق وتعطونا سمكاً ويكفي، فقالوا: من أين نأتي لك بسمك، فإنه من الممنوع أن نشوي في البيوت.
وفي المقابل المركز الذي نزلت فيه قلت للطباخ: بالله عليك أتقلي السمك في شحم خنزير أو في زيت؟ قال لي: الذي يريد في زيت أقلي له في زيت، والذي يريد في شحم أقلي له في شحم.
فقلت: السمك الذي وصلني وأنا في المركب أستحلفك بالله بماذا قليته؟ قال لي: والله مرة هكذا ومرة هكذا! فدعوت عليه، لأنه من المفروض حتى وإن قيل له: أنا أريد سمكاً بشحم خنزير أن يقول: لا، وينكر عليه، فضلاً عن أنه لا يحل لك أن تستخدم شحم الخنزير في محلك أبداً، وغضبت غضباً شديداً، ونهرت هذا الأخ، مع أن كان يصلي معنا كل فرض، وكان أحياناً يذهب بعد صلاة الفجر ويأتينا إلينا بالحليب وغير ذلك من وجبات الإفطار، فلما سألته عن سبب فعله لهذا الشيء قال: يا شيخ! هذه طبيعة الحياة هنا، هذه طبيعة الحياة هنا!! وعندما رجعت إلى مصر وسألت الإخوة في السويس عن هذا الرجل وقصصت عليهم قصته، فقالوا: هذا كان من الدعاة هنا، وإيرادي لهذه القصة من أجل أن أثبت لك أنك إذا ذهبت إلى هناك تتأثر، فهو مطلوب منه هناك أن يسدد ألفي دولار شهرياً للمحل، وألف دولار للسكن، وألفي دولار آخرين للطعام والشراب، يعني: خمسة آلاف دولار شهرياً من أين يأتي بها؟ فلابد أن يتجاوز دائرة الحل إلى الحرمة، وأنت يا أخي! من الذي أكرهك على ذلك؟ لماذا يا أخي! لا تأتي إلى بلادك وتأكل من تحت رجليك، وفي بلدك اليوم الذي لا تجد فيه فولاً وطعمية خذ تراباً من تحت رجليك، وما أظن أن أحداً في هذا الزمان يبيت جائعاً لا في بلاد المسلمين ولا في بلاد الكفار.
فالشاهد: أنني أنصح دائماً بعدم الذهاب إلى بلاد الكفار عامة وبخاصة أمريكا، وأنا قد تكلمت وشتمت ولعنت أمريكا والذي يريد أمريكا في هذا المسجد وفي غيره مرات ومرات، وقلت: إن الذين يذهبون إلى هناك يصعب عليهم جداً أن يتمسكوا بدينهم، فضلاً عن أنهم ضعفاء أصلاً قبل ذهابهم، فأنت لن تسافر من هنا وأنت ابن تيمية أو أحمد بن حنبل، إنك ستسافر من هنا بضعف إيمانك وهزالته، فتذهب إلى هناك، فيكون ضعفاً على ضعف على كفر على فجور على مجون، وستلقى نفسك بعد سنة ضائعاً تائهاً.
وقد أساء بي الظن بعض المستمعين، وظنوا أني أرد على بعض إخواني كالشيخ محمد حسان والشيخ عمر بن عبد العزيز القرشي وغيرهم من الإخوة الأفاضل الطيبين، والله ما قصدت الرد على هؤلاء، بل قبل أن أذكر هذا وقبل أن أنقم على أمريكا وعلى من يريد أن يذهب إلى أمريكا، تحدثت مع أخي محمد حسان ومع الشيخ عمر بن عبد العزيز، وقلت: يا إخواني! الذي ذكرتموه على سبيل المدح(64/29)