رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج
ونبدأ بخلاف أهل العلم في مدى تمكن النبي عليه الصلاة والسلام من رؤية ربه في ليلة الإسراء من عدمها، فهل رآه حقاً بعيني رأسه أم رآه بفؤاده؟ ذكر الإمام النووي في شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (سألت النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نور أنى أراه؟)، وأنى بمعنى: كيف، أي: نور كيف أراه؟ فقد حجب النور رؤيتي لله عز وجل، فلو لم يكن هذا النور لرأيته.
وهذا يدل على أنه لم ير الله عز وجل، لكن سئل ابن عباس رضي الله عنه: (هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج؟ فقال: نعم).
ولا شك أن الإسناد إلى ابن عباس صحيح، ولكن وقع نزاع في إجابة ابن عباس المترتبة على السؤال، فقوله: (نعم)، ماذا يقصد به، هل قصد ابن عباس أنه رآه بعيني رأسه، أو أنه رآه بفؤاده وقلبه؟ فبعضهم مال إلى أن إجابة ابن عباس مفادها أنه رآه بعيني رأسه، وليس هناك تصريح في شيء من كتب السنة أن ابن عباس قال: رآه بعيني رأسه، ولكنهم حملوا إجابته على رؤية العين.
وأما جمهور أهل العلم فحملوا إجابة ابن عباس على رؤية الفؤاد، خاصة وأن عائشة رضي الله عنها حدثت بالسند الصحيح إليها فقالت: (ومن حدثكم أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وفي رواية: (فقد كذب).
أي: من حدثكم أنه رآه بعيني رأسه فقد كذب، ولم توجه هذا الكذب لـ ابن عباس؛ لأنها حملت كلام ابن عباس على رؤية الفؤاد ورؤية القلب، ولم تحمله على رؤية العين.
فتبين عند التدقيق أن كلام السلف جميعه محمول على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لله تعالى بعين قلبه وفؤاده لا بعين رأسه.
وهنا نحمل كلام من أثبت الرؤية على رؤية الفؤاد والقلب، ومن نفى الرؤية على نفي الرؤية بعيني رأسه، فنخرج من هذا أن الرؤية ثبتت للنبي عليه الصلاة والسلام بعين قلبه لا بعيني رأسه.(31/3)
إثبات النووي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعيني رأسه والرد عليه
ولكن الإمام النووي عليه رحمة الله مال إلى إثبات رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه بعيني رأسه، فقال عليه رحمة الله بعد أن ذكر خلاف أهل العلم في هذه القضية: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء؛ لحديث ابن عباس، والإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أي: ليس معقولاً أن ابن عباس يجيب السائل: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه؟ فيقول: نعم؛ من غير أن يكون عند ابن عباس دليل، لكن ابن عباس لم يسق هذا الدليل.
وهذا غير صحيح، ولو ساق الدليل لحملناه على أنها رؤية فؤاد وقلب.
قال: وهذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه.
أي: أن الصحابة إذا أخبروا في هذه القضية بخبر فلا بد أن يكون لهم فيها نص عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان معها منه حديث لذكرته.
يقصد أن عائشة لما قالت: (من حدثكم أن محمداً قد رأى ربه فقط أعظم على الله الفرية).
فهذا كلام من عندها هي، وهي لم تنف الرؤية بحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى أنها لم تسأله فأجابها بالنفي.
فنقول: إذا كانت عائشة رضي الله عنها لم تنف بحديث مرفوع فقد نفى بحديث مرفوع أبو ذر رضي الله عنه، وذلك لما قال: سألت النبي عليه الصلاة والسلام: (هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نوراً)، وفي رواية: (نور أنى أراه؟) أي: حجبني النور، أو أن الله تعالى نور، فمن أسمائه النور، وهذا النور مخلوق لله عز وجل بنور الله عز وجل الذي هو اسم من أسمائه، ولا يجوز أن نشبه النور الذي نعرفه بالنور الموصوف به الله تبارك وتعالى والمسمى به؛ لأن النور جسم من الأجسام، وهذا لا ينبغي ولا يجوز لله عز وجل.
وقال النووي في تأويل حديث أبي ذر: (نور أنى أراه؟): حجابه نور فكيف أراه؟ أي: والحالة هذه فكيف أرى الله عز وجل وقد حجبني عن الرؤية النور الذي اتخذه الله عز وجل، أو النور الذي هو من أسماء الله تعالى وصفاته.
فإذا كان الإمام النووي يؤكد هذا المعنى، ويميل إلى هذا التأويل فما باله يذهب مرة أخرى إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه؟! فهذا يؤكد صحة ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه في تلك الليلة.
فإن قيل: إن هذا حدث وعائشة لم تزل صغيرة، فلعلها أخطأت، فنقول: لم لم ترجع عائشة عن هذا القول؟ نعم أن الإسراء والمعراج كان والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ولكن عائشة استمرت حياتها بعد ذلك لمدة أعوام، وماتت في سنة (50) هجرية أو بعدها، فإذا كانت عائشة قد أخطأت قبل أن تبلغ الحلم فما الذي منعها أن تصحح هذا الخطأ بعد بلوغها، وفي تقدمها في السن؟ وخاصة أن هذه مسألة اعتقادية خطيرة لا بد وأن تراجع فيها عائشة مرة أخرى وثانية وثالثة، فلم لم ترجع عن هذا المذهب؟ ثم إن عائشة لم تنفرد هنا وحدها بالنفي، فهناك معها أبو ذر، ومعها عبد الله بن مسعود، وسكوت الصحابة رضي الله عنهم عن مثل هذا يدل على أنهم موافقون لـ عائشة، وتأويلهم لحديث ابن عباس أنها رؤية قلب يدل على أن المسألة عند الصحابة على جهة الخصوص لم يكن فيها خلاف؛ لتأويل كلام ابن عباس بما يتفق مع مذهب جمهور الصحابة رضي الله عنهم.
وابن تيمية عليه رحمة الله يتكلم بكلام جميل جداً على قوله عليه الصلاة والسلام: (نور أنى أراه؟) فيقول: معناه: كان ثَم نور، يعني: كان هناك نور فحجبني عن الرؤية، وحال دون رؤيته، ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح: (هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً) ولم يقل: نعم، وإنما قال: (رأيت نوراً)، وقد أعضل أمر هذا الحديث، وأشكل على كثير من الناس، حتى صحفه بعضهم فقال: نوراً إني أراه، وهذا لا يتفق مع اللغة العربية، وتصحف كذلك بما هو أقبح من ذلك على بعض المحدثين فقال: (نوراني أراه) بدل (نور أنى أراه؟) فجعلها كلمة واحدة فقال: نوراني أراه، وهذا شر من سابقه.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي -وهو من جبال السنة- في كتابه الرد على بشر المريسي إجماع الصحابة على أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج.
إذاً: فهذا إجماع الصحابة -وهو محل احترام واعتبار- على أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ربه ليلة المعراج، وبعض من صنف في هذا الباب يستثني ابن عباس من ذلك، وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة؛ فإن(31/4)
القول الراجح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والمعراج
وأما الرؤية فالذي ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين).
وهذا تخصيص من ابن عباس أن الرؤية كانت بالفؤاد والقلب، فلم يصرح بل ولم يجسر أحد أن يروي عن ابن عباس تصريحه بأنه رأى ربه بعيني رأسه، في الوقت الذي نجد التصريح الصحيح عن ابن عباس أن هذه الرؤية كانت بالفؤاد مرتين.
وعائشة أنكرت الرؤية، فمن الناس من جمع بينهما فقال: عائشة أنكرت رؤية العين، وابن عباس أثبت رؤية الفؤاد، فهل بعد هذا التوفيق يكون هناك تعارض بين قول ابن عباس وقول عائشة؟! فلابد أن نصدق عثمان بن سعيد الدارمي في أن الصحابة أجمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعيني رأسه.
فالرؤية في معتقد ابن عباس كانت بالفؤاد وليست بعيني الرأس، وهذا المذهب لـ ابن عباس يوافق مذهب جماهير الصحابة في إثبات الرؤية بالفؤاد لا بالعين.
وتارة يقول: رأى محمد ربه، وتارة يقول: رآه محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما لفظ صريح بأنه رآه بعينه.
وكذلك الإمام أحمد تابع لـ ابن عباس في ذلك، والإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله مذهبه أثري حديثي يلتزم بالنص الوارد، وأنت تجد أن أهل العلم يفتون على قواعد أصولية، ويفتون على استنباطات اجتهادية، وكذلك أحمد بن حنبل، ولكن أحمد قال: إذا بلغك الأثر فاعمل به ولو مرة؛ تكن من أهله.
ولذلك لو نظرنا إلى كلام أهل العلم في صلاة الضحى مثلاً لوجدنا لهم قولاً واحداً، ولـ أحمد أقوال: ركعتان، وأربع ركعات، وست، وثمان، واثنتا عشرة ركعة، لماذا؟ لأن كل عدد من هذه الأعداد جاء به نص، فتارة يفتي بهذا الحديث، وتارة يفتي بغيره، وتارة يفتي بالثالث حتى يستوعب ما ورد في المسألة من أقوال وآثار عن السلف.
فـ أحمد بن حنبل قال مرة: رأى محمد ربه، فحمل بعض الناس هذا الإطلاق في كلام أحمد كما حملوه في إطلاق ابن عباس، فقالوا: قصد أحمد أنه رآه بعيني رأسه، وليس الأمر كذلك، بل ورد كلامه مقيداً.
فالإمام أحمد تارة يطلق الرؤية، وتارة يقول: رآه بفؤاده كما قال ابن عباس، والذي قلناه في تأويل كلام ابن عباس نقوله في تأويل كلام أحمد بن حنبل، ولم يقل أحد من الحنابلة أو من غيرهم: إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عباس ففهموا منه رؤية العين، وهذا الفهم لا عبرة به، وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، يعني: ليس هناك دليل يدل لا من قريب ولا من بعيد على أن الرؤية كانت بالعين، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة، بل ولا في الكتاب والسنة ما يدل على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، أي: أن النصوص الصحيحة تنفي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه؛ لإثباتها أن هذه الرؤية بالفؤاد مرتين، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟).
فالمسألة هذه مسألة اعتقادية عظيمة جداً، فلو كانت الرؤية قد ثبتت للنبي عليه الصلاة والسلام بعيني رأسه فما الذي يمنعه أن يصرح بها وأن يبينها بياناً كافياً؛ حتى لا تختلف الأمة، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام قد بين ما هو دونها بمراحل كثيرة جداً، وقد قلنا في باب الرؤية في الآخرة: إن الأحاديث قد تواترت في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، فأيهما أعظم وأجل قدراً: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ربه بعيني رأسه في الدنيا، أم رؤية المؤمنين ربهم بأعين رءوسهم في الآخرة؟ بلا شك أن رؤية النبي عليه الصلاة والسلام أعظم، مع أننا نجد أن المسألة في رؤية المؤمنين لربهم ثابتة بطريق التواتر، يعني: ورد في الرؤية عدة أحاديث عن كثير من الصحابة، في الوقت الذي لا نجد نصاً واحداً يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه.
وقال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، ولو كان الله تعالى قد أراه ذاته العلية بعينه لكان ذكر ذلك أولى، فالنبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج رأى من آيات ربه العظمى، وأعظم آية أن يرى ربه، فلا يتصور أن الله تبارك وتعالى يذكر الآيات الصغرى ولا يذكر الآية الكبرى العظمى وهي الرؤية، فلو كان رأى ربه(31/5)
رؤية المؤمنين ربهم
قال شيخ الإسلام: واتفقوا على أن المؤمنين يرون الله يوم القيامة عياناً، ومعنى عياناً: بأعينهم، ولكن ذلك بشرطين: أن هذه الرؤية تتم في يوم القيامة، ولأهل الإيمان خاصة، كما يرون الشمس والقمر.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أقوام يدعون أنهم يرون الله بأبصارهم في الدنيا، فبعضهم يقول: أنا رأيت الله في المنام، وأنهم يخطر لهم بغير سؤال ما حصل لموسى بالسؤال، فانظر إلى هذه الكرامات! أي: أن الله منحهم هذه الكرامة من غير أن يسألوه، ومنعها عن موسى بعد أن سأله، فهم أكرم على الله من موسى عليه السلام الذي هو من الأنبياء! فأجاب: أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة، وأجمعوا على أنهم لا يرونه في الدنيا بأبصارهم، ولم يتنازعوا إلا في النبي عليه الصلاة والسلام.
وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) يعني: حتى يموت فيبعث يوم القيامة.
فبعد هذا الإجماع المنعقد من الأمة المبني على الدليل: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى الله حتى يموت) من يقول: أنا رأيت ربنا، نقول له: أنت كذاب.
ومن قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال.
ومعظم الصوفية يدعي ذلك، كما قال أحدهم: لو فاتتني رؤية ربي في كل يوم وليلة لعددت نفسي منافقاً، فنقول له: أنت كافر بهذه الادعاءات، وهذا كذب.
قال: فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ لاسيما إذا ادعوا أنهم أفضل من موسى عليه السلام، فإن هؤلاء يستتابون، فإن تابوا وإلا قتلوا، والله تعالى أعلم.
هذا ولم يثبت عن أحمد بن حنبل أنه رأى ربه، ولم يثبت عن الأوزاعي كذلك أنه رأى ربه، وهب أن ذلك ثبت فإنه لا عبرة بهذا الثبوت، فإن رؤية واحد من الأمة لا يمكن أن نعارض بها ما ثبت من النصوص وإجماع السلف.
وأنتم تعلمون أن هناك فرقاً عظيماً بين قول المحدث: هذا أثر أو حديث صحيح، وبين قوله: هذا إسناد صحيح، أما قوله: (هذا حديث صحيح) أو (أثر صحيح) فهذا كلام ينطبق على المتن، وهو ما انتهى إليه السند من الكلام، وأما قوله: (هذا إسناد صحيح) فلا يستلزم قطعاً صحة المتن، فقد يكون السند صحيحاً والمتن شاذاً أو به علة، ومن علل المتن أن يخالف كتاب الله، أو أن يخالف حديثاً صحيحاً، أو يخالف ما أجمعت عليه الأمة، أو تحيل العقول السليمة الصحيحة المستقيمة على منهج النبوة أن يكون هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أو من كلام واحد من أصحابه، ولو كان ذلك لرد لأجل هذه العلل، فما بالك بعد أن سمعت الآيات والأحاديث وإجماع سلف الأمة على أنه لن يرى الله تعالى أحد حتى يموت فيبعثه الله؟ فإذا قلت: قد رأى أحمد ربه، ورأى الأوزاعي ربه؛ قلنا: لا عبرة بهذه الرؤية إن صحت، ومع ذلك فهي غير صحيحة، فليس هناك نزاع ولا اختلاف والحالة هذه.(31/6)
ما روي من أحاديث مكذوبة تفيد رؤية الله في الدنيا من الرسول وغيره
وسئل ابن تيمية عن بعض الأحاديث التي وردت في صفات الله تبارك وتعالى، والتي ليس لها وجود في دواوين السنة، وأنها في الغالب كذب وبهتان؛ فقال ابن تيمية: بل هي كفر شنيع.
قال: وقد يقولون: من أنواع الكفر ما لا يروون فيه حديثاً، مثل حديث: (إن الله ينزل عشية عرفة على جمل أورق يخاطب ويعانق المشاة!)، وهذا أمر مخل جداً بجناب الإله تبارك وتعالى، ومعنى أنه يعانق المشاة ويصافح الركبان: أن الركبان فوق مرتبة الإله، وصور الإله وكأنه رجل يعانق المشاة؛ لأنه بمحاذاتهم وموازاتهم! قال: وهذا من أعظم الكذب على الله ورسوله، وقائله من أعظم القائلين على الله غير الحق، ولم يرو هذا الحديث في أحد دواوين السنة، ولم يروه أحد من علماء المسلمين أصلاً، بل أجمع علماء المسلمين وأهل المعرفة بالحديث على أنه مكذوب على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقال أهل العلم كـ ابن قتيبة وغيره: هذا وأمثاله إنما وضعه الزنادقة الكفار والملاحدة؛ ليشينوا به على أهل الحديث؛ حتى يقال: إنهم يروون مثل هذا.
يعني: يحاولون بقدر الإمكان أن يشوهوا صورة المحدثين، فيقال: هؤلاء هم المحدثون الذين تأخذون عنهم دينكم، يروون أن الله ينزل في عشية عرفة راكباً جملاً، ويصافح الركبان، ويعانق المشاة، وعند ذلك تفقد الثقة في الرواة.
وكذلك يروون حديثاً آخر فيه: (أنه رأى ربه حين أفاض من مزدلفة -يعني: هو نازل من مزدلفة أفاض منها إلى منى- يمشي أمام الحجيج وعليه جبة صوف)، أو ما يشبه هذا البهتان والافتراء على الله الذي لا يقوله من عرف الله ورسوله.
وهكذا حديث: (إن الله يمشي على الأرض)، فإذا كان هناك موضع خضرة قالوا: هذا موضع قدميه، ويقرءون قوله تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50]، وهذا أيضاً كذب باتفاق العلماء، ولم يقل الله: فانظر إلى آثار خطى الله، وإنما قال: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50]، ورحمته هنا النبات.
وهكذا أحاديث في بعضها: (أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الطواف) أي: رأى ربه وهو يطوف حول الكعبة، وفي بعضها: (أنه رآه وهو خارج من مكة)، وفي بعضها: (أنه رآه في بعض سكك المدينة).
قال: وكل حديث فيه: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه في الأرض فهو كذب باتفاق المسلمين وعلمائهم، فهذا شيء لم يقله أحد من علماء المسلمين، ولا رواه أحد منهم.
وإنما كان النزاع بين الصحابة في أن محمداً عليه الصلاة والسلام هل رأى ربه ليلة المعراج؟ فكان ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر علماء السنة يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج، والنصوص واردة عن معظم علماء السنة أنه رأى ربه ليلة المعراج، لكن لم يقولوا: بعيني رأسه.
وكانت عائشة رضي الله عنها وطائفة معها ينكرون ذلك، ولم ترو عائشة رضي الله عنها في ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، ولا سألته عن ذلك، ولا نقل في ذلك عن الصديق رضي الله عنه، كما يرويه ناس من الجهال أن أباها سأل النبي عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ فقال: نعم.
وقال لـ عائشة: لا، فـ عائشة لما سألته نفس
السؤال
هل رأيت ربك؟ قال: لا، ولما سأله أبوها: هل رأيت ربك؟ قال: نعم.
هذا لا يتصور صدوره من النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فهذا الحديث كذب باتفاق العلماء، قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
وذكر القاضي أبو يعلى وغيره: أنه اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله: هل يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، أو يقال: بعين قلبه، أو يقال: رآه؟ وأصح رواية فيها أنه قال: رأى ربه وسكت، والرواية الثانية: رأى ربه بعين فؤاده، أو قال: بعين قلبه.
وكذلك الحديث الذي رواه أهل العلم أنه قال: (رأيت ربي في صورة كذا وكذا) وهو المعروف عند أهل العلم بحديث: اختصام الملأ الأعلى، رواه أحمد بن حنبل، والدارمي في سننه، وليس في أحد من دواوين السنة الأصيلة إلا في هذين.
قال أحمد: حدثني عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة -يعني: في النوم- فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ -وهم الملائكة- قال: لا يا رب!).
الشاهد من هذا الحديث: (أتاني ربي في أحسن صورة وأنا نائم).
إذاً: فرؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ثابتة له في الدنيا، لكن رؤية منام لا رؤية حقيقية، ورؤى الأنبياء حق، فهذه الرؤية كانت منامية، ولم تكن بعين رأسه على الحقيقة.
((31/7)
الرؤية القلبية والفؤادية تكون حسب عبادة العبد وتقواه لله عز وجل
قال شيخ الإسلام: ولكن الذي يقع لأهل حقائق الإيمان من المعرفة بالله، ويقين القلوب ومشاهدتها وتجلياتها على مراتب كثيرة، قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان قال: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فرؤية الله عز وجل لعباده رؤية حقيقية، وما الذي يمنع أن يرى عباده وهو سبحانه وتعالى البصير؟ فهنا يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الرؤية القلبية والفؤادية تكون حسب عبادة العبد وتقواه لله عز وجل.
وبعد أن ذكر إجماع الأمة أن أحداً لا يرى الله عز وجل بعيني رأسه، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا عبد من العباد، قال: لكن من الممكن الرؤية المنامية، والرؤية القلبية، والتجليات، وتحصل لواحد من العباد حسب تقواه وإيمانه وورعه وعبادته وطاعته لله عز وجل.
واستدل على ذلك بحديث: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه) قال: فرؤية المؤمن لله عز وجل بقلبه أو مناماً جائزة ولا مانع منها، وذلك حسب إحسان العبد، يعني: أن يكون مسلماً، وأن يكون مؤمناً محققاً الإيمان بكماله وأعلى درجاته، والذي فوق ذلك هو الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه عياناً، ولما كان ذلك محالاً قال: اعبده كأنك تراه.
قال: وإحالة الرؤية بالعين للعبد لا ينفي أن العبد يرى ربه بعين قلبه أو بعين فؤاده، وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة، على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه.
يعني: رأى صورة ناقصة.
قال: ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة، ولها تعبير وتأويل؛ لما فيها من الأمثال المضروبة بالحقائق، وقد يحصل لبعض الناس في اليقظة أيضاً من الرؤيا نظير ما يحصل للنائم في المنام، فيرى بقلبه مثل ما يرى النائم، وقد يتجلى في الحقائق ما يشهده بقلبه، فهذا كله يقع في الدنيا.
وهذا الكلام إذا عرفه الصوفية طار فرحاً، وسيكون شيخهم الكبير هو ابن تيمية مع أنه العدو اللدود لهم، فهذا الكلام يوافق هواهم، ويوافق مذهبهم ومعتقدهم.
قال: وربما غلب على أحدهم ما يشهده قلبه، وتجمعه له حواسه؛ فيظن أنه رأى ذلك بعيني رأسه، حتى يستيقظ فيعلم أنه منام، وربما علم في المنام أنه منام.
فهكذا من العباد من يحصل لهم مشاهدة قلبية تغلب عليه حتى تفنيه عن الشعور بحواسه، فيظنها رؤية بعينه وهو غالط في ذلك، وكل من قال من العبّاد المتقدمين أو المتأخرين أنه رأى ربه بعيني رأسه فهو غالط في ذلك بإجماع أهل العلم والإيمان.
فكلام ابن تيمية هذا كله نخلص منه إلى أن الرؤية بالعين مستحيلة.(31/8)
قول شيخ الإسلام في رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة
قال: نعم؛ رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضاً للناس في عرصات القيامة.
قوله: (للناس) يعني: كل الناس المؤمن والكافر، ولكن الرؤية على ثلاثة أنواع: فيراه الكافرون ثم يحجب الله تبارك وتعالى نفسه عنهم؛ من باب العقوبة.
لا يراه الكافرون قط، فيعاتبهم ويوبخهم الله عز وجل على كفرهم وعنادهم.
ويراه المنافقون ثم يحجب الله تبارك وتعالى نفسه عنهم؛ عقوبة لهم، ويتجلى ربنا لأهل الإيمان في المشهد كما يتجلى لهم في جنة عدن في كل يوم من أيام الأسبوع، وهو يوم المزيد يوم الجمعة، وهذا ثابت لأهل الإيمان على جهة الخصوص؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
ثم يذكر ابن تيمية عليه رحمة الله بعد ذلك رؤية المؤمنين لربهم، ويسوق عليها بعض الأدلة، فقال: كما تواترت الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)، فالرؤية لأهل الإيمان، وهي رؤية بالأبصار، ولكنها لا تكون إلا في الآخرة.
قال: (وكما ترون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب).
وقال عليه الصلاة والسلام: (جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما وحليهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو: ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف ربنا تبارك وتعالى الحجاب فينظرون إليه عياناً، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي المذكورة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] أي: الجنة {وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] أي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى).
وهذه الأحاديث وغيرها في الصحيحين، وقد تلقاها السلف والأئمة بالقبول، واتفق أهل السنة والجماعة عليها، وإنما يكذب بها أو يحرفها الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والرافضة الشيعة ونحوهم، الذين يكذبون بصفات الله تعالى وبرؤيته وغير ذلك، وهم المعطلة شرار الخلق.
ودين الله تعالى وسط بين تكذيب هؤلاء -أي: بين تعطيل هؤلاء- بما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في الآخرة، وبين تصديق الغالية بأنه يرى بالعيون في الدنيا، وكلاهما باطل.
إن منهج أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية وسط بين المعطلة الذين يقولون: كل هذه الأحاديث كذب، أو يحرفونها فيحملون الرؤية على رؤية الآيات، أو رؤية المحشر، أو رؤية النعيم، أما الله عز وجل فلا يرى عندهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة.
وهناك على الطرف الآخر والنقيض قوم يقولون: إن رؤية الله تعالى بالعين الحقيقية تثبت في الدنيا، بل ولكل العباد، ومذهب أهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة وبين المثبتة، فأهل السنة يقولون: إن رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة ثابتة لأهل الإيمان، ومحجوبة عن أهل الجحود والنكران والكفران.(31/9)
معتقد الفرق الضالة في رؤية الله عز وجل وفي ذاته
أما في الدنيا فإن الله تبارك وتعالى لا يرى بعين الرأس البتة، ولكن يراه النبي عليه الصلاة والسلام في منامه، والدليل الأحاديث التي وردت في اختصام الملأ الأعلى، فهي صريحة في أنه رأى ربه بفؤاده في المنام، وليس هناك أثر واحد يثبت صحة رؤية المولى تبارك وتعالى بعين الرأس في الدنيا لا للأنبياء، ولا للملائكة، ولا لغيرهم، وكلام هؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا ضلال كما تقدم.
ومثل ذلك من يزعمون أنهم يرونه في بعض الأشخاص، يقول أحدهم: أنا رأيت الله في فلان، ولا يقول هذا الكلام إلا الحلولية والاتحادية الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات، ويتحد معها حتى يكون المخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق.
فيقولون: إنهم يرونه في بعض الأشخاص، إما في بعض الصالحين أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم.
قال: فعظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى بن مريم، وهؤلاء الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، وفيهم شعبة من شعب النصارى، واعلم أن هناك ناساً آخرين شراً من هؤلاء، يعممون الرؤية في جميع الخلق، فيقولون بحلول الله عز وجل أو اتحاده في جميع الموجودات حتى في الكلاب والخنازير والنجاسات، وهذا القول كفر، وهو يشبه قول من قال: إن الله موجود في كل الوجود بذاته؛ لأنه يلزمه أن يقول: إن الله تعالى في الحمامات، وفي الحشوش، وفي الأماكن النجسة بذاته.
وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية لله عز وجل، وأنه استوى على العرش كيف شاء، وأنه مع عباده ومع خلقه بسمعه وعلمه وبصره وإحاطته، فيتنزه ربنا تبارك وتعالى عن قول هؤلاء الذين يوجدون الله تبارك وتعالى في هذه الأماكن التي ينبغي أن يتنزه عنها المسلم فضلاً عن رب المسلم.
فهؤلاء الضالون يقولون بأن الله تعالى يتحد ويحل في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات، كما يقول ذلك قوم من الجهمية، ومن تبعهم من الاتحادية -أي: الصوفية- كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وغيرهم، ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب، -يعني: اليهود والنصارى- أن الله سبحانه وتعالى خالق العالمين، ورب السماوات والأرض وما بينهما أجمعين، ورب العرش العظيم، والخلق جميعاً عباده، وهم فقراء إليه، هذا كلام المعتدلين من أهل الكتاب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، فأثبت في أول الآية العلم، وأثبت في آخر الآية البصر والرؤية.
إذاً: فمعيته لخلقه معية علم وبصر وسمع، وهو معكم أينما كنتم، فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً، وإما صبياً أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمه؛ يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وكانوا كفاراً؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفروا وعظم كفرهم، بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولداً، حتى قال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم:88 - 89] أي: مفترى، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:90 - 93].
فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ فهذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله، كما زعمت السبئية من الشيعة، يزعمون أن عليا هو الله تعالى، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثاً ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفق الصحابة رضي الل(31/10)
قول الكرمي في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا
ويقول مرعي الحنبلي الكرمي: اختلف العلماء: هل رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه بعين رأسه أو بعين قلبه، فمذهب ابن عباس وطائفة أنه رآه بعين رأسه، وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأشعري ومن وافقه.
وكذلك أبو الحسن الأشعري لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه.
ومذهب عائشة رضي الله عنها أنه لم يره بعين رأسه؛ لحديث أبي ذر: (نور أنى أراه؟)، وعلى هذا طائفة من العلماء، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: قد تدبرنا عامة ما صنفه المسلمون في هذه المسألة، وما تلقوه فيها قريباً من مائة مصنف، فلم أجد أحداً يروي بإسناد ثابت ولا صحيح، بل ولا عن صاحب ولا عن إمام أنه رآه بعين رأسه.
قال: فالواجب اتباع ما كان عليه السلف والأئمة وهو إثبات مطلق الرؤية، أو رؤية مقيدة بالفؤاد، ولم يثبت عن الإمام أحمد التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه بعيني رأسه.
نحن قلنا: إن فيه ثلاث روايات عن أحمد: رأى ربه بعيني رأسه، رأى ربه بفؤاده، رأى ربه، ولكن رواية إثبات الرؤية بعين رأسه غير ثابتة -يعني: غير صحيحة- وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه رآه رآه حتى انقطع نفسه.
لكن ابن تيمية أعلم بنقول أحمد، فـ ابن تيمية نخل وغربل مذهب أحمد بن حنبل، بل والمذهب الحنبلي كله، بل ومذاهب أهل العلم، فكيف يقدم كلام النقاش على كلام ابن تيمية الذي هو من أهل بيت أحمد بن حنبل، يعني: من أهل بيت علمه وفقهه؟! يقول: وأحمد أجل من أن يكون عنده من عدم السكينة ما يتكلم بمثل هذا حتى ينقطع نفسه، إنما هي حكايات المجازفين في النقول عن الأئمة، فتأمل وصاحب البيت أدرى، وكم للناس من مجازفات في المنقول والمعقول، والمرجع في ذلك إنما هو لأقوال المحققين والعلماء الراسخين والأئمة الربانيين كـ ابن تيمية وغيره.(31/11)
كلام ابن القيم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه
وقال ابن القيم عليه رحمة الله في الزاد: واختلف الصحابة: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه تلك الليلة أم لا؟ فصح عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، فهذه مطلقة وهذه مقيدة.
وصح عن عائشة وعن ابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] إنما هو جبريل، وصح عن أبي ذر أنه سأله: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه؟) أي: حال بيني وبين رؤيته النور، كما قال في لفظ آخر: (رأيت نوراً)، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس مناقضاً لهذا، يعني: حتى ابن عباس ليس مختلفاً مع عائشة ولا عبد الله بن مسعود في الحقيقة؛ لقوله: رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: (رأيت ربي تبارك وتعالى) ولكن لم يكن هذا في الإسراء، -هذا في حديث اختصام الملأ الأعلى- ولكن كان ذلك في المدينة لما احتبس عنهم صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد -أي: بنى رأيه ومذهبه في هذا الأمر- وقال: نعم، رآه حقاً؛ ولكن لم يقل أحمد رحمه الله: إنه رآه بعيني رأسه يقظة وحقاً، وإنما قال: رآه حقاً، ولم يذكر يقظة ولا أنها كانت رؤية عين.
فحكيت عنه روايتان، وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه كـ النقاش: أنه رآه بعيني رأسه، وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك، أي: ليس فيها التصريح بأنه رآه بعيني رأسه، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.(31/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - النهي عن التفكر في ذات الله تعالى
يسعى الشيطان حثيثاً إلى سوق الإنسان إلى نار جهنم سوقاً، وذلك بإقحامه في الكفر بالله، فإن لم يستطع لجأ إلى الوسوسة وتشكيك المؤمن في عقيدته وأحكام الشريعة، ولذلك فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم علاجاً يخنس الشيطان عند استعماله، وهو الاستعاذة بالله منه والانتهاء عن التفكر في ذلك، فالشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.(32/1)
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التفكر في ذات الله عز وجل
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
كنا في أواخر الدروس التي تناولناها فيما يتعلق بأصول الاعتقاد للالكائي قد تكلمنا عن صفات الله عز وجل الخبرية، ولا أدعي أننا أحصيناها شرحاً وبياناً، وإنما ما تناولناه يقاس عليه غيره، فالكلام فيما لم نذكره هو نفس الكلام فيما ذكرناه، وذلك إن شاء الله تعالى معلوم لديكم.
ولذلك ننتقل إلى مسألة أخرى وهي: مسألة الوسوسة في الإيمان، وأظن أن هذا الباب مناسب جداً لما نسمعه في هذه الأيام الأخيرة: أن كثيراً من الإخوة -فضلاً عن عامة الناس- يأتي ويشكو أن الشيطان تسلط عليه في ذات الله تبارك وتعالى، وأنه أوقعه في دائرة الشك في الله عز وجل، وإذا استرسلت معه يقول: أنا أريد جواباً على سؤال محدد وهو: من خلق الله؟ كثير من الناس في هذا الزمان يسأل هذا السؤال.
وهذا بلا شك وسوسة شيطان، وباب من أبواب إغوائه وإضلاله للبشر؛ ولذلك لما أطلع الله عز وجل رسوله على أن هذا الباب سيكون موجوداً في الأمة لم يترك الأمة، بل ولم يترك أهل العلم يجتهدون في دفع هذا الوسواس، وإنما حدد لهم الجواب.
ولذلك عقد اللالكائي هذا الباب وهو: [باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن التفكر في ذات الله عز وجل].
والقرآن الكريم والسنة النبوية كذلك مليئان بالآيات والأحاديث التي تأمر بالتفكر في آلاء الله عز وجل، وفي خلق الله عز وجل؛ في سماواته، وفي أرضه، بل وفي نفسك وأعضائك، وفي حركاتك وسكناتك، وفي الجبال وغير ذلك من مخلوقات الله عز وجل، التي تدل بوجودها على وجود من أوجدها وهو الله تبارك وتعالى.
فنحن مأمورون بأن نتدبر وأن نتفكر في مخلوقات الله لا في ذات الله عز وجل؛ لأن الذي يتفكر في ذات الله عز وجل لابد أنه يئول أمره إلى ما آل إليه أمر الفرق الضالة؛ ولذلك ورد النهي عن التفكر في ذات الله؛ لأنه ربما تطرأ هذه الشبهة على الأذهان والقلوب؛ لغفلة ولجهل من صاحبها، ولتسلط الشيطان عليه في لحظة غفلته مثلاً أو غير ذلك، فقد جعل الشرع لذلك علاجاً.
[عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله عز وجل.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟)].
فالشيطان يأتي إلى العبد المؤمن فيقول له: من خلق الجبال؟ فيقول: الله، ومن خلق السماوات؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق كذا وكذا وكذا فيعدد له خلقاً من خلق الله عز وجل، ولما كان مستقراً عند هذا العبد أن الله تعالى خالق كل شيء فهو يقول في كل
السؤال
الله، فيقول الشيطان -عليه لعنة الله-: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ وكيف وجد الله عز وجل؟ وهذا سؤال بلا شك لا جواب عليه؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإذا بلغ ذلك منك -أي: فإذا بلغ الشيطان منك ذلك المبلغ- فليستعذ بالله ولينته).
فهذا الحديث ذكر فيه الداء، وذكر مع ذلك الدواء، فهو حديث اشتمل على العلة والدواء منها، فالعلة هي: وسوسة الشيطان في ذات الله تبارك وتعالى: من خلقه؟ ولما لم يكن هناك جواب عقلي على هذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن العلاج: أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وتنتهي.
لذلك قال الإمام النووي: وهذا في حالة أن تطرأ الشبهة ولا تستقر في القلب، ولا تكون هذه الخاطرة محل شبهة أو دليل عند من أغواه الشيطان.
فـ النووي يريد أن يقول: إن إغواء الشيطان ووسوسة الشيطان في ذات الله تبارك وتعالى هي على ضربين ونوعين: إما خ(32/2)
نهي السلف عن الخوض في صفات الله بالتكييف والتأويل ونحو ذلك
[قال أبو عبيد القاسم بن سلام لما ذكرت عنده أحاديث: (ضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده)، و (الكرسي موضع القدمين)، و (وأن جهنم لتمتلئ فيضع ربك قدمه فيها) وأشباه هذه الأحاديث؛ فقال أبو عبيد: هذه الأحاديث عندنا حق، يرويها الثقات بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسيرها قلنا: ما أدركنا أحداً يفسر منها شيئاً، ونحن لا نفسر منها شيئاً، نصدق بها ونسكت].
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات الله عز وجل التي هي فوق مستوى عقول البشر: أنهم يؤمنون بها كما جاءت، ويمرونها ولا يتعرضون لها، ولا يخوضون فيها بتأويل ولا بتفسير وغير ذلك، وإنما يؤمنون بها.
قوله: (ضحك ربنا) فهو سبحانه يضحك كيف يشاء، ضحكاً يليق بجلاله تبارك وتعالى.
قوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) ينزل كيف يشاء، فنؤمن بأنه ينزل، لكن لا يعلم الكيفية إلا الله عز وجل، ولذلك كانوا يؤمنون بهذه الأصول ويمرونها كما جاءت، ولا يتعرضون لها، ولا يخوضون فيها بتأويل ولا بشرح ولا بيان؛ لأن هذه الأصول وهذه الصفات فوق مستوى الشرح، وفوق مستوى البيان والتفسير والتأويل، بل هي فوق مستوى العقول.
فإذا كنت أنت لا تدرك ذات الله تبارك وتعالى، ولا تستطيع أن تصف الذات لله عز وجل؛ لأنك لم ترها ولم تر لها مثيلاً؛ فلابد أن هذه الذات متصفة بصفات الكمال، ولا يجوز لأحد أن يشرحها، فضلاً عن أن العقول لا تستوعب ذلك؛ ولذلك أخفاها الله عز وجل حتى على أنبيائه ورسله، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام عنده شيء من ذلك تفصيلاً لأخبرنا به، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام ما ترك خيراً إلا وقد دل أمته عليه، فلما امتنع وسكت عن هذا تبين أنه ليس عنده بيان في هذا.
قال: [وسئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن -وهو ربيعة الرأي شيخ أهل المدينة- عن قول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: الاستواء معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والله عز وجل لا يحد].
وهذا حتى لا تتصور في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أن العرش يحويه أو يحيط به، فالله تبارك وتعالى أكبر من جميع المخلوقات، والعرش مخلوق، فلابد أن العرش لا يحيط بالله عز وجل، فيكون ((اسْتَوَى)) بمعنى: علا وارتفع، لا بمعنى: استولى، ولا بمعنى: قعد.
ولذلك هذه الزيادة من ربيعة زيادة في غاية الأهمية، قال: وأن الله تعالى لا يحد، أي: لا تحده حدود من جميع الجوانب.
قال: [ولما سئل نعيم بن حماد -وهو شيخ البخاري، وهو وإن كان في الحديث ضعيفاً إلا أنه إمام كبير من أئمة السنة -لما سئل عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق) قال نعيم: ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء من الأشياء.
وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية -أي: ذكر رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى- فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف].
مع أن هذه النصوص لها جانب آخر وهو جانب الرؤية، وذلك لأن الرؤية غير حاصلة في الدنيا، وليس لها مثيل كذلك، ورؤيتنا لله عز وجل في الآخرة لا نعلم نحن كيفيتها، فالذي نؤمن به تمام الإيمان أننا نرى ربنا تبارك وتعالى عياناً، فهل نكون في ذلك الوقت على حالتنا وعلى ضعفنا وقلة حيلتنا في الدنيا؟ وهل نكون بهذا التكوين الفسيولوجي حين نرى الله عز وجل في الجنة، أم أن الخلق سيكون لهم بنيان آخر يقوون به على رؤية المولى عز وجل؟ فهذا أمر لا نعلمه، وإنما نؤمن أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى، ويحجب عنه الكافرون فلا يرونه قط.(32/3)
النهي عن الوسوسة في الإيمان
عقد الإمام مسلم عليه رحمة الله باباً عظيماً في صحيحه في كتاب الإيمان وهو: باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها.
فأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به) فيسألون النبي عليه الصلاة والسلام ويخبرونه بحالهم.
قولهم: (إنا نجد في أنفسنا) أي: نشعر بخاطر يجول في نفوسنا، ويتعاظم أحدنا أن يتفوه بكلمة واحدة منه.
يعني: حتى معك أنت يا رسول الله! لا نستطيع أن نذكر شيئاً من ذلك؛ لأن الأمر عظيم وخطير، فهي وسوسة عظيمة جداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقد وجدتموه؟) كأنه علم أن الأمة لابد أن تقع في مثل هذا الداء.
فقوله: (وقد وجدتموه؟) سؤال يستنكر به تسلط الشيطان عليهم، وقد فهم النبي عليه الصلاة والسلام عما هم عنه سائلون.
قال: (قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: ذاك صريح الإيمان).
بعض الناس فهم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ذاك صريح الإيمان) أن الوسوسة من الإيمان، وهذا بلا شك انحراف شديد جداً عن فهم أهل العلم من السلف لهذا الحديث.
فقد أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أن تسلط الشيطان على المؤمن إنما يكون بإغوائه وإضلاله، فإنه قد نجح في إضلاله وإغوائه للكافرين، فإذا فشل الشيطان في إضلال العبد المؤمن -مع أنه نجح في إضلال الكافر- فإنه يتسلط عليه من باب آخر وهو باب الوسوسة والشك في الله عز وجل، وهناك فرق بين عبد جحد الله عز وجل، وعبد شك في الله عز وجل، ففرق بين العبد الجاحد لله وآلائه واستحقاقه للعبودية والربوبية وغير ذلك مما يجب لله عز وجل، وبين عبد آمن وسلم بذلك كله، ولكنه شك في الله عز وجل.
فلما فشل الشيطان مع العبد المؤمن أن يجعله هو والكافر سواء؛ اجتهد عليه في باب الشك والوسوسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقد وجدتموه؟) يعني: هو فشل في خلعكم من إيمانكم، ولكنه رضي أن يحرش لكم في الإيمان، وأن يوسوس لكم فيه، والشك إنما هو الحلقة الوسطى بين الإيمان الكامل وبين الكفر، أي: أن الشك هو الطريق إلى الكفر فقال: (وقد وجدتموه؟) يعني: أو قد تسلط عليكم من هذا الباب؟ (قالوا: نعم.
يا رسول الله!) قال: هذا علامة إيمانكم، ولولا أنكم آمنتم بالله عز وجل، وكتبه ورسله واليوم الآخر، واتبعتم النبي عليه الصلاة والسلام ما تسلط عليكم بالوسوسة؛ لأنه لا يوسوس للكافر، وإنما يغويه مباشرة ويضله مباشرة، فالكافر لا يحتاج إلى وسوسة، وإنما يوسوس الشيطان للعبد المؤمن إذا قوي إيمانه بإيقاعه في دائرة الشك في الله عز وجل.
فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن تسلط الشيطان بالوسوسة في الإيمان إنما هو علامة إيمان العبد، فقال: (ذاك صريح الإيمان).
وفي رواية: (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الوسوسة؟ قال: تلك محض الإيمان) ومحض الإيمان: هو الإيمان الكامل.
إذاً: العبد الذي كمل إيمانه لا يركن إلى كمال هذا الإيمان، بل يجتهد في العبادة، ويجتهد في الطاعة والإخلاص لله عز وجل؛ لأن العبد كلما ازداد إيمانه ازداد الشيطان تسلطاً عليه في باب الوسوسة، فقال لما سئل عن الوسوسة: (تلك محض الإيمان).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله).(32/4)
علاج المؤمن من تسلط الشيطان ووسوسته
أرجو أن تسجل هذه الأدوية؛ حتى تستخدمها إذا تسلط الشيطان -لا قدر الله- عليك، فأول علاج كما في حديث أبي هريرة: (فليستعذ بالله ولينته).
والعلاج الثاني: مجاهدة العبد نفسه في دفع هذا الخاطر وهذه الوسوسة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولينته) يعني: ليكن منك بذل للجهد في دفع هذا الشيطان، ودفع هذا الوسواس، ودفع هذا الخاطر المضل.
قال: (ثم قل: آمنت بالله)؛ فإقرارك الذي يسمعه منك الشيطان في حال الوسوسة أنك تؤمن بالله ورسله أمر يضعف كيده ووسوسته.
وفي رواية أخرى: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: الله، -ثم ذكر بمثله وزاد-: ورسله) يعني: قل: آمنت بالله ورسله.
وفي رواية أيضاً: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا، حتى يقول له: من خلق ربك، فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته).
وفي حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال الناس يسألونكم عن العلم)، وباب التفكر باب من أبواب العلم.
قال: (لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: الله خلقنا؛ فمن خلق الله؟ قال أبو هريرة وهو آخذ بيد رجل: صدق الله ورسوله) يعني: كأن أبا هريرة قد أتاه رجل فسأله عن هذا، فأخذ بيده وقال: صدق الله ورسوله.
وفي رواية: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي هريرة: لا يزال الناس يسألونك عن العلم يا أبا هريرة! حتى يسألونك عن الله عز وجل، فأتى قوم إلى أبي هريرة يسألونه، حتى سألوه عن الجبال والشمس والقمر والأرض وهو يقول: الله خلق هذا، فقالوا: هذا الله خلق كل هذا، فمن خلق الله؟ فتناول كفاً من حصى وألقاه في وجوههم وقال: قوموا عني، صدق خليلي صلى الله عليه وسلم).
وفي رواية أبي هريرة: (ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يقولوا: الله خلق كل شيء، فمن خلقه؟).
وعند أبي داود: (فإذا قالوا ذلك -أي: فإذا قالوا لكم: فمن خلق الله؟ - فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد).
كما أتى المشركون إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: انسب لنا ربك؟ فنزل قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أي: رد عليهم يا محمد! بنسب الله عز وجل أنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
فهذا نسبه، وهذه أعظم سورة في كتاب الله عز وجل على الإطلاق، فكل أجزائها توحيد لله عز وجل، وليس في القرآن من أوله إلى آخره سورة هي أعظم من سورة الإخلاص، كما أنه ليس في القرآن من أوله إلى آخره سورة كلها توحيد لله عز وجل إلا هذه السورة، وجميع القرآن إنما تكلم عن التوحيد وغير التوحيد إلا هذه السورة؛ فإنها لم تشمل إلا التوحيد فقط.
قال: (ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً -أي: دحراً للشيطان- وليستعذ بالله).
إذاً: العلاج (فليستعذ بالله ولينته)، وليقل: (آمنت بالله ورسله)، (وليتفل عن يساره ثلاثاً)، (وليقرأ سورة الإخلاص) فهذه أربعة علاجات للوسوسة، وبهذا يندفع الشيطان ويذهب معه هذا الخاطر، فعلينا أيها الإخوة! أن نؤمن بهذه الأصول، وقد يأتي شخص بعلاج آخر غير هذا العلاج فنقول له: لا علاج غير هذا العلاج إلا أن تذهب إلى الساحر! فإذا كانت النصوص لا تعجبك ولم تأت بنتيجة فالعيب فيك أنت.
وقد ثبت في السنة: (صدق الله وكذب بطن أخيك)، وهو (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الثانية فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الثالثة فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه فقال: قد فعلت؟ فقال: صدق الله وكذب بطن أخيك.
اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ) وأنت تريد من أول جرعة أن تأخذ الدواء وتشفى وتبرأ تماماً؟! إن النصوص تحتاج إلى قلب واع مؤمن، قد تمكن الإيمان منه حتى استطاع أن يتعامل معه، فعند أن تتبع النصوص بغير اعتقاد فإنها لا تنفعك، بل حتى الأطباء يقولون: العامل النفسي في العلاج مهم جداً لإتمام البرء، فأنت عند أن تأخذ علاجاً صرفه لك الطبيب وأنت لا تثق بهذا الطبيب ولا بهذا الدواء، ولا تعتقد أن هذا الدواء سيكون سبباً في الشفاء ففي الغالب لا يعطي نتيجة.
فإذا أردت التعامل مع النصوص فلابد من تنظيف وتطهير القلب أولاً.
إذاً: فهذه خمسة علاجات لدفع هذا الوسواس وهذا الخاطر.(32/5)
كلام الإمام النووي في معاني أحاديث النهي عن الوسوسة في الإيمان
يقول الإمام النووي عليه رحمة الله: أما معاني هذه الأحاديث وفقهها: فقوله عليه الصلاة والسلام: (ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان) معناه: استعظامكم أن تتفوهوا بكلمة من هذا الوسواس لهو دليل صادق على إيمانكم.
أي: أن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً، وانتفت عنه الريبة والشكوك.
واعلم أن الرواية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد -يعني: هو الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام- وهي مختصرة من الرواية الأولى، ولهذا قدم مسلم الرواية الأولى، وقيل: معناه: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، أي: لمن أيس من نقله من الإيمان إلى الكفر، فأعظم ما يصبو إليه الشيطان إكفار الناس وخروجهم عن ملة الإيمان، فقد يفعل ذلك مع شخص فينجح، ويأتي ليفعل ذلك مع الآخر فلم ينجح، فمن غباء الشيطان أنه يصر على وسيلة هو فيها فاشل، فلابد أن يستخدم سلاحاً آخر، ووسيلة ثانية، وحيلة أخرى.
فقال: إن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه، فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه -أي: لعجزه عن كفره- وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة، بل يتلاعب به كيف أراد.
قال: وعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان، وهذا القول هو الذي اختاره القاضي عياض.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله) وفي الرواية الأخرى: (فليستعذ بالله ولينته) فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله عز وجل في إذهابه.
قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها.
يعني: لا يصح أن تقول: لا، إنك أيها الشيطان! مضل مجرم، ولذلك أنا لا أسمع لإغوائك؛ بدليل أن الله تعالى قال: كيت وكيت، فأنت لا تحتاج إلى استدلال وبعد نظر في دفع هذا الوسواس؛ لأنك من الأصل مؤمن كامل الإيمان، فلا تحتاج مع هذا إلا أن تدفع عنك هذا الخاطر سريعاً دون أن تتكلف بإتيان الحجج والأدلة والبراهين على أن هذه من وسوسة الشيطان، بل عليك أن تطرده عن بابك قولاً واحداً دون أن تتكلف بالإتيان بالأدلة.
قال: والذي يقال في هذا المعنى: أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة، ولا اجتلبتها شبهة طرأت؛ فهي التي تدفع بالإعراض عنها، يعني: مجرد خاطر مر على القلب ولم يستقر فإنه يدفع بالإعراض عنه؛ لأنه غير متمكن، وعلى هذا يحمل الحديث.
وعلى مثلها ينطبق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمراً طارئاً بغير أصل دفع بغير نظر ولا دليل؛ إذ لا أصل لهذا العارض حتى نحتاج معه إلى استدلال وبرهان، وهذا يختلف عن الخواطر التي استقرت في القلوب.
وهذا كشخص مرض مرضاً يسيراً، فعند أن ترك العلاج ذهب هذا المرض، بخلاف رجل تمكن المرض منه تمكناً عظيماً، فلما كان هناك فرق بين الداءين في البدن فلابد أن يكون هناك فرق بين الوسوستين والخاطرين في القلب، فإما خاطر خطر ومر على القلب ولم يستقر، وإما خاطر قد مر بالقلب فوجده فارغاً فتمكن منه.
وكأنه يقول: إن هذا القلب إما عامر بالإيمان، وإما فارغ وخاو وخال من الإيمان، فإن كان عامراً بالإيمان فلا تتمكن منه هذه الخواطر والهواجس والوساوس؛ ولذلك يكفي صاحبها أن يستعيذ بالله، وأن يجاهد نفسه مجاهدة يسيرة لدفع هذا الوسواس، وأن يقرأ سورة الإخلاص، وليتفل عن يساره ثلاثاً.
وأما الذي تمكنت منه فمن حقه أن يطالب أن تزال عنه الشبه بالحجج والبراهين.
إذاً: فالوسواس لا يمكن أن يتمكن إلا من القلب الذي فرغ من الإيمان، وحتى تدفع هذا الخاطر لابد من جهد عظيم جداً وخارق في دفع هذا الوسواس بالأدلة والبراهين، فنحن نحتاج إلى أدلة وبراهين لمن كان قلبه خاوياً من الإيمان حتى ندفع عنه ذلك الوسواس، ويعمر قلبه بالإيمان، ويحصن نفسه ضد هذه الوساوس والهواجس.
قال: وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة -يعني: تمكنت من صاحبها بسبب الشبهة التي طرأت عليه- فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فليستعذ بالله ولينته) فمعناه: إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله عز وجل في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته، وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها.
فيشتغل بالذكر، وبالقرآن، وبالاستغفار، وبمصاحبة الإخوة والخلان وغير ذلك من الطاعات.
وهذا الكلام كلام متين جداً في علاج الوسوسة، ودفع الشيطان على هذا النحو.(32/6)
كلام ابن القيم في علاج الوسوسة في الإيمان
وشيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله له كتاب ممتع جداً اسمه: إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، وقد عقد فيه فصولاً متعددة على طول الكتاب وعرضه يتكلم فيها عن كيفية محاربة العبد للشيطان، واعتبر أن الأعداء الذين يعادون ابن آدم إنما هما النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، ومعظم الضلال إنما يأتي منهما، فعقد فصولاً متعددة في أبواب شتى وهو يتكلم وينصح العباد كيف يتعاملون مع الشيطان إذا وسوس لهم في أي باب من الأبواب، فقد يمكن أن يوسوس في باب الوضوء، أو في باب الصلاة، أو في باب الصيام، أو في باب الزكاة، أو في باب الحج، وأعظم أبواب الإغواء والوسوسة إنما هي في الإيمان؛ لأن الوسوسة في هذه الحالة إنما هي في ذات الله تبارك وتعالى.
ولا شك أن الوسوسة كلها مذمومة وغير محمودة، وممقوتة لدى أهل العلم وفي الشرع، لكن بعضها أعظم من بعض، فلا يتصور التساوي بين عبد دخل الشيطان له في باب الوضوء ووسوس له، فبدلاً من أن يغسل العضو ثلاث مرات يغسله ثلاثين مرة، وبدلاً من أن يتوضأ بالمد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به، ويغتسل بالصاع فإنه يتوضأ ببرميل أو برميلين، وبعد هذا كله لا يرى أنه أحسن الوضوء، وهو حقيقة لم يحسن، بل قد أساء الوضوء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً وثلاثاً، وتوضأ النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وثلاثاً وقال: (من زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم).
فقوله: (من زاد عن هذا) أي: من زاد عن الغسلات الثلاث لكل عضو (فقد أساء وتعدى وظلم).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ بالمد -أي: بملء الكفين- ويغتسل بالصاع -وهو أربعة أمداد-، فقال رجل ممن سمعه: إنك لتراني عظيم البدن مشعراً، فلا يكفيني المد، بل لا يكفيني الصاع في الاستنجاء، فغضب جابر رضي الله عنه وقال: قد كان يكفي من هو أعظم منك وأشعر)، يريد أن يقول له: إن الذي أنت عليه وسوسة، ولو أن الإيمان تام كامل عندك لما قلت هذا، وإن كانت هذه بلية فاحتفظ بها كما احتفظ بها الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: (يتعاظم أحدنا أن يتكلم به).
فعند أن تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد وأنت تصب برميلاً؛ فاعلم أن هذه بلية، وحاول أن تعالجها، لكن إياك أن تجعل هذا الأمر حجة، فيلقيها الشيطان على قلبك.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن القيم عن ابن قدامة المقدسي كيفية العلاج من الوسوسة.
فقال: فمن أراد التخلص من هذه البلية -التي هي الوسوسة- فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه عليه الصلاة والسلام على الصراط المستقيم، وأن ما خالف هديه في قوله وفعله إنما هو من تسويل إبليس ووسوسته.
ويوقن العبد أنه -أي: الشيطان- عدو له، وأن النجاة من هذا العداء في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الشيطان لا يدعوه إلى خير قط: {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائناً ما كان، فإنه لا يشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم، ومن شك في هذا فليس بمسلم، ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته، وأي شيء يبتغي العبد غير طريقته، ويقول لنفسه: ألستِ تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم؟ فإذا قالت له: بلى، قال لها: فهل كان يفعل هذا؟ فستقول: لا، فيقول لها: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان؟ فإن اتبعتِ سبيله كنت قرينه -أي: كنتِ قرينة له- وستقولين: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين.(32/7)
النظر إلى أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقتد بهم، وليختر طريقهم.
قال بعضهم: لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته.
يعني: لو كان الوضوء هو غسل الظفر فقط ما غسلت غيره؛ دفعاً للوسواس.
قال زين العابدين يوماً لابنه: يا بني! اتخذ لي ثوباً ألبسه عند قضاء الحاجة، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب؛ لأن الحمام فيه ذباب والذباب يقع على الوساخة والقاذورات، ثم إذا دخلت الحمام وقع هذا الذباب علي.
قال: ثم انتبه زين العابدين فقال: ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا ثوباً واحداً، فتركه.
وكان علي بن أبي طالب يدخل المسجد فيطأ الوحل والطين من بيته إلى المسجد، ثم يصلي ولا يغسل قدمه، فلما حُدِّث في ذلك قال: أليس في الصيف يجف هذا الطيب ويصير تراباً، فتسفيه الرياح على وجهك وفي شعرك وثوبك فتصلي به، أم أنك تتوضأ؟ قال: أصلي به، قال: وأنا أصلي به الآن.
وأتى رجل إلى ابن قدامة وقال له: يا إمام! إني أشكو من عجزي أن أكبر في الصلاة، قال: تشكو من ماذا؟ قال: لا أستطيع أن أقول: الله أكبر، فكيف أقولها؟ قال: قلها كما قلتها الآن.
قال: وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له: لم يفعله عليه الصلاة والسلام انتهى، حتى إنه قال: لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب؛ فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز، فقال له أبي بن كعب: مالك أن تنهى؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبسها ولُبست في زمانه، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله، فقال عمر: صدقت.
ثم ليعلم هذا الموسوس أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة خيراً من الله عز وجل لأعطاها أولاً لأنبيائه ورسله، ثم لأصحاب أنبيائه ورسله، ثم للأمثل فالأمثل، فلما حجبها عن هؤلاء جميعاً دل على أنها شر.
ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله عليه الصلاة والسلام الموسوسين لمقتهم وذمهم، ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم وغير ذلك من كلام السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن شيخه أبي الوفاء بن عقيل: أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مراراً كثيراً وأشك هل صح لي الغسل أم لا، فما ترى يا إمام؟ فقال له: قد سقطت عنك الصلاة.
قال له: كيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة ومنها: المجنون حتى يفيق) وأنت إنسان مجنون، فالذي ينغمس في الماء مراراً ولا يرى أنه قد طهر لابد أن عقله قد ذهب، وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت وأشغله بوسوسته في النية حتى تفوت التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ثم يكذب.
فالأمثل في الموسوسين الذي يخطف تكبيرة الإحرام ويركع مع الإمام، إذ يفوت على نفسه تكبيرة الإحرام وهو كان مدركاً لها، ويفوت على نفسه قراءة الفاتحة وكان في حقه مستطاعاً؛ وكل ذلك وهو يرفع يديه يقول: الله أك، الله أك، الله أك، أك أك أك إلى أن يركع الإمام.
يقول ابن قدامة: ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان -أي: أن هذا الموسوس مطيع للشيطان وليس مطيعاً لله عز وجل- حتى اتصفوا بوسوسته، وقبلوا قوله وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع النبي عليه الصلاة والسلام -يعني: زهدوا في اتباع النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته- حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء النبي عليه الصلاة والسلام، أو صلى كصلاته فوضوءه باطل، وصلاته غير صحيحة، ويرى أنه إذا فعل مثل فعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في مواكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجساً يجب عليه تسبيع يده، يعني: يجب عليه أن يغسل يده سبع مرات.
وأهل العلم يقولون: الفقه كل الفقه في الاقتصاد في الدين، والاعتصام بالسنة، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.
وقال أبي بن كعب: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه -أي: تساقطت- كما يتحات عن الشجر اليابسة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصاداً أن تكونوا على منهاج الأنبياء وسنتهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(32/8)
الأسئلة(32/9)
حكم الأكل في الطريق
السؤال
هل يجوز الأكل في الطريق؟
الجواب
من حيث الجواز يجوز، والأفضل تركه؛ لأن بعض أهل العلم عدوه من خوارم المروءة، وخوارم المروءة هذه مرتبطة بالعرف؛ لأن الشرع لم ينص على أفعال معينة أنها من خوارم المروءة، وإنما هي خاضعة لعرف كل زمان ومكان، فما عده أهل كل زمان في بقعة من البقاع أنه من خوارم المروءة أصبح الأمر كذلك، فلو كان الأكل منها فلا ينبغي لأحد أن يأكل في الشوارع ولا أن يأكل في الأسواق وغيرها، وإلا انخرمت مروءته، ولم تصح شهادته، لكنني أبشرك أنه ليس هناك شيء في هذا الزمان من خوارم المروءة.(32/10)
حكم القول عن الرجل الصالح: إنه من الأبدال
السؤال
كثيراً ما أقرأ في كتب التراجم عن صاحب الترجمة: أنه من الأبدال؟
الجواب
هي كلمة يقولونها للمبالغة في صلاح وتقوى المترجم له، لكنها لفظة أخذت بعداً عظيماً جداً عند المتصوفة، ولذلك ينبغي الاستغناء عنها بغيرها، فيوصف العبد بالصلاح والتقوى والعبادة وغيرها خير من أن يوصف بأنه بدل من الأبدال، فالصوفية عندهم أن الأبدال إنما هم أقطاب يملكون التصرف في الكون من جميع نواحيه.(32/11)
منهج الألباني في تصحيح الحديث
السؤال
هل صحيح أن الشيخ الألباني متساهل في التصحيح؟
الجواب
هذا ليس صحيحاً، وإنما الشيخ له منهج في التصحيح والتضعيف، ومنهجه ليس فيه تساهل.(32/12)
الوضوء بالمد
السؤال
هل يمكن أن يكون المد -ملء الكفين- كافياً للوضوء ثلاثاً ثلاثاً؟
الجواب
يكفي حسب فقه العبد، فإذا علمت أن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كان يتوضأ ولا يبل الأرض بفضل وضوئه؛ علمت أن هذا المد يكفي للوضوء، ونحن قد قمنا بالوضوء بالمد، فكنا نأخذ العلبة من علب المربى في الجيش فنستنجي بها بعد الاستجمار، ونتوضأ منها، فالضرورة علمتنا.(32/13)
الإخلاص أفضل سورة في القرآن على الإطلاق
السؤال
أيهما أفضل سورة في القرآن: الإخلاص أو الفاتحة؟
الجواب
الإخلاص هي أفضل سورة على الإطلاق، كما أن أفضل آية على الإطلاق هي آية الكرسي.(32/14)
حكم زواج المرأة بدون إذن وليها
السؤال
رجل تزوج من امرأة بدون إذن وليها، واستمرت حياتهما لمدة عامين أو أكثر، وبعد ذلك رضي ولي الزوجة، فهل على الزوج والزوجة من حكم شرعي؟
الجواب
هذا الزواج غير صحيح في مذهب الجمهور، وعند الأحناف صحيح، ولكن يفرق بين المرأة البالغة الرشيدة وبين المرأة غير البالغة، فالإمام أبو حنيفة لا يشترط الولي للمرأة البالغة أو الثيب، ويشترطها في غير البالغة، بل يقول: لا يشترط الولي في البالغة ولا في الثيب إذا اختارت كفؤاً لها، فهو أيضاً اشترط الكفاءة، والكفاءة محل خلاف عند أهل العلم: هل هي في الدين فقط أم في الدين والدنيا؟ فالكفاءة في الدين محل اتفاق، والكفاءة في الدنيا محل اختلاف عند أهل العلم، ومعظم الحوادث التي تتم بين الزوجين منشؤها عدم الكفاءة، مثل رجل جاهل يتزوج بمثقفة، ورجل لا يعرف شيئاً عن دينه يتزوج بمتفقهة إلى أقصى حد في دينها، فكيف تستقيم الحياة؟! وكيف سيفكرون؟! فمعظم المفاسد بالفعل تأتي لعدم الكفاءة.
فزواج المرأة بغير ولي نكاحها باطل، لكن الذي تزوج وأنجب وجاء بسرب عيال، وسمع أن الزواج بغير ولي باطل؛ فلا شك أن هذا الزواج قائم، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنه باطل، ولا أن ما دار بينهما زنا؛ وذلك لشبهة المذهب الحنفي، وأنت لو أردت أن تبطل هذا النكاح الذي تم لأبطلت نكاح ربع الأمة، فقارة آسيا كلها أحناف ويعتمدون هذا المذهب، وهو عدم اشتراط الولي، فماذا ستقول لهم؟ أتبطل نكاح ربع الأمة؟! فلا شك أن الذي قد مضى عليه ذلك فليتق الله عز وجل وليستأذن الولي في ذلك؛ ولذلك كثير من أهل العلم يقولون: إن صحة النكاح مشروط بإذن الولي ولو كان بعد الدخول، فمادام الولي قد رضي فإن شاء الله تعالى لا حرج عليك، وإنما الحرج على من أقدم، وهو يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل).(32/15)
رؤية الله في المنام
السؤال
هل يرى الإنسان الله عز جل في منامه، أم أن ذلك من وساوس الشيطان؟
الجواب
بل من وساوس الشيطان، ولم ير أحد ربه تبارك وتعالى في منامه قط إلا النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث اختصام الملأ الأعلى الذي أخرجه أحمد بسند صحيح.(32/16)
معنى حديث: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم)
السؤال
ما معنى حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم)؟
الجواب
ثبت في السنة أن امرأة مات ولدها، فقالت: هو في الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل هو في النار (أتتألين على الله عز وجل؟ فبكت المرأة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا رسول الله ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم).
أي: أنا رسول الله ولا أتألى على الله بهذا، وإنما هو محض فضله تبارك وتعالى.
ولذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يقطع لأحد بجنة ولا نار إلا ما ورد القطع به في الكتاب والسنة، وقد ورد القطع بأن عليه الصلاة والسلام في الجنة حيث قال: (النبي في الجنة، والصديق في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة)، والحديث بتمامه كما أخرجه الطبراني: (ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ كل امرأة ودود ولود عئود، إذا غضب عليها زوجها قالت: لا أذوق غمضاً حتى ترضى) يعني: لا أستطيع أن أنام إلا وأنت عني راض.
فالنبي عليه الصلاة والسلام مقطوع له بالجنة، بل هو أول من يقرع باب الجنة، ولكنه أراد أن يؤدب الأمة ألا تتألى على الله عز وجل، فقد قال رجل من أهل الطاعة لرجل كان على معصية: (والله لا يدخلك الله الجنة أبداً) وهذا الحديث كثير من الإخوة يحفظه، ومن الناس من إذا كان صاحب لحية قطع لنفسه بالجنة، ويحكم على غيره بالنار، والله ليس هذا الفيصل؛ إذ ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى، واللحية من التقوى، لكنك لا تضمن لنفسك أنك في الجنة.
فقال: (والله لا يدخلك الله الجنة أبداً، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي؟ فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عمله)؛ لأن الجنة والنار لا يملكهما إلا خالقهما، فليس لك الحكم بأن هذا في الجنة وهذا في النار؛ لأن الأعمال بالخواتيم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) والعكس بالعكس.
فلا تغتر بطاعتك، فربما يختم لك بغير هذا، وإن العاصي ربما تاب الله عز وجل عليه فختم له بخاتمة السعادة، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.(32/17)
تشكيك الشيطان المرء في قدرة الله عز وجل
السؤال
هل من الوسوسة أن المرء يزعم أن الجن لها قدرة فوق قدرة الله تعالى؟
الجواب
من الممكن أن الشيطان يتسلط على المرء بأن يوسوس له أن الله تعالى غير قادر عليه، فمن الممكن أن يتسلط عليه ويشككه في قدرة الله عز وجل.(32/18)
حكم تخليل اللحية بالماء في الوضوء
السؤال
بالنسبة لتخليل اللحية؛ هل يكفي لتخليلها الإصبع المبلولة بالماء، أم لابد من إدخال الماء خلال شعر اللحية؟
الجواب
على أية حال حديث تخليل اللحية بالماء في الوضوء حديث ضعيف، فإن فعلته بنية النظافة أو إتمام الطهارة فلا بأس، وإن لم تفعله فلا شيء عليك.(32/19)
حكم العمل في المحرمات
السؤال
أنا أعمل في تجارة في الأدوات المنزلية، وأبيع كئوساً لفنادق، وأعرف أن هذا الكأس سيشرب فيه الخمر، فهل علي في ذلك وزر؟
الجواب
نعم؛ عليك وزر، عليك أن تتحرى الحلال في تجارتك.(32/20)
حكم حضور أفراح فيها مغنون ودفوف، وحكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
هل يجوز الذهاب للأفراح وبها مغنون ودفوف، وإن كان يترتب من عدم الذهاب قطيعة الرحم؟
الجواب
الإمام أحمد بن حنبل ما كان يذهب إلى مكان فيه بدعة قط، وإذا رأى شيئاً يخالف دين الله كان يترك المكان وينصرف، والأناشيد الإسلامية فيها شيء إذا كانت عند الرجال، وتاريخ الأمة كله يشهد بأن الذي كان ينشد هن النساء، ويضربن بالدف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (فرق ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف).
وأما الأفراح الإسلامية والأناشيد الإسلامية عند الرجال فلا شك أن هذا كله مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام.(32/21)
من نذر طاعة الله لزمه الأداء
السؤال
امرأة نذرت أن تصلي لله ألف ركعة بعد أن تضع حملها إن رزقت بولد، فهل لها أن تصلي من الألف ركعة قبل الوضع؟
الجواب
لا، سبحان الله! لقد كانت في سعة من أمرها، فضيقت الخناق على نفسها، فأدركت أنه لابد أن تتخفف من هذا النذر؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما يستخرج به -أي: بالنذر- من البخيل)، فلو كنت امرأة ذكية لما نذرت، وإنما أكثرت من النوافل قبل الوضع أو بعد الوضع، فنذر المرأة بألف ركعة قد يكون سبباً في بغضها للعبادة، وإثقال العبادة على قلبها.
على أية حال هذه التي نذرت يلزمها الوفاء بعد الوضع حسب الشرط الذي اشترطته، وهي قد أثقلت على نفسها، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) وهذا نذر طاعة فيلزم الوفاء به.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(32/22)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - تكفير المشبهة
كل الفرق التي ضلت في صفات الله عز وجل إما نفاة أو مشبهة، وإن كان هناك ضلالة أخرى في هذا الباب فمردها إلى هذين الصنفين، والمشبهة من الفرق التي مرقت من دين الإسلام، وقد حكم أهل العلم والدين بكفر من شبه الله عز وجل بشيء من خلقه؛ لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.(33/1)
النفي والتشبيه في الصفات هما أصلا الانحراف والضلال في هذا الباب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إن الفرق الضالة التي ضلت في صفات الله عز وجل إما أنهم نفاة، وإما أنهم مشبهة، وإن كانت هناك ضلالة أخرى فمردها ومرجعها إلى هاتين الضلالتين، وحديث الافتراق تعلقه بصفات الله عز وجل بالدرجة الأولى، فما ضلت هذه الأمة أعظم ضلال إلا لاختلاف فرقها، وكان الصدر الأول للإسلام على الجادة والاستقامة خاصة في عهد الخلفاء الراشدين، فلم تظهر تلك الانحرافات إلا في عهد صغار الصحابة، أي: في أواخر المائة الأولى للهجرة، كما روى مسلم في صحيحه: أن أول من قال بالقدر في البصرة هو معبد الجهني.
فسبب الافتراق والضلال هو أن الأمة اختلفت في ربها وخاصة في صفاته، فمنهم من لم يفهم من صفات الله عز وجل إلا ما يفهم من صفات المخلوقين، وإذا مر على ذكر أو تلاوة صفات المولى عز وجل لا يسعه مع هذا القصور الفكري إلا أن يمثل أو يشبه الله تبارك وتعالى بخلقه، فإذا قرأ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] قال: إن لله تعالى يداً كيدي، وساقاً كساقي، وعيناً كعيني.
وقلنا من باب اللزوم: إذا كانت هذه الصفات الثابتة لله عز وجل هي كصفات المخلوقين فيلزم من ذلك أن نقول: إن الذات تشبه ذوات المخلوقين، ومن هنا وقعوا في اضطراب وحيرة شديدة، لأنهم لا يقولون بتماثل ولا بتشابه الذات، فكيف تختلف الذات وتتحد الصفات مع صفات المخلوقين؟ وهناك فرقة أخرى وهم النفاة الذين أرادوا بزعمهم أن ينزهوا الله تبارك وتعالى، فنفوا عنه هذه الصفات، فقالوا: ليس له عين ولا يد ولا ساق ولا قدم ولا كيت ولا كيت، فلجئوا إلى تأويل النصوص، مع أنه ليس منهجاً للنبي عليه الصلاة والسلام، ولا لأصحابه الكرام، ولا لسلف الأمة، وإنما منهج أهل السنة - وهم أهل العدل والوسطية - أنهم آمنوا بهذه الصفات وأمروها كما جاءت، وفوضوا كيفيتها إلى الله عز وجل، وأما علمها فإنه مستقر معلوم في قلوب أهل السنة والجماعة.(33/2)
الحكم على بعض الفرق الضالة
يأتي بعد ذلك الحكم على أصحاب هذه الفرق، فقد اختلف فيهم أهل العلم: هل هم كفار أم لا؟ فمنهم من أطلق الكفر على الغلاة، وهنا أبين أنه في كل فكر غلاة وأتباع، وعند إطلاق لفظ الكفر فإنما يقصد به الغلاة والأئمة الداعين إلى هذا الفكر لا بقية الأتباع، فلو أردنا مثلاً أن نقول: إن أهل العلم كفروا الرافضة فهل كل من تبنى الرفض أو تمذهب به هو كافر؟
الجواب
لا، وإنما المراد أئمة الرفض والدعاة إليه العالمين بمدلول مذهبهم الفاسد، فهم المعنيون بالكفر لا كل الرافضة، ولا يمكن أبداً أن تسوي بين إمام من أئمة الرفض كـ الخميني مثلاً وبين رعاع الشعب الإيراني أو رعاع الشيعة الرافضة، فهذا غلام ولد ونشأ في مجتمع يكفر أبا بكر وعمر، وهو لا علم له بحقيقة مذهب الرافضة، بخلاف خميني إيران الذي صار صدراً وإماماً يدعو إلى هذه البدعة، ويتقرب بزعمه إلى الله بتكفير أبي بكر وعمر، فلا يستويان قط.
ولذلك إذا قرأت في تكفير أصحاب الفرق الضالة فاعلم أنه حكم ينصب على الغلاة لا على بقية أهل المذهب.
والمشبهة هم الذين مثلوا أو شبهوا صفات الخالق بصفات المخلوقين، وأحياناً يطلق أهل العلم لفظ المشبهة ويعنون بها النفاة، مع أنهم نفاة وليسوا مشبهة؛ لأنهم شبهوا الله تعالى بالعدم، وجعلوه إلهاً بلا صفات، فلا يتصور أن يكون هذا الكتاب ذاتاً بغير صفات، فله لون وله حجم وله عرض وله طول وله عمق وهذه صفاته، فلا يتصور أن تكون هناك ذات بغير صفات، والذين نفوا الصفات عن الله عز وجل -بزعمهم حتى لا يمثلوه ولا يشبهوه بالمخلوقين- إنما وقعوا في شر مما فروا منه، وهو أنهم شبهوا الله تعالى بالعدم، فيطلق عليهم مجازاً مشبهة.(33/3)
سياق ما روي في تكفير المشبهة
الإمام اللالكائي في هذا الباب يروي ما ثبت عن السلف في تكفير المشبهة فقال: [قال شعبة بن الحجاج العتكي قال لي الأعمش - وهو سليمان بن مهران الكوفي - ما عندك في قوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137] فقال شعبة: حدثني أبو حمزة قال: قال لي ابن عباس: لا تقل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137] فإنه ليس لله مثل، ولكن قل: (فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا)].
وهذه قراءة ابن عباس، ولا حرج في هذه القراءة وليست شاذة، ولكن ابن عباس يفهم من رده -وهو حبر الأمة-: أن بعض الناس يتصور أنه يجوز له أن يؤمن بإله آخر، وينزل هذا الإله منزلة الإله الأعظم كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فقد كانوا يعبدون أصناماً وخشباً وثماراً وأعظماً وينزلونها منزلة الإله، ويعطون لها ما هو حق خالص للإله الأعظم سبحانه وتعالى، الإله الحق، فيستغيثون بها، ويذبحون وينذرون لها، ويستعينون بها، وغير ذلك مما لا يجوز ولا ينبغي إلا لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله لغير الله فقد اتخذ شريكاً لله عز وجل، وما قام بحق العبودية ولا الوحدانية لله عز وجل.
فخشي ابن عباس أن بعض الناس يتصور أنه يجوز له أن يعبد إلهاً آخر مماثلاً -في ظنه- لله عز وجل.
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]، فلو أنهم آمنوا بمثل ما آمنتم به -وهو الله- فقد اهتدوا.
فيجوز على هذا الفهم لكل واحد أن يعبد إلهاً ليس الله عز وجل، فكانت القراءة عنده في هذه الآية: (فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا).(33/4)
مناظرة بين عبد الرحمن بن مهدي وأحد المشبهة
قال: [قال عبد الرحمن بن مهدي لفتى من ولد جعفر بن سليمان: مكانك، فقعد حتى تفرق الناس]، وعبد الرحمن بن مهدي إمام من أئمة السلف، وصاحب سنة وهدي، وهو شيخ الإمام أحمد بن حنبل، ومنه تعلم السنة، والاعتقاد الصحيح، وكانت الحلقة تجتمع لـ ابن مهدي بما يتجاوز المائة ألف، فيعلمهم السنة والحديث والفقه، فلما أراد القوم أن ينصرفوا بعد فراغ ابن مهدي من المجلس أشار إلى فتى من ولد جعفر بن سليمان الأمير، فقال: مكانك لا تنصرف وأمر الناس بالانصراف.
[ثم قال: تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف -يعني: أتعرف ما في هذا البلد وهو بغداد من الأهواء والاختلاف والاضطراب في العقيدة؟ - وكل ذلك يجري مني على بال] يعني: هذه الاختلافات والأهواء المضلة أنا عندي بها خبر، ولست غافلاً عنها.
قال: [وكل ذلك يجري مني على بال رضي إلا أمرك وما بلغني] يعني: إلا أمرك لم يخف علي, وأن هذه الأهواء وهذه الفتن المضلة وإن كانت فتناً إلا أنها أقل خطراً من الذي بلغني عنك، وكأنه قد أتى ببدعة جديدة لا عهد ولا قبل لأهل الإسلام بها.
قال: [فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصر إليكم] أي: ما لم يصل إليكم يا معشر السلاطين.
[فإذا صار إليكم جل وعظم] يعني: أما الفتن والاختلافات بين عامة الناس فيمكن حلها بالمناظرات والمجادلات وإقامة الحجج والبراهين، وأما إذا تبنى السلطان مذهباً فاسداً فسرعان ما ينتشر ويجد له ظهراً قوياً يحميه، كما كان في الدولة العباسية من تبنيهم المذهب الاعتزالي، فأوذي السلف إيذاءً عظيماً جداً بسبب أن أئمة العباسيين وسلاطينهم قد تبنوا الاعتزال، فلهم ظهر يحميهم، ولهم صولة ونجدة.
وأما إذا كان الأمر لا يعني السلطان من قريب ولا من بعيد ولا يتبناه فإن الأمر يهون.
قال: [فقال: يا أبا سعيد] وهي كنية عبد الرحمن بن مهدي.
قال: [وما ذاك؟] أي: وما هذا الذي بلغك عني؟ قال: [بلغني أنك تتكلم في الرب تبارك وتعالى وتصفه وتشبهه، فقال الغلام: نعم] كأنه أراد أن يقول: وما الغضاضة؟ وماذا تنكر علي؟ قال: [فأخذ يتكلم في الصفة] انتقى صفة من صفات الله عز وجل وأخذ يتكلم عنها مع الإمام.
[فقال: رويدك يا بني] أي: على مهلك.
قال: [حتى نتكلم أول شيء في المخلوق] يعني: قبل أن نتكلم في صفات الخالق نتكلم في صفات المخلوق.
قال: [فإذا عجزنا عن المخلوقات فنحن عن الخالق أعجز وأعجز، أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة عن أبي إسحاق الشيباني قال: سمعت زراً - وهو ابن حبيش - قال: قال عبد الله - وهو ابن مسعود - في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]] كأنه أراد أن يقول له: ماذا تقول في تأويل هذه الآية؟ [قال: رأى جبريل له ستمائة جناح، قال: نعم] يعني: ابن مهدي يقره على هذا الفهم لهذه الآية.
[فعرف الحديث، فقال عبد الرحمن: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح] أي: صف لي جبريل.
قال: [فلما عجز بقي الغلام ينظر إليه، فقال عبد الرحمن: يا بني! فإني أهون عليك المسألة، وأضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين] أي: جناحاً.
[صف لي خلقاً بثلاثة أجنحة، ركب الجناح الثالث منه موضعاً غير الموضعين اللذين ركبهما الله تعالى حتى نعلم] أي: لا تقل له جناح في اليمين وجناح في الشمال، بل ضع الجناح الثالث في المكان الذي ركبه الله عز وجل فيه، فعجز الغلام.
قال: [فقال: يا أبا سعيد! نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق، ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز]، وهذا لمن وفق وهدي [وأشهدك إني قد رجعت عن ذلك، وأستغفر الله].
ومن هذا يتبين: أن وجود أهل العلم من أهل السنة والجماعة في بقعة، أو في كورة من الكور، أو بلدة من البلدان؛ أعز وأكرم على الله عز وجل وعلى أهل القرية من عين تنبع لهم بالماء؛ لأن غذاء القلوب والأبدان والعقول والأفكار أعظم من غذاء الأبدان، فالبدن إذا فسد مع صلاح القلب كان مآله عند الله خيراً، وإذا فسد القلب مع صلاح البدن فقد شبه الله تبارك وتعالى هؤلاء بما شبه به الكافرين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] أي: لا قيمة لهم مع صلاح أبدانهم، ولذلك يقول عبد الله بن المعتز رحمه الله: العالم في البلد كالعين تنبع بالماء، وهو أعز وأكرم؛ لأن العين تغذي الأبدان، والعالم يغذي القلوب والأرواح.
فعالم واحد يهدي الله عز وجل به أمة من الأمم، ويرفع به أمة من الأمم، كما أن عالماً واحداً فاسداً تزل به أمة بأسرها إذا انحرف عن الصراط.(33/5)
موقف أهل العلم من داود الجواربي
قال: [تكلم داود الجواربي في التشبيه]، وداود الجواربي من أئمة الضلال، ولقب بـ الجواربي لأنه من محلة ببغداد كانت تصنع الجوارب، وكان يسكن في هذه المحلة فنسب إليها.
قال: [فاجتمع إليه أهل واسط بالعراق منهم: محمد بن يزيد وخالد الطحان وهشيم وغيرهم فأتوا الأمير -أي: أمير البلد- وأخبروه بمقالته، فأجمعوا على سفك دمه].
مع أنهم لم يقولوا بسفك دم من سمعه، أو بسفك دم من تبعه، وإنما أجمعوا على سفك دمه هو؛ لأنه داعية إلى بدعته، ولأنه عالم بما يقول بخلاف الأتباع.
قال: [فمات في أيامه فلم يصل عليه علماء أهل واسط] أي: مات قبل أن يتمكن منه السلطان، فلما أجمعوا على سفك دمه طلبوه حتى يقتلوه، ففر وفي أثناء فراره مات، فلم يصل عليه أحد من أهل العلم في ذلك الزمان، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى عليه أمة من المسلمين يبلغون أربعون -وفي رواية: مائة- يوحدون الله تعالى ولا يشركون به شيئاً؛ شفعوا فيه).
فإذا لم يكن أهل العلم هم الموحدون لله عز وجل حقاً وبعلم وبصيرة فمن هم إذاً؟ فإذا امتنع العلماء عن الصلاة على رجل فهذه عين الخسارة، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يترك الصلاة أحياناً على بعض أصحابه؛ تأديباً للأمة أن يقعوا في مثل ما وقع فيه، كما ترك الصلاة على ماعز الأسلمي، وصلى على المرأة الغامدية والجريمة واحدة، ولكن توبة الغامدية كانت أحسن ظهوراً من توبة ماعز.
فقد ساق سيد ماعز وهو نعيم بن هزال ماعزاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واستدرجه وقال له بعد أن أخبره بالزنا: (اذهب بنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام لعله ينزل فيك قرآناً) يعني: بالتوبة، وهو يعلم أن القرآن قد نزل بوجوب الحد، وأن الحد إذا بلغ السلطان أو الأمير أو الحاكم فلا شفاعة فيه، بل لا يجوز للحاكم أن يسامح فيه؛ لأن ذلك ليس من اختصاصه، وإنما من اختصاص الحاكم أن يغير وأن يبدل في التعزير، وأما في الحد فلا.
فلما بلغ ماعز إلى النبي عليه الصلاة والسلام شهد عنده أربع مرات بالزنا، فلما شهد قال: (أقيموا عليه الحد)، فلما أجمعوا على حده فر منهم، فلقيه رجل فضربه بوظيف كان معه فقتله، فلما قتل وبلغ أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أقتلتموه؟ هلا تركتموه؟ وغضب غضباً شديداً وقال: صلوا على صاحبكم، فصلوا عليه ولم يصل النبي عليه السلام عليه).
وأما المرأة الغامدية التي زنت بعد ماعز فقد أتت إليه عليه الصلاة والسلام وقالت: (لا تفعل معي كما فعلت بـ ماعز بالأمس)، لأن ماعزاً لما أتى وشهد عنده بالزنا أول مرة أشاح عنه بوجهه، ولم يقبل منه هذا، فأتاه من قبل وجهه فشهد عنده الثانية فأشاح عنه أربع مرات، وماعز يصر على أن يبلغ الخبر النبي عليه السلام.
قال: (لعلك قبلت؟ قال: زنيت، فقال: لعلك فاخذت؟ قال: زنيت) ثم قال: (أتدري ما الزنا؟ -يعني: أنت تعرف ما معنى الزنا؟ - قال: نعم، قال: أغاب هذا منك في ذاك منها كما يغيب المرود في العين، أو كما يغيب الرشاء في البئر، قال: أقيموا عليه الحد).
فـ الغامدية قالت: (يا رسول الله! أنا زنيت).
وفي رواية: (إني فجرت فطهرني، وهذا حملي من الزنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين وليها؟ قال: هأنذا.
قال: اذهب بها فأكرمها حتى تضع حملها) وهي زانية عاصية ولكنه قال: أكرمها، لا لأنها زنت ولكن لأنها تابت وصدقت مع الله عز وجل.
(فذهبت حتى وضعت حملها وأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: هذا ولدي من الزنا، وإني قد أتيتك بالأمس فأمرتني أن أضع حملي وهذا هو، فطلب وليها وأمرها أن تذهب حتى تفطمه) فذهبت ومكثت عامين وأتت بالغلام للمرة الثالثة وكان بإمكانها ألا تأتي والنبي عليه الصلاة والسلام لا يبحث عنها، وإنما هي تبحث عن الطهارة والنقاء ومغفرة الذنب.
(فأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يد ولدها كسرة من خبز وقالت: هذا ولدي قد فطمته وهو يطعم، فأمر بها فشد عليها ثيابها ورجمت، وصلى عليها النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ذلك بعض أصحابه قال: أتصلي عليها وهي زانية؟ قال: إنها تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم).
وفي رواية: (إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس -يعني: جامع الضرائب- لتاب الله عز وجل عليه).
وفي حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جيء إليه برجل ليصلي عليه، قال: (عليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: صلوا على صاحبكم)، فأمرهم بالصلاة عليه وامتنع هـ(33/6)
كلام أهل العلم على داود الجواربي وغيره من المشبهة
ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال أن داود الجواربي رأس في الرفض والتجسيم -يعني: إمام من أئمة الضلالة- من قرام جهنم.
أي: من فحول جهنم كـ فرعون.
قال أبو بكر بن أبي عون: سمعت يزيد بن هارون يقول: الجواربي والمريسي - الذي هو بشر - كافران، ثم ضرب يزيد - وهو يزيد بن هارون - مثلاً للجواربي فقال: إنما داود الجواربي عبر جسر واسط فانقطع الجسر فغرق من كان عليه، فخرج شيطان فقال: أنا داود الجواربي.
يعني: أن داود الجواربي والشيطان شيء واحد.
والذهبي يقول: هذا الضرب -أي: هذا الصنف- من الناس لا أعلم له رواية، مثل: بشر المريسي وأبي إسحاق النظام - وهو صاحب الاعتزال - وأبي الهذيل العلاف، ومعمر أبي المعتمر العطار البصري، وهشام بن عمرو الفوطي وأبي عيسى الملقب بـ المزدا، وأبي موسى الفراء، فلكونهم لم يرووا الحديث لم أحتفل بذكرهم، ولا استوعبتهم، فأراحنا الله تعالى منهم؛ لأنهم مقلون جداً في الرواية لا تكاد تذكر لهم رواية، فقال: فأعرضت عن ذكرهم.
والإمام البغدادي في كتاب الفرق بين الفرق تكلم عن داود الجواربي وقال في ذكر أو في معرض ذكره للمشبهة: ومنهم المشبهة المنسوبة إلى داود الجواربي -يعني: أنه كان صاحب فرقة- الذي وصف معبوده بأن له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية.
وهو القائل كما ذكر ذلك السمعاني في الأنساب بعد ذكر هشام بن سالم الجواليقي: وعنه أخذ داود الجواربي قوله: إن معبوده له جميع أعضاء الإنسان إلا الفرج واللحية.(33/7)
نقل أبي الحسن الأشعري لمذاهب أهل التشبيه والتجسيم
وذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين داود الجواربي في أثناء الكلام على اختلاف الناس في التجسيم، فقال: اختلفت المجسمة فيما بينهم في التجسيم، وهل للباري تعالى قدر من الأقدار، وفي مقداره، على ست عشرة مقالة، فقال هشام بن الحكم: إن الله جسم محدود عريض عميق طويل، طوله مثل عرضه، وعرضه مثل عمقه، نور ساطع، له قدر من الأقدار -بمعنى: أن له مقداراً في طوله وعرضه وعمقه- لا يتجاوزه، في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية، يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها، ذو لون وطعم ورائحة ومجسة، لونه هو طعمه، وهو رائحته، وهو مجسته، وهو نفسه لون، ولم يثبت لوناً غيره، وإنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد.
ولولا أن الله تعالى حكى مقالة الكافرين والمشركين في كتابه ما تجرأ آدمي أن يحكي مقالة هؤلاء.
وحكى عنه أبو الهذيل أنه أجابه إلى أن جبل أبي قبيس أعظم من معبودهم.
وجبل أبي قبيس في مكة، وهو أكبر من الله عز وجل عند هؤلاء الضلال! فجعلوا بعض مخلوقاته أعظم من الخالق.
وحكى عنه ابن الراوندي: أنه زعم أن الله سبحانه يشبه الأجسام التي خلقها من جهة من الجهات، ولولا ذلك ما دلت عليه، وحكى عنه أنه قال: هو جسم لكن لا كالأجسام.
ومعنى ذلك أنه شيء موجود.
وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملوناً، ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة، وأن يكون طويلاً وعريضاً وعميقاً، وزعم أنه في مكان دون مكان، متحرك من وقت خلق الخلق.
وقال قائلون: إن الباري جسم، وأنكروا أن يكون موصوفاً بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام هذا، غير أنه على العرش مماس له دون ما سواه.
واختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه جسماً، فقال قائلون: هو جسم، وهو في كل مكان، وفاضل عن جميع الأماكن، وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكثر من مساحة العالم؛ لأنه أكبر من كل شيء.
وقال بعضهم: مساحته على قدر العالم.
وقال الآخرون: إن الباري جسم له مقدار في المساحة، ولا ندري كم ذلك القدر.
وقال بعضهم: هو في أحسن الأقدار، وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا القليل القميء.
وحكي عن هشام بن الحكم: أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه.
وقال بعضهم: ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية، وإنه ذاهب في الجهات الست: اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت، قالوا: وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق، وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب.
وقال قوم: إن معبودهم هو الفضاء -الفراغ- وهو جسم تحل فيه الأشياء، ليس بذي غاية ولا نهاية.
وقال بعضهم: هو الفضاء وليس بجسم، والأشياء قائمة به.
وقال داود الجواربى -وهو الشاهد في المشبهة والمجسمة- ومقاتل بن سليمان: إن الله جسم، وإنه جثة على صورة الإنسان: لحم ودم وشعر وعظم.
فإذا كان هذا إمام من الأئمة فكيف لا يكفر؟ قال: وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، وهو مع هذا لا يشبه غيره، ولا يشبهه الغير.
وأهل السنة لا يقولون بهذا، ولكن يقولون: إن له أسماء وصفات، وأما أن تجعل الصفات جوارح وأعضاء فلا بد وأنها تمثيل وتشبيه.
قال: وكثير من الناس يقولون: هو مصمت -يعني: غير مجوف- ويتأولون قول الله تعالى: {الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] بمعنى: المصمت الذي ليس بأجوف.
ومعنى الصمد عند أهل السنة والجماعة، بل في اللسان العربي: الذي تصمد إليه الخلائق، أي: ترجع إليه في حوائجها.
وقال هشام بن سالم الجواليقى: إن الله على صورة الإنسان، وأنكر أن يكون لحماً ودماً.
يعني: أنكر على داود مقالته تلك.
وإنه نور ساطع يتلألأ بياضاً، وإنه ذو حواس خمس.
يعني: جعله كالإنسان.
كحواس الإنسان سمعه غير بصره، وكذلك سائر حواسه، له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم، وإن له وفرة سوداء.
يعني: له شعر أسود، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً.
فهذا داود الجواربي قد جعل الله تعالى في نهاية الأمر كالإنسان تماماً بتمام.(33/8)
كلام يزيد بن هارون في الجهمية والمشبهة
[قال هشام بن يحيى الواسطي: كنت قاعداً عند يزيد بن هارون فجاء رجل فقال: يا أبا خالد! ما تقول في الجهمية؟] والجهمية هم النفاة الذين ينفون الصفات عن الله تبارك وتعالى، ينزهون الله تعالى بزعمهم.
وأهل السنة وسط بين هذه الفرق، كما أن هذه الأمة وسط بين الأمم فأهل السنة والجماعة وسط بين هذه الفرق الضالة، ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليها بالضلال وبالنار فقال: (كلها في النار إلا واحدة.
قيل: من هم؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم)، الكلام الباطل الذي أتى به داود الجواربي وهشام بن الحكم وهشام بن سعيد الجواليقي لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أو عن واحد من أصحابه، حاشا وكلا، هذا كلام باطل وسخف يؤدي بصاحبه إلى الكفر البواح، ولذلك لما سئل يزيد بن هارون عن الجهمية النفاة الذين يزعمون تنزيه المولى عز وجل وهم قد نفوا عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه في مقابل من عجزوا عن إثبات ذلك لله عز وجل على الوجه اللائق له فقالوا بالتمثيل والتجسيم والتشبيه، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من مثل فإنما يعبد صنماً، ومن عطل فإنما يعبد عدماً.
أي: من عطل المولى عز وجل عن صفاته فهو يعبد عدماً، لأن الإله الحق سبحانه وتعالى وصف نفسه بصفات، فإذا نفيتها فيلزمك أن تنفي الذات، وإذا مثلت صفات الخالق بصفات المخلوقين يلزمك أن تعبد صنماً؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فالذي يعبد إلهاً قد مثله بصفات المخلوقين فإنما يعبد صنماً، والذي يزعم أنه نزه الباري عن صفاته فلا بد أن يئول أمره إلى أن هذا الإله عدم، فالذي يعبد إلهاً بلا صفات فإنما يعبد عدماً، والذي مثل صفات الخالق بالمخلوقين فإنما يعبد صنماً.
[سئل يزيد بن هارون عن الجهمية النفاة فقال: يستتابون].
يعني: يحبسون في بيوتهم أو في محابس السلطان ثلاثة أيام فتقام عليهم الحجة؛ فإن تابوا ورجعوا وندموا وإلا قتلوا، لكن لا يقتلون حداً وإنما يقتلون ردة.
[إن الجهمية غلت ففرغت في غلوها إلى أن نفت، وإن المشبهة غلت ففرغت في غلوها حتى مثلت] يعني: كل واحد من الفريقين بلغ الغاية في بدعته، هذا بلغ غاية النفي، وهذا بلغ غاية التشبيه والتمثيل.
[فالجهمية يستتابون، والمشبهة كذا وكذا رماهم بأمر عظيم] أعظم مما رمى به النفاة.(33/9)
مقالات بشر المريسي وموقف أهل العلم منه
قال: [وقال محمد بن عمر بن كميت: سمعت وكيعاً يقول: وصف داود الجواربي الرب عز وجل فكفر في صفته، فرد عليه المريسي فكفر المريسي في رده] بشر المريسي] أي: رد على داود الجواربي فقال: أنت قد مثلت الله عز وجل بصفات المخلوقين، فأنت مبتدع، فهذا رأس في بدعته يرد على مبتدع آخر رأس في بدعته.
قال: [فقال وكيع: داود الجواربي وصف الرب فكفر بهذه الصفة، فرد عليه بشر المريسي فكفر بشر برده كذلك، إذ قال: هو في كل شيء].
وبشر المريسي له كلام خطير جداً، فقد قال البغدادي في كتاب الفرق بين الفرق لما ذكر المريسية أتباع بشر المريسي في فرق المرجئة قال: هؤلاء هم مرجئة بغداد من أتباع بشر المريسي، وبشر هو ابن غياث المريسي مبتدع ضال تفقه في أول أمره على قاضي القضاة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وأتقن علم الكلام، ثم جرد القول بخلق القرآن - يعني: قال: القرآن مخلوق - وناظر عليه، ولم يدرك الجهم بن صفوان ولكنه أخذ مقالته، واحتج لها ودعا إليها، وأخذ في أيام دولة الرشيد وأوذي لأجل مقالته.
وحدث البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: ناظرت المريسي في القرعة فذكرت له فيها حديث عمران بن حصين، فقال: هذا قمار، فأتيت أبا البختري القاضي فحكيت له ذلك، فقال: يا أبا عبد الله! شاهد آخر وأصلبه.
يعني: أحضر معك شاهداً ثانياً وأنا سأصلبه، فهو يقول عن القرعة: إنها قمار، وقد فعلها النبي عليه الصلاة والسلام، غير أنه لما أظهر قوله بخلق القرآن هجره أبو يوسف -وهو صاحب أبي حنيفة وكان رجلاً سنياً في المعتقد- وضللته الصفاتية -يعني: الذين يقولون بإثبات الصفات لله عز وجل ضللوه- ولما وافق الصفاتية في القول بأن الله تعالى خالق أجسام العباد، وفي أن الاستطاعة مع الفعل؛ كفرته المعتزلة.
يعني: كفرته المعتزلة؛ لأنهم لا يقولون بذلك.
فصار مهجور الصفاتية والمعتزلة معاً، وكان يقول في الإيمان: إنه هو التصديق بالقلب واللسان جميعاً.
يعني: أن العمل لا علاقة له بالإيمان، وهذا قول المرجئة، كما قال ابن الراوندي: إن الكفر هو الجحد والإنكار.
يعني: لا يكفر المرء إلا إذا جحد وأنكر بلسانه.
وزعم أن السجود للصنم ليس بكفر، ولكنه دلالة على الكفر.
والخطيب البغدادي أدرى بأهل بلده، فقال في كتابه تاريخ بغداد عن بشر المريسي -وقد ذكر له ترجمة طويلة-: أخذ الفقه عن أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام، وجرد القول بخلق القرآن، وحكيت عنه أقوال شنيعة ومذاهب مستنكرة أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها، وكفره أكثرهم لأجلها، وقد أسند من الحديث شيئاً يسيراً -يعني: كان مقلاً في الرواية- عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وأبي يوسف القاضي وغيرهم.
(وقال عباد بن العوام: كلمت بشراً المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم أنه ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء) يعني: ليس في السماء إله.
(وعن عمر بن عثمان قال: كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي فقلت: يا أبت! يدخل عليك مثل هذا؟ فقال: يا بني! وما له؟) يعني: ماذا فيه؟ وماذا يقول هذا الرجل؟ قال: قلت: إنه يقول: القرآن مخلوق، وإن الله معه في الأرض -أي: بذاته- وإن الجنة والنار لم يخلقا، وإن منكراً ونكيراً باطلان، وإن الصراط باطل، وإن الساعة باطل -يعني: هو لا يؤمن بالبعث- وإن الميزان باطل مع كلام كثير ذكره.
قال: فقال: أدخله علي.
أي: أدخله علي لأرى ما هي حكايته.
قال: فأدخلته عليه، قال: فقال: يا بشر! أدنه.
أي: اقترب مني.
ويلك يا بشر، أدنه مرتين أو ثلاثاً.
وبشر خائف؛ لأن أهل السنة لهم هيبة ووقار وخشية في قلوب العباد خاصة المبتدعين الضلال.
(فلم يزل يدنيه حتى قرب منه، فقال: ويلك يا بشر من تعبد؟ وأين ربك؟ قال: وما ذاك يا أبا الحسن؟) أي: لماذا تسألني هذه الأسئلة؟.
(قال: أخبرت عنك أنك تقول: القرآن مخلوق، وأن الله معك في الأرض، ولم أر شيئاً أشد علي من قولك: إن القرآن مخلوق، وإن الله معك في الأرض، فقال له: يا أبا الحسن! لم أجئ لهذا) يعني: أنا لم أجئ من أجل أن تختبرني.
(إنما جئت في كتاب خالد تقرؤه علي).
يعني: أتيت لأطلب الحديث.
(قال: فقال له: لا؛ ولا كرامة)، وكان مذهب أهل السنة(33/10)
موت بشر المريسي
[قال إبراهيم: ويوم مات بشر جعل الصبيان يتعادون بين يدي الجنازة ويقولون: من يكتب إلى مالك؟ من يكتب إلى مالك؟] يعني: كانوا يقولون فرحاً بموته: من يكتب إلى مالك في المدينة أن بشراً قد مات، فقد كان لعبة للصبيان.
(وقال هارون أمير المؤمنين: بلغني أن بشراً المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحداً قط)، وهذا لما كان الحكام والسلاطين عندهم فهم لدين الله عز وجل، وكانوا يعرفون ما معنى القرآن، ويعرفون صفات الله عز وجل.
(قيل لـ سفيان بن عيينة: إن بشراً المريسي يقول: إن الله لا يرى يوم القيامة) يعني: لا يراه المؤمنون.
(فقال: قاتله الله، دويبة) يعني: هذا دابة وحشرة من الحشرات، بل أقل من ذلك.
(ألم يسمع قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15])، وهذا الكلام عن الكفار.
(فجعل احتجابه عنهم عقوبة لهم، فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء فأي فضل للأولياء على الأعداء إذاً؟ وعن محمد بن أبي كبشة قال: سمعت هاتفاً في البحر يقول: لا إله إلا الله على ثمامة، وعلى المريسي لعنة الله، قال: وكان معنا في المركب رجل من أصحاب بشر المريسي فخر ميتاً.
ولما مات بشر بن غياث المريسي لم يشهد جنازته من أهل العلم والسنة أحد إلا عبيد الشونيزي، وهو رجل من أهل السنة.
فلما رجع من جنازة المريسي أقبل عليه أهل السنة والجماعة وقالوا: يا عدو الله! تنتحل السنة) يعني: تذهب مذهب أهل السنة.
(وتشهد جنازة المريسي؟ قال: أنظروني حتى أخبركم، ما شهدت جنازة رجوت فيها من الأجر ما رجوت في شهود جنازته) يعني: صلاتي على الرجل هذا من أرجى الأعمال لدي عند الله عز وجل.
(قال: لما وضع في موضع الجنائز قمت في الصف فقلت: اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة، اللهم فاحجبه عن النظر إلى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون، اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن بعذاب القبر، اللهم فعذبه اليوم في قبره عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين، اللهم عبدك هذا كان ينكر الميزان، اللهم فخفف ميزانه يوم القيامة، اللهم عبدك هذا كان ينكر الشفاعة، اللهم فلا تشفع فيه أحداً من خلقك يوم القيامة.
قال: فسكتوا عنه وضحكوا.
وقال المروزي: سمعت بشر بن الحارث -وهو بشر الحافي، وهو رجل من الأولياء الصالحين- يقول: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق، فلولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود).
يعني: لو لم يكن السوق موقع يشهر فيه العبد، فلو سجد شكراً لله على سماع خبر نعي بشر المريسي، فسيقولون: هذا بشر الحارث قد سجد، وهو ما كان يحب أن يشهر؛ لأنه كان ورعاً.
فقال: [لولا أن موضع السجود في السوق موضع شهرة لسجدت.
ثم قال: والحمد لله الذي أماته، هكذا قولوا.
مات بشر المريسي في ذي الحجة سنة ثمان عشرة ومائتين، قال: ويقال: سنة تسع عشرة ومائتين].(33/11)
كلام الذهبي في بشر المريسي
والذهبي تكلم عن المريسي فقال: (هو المتكلم المناظر البارع أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريم العدوي مولاهم البغدادي المدني، لأنه كان من موالي آل زيد بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان بشر من كبار الفقهاء، أخذ عن القاضي أبي يوسف، وروى عن حماد وسفيان بن عيينة، وناظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة من العلماء، ولم يدرك جهم بن صفوان بل تلقف مقالاته من أتباعه.
وللمريسي تصانيف كثيرة، ذكره النديم وأطنب في تعظيمه وقال: كان ديناً ورعاً متكلماً، ثم حكى أن البلخي قال: بلغ من ورعه أنه كان لا يطأ أهله ليلاً؛ مخافة الشبهة).
يعني: كان لا يجامع امرأته بالليل مخافة أن تكون ليست امرأته، والتنطع في الإسلام إما أن يكون بالسلب أو الإيجاب، بإدخال ما ليس من الدين فيه، أو بترك ما فرضه الله عز وجل تنطعاً وانحلالاً.
قال: (ولا يتزوج إلا من هي أصغر منه بعشر سنين؛ مخافة أن تكون رضيعته، وكان جهمياً له قدر عند الدولة، وكان يشرب النبيذ، وقال مرة لرجل اسمه كامل: في اسمه دليل على أن الاسم غير المسمى.
له كتاب في التوحيد، وكتاب في الإرجاء، والرد على الخوارج، والاستطاعة والرد على الرافضة في الإمامة، وكفر المشبهة، وكتاب في المعرفة، وكتاب في الوعيد، وأشياء غير ذلك كثيرة.
قال ابن مهدي أيام ما صنع بـ بشر ما صنع: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وقال يزيد بن هارون: ما في فتيانكم من يفتك به؟) يعني: لا يوجد أحد يتخلص منه.
(وقال أحمد بن حنبل لما ذكر عنده المريسي: كان أبوه يهودياً، أي شيء ترونه يكون؟) أي: يكون يهودياً مثله بالضبط.
وقال الإمام الذهبي كلاماً جميلاً جداً، وهذا يدل على قمة العدل والإنصاف عند الإمام الذهبي، قال: (مات بشر المريسي سنة ثمان عشرة ومائتين وقد قارب الثمانين، فهو بشر الشر، وبشر الحافي بشر الخير).
والاثنان كانا في زمن واحد، وفي بلدة واحدة أيضاً.
(كما أن أحمد بن حنبل هو أحمد السنة، وأحمد بن أبي دؤاد أحمد البدعة).
ومن كفر ببدعة وإن جلت -يعني: وإن عظمت وكبرت- ليس هو مثل الكافر الأصلي.
يعني: الذي يكفر ببدعة ليس هو كالكافر الأصلي.
(ولا اليهودي والمجوسي، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وصام وصلى وحج وزكى وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع؛ كمن عاند الرسول، وعبد الوثن، ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها).
وهذا كلام فيه اعتدال، فهو يريد أن يقول: إن هذا المجرم كافر، لكن كفره لا يسوى بكفر فرعون وهامان، فكفرهما كفر أصلي، وهم في جهنم، لكنهم في دركات تختلف بعضها عن بعض، فليس كفر الكافر الأصلي كالكفر الطارئ.(33/12)
كلام ابن كثير في بشر المريسي
وتكلم ابن كثير كذلك عن بشر المريسي فقال: غلب عليه الكلام، وقد نهاه الشافعي عن تعلمه وتعاطيه فلم يقبل منه، وقال الشافعي: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بعلم الكلام.
وقد اجتمع بشر بـ الشافعي عندما قدم بغداد.
قال ابن خلكان: جدد القول بخلق القرآن، وحكي عنه أقوال شنيعة، وكان مرجئياً، وإليه تنسب المريسية من المرجئة، وكان يقول: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر، وإنما هو علامة للكفر.
وكان يناظر الشافعي، وكان لا يحسن النحو، وكان يلحن لحناً فاحشاً حتى يضحك منه الصبيان.
ويقال: إن أباه كان يهودياً صباغاً بالكوفة، وكان يسكن درب المريسي ببغداد، والمريس عندهم هو الخبز الرقاق يمرس بالسمن والتمر.
قال: ومريس ناحية ببلاد النوبة تهب عليها في الشتاء ريح باردة].
قال اللالكائي نقلاً عن وكيع: [وصف داود الجواربي الرب عز وجل فكفر في صفته، فرد عليه المريسي فكفر المريسي في رده عليه؛ إذ قال: هو في كل شيء.(33/13)
حكم من شبه الله بشيء من خلقه
قال: [قال نعيم بن حماد]، وهو من أئمة السنة، وقد كان من شيوخ البخاري، وهو إمام وجبل من جبال السنة، وكان على عقيدة أهل السنة والجماعة، داعية إليها، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وأما هو في الحديث فكان ضعيفاً: قال: [من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه] يعني: حتى لا تحتج علينا الممثلة أو المشبهة أن ربنا له عين وله رجل وله يد وله كذا، نقول: له هذه الصفات كما يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى.
[وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم؛ لأنه وصف بصفاته إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال إسحاق: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل الجماعة، وما أولعوا به من الكذب: أنهم مشبهة].
يعني: أهل البدع كالنفاة يقولون عن أهل السنة: إنهم مشبهة؛ لأنهم أثبتوا الصفات لله عز وجل.
قال: [بل هم المعطلة، ولو جاز أن يقال لهم: هم المشبهة؛ لأنهم شبهوه بالعدم لاحتمل ذلك، وذلك أنهم يقولون: إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله، في أسفل الأرضين، وأعلى السماوات على معنىً واحد، وكذبوا في ذلك، ولزمهم الكفر].(33/14)
نبز أهل الأهواء أهل السنة بالألقاب السيئة
وقال أبو حاتم الرازي: [علامة الجهمية أنهم يسمون أهل السنة: مشبهة].
فالجهمية النفاة يطلقون على أهل السنة والجماعة أنهم مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، لكن على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولا نقول بأنها تماثل صفات المخلوقين، ونقول بأن من قال بذلك فقد كفر.
قال: [علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة: مشبهة، وعلامة القدرية تسميتهم أهل السنة: مجبرة] أي: أن العباد مجبورون على أفعالهم.
[وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة: نقصانية]؛ لأننا نقول: إن الإيمان يزيد وينقص حسب العمل والطاعة، فمن زادت طاعته زاد إيمانه، ومن نقصت نقص إيمانه، فالمرجئة يقولون: أهل السنة نقصانية، وهم يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولو تصور نقصانه كان كفراً، وهذا ضلال.
قال: [وعلامة المعتزلة تسميتهم أهل السنة: حشوية]، وهذا من الوقيعة في أهل الأثر، فهم يريدون إبطال الآثار عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيقولون: المحدثون حشوية.
قال: [وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة نابتة وصابئة] والتشيع ليس هو الأسبق في الوجود من السنة، فالسنة هي الأصل، والشيعة يسموننا: ناصبة، أي: أننا ناصبنا علياً العداء، فنحن نحن نحب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولكن دون إفراط ولا تفريط، فلا نجافي ولا نغالي، ونضعه في منزلته في الخلافة والإمامة، والمنزلة بعد أبي بكر وعمر وعثمان.
وشاه إيران عليه لعنة الله أحب أن يعمل مقارنة بين أهل السنة والشيعة، وهو لم يكن له علاقة بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وإنما أحب أن يتسلى على عادة الحكام الذين يتسلون بأصحاب الديانة، فجمع علماء أهل السنة وعلماء الشيعة ليتناظروا، وليرى من الذي سيغلب، فقيض الله لأهل السنة رجلاً من كبار أهل العلم، ومن أصحاب الاستقامة، فأمر أتباعه ألا يتكلموا بين يديه بكلمة واحدة، وما عليهم إلا أن يفعلوا كما يفعل هو.
فلما دخل علماء أهل السنة على شاه إيران قام إمام أهل السنة وخلع نعله ووضعه تحت إبطه، فلما رآه أصحابه قاموا بخلع نعالهم، ووضعوها تحت آباطهم، والشيعة جلسوا في الناحية المقابلة لهم، فإمام أهل السنة وضع الجزمة على الطاولة وكذا أصحابه فـ شاه إيران قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: عندنا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الشيعة على عهده كانوا يسرقون النعال، فقام زعيم الشيعة وقال: لم يكن هناك شيعة على عهد الرسول، فقال العالم: قد حكمت.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(33/15)
الأسئلة(33/16)
حكم كشف العورة للضرورة
السؤال
ما حكم من تعرض لكشف العورة أثناء العمليات الجراحية؟
الجواب
معلوم يقيناً أن الطب لا بد فيه من كشف العورات، وبلا شك أنه كلما ضاقت هذه الدائرة كان ذلك أفضل، ولا شك أن الطبيب إذا كان رجلاً والمريض كذلك فهو الأصل ولا يصار إلى غيره إلا لعذر، كأن تكون هناك طبيبة جراحة في قرية وليس في هذه القرية طبيب غيرها، والحالة قد أتتها مستعجلة ولا يمكن حملها إلى مكان آخر، ففي هذه الحالة لا حرج على هذه المرأة أن تجري العملية على هذا النحو، والعكس بالعكس بين النساء والرجال.(33/17)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)
الإيمان بالقدر ركن عظيم من أركان الإيمان، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بالإيمان به، ولما كان باب القدر من أعظم الأبواب التي يمكن أن يدخل منه أصحاب الشبه وأرباب البدع فقد حذر السلف من الخوض فيه، وبذلك يسلم للعبد دينه، ولا ينحرف في هذا الباب انحراف القدرية والجبرية على طرفي نقيض.(34/1)
الإيمان بالقدر وأهميته
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إن الإيمان بالقدر ركن عظيم جداً من أركان الإيمان التي وردت في غير ما آية وفي غير ما حديث، ونصوص السنة قد اهتمت بإبراز هذا الركن من أركان الإيمان، وفي سؤال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).
فمعظم الروايات أعقبت القدر بعد ذكر الإيمان فقال: (وأن تؤمن بالقدر)، والسياق يقول: (وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره)، فأفرده وقرنه بالإيمان، ولم يقل: أن تؤمن بالله، وأن تؤمن بالملائكة وأن تؤمن بالرسل، وإنما قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر)، وهذا يدل على مزيد عناية السنة بإبراز هذا الركن من أركان الإيمان؛ لأنه ركن مهم جداً.
ولذلك ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) مع أنه لا يؤمن حتى يؤمن بالله، وحتى يؤمن بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، ولكن لما كان هذا الركن قد أخذ كلاماً كثيراً وطويلاً ولغطاً واختلاطاً في الجاهلية على ألسنة اليهود والنصارى والمجوس والفلاسفة وعبدة الأوثان قبل الإسلام؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أفرده بالذكر وعناه بالاهتمام؛ ليدل على أهميته؛ وعلى أنه ركن عظيم وخطير من أركان الإيمان.(34/2)
موقف أهل السنة والجماعة من الإيمان بالقضاء والقدر
إن لأهل السنة والجماعة موقفاً متميزاً من القدر كموقفهم من أي ركن من أركان الإيمان، ولما كان هذا الركن هو أعظم ركن يمكن أن تدخل منه الشبهات في قلوب وعقول أبناء المسلمين؛ نهى السلف رضي الله عنهم عن الخوض والكلام فيه، وقالوا: يجب الإيمان به وإمراره كما جاء، وكأنهم أنزلوه منزلة الصفات لله عز وجل من جهة عدم التعرض له، وعدم الخوض فيه، فالمرء لابد أن يؤمن أن كل شيء من عند الله خيراً كان أو شراً، وأن مطلق الشر لا ينسب إلى الله عز وجل وإن كان الله تعالى قد أذن فيه، بمعنى: أذن في إيجاده وخلقه، والعبد هو المكتسب للخير والشر؛ لأنه الذي مارس بيديه الخير والشر.(34/3)
مراتب الإيمان بالقدر(34/4)
مرتبة العلم
فالخير قد أذن الله تعالى في وجوده وفي خلقه، ورضيه وأحبه، والشر أذن الله تعالى في وجوده وخلقه، ولكنه لم يرضه ولم يحبه.
وقد جاءت آيات في كتاب الله وأحاديث في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لها تعلق بإثبات القدر، ونقل إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعاتها ومعاصيها، فكل فعل يصدر عن العبد فإن الله تعالى هو الذي أذن بوجوده وخلقه، سواء كان هذا الفعل معصية أو طاعة؛ لأن المعصية لا يمكن أن يوجدها فاعلها دون إذن الله تبارك وتعالى، بمعنى: أنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله عز وجل، فكيف يتصور أن الزاني يزني والله لم يأذن له في ذلك؟ فلا يتصور وجود من خير أو شر في الكون إلا والله تعالى قد أذن فيه، ومعنى أذن فيه: أنه وقع بعلم الله، وأن الله تعالى أراده، ولكنها إرادة كونية قدرية مبناها على ما أحب وكره، بخلاف الإرادة الشرعية فإن مبناها المحبة والرضا، فإذا صليت وصمت وزكيت وحججت إلى بيت الله الحرام، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؛ فإن هذه الأفعال كلها مخلوقة لله عز وجل، وقد أذن فيها، بل وأمر بإتيانها وأحبها؛ ولذلك فرضها، وهذه الأفعال تقع تحت مشيئة الله الشرعية؛ لأنها متعلقة بالأمر الذي أحبه الله تعالى لعباده ورضيه لهم.
وأما أفعال الشر من الزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من أنواع المعاصي كبائرها وصغائرها؛ فإن هذه المعاصي كرهها الله عز وجل، ونهى عنها، ورتب عليها في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم العقوبة الشديدة لمن اقترفها، ولكن العبد يأتيها بعلم الله، فقد علم سبحانه قبل أن يخلق السموات والأرض أن من عباده فلاناً سيزني في يوم كذا، في الساعة كذا، في المكان كذا، وأنه سبحانه كتب ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض.
فالمرتبة الأولى: هي مرتبة العلم، فالله تعالى يعلم ما سيقع من عباده، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.(34/5)
مرتبة كتابة الأعمال
المرتبة الثانية: أن الله تعالى كتب في صحيفة هذا العبد أنه سيزني، أو سيسرق، أو سيقتل، أو سيشرب الخمر أو غير ذلك.(34/6)
مرتبة الإرادة والمشيئة
المرتبة الثالثة: هي مرتبة الإرادة والمشيئة لله عز وجل، فالله تعالى أذن في وقوع المعاصي وأرادها، ولا تقتضي كلمة (أرادها) أنه أحب ذلك، فهو يحب الطاعات ويكره المعاصي، فإذا أتى العبد فعلاً من أفعال الطاعات فنقول: إن هذا الفعل متعلق بإرادة من الإرادتين؛ لأن الله تعالى يريد إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، وهي أعمال الطاعات.
فمعنى إرادة شرعية: أن لها تعلقاً بالشرع، وبالأمر الذي أحبه ورضيه لعباده، ومعنى دينية: أن لها تعلقاً بالكتاب والسنة مبناها على المحبة والرضا، ولو أن الله تعالى لم يحبها ولم يأذن فيها بل نهى عنها كالمعاصي، فإنه ما من شيء يقع في الكون إلا وهو بعلم الله، وقد كتبه الله على ذلك العبد، فالعبد لما اختار هذه المعصية، وعلم الله عز وجل علماً أزلياً أن هذا العبد سيسلك هذا الطريق -وهو طريق المعصية- كتبه عليه، وقد أفرغ الله تعالى حجتك بأن أرسل إليك الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
وأنت الآن لو خيرت في سبيل له طريقان: طريق أخبرت أن فيه شوكاً وعقبات، وطريق آخر ممهد سهل ميسر، فإنك ستختار الطريق الميسر، فكذلك الله تبارك وتعالى أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، وبين لك الحلال والحرام، وأمرك بالحلال وبالطيبات، وحذرك من الحرام ومن المعاصي، ثم بين لك أن عاقبة التقوى وعاقبة الطاعة الجنة، وأن عاقبة المعاصي النار، ومع هذا فهناك من يختار طريق النار، وهو يعلم أن هذه المعصية تؤدي بك إلى النار.
فلما علم الله عز وجل منك ذلك سلفاً، وقد بين لك هذا وهذا، وأنت تأتي هذه المعصية عالماً بأنها معصية، وعالماً بمآلها؛ كتبها عليك؛ لأنك اخترتها، وتركت الخير الذي يضادها، فكتبها الله عز وجل عليك، فالطاعات أرادها الله تعالى لك، ورضيها وأحبها وأمر بها، وجعل عاقبة من أتاها الجنة، وأما المعاصي فإن الله تعالى كرهها وسخطها وبغضها إلينا، وبين عاقبتها ومآلها، وحذرنا منها؛ ولأجلها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق لها في الآخرة ناراً لمن أدمن هذه المعاصي؛ وخاصة الكفر والشرك.
والعبد يختار هذا مع علمه بمآله وعاقبته.
وهذه المعاصي ما كانت لتقع من العبد رغماً عن الله، فلو أراد العبد الآن أن يقوم من مقامه فإنه لا يقوم إلا بإذن الله، ومن الناس من يقوم لصدق في نيته، ومن الناس من يقوم لمعصية في نيته، فرجل يخرج من بيته ليطلب العلم؛ فيعينه الله تبارك وتعالى، وييسر له طريق الصواب، ويعطيه القوة على أن يصل إلى بغيته، ورجل بجواره على نفس الكرسي قام ليزني، أو ليسرق، أو ليقتل؛ فهل كان بإمكانه أن يقوم من مقامه رغماً عن الله أو بغير إذن الله؟ هل يتصور أن يقع في الكون غير ما أراد الله؟ فإرادته الشر إرادة كونية قدرية وليست إرادة شرعية دينية، بمعنى: أن الله تعالى قدر الأفعال التي تقع في الكون، وأرادها وأذن في وقوعها، ومبناها أحياناً يكون على المحبة والرضا كالإرادة الشرعية الدينية، وأحياناً يكون مبناها على السخط والبغض كالمعاصي وأعظمها الكفر.(34/7)
مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر
المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد، وهذه المرتبة أخذت بعداً عظيماً في اختلاف الناس، فبعضهم قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، فنقول: إن هذا العبد إما أن يكون خالقاً أو مخلوقاً، ولا أحد يقول بأن العبد خالق، فلا بد أن يكون مخلوقاً، وأفعاله وما يصنعه مخلوق؛ لأنه لا يتصور أن هناك مخلوقاً يكون خالقاً لغيره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته).
فأنت من صنع الله ومن خلق الله، وما تأتي من أفعال من خير أو شر هي بإرادة الله عز وجل، فإذا كانت أفعال شر فإن ذلك بإرادته الكونية القدرية، وإذا كانت أفعال خير فبإرادته الشرعية الدينية، فالله عز وجل خلق إبليس وهو رأس الشر، وهو سبحانه لا يحب إبليس وما يفعله، فلو أن الله تعالى أراد أن يمنع إبليس من إغوائه وإضلاله لمنعه، فإبليس يسول ويغوي ويضل؛ لأن الله أذن له في ذلك.
فإذن الله له لا يعني: أنه يحب ذلك، بل كره الله تعالى منه ذلك، وأوعده وأوعد أتباعه بالنار وبئس المصير يوم القيامة، وكان بإمكان المولى عز وجل أن يمنع إبليس من الإغواء والإضلال، وأن ينور بصائر العباد بعدم الاستماع له، وبأن يكتب عليهم جميعاً الصلاح، لكن لا قيمة للحياة بغير الخير والشر، وإلا لو أراد الله عز وجل أن يجعل جميع الخلق مؤمنين لفعل، ولكن الحياة لا تحلو ولا تجمل إلا بوجود النقيضين ووجود الضدين.
فأنت لا تعرف الصحة إلا بوجود المرض، ولا تعرف الشبع إلا بوجود الجوع، ولا تعرف الخير إلا بوجود الشر، ولا تعرف فضل الجنة إلا بوجود النار، ولا تعرف فضل الملائكة إلا بوجود إبليس، ولذلك خلقه المولى عز وجل وجعل له حظاً ونصيباً من الخلق، وقد ورد في الحديث: (إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها).
فالمرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر: هي مرتبة الخلق والإيجاد للخير والشر على السواء، وأن الذي أذن بوجود الخير، وأذن بوجود الشر هو الله عز وجل، أذن فيها وأعان عليها.
فالعبد أحياناً يكون له اختيار، وأحياناً لا يكون له اختيار، بل هو مسير مقهور على ذلك، كعبد يصاب بمرض معين، فهذا المرض من أقدار الله عز وجل، وهو مخلوق لله عز وجل، فهو الذي خلقه، وهو الذي أوجده، وهو الذي صنعه، وهو الذي أذن في وجوده، فالعبد مسير فيه، بمعنى: أنه لا يمكن له دفع هذا المرض.
فلو أنك أبيض اللون والبشرة، وتريد أن تكون أسود؛ هل تستطيع ذلك منذ نشأتك الأولى؟ أو أن تكون أسود وتريد أن تكون أبيض: هل هذا بيديك؟ لا، فهذه الألوان من خلق الله عز وجل، فأنت مقدور عليها مجبور عليها، فقد خرجت لأبوين أسودين أو أبيضين؛ فكنت أبيض أو أسود، ولا اختيار لك فيه، فأنت فيه مسير، وهناك من الأعمال ما يكون الإنسان فيها مسيراً ولا يمكن له الاختيار فيه، ومن الأعمال ما يمكن للعبد فيها الاختيار.
فتصور لو أننا أتينا بملكة جمال ووضعناها في غرفة، وأوقدنا الغرفة المجاورة لها ناراً، وأتينا بأزنى الناس وقلنا له: ازن بهذه المرأة الحسناء، ولكن بعد فراغك من هذه الفعلة القبيحة ادخل تلك الغرفة المجاورة، هل سيرضى الرجل بالزنا مع أنه أزنى الناس؟ لا يرضى به، بل ولا يقوى عليه؛ لخوفه من العقوبة.
فهو يختار ألا يزني إذا رأى عاقبة زناة، فمن الذي خلق فيه هذا الاختيار؟ إن الله عز وجل هو الذي خلق فيه هذا الاختيار، وهو الذي أعانه على أن يختار الخير وأن يختار الطاعة، ولو ترك هذا العبد لاختار المعصية.
وفي حال اختياره للمعصية هل يستطيع أن يزني رغماً عن الله؟
الجواب
لا يستطيع، فنقول: إن الله تعالى أذن في وجود الكفر، وأذن في وجود المعاصي، ولكنه لم يرضها، ولو كانت المعصية والطاعة عند الله سواء فما قيمة بعث الرسل، وإنزال الكتب؟ وما قيمة الدعوة؟ وما قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ بل ما قيمة الجنة والنار؟ فإن الأفعال كلها خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى: أنه أذن في وجودها، ولكنه رتب على الشر العقوبة، ورتب على الطاعة الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة.
ولذلك انعقد إجماع السلف على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، أي: أن الله تعالى أذن في وجودها، لكن الذي اكتسب الفعل بجارحته هو العبد، فهو الذي قام فصلى وقرأ وركع وسجد على الحقيقة، وهو الذي قام ومشى ووصل إلى موطن الجريمة وأجرم، فالله تعالى أعان الطائع في صلاته، ويسر الطريق ومهده لذلك العاصي.
فهذه المسألة أخذت كلاماً كثيراً جداً سلباً وإيجاباً عند السلف، بل وقبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام.(34/8)
ذكر معتقد السلف في علم الله تعالى ومن خالفهم في ذلك
المرتبة الأولى: وهي مرتبة العلم، أن الله تعالى علم كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض، فعلمه أزلي لا أول له، والعلم صفة من صفات الله عز وجل، وهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، فإن الله تعالى لا يقاس عليه أحد من خلقه، فنحن لا نعلم إلا ما هو مشاهد، وربما نشاهد الشيء ولا نعلمه، ولكن الله تعالى يستوي عنده العلمان، فهو عالم الغيب كما هو عالم للشهادة، فالكل مشاهد وحاضر بين يدي الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن يكفر الصحابة رضي الله عنهم من أنكر علم الله تعالى السابق الأزلي.
ولذلك ورد في صحيح مسلم في أول كتاب الإيمان: أن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة حاجين أو معتمرين، فقالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقالا: ليتنا نرى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري، فوفقا لـ عبد الله بن عمر وهو يطوف حول الكعبة، فقال حميد: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فقلت: لعله يكل الكلام إلي -يعني: لعله يفوضني في الحديث معه- فقلت: يا أبا عبد الرحمن! قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتكلمون في القدر، ويقولون: إن الأمر أنف -ومعنى أنف: أن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، فنفوا عن الله تبارك وتعالى علمه السابق بأفعال العباد، وما هم عاملون ومكتسبون- وإنهم يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -يعني: يطلبون دقائقه، وهم مستمرون في قراءة القرآن وتلاوته- قال عبد الله بن عمر: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني.
جمهور أهل العلم: على أن مراد عبد الله بن عمر بهذا هو تكفيرهم، ثم انعقد اجتماع أهل السنة والجماعة على أن منكر علم الله تعالى الأزلي كافر.
وانتقلوا بعد ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وكان إماماً من أئمة البصرة، فلما بلغه مقولة معبد، أي: معبد الجهني تلميذ سوسن النصراني، الذي أسلم ثم تنصر مرة أخرى، وهو أول من نفى القدر وتكلم فيه، وأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ عن معبد الجهم بن صفوان.
فقال حميد لـ ابن عباس: إن بالبصرة أناساً يقولون: لا قدر، وإن الأمر أنف.
قال: أوقد فعلوها؟ وكأن ابن عباس عنده علم سابق من النبي عليه الصلاة والسلام أن الأمة سيظهر فيها من يقول بهذا، ولكنه تعجب من سرعة ظهور هؤلاء.
وكل بدعة حدثت في الإسلام إنما مردها إلى نحلة باطلة، أو مردها إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، فالقول بالقدر بدعة نصرانية في أصلها؛ لأن القدر ما انتشر في الإسلام إلا على يد معبد تلميذ سوسن النصراني الذي أسلم نفاقاً ثم ارتد إلى النصرانية مرة أخرى.
والقول بالقدر ظهر على وجه التقريب سنة أربع وستين هجرية على لسان معبد الجهني، وظهر في البصرة، بل إن معظم البلايا والفتن التي حدثت في الإسلام كان مردها إلى البصرة وإلى الكوفة، فالعراق معروفة منذ فجر الإسلام -بل وقبل الإسلام- بأنها بلاد الفتن، ومنها تطل برأسها.(34/9)
مرتبة الخلق والإيجاد عند علماء الإسلام وعند أهل البدع
لقد اختلف الناس في الخلق والإيجاد بعد أن اختلفوا في علم الله تعالى، فقال بعضهم: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وإن الأمر أنف، وأهل السنة والجماعة كفروا من قال بذلك، وأما مرتبة الخلق والإيجاد: فمنهم من يقول: إن العبد مسير، أي: مقهور ومجبور على إتيان أفعاله خيرها وشرها، وهذه الفرقة تسمى: الجبرية، وهذه المقولة خطيرة فضلاً عن عدم مناسبتها واتفاقها مع معتقد أهل السنة، ونتج عن هذه المقولة أنه لا يجوز لله عز وجل أن يعاقب العبد، ولو عاقبه لكان ظالماً؛ لأنه هو الذي قهر العبد، ولم يثبتوا للعبد إرادة ولا اختياراً، بل قالوا: إن الفاعل الحقيقي للطاعات والمعاصي هو الله، وهذا ضلال مبين.
وفي المقابل ظهرت فرقة أخرى تقول: إن الأفعال كلها وقعت باختيار وإرادة العبد، ولا دخل لله عز وجل فيها مطلقاً، وخطورة ذلك أنهم جعلوا العبد خالقاً لأفعاله، ولا دخل لله عز وجل في أفعال العباد أبداً.
وهذا يتعارض مع معتقد أهل السنة والجماعة القائل: إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته، وهو يلبس على عامة المسلمين بالإرادة والمشيئة، فلم يقسموا الإرادة والمشيئة إلى قسمين كما قسمها أهل السنة: إرادة شرعية دينية، مبنية على المحبة والرضا، وإرادة كونية قدرية لا يشترط فيها المحبة والرضا؛ لأن المعاصي لا يحبها الله ولا يرضاها، ومع هذا فإن الله تعالى قد أذن بوجودها، وهو غير ظالم لمن أتى بها؛ لأنه قد أرسل إليه الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وجعل له العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، فاختار العبد الشر، فلما اختار العبد الشر يسره الله تعالى لاختياره.
إذاً: فالعبد أحياناً يكون مخيراً، وأحياناً يكون مسيراً مجبوراً.(34/10)
سياق ما فسر من الآيات والأحاديث في إثبات القدر وإجماع الصحابة ومن بعدهم(34/11)
بيان ما جاء في بداية ظهور بدعة القدر وإنكارها
قال: [سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عز وجل، وما روي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر، وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل طاعاتها ومعاصيها.
وروي ذلك عن الصحابة لفظاً: عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر] وعدد كثير من الصحابة.
قال: [وعن طاوس -وهو من التابعين- قال: أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر.
وبه قال من التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وسليمان بن يسار، وكعب الأحبار]، وعدد كثيراً من التابعين.
قال: [قال يونس بن عبيد: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سيسويه -اسم سوسن النصراني بالفارسية: سيسويه - ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوافة أو بني عوانة].
يعني: لا يقول بالقدر في البصرة إلا ثلاثة: أولهم سيسويه، وبعده معبد -وهو تلميذه-، ورجل آخر ملعون في قوم يسمون: بني عوافة أوبني عوانة.
قال: [وعن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان].
يعني: أيهما أفضل علي أم عثمان، والإجماع منعقد على أن علياً بعد عثمان في الخلافة، لكن وقع الاختلاف في أيهما أفضل: علي أو عثمان؟ ونشأ هذا الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وممن كان يقول بأفضلية علي: سفيان الثوري، وهو من أئمة السلف وأئمة السنة، ولكنه رجع عنه.
فالراجح وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة: أن عثمان أفضل من علي بن أبي طالب، وترتيب الأربعة في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.
فلم يختلفوا في الخلافة، وإنما اختلفوا في الأفضلية بين علي وعثمان، وهذا الخلاف لا يضلل به المخالف ولا يبدع، فهناك مسائل في الاعتقاد وقع الخلاف فيها بين أهل السنة والجماعة، وهذه المسائل بعينها لا يضلل فيها المخالف، وإنما يضلل المخالف إذا اختلف مع أهل السنة والجماعة في شيء غير ما وقع بينهم من اختلاف.
مثلاً: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه أم لا؟ بعضهم قال: رآه، وبعضهم قال: لم يره، وهذا الكلام ذكرناه وذكرنا الخلاف فيه سابقاً، لكن الراجح من مذهب جمهور أهل السنة: أنه لم يره، والذي قال: إنه رآه لم يتبين من قوله هل: هو أراد أنه رآه بفؤاده أو بعيني رأسه؟ ولم يكن هناك تصريح منه أنه رآه بعيني رأسه، فيحمل قوله على أنه رآه بفؤاده، وبهذا يتفق مع مذهب بقية أهل السنة والجماعة.
فإذا قال قائل: إنه رآه بعيني رأسه لا يضلل؛ لأنك لو قلت ذلك للزمك الوقيعة والطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بلا شك يخالف ما عليه أهل السنة في معتقدهم وتبجيلهم واحترامهم لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، المخطئ منهم والمصيب، فنقول: أخطأ فلان ولا نقول: ضل فلان؛ لأن من شعار أهل البدعة أنهم إذا اختلفوا في مسألة كفر بعضهم بعضاً، وضلل بعضهم بعضاً.
فمعتقد أهل السنة والجماعة إذا اختلفوا في مسألة أن يخطئ بعضهم بعضاً فقط، فنقول: فلان أخطأ؛ وذلك لأنه ليس معصوماً، وأما أن يقول: ضال أو كافر فهذا مذهب أهل البدع، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم لبعض.
فانظر إلى منهج الاعتدال عند أهل السنة والجماعة.
قال: [قال ابن عون: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان، حتى نشأ ها هنا حقير يقال له: سيسويه البقال، وكان أول من قال بالقدر].
وهذا يدل على أن بدعة القدر نشأت من عند النصارى في البداية.
قال: [وعن أيوب السختياني قال: أدركت الناس وما كلامهم إلا وإن قضى الله، وإن قدر الله].
يعني: كان الناس كلهم متفقين على أن القضاء والقدر من عند الله، إلى أن نشأ سوسن، واتخذ له تلاميذ من أبناء الإسلام بزعمهم، فقالوا بتلك المقولة الفاسدة.
قال: [وعن عبد الله بن يزيد بن هرمز قال: لقد أدركت وما بالمدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل واحد من جهينة يقال له: معبد] ومعبد الجهني أخذ البدعة من البصرة على يد سوسن، ثم انتقل بها إلى المدينة، وأحاديث أهل ال(34/12)
ظهور التشيع في مصر والمغرب على يد أبي عبد الله الفارسي
والتشيع ما ظهر في بلاد مصر، ولا في القطر المغربي كله إلا على يد رجل واحد أيضاً يقال له: أبو عبد الله الفارسي، وقد أتى من بلاد فارس حاجاً، فنصب خيمته في منى، وتظاهر بالعبادة الشديدة بجوار خيام المصريين.
فلما رأوا من عبادته وحسن صلاته وقيامه ودعائه أعجبهم ذلك جداً، فأرادوا أن يتعرفوا عليه، فلم يذكر لهم اسمه أبداً، وإنما قال: أنا أبو عبد الله الفارسي حتى عرفوه بهذا، وبعد أن فرغ من الحج قالوا: إلى أين تريد؟ قال: إلى بلاد المغرب، قالوا: ولم؟ قال: لأعلم صبيانهم القرآن الكريم.
قالوا: غرض نبيل، إذا أردت أن تذهب إلى بلاد المغرب فلا بد أن تمر بمصر، فحملوه حملاً على أن يبقى في مصر، وهو يريد أصلاً البقاء فيها؛ لأنه يعلم أن مصر ثغر من ثغور الإسلام، فإذا أراد أحد أن يضرب الإسلام فعليه بمصر، وإذا أراد أحد أن ينصر الإسلام ويؤيده فعليه بمصر.
فهذا المخالف يعلم أن هذه البقعة المصرية عليها مدار العز والذل لأهل الإسلام، فهو يريد أن يبقى في مصر، لكنه يتظاهر بالاستغناء عن ذلك، فحملوه حملاً على أن يبقى في مصر، وبعد أن بث سمومه بواسطة تحفيظه القرآن الكريم للغلمان والأطفال، ونشأ جيش كبير جداً من الشباب والرجال يتشيعون لـ علي بن أبي طالب افتضح أمر ذلك الرجل، وعرفه أهل السنة والجماعة، فهرب، وبدأ بأفريقية وانتهى بالمغرب العربي، وهناك أنشأ دولة أخرى عظيمة من دول الشيعة، ولما ضعف المسلمون تماماً أتى بذلك الجيش الجرار الشيعي من بلاد المغرب، وكلما مر على ملأ أخذ منهم حظاً ونصيباً من المتاع والعتاد والأفراد الذي يدخلون في مذهبه، ورتب داخلياً مع تلاميذه وأبنائه الذين رباهم في مصر، وكانت هذه البداية لنشأة الدولة الفاطمية في مصر.
ولما حكم الفاطميون مصر قضوا على الأخضر واليابس في دينها، إلى أن قيض الله عز وجل لهذه الأمة بأسرها صلاح الدين الأيوبي.
والفاطميون أناس خبثاء، فقد دخلوا مصر ونشروا فيها مذهبهم، وأرادوا أن يظهروا أمام الناس بمظهر حسن، فبنوا الجامع الأزهر لتدريس العلوم الشرعية على مذهب الشيعة، ولكن الشعب المصري لا يميز بين الحق والباطل، ولا بين الخير والشر، ولا بين العسل والسم، فإن معظم الشعب قد تحسى السم وهو يقول للشر: خير، وللباطل: حق؛ لأن الشيخ فلان قال به، والعالم فلان قال به.
وهكذا حال هذا الشعب في صبر وفي حرب إلى قيام الساعة، فهذا الخلاف وهذا الشر لم يكن موجوداً في الصدر الأول للإسلام.(34/13)
إنكار السلف لبدعة القدر
[قال: لقد أدركت وما في المدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل واحد من جهينة يقال له: معبد ومن الفقهاء -أي: الذين قالوا بأن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، وقالوا بإثبات القدر-: مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، ومن أهل مكة ابن جرير، وسفيان بن عيينة وغيرهم، ومن أهل مصر، ومن أهل الشام، ومن أهل العراق، ومن أهل الكوفة، ومن فقهاء أهل البصرة، ومن أهل بغداد، ومن خراسان، ومن القراء والأدباء] وغيرهم كثير.
قال: [قال أحمد بن يحيى ثعلب: لا أعلم أعرابياً قدرياً].
يعني: لا أعلم عربياً خالصاً أصيلاً قال بالقدر، فالقدر لم يكن معروفاً عند العرب.
[قيل له: يقع في قلوب العرب القول بالقدر -صحيح أن هذه البدعة ليست من قولهم ولا من كيسهم، وإنما تشربتها قلوبهم- قال: معاذ الله! ما في العرب إلا مثبت للقدر خيره وشره، أهل الجاهلية والإسلام، وذلك في أشعارهم وكلامهم كثير.
قال الشيخ أبو القاسم الحافظ: وهو مذهب أهل السنة والجماعة، يتوارثونه خلفاً عن سلف من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، والحمد لله على ذلك، وأسأل الله تمام ذلك بفضله ورحمته].(34/14)
استدلال السلف ببعض الآيات والأحاديث المثبتة للقدر
قال: [باب: تفسير قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]]، (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ): أنتم وما تعملونه، فإنه مخلوق لله تعالى، بمعنى: أن الله تعالى هو الذي أذن في إيجاد وخلقه.
قال: [عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المعروف كله صدقة، وإن الله صانع كل صانع وصنعته)].
أي: أن الله خالق كل مخلوق وما عمل، وهذا الحديث عند البخاري في كتاب الرد على القدرية، وكذلك عند مسلم.
قال: [وعن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله يصنع كل صانع وصنعته)، قال الفزاري: قال رجل: يعني: خلقكم وما تعملون].
فأنتم كما أنكم مخلوقون لله، فكذلك ما تفعلونه مخلوق لله من باب أولى.
قال: [وعن ابن عباس في هذه الآية: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، قال: كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة.
قال: والملائكة يستنسخون ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم، فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]] يعني: نكتب ما كنتم تعملون.
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، قال: الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير].
أي: من صفات العلماء الذين يخشون الله تعالى أنهم يقولون: إن الله على كل شيء قدير.
وما جاء في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]: قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -يعني: يجادلونه في مسألة القدر- فأنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49])].
فهذه الآيات نزلت رداً على المشركين الذين لا يثبتون أن كل شيء بقدر.
قال: [وقال أبو هريرة: جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية ثم تلاها.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم -يعني: هو يخرج بالدلو ماء من زمزم- وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلم في القدر، فقال: أو قد فعلوها؟ قلت: نعم.
قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49]، لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، ولو أريتني واحداً منهم فقأت عينه.
وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] قال: يقول: الله خلق الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة].
هذا كلام ابن عباس حبر الأمة، فالكل مخلوق لله عز وجل، ولا خالق إلا هو سبحانه، قال: وخلق الخير والشر، ومعنى خلقه ذلك: إذنه في وجوده، ومع ذلك فهو لا يرضاه ولا يحبه.(34/15)
باب ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت
قال: [باب: ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر)] ومعنى (لا يؤمن) فيه تفصيل، والحكم يختلف بحسب هذه المراتب، وبحسب ما إذا كان الذي لا يؤمن بالقدر رأساً في بدعته، أو تابعاً فيها، فإذا كان المنكر للقدر منكراً لعلم الله الأزلي؛ فإنه يكفر ويخرج عن ملة الإسلام، وإذا كان ينسب الخلق والإيجاد للعبد دون الله عز وجل فإنه يكفر كذلك؛ خاصة إذا كان رأساً في بدعة القدر، عالماً بما يقول، وحينئذ ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد) أي: يكفر من لا يؤمن بالقدر، أو حتى يؤمن بالقدر.
[قال أبو حازم: لعن الله ديناً أنا أكبر منه، يعني: التكذيب بالقدر].
يريد أن يقول: إن قوماً تدينوا بدين لم يكن هو دين النبي عليه الصلاة والسلام، فهم ملعونون وما يدينون، أما أنا فارتفع عن هذه الديانة، أي: ارتفع عن هذا التكذيب وهذا الكفر.
[وقال ابن عباس في القدرية: أولئك شرار هذه الأمة.
وعن حماد بن زيد عن أيوب قال: أدركت الناس هاهنا وكلامهم: وإن قضى وإن قدر]، يعني: أن الناس كانوا على إثبات عقيدة القضاء والقدر.(34/16)
كلام أبي الأسود الدؤلي في القدر وبراءته من القول بنفي القدر
قال: [عن عثمان بن عبد الله قال: أول من تكلم في شأن القدر أبو الأسود الدؤلي].
أبو الأسود إمام كبير جداً من أئمة البصرة، وهو تلميذ علي بن أبي طالب؛ ولذلك فهذا الكلام له محملان: إما أن يكون شاذاً؛ لأن أبا الأسود الثابت عنه بالسند الصحيح أنه يثبت عقيدة القضاء والقدر، وإما أن يكون أول من تكلم في القدر أبا الأسود الدؤلي من جهة إثباته، ويكون هذا الكلام فيه تجوز؛ لأن أول من تكلم في إثبات القدر هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، والتابعون، وأتباعهم إلى يومنا هذا.
فإذا كان المقصود: أول من تكلم في إثبات القدر هو أبو الأسود فمحمله: أنه أول من تكلم في إثبات القدر بالبصرة في وجود معبد الجهني، ويكون حميد قد ذهب إلى مكة وقابل عبد الله بن عمر، فيكون أول من رد على معبد الجهني هو أبو الأسود الدؤلي.
والدليل على أن أبا الأسود الدؤلي من الذين ثبت عنهم أنهم أثبتوا عقيدة القضاء والقدر: ما روي عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق -يعني: كان شاباً مراهقاً -وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم أن العمل آنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً.
قال: فلقيت أبا الأسود الدؤلي فذكرت ذلك له، فقال: كذب، ما رأينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت القدر.
إذاً: فعقيدة أبي الأسود إثبات القدر.
قال: يحيى بن يعمر: ثم إني حججت وحميد بن عبد الرحمن الحميري، فلما قضينا حجنا وكنا قلنا: نأتي المدينة فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألهم عن القدر، فلما أتينا المدينة لقينا أناساً من الأنصار فلم نسألهم، قلنا: حتى نلقى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري.
قال: فلقينا ابن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، قال: فقمت عن يمينه وقام هو عن شماله، قال: قلت: تسأله أو أسأله؟ قال: لا، بل اسأله، قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن! إن ناساً عندنا بالعراق قد قرءوا القرآن، وفرضوا الفرائض، وقصوا على الناس، يزعمون أن العمل أنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً، قال: فإذا لقيتم ذلك فقولوا: يقول ابن عمر: هو منكم بريء، وأنتم منه براء، فوالله لو جاء أحدهم من العمل بمثل أحد ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر! لقد حدثني عمر: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى لقي آدم فقال: يا آدم! أنت خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وأسكنك الجنة، فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار.
قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؛ تلومني بما قد كان كتب علي قبل أن أخلق؟! فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى).
يعني: آدم غلب موسى بحجته، وهذا الحديث ظاهره جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية، فآدم قد عصى الله فأكل من الشجرة، واحتج بالقدر، وما كان احتجاج آدم إلا بعد أن تاب؛ ولذلك مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا لمن تاب؛ ولذلك حدت الحدود، وأقيمت العقوبات؛ لتطهير من أذنب، وهذه العقوبات كذلك هي من قدر الله.
جيء إلى عمر برجل قد زنى، وأراد أن يحتج على زناه كما احتج آدم، فقال: يا أمير المؤمنين! أتحدني في أمر قد قدره الله علي؟ قال: نعم، إنما نحدك بقدر الله أيضاً.
فالمعاصي وقعت بقدر الله الكوني القدري، والعقوبات جعلت بقدر الله تطهيراً لهذه المعاصي، فالمرء يفوض أمره إلى الله عز وجل ويتوب، وتقام عليه الحدود، ويعتقد في قلبه أن ما وقع منه كان باختياره، ولو أراد الله تعالى ألا يقع فيها العبد لفعل، ولكن لما اختار العبد طريق المعصية مهد الله تعالى له الطريق إليها؛ ولذلك اختلف المعتزلة والجهمية في مسألة القدر، فبعضهم يثبت أن العبد مسير ومجبور، وبعضهم يقول: هذه الإرادة كلها والاختيار كله للعبد ولا دخل لله عز وجل، فيها.
وأهل السنة والجماعة يقفون موقفاً وسطاً بين هذين الفريقين، فيقولون: (كل ميسر لما خلق له)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: لقد حدثني عمر: أن رجلاً في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إليه فقال: (يا رسول الله! أدنو منك؟ قال: نعم، قال: فجاء حتى وضع يده على ركبته، فقال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟)، وأشراط الساعة وغيره ذلك، وهو حديث جبريل الطويل، وقد سقت هذا الحديث لإثبات أن أبا الأسود الدؤلي لم يكن قدرياً، بل كان من أهل السنة والجماعة.(34/17)
بداية الكلام في القدر وإنكار السلف ذلك
[وعن الحسن بن محمد قال: أول من تكلم في القدر حين احترقت الكعبة -والكعبة احترقت سنة (64) هـ- قال قائل: كان هذا من قضاء الله أن احترقت الكعبة، فقال آخر: ما كان هذا من قضاء الله.
وعن حازم قال: سمعت حوشب يقول لـ عمرو بن عبيد في حبوة الحبس: ما هذا الذي أحدثت، قد نبت قلوب إخوانك عنك؟ -أي: جعلت قلوب الناس تنفر عنك وتبغضك- قال: الحسن انطلق حتى نسأله عن هذا الأمر، قال: كسرها الله إذاً.
يعني: رجليه.
وعن عاصم الأحول قال: كان قتادة يقصر بـ عمرو بن عبيد، فجثوت على ركبتي، قلت: يا أبا الخطاب! وإذا الفقهاء ينال بعضها من بعض؟ قال: يا أحول! رجل ابتدع بدعة؛ تذكر بدعته خير من أن يكف عنها.
قال: فوجدت على قتادة فوضعت رأسي، فإذا بـ عمرو يحك آية من القرآن.
كان عمرو بن عبيد من أوتاد العلم، فلما وضع في السلاسل والأغلال قال: ارحمه؛ رجل فقيه، فقال قتادة: هذا لا يرحم؛ لأنه ابتدع بدعة وإن كان عالماً، فذهب عاصم يراقب عمرو بن عبيد في السجن، قال: فإني رأيته يحك آية في القرآن، هذه الآية: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]-لأن هذه الآية حجة عليه- قال: عاصم: فقلت: ما تصنع أنت؟ قال: إني أعيدها.
قلت: أعدها، قال: لا أستطيع].
فصدق قتادة حينئذ، فالمبتدع وإن كان عالماً يستحق القيد ويستحق التأديب، خاصة إذا كانت بدعة خطيرة وفي أصول الإيمان.
قال: [وعن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان، حتى نشأ هاهنا حقير يقال له: سنسويه البقال، قال: فكان أول من تكلم في القدر.
قال حماد: ما ظنكم برجل يقول له ابن عون: هو حقير.
وعن يونس بن عبيد قال: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه، ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوافة.
وعن معاوية بن عبد الله بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزبير أبو عبد الله قال: أخبرني أبي قال: كنا جلوساً عند هشام بن عروة فذكروا له إبراهيم بن أبي يحيى المديني.
قالوا: يا أبا المنذر! إنه حافظ الحديث، فقال: مولى أسلم؟ قالوا: نعم، إلا أنه قدري، فقال هشام بن عروة: لعن الله ديناً أكبر منه، وفي رواية: لعن الله ديناً أنا أكبر منه].
يعني: لعنه الله.
فإن هذا دين لم يأت به الشرع.
[وعن محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي يقول: أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان -أي: غيلان الدمشقي - عن معبد].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(34/18)
الأسئلة(34/19)
حكم من أمر في المنام بذبح شيء
السؤال
جاءني في المنام أشخاص لم أرهم، وقد أعطوني حمامتين بيضاوتين، وقالوا لي: اذبحيهما؛ لأنك مريضة، فماذا أفعل؟
الجواب
لا تفعلي، مع أنه ليس عندك حمامتان أصلاً، لكن لو فرضنا أن معك حمامتين بيضاوتين في بيتك، وقد رأيت أشخاصاً يقولون لك في منامك: اذبحيهما فإن هذا من الشيطان، وهو شرك بالله العظيم؛ لأن الذبح عبادة ولا يجوز إلا لله عز وجل، فلا تفعلي ما يأمرك به الشيطان، فاستعيذي بالله، واتفلي عن يسارك ثلاثاً، وانتهي، وتحولي عن مكانك، وإذا استيقظت فصلي ركعتين في جوف الليل، وادعي الله تبارك وتعالى أن يشفيك.(34/20)
حكم قول الرجل لزوجته: علي الحرام، أو لو فعلت كذا فأنت محرمة علي
السؤال
ما حكم قول الرجل لزوجته: علي الحرام، أو لو فعلت كذا فأنت محرمة علي؟
الجواب
قوله لها: (أنت محرمة علي)، (وعلي الحرام) قول ضمني، فكونه يقع به طلاق أو لا يقع ذلك حسب نية القائل، فإن نوى طلاقاً وقع، وإن نوى ظهاراً وقع ظهاراً؛ لأن لفظ: (علي الحرام) من الألفاظ الضمنية وليس من الألفاظ الصريحة، واللفظ الصريح يقع به الطلاق ولا يحتاج إلى نية.
أما إذا قال لها لفظاً يحتمل الطلاق ويحتمل غيره؛ فذلك مرهون بنيته وقصده وإرادته، فإذا قصد ظهاراً وقع ظهاراً، وإذا قصد طلاقاً وقع طلاقاً، والله أعلم.(34/21)
فهم العقيدة الصحيحة وأصول العبادة أمر ضروري على طالب العلم
السؤال
متى يجوز لطالب العلم أن يشتغل بالأحاديث النبوية الصحيحة والضعيفة؟ وما الكتب التي يقرؤها؟ وعلى يدي من يأخذ هذا العلم في هذا البلد؟
الجواب
إن طلب الحديث صار شهوة عند الكثير من الطلاب، وهذه الشهوة مبعثها حب الظهور، فلا تجد الرجل يفقه شيئاً في دين الله عز وجل إلا بعض القواعد في المصطلح، فتراه لا يهتم بأصول دينه، ولا بأصول عبادته، ولا بكتاب الله، ولا بالعلوم اللازمة له، بل لا يهتم بعقيدته في الله عز وجل، وإنما كل مراده: أن يتعلم الحديث ويتعلم أصوله، وكيف يصحح وكيف يضعف، وما هو السبيل إلى ذلك، ويتشبث به، ويكون هو الشغل الشاغل له في الليل والنهار(34/22)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - إثبات القدر وأن الله خالق الخير والشر
جميع أفعال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، والله أذن في وقوعها، سواء كانت في جانب الطاعات كالأوامر، أو كانت في جانب المناهي كالمعاصي، لكن الطاعات تقع بإرادة الله الشرعية الدينية، التي مبناها على المحبة والرضا، وأما المعاصي فإنها تقع بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية.(35/1)
معنى قوله تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
في الدرس الماضي تعرضنا لتفسير قول الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر -أي: ينازعونه فيه، فيأخذون منه ويردون عليه- فأنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس رضي الله عنهما وهو ينزع في ماء زمزم، وقد ابتلت أسافل ثوبه، فقلت له: قد تُكلم في القدر -أي: أن الناس قد خاضوا في القدر- فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
ثم قال: لا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا على موتاهم، ولو أريتني واحداً منهم فقأت عينه.
يقول: الله خلق الخلق كلهم بقدر، وخلق خير والشر، فخير الخير السعادة.
وشر الشر الشقاوة].(35/2)
أنواع الذين تكلموا في القدر
وشيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله له تفسير أوضح من هذا الكلام في تفسير هذه الآية في شفاء العليل، فقال رحمه الله في الباب التاسع في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
بعد ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مخاصمة قريش للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: والمخاصمون في القدر نوعان -أي: الذين تكلموا في القدر نوعان من الناس-: أحدهما: من يبطل أمر الله ونهيه بقضائه وقدره، أي: أنه لا يعتقد أن الأمر والنهي صدر من الله عز وجل، كالذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148].
والثاني: من ينكر قضاءه وقدره السابق.
والطائفتان خصماء الله عز وجل.
قال عوف: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام، ولذلك لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الإيمان بالقدر.
وقال: إن الله تبارك وتعالى قدر أقداراً، وخلق الخلق بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى كل ذلك من عند الله عز وجل.
قال الإمام أحمد: القدر هو قدرة الله عز وجل، إذا شاء أمراً قال له كن فكان.
قال: واستحسن ابن عقيل -وهو أبو الوفاء بن عقيل - هذا الكلام جداً حينما سمعه عن الإمام أحمد، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو بلا شك كما قال، فالقدر هو قدرة الله عز وجل، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها.
وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم.(35/3)
مراتب القدر
ومراتب القدر أربع، وأولها: مرتبة العلم.
أي: علم الله عز وجل بما هو كائن إلى قيام الساعة.
فالله عز وجل علِم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما علم ذلك كتبه.
وهذه هي المرتبة الثانية، فكل شيء بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ الذي لا يلحقه محو ولا تبديل ولا تغيير، فالمحو والتبديل والتغيير إنما يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة الكرام البررة، ولذلك يقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً، ولا تبديلاً ولا تغييراً غير الذي فيه.
فالله عز وجل كتب علمه الأزلي، وما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، ولا يخفى عليه شيء قبل أن يخلق الخلق.
ولذلك روى مسلم في صحيحه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ولا بد أنه حينما عَلِمه كَتَبه، والله عز وجل عالم وعليم سبحانه وتعالى، فعلم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما كان ذلك منه خلق القلم، وهو أول مخلوق لله عز وجل على أرجح الأقوال، كما في الحديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) فكتب القلم.
فأول مرتبة هي إثبات العلم لله عز وجل، فالله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، وكل ذلك لديه مشاهد معلوم، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية.
وهذا بخلاف ما يقوله صناديد القدرية: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن أي واحد من الحاضرين إذا أراد أن ينصرف من المسجد فإن الله تعالى لا يعلم إلى أين ينصرف يميناً أم شمالاً، زاحفاً على يديه أم ماشياً على قدميه؟ فالله لا يعلم ذلك إلا بعد أن يمشي العبد! وهذا بلا شك كفر، ولذلك أجمعت الأمة على كفر من أنكر العلم الأزلي السابق لله عز وجل.
والله عز وجل علم ذلك فكتبه، فالذي ينفي العلم عن الله عز وجل لا بد وأنه ينفي الكتابة، والقلم يكتب الذي كان في علم الله بأمر الله عز وجل، فإذا كان النافي ينفي العلم فلا بد وأن ينفي الكتابة كذلك.
المرتبة الثالثة: وهي مرتبة عظيمة، ولعلها بيت القصيد، وهي: مرتبة المشيئة والإرادة لله عز وجل.
والمشيئة أو الإرادة نوعان: مشيئة دينية شرعية، مبناها على المحبة والرضا، وموضوعها الأمر والنهي قال الله افعل، أو نهي الله فلا تفعل، فقول الله افعل مثل: صل، صم، زك، حج، مر بالمعروف وانه عن المنكر فكل ذلك شرع، فلو فعلته فإن الله يحب ذلك، ولو أن الله تبارك وتعالى نهاك عن المعاصي وأتيتها فالله تعالى يبغض ذلك.
إذاً: فالإرادة أو المشيئة الشرعية الدينية: هي كل أمْر أمَر الله عز وجل به وهو يحبه، فالصلاة عمل يحبه الله عز وجل، وكذلك الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من أوامر الإسلام، فإذا أتاها العبد دخل في محبة الله عز وجل هو وعمله؛ لأن الله أمره فأطاع الأمر.
والله تبارك وتعالى لا يُحب الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، وغير ذلك من المعاصي، وإنما يبغض ذلك، فحينما أبغضها نهانا عنها، ولا يتصور أن الله تعالى ينهانا عن شيء وهو يحبه.
ولذلك نقول: إن المناهي -وهي المعاصي والمخالفات الشرعية- مبناها على بُغض الله عز وجل، ولكننا نقول: إن الإرادة الربانية أذِنت في وقوعها، فأعظم ذنب هو الشرك بالله عز وجل، والشرك موجود في الأرض، والقتل موجود، والسرقة موجودة، والزنا موجود، وشرب الخمر موجود وكل المعاصي موجودة، ولا يتصور أن يقع في الكون شيء بغير إرادة الله، فلو أن شخصاً قال: أنا سأقتل شاء الله أو أبى، فلا يتسنى له القتل أبداً.
ولا يمكن، فهذا إجرام وكفر بالله العظيم.
لذلك فنحن نقول: إن القتل وقع بإرادة الله، والذي كسب القتل وفعل القتل بيديه هو العبد.(35/4)
اختلاف الناس في أفعال العباد
إن جميع أفعال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى أذن في وقوعها، سواء كانت في جانب الطاعات كالأوامر، أو في جانب المناهي كالمعاصي كل ذلك يقع بإذن الله وإرادته، لكن الطاعات تقع بإرادة الله الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، وأما المعاصي فإنها تقع بمشيئته وإرادته الكونية القدرية، أي: أن الله عز وجل قدر أن تقع هذه المعاصي في الكون.
فالقدرية بمعنى: أن الله هو الذي قدرها وخلقها، وأذِن في وقوعها.
والكونية: أنها أفعال تقع في الكون وفي حياة الناس.
وكل المعاصي عبارة عن ترك أمر، أو فعل نهي ترك أمر لله عز وجل، أو فعل أمر نهى الله عز وجل عنه، فلو أن العبد ترك طاعة لله قد أمر بها، أو أتى معصية لله عز وجل قد نهى عنها؛ فإننا نقول: إن ذلك مخلوق لله عز وجل، ولكن العبد قد اكتسبه كما اكتسب الطاعة بيديه، ولكن المعاصي مبناها على بغض الله عز وجل، فالمعاصي واقعة في الكون بإرادة الله؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر.
إذاً: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، هذا لفظ عام يشمل الطاعات والمعاصي، والخير والشر، والقدر حلوه ومره، وخيره وشره، ولذلك جاء عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] قال: هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير.
وهذا تفسير غريب جداً، والغرابة هذه لا تخرج إلا من قلب نوّره الله عز وجل بنور الإيمان.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] معنى الآية هو: تخصيص وقصر الخوف من الله عز وجل على أهل العلم، فأهل العلم هم أعلم الناس بالله عز وجل، فكلما ازداد المرء علماً ازداد خشية لله عز وجل، فهذا تفسير لظاهر الآية.
وابن عباس أتى بمعنى أعمق من هذا المعنى الظاهر، فيقول: العلماء الذين يخشون الله عز وجل هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير.
يقول: وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل -أي: بالتفسير- ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها، ولو كانوا يقرون فمُنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، فالذين ينكرون القدر سينكرون أن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، فهم لا يقرون بها على وجهها، ولا يأتون بهذا التأويل على وجهه.
ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به، ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، فالله تعالى يأذن لهذا بالطاعة، ويأذن لهذا بالمعصية، أي: أنه ييسر لهذا الطاعة وييسر لهذا المعصية، لأن الله علم أزلاً أنه إذا خلق فلاناً بين له الطريق وبين له الحق من الباطل على لسان رسله وأنبيائه، وكتبه التي أنزلها عليهم، وقد ضربت لك مثلاً في الدرس الماضي وهو لو أن غاية أو هدفاً أمامك له طريقان أحدهما معبد ممهد وميسر، والثاني طريق وعر صعب فيه شوك، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين لتصل إلى هدفك، فأي الطريقين ستسلك؟ إنه السهل، فالله عز وجل خلق المعاصي وخلق الطاعات، وخلق الجنة والنار، فإذا سلكت المعاصي وصلت وبلغتك إلى النار، وإذا سلكت الطاعات بلغتك إلى الجنة، فأنت حينئذ تختار لنفسك، فإذا كنت تريد النار فاسلك طريق المعاصي، وإذا كنت تريد الجنة فاسلك طريق الطاعات، فالعبد له اختيار.
ولذلك فإن الله عز وجل لا يُعذب عبداً على معصية اقترفها وهو لا يعلم أنها معصية، أو فعلها ناسياً أو مخطئاً (إن الله رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، فلو أتاك السلطان وأكرهك على فعل معصية ففعلتها، ولو كانت هذه المعصية هي كلمة الكفر، وعذبك عذاباً لا طاقة لك به: إما أن تنطق بها، وإما أن يفتك بك، حينما لم يكن لك قِبل بهذا العذاب ونطقت بكلمة الكفر فإنك لا تكفر، فانظر إلى رحمة الله عز وجل، فإنه يرفع عن عباده الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإنما ذلك وقتها)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة)، والتفريط أن يكون الإنسان مستيقظاً فيأتي وقت صلاة العصر مثلاً فيقول: لا يزال الوقت بدري حتى يأتي وقت المغرب، ويقول: العشاء ممدودة إلى الفجر فهذا تفريط؛ لأن الله تعالى جعل ميقاتاً محدداً للصلاة فقال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: موقتاً بوقت.
ولو أن رجلاً متعوداً أن يصلي جماعة، ففاتته الجماعة أو فاته الفرض، وفي الأسبوع المقبل تذكر أنه كان في الأسبوع الماضي قد نام وذهبت عليه صلاة العصر، ففي أي وقت تذ(35/5)
مشيئة الله عز وجل القدرية
نرجع إلى موضوعنا الأول وهو مشيئة الله عز وجل القدرية، وهي التي قدر أن تقع في الكون، قال: ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنه سبحانه مقلب القلوب حقيقة، وأنه إن شاء أن يقيم القلب أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه؛ لا يُقر بأن الله على كل شيء قدير، ومن لا يقر بأنه استوى على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ وأنه نزل إلى الشجرة فكلم موسى منها، وأنه ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة حين تخلو من سكانها، وأنه يجيء يوم القيامة فيفصل بين عباده، وأنه يتجلى لهم ويضحك، وأنه يريهم نفسه المقدسة، وأنه يضع رجله على النار فيضيق بها أهلها، وينزوي بعضها إلى بعض إلى غير ذلك من شئونه وأفعاله؛ من لم يقر بها لم يقر بأنه على كل شيء قدير، فيا لها من كلمة من حبر الأمة وترجمان القرآن! وقد كان ابن عباس شديداً على القدرية، وكذلك الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.(35/6)
الحكمة من العمل مع أن الأمور مقدرة ومفروغ منها
وابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية يقول عند قول الإمام الطحاوي: وكل ميسر لما خُلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله.
أي: أن كلٌ ميسر لما خلق له من السعادة أو الشقاوة، ولذلك في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خُلق له).
ولذلك فإن أكثر من واحد قال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت ما بقي لنا من أعمالنا وعمرنا شيء قد سبق وقد كتبه الله عز وجل، أو شيء مستأنف؟ قال: بل شيء سبق -أي: مكتوب ومعلوم لدى الله عز وجل- قال الصحابي: (ففيم العمل إذاً؟) أي: إذا كانت الأمور معلومة لدى الله عز وجل ومقدرة ومكتوبة؛ فلماذا نعمل؟ فكل واحد إذاً يركن على المكتوب.
فنقول: تشتغل لأنك لا تدري أأنت من أهل الشقاوة، أو أنك من أهل السعادة، فابذل جهدك لأن تكون من أهل السعادة، والله تبارك وتعالى ييسر لك بحرصك على الطاعة أمر الطاعة، ولو أنك تركت الطاعة وحرصت على المعصية؛ سهلها لك؛ لأنك نفسك تميل إلى المعاصي، فهناك نفوس خبيثة تميل إلى الخبيث، وهناك نفوس طاهرة نظيفة مؤمنة إذا سمعت بمعصية فرت منها فرارها من الأسد، وهرولت وأسرعت إلى طاعة الله عز وجل.
فهناك من إذا فاتته تكبيرة الإحرام يتفطر قلبه حزناً، وهناك من إذا أجبرته على الدخول إلى المسجد فإنه لا يصلي، ولو كان اسمه محمداً، أو أحمد، أو عبد الله، أو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ويشابه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، فهناك نفوس خبيثة ونفوس طيبة، فهذا كله بقدر الله، لكن الله تعالى يسر لهذا لأنه علم منه أزلاً أنه لا يميل إلى الطاعة، وخلق الله النار لحكمة.(35/7)
عدل الله تعالى والحكمة من خلق الجنة والنار
فتصور أنك رجل مؤمن موحد مطيع لله عز وجل، وجارك رجل عاص وفاسق وزنديق وغير ذلك، لو أتيتما يوم القيامة والله تعالى أدخلكما جميعاً الجنة فستقول: ما هي القضية؟! وهذا لا يحصل؛ لأن الله خلق الجنة وخلق النار لحكمة عظيمة، فهل مآل هذا المشرك المعرض العاصي الجاحد الجنة؟ وهل أهل الجنة يقفون على الباب والعصاة يدخلون الجنة؟ لا، لا بد للكفرة من عقاب، وعقابهم أن يدخلوا النار.
والذي يهزأ ويسخر، بل ويُعذب المؤمنين الموحدين؛ لا يهنأ قلبك حينما يكون بجوارك في الجنة؟ فهو لن يدخلها، ولا بد له من عذاب وعقاب.
ولا بد أن تعتقد أن ما عند الله عز وجل من خيرات هي أعظم مما في أيدي العباد من خيرات، وما عند الله كذلك من عذاب وعقاب هو أشد وأبقى، فهناك من عنده روح الانتقام، ولا يحب أن يفوت صغيرة، فعندما يغلط عليه واحد لا بد أن يتشفى منه، ولا يقر له قرار إلا بعد أن يأخذ حقه، فالله بقادر على أن يأتي به يوم القيامة، والله يقدر على مثل ذلك بمئات المرات، فلماذا أنت متضايق؟ ففوض أمرك إلى الله عز وجل، واصبر واحتسب، فالصبر عبادة، وقد فرضه الله على عباده {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، فالحق عبادة، والصبر أيضاً عبادة.
وهذه العبادة تستخدمها وقت الضعف، وأما في وقت القوة فتستخدم الحق؛ لأنك ستكون لك صولة وجولة ونجدة وغير ذلك حينما تكون في زمن القوة، فعندها تستخدم الجهر والصدع بالحق وغير ذلك، وكل الذي يقابلك في الطريق يعطلك عن هذه الدعوة خذه في طريقك، ولذلك نجد الإسلام حينما كانت له دولة وشوكة كان النبي عليه الصلاة والسلام يبعث الجيش إلى أي بلد من البلدان ليغزوها، أو يفتحها، أو يدعوها فإنه يخيرهم بين ثلاثة أشياء.
إما أن تسلموا وتدخلوا معنا في الدين، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا فليس هناك فرق بيننا وبينكم.
وإما أن تبقوا على ديانتكم ولكن لا بد أن تأذنوا لنا في الدخول، فإذا أذنتم ولم تدخلوا في الدين فادفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون.
والواحد منا الآن حينما يسمع هذه الآية قلبه يتقطع فيقول: نحن صاغرون في هذا الوقت، يقول الإمام ابن تيمية: ولو أن اليهود والنصارى علوا وحاصروا المسلمين في ثغر أو بلد، وأمروهم بدفع الجزية وإلا أُريقت دماؤهم؛ كان واجباً على المسلمين أن يدفعوا الجزية، وأصبحت الجزية على المسلمين بعد أن كانت مفروضة على رقاب النصارى واليهود، وليس هذا فحسب، وإنما أيضاً يدفعونها بذلة فيدفعونها وهم صاغرون، أي: أن زعيمهم وعمدة بلدهم يأتي بالجزية فتقول له: اذهب وخذها معك وهاتها غداً، ثم يأتي في الغد فتقول له: خذها وأرجعها في الشهر القادم، وتذله وتذل أنفاسه، وأما الآن فنحن في ذلة؛ وهذا إنما هو بسبب بعدنا عن الكتاب والسنة.(35/8)
العمل بالأسباب موافق للدين والعقل
يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي بن أبي طالب: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له)، وما يدريك أنك من أهل الشقاء أو السعادة؟ وفي حديث جابر: جاء سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من كبار الصحابة رضي الله عنه، وكان من أعظم المحاربين للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي بعثته قريش لقتل النبي عليه الصلاة والسلام في هجرته من مكة إلى المدينة، وحينما كاد أن يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام ساخت قدم فرسه في الأرض، فعلم أنه هالك، كل هذا كان لأجل أن يأخذ مائة ناقة من قريش في مقابل قتل محمد وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه، فأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خُلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ -أي: نحن سنعمل لماذا؟ - أفيما جفت به الأقلام -يعني: فيما جرت به الأقلام وكتبته- وجرت به المقادير، أم فيما يُستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟) قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألته: ماذا قال؟ قال: (اعملوا فكل ميسر) فهو يسأله: ففيم العمل؟ قال: اعملوا -أي: لا بد من العمل- فكل ميسر.
والجوع يكون بقدر الله، لكن هل من الممكن أن تقول: إن الله عز وجل قد كتب سلفاً وأزلاً أنني في الوقت الفلاني سأجوع، وما دام هذا بقدر الله فأنا لا آكل؟ لا يمكن؛ لأن الجوع بقدر والشبع بقدر، وكذلك المعاصي بقدر، والعقوبة المترتبة على هذه المعصية بقدر.
وآخر يقول: أنا لن أتزوج، ولو شاء الله تعالى أن يرزقني الولد بغير زوجة لفعل، ونحن نعرف أن الله على كل شيء قدير، لكن الأسباب لا بد منها، ولذلك من اعتمد على السبب فقد أشرك، أي: أن الذي يعتبر أن الطعام الذي أكله هو الذي أشبعه، فهذا ضرب من ضروب الشرك؛ لأن الذي أشبع على الحقيقة هو الله، والذي شفى المريض على الحقيقة هو الله، وإنما الدواء عبارة عن سبب، فالله تعالى خلق المرض وهو ابتلاء، فهو مخلوق بقدر، وكذلك العلاج بقدر.
وإذا قدر الله لي المرض فأنا أتداوى، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله! فما من داء إلا وله دواء) إذاً فالداء بقدر الله، والدواء أيضاً من قدر الله عز وجل.(35/9)
بيان أن الأعمال بالخواتيم
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) أي: أنه يعمل الطاعات، لكنه في هذه الطاعات لم يكن مخلصاً فيها لله عز وجل، وإنما يعملها رياء ونفاقاً، كما كان عبد الله بن أبي ابن سلول يصلي، ويصوم، ويزكي، وكان أيضاً يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كان قلبه مليئاً بالكفر، وأما عمله في الظاهر فيما يبدو للناس فعمل رجل من أهل الجنة.
وهناك رجل حارب حرباً شديدة جداً، وقاتل قتالاً عنيفاً جداً، حتى أُعجب الصحابة بفدائيته وفروسيته، فقالوا: إنه من أهل الجنة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأراه من أهل النار) فاندهش الصحابة حينما رأوه يعمل بعمل أهل الجنة، فلم يجدوا فارساً في الجيش فعل مثل ما فعل! ففزعوا كيف يكون من أهل النار مثل هذا الرجل؟! فتبعه رجل فكلما أسرع أسرع خلفه، وكلما وقف وقف، فكان يراقبه حتى أصابه سهم فلم يصبر على ألمه، فقتل نفسه، وضع ذبابة سيفه في صدره، واتكأ عليها فخرجت من ظهره، فحينئذ قال هذا الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: لقد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، فهذا الرجل عمل في الظاهر بعمل أهل الجنة، ولكنه في نفسه من أهل النار.
وأول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: العالم، والجواد، والمقاتل، فحينما ينادون للجهاد يخرج هذا المجاهد أول واحد، ويحضر إلى الصف بفرسه، والعالم تعلم العلم لغير الله عز وجل ليقال عالم، فيؤمر به فيُسحب على وجهه فيدخل النار، والجواد لا يترك باباً من أبواب الخير إلا وينفق إليه، وهذا عمل صالح، لكنه لا ينوي بهذا وجه الله، وإنما يبتغي المدحة والثناء من الناس، والذي يصلي رياءً لو تركته في خلوة لا يصلي، وإذا حضر الناس تجده في خشوع وقيام وسجود وركوع ويطيل في ذلك، فتقول: ما أعبده! وما أخشعه لله عز وجل! وفي الحقيقة هذا خشوع للبدن، وليس خشوعاً في القلب لله عز وجل، أي: أن خشوعه اصطنعه لأجل أن يقال: خاشع أو عابد أو غير ذلك.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)، لكن قد تلحقه التوبة، ولا حرج على فضل الله عز وجل، ولو أن رجلاً أشرك وكفر وأتى بجميع المعاصي، ومات بعد أن نطق بالشهادة بلحظة؛ فهو لم يصل ولم يصم ولم يزك ولم يحج، ولم يأت طاعة إلا نطقه بكلمة التوحيد، فإنه يدخل الجنة، فلا حرج على فضل الله عز وجل، فهذا له سبحانه وتعالى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ولو كانت لك وأخذها أحد الناس منك فإنك لا ترضى بذلك، أما وهي لله عز وجل فله الحق حينئذ أن يعطيها لمن يشاء.
قال: وزاد البخاري: (إنما الأعمال بالخواتيم) أي: حسب ختام الله لك.
وهذا الكلام يجعلنا في غاية الوجل والخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (والله لا يغفر الله لفلان! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وصعد المنبر وقال: من ذا الذي يتألى على الله؟) أي: أن الجنة ملك لله فلا يدخل فيها إلا رجل قد أذن الله له، (قال الله تعالى: أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لفلان، وأني عذبت فلاناً) وهو المطيع.
ومن هنا تعلم قولهم: رب طاعة أدخلت صاحبها النار، ورب معصية أدخلت صاحبها الجنة.
أي: أن رجلاً مثلاً صلى صلاة، وظل يفاخر بها، أو حج ولم يجد الناس يكتبون على الحيطان: حج مبرور وذنب مغفور، مبروك يا حاج فلان وغير ذلك فتجده يغضب غضباً شديداً حين لم يُكتب له مثل هذا، وأنه حينما دخل البلد لم يجد استقبالاً على عادة الناس، وظل يسب دين البلد بأكمله، مع أنه قد أتى من الحج، فالذي يقول له: يا عم أحمد أو يا سيد أحمد لا يرد عليه، وإذا أجابه إنما يقول: نعم يا بني! فهل يتصور أن العمل هذا ممكن يُقبل؟! لا يُقبل أبداً، نسأل الله السلامة، والأعمال بالخواتيم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك -وهو ملك الأرحام وليس جبريل- فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات -أي: يؤمر بكتابة أربع كلمات-: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، أي: من أهل النار أم من أهل الجنة، فهذا مكتوب عليك قبل أن تولد، وليس في هذا ظلم للعبد؛ لأن الله تعالى منزه عن الظلم، ومتصف بالعدل والحكمة.
(فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عل(35/10)
القدر سر الله في خلقه فلا يتعمق فيه
ثم قال الطحاوي: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، أي: الذي يظل يجادل ويناظر في القدر، ويقول: لماذا فعل الله كذا؟ ولماذا لم يفعل كذا؟ وما هي الحكمة من كذا؟ فهذا يدل على أن العبد هذا مخذول، فالخير كل الخير في اتباع من سلف، والسلف لم يكونوا يعملون هذا، فالسلف ممسكون تماماً عن الكلام في القدر، فما الذي يمنعنا أن نمسك عن القدر، ونؤمن به خيره وشره! قال: والتعمق والنظر في ذلك -أي: في القدر- ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه -أي: عن خلقه-، ونهاهم عن مرامه -أي: عن مقاصده وغاياته- كما قال الله تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فمن سأل: لم فعل الله كذا؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.(35/11)
مذهب القدرية والمعتزلة في القدر والرد عليهم
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، وهذا صحيح: أن الله تعالى شاء الإيمان من الكافر، ولكن الله تعالى كذلك شاء منه الكفر، ومعنى أن الله تعالى شاء من خلقه الإيمان: أنه أمر الخلق جميعاً بالإيمان، فقد شاءه منهم، ولكن الله تعالى أذن لبعض عباده بوقوع الكفر منهم، وشاءه منهم، وهذه مشيئة قدرية كونية لا شرعية دينية، وبيت القصيد هو التفصيل بين الاثنين، فالإيمان من مشيئة الله القدرية الكونية؛ لأن الإيمان وقع في الكون بقدره، والكفر وقع بمشيئته الكونية القدرية، بمعنى أن الله أذن بوقوعه في الكون وقدره.
فالمعتزلة والقدرية قالوا: إن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فقالوا هذا القول لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من أشياء فوقعوا فيما هو شر منها، فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، فإن الله قد شاء الإيمان منه على قولهم، والكافر شاء الكفر فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! ويلزم من قول المعتزلة والقدرية أن هناك مشيئتين: مشيئة الله، ومشيئة العبد، فالله عز وجل شاء الإيمان منه، وهو شاء الكفر من نفسه، ومشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، وهذا كفر، أي: أنه حينما أقول لك: إن الله أراد مني الطاعة، لكني أريد المعصية، فتتعارض إرادتي مع إرادة الله، فحينما وقعت مني المعصية هذا دليل على أن إرادتي ومشيئتي غلبت إرادة الله ومشيئته! وهذا كفر.
إذاً فلا بد أن أقول: إن الله تعالى شاء الكفر، لكن ليست هي المشيئة الشرعية الدينية وإنما هي المشيئة القدرية الكونية.(35/12)
مناظرة بين قدري ومجوسي في القدر
قال عمرو بن الهيثم: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله.
أي: إذا أراد الله لي الإسلام سأُسلم، وهذا المجوسي يعلم أن الإسلام بقدر الله عز وجل.
فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد، أي: أن الله يريد منك الإسلام، ولكن الشيطان لا يريد منك الإسلام، وانظر إلى هذا المجوسي فقد كان فقيهاً جداً فقال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي فأنا مع أقواهما!! وكأنه يقول له: تعارضت إرادة الله مع إرادة الشيطان، فغلبت إرادة الشيطان إرادة الله! فبقيت على مجوسيتي، فإذا كان الشيطان إرادته أقوى من إرادة الله، فالطبيعي جداً والعقلي أنني أكون مع القوي، وهو الشيطان! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فيستفاد من قول هذا المجوسي: أن إرادة الله أقوى من إرادة الشيطان؛ لأنه قال له: أسلم، قال: حتى يريد الله؛ لأنه يعلم أن الإيمان لا يكون إلا بإرادة الله.(35/13)
أعرابي يغلب عمرو بن عبيد
ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد -وهو رأس الاعتزال ورأس القدر، وكان أسوأ من بشر المريسي الذي ذكرنا ترجمته في الدرس الماضي- فقال الأعرابي: يا هؤلاء! إن ناقتي قد سُرقت، فادعوا الله أن يردها علي.
فهو أتى إلى طلاب العلم لعل فيهم واحد تكون دعوته مقبولة ومستجابة، فقال لهم: فادعوا الله أن يرد ناقتي؛ لأنها سُرقت.
أي: أن الله تعالى هو الذي أراد إرادة كونية قدرية أن تُسرق هذه الناقة.
فقال له عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسُرقت، فأرددها عليه، أي: أن إرادة السارق أقوى من إرادة الله.
فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك.
وبعض المتكلمين وأئمة الاعتزال والفلسفة بعد أن حاروا في علم الكلام؛ كانوا في فراش الموت يوصون بكلمة واحدة: عليكم بدين العجائز، أي: الزموا العقيدة الصافية.
فحينما تقعد عند جدتك وجدك تجد أن عندهما من التوكل على الله والثقة بالله ما ليس عندك.
فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قال: ولِم؟ قال: أخاف أن يريد ردها فلا ترد.
فالأعرابي غلب عمرو بن عبيد.
وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال ثم عذبني أيكون منصفاً؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له فله أن يعطيه من يشاء، ويمنعه من يشاء.
أي: أن الهدى له فهو يعطيه لمن يشاء، ويمنعه ممن يشاء، وإذا علم الله تعالى من العبد الخير واستحقاق الهدى لا يمنعه، وإذا علم الله تبارك وتعالى ميل عبده إلى المعصية، وحرصه عليها، فلِم يعطيه الهدى؟(35/14)
مناظرة بين عبد الجبار المعتزلي وأبي إسحاق الإسفراييني في القدر
ودخل القاضي عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة على الصاحب بن عباد، وعنده أبو إسحاق الإسفراييني المعروف بالأستاذ، وهو من أئمة السنة، فلما رأى عبد الجبار الأستاذ الإسفراييني قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء.
أي: عن الإذن للفواحش بالوقوع، فهو يريد أن يقول له: إن الفحشاء لا تقع بإذن الله.
فقال له: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال القاضي: أيشاء ربنا أن يُعصى؟ فقال الأستاذ: أيعصى ربنا قهراً؟ يعني: هل تقع المعصية في ملكه غصباً عنه؟ فقال القاضي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى علي بالردى، أحسن إلي أم أساء؟ فقال الإسفراييني: إن منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء.
فبُهت القاضي عبد الجبار، لكنه مع ذلك ظل أيضاً قائماً على اعتزاليته، ولم يستطع الرد.(35/15)
الأدلة على عموم مشيئة الله تعالى وأنها الغالبة النافذة
وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13].
إذاً: فقد شاء الله تعالى الهداية لأهل الجنة، وشاء الضلال لأهل النار، وكل يقع بأمره، وقوله {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] أي: أن إرادته نفذت في أهل الضلال حتى أدخلهم النار، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
فالله تعالى أثبت للعبد مشيئة، لكن مشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله، فلا يمكن أبداً أن يشاء العبد شيئاً إلا وقد سبق في مشيئة الله وإرادته، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، وهذه إرادة شرعية دينية؛ لأنه أراد له الهداية، فهداه وشرح صدره للإسلام، ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)) أي: أن الضلال يقع بإذنه ويقع بعلمه، والله تعالى كتبه أزلاً.(35/16)
منشأ الضلال عند القدرية
ومنشأ الضلال عند القدرية والمعتزلة أنهم سووا بين المشيئة والإرادة من ناحية، وبين المحبة والرضا من ناحية أخرى، وقالوا: إن الله تعالى لا يفعل شيئاً، أو لا يأذن في شيء، أو لا يشاء شيئاً إلا إذا أحبه ورضيه، ولذلك تساوى الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، أي: أن كل ما يقع في الكون بقضائه وقدره، وهو محبوب مرضي لله، أي: أن المعاصي محبوبة لله عز وجل وإلا لم يأذن في وقوعها، ويلزم من قولهم: أن الله عز وجل يحب الزنا، وشرب الخمر، والقتل؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراد وقدر، ولا تكون إرادته وقدره إلا متعلقاً بالمحبة والرضا.
وسموا بالجبرية: لأنهم قالوا: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، والعبد لا علاقة له بالفعل؛ لأنه مجبور، أي: أن العبد كالحمار أو الجاموسة التي تسحبها من خطامها، ولا قدرة لها على الانفكاك، فقالوا: إن العبد يساق إلى المعاصي كما سيق إلى الطاعات، فهو مجبور على فعل الطاعات، ومجبور على فعل المعصية؛ فالله قد جبره على فعل ذلك، فالعبد ليس عليه ذنب، وليس عليه إثم.
فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأنه مجبور، وهذا فساد، وأنا لا أقول هذا القول وأقرره، وإنما أرد عليه وأُبين عوار هذا المعتقد.
وهناك نوع آخر من القدرية وهم نفاة القدر، ويقولون: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فالمعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، فليست مقدرة ولا مقضية، أي: أن الله لم يأذن في وقوعها، وإنما أذن في وقوعها العبد.
وقال قوم: إن الله يحب المعاصي؛ لأنه أذن في وقوعها، وجبر العبد على ذلك، وهؤلاء هم الجبرية المثبتة، أي: الذين يثبتون الجبر، وهو أن العبد مجبور على فعله الطاعة والمعصية، وإذا كان مجبوراً فلا يثاب على طاعته، ولا يأثم على معصيته؛ لأن الفاعل الحقيقي هو الله.
ومع هذا إلا أن عندهم وجه حق وهو: أن كل شيء من عند الله، أي أن الله تعالى أذن في وجوده وخلقه، لكنهم يقولون: إن العبد مجبور على ذلك، فلا ثواب له على طاعة، ولا عقاب عليه على معصية.
والجبرية النفاة قالوا: إن المعاصي لا يحبها الله ولا يرضى عنها، وهذا الكلام صحيح، لكن الغلط في قولهم: إنها ليست مقدرة ولا مقضية، أي: أنها وقعت في الكون بغير قضاء الله وقدره، ولكن بقضاء العبد، وهذه المصيبة السوداء التي نريد أن نعالجها.
وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة، بل والفطرة الصحيحة، فنصوص الكتاب في المشيئة والإرادة مثل قوله تعالى في المحبة والرضا: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، وقوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7].
لكن الفساد واقع بإذن الله، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وجوده وفي خلقه في الكون، وكذلك الكفر، وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، أي: أن الله يكره هذه الأفعال كلها، وفي الصحيح: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).
إذاً: فالله يكره هذه الأشياء، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)،وغير هذا من الكلام الجميل المتين الذي تكلم فيه أهل العلم، ولولا الإطالة لذكرت بقية كلامهم.(35/17)
معنى حديث: (والشر ليس إليك)
والشيخ ابن عثيمين قال في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً جميلاً يبين فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال فيه وهو يثني على ربه: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك).
ظاهر النص: أن الشر غير مقدر لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى لم يأذن فيه، والكلام هذا مردود عليه، قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وإذنه في وقوع الأشياء، وأما المقدور فهو اسم مفعول بمعنى فاعل؛ لأن المفعول والمقدور هو الفعل الذي يأتيه العبد، فالقتل فعل العبد، ولكنه وقع بقدر الله، ومقدور لله، بمعنى أنه مخلوق لله عز وجل، ولكن هو شر.
قال: القدر هو تقدير الله عز وجل للأشياء، وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما في الحديث، وكما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70].
أي: أن الله كتب كل ما كان، وما يكون في السماوات والأرضين {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
وقوله: (نؤمن بالقدر خيره وشره)، أما وصف القدر بالخير فلا إشكال فيه، أي: أن الطاعات كلها وقعت بقدر الله، وأما وصف القدر بالشر فالمراد به شر المقدور لا شر القدر؛ لأن القدر هو فعل الله عز وجل، وأما المقدور هو فعل العبد الذي أذن الله في وقوعه.
أي: أن فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، فكل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته التي وقعت بكسب العبد وبقدر الله عز وجل.
فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، وأما باعتبار الفعل فلا؛ لأن الفعل هو فعل الله عز وجل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك).
أي ليس إليك من جهة المقدور، وإنما هو من جهة القدر فقط، ففي المخلوقات المقدورات شر، ففيها الحيات والعقارب والسباع، والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، فأنت حينما ترى ثعباناً فإنه شر؛ لأنك لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور، والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير، أي باعتبار أن الله تعالى أذن في وقوعها، وقدرها أن تقع في الكون فهي خير؛ لأن الشر المحض لا يُنسب إلى الله عز وجل.
قال: لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن نعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات التي يأتيها العبد، لا باعتبار التقدير الذي قدره الله عز وجل وفعله.
ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، كما قال تعالى: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ))، وهذا الفساد بقدر، وهو من أفعال العباد؛ لأنه فساد، والله تعالى يُنسب إليه الشر على جهة القدر لا على جهة المقدور.
قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] أي: أن الفساد حينما يظهر على أيديهم يُعذّبهم المولى عز وجل؛ لعلهم يستيقظوا بعد هذا، وإذا استيقظوا رجعوا إلى الله، وتابوا وأنابوا إليه.
إذاً: فهذا هو وجه الفساد الذي فيه خير، وبما أن النتيجة طيبة فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً.
فمثلاً حد الزاني، إذا كان الزاني غير محصن - أي: غير متزوج - فإنه يجلد مائة جلدة، ويغرب عاماً، وهذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، كما لو ربطنا شخصاً في الصحراء وضربناه، فهذا بالنسبه له شر.
لكن لو أن العقوبة هذه تمت في التلفزيون على الهواء مباشرة، والأمة كلها تفرجت عليه، فإنه لا يتصور أن واحداً يفكر في الجريمة مرة أخرى، ولو فكر فيها فإنه سيراجع نفسه مليون مرة.
إذاً: فهذا بالرغم من أنه بالنسبة له هو شر، إلا أن فيه خيراً عظيماً لمجموع الأمة، بل وفيه خير له أيضاً، لأنه لن يفكر فيها مرة أخرى.
إذاً: فالفساد هذا في طياته خير، فنسبته إلى الله عز وجل من هذه الحيثية نسبة مشروعة، ولذلك يقولون: إن الفساد والشر والمعاصي تقع في الأرض بقدر الله عز وجل؛ لحكمة علمها الله عز وجل، أو علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وأما بالنسبة للأمور الكونية القدرية فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً كالمرض، فالإنسان إذا مرض فلا شك أن المرض بالنسبة له شر، لكن فيه خير بالنسبة للواقع، وخيره تكفير الذنوب، فالمرض من هذه الحيثية خير وإن بدا لك أنه شر، ورغم أنه شر لكنه وقع بإذن الله.
فالذي لا بد أن نعلمه جميعاً أن الخير والشر بقدر الله عز وجل، وفي الدرس الماضي تحدثنا أن الله خلق إبليس، وهو رأس الشر، وأذن في بقائه وحياته إلى قيام الساعة، وعلم ما سيكون عليه إبليس، ومع هذا خلقه لحكمة عظ(35/18)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الأدلة على أن الله خالق الخير والشر
إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء؛ ومن ذلك أفعال العباد، فالله خالق الخير والشر، ولا يقع في ملكه إلا ما أراد وشاء، وقد ذكر الله تعالى أدلة كثيرة على أنه خالق الخير والشر، وقد فسرها وبينها العلماء أحسن تفسير وأعظم بيان.(36/1)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: لا زال الكلام موصولاً عن إجابة السؤال الذي يحير العقول: هل الله تعالى خالق للخير والشر أم لا؟ وعرفنا في الدرس الماضي أن الله تعالى خالق لهما جميعاً، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد وشاء.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فمعناه: أن الشر المحض الذي لا خير فيه ليس إليك، وقد عرفنا في الدرس الماضي أن معظم الشر يبدو للناس أنه لا خير فيه، وفيه الخير كل الخير، وضربنا لذلك مثلاً بمن زنى وأُقيم عليه الحد، فالحد بالنسبة له في الظاهر شر مع أنه بالنسبة له خير؛ لأنه طهرة له، والله لا يحاسبه على ذنبه يوم القيامة؛ لأن من أقيم عليه الحد فهو كفارته، كما أنه فيه خير عام لجميع أبناء الأمة؛ لئلا يقعوا في مثل ما وقع فيه.(36/2)
الأدلة على إثبات أن الله خالق للخير والشر(36/3)
ذكر ما روي في تفسير قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)
فالله عز وجل هو الخالق الواجد للخير والشر؛ لأنه لا يقع في ملكه إلا ما أراد وشاء، وأما العبد فهو المكتسب لفعل الشر، وهو كذلك المكتسب لفعل الخير، والله عز وجل يتمنن على عباده أحياناً بالخير والفضل والثواب دون عمل ودون سبب، ويتمنن عليهم بالخير والفضل والثواب بسبب العمل.
وهنا سيذكر الأدلة في إثبات وبيان أن الله تعالى خالق للخير والشر جميعاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي في تفسير قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:8].
قال أبو الأسود الدؤلي: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت به الحجة عليهم؟ قال: قلت: بل شيء مضى عليهم -أي: شيء مكتوب أزلاً- قال: فهل ذلك ظلم؟ -أي: فهل ذلك المكتوب الذي كتبه الله تعالى ظلم وعدوان على العبد؟ - ففزعت منه فزعاً شديداً فقلت له: ليس شيء إلا خلقه وملك يده، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
قال: سددك الله! إنما سألتك لأحزر عقلك -أي: لأختبر ذكاءك- إن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وأقيمت عليهم الحجة في دينهم؟ فقال: بل في شيء مضى عليهم، قال: ففيم العمل؟ -أي: لم نعمل إذاً إذا كان كل شيء مكتوب أزلاً؟ - قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين -أي: للجنة أو النار- يهيئه لها، تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8])].
أي: فجبلها على الطاعة أو جبلها على المعصية بعلمه السابق الأزلي أن هذا العبد إنما يختار طريق الطاعة، أو يختار طريق المعصية، وإلا فالله عز وجل قادر على أن يجعل العباد جميعاً على قلب أتقى رجل واحد، وقادر كذلك على أن يجعلهم جميعاً على قلب أفجر رجل واحد، ولو شاء الله عز وجل لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لأضلهم جميعاً، لكن هذا على غير مقتضى الحكمة من الخلق، والله تبارك وتعالى موصوف بالحكمة ومتسم بها، فلو خلق الله جميع الناس كلهم مؤمنين؛ فمن ذا الذي يعرف الكفر أو الشرك؟ وما فائدة خلق النار هنا؟ قال: [وعن الحسن في هذه الآية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:8 - 10]].
في الحقيقة هذه الآية محل نزاع في عود الضمير فيها: هل يعود على الله عز وجل، أو يعود على صاحب النفس في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] أي: قد أفلحت نفس زكاها الله عز وجل، وقد خابت نفس دساها الله عز وجل، هذا معنى، وهو الراجح، وهو مذهب جماهير المفسرين.
والمعنى الثاني: أن ذلك دعاء لصاحب النفس وعلى صاحبها بأنه هو الذي زكاها، وهو الذي دساها زكاها بالطاعة، ودساها بالمعصية، فيكون التقدير، قد أفلح عبد زكى نفسه، وقد خاب عبد دس نفسه بالمعصية.
[وعن الحسن قال: قد أفلحت نفس اتقاها الله عز وجل، وقد خابت نفس أغواها الله عز وجل].
إذاً: فالله تبارك وتعالى هو واهب التقوى، وهو باعث الضلال والشقاء، بمعنى أنه هو الذي أذن في وجوده وخلقه، وترتب في العبد لعلم الله تعالى الأزلي أن هذا العبد سيختار طريق التقوى أو طريق المعصية.
فحينما علم الله عز وجل من عبده سلفاً وأزلاً أنه يختار طريق الطاعة حتى يموت عليها؛ أذن له في دخول الجنة، وجعله من قسمها، وحينما علم أن عبده الآخر لا يقبل الطاعة، وإنما يقيم على المعصية ويميل إليها، ويعملها ولا يتوب منها؛ جعله من قسم النار وهيأه لهذا العمل، وإلا فما فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب؟ والله عز وجل أخذ الميثاق الأول على بني آدم حينما أخرجهم جميعاً من صلب آدم: أن يكونوا موحدين لا مشركين، وأقروا بذلك، فالله عز وجل أرسل بعد ذلك الرسل والأنبياء ليذكروا العباد فقط بذلك الميثاق الغليظ، وهو أعظم ميثاق على الإطلاق، ألا وهو ميثاق الإيمان والتوحيد.
قال: [وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] يقول: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دس الله نفسه].
وهذا يدل على أن التزكية والطهارة والنقاء والتقوى من الله، كما أن الدس والضلال والحيرة والتيه من الله عز وجل.
إذاً: فيكون الله تعالى هو الخالق للخير والشر.(36/4)
ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وهديناه النجدين)
وقال في تفسير قول الله عز وجل: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
((وَهَدَيْنَاهُ)) الضمير يعود على المهدي، وأما الهادي فهو الله عز وجل؛ لأنه هو الذي هدى.
قال: [وعن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] قال: الخير والشر].
أي: هديناه لعمل الخير، وهديناه لعمل الشر.
قال: [ومن طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] قال: الخير والشر.
وعن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] قال: نجد الخير ونجد الشر].
أي: طريق الخير، وطريق الشر.(36/5)
ما ورد في تفسير قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون)
قال: [وعن مجاهد في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]-في قصة إبليس والملائكة في سورة البقرة- علم الله تعالى من إبليس المعصية وخلقه لها].
أي: علم منه أنه سيكون عاصياً، ومع هذا خلقه لها، إذاً: فالله هو الذي خلق إبليس، مع أنه أس الفساد والمعصية، ومع ذلك فإن الله تعالى خلقه وأوجده.(36/6)
ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة)
قال: [وعن علي بن أبي طلحة في قول الله تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:30] أي: كتب عليهم الضلالة، فالله عز وجل هو الذي هدى فريقاً، وهو الذي أضل فريقاً آخر.
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف:29 - 30] قال: إن الله سبحانه بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً -أي: خلقهم على الإيمان والكفر فريق آمن وفريق كفر- ثم قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم على صنفين: مؤمن وكافر].(36/7)
ما روي في تفسير قوله تعالى: (أومن كان ميتاً فأحييناه)
وفي قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122].
[قال ابن عباس: يعني: من كان كافراً ضالاً فهديناه] لأن الكافر كالميت تماماً، فقلبه ميت، ومن مات قلبه فلا خير فيه.
{وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] يعني بهذا النور القرآن، وذلك من صدق به وعمل به، {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:122] والظلمات هي الكفر والضلالة {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
وفي قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11].
((مِنْ)) هنا بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله.
[قال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)) أي: الملائكة {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، فإذا جاء القدر المعلوم والمكتوب أزلاً تخلوا عنه؛ لينفذ القدر أو المكتوب].(36/8)
ما روي في تفسير قوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه)
وفي قوله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
[قال سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية: يحول بين المرء والكفر، حتى لو أراد المرء أن يكون كافراً، وأن يخرج من الإيمان لا يستطيع إلا أن يكون ذلك مأذوناً فيه، مقدراً عليه أزلاً.
فمسألة أن يختار الواحد منا الإيمان أو يختار الكفر مسألة كلها بيد الله عز وجل، وهذا الكلام يخوف جداً ويرعب، لأن المرء ربما يعمل عملاً صالحاً ولكن يُختم له بعمل أهل النار، فيكون من أهلها، وربما يكون العكس، ففائدة الإيمان بالقدر في هذه المسألة بالذات أن المرء يتعلق قلبه في الليل والنهار بخالقه وبارئه أن يثبته على الإيمان.
ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أفضل الخلق على الإطلاق-: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك) مع أن المتصور في حقه عليه الصلاة والسلام أنه لم يأت بمعصية أو بكبيرة من الكبائر فضلاً أن يتحول في إيمانه، أو يتحول قلبه، ومع هذا كان دائماً معلقاً بالله عز وجل أن يثبته على الإيمان، وأن يصرف قلبه دائماً إلى طاعته سبحانه وتعالى.
فالحيلولة بين المرء وبين قلبه يملكها الله عز وجل، فربما يفعل المرء طاعة ثم يعقبها بمعصية، والعكس بالعكس.
[قال ابن عباس: يحول بين المرء والكفر ومعاصي الله، ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله].
وفرعون عليه لعنة الله حينما غرق في البحر قال: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، فمنعه كبره أن يقول: آمنت بالله، أو آمنت برب موسى وهارون، أو أن ينطق بلفظ الرب؛ لأنه يعتقد في قلبه أنه هو الرب وهو الإله، فحرمه الله عز وجل من إطلاق هذا اللفظ أو من النطق به.
ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن جبريل عليه السلام كان يضع الطين في فم فرعون؛ حتى لا ينطق بكلمة التوحيد، والذي أمر جبريل بذلك هو الله عز وجل، وهذا أمر رهيب جداً تفزع منه القلوب، وكذلك بالإمكان أن يكون هذا المصير مآل كل مخلوق على وجه الأرض، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإذا كان الأمر كذلك، وأن الخير والشر بيد الله عز وجل؛ فهذا أمر يستدعي من المرء أن يكون دائماً على صلة واتصال بالله عز وجل في الليل والنهار.(36/9)
ما روي في تفسير قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم)
وفي قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119].
قال: [قال ابن عباس: فريقين] أي: أن الله تعالى خلق الناس فريقين.
فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم فيختلف، فمنهم شقي وسعيد.
قال: [وقال الحسن في هذه الآية: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك فهم غير مختلفين.
فقال له منصور بن عبد الرحمن وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119].
قال: خلق هؤلاء -أي: الذين لا يختلفون- لجنته، وخلق الذين يختلفون للنار]، فخلق هؤلاء لرحمته، وهؤلاء لعذابه.
[وقال أشهب: سألت مالكاً عن قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]؟ قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة، وفريق في النار].(36/10)
إثبات مشيئة الله تعالى للشر كوناً والرد على المشركين والقدرية
وقوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] يحتج به المشركون يوم القيامة على أنهم لم يكونوا يعرفون، فقالوا: وجدنا آباءنا مشركين فأشركنا معهم، ولو شاء الله لهدانا ولكنه لم يهدنا.
((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) أي: لو أن الله أراد أن يهدينا لهدانا {وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] وكذلك آباؤنا لم يشركوا، ولكن الله كتب عليهم الشرك، وكتبه علينا من بعدهم.
وكذلك قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148].
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35].
قال: [قال ابن عباس في قوله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]: وكذلك كذب الذين من قبلهم، ثم قالوا: لو شاء الله ما أشركوا، فإنهم قالوا: عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زلفى، فأخبر الله أنها لا تقربهم، قال تعالى: {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107].
يقول جل ثناؤه: ولو شئت لجمعتهم على الهدى.
وعن ابن عباس أنه سمع رجلاً يقول: الشر ليس بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] حتى بلغ إلى قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
قال ابن عباس: والعجز والكيس بقدر].
أي: حتى العجز والكيس والحركة والسكون كل ذلك بقدر، فأولى أن يكون الإيمان والكفر بقدر، وأن تكون الطاعة والمعصية بقدر كذلك.
وفي قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ)) والذي شاء هنا هو العبد.
قال: [قال ابن عباس يقول الله تعالى: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء له أن يكفر كفر، وهو قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]].
إذاً تفسير هذه الآية: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر، ولكن الله تبارك وتعالى علم أزلاً أن هذا العبد سيختار الشرك على الإيمان، فمهده ويسره له، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) فهذا العبد خُلق للإيمان، والله تبارك وتعالى يسر له الإيمان، وهذا العبد خُلق للشر، فمال إليه واختاره على الإيمان، فيسره الله عز وجل له.(36/11)
معنى قوله تعالى: (أم على قلوب أقفالها)
وفي قوله تعالى: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
ورد نص هنا وإن كان في سنده ضعف إلا أنه جميل جداً، وهو يؤدي المعنى الذي هو معتقد أهل السنة والجماعة.
فعن سهل بن سعد قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وغلام جالس عند النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: بلى والله يا رسول الله! إن عليها لأقفالها، ولا يفتحها إلا الذي أغلقها).
معنى ذلك أن فتح القلوب وإغلاقها بيد الله عز وجل.
(فلما ولي عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله) أي: أنه طلب هذا الغلام ليجعله عاملاً على إحدى الولايات؛ لما رأى من رجاحة عقله وثقيب سهمه لآيات القدر، وقال: (لم يقل ذلك إلا من عقل) أي: صاحب عقل راجح.(36/12)
معنى قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)
وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
[قال مجاهد في هذه الآية: أي: في أم الكتاب].
وقد قلنا: إن الكتاب كتابان: كتاب يقبل المحو والإثبات، وهو الكتاب الذي بيد الملائكة، وكتاب لا يقبل المحو والإثبات وهو اللوح المحفوظ.(36/13)
معنى قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)
وقال تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
[وعن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: الشقاء والسعادة والموت لا تقبل المحو ولا الإثبات].
لأن الله تعالى علم من عبده أنه سيختار طريق السعادة أو سيختار طريق الشقاء، وعلم أنه سيولد هذا العبد في لحظة كذا، ويموت في لحظة كذا.
[وعن مجاهد في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] قال: إن الله عز وجل في ليلة القدر يمحو ما يشاء من المقادير والآجال والأرزاق، إلا الشقاوة والسعادة فإنهما ثابتان].(36/14)
معنى قوله تعالى: (ما أصابك من مصيبة فمن الله)
وفي قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) أي: بفضل الله عز وجل عليك، فهو سبحانه يمن به عليك إما بسبب أو بغير سبب، ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) أي: من جراء عملك وميلك إلى الشر، وإن كان الله تعالى هو الذي أذن في إيجادها.
وهناك مناظرة وقعت بين عبد الجبار المعتزلي وسني، فحينما دخل عليه رجل من أهل السنة قال: الحمد لله الذي تنزه عن الفحشاء.
فرد عليه السني قائلاً: الحمد لله الذي لا يكون في ملكه إلا ما يشاء.
أي: من خير وشر حتى الفحشاء، فيكون ذلك في ملكه بإرادته وإذنه وخلقه وإيجاده.(36/15)
معنى قوله تعالى: (قل كل من عند الله)
[قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78]، قال ابن عباس: أي: أن الخير والشر من الله عز وجل].
أي: أن الحسنة والسيئة من عند الله، فأما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها.
وليس من اللازم أن تكون السيئة عقوبة من الله عز وجل، فربما تكون السيئة منحة من الله عز وجل لك ليرفع بها درجاتك، أو يكفر بها سيئاتك، فالمرض بلية من البلايا، وهو شر في نظر العبد، ولكن الله عز وجل يبتلي العبد بالمرض حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن العبد ليبتلى حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)، وحتى الأنبياء، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أشد الناس بلاء الأنبياء)، ولم يكن ذلك لمعصية عملوها، ولكن ليرفع الله عز وجل بها الدرجات، وأما في حق بقية العباد فإنه يرفع بها الدرجات، أو يحط عنهم السيئات.
فإما أن تكون منحة ومكافأة من الله عز وجل لمحو الخطايا والذنوب، وإما أن تكون منحة لرفع الدرجات.
[قال ابن عباس: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها].
[وعن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
قال: هو يوم أحد -أي: أن هذا خطاب موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام يتعلق بما وقع على المسلمين من بلاء في يوم أحد- ما فتحت لك من خير فمني، وما كانت من بلية فبذنبك].
أي: أن الله عز وجل هو الذي فتح عليك أبواب الخير، وأما ما وقع عليكم من بلاء فبذنبك [وأنا قدرت ذلك عليك] أي أنا أعلمه أزلاً وكتبته في القدر أنه سيقع وسيكون بسبب معصية، وبسبب ذنب، وإن لم يكن هو المذنب عليه الصلاة والسلام، فبعض أصحابه هم الذين خالفوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام، ونزلوا لجمع الغنائم؛ ظناً منهم أن الحرب قد وضعت أوزارها، ولم تضع الحرب أوزارها بعد، بل استدار خالد بن الوليد رضي الله عنه -وكان في ذلك الوقت مشركاً، وكان على رأس جيش قريش- وصعد الجبل وكان ما كان في أواخر هذه المعركة.
فالذي وقع من بلاء على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه في يوم أحد إنما كان في آخر الغزوة بعد مخالفة أمره عليه الصلاة والسلام، وأما قبل مخالفة الأمر فقد كان نصراً مبيناً.
[وعن: أبي صالح في هذه الآية قال: بذنبك، وأنا قدرتها عليك].
أي أنا قد كتبت عليك في اللوح المحفوظ أن هذا سيكون، فهو واقع لا محالة.
[وعن طاوس عن أبيه: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ))، وأنا قدرتها عليك].(36/16)
معنى قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق) وقوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)
وفي قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68]، أي: لولا مكتوب كُتب عليك من الله في الأزل {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]، وقوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37].
[قال سعيد بن جبير في قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68]، قال: ما سبق لأهل بدر من السعادة.
وفي قوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37].
قال: ما سبق لهم من السعادة.
وفي قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29].
قال: كما كتب عليكم تكونون، فما كتب الله تعالى عليكم من السعادة والشقاوة يكون عليكم لا محالة].(36/17)
معنى قوله تعالى: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين)
وفي قوله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200].
قال: [قال حميد: قرأت القرآن كله على الحسن البصري من قبل أن يموت بسنة واحدة، وكان يفسر القرآن على الإثبات، فسألته عن قوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200]؟ قال: كذلك سلكنا الشرك في قلوب المجرمين].
أي: حينما علم الله عز وجل منهم أزلاً إجرامهم وإعراضهم وجحودهم؛ جعل للشرك طريقاً يتمكن في قلوبهم، فالذي خلق الشرك والمعاصي هو الله عز وجل، ولكن الله تعالى ما كتبه على عباده ظلماً، فهو العدل سبحانه وتعالى، ولكن حينما علم الله عز وجل أزلاً أن هذا العبد سيُعرض عن الرسل، ويجحد النبوات والآيات؛ جعله أهلاً للشرك، فسلك إلى قلبه طريقاً يتمكن الشرك منه.
وقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43].
قال: [عن ابن عباس في هذه الآية قال: هم الكفار؛ كان يُدعون في الدنيا وهم آمنون].
إذاً فسالمون بمعنى آمنون، فقد كانوا يُدعون في الدنيا إلى السجود وإلى الطاعة والصلاة وهم آمنون، [فاليوم يدعوهم وهم خائفون] أي: فاليوم يدعوهم إلى السجود وهم خائفون.
ثم أخبر الله سبحانه أنه قد حال بين أهل الشرك وبين أهل طاعته في الدنيا والآخرة، فحينما علم منهم ميلهم إلى الشرك حال بينهم وبين الإيمان، أي: جعل هناك سداً بينهم وبين قبول الإيمان.
قال: [وأما في الآخرة فإنه قال: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:42 - 43]].(36/18)
معنى قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين)
وفي قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7].
سجين: هو أسفل سافلين، وعليين: أعلى عليين، فكتاب أهل الإيمان في أعلى عليين، وكتاب الفجار في سجين.
قال: [قال خصيف: سأل مجاهد بن جبر المكي محمد بن كعب القرظي وأنا معه عن قوله تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7]-أي: ما معنى هذه الآية؟ - قال محمد: رقم الله عز وجل كتاب الفجار في أسفل الأرض، فهم عاملون بما قد رُقم عليهم في ذلك الكتاب].
أي: قدر عليهم أن يكونوا في أسفل سافلين، ولا يعملوا إلا بمعصية الله عز وجل، وهذا بعلمه الأزلي أنهم يختارون المعصية على الطاعة.
قال: [ورقم كتاب الأبرار فجعله في عليين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا بما قد رُقم عليهم في ذلك الكتاب].(36/19)
الإعجاز في قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)
وقول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1].
فيه إعجاز رهيب، ثم أكد هذا التب والخسارة والحسرة والندامة بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] وقد قدر الله تعالى سلفاً وأزلاً، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ وعلى أبي لهب؛ لعلمه بجحوده وإنكاره للنبوة، ومحاربته للرسالة والرسول عليه الصلاة والسلام، وقد كان بإمكان أبي لهب أن يُحرج هذه الآية، ويقول: ربك يا محمد يقول في كتابه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] وأنا قد آمنت، فمن الذي حال بين أبي لهب وبين الدخول في الإيمان؟ إن الله عز وجل لم يحل بينه وبين الإيمان ظلماً وعدواناً، لكن لعلمه الأزلي أنه لا يقبل الإيمان، ولو كان الأمر متعلقاً بمشيئة العبد لكان بإمكان أبي لهب أن يكذب هذه الآية ويقول: أنا آمنت، مع أنه ما استطاع أن يقولها ولو نفاقاً، وهذه آية تدلك دلالة يقينية على أن كل شيء يقع في الوجود فإن الله عز وجل يعلمه ويكتبه، وقد أذن في وقوعه وخلقه وإيجاده؛ وإن كان المكتسب من الفعل هو العبد.(36/20)
معنى قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وأنت فيهم)
قال: [وفي قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]].
الخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] فهذه الآية عظيمة جداً، أي: ما كان الله تعالى ليعذبهم يا محمد وأنت باق فيهم لمهمة قيام الحجة عليهم؛ لأن الله تعالى لا يعذب أحداً إلا إذا بلغته الحجة، فما دام النبي عليه الصلاة والسلام قائم بحجة الله في خلقه فمن العدل أن الله تعالى لا يعذب أحداً لم تبلغه الحجة.
ثم قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] الاستغفار هنا بمعنى الإيمان، أي: وما كان الله معذبهم وهم مؤمنون، وإنما يعذب أهل الشرك.
ويقول للكافر: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، والطيب يكون على غير ما عليه الكافر، ولا بد من الابتلاء، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، والفتنة هي التي تنقي المعادن الطيبة، وتميزها عن المعادن الخبيثة، فإذا وقعت الفتنة ظهر فيها من كان صادقاً في ادعائه للإيمان ومن كان كاذباً في هذا الادعاء.
قال: [فميز أهل السعادة من أهل الشقاء].
وقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال:34] أي: عذب الله أهل الشرك بالسيف يوم بدر، كما عذب أهل الإيمان بالسيف كذلك، لكنهم ثبتوا فتميز صف الموحدين في جانب النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وتميز صف أهل الخبث والجحود والشرك في جانب قريش.(36/21)
معنى قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سداً)
قال: [وفي قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9].
عن مجاهد قال: فأعشيناهم عن الحق].
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ} [يس:9] أي: فقد عموا تماماً (فهم لا يبصرون) الحق؛ لأن الله تعالى حال بينهم وبين الحق بسد رباني منيع لم يروا من خلاله الحق؛ لأنهم أحبوا الباطل ومالوا إليه وألفوه وقبلوه.(36/22)
معنى قوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة)
قال: [وعن مجاهد في قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25] قال: كالجعبة التي يوضع فيها السهام جعلها الله عز وجل على قلوبهم].
أي: غلفت قلوبهم فكان عليها شيء كالران الذي لا يرى معه صاحبه خيراً ولا شراً، فلا يميز بين الحق والباطل؛ لأن قلبه أسود مرباد لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.(36/23)
معنى قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم)
قال: [وفي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]] هذه هي آية الميثاق الغليظ، فحينما خلق الله عز وجل آدم مسح سبحانه وتعالى بيده على ظهر آدم، فأخرج كل نسمة كاملة من نسل آدم إلى قيام الساعة، أخرجهم كالذر، وخاطبهم المولى عز وجل بخطاب قد علموه وعقلوه وفهموه.
((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ)) أي: من ظهر آدم، ((ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) أنا ربكم أم لا؟ ((قَالُوا بَلَى)) أي: أنت ربنا.
قال: [قال عمر بن الخطاب حينما سُئل عن هذه الآية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها؟ فقال: (إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه واستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، وخلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون)].
فأنت حينما تنظر في هذا النص تقول: هذا ظلم؛ فالناس لم يُخلقوا بعد! ومع ذلك فربنا سبحانه وتعالى كتب عليهم أنهم من أهل النار، لماذا لم ينتظر حتى يعملوا؟! ف
الجواب
أن الله عز وجل سلفاً وأزلاً قد علم ما هم عاملون، فعلم منهم أنهم سيعملون الشر ويعملون الكفر، وعلم من هؤلاء أنهم سيعملون الإيمان ويعملون الطاعات، فحينما علم من هؤلاء الشرك جعلهم من قسم النار، وحينما علم من هؤلاء الإيمان جعلهم من قسم الجنة.
إذاً: فالمسألة كلها مبنية على علم الله الأزلي، فالذي ينكر علم الله الأزلي لا بد أنه ينسب الظلم لله، فغلاة القدرية حينما نفوا علم الله الأزلي أنكروا مثل هذه الأحاديث، ولكن الله تبارك وتعالى هو العليم القدير اللطيف، وهو الحكم العدل، وما كان ليظلم عباده قط؛ لأنه المتصف بكمال العدل والحكمة، فلما علم أزلاً بما هؤلاء عاملون، وما هم إليه صائرون؛ كتب لهم الجزاء، وكذلك فعل مع القسم الثاني(36/24)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الشقاوة والسعادة بيد الله
الخير والشر، والهداية والإضلال، والسعادة والشقاوة بيد الله عز وجل وفي علمه الأزلي القديم، والله عز وجل يقسم ذلك بين عباده بعدله وحكمته، فالعبد بعد توفير سبل الهداية له يختار إما طريق الخير أو طريق الشر.
هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، بخلاف المبتدعة من الجبرية القائلين بأن العبد مسلوب الإرادة، والقدرية القائلين بأن الله لا علاقة له بأفعال العباد.(37/1)
الأدلة على أن الهداية والإضلال بيد الله
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فما زال الكلام موصولاً حول مسألة مهمة من مسائل القدر وهي: (الشقاوة والسعادة) و (الكفر والإيمان)، و (الهداية والإضلال) بيد الله عز وجل.
وهذا لا يعني أن الله عز وجل يقسم هدايته ورضوانه على عباده بغير عدل ولا حكمة، والذي يعنيه هذا في الدرجة الأولى: أن الله تعالى أضل من سبق في علمه أنه يضل، وهدى من سبق في علمه أنه يقبل الهدى، لا أن الله تعالى فرض عليه الضلال، وإنما علم الله عز وجل سلفاً وأزلاً أن هذا العبد رغم إتاحة جميع سبل الهداية له إلا أنه يختار طريق الضلال والشقاء فكتبه عليه، وليس في ذلك من ظلم، وهذا معنى قول سلفنا: إن الله تعالى يملك الإضلال والهداية، الخير والشر، السعادة والشقاء.
إذاً: عندنا الآن مسألتان: الأولى: أن الهداية والإضلال بيد الله عز وجل.
المسألة الثانية: أنه سبق في علم الله الأزلي أن هذا العبد رغم إتاحة جميع سبل الهداية له إلا أنه يختار السعادة أو الشقاء، فلما علم الله ذلك من عبده أزلاً كتبه عليه، والأدلة على ذلك سبق بعضها في الدرس الماضي، وبقية الأدلة في هذا الدرس.(37/2)
حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على هذه الفطرة)].
وهي فطرة الميثاق الأول الذي أخذه الله عز وجل على العباد لما أخرجهم كالذر من صلب أبيهم آدم وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172].
قال: [(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)] أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم: (ويشركانه أو ويشرِّكانه).
أي: يجعلانه مشركاً.
[(كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)].
يعني: لو أن البهيمة التي اجتمع جميع أعضائها لا عيب فيها ولا نقص فهي جمعاء؛ والجمعاء تلد جمعاء، ولذلك لما أخذ الله تعالى الميثاق الأول على ذرية آدم فلاشك أن كل واحد منهم يولد على هذه الفطرة الأولى، ولكن التغيير والتبديل إنما يطرأ عليه بسبب التربية، وبسبب المجتمعات التي يتربى فيها، وبسبب عوامل أخرى خارجية، أما أصل خلقه فإنه يخلق وقد اجتمعت فيه خصال الخير وفطرة الإسلام.
قال: [ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: فاقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]].
(فِطْرَةَ اللَّهِ) أي: سنة الله التي خلق الناس عليها أولاً وهي: التوحيد.
[قال الأوزاعي: وذلك بقضاء وقدر].
يعني: هذا التبديل وهذا التنصير والتهويد والإشراك إنما كله بقضاء وقدر.
وقال الأوزاعي: [لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون].
لأنه في الحديث: (يولد المولود على الفطرة، فأبواه يهودانه).
يعني: ربنا يعلم أن الأبوين سيهودان المولود، فالله يعلم ذلك، وبتهويدهما لولدهما لم يخرجا هذا الولد من علم الله، وإنما الله تعالى علم ذلك أزلاً، ولذلك قال الأوزاعي لا يخرجانه -أي: الأبوين- يخرجانه من علم الله؛ لأن الله علم أزلاً أن أبويه سيهودانه، وأنه إذا عقل التهويد وخالف فطرته التي فطره الله عليها كتبه عليه.
قال: لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما ينتجون بالبهيمة بهيمة، فهل ترون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟)].
يعني: البهيمة تولد كاملة الأعضاء، ولكن يتدخل صاحبها بقطع جزء منها، ووسمها في أذنها أو وجهها، وغير ذلك من التشوهات والتغيير والتبديل الذي يطرأ عليها، فإنما ذلك يكون بتدخل صاحبها [(قالوا: يا رسول الله، أفرأيت وهو يموت وهو صغير؟)] يعني: أفرأيت إن مات هذا الغلام وهو صغير فما حكمه؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)].
قيمة هذا الكلام: أن كل شيء بعلم الله السابق في الأزل، ولو نفترض فرضاً: لو أن الطفل الصغير وهو من أبناء المشركين مات في صغره فالله عز وجل أعلم بما لو كان عاش وبلغ ماذا سيكون، يعلم ذلك، ولذلك الجواب هنا يقول: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)]، أي: لو عاشوا وبلغوا مبلغ الرجال، فالله عز وجل يعلم ماذا كانوا يصنعون، وما سيصيرون إليه شقاء أم سعادة، هداية أم ضلال، يقبلون الهدى أو يقبلون الضلال، يعلم ذلك منهم، ولذلك أوكل النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم إلى الله عز وجل؛ لأنه العليم سبحانه وتعالى.
قال: [عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفوراً)].
وهذا الحديث فيه ضعف إلا أنه يشهد له بقية الأدلة.
قال: [عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث: - (فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) - فقال مالك: احتج عليهم بآخره].
أهل القدر يقولون: الغلام لا علاقة له بالتهويد ولا التنصير ولا المجوسية، لأن هذا فرض عليه فرضاً من قبل أبويه، أو أن الغلام ينشأ مؤمناً في بيت مؤمن لا يختار هذا الإيمان، فيكون الإيمان وكذلك الشقاء واختيار ما يضاد أحدهما قصد للعبد به؛ لأنه إما أن يخلق مؤمناً على فطرته الأولى في بيت مؤمن فهو لا يكون بذلك قد اختار الإيمان، وإما أن يفرض عليه التبديل والتغيير عن طريق والديه وهو صغير وبالتالي لا علاقة له بهذا.
فقالوا لـ مالك: إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث؟ قال مالك: احتج عليهم بآخره.
إذا كانوا يعتمدون صدر الحديث وأوله، وأن الشقاء ليس للعبد فيه دخل وأن ذلك جبر عليه وقهر بدون اختيار له، فاحتج عليهم بآخر الحديث: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
وعمل العبد بعد بلو(37/3)
قوله تعالى حاكياً عن إبليس: (فبما أغويتني)
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى حاكياً عن إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:16] أي: فبسبب ما أغويتني وأضللتني].
إذاً: الغواية والضلال بيد الله عز وجل.(37/4)
قوله تعالى: (وأضله الله على علم)
وفي قوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] في تفسير ابن عباس في قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] يقول: [أضله الله في سابق علمه].
فهذا ليس متبعاً للكتاب والسنة، وإنما متبع لهواه، كل ما يمليه عليه هواه فهو دينه يتبعه كأنه شرع منزل من السماء، والله تعالى ينكر على صاحب الهوى أنه قد اتخذ إلهه هواه، مع أن الإله واحد والرب واحد تبارك وتعالى، فكيف يترك العبد هذا الوحي من الكتاب والسنة، ويحل محلهما هواه ومزاجه وذوقه ووجده؟! فقال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ} [الجاثية:23] أي: يا محمد، {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية:23] إذاً: الضلال أتى بعد اتخاذ العبد إلهه هواه وليس في ذلك من ظلم، فالله تعالى جعل لك العقل لتميز به الحسن من القبيح، بل ربط الحسن والقبح بالكتاب والسنة.
أي: بالوحي.
فالحسن هو ما حسنه الله عز وجل ورسوله، والقبيح: هو ما قبحه الله عز وجل ورسوله، ولم يجعل للعقل في التمييز بين هذا وذاك مجالاً إلا مجالاً أذن الله تعالى فيه، فهنا نقول: إن الله عز وجل جعل لك العقل، وألزمك بالوحي، وأرسل إليك الرسل، وأنزل عليهم الكتب، كل ذلك لأجلك أنت.
فإذا كان الأمر كذلك وأنت استغنيت عن هذا كله وذهبت تتخذ إلهاً من دون الله عز وجل وهو الهوى، فلابد وأن الله تعالى قد علم أنك ستعرض عن الوحي وعن الخير وعن الهدى، وتختار هواك إلهاً من دون الله عز وجل فكتبه عليك؛ لأنه علم ذلك منك أزلاً، فيكون معنى قوله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23].
أي: سبق في علم الله أن هذا العبد سيضل ويترك الوحي ويتخذ إلهه هواه من دون الله، فلما علم الله ذلك منه أزلاً كتبه عليه.(37/5)
قوله تعالى: (ما أنتم عليه بفاتنين)
وفي قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162].
قال ابن عباس: [لا يضل أحد أحداً إلا سبق في علم الله أنه من صال الجحيم].
قال: [عن عمرو بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لو أراد الله ألا يعصى لم يخلق إبليس] لأنه رأس العصيان، ورأس الفساد، ولو أراد الله تعالى أن يطاع في الأرض ولا يعصى قط ما خلق إبليس.
[وقد فصل لكم وبين لكم، قال تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] إلا من قدر له أن يصلى الجحيم]، أي: فإنه حينئذ يضل.
وقال خالد للحسن: [ألهذه خلق آدم ثم أشار إلى السماء، أم لهذه وأشار إلى الأرض؟] يعني: أخلق آدم للسماء أم خلق للأرض؟ ويشير بذلك إلى معصية آدم، وأن آدم كان في الجنة، وكان في السماء، وأهبط منها إلى الأرض فهو يسأله، ويقول له: آدم خلق لهذه وأشار إلى السماء أم لهذه وأشار إلى الأرض؟ قال الحسن: [بل لهذه وأشار إلى الأرض].
رغم أنه كان في الجنة وكان في السماء، فما الذي أهبطه إلى الأرض؟ لأنه خلق لها وما نزلها إلا بقدر.
يعني: الذي دار بين آدم وإبليس، وأن المعصية التي خالف فيها آدم ربه، لم تكن تخفى على الله قبل أن يخلق آدم، فقد وقعت بقدر والله عز وجل علم أزلاً أن إبليس سينتصر في هذه الخدعة التي بينه وبين آدم، وعلم أن آدم سيقنع بحجة إبليس، وأنه سينسى العهد الذي أخذه مع ربه.
ثم يسأل خالد الحسن فيقول: تصور لو أن آدم اعتصم من الخطيئة.
يعني: لم يقع فيها، فلم يعملها أكان ترك في الجنة؟ قال الحسن: [سبحان الله! كان له بد من أن يعملها].
كان لازم يعمل كذا؛ لأنه سبق في علم الله أنه سيعمل ذلك، والذي سبق في علم الله وكتبه في اللوح المحفوظ لابد وأن يقع.
قال: [قلت: يا أبا سعيد قوله عز وجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من قدر له أن يصلى الجحيم].(37/6)
قوله تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة)
قال: [قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ} [الأنبياء:35] الابتلاء: هو الاختبار، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، فإذاً: الخير والشر فتنة من الله عز وجل للعبد.
قال: [عن ابن عباس -في تفسير هذه الآية- نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة].
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
يعني: تصور لو أن عبداً لم تتح له قط سبل المعصية هل سيشعر بحلاوة الطاعة وهو قائم بالطاعة بالليل والنهار؟ فلا يشعر بعناء المعصية ولا بمجاهدة نفسه في البعد عن طاعة الله عز وجل.
تصور لو أن واحداً يعيش في مجتمع نقي نظيف لا فتنة فيه، أموره كلها لله، يقوم من طاعة ويقعد في طاعة، وينتهي من طاعة فإذا به يستلزم طاعة أخرى، ويعمل طاعة أخرى، لأن المجتمع كله يعينه على الطاعة.
أما لو عاش في مجتمع كله فساد وشر، فالمرء يجاهد نفسه مجاهدة شديدة جداً حتى لا يقع في معصية الله عز وجل، كمن تعرض عليه جريمة الزنا، ولكنه يجاهد نفسه حتى لا يقع في هذه الفاحشة، فإذا لم يقع فيها فإنه يشعر بنعمة عظيمة جداً، وأنه كان على مشارف معصية فنجاه الله تعالى منها.
لو أن واحداً قد طحنه الفقر طحناً، وعرضت عليه أموال كثيرة جداً يسرقها ويغنى، ولكنه جاهد نفسه وكف يده عن الحرام فأغناه الله عز وجل، أو أبدله حلاوة لا يشعر بها إلا في قلبه.
هذه أحلى من مد يده، يشعر العبد حين مجاهدة نفسه بأن الخير أحياناً يكون فتنة والشر أحياناً يكون فتنة.
والله تعالى يبتلي العبد بهذا وذاك، حتى يختار العبد لنفسه ما شاء مع قيام الحجة الرسالية عليه.(37/7)
قوله تعالى: (صم بكم عمي)
وفي قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] قال ابن عباس: [لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه].
لا يسمعون الهدى.
أي: لا يسمعونه سماع إجابة، وإلا فهم يسمعون.
فالمشركون لما دعاهم النبي عليه الصلاة والسلام سمعوا قوله، ولكنهم لم يسمعوه سماع إجابة، وإنما سمعوه سماع جحود وإعراض.
مثلما قلت لك: افعل كذا تسمعني وإلا ما تسمعني.
تقول: سمعت.
وأنت في نيتك أنك لا أنت منفذ ولا أنت سائل عنه، فهذا سماع إجابة وليس سماع جحود وإعراض، فالله عز وجل وصفهم بالصم والبكم والعمي، وعدم التعقل لما يسمعونه ويبصرونه، رغم أنهم يسمعون ويبصرون.(37/8)
قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماماً)
قال: [قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]].
هذا على جانب التقوى، نحن نتكلم عن الخير والشر، والذي يملك التقوى هو الله عز وجل، والله تعالى يصطفي من عباده من يشاء لأن يكون أهلاً للتقوى، فقال ابن عباس: [أئمة يهتدي بنا الناس ولا تجعلنا أئمة ضالين، لأنه قال لأهل الشقاء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]].
فهناك أئمة للتقوى، وأئمة للضلالة.
وأئمة التقوى وأئمة الضلال كثيرون في هذا الزمان، فالتقوى بيد الله عز وجل، والإضلال بيد الله عز وجل، ولما سبق في علم الله عز وجل أن عبده هذا يختار طريق التقى والهداية يسره له على عكس عبده الثاني.
ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، يعني: والذين اختاروا طريق الهداية الله عز وجل زادهم وثبتهم على طريق الهدى، وآتاهم تقواهم.(37/9)
قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثقاهم)
قال: [قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7]].
وليس هناك إشكال في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7]، لكن الإشكال في قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] مع أن الترتيب الطبيعي: ومن نوحاً ومنك، فإن نوحاً أسبق من محمد، بل نوح هو رسول أرسل إلى البشرية، وآدم أول نبي نبئ إلى البشرية، فالله تعالى قال: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] ولم يقل: ومن نوح ومنك؛ ليدل على أن الله تعالى علم أزلاً أنه سيخلق محمداً عليه الصلاة والسلام، مع أن خلق نوح كان قبل خلق محمد، ولكن الله تعالى قدمه هنا في الذكر؛ ليدلنا على أن محمداً هذا كان في علم الله أزلاً فقدمه على نوح، فهذه حجة على القدرية.(37/10)
قوله تعالى: (أو تقول لو أن الله هداني)
قال: [قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57] عن ابن عباس: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:57 - 58] من المهتدين].
ولذلك فإن بعض السلف بنى له قبراً في بيته، واستشهد بهذه الآية: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، كان يدخل قبره كل ليلة حتى يغلق عليه القبر تماماً ويحدث نفسه في داخل القبر: يا نفس أنت دخلت القبر، ثم يسمح لنفسه بالخروج مرة ثانية من القبر، ويقول: أنت عدت مرة ثانية إلى الدنيا فاعملي صالحاً: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58].
أي: من المهتدين.
اعملي صالحاً واهتدي قبل أن تموتي موتة لا بعث فيها إلا يوم القيامة.
قال ابن عباس: [فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى؛ لأنهم اختاروا طريق الضلالة، وقد علم الله عز وجل ذلك منهم أزلاً فكتبه عليهم، قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]].
أي: كاذبون في قولهم: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58]، ولو ردوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك لعادوا لما كانوا عليه قبل ذلك من تعاطي أسباب الشقاء والضلال.(37/11)
قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم)
قال: [قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110].
أي: لو ردوا إلى الدنيا ولحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة].
يعني: سبق في علم الله أنهم لا يقبلون الهدى، فيسر لهم طريق الضلال.(37/12)
قوله تعالى: (ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة)
قال: [وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:111] يقول: معاينة].
{مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام:111].
الكلام هذا خاص بأهل الشقاء، فقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام:111].
يعني: لو أننا بعثنا لهم الملائكة يدعونهم إلى الهدى، ولم نرسل لهم رسلاً من أنفسهم ولكن نرسل إليهم الملائكة وكلمهم الموتى -للعظة- بأن يخرج الموتى من قبورهم فيقولون: أيها الأحياء! اعملوا صالحاً، فإنا وجدنا غب أعمالنا في قبورنا، وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً -أي: معاينة- يرونهم بأعينهم ما كانوا ليقبلوا الإيمان والهدى إلا أن يشاء الله، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أنهم يدخلون في الإيمان.(37/13)
قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)
قال: [قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] هذه أيضاً آية ترد على القدرية، ونحن قلنا في أول دروس القدر: إن القدرية نوعان: قدرية غلاة وهم الجهمية، وقدرية المثبتة.
النوع الأول: يقولون: إن العبد مجبور على عمله لا إرادة له، مسلوب الإرادة، لا علاقة له بعمله، ولذلك من الظلم أن يعاقبه الله عز وجل.
والرد عليهم: أن هذا الشيء قدره الله عليه، فهو شيء مكتوب عليه، ولكنه قد سبق في علم الله أن العبد سيختاره فكتبه سبحانه وتعالى له.
إذاً: العبد ليس مجبولاً على المعصية، ولكن علم الله عز وجل ذلك منه أزلاً بعد تيسير سبل الدعوة، وإقامة الحجة الشرعية، وبيان الحلال من الحرام، ولكن العبد في المقابل هو الذي اختار طريق المعصية، فلما كان منه ذلك كتبه الله عز وجل عليه، لأنه العليم سبحانه وتعالى.
فقوله هنا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] رد على القدرية، وأن للعبد مشيئة.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
يعني: لك مشيئة، ولك إرادة، ولكن إرادتك في علم الله ومشيئتك سبقت في علم الله، فقد علم الله ماذا سيكون عملك، وكيف تصير إليه؟ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ.
النوع الثاني من القدرية قالوا: لا علاقة لله عز وجل قط بأفعال العباد، والعبد له المشيئة المطلقة في إتيان الهدى وإتيان الضلال.
فالقدرية ضد بعضهم البعض، فطائفة تقول: العبد مسلوب الإرادة، وطائفة تقول: لا مشيئة لله عز وجل ولا إرادة له في أفعال العباد، وأن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وهو الذي يوجد فعل نفسه، وكلاهما على ضلال بين.
فهذه الآية ترد على هاتين الفرقتين بإثبات الإرادة والمشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي الأولي.
قال: [عن زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس].
يعني: القدرية قد أتوا بالبدع التي لم يأت بها حتى إبليس، فما وجه مخالفتهم لله؟ وما وجه مخالفتهم للملائكة ولأهل الجنة والنار؟ [قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]] فهذه الآية ترد على القدرية بنوعيها، وذلك بإثبات المشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي.
[وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32].
إذاً: الله تعالى هو الذي علم الملائكة قبل أن تعلم، والملائكة خلقهم الله عز وجل لا علم لهم ثم علمهم، ولا يتصور أن الله تعالى علمهم ما لا علم له به أصلاً، فهو العليم الخبير, تعلم ملائكته من علمه، وهو الذي علمهم من علمه.
والقدرية يقولون: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء حتى تقع، وهذا في قولهم: أنه لا قدر وأن الأمر أنف.
يعني: أن الله لا يعلم الشيء حتى يكون.
إذاً: هذه الآية فيها إثبات العلم لله عز وجل، فربنا علم الملائكة أسماء كل شيء، وأمر الملائكة أن تعلم آدم الأسماء، والله تعالى علم الأشياء بأسمائها وأفعالها وأقوالها وحركاتها وسكناتها وشقائها وسعادتها، علم ذلك كله أزلاً قبل أن يخلق الخلق فكتبه في اللوح المحفوظ، فالله تعالى يعلم ما العباد عاملون وكيف يصيرون إليه.
قال: [وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:89].
فأثبت المشيئة الأزلية لله عز وجل، وأنه إذا سبق في علمه الشقاء أجراه، وإذا سبق في علمه الهدى أجراه ويسره.
[وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا} [الأعراف:43]] فالهداية بيد الله عز وجل، ومعنى ذلك أنه سبق في علمه أن أهل الجنة سيختارون الطاعة فيسرهم لها ومهد لهم السبيل إلى الجنة.
[{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]].
فأثبت أهل الجنة أن الهداية بيد الله عز وجل.
[وقال أهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]].
يعني قد اخترنا الشقاء وغلب علينا؛ لأن الله تعالى علم أزلاً أننا سنختار الشقاء فكتبه، وما يكتبه الله عز وجل لابد أن يغلب، لأنه الغالب على أمره.
[وقال أخوهم إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39]] يعني: رب بما أضللتني.
فإبليس يعلم أن السعادة والشقاء، والهداية والإضلال بيد الله عز وجل فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39].
قال الشافعي لما رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه: [لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله عز وجل خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء] يعني: من أهواء الفرق(37/14)
قوله تعالى: (ومن يرد الله فتنته)
قال: [قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41].
يعني: ومن علم الله عز وجل أنه سيختار طريق الفتنة والضلالة فلا يمكن لأهل الأرض -ولو اجتمعوا- أن ينقلوا هذا العبد مما اختاره الله وسبق في علم الله فكتبه عليه إلى الهداية والسعادة.
(وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ)، يعني: ومن سبق في علم الله أنه يفتن فليس لأحد من الخلق، بل ليس للخلق أجمعين أن ينقلوه من الفتنة إلى الهداية.
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يقول الله: من يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئاً].(37/15)
قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وغيرها من الآيات
قال: [قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، قال ابن عباس: [ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي، ومن شقوتي وسعادتي].
يعني: المهمة الأولى للخلق هي العبادة، ولكنه سبق في علم الله من يعبده ومن يعصيه، من يشقى بمعصيته ومن يسعد بطاعته، فلما سبق في علم الله ذلك كتبه.(37/16)
قوله تعالى: (الذين خسروا أنفسم)
قال: [قول الله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]] قال ابن عباس: [هم الكفار الذين خلقهم الله تعالى للنار، وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة، {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11]] يعني: فخسروا الدنيا والآخرة.
[وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]].
والدعاء هنا: هو الإيمان.
أي: ما يعبأ بكم ربي لولا إيمانكم.
قال: [يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين].
قال: [قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]] لأنهم اختاروا طريق الكفر والجحود والضلال، والله تبارك وتعالى لما علم ذلك منهم أزلاً كتبه عليهم، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم فإنهم يخسرون الإيمان، وهم قائمون على الكفر والجحود والنكران، وهذا سابق في علم الله وكتبه، ولكن لابد من قيام الحجة عليهم حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
فليس هناك من يجيء يوم القيامة ويحتج على ربنا ويقول: يا رب! ما بعثت رسولاً، وما أنزلت كتاباً.(37/17)
ذكر ابن عباس للآيات الدالة على أن الهداية والإضلال بيد الله
قال: [عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125]، وقوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:111]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:99]، وقوله: {الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [الرعد:5]، وقوله: {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]، وقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105] ونحو هذا من القرآن].
كل هذه الآيات تدل على أن الإيمان والكفر والشقاء والسعادة والهداية والإضلال بيد الله عز وجل.
قال: [وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول].
الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يجمع جميع الخلق على السعادة، وربنا قال له: أنت لا تستطيع أن تفعل ذلك، وليس هذا لك ولا لأحد، وإنما هذا لرجل قد سبق في علم الله أنه من أهل السعادة، وليست لرجل سبق في علم الله أنه من أهل الشقاوة.
قال: [فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6]-يعني: مهلك نفسك- {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3].
يقول: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4].
ثم قال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} [فاطر:2].
ويقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]].
أي: ليس لك يا محمد من الأمر شيء، فأنت لا تعلم ما الذي كتبه الله عز وجل أزلاً على العباد من السعادة والشقاء، والهداية والإضلال، وما عليك يا محمد إلا أن تبلغ هذا الوحي إلى الناس، أما الخواتيم فلا يعلمها إلا الله عز وجل.(37/18)
قوله تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديراً)
قال: [قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]].
قال: [عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلق كلهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)].
ومن المقادير: السعادة والشقاوة، الجنة والنار، الرزق.
كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فإذا كان الله تعالى كتب ذلك بعلم، فلابد أن نثبت أولاً العلم الأزلي لله عز وجل، وهو علم كل شيء، علم لا نهاية له، ولا منتهى له، وأن الله تعالى علم ذلك أزلاً فكتبه في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل التبديل ولا التغيير ولا التحريف، ولا يلحقه إثبات غير ما هو مثبت فيه، أما الذي يقبل الإثبات والمحو فالكتب التي بيد الملائكة، أما اللوح المحفوظ فلا يقبل المحو ولا الإثبات إلا ما كان فيه، فلما علم الله ذلك أزلاً كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم كتب للعبد الشقاء أو السعادة، وهذه الكتابة بعدل وحكمة من الله، وليس بظلم منه.
والله تبارك وتعالى خاطب المؤمن والكافر بالإيمان، وألزمهما وكلفهما به، ولكن العبد التقي اختار طريق التقى والهدى طلباً للجنة ولرضوان ربه، فإن العبد الذي سبق في علم الله أنه شقي هو الذي اختار طريق الشقاء وطريق النار، فلما سبق في علم الله ذلك منه كتبه عليه بعد أن أرسل إليه الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ورزقه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين السعادة والشقاء، وبين الهدى والضلال.
قال: [(كتب الله مقادير الخلق كلهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)].
قال: [عن طاوس قال: أدركت ناساً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: كل شيء بقدر.
قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)].
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)] مع أن هذا مؤمن وهذا مؤمن، لكن هذا مؤمن قوي، قوي في علمه، قوي في إيمانه، قوي في عمله، فهو أحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف.
[(وفي كل خير)]؛ لأن كل واحد منهما فيه إيمان، والإيمان خير، [(فاحرص على ما ينفعك، واستعن بالله تبارك وتعالى ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقولن: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)].
يعني: كل شيء عنده بمقدار حتى العدل والكيل (فإن لو تفتح عمل الشيطان)].
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره)].
يعني: أنت تقول: يا رب! لو ابني نجح سأذبح شاة، وابنك نجح، فهذا قد سبق في علم الله.
لكي لا تتصور أن ذبح النعجة معلق بسبب نجاح ابنك، بل كتب في اللوح المحفوظ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يكره النذر في الطاعة، ويقول: (إنما يستخرج به من البخيل).
يعني كأنك تقول: يا رب لو ابني نجح أذبح، وإذا ما نجح ما أذبح.
وهذا لا يصح، ففي زمن السلف لم يختلفوا في هذه القضية.
ولابد أن يكون النذر في طاعة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه).
فمثلاً: واحد يقول: يا رب لو أنا حصل لي كيت سأترك الصلاة.
فهذا النذر يأثم به العبد، ولا يلزمه هذا النذر، إنما لو نذر في طاعة يلزمه النذر والأفضل عدم النذر، والنذر لن يغير شيئاً في المكتوب والمقدر.
فتقول: يا رب لو ابني نجح سأذبح شاة، فنجح ابنك، ثم بعد ذلك تلف وتدور وتتلمس الأعذار فتقول أصوم فأنا ممكن أصوم ستة شهور ولا أذبح -لأنك بخيل- وممكن أن تحدث نفسك بأنه كان مكتوب في اللوح المحفوظ أنه سينجح، فما الذي جعلك تنذر؟ ولذلك النذر يستخرج به من البخيل، أما للإحسان وهو أن ربنا أحسن إليك في نجاح ولدك، أو في قضاء مصالحك فاذبح من غير ما تنذر، فلا ينفع أن تعمل الطاعة وأنت محتار، بل وأنت راض ومبسوط، ومقبل على ربك، لابد أن تعمل الطاعة ورقبتك تحت رجلك، فلا تذبح الشاة وأنت كاره، قال: (إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره).
يعني: هذا النذر لم يغير من القدر شيئاً، ولكن النذر يوافق القدر، والله عز وجل علم أزلاً أنك ستنذر فلابد أن تفي بالنذر.
ويفضل ألا تنذر حتى في الطاعة، وإذا كنت تريد أن تشكر ربك بذبح شاة، فلا يكن ذلك في صورة نذر، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطاعة بدون نذر خير من الطاعة بنذر.
إذاً: الأفضل هو ألا تنذر، وأن تفعل هذه الطاعة بلا نذر، لكن الله تعالى بعد أن أرسل إليك رسولاً، وبين لك أن الطاعة بغير نذر أفضل من الطاعة بنذر علم(37/19)
الأسئلة(37/20)
ضرورة التفريق بين الإرادة الشرعية والكونية
السؤال
إذا كان الله علم أزلاً أن العبد سيختار طريق الشقاء كتبه عليه فإنه سبحانه هو الذي جعل العبد يختار هذا الطريق؟
الجواب
هو يريد أن يقول: إذا كان الله عز وجل علم أزلاً أن هذا العبد سيختار طريق الشقاء كتبه عليه، فالله هو الذي جعل العبد يختار طريق الشقاء، وهذه شبهة القدرية، ولذلك فإن معظم السلف ما كانوا يتكلمون كلمة واحدة في القدر، لما تنظر إلى كلام أحمد بن حنبل تجد أنه لم يثبت عنه أنه تكلم في القدر بكلمة إلا كلمة واحدة قال: القدر هو قدرة الله عز وجل.
فليس معنى ذلك أن الإمام أحمد لم يستطع أن يؤلف مصنفات في القدر، ولكن معظم السلف كانوا ينكرون هذا الكلام إنكاراً عظيماً جداً.
ولذلك ورد عنهم: إذا جاء القدر فأمسكوا.
لأن الشيطان سيسلمك من سؤال إلى سؤال، إلى حد أن تقول: إن ربنا ظالم لنا.
ونحن أثبتنا أن العبد له إرادة، والله عز وجل له إرادة، والعبد له مشيئة، والله تبارك وتعالى له مشيئة، والله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ابتداءً، وأمرهم بالإيمان، ونهاهم عن الكفر ولم يرضه لهم، فالعبد لا يكفر غصباً وإنما بمشيئة الله.
فالذي حصل له ألم لا يرضى أنه يتعذب به في الدنيا وكذا في الآخرة، والذي صفعك لا يستطيع أن يصفعك إلا بإرادة الله، وسترد عليه بإرادة الله، وما رفع يده إلا بإرادة الله، ولا يقدر ينزلها إلا بإرادة الله، فهل الله تبارك وتعالى يرضى عن هذا الفعل؟ لا.
ومع هذا أذن بوقوعه؟ فالشيطان من خلق الله، وأعمال الشيطان هي من خلق الله وإيجاد الله، فهل ربنا رضى عنها؟ إذاً: نحن لابد أن نفرق بين المسألتين: الإرادة الشرعية الدينية، والإرادة الكونية القدرية: الإرادة الشرعية هي: أنك تصلي معنا المغرب والعشاء، فربنا أذن في ذلك وخلق فيك هذه الحركات من قيام وركوع وسجود وقراءة، وأضل غيرك، أو أنساه صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويمكن أنه ما يصلي نهائياً.
وهذا بإرادة الله، لكن الله لا يرضاه، إنما أذن بوقوعه، مثلما أذن بوقوع الكفر في الكون، مع أنه حذر منه، وأرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، والله لا يرضى الكفر، ومع هذا فالكافر هو الذي اختار الكفر.
لما تقول لابنك: يا ابني! الطريق هذه تؤدي بك إلى النجاح، والطريق هذه تؤدي بك إلى الرسوب، ومع هذا ابنك يصر على عدم المذاكرة مع المراقبة الشديدة وتوفير جميع وسائل الراحة التي تؤهله للنجاح في نهاية العام، ومع هذا فالولد كلما تؤكد عليه يعرض عنك، فهذا الولد يعرض عنك بإرادة؛ بدليل أنك موفر له سبل الراحة، والولد لا يستغل سبل الراحة ولا يذاكر.
فالله عز وجل علم إعراض هذا الولد، وعلم أنك ستقوم تجاهه بالواجب، ويأجرك على هذا الواجب والولد يأثم عند الله عز وجل بتمتعه بهذه النعم وإعراضه عن المذاكرة.
الولد يعرف في نفسه أنه لو ذاكر سيرضي ربه ويرضي والده، ومع هذا يعرض.
فإذا كان لا يعلم ذلك فإنه لا يأثم.
إذاً: لا يوجد ظلم هنا، فالله تبارك وتعالى خلق الجنة وخلق النار، خلق لهذه قسم الله أعلم بهم، وخلق لتلك قسم الله أعلم بهم، وبين لهم الطرق والأسباب التي تؤدي بهم إلى الجنة، وإلى النار، وأنزل لهم الكتب، وأرسل لهم الرسل فقامت عليهم الحجة، فالذي يكفر يعلم أنه كافر، والذي يزني يعلم أنه يزني، ويعلم أن الزنا معصية، وأن الله سيعاقبه عليه، ولكنه لا يستطيع أن يزني بغير إرادة الله.
وليس معنى: (بقدر الله) أن الله عز وجل يحب الزنا ولذلك أذن فيه، فهو لا يحبه، إنما يحب العفاف والطهر وأمر به، ويكره الزنا ويمقته ونهى عنه، لكن الذي يأتي الطاعة فهو يأتيها بإرادة الله، والذي يأتي المعصية هو يأتيها بإرادة الله؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراده الله وقدر، لكن من إرادته ما يثيب عليها، ومن إرادته ما يعاقب عليها.(37/21)
بيان عدد الرضعات التي تحرم وحكم لبس الكرفتة
السؤال
ما عدد الرضعات التي تحرم الرضيع من أم غير أمه وهل يشترط أن تكون في وقت واحد؟ والرجل إذا لبس كرفتة هل يكون متشبهاً بالكفار؟
الجواب
الكرفتة تشبه بالكفار، لكن من يلبسها ليس كافراً، وإنما يجب على الرجل أن يتنزه عن مشابهة غير المسملين.
أما عدد الرضعات المحرمة: فهي خمس رضعات في كلام الله، وحديث عائشة في الصحيحين: (كان مكتوب في الكتاب عشر رضعات محرمات جعلها الله عز وجل خمساً، فهي خمس رضعات مشبعات متفرقات).
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان).
(سئل هل تحرم الرضعة يا رسول الله؟ قال: لا.
قال: هل تحرم رضعتان؟ قال: لا).
واختلف أهل العلم في التحريم، ورأي الجمهور هو الصواب: أن الرضاع يحرم كما قال عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
أي: أن الرضعات المحرمات خمس رضعات مشبعات، وهو أن يترك الولد الثدي باختياره وبإرادته.(37/22)
حق المطلقة التي لم يبن بها زوجها
السؤال
ما هو حق الزوجة التي لم يبن بها زوجها بعد الطلاق؟
الجواب
هو يريد أن يقول: امرأة عقدت عليها ولم أبن بها ثم طلقتها، فهي تبين بينونة كبرى بهذه الطلقة، فإذا أراد أن يتزوجها لابد من عقد جديد ومهر جديد، وهذه المرأة ليس لها نفقة ولا متعة، ولا سكن ولا شيء من هذا نهائياً، إنما إذا كان قد خلا بها خلوة شرعية فلها المهر كله، وإذا لم يخل بها أي: لم يدخلها في مكان ويغلق الباب، ويرخي الستر عليهما حتى وإن لم يقبلها ولم يمسها، فإذا حدثت هذه الخلوة وإن لم يمسها فيجب لها المهر كاملاً، أما إذا لم تحدث هذه الخلوة فليس للمرأة عند زوجها إلا نصف المهر، ولو عفت عنه لا يطالب الزوج به، ولكن لابد أن يكون العفو بإذن الولي أياً كان، سواءً كان الولي أخوها أو عمها أو جدها، فأنت لا ترضى أن تعفو ابنتك إذا طلقت، فقد تضربها على ذلك.(37/23)
حكم تخصص الرجل في قسم النساء والولادة
السؤال
ما حكم التخصص في قسم النساء والولادة؟ وما حكم ذهاب النساء إلى دكتور أمراض النساء والولادة؟
الجواب
التخصص في هذا سمج بارد، وأنا أظنه ظناً يقينياً: أن هذا معصية لله عز وجل، كيف أن الدكتور يعيش حياته بالليل والنهار بين أفخاذ النساء؟ والعلماء يقولون: النساء عليهن أن يتعلمن، ومجال الطب لابد أن يكون فيه طاقم نسوي فيما يتعلق بتعليم المرأة في الطب، أما أن الرجل يكون رئيس قسم النساء والتوليد والعقم، فهذا من البلاء العجيب، وليس هذا مستساغاً فضلاً عن مخالفته، ولذلك نحن نرى الإخوة الطيبين الذين تورطوا في هذا القسم لما يتوبوا فإنهم يبحثون عن قسم آخر يتخصصون فيه، ويأخذون فيه دراسات من جديد.(37/24)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أدلة السنة في إثبات القدر [1]
يعتقد أهل السنة والجماعة بوجوب الإيمان بالقدر وما يتضمنه من مراتب، ويعتقدون أنه سر الله تعالى في خلقه، لا يخوض فيه إلا من زلت به القدم، والآيات من الكتاب والأحاديث الصحيحة من السنة النبوية تشهد على ذلك، وهي كثيرة معلومة تناولها أهل العلم بالتفسير والإيضاح ورد كل شبهة أو متمسك للمبتدعة فيها.(38/1)
سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله وما روي من السنة في إثبات القدر
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً في سرد أدلة القدر، وأن ذلك كان أمراً مستقراً عند سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وأنهم كانوا يكرهون الخوض فيه، فقد كانوا يؤمنون ويسلمون به، ومن الأدلة على ذلك:(38/2)
حديث: (جف القلم على علم الله عز وجل)
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى خلق خلقاً في ظلمة ثم ألقى عليه من نوره، فمن أصابه شيء من ذلك يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك يقول: جف القلم على علم الله عز وجل)].
أي: حينما خلق الله تبارك وتعالى هذه النطفة وألقاها في رحم المرأة -رحم المرأة ظلمة- أفاض من نوره على هذه النطفة، فإن اقتبست هذه النطفة من نور الله عز وجل فهذا دلالة على سعادتها، وإن لم تقتبس فهذا دلالة على شقاوتها وتعاستها، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (قد جف القلم بما هو كائن).
أي: أن هذا أمر قديم قد فرغ منه، ولذلك تعجب السامع من الصحابة وقال: (يا رسول الله! إذا كان هذا أمر قديم ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خُلق له).(38/3)
حديث: (لا تكثر همك ما يقدر يكن)
قال: [وعن مالك بن عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ ابن مسعود: (لا تكثر همك، ما يُقدر يكن، وما تُرزق يأتك)].
أي: لا تنشغل بمسألة الأجل ومسألة الرزق، لذا فالعبد من الممكن أن يشرك بالله عز وجل لأجل الحفاظ على عمره وحياته ورزقه.
أي: أن المرء قد يقع في أعظم ذنب على الإطلاق -وهو الشرك بالله- مخافة الرزق ومخافة الأجل، مع أنهما مضمونان لله عز وجل، فلا يمكن لأحد قط أن يتدخل فيها مهما أوتي من قوة، فهذا فرعون ما استطاع أن يؤثر في رزق موسى أو في عمره، بل كان هلاك فرعون على يد موسى عليه السلام.(38/4)
حديث: (خلق آدم وأخرج الخلق من ظهره)
قال: [عن عبد الرحمن بن أبي قتادة السلمي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خلق آدم وأخرج الخلق من ظهره -هذا حديث النفاق الذي سبق ذكره- فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي)].
أي: حينما خلق الله عز وجل آدم أخرج من صلبه كل نسمة تكون إلى يوم القيامة، إلى آخر نسمة من صلب آدم، ثم قال وهم كالذر: هؤلاء قسم الجنة وحظها ونصيبها، وهؤلاء قسم النار وحظها ونصيبها، وقال في كل: (لا أبالي)؛ لأنه {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فهو الذي يحاسب الخلق وحده.
[قيل: علام نعمل] أي: إذا كان ذلك مقدراً ومقسوماً منذ أن خلق الله آدم بل قبل آدم والله تبارك وتعالى يعلم أهل الجنة وأهل النار ففيم العمل؟ قال: [(على مواقع القدر)].
أي: أنك أنت لا تعمل إلا بقدر؛ لأن العجز بقدر، والعمل والنشاط والجد والخمول كل ذلك بقدر، فالله تبارك وتعالى علم أنك تفتر هنا وتنشط هنا، تصح هنا وتمرض هناك، تعلو هنا وتنخفض هناك، تغنى وتفقر، تُعز وتُذل، وغير ذلك مما يتعرض له المرء في أثناء حياته، فالله تبارك وتعالى قد علمه ليس قبل أن يخلق ذلك الشخص، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض.
والذي يسأل: إذا كان ذلك هو القدر فلِم نعمل؟ ف
الجواب
أنه لا يدري الواحد منكم في أي فريق هو، في فريق الجنة أم في فريق النار، وهذا إجابة عقلية.
أي: لو كان فهمنا مستقيم للمسألة هذه ففيم إذاً إرسال الرسل؟ أليس الأمر كله بقدر قبل أن يخلق الله عز وجل الخلق كلهم؟ فلماذا بعث الله الرسل إذاً؟ ولماذا أنزل الكتب؟ ولماذا جعلك عاقلاً؟ كل هذا لتميز به بين الحق والباطل.
فلماذا هذا العمل كله؟ لأنه لا بد أن تعمل، ومن قدر الله عز وجل أن تطيع الرسل، وأن تؤمن بالكتب، ومن الإيمان بالكتب: الإيمان بالقدر، وأن كل شيء بقدر، فلا بد أن تعمل، ولا يصلح أن تكون بلا عمل؛ لأنك ابتداءً لا تدري هل جعلك الله عز وجل من فريق الجنة أم من فريق النار؟ فإن كنت لا تدري هذا عن نفسك فلا تغتر بعملك الصالح؛ لأنه ربما يُختم لك بغير ذلك! ولا تستمر في معصيتك فربما يوفقك الله عز وجل في آخر حياتك لعمل الخير، وأن تعمل بعمل أهل الجنة فتدخلها، فلا تتمادى في معصيتك ولا تغتر بطاعتك، فرُب رجل اغتر بطاعته وفاخر بها فعاقبه الله عز وجل بأن ختم له بخاتمة الشقاء، نسأل الله السلامة لنا ولكم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (على مواقع القدر).
أي: أنتم لا تعملون إلا بقدر، ولا تتركون العمل إلا بقدر؛ لأن الله علِم أزلاً أنك تعمل أو لا تعمل، وأنك تشقى أو تسعد، وأنك تغنى أو تفقر، وغير ذلك من أطوار حياة العبد، فلا بد من العمل، فليس هناك جنة بلا سبب، كما أنه ليس هناك نار بلا سبب، فالله عز وجل بإمكانه أن يأتي بأعظم الناس شركاً ويدخله الجنة ولا يعترض على ذلك أحد، وبإمكانه أن يأتي برجل من أهل الجنة ويدخله النار، لكنه سبحانه قطع على نفسه ألا يفعل ذلك، والله لا يخلف وعده أبداً.
إذاً: لماذا دخل هذا الجنة ودخل هذا النار؟ بالعمل.
وإن كانت رحمة ربك تسبق من دخل الجنة؛ لأن الله تعالى هو الذي وفقه لطاعته، وهذه الطاعة هي السبب في دخوله الجنة، وأما هذا الذي دخل النار فبعدل الله عز وجل؛ لأنه قد أقام عليه الحجة من كل جانب ومن كل وجه، فلا يبقى له عذر بعد أن أرسل إليه الرسل وأنزل الكتب، وجعله عاقلاً يميز بين الحق والباطل بين الصحيح والخطأ، فلا عذر لمن سلك طريق المعصية إلا أن يدخل النار، فإن كان موحداً فإنه لا محالة يخرج من النار ويدخل الجنة، وإن كان من أهل الكفر والشرك البواح؛ فإنه مخلد في النار لا يخرج منها أبداً.(38/5)
حديث: (إن العبد ليعمل فيما يرى للناس بعمل أهل الجنة)
قال: [عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمل فيما يُرى للناس بعمل أهل الجنة)].
أي: أن أول ما يروه الناس يعمل هذا العمل فإنهم يقولون: هذا رجل بعمله هذا من أهل الجنة، كما اغتر الصحابة بالمجاهد وقالوا: والله إنا لنراه من أهل الجنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو من أهل النار)؛ لأنه كان مرائياً، فقد كان يجاهد ليقال عنه: مجاهد، وكان يبتغي الأجر من الناس، ويبتغي أن يمدحه الناس، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بل هو من أهل النار).
لكن هل هو من المخلدين في النار؟ لا.
ليس من المخلدين فيها، وإن مكث فيها مكثاً طويلاً فمآله أن يخرج منها.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) فهذا الكلام على أصحاب المعاصي، أما أصحاب الكفر البواح فإنهم سيدخلون النار حتى لو لم يترد من جبل، فمثلاً: نتنياهو اليهودي، ما دام أنه لم يترد من جبل فهل سيدخل الجنة أم ماذا؟ أم هل سيدخل النار ثم يخرج منها إلى الجنة؟ لا.
بل هو في النار مخلداً فيها إن مات على كفره.
وبالمناسبة فهناك من الناس من يعتقد أن اليهود والنصارى في الجنة ويقولون: هؤلاء إخواننا وأحبابنا! بل يزيدون ضلالاً ويقولون: والله إن هذا أحسن من المسلمين.
وهذا من الخطأ الكبير! أن ترفع يهودياً أو نصرانياً أو كافراً -عموماً- فوق المسلم وإن كان أعتى العتاة ما لم يكفر، وإذا صدر منك ذلك فلابد أن تراجع إيمانك فوراً، فإيمانك فيه نظر، وأنت على خطر عظيم جداً، فربما يُخرجك هذا من الإيمان إلى الكفر البواح.
قال عليه الصلاة والسلام: [(إن العبد ليعمل فيما يُرى للناس بعمل أهل الجنة، وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل فيما يُرى للناس بعمل أهل النار، وإنه لمن أهل الجنة)].
وبعد هذا يبين النبي عليه الصلاة والسلام المسألة هذه، لأن فيها إشكال.
فبالنسبة للجزء الأول: أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، فهذا رياء وقد انتهينا منه، والله عز وجل يعلم ذلك.
وأما المشكل في الجزء الثاني فهو: أن الرجل يعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، (وإنه لمن أهل الجنة).
فكيف يكون من أهل الجنة وهو تارك للصلاة والصيام والزكاة والحج وأركان الإسلام وأركان الإيمان؟! حدد النبي عليه الصلاة والسلام الجواب عن هذا السؤال في تمام هذا الحديث فقال: (وإنما الأعمال بالخواتيم).
حتى يحل الإشكال للرد على الجزئية الثانية، ولذلك الرجل الذي رأى أخاه على معصية فقال: والله لا يغفر الله لفلان -والمغفرة بيد الله عز وجل- فغضب الله عز وجل غضباً شديداً، وأخبر نبيه بذلك فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: (من ذا الذي يتألى على الله؟ إن أحدكم يقول: والله لا يغفر الله لفلان، والله تعالى يقول: أشهدكم يا ملائكتي أو يا عبادي أني قد غفرت لفلان وأدخلت فلاناً النار) أي: الذي اغتر بطاعته وحكم على صاحب المعصية بأنه لا يدخل الجنة قط أو لا يغفر الله تعالى له.(38/6)
حديث: (لا عليكم ألا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بما يختم له)
قال: [عن أنس رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا عليكم ألا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بما يُختم له)].
أي: لا تقطعوا لأحد بالجنة أو النار حتى تنظروا ماذا يختم له.
ولذلك الإمام النووي رحمة الله تعالى ذكر خلاف أهل العلم في مسألة الدعاء للمشركين أو للكفار، أو الدعاء عليهم ما داموا أحياء، وذكر أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: أنه يجوز.
الثاني: لا يجوز مطلقاً.
الثالث: يجوز الدعاء عليهم إذا ماتوا على الشرك والكفر.
ونقل الثلاثة الأقوال ورجح القول الثالث.
أي: أنه لا يجوز الدعاء عليهم في الحياة، وإنما يجوز الدعاء عليهم إذا خُتم لهم بالكفر.
وإذا كان هذا في حق الكفار، وأهل العلم قد اختلفوا فيهم على هذه الأقوال، فما بالكم بأصحاب المعاصي؟! لو نظرنا إلى معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأهل القبلة من المسلمين من أصحاب المعاصي، فسنجد أن المعتقد فيهم: أننا نرجو الله تبارك وتعالى لهم الرحمة، وأن يوفقهم للطاعة، وأن يرحمهم في الآخرة، ولا نقطع لأحد بالجنة أو النار إلا من قطع له القرآن أو السنة بذلك؛ لأن الجنة والنار ليست ملكاً لأحد، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، فكيف نقطع لفلان بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار؟! أرأيتم لو أن رجلاً مسلماً قاتل كافراً فلما تمكن المسلم من الكافر -وما هي إلا ضربة بسيف أو طعنة برمح ويذهب ذلك الكافر إلى ربه- نطق الكافر بكلمة التوحيد!! وقد فعل ذلك أسامة بن زيد كما في الحديث المعروف، فلما علم ذلك النبي عليه الصلاة والسلام غضب غضباً شديداً، ولام أسامة لوماً عظيماً، حتى قال أسامة: ليتني أسلمت الآن.
وكأنه يقول: ليتني عملت هذا وأنا في حال كفري، ثم أسلمت الآن من غير أن أقترف هذا الذنب.
لكن: لو أن الذي قالها قالها مخلصاً ولم يقلها مخافة السيف أو نجاة من القتل ولم يعمل شيئاً قط غير أنه نطق بكلمة التوحيد فإنه من أهل الجنة، مع أن عمله كله في حياته يشهد له بالنار، لكن الله تعالى ختم له بخاتمة السعادة.
وكثير في التاريخ ما يروي عن بعض أهل الطاعات فيما يبدو للناس ما يخالف ذلك عند الموت، بل ذكر الذهبي رحمه الله عن رجل أنه قال في سكرات موته حينما لُقن الشهادة: أنا لا أُحبها، أنا كافر بالله العظيم، ثم خرجت روحه، مع أن عمله كان فيما يبدو للناس أنه من أهل الجنة.
فلما كان هذا أمراً غيبياً فإنه لا يجوز القطع لأحد قط بجنة ولا نار إلا من شهد القرآن أو السنة بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار، فذلك متعلق بمن شهد له القرآن أو السنة عيناً، كـ أبي لهب وغيره مما ذُكر في القرآن والسنة، ولا يجوز لمتنطع أن يقول: وما يدرينا أن هذا الكافر أو هذا النصراني أو هذا المشرك مات على الكفر البواح؟ فلعله كان مسلماً ولكننا لا ندري، أو لعله أسلم وأخفى إسلامه، ولعل ولعل، والباب واسع جداً! لذا فنحن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر.
فلو أن رجلاً مات على نصرانيته المعلومة لدينا، فهل يجوز لنا أن نقول: لعل هذا الرجل مات مسلماً ونُنزله منزلة المسلمين فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويقبر في مقابر المسلمين؟ إن ذلك لا يصلح قط، أما إن كان قد أسلم وأخفى إسلامه فهذا بينه وبين الله عز وجل، وهو يكافؤه على ذلك يوم القيامة، أما نحن فليس لنا إلا الظاهر.(38/7)
حديث: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم قابضاً على شيئين في يده)
قال: [عن ابن عمر قال: (خرج النبي عليه الصلاة والسلام قابضاً على شيئين في يده.
قال: ففتح اليمنى فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الله الرحمن الرحيم، فيه أهل الجنة بأعدادهم وأحسابهم وأنسابهم، مجمل عليهم إلى يوم القيامة لا يُزاد فيهم ولا يُنقص منهم أحد، وقد يُسلك بالعبد طريق الأشقياء حتى يقال: هم منهم هم هم، ثم يُدرك أحدهم سعادته، ولو قبل موته بفواق ناقة)].
والحديث طويل جداً، وهو ضعيف.(38/8)
حديث: (لا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له)
قال: [عن أنس قال: (لا تعجلوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زماناً من عمره -أو برهة من دهره- بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً)].
فهذه النصوص مروعة جداً ومخيفة، وتدلنا على أن الأمر لا يزال في قبضة الرحمن تبارك وتعالى حتى تدخل الجنة فتأمن.
قال: [(وإن العبد ليعمل زماناً من عمره عملاً سيئاً لو مات عليه دخل النار، ويتحول فيعمل عملاً صالحاً.
وإذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً استعمله فيه قبل موته)].
أي: إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا العبد من أهل السعادة استعمله بعمل أهل السعادة، ووفقه لطاعته ولصالح العمل حتى يقبضه عليه.
قال: [(قيل: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه)].
مثال ذلك: أن أحد العلماء مات في الحرم سنة (1992م)، وهو يلقي درساً في شهر رمضان، والدرس كان بعد العصر، والرجل كان في لحظة موته قد وضع رأسه بين يديه واتكأ على فخذيه، وظننا أنه يفكر في مسألة ما، أو يستجمع أمره أو غير ذلك، فلما طال الأمر قال المستملي وكان بجواره: يا شيخ! يا شيخ! وإذا بالشيخ قد ذهب إلى ربه.
أرأيت هذا الموقف؟ إنه موقف عصيب جداً، بل لا أذكر أن واحداً من أهل الموقف في ذلك اليوم إلا وقد بكى بكاء عظيماً جداً حتى خرج بفائدة وعبرة عظيمة ليس بعدها عبرة.
وظللنا نضرب الأمثال فنقول: لو أن رجلاً كان خماراً فمات على ذلك، أو مات على الزنا، أو غير ذلك من المعاصي، فكيف سيكون حاله؟(38/9)
حديث مصير أولاد المشركين يوم القيامة
قال: [عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أولاد المشركين؟ قال: الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين)].
أي: أن الله قبل أن يخلقهم يعلم أنهم لو عاشوا بعد ذلك ماذا كانوا سيصنعون؟ ولكن الله قدر عليهم الموت في سن قبل سن الحساب وجريان القلم، ولذلك فالله عز وجل يعلم ما العبد يعمل، وما هو إليه صائر قبل أن يعمل العامل، وإذا عمل العامل عملاً صالحاً أو سيئاً ربما نسيه، ولكن الله تبارك وتعالى لا يضل ولا ينسى.
وهذا الكتاب الذي تستلمه أنت بيمينك أو بشمالك أو من خلف ظهرك، فيه كل شيء، وهو محل ثواب وعقاب، كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وقد اختلف أهل العلم في تأويل هذه الآية: هل كل قول يقوله المرء يُحاسب عليه أم يُكتب عليه؟ فبعض أهل العلم قال بظاهر الآية.
أي: أن كل شيء يكتب على العبد وإن كان كلاماً مباحاً لا ثواب فيه ولا عقاب.
وجمهور المفسرين على أن الذي يُكتب على العبد هو الكلام الذي يثاب ويعاقب عليه، والذي هو محل مساءلة، ومحل جزاء وحساب، وعليه فإذا كان الأمر كذلك فالله عز وجل علم ماذا سيعمل أولاد المشركين لو أنهم عاشوا بعد بلوغهم الحلم.
واختلف أهل العلم في مصير أولاد المشركين، ولم يختلفوا في أولاد الموحدين المؤمنين لو ماتوا قبل بلوغهم سن التكليف، فإنهم لو ماتوا فهم من أهل الجنة، أما أولاد المشركين فلو ماتوا قبل سن التكليف فالعلماء في ذلك على أقوال: القول الأول: أنهم تبع لآبائهم.
أي: أنهم في النار مع آبائهم.
القول الثاني: أنهم من أهل الجنة؛ لأن الله تعالى يحاسبهم على أساس فطرتهم -فطرة التوحيد- التي خلقهم عليها أولاً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يولد المولود على الفطرة).
وفي رواية: (على فطرة الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
وفي رواية مسلم: (ويشركانه).
أي: يجعلانه مشركاً.
فهذا الولد لم يدخل في هذا الشرك، أو في هذه اليهودية، أو في هذه النصرانية إلا بعد أن يكبر ويميز ويختار هذا الكفر أو هذا التهويد أو هذا التنصير أو غير ذلك، فإذا مات قبل اختياره وقبل تمييزه واعترافه وإقراره بهذا الشرك، فإنه من أهل الجنة؛ لأنه مات على أصل فطرته الأولى، وهي فطرة التوحيد التي خلقه الله تعالى عليها.
القول الثالث: التوقف.
وأصحاب هذا القول قالوا: الله عز وجل أعلم بمصيرهم، إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
القول الرابع: أن الله تبارك وتعالى يعقد له اختباراً وابتلاءً يوم القيامة، فإذا اختار طريق المعصية وفقه إليها وأدخله النار، وإذا اختار طريق الطاعة وفقه إليها وجعل طريقه إلى الجنة.
فهذه هي الأقوال الأربعة فيما يتعلق بمصير أولاد المشركين.(38/10)
حديث أبي بن كعب في القدر
قال: [عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب].
لما لمسألة القدر من أهمية عظيمة، إذ هي أعظم ما يمكن أن تتعامل معها، وهي السلاح التي تسلم به بين يدي الله عز وجل وتطمئن به في الدنيا، وهو أن تقول: آمنا وسلمنا وصدقنا، والخير والشر من عند الله عز وجل.
ولذلك حينما سئل أحمد عن القدر؟ قال: هو قدرة الله عز وجل.
واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20].
فحينما تسمع هذا التفسير، أو معتقد أحمد في القدر تقول: قد أجاب أحمد إجابة بعيدة جداً! فنحن نسأله عن معتقده في القدر وهو يقول: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20].
إذاً: فنحن نعرف هذا، وإذا كنت تعرفه فهذا هو القدر.
[عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب فقلت: يا أبا المنذر -وهي كنية أُبي -: إنه وقع في نفسي شيء من القدر، وقد خشيت أن يكون فيه هلاك ديني أو أمري].
أي: أخاف أن يكون هذا الذي يدور في نفسي فيه هلاكي، [فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني].
أي: فأنقذني وعلمني.
[فقال] أي: أُبي نصاً رائعاً فيما يتعلق بالإيمان بالقدر، قال: [لو عذب الله أهل سماواته].
أي: من الملائكة، مع أنهم مجبولون ومفطورون على طاعة الله عز وجل.
[وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم]، وهذا هو معتقد أُبي، بل هو معتقد السلف.
وأنت سوف تقول في قوله: (لو عذب الملائكة): لماذا يعذبهم وهم أهل طاعة، ولا يمكن قط أن تصدر منهم معصية؟ سأقول لك: إن المصيبة هي فيما تقوله، إذ إن معتقدنا الصحيح من الملائكة: أنهم مجبولون على الطاعة، فإن نفسهم هو التسبيح والذكر والتهليل، وهم لا يملون ولا يفترون من طاعة الله عز وجل، والمعصية هذه لا تخطر لهم على بال نهائياً، والله تبارك وتعالى خلقهم من نور، ونزع منهم الشهوة، ولا شهوة لهم إلا شهوة حب الله، وشهوة الذكر والتسبيح والتهليل، والسجود والركوع لله عز وجل، فإذا عذبهم فإنه يعذبهم وهو غير ظالم لهم لأنهم عبيده.
وهنا لا بد أن نرجع إلى مسألة أخرى، وهي: هل يجوز أن ننسب الظلم لله عز وجل؟ ولو أنك نسبت الله تعالى إلى الظلم، أو نسبت الظلم إليه لكفرت.
وهذا محل اتفاق بين كل الناس، فننفي الظلم عن الله عز وجل أولاً، سواء عذب من شاء أو رحم من شاء، ولو عذب أهل السماوات وأهل الأرض فإنه لا يكون ظالماً؛ لأن الظلم صفة نقص لا تليق إلا بالعباد، بل ببعض العباد، وليس كل العباد ظالماً، وإنما كثرة من العباد ظالمة.
فإذا كان بعض العباد يتصف بالعدل والحكمة فرب العباد أولى بذلك، والله تبارك وتعالى قد سمى نفسه بأسماء الكمال كله، والنقص لا يُنسب إلى الله عز وجل، والظلم صفة نقص لا تليق إلا بالمخلوق، ومقابلها تمام العدل، وهو الذي يليق بالله عز وجل، فسواء عذب فلاناً أو رحم فلاناً، فلا ننسب إليه الظلم قط.
بل نقول: إن الله تعالى إذا عذب أهل السماوات وأهل الأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم.
أي: إنه عذبهم بعدله.
ونحن نعلم أن طاعة الطائع لا تنفع المولى عز وجل، كما أن معصية العاصي لا تضر الله عز وجل.
إذاً: فعذابه لذلك الظالم أو لذلك العاصي إنما هو يعدله سبحانه، وإنما هو جزاؤه عند ربه على معصيته التي عصى بها، لكن الله تبارك وتعالى عدلاً منه ورحمة وعد ألا يعذب إلا العاصي، بل مجمل العصاة يدخلون في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
قال: [ولو رحمهم -أي: أهل السماوات والأرض- كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم].
فلا يقولن أحد معكم: لا، فأنا أدخل الجنة بعملي! فقد أخرج الحاكم في مستدركه حديثاً لا بأس به، وهو حسن في الشواهد: (أن رجلاً عبد الله ستمائة سنة، فلما مات أوقفه الله عز وجل بين يديه، وقال: عبدي تدخل الجنة بعملك أم برحمتي؟ فقال: بل يا رب! بعملي -وهنا يظهر لنا مدى سعة رحمة الله عز وجل- فقال الله عز وجل: عبدي من قواك على طاعتي؟ -من الذي أعطاك الصحة التي عبدت بها؟ - قال: أنت يا رب!).
إذاً الأصل في الرحمة هو الله عز وجل، ثم عدد الله عز وجل عليه نعمه حتى بلغ إلى نعمة النظر، فأمر الله ملائكته أن يضعوا عبادة ستمائة سنة في كفة ونعمة النظر في كفة لوحدها، فطاشت بتلك العبادة، وثقل الميزان بنعمة النظر، مع أن الأعمى له أن يعبد الله تبارك وتعالى على تلك الحال، بخلاف المريض أو المكسر أو المكسح، فإنه لو نام في الفراش فربما لا يقدر أن يصلي، وكذلك لو ذهبت منه نعمة العقل فإنه لا يستطيع أن يأتي بطاعة لله عز وجل، وليس مكلفاً بطاعة؛ لأنه ليس من أهل التكليف.
وبعد أن رأى العبد أن عبادته لا تساوي نعمة واحدة، مع أن نعم الله لا تعد ولا تحصى.
قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي(38/11)
حديث ابن عباس: (احفظ الله يحفظك)
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ردفت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً -أي: كنت خلفه على الدابة- فأخلف يده ورائي)]، أي: أنه أتى بيده من ورائي، وكأنه يحضنه من الخلف.
[(فقال: يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟)]، ومعلوم أنه سينفع ابن عباس بهذا وينفع الأمة كلها؛ لأن الخطاب وإن وجه إلى الصحابة بالدرجة الأولى إلا أن الأمة معنية بهذا الخطاب، فالخطاب عام للأمة كلها.
قال: [(يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ احفظ الله يحفظك)].
أي: لو حفظت الله تبارك وتعالى في قلبك وجوارحك، وفي طاعتك، وفي إحسانك، وفي كرمك، وفي أدبك، وفي المحافظة على الفرائض والنوافل والسنن، فإن الله تبارك وتعالى سيحفظك ويوفقك إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
قال: [(احفظ الله تجده أمامك)]، أي: تجده أمامك ولا يمنع هذا أنك تجده أمامك على الحقيقة برحمته وفضله وإحسانه وجوده، [(وإذا استعنت فاستعن بالله)].
وهذه هي عقيدة التوكل على الله عز وجل، والتي غابت من حساب معظم الأمة، فالواحد إذا أراد أن يقضي مصلحة فكر أولاً بالوسيط من البشر، ولا يعتمد أول الأمر على الله تعالى.
وقد حدثتني امرأة قبض على زوجها، فقالت: ما تعرف فلاناً وفلاناً؟ فقلت: لا أعرفهم.
قالت: إن زوجي حينما أعطاني أرقام التليفونات هذه قال لي: أول ما يعتقلوني اتصلي بالناس هؤلاء، فلن يخرجني من المعتقل إلا هم! فإذا كانوا لا يُخرجوك إلا هم فمن الذي أدخلك؟ بل إنك دخلت بقدر وسوف تخرج بقدر طال الزمن أم قصر، والناس هؤلاء إنما هم سبب فقط، ولذلك الاعتماد على الأسباب اعتماداً كلياً شرك بالله عز وجل، كما أن ترك الأسباب قدح في التوحيد، ولو كان ترك الأسباب أمراً مشروعاً فهل تستطيع إنجاب الولد بغير زوجة، والشبع بغير طعام، والري بغير شراب؟ مستحيل.
وعليه فلا تقل: إن الجنة هذه لو كانت بقدر، وأن هذا مكتوب وجف به القلم فأنا لا أشتغل! إذاً فنحن نريدك أن تشبع دون أن تأكل، ونريدك أن تأتنا بالولد دون أن تتزوج وأنت لا تستطيع ذلك.
إذاً: الأسباب مسألة ضرورية ومهمة جداً.
قال: [(وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، رفعت الأقلام وجفت الصحف)].
أي: جف القلم الذي أمره الله عز وجل بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلن يكتب شيئاً بعد ذلك، فأول ما خلق الله خلق القلم فقال له: أقبل فأقبل.
فقال له: اكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة.
قال: [(لو جهدت الأمة)]، أو [(لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء)].
وليس الضابط الفلاني، أو المدير الفلاني، وإنما الأمة بجميع فئاتها ومستوياتها، ووالله العظيم لو اعتقدت هذا لكنت أسعد الناس، وتمشي مطمئناً وتدخل النار وتخرج من الناحية الأخرى، وإذا قدر الله عز وجل لك الحرق ستُحرق، وليس معنى ذلك أن تذهب بنفسك إلى النار؛ لأن من الأسباب ألا تدخل النار، لكن إن ألقاك أحد في النار فاعتقادك وأنت فيها أن هذه النار هي من قدر الله عز وجل، وإن أمرها أن تكون برداً وسلاماً عليك كما كانت على إبراهيم، فلا يسعها إلا سماع أمر الله عز وجل، وإن قدر لك الحرق ستُحرق بقدر، ويؤتى بك يوم القيامة شهيداً؛ لأن من مات بالحرق شهيد، ولكن ليس المنتحر.
قال: [(لو جهدت الأمة على أن ينفعوك بشيء قد كتبه الله لك، ولو جهدت الأمة ليضروك بشيء قد كتبه الله عليك)].
فلا يكون إلا ما قدره الله.(38/12)
حديث أبي سعيد: (ألا أعلمك لعل الله ينفعك)
قال: [عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! ألا أعلمك لعل الله ينفعك؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله يكن أمامك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، تعرف إلى الله في الرخاء)]، وهذه مصيبتنا اليوم، إذ إننا نتعرف إلى الله في الشدة، وحينما نخرج من هذه الشدة ننسى الله عز وجل وننسى طاعته وأمره ونهيه.
قال: [(تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، جرى القلم بما هو كائن)].
أي: أن القلم كتب كل شيء.
قال: [(فلو أن الناس اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يعطك الله لم يقدروا عليه)].
أي: لو أنك أتيت بمليون لواء ليخرجوك من الحبس فلا يمكن ذلك، إلا إذا كان مقدر في اللوح المحفوظ أنك ستخرج منه بسبب فلان وفلان.
قال: [(ولو أن الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئاً قدره الله لك وكتبه لك ما استطاعوا)].
فالمدير حين يقول لك: إذا لم تلتزم بعملك سأفصلك وأقطع عيشك ورزقك، فقل له: أنت كذاب.
وليس معنى هذا أنه حين يفصلك من العمل أنك تأتيني وتقول لي: شغلني.
فالشغل ليس بيدي وإنما بيد الله، فلا تحملني مسئوليتك.
وقد حصل لي مثل هذا، جاء رجل فقال: إن المدير قال له: صل الظهر مع العصر حينما تذهب.
فقال له: وهل أنا مسافر لكي أصلي الظهر والعصر جمع تأخير؟ الكلام هذا غير صحيح.
فقال له: سنقطع عيشتك من هنا.
قال له: أنت كذاب، فطرده.
إذاً: كان قوله له: (أنت كذاب) بقدر، ولو لم يكن مكتوب لما قالها، وحينما طرد الرجل هذا من الشغل كان أيضاً بقدر، فهل أنت تسأل الله عز وجل أم لا؟ وهل تريد أن تدخل الجنة من غير ابتلاء؟ إن هذا الرجل يحاربك في أصل دينك فكيف تقعد معه؟ أنت مطالب أن تصاحب الخليل الذي هو على مثل نهجك وإيمانك، (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل).
ففي هذه الحالة حينما تخرج من شغلك لا تأت إلي في مسجد الرحمة فتقول: أنت قلت لي أن أقول للمدير: أنت كذاب! وأنا الحمد لله خرجت فابحث لي عن شغل.
سأقول لك: أنا آسف، فهذا الشغل ليس لي ولكنه رزق من السماء، والمطلوب منك أن تسعى، والله تبارك وتعالى سيرزقك.
وقد قابلت أنا والشيخ عبد الفتاح الزيني رجلاً نصرانياً أسلم، ووالله إنه ليأكل من القمح الذي يُلقى للحمام في المسجد الحرام، ويقول: لا يمكن أقبل شيئاً من أحد، فأنا أسلمت لله عز وجل فقط لا لأحد.
ونحن الآن نرى أناساً ممن أسلموا في الشارع وورق إشهار إسلامهم في أيديهم يتسولون بها، وهذا المنظر في الحقيقة يغيظني جداً، والذي يسألني بإسلامه وإيمانه وتحوله من الكفر إلى الإسلام أنهره نهراً شديداً جداً، ولا أملك نفسي قط، والذي لا أملك نفسي أمامه من باب أولى أنه لا يزال حديث عهد بالإسلام، فيأتي يقعد على الكرسي ويحدث مشايخ المسلمين ويحدث علماءهم وطلاب العلم.
ما هذا؟ أنت لا تزال حديث عهد بالإسلام، وعمرك في الإيمان والإسلام يوم واحد، ثم تأتي الآن وتحدثنا عن محاسن الدين الإسلامي؟! يجب عليك أن تقعد وتبرك عند الركب ثلاثين عاماً حتى تتعلم دينك، كما قد تجد الجماعة الفلانية أو الجماعة العلانية تقول لك: أسلم المفكر الإسلامي العظيم، والذي عمل كذا وكذا، ثم من اليوم التالي يأتي ليلقي دروساً في المساجد! والله المستعان.(38/13)
حديث عبادة بن الصامت في القدر
قال: [عن عطاء بن أبي رباح قال: سألت ابن عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟] وعبادة بن الصامت رضي الله عنه من كبار الصحابة.
[قال: جعل يقول: يا بني اتق الله! واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده، وتؤمن بالقدر خيره وشره].
فيأمره بتقوى الله، ثم يقول له: إنك لا تستطيع أن تبلغ تقوى الله إلا بالعلم؛ إذ كيف تتقي الله وأنت لا تعرف الله عز وجل، ولا تعلم ما تتقي ومن تتقي؟ فكيف تكون تقياً أو متقياً وأنت لا تعلم من تتقي أو ما تتقي؟ ثم أمره بالتوحيد، وعلى رأس التوحيد والإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره.
[قلت: يا أبتي كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإن مت على غير هذا دخلت النار].
أي: أن تعلم أن ما أصابك من خير فلن يفوتك، وما فاتك فلا يستطيع أحد أن يجلبه إليك، وهذا مجمل اعتقادنا في القدر.
قال: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب.
فقال: ما أكتب؟ فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد)].(38/14)
حديث: (سيكون في أمتي قوم يكفرون بالله)
قال: [عن عطاء بن أبي رباح: كنت عند سعيد بن المسيب جالساً فذكروا رجالاً يقولون: إن الله قدر كل شيء ما خلا الأعمال].
أي: أن كل شيء من قدر الله إلا الأعمال.
وتصور حينما يسمع البخاري عليه رحمة الله شيئاً كهذا، فينتفض وينبري قلمه للرد على من اعتقد ذلك بتأليف كتاب كامل مسند اسمه: (خلق أفعال العباد)؛ ليرد على هؤلاء الذين يقولون: إن الله عز وجل قدر كل شيء إلا الأعمال.
قال عطاء: [فوالله ما رأيت سعيداً غضب غضباً أشد منه حتى هم بالقيام.
فقال: ثم سكت.
ثم قال: تكلموا به؟ أما والله لقد سمعت فيهم حديثاً كفاهم به شراً، ويحهم لو يعلمون! قال: قلت: رحمك الله وما هو؟ قال: حدثني رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون)].
إذاً: فالذي يُنكر القدر ولو في جزئية من جزئياته فإن حكمه أنه كذب الله، وكفر بالله، وكفر بكلام الله عز وجل، وهو القرآن والسنة.
[قال: قلت: (يقولون ماذا يا رسول الله؟)].
أي: ما هو سبب كفرهم هذا؟ [(قال: يقولون الخير من الله، والشر من إبليس)].
وفي هذا الزمان الكثير من الناس يقولون هذا، والقدرية يقولون هذا، بل هم أصل هذا البلاء، [(يقولون: الخير من الله، والشر من إبليس، ويقرءون على ذلك كتاب الله، ويكفرون بالله وبالقرآن بعد الإيمان والمعرفة، فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء، ثم يكون المسخ فيهم عاماً، أولئك قردة وخنازير، ثم يكون الخسف قل من ينجو منهم)]، أي: أن المسخ والخسف قائم في الأمة، وهذا من علامات الساعة، والمسخ أن يُمسخ البشر قردة وخنازير على الحقيقة، وهذا مذهب من المذاهب، وأن الإنسان يتحول إلى خنزير أو يتحول إلى قرد، وذلك كعقوبة من الله عز وجل لا أن أصل الإنسان قرد، وإنما يتحول بعد أن يخلقه الله تعالى آدمياً مكرماً معززاً، فيعيش في وحل المعاصي، فالله تبارك وتعالى يعاقبه بأنه يجعله قرداً أو خنزيراً.
وإذا كان هذا المسخ على الحقيقة -وهو مذهب كثير من أهل العلم- فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: صعدت جداراً قد مسخ الله تبارك وتعالى أهل هذا الجدار بسبب معاصيهم، فلما نزلت على سلم أقبلوا إلي، إذ إنهم يعرفونني ولا أعرفهم.
لأنهم خنازير وقردة.
ولذلك فهذا مذهب كثير من أهل العلم أن المسخ حصل على الحقيقة في صدر هذه الأمة، والسند إليه فيه نزاع، والراجح أنه حسن، ذكره الحافظ ابن كثير، وذكر كلاماً كثيراً جداً وعظيماً حول تفسير المسخ.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يسبق أحدكم الإمام فإن من سبق إمامه حول الله رأسه رأس حمار، وصورته صورة حمار).
والحديث في صحيح البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: وما المانع أن يحول الله تعالى رأسه رأس حمار على الحقيقة، فيكون بدنه بدن آدمي ورأسه رأس حمار؛ لأن العقوبة وقعت على الرأس دون غيره كما في الحديث، ولأن أول ما يتحرك من المأموم رأسه، وهو الذي يفكر به، فالله تبارك وتعالى يمسخه ويجعله في صورة حمار على الحقيقة.
قال: وربما قصد بذلك مسخه من جهة الفكر والحس، فيكون بليداً كالحمار.
ولو كانت القضية هكذا لامتسخت معظم الأمة والله العظيم، فهو لا يمكن أن يكون هذا دين الله عز وجل الذي نحياه الآن، وهذه حياة المسلمين تعج ليلاً ونهاراً بالمعاصي، فهل هذه الحالة الآن يرضاها الله عز وجل أم هي دينه، أو ربع دينه؟ لا يمكن، بل ولا جزء من مليون جزء من دين الإسلام الذي نحن عليه الآن.
إذاً هذه الأمة ممسوخة، وامش مع واحد تجده يمشي مع امرأته على اليمين وبناته على الشمال عاريات كما لو كانوا يمشون في شوارع نيويورك وأمثالها، ويتبجح ويتحامق ويقول إنه مسلم، أو أنه موحد.
وآخر يفرغ من صلاة الجماعة ثم يجد امرأته تنتظره في السيارة عريانة! ألم تكن قبل قليل تعبد الله عز وجل؟ إن الذي أمرك أن تعبده أمرك أيضاً أن تستر امرأتك.
فيقول لك: أنا حر في امرأتي! فلها أن تمشي عريانة، فالذي أمرك بالصلاة هو الذي يأمرها أن تأمر امرأتك بالحجاب والنقاب، ثم يقول لك: لا تأتي بسيرة امرأتي فهي شريفة! إلى غير ذلك من حماقة وجهل وقلة أدب وسفالة.
وعندما تأتي لمناقشته في عقيدته تجده زبالة القوم وحثالة القوم، فتجده لا يقع إلا على كل ساقطة ولاقطة، فهذا واحد يقول: ليس هناك شفاعة في الإسلام، فيوافقه آخر فيقول: هذا كلام منطقي.
وآخر يقول: ليس هناك عذاب قبر، فيوافقه آخر أيضاً فيقول: صحيح.
وهل هناك عذاب في الدنيا وفي الآخرة؟! وآخر يقول: لا وجود للملائكة، فنحن لا نؤمن بالملائكة إلا بملك نراه.
فيقول: صحيح.
وما هي الحكمة من إخفاء الله عز وجل لملائكته؟! فتصور أن هذه هي حال المسلمين! وقل أن تجد رجلاً في الأمة كما أراد الله عز وجل وخاص(38/15)
حديث: (لا يجربني عبدي)
قال: [عن الزهري عن ابن طاوس عن أبيه قالا: لقي عيسى بن مريم إبليس -وهذا كلام للاستشهاد لا للاحتجاج- فقال: أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قُدر لك؟ فقال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل -أي: اطلع هذا الجبل- فترد منه فانظر أتعيش أم لا؟].
وانظر إلى إبليس وهو يقول لعيسى: أنت تعتقد أنه لا يصيبك إلا ما كُتب لك، إذاً فاصعد الجبل هذا وارم بنفسك من أعلاه، وانظر هل تعيش أم تموت؟ [قال ابن طاوس عن أبيه قال: أما علمت أن الله تعالى قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت.
قال: فقال الزهري: إن العبد لا يبتلي ربه].
أي: يختبر ربه، فيصعد الجبل ثم يرمي بنفسه من أعلاه، ففي هذا الاختبار سوف يموت.
ثم قال: [ولكن الله يبتلي عبده.
قال: فخصمه].
أي: عيسى عليه السلام غلب إبليس.(38/16)
حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع)
قال: [عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله بعثني بالحق، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر)].(38/17)
حديث: (لن يؤمن من لم يؤمن بالقدر)
قال: [وعن شداد قال: خرجت مع ابن عمر إلى السوق فكان أكثر كلامه مع من لقي: سلام عليكم، تعوذوا بالله من قدر السوء].
أي: أن يكون الله قدر لنا سوءاً وشراً، وهذا يعني أن القدر السيئ والشر أيضاً من الله عز وجل.
[قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لن يؤمن من لم يؤمن بالقدر خيره وشره)].(38/18)
سياق ما روي في النهي عن الكلام في القدر والجدال فيه والأمر بالإمساك عنه
قال: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر: (أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج على الصحابة وهم يتنازعون في القدر هذا ينزع آية وهذا ينزع آية)].
أي: يتخاصمون، فهذا يأتي بآية يثبت بها القدر، وهذا يأتي بآية ينفي بها القدر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً [(فكأنما فقي في وجهه حب الرمان)].
أي: غضب حتى احمر وجهه.
[فقال: (بهذا أمرتم؟ أو بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ أنظروا إلى ما أُمرتم به فاتبعوه، وما نُهيتم عنه فاجتنبوه)].
[عن علي بن أبي طالب أنه سئل: يا أبا الحسن! ما تقول في القدر؟ قال: طريق مظلم فلا تسلكه].
أليسوا هؤلاء هم السلف؟ إذاً فالذي يتكلم بالقدر بكلام طويل لا بد وأننا نقول: إن هذا المنهج خلاف ما كان عليه السلف، فأنت مطلوب منك أن تؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه من عند الله.
[فقال: يا أبا الحسن! ما تقول في القدر؟] وهنا يكرر السؤال مرة أخرى.
فقال: بحر عظيم فلا تلجه.
فقال: يا أبا الحسن! ما تقول في القدر؟ فقال: سر الله فلا تكلفه].
أي: أن القدر هو سر الله تعالى في الخلق، فلا تتكلف الدخول فيه.
قال: [عن عمر قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)].
أي: إذا لقيتهم في طريق فاسلك طريقاً آخر، وليس أن تقول: إن هؤلاء عندهم شبهة في القدر فتذهب لمناقشتهم، وتقيم عليهم الحجة، ثم حين تذهب لمناقشتهم ترجع وتقول: فعلاً عنده حق.
وهذه عقوبة من الله عز وجل حول بها قلبك وعقلك وفكرك؛ لأنك خالفت أمره.
ودائماً تجد أهل البدع يتخصصون في بدعتهم فقط، وإن شئت فقل: هو أضل من حمار أهله، فلو ناقشته في الصلاة أو الصوم فإنه لا يعرف شيئاً، فحياته كلها وهمه اجتمع في معرفة القدر وشبهات الخصم والرد عليها، وتكلف تأويل النصوص التي وردت في هذا الباب.
ولذا أريد أن أقول: إنه يعرف كل شيء عن بدعته، فإذا كنت أنت ليس لديك الوقت لأن تعرف في مسألة واحدة مليون دليل وأنت الآن تؤمن بأن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، فلو قلت لك: أعطني دليلين اثنين على ذلك، فإنك لن تستطيع.
فعندما تجلس عند واحد من هؤلاء، كـ إسماعيل منصور ذلك المبتدع الضال الذي كان سنياً، ولعله ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (ولعل أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
فالقلوب بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء، ويختم لمن يشاء بخاتمة السعادة، ويختم لمن يشاء بخاتمة الشقاوة، فاللهم سلم يا رب.
فهنا حينما تذهب إلى واحد قد ألف أن القبر ليس فيه عذاب ولا نعيم، فإنه سيغلبك عندما تناقشه؛ لأنه رجل متخصص في بدعته، ولذا فإن إسماعيل منصور ما تحول إلى مبتدع إلا لدخوله في مناظرات أهل البدع دون أن يتخصص فيها، فقد دُعي للسفر إلى أمريكا ليناظر رجلاً يدعي الألوهية، فلما أتى ما في جعبته ولم يستجب ذلك الإله المزعوم تحول إلى رجل آخر يدعي النبوة، فتأثر ببعض ما عنده، وما تلك النوازح التي تنزح من بئر إسماعيل منصور إلا من مخلفات النقاش مع المجرم الكبير رشاد المصري الأمريكي الذي زعم أنه لا إله، وأنه نبي ملهم.
قال: [عن ابن سيرين قال: إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله، فلا أدري من هم؟].
قال: [عن ابن عباس قال: باب شرك فُتح على أهل الصلاة: التكذيب بالقدر] أي: فُتح على أهل القبلة وأهل الإيمان باب من أبواب الشرك، وهو الخوض في القدر [فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم].
أي: لا تناظروهم ولا تخوضوا معهم حتى لا تتأثروا بهم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.(38/19)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أدلة السنة في إثبات القدر [2]
معتقد أهل السنة والجماعة في القدر أن الله عز وجل يكتب أعمال العباد وأعمارهم وآجالهم وهم لا يزالون في الأرحام، فما من عبد إلا وقد حدد له مصيره إما أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة، إلا أن ذلك لا يمنع صاحب العقيدة السليمة من العمل والسعي فكل ميسر لما خلق له.(39/1)
بعض الأحاديث الواردة في القدر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد تكلمنا عن القدر في الدروس الماضية، وقلنا: إن القدر ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وسردنا الآيات التي تدل على إثبات القدر، ومنها قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20].
ومنها قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وغير ذلك من الآيات.
كما ذكرنا بعض النصوص الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن النبي عليه الصلاة والسلام الدالة على إثبات القدر، بل وعن السلف كذلك، ويبقى أن نسرد شيئاً منها في هذه المحاضرة والمحاضرات التي تليها، مع بيان مخالفة القدرية والجهمية وبعض المعتزلة وغيرهم لأهل السنة في ذلك.(39/2)
حديث أبي هريرة في احتجاج آدم وموسى وذكر بعض رواياته
أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(احتج آدم وموسى -أي: صارت بينهما محاجة، فصار أحدهما يقيم الحجة على صاحبه- فحج آدم موسى -أي: فغلب آدم بحجته موسى عليه السلام- فقال موسى: أنت خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض)].
يعدد نعم الله عز وجل، ثم يقول: وبسبب خطيئتك أهبطت الناس من الجنة، أو من السماء إلى الأرض.
قال: [(قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟ -أي: بكم سنة وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ - قال موسى: بأربعين عاماً)].
أي: أنه موجود في التوراة التي بيد موسى عليه السلام والتي خطها الله عز وجل وكتبها بيمينه أن آدم سيفعل ذلك، وهذا مكتوب على آدم قبل أن يُخلق بأربعين عاماً.
قال: [(قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى؟).
أي: هل هذا مكتوب في التوراة التي بين يديك؟ (قال: نعم.
قال: فتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة)].
أي: أنت تلومني على عمل مقدر ومكتوب عليَّ قبل أن يخلقني الله بأربعين عاماً.
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى)].
أي: أقام عليه الحجة وغلبه، فكانت الحجة لآدم، وهو أول من أثبت من البشر حجية القدر، وأن كل شيء بقدر قبل أن يُخلق المرء.
وليس في هذا الحديث حُجة لأهل المعاصي؛ لأن آدم تاب وأناب ورجع إلى ربه، وإلا لكان لإبليس حُجة كذلك.
أجمع أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ومن قبل ضربنا عدة أمثلة على ذلك، منها: ذلك الرجل الذي زنا وجيء به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليقيم عليه الحد.
قال: يا أمير المؤمنين! أتحدني في أمر قد قدره الله عز وجل علي؟! قال: نعم.
نحدك بقدر الله عز وجل.
أي نقيم عليك الحد بقدر الله، فالذي قدر عليك المعصية هو الذي قدر عليك إقامة الحد.
إذاً: ذاك بقدر، وهذا أيضاً بقدر، وغير ذلك من النصوص التي تثبت هذا المعنى.
ومنها: امتناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الدخول إلى القرية التي سمع أن بها طاعوناً، فلقيه رجل وهو قافل، فقال: يا عمر أتفر من قدر الله؟ قال: نعم.
نفر من قدر الله إلى قدر الله.
فالدخول بقدر، والخروج أيضاً بقدر، الإقدام بقدر، والإحجام كذلك بقدر؛ لأن المرء لا يخطو خطوة واحدة إلا إذا أذن الله تبارك وتعالى له بها.
فهنا آدم يختلف عن إبليس، فإبليس عصى وغوى واستمر في غوايته وأضل غيره ولم يتب، فكان جزاؤه النار، وأما آدم عليه السلام فعصى وغوى، لكن بعد أن عصى وغوى وأهبط إلى الأرض تاب إلى الله عز وجل، وعليه فالاحتجاج بالقدر على المعصية سبيل الشيطان، وليس في هذا الحديث حجة لذلك؛ لأن آدم قد تاب، فمن وقع في معصية وتاب منها إلى الله عز وجل وتفطر قلبه حسرة وندماً على ما بدر منه وفرط، فله بعد ذلك أن يحتج.
ومعنى ذلك أنه لا يُعاقب في الآخرة، بل هو تحت مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه، لكن الله تعالى بفضله ورحمته وكرمه ومنه وعدنا أن من تاب توبة نصوحاً من ذنبه أنه عز وجل يتوب عليه، بل ربما كافأه بحسن توبته أنه يبدل سيئاته حسنات، لكن بشرط: إحسان التوبة.
أي: أن يتوب توبة نصوحاً بحيث يتفطر قلبه، ويندم ندماً شديداً جداً على ما بدر منه، ثم يعزم على عدم العودة إلى ما وقع منه من معاص وآثام، وكذلك آدم عصى ثم تاب، واحتج بالقدر بعد التوبة.
ولك أن تحتج بالقدر كما احتج آدم على المعصية، لكن هذا لا يكون إلا بعد التوبة.
فلا تكن جريئاً على الله عز وجل، فإذا زنى رجل تقول: الزنا بقدر، ومثلها السرقة، فتقول: لو لم يكن الله مقدراً علي أن أسرق لما سرقت.
فهذه الصورة لا تجوز في الشرع؛ لأنك الآن تحتج مطلقاً بالقدر على المعاصي، وهذا ليس مسلكاً لأهل الإيمان، وإنما هو مسلك أهل الجحود والنكران.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاج آدم وموسى: فقال موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض؟! فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاك الله عز وجل كل شيء، واصطفاك على الناس برسالته؟ قال: نعم.
قال: تلومني على أمر قد كان كتب علي قبل أن أفعله من قبل أن أُخلق؟ فحج آدم موسى)].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(حج آدم موسى: قال: أنت آدم أبو البشر الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟)].
وانظر كيف أن موسى كانت فيه حدة خاصة على أبيه آدم عليه السلام؟! قال: [(فقال: نعم)].
أي: اعترف بذلك.
قال: [(فقال: أنت موسى الذي اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه؟ قال: بلى.
قال: ألست تجد فيما(39/3)
حديث جندب بن جنادة في احتجاج آدم وموسى
قال: [عن جندب أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقي آدم موسى: فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ثم فعلت ما فعلت، وأخرجت ذريتك من الجنة؟ قال: وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وكلمك وقرأك التوراة، فأنا أقدم أم الذكر؟ -أي: في الإيجاد- فقال: بل الذكر)].
أي: الذكر الذي نزل على موسى، رغم أن موسى بعد آدم، بل بعد نوح، وبين نوح وآدم عشرة قرون، أي: ألف عام، وبين نوح وموسى عليه السلام مسافة عظيمة جداً كذلك من الزمن.
[فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى)].
على اعتبار أن هذا مكتوب في التوراة.(39/4)
إجماع الصحابة على إثبات القدر وإنكارهم على من ينكر ذلك(39/5)
رواية يحيى بن يعمر لحديث ابن عمر في إنكاره على القدرية
قال: [وعن يحيى بن يعمر -البصري- قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق -أي: فيه مراهقة وشغب- وكان يتوثب على جيرانه].
أي: يبغى عليهم ويظلمهم ويسرقهم، وهكذا أهل البدع دائماً يكون تاريخهم أسود، فعندما تبحث عن تاريخه تجد تاريخاً لا تطمئن إليه أبداً.
قال: [ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقص على الناس -أي: أنه كان أيضاً قصاصاً- ثم إنه صار من أمره أنه زعم: أن العمل أنف، من شاء عمل خيراً ومن شاء عمل شراً].
أي: أن الذي يريد أن يعمل خيراً يعمل، والذي يريد أن يعمل شراً يعمل، فالله لا يعرف شيئاً إلا بعد أن يقع! قال يحيى بن يعمر: [فلقيت أبا الأسود الدؤلي فذكرت ذلك له.
فقال: كذب ما راينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُثبت القدر].
وهذا يدل على إجماع الصحابة على إثبات القدر؛ لأن الله تعالى عليم بكل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض.
قال: [ثم إني حججت وحميد بن عبد الرحمن الحميري، فلما قضينا حجنا وكنا -أي: بالمسجد الحرام- قلنا: نأتي المدينة فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألهم عن القدر -وهذا الكلام كان بالبصرة؛ لأن أول ما نشأت وانتشرت هذه البدعة في البصرة- فلما أتينا المدينة لقينا أناساً من الأنصار، فلم نسألهم، قلنا حتى نلقى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري] وهذا يدلك على أن هذه الفتنة كانت في أوائل عهد الصحابة؛ لأن ابن عمر وأبا سعيد الخدري كانوا من صغار الصحابة، وكون يحيى بن يعمر وحميد يبحثان عنهما يدل ذلك على أنهما يبحثان عن كبار الصحابة في ذلك الوقت، وإلا لو كانت هذه الفتنة في أول عهد الصحابة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة لكانوا بحثوا عن أبي بكر أو عمر أو أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، لكن حينما نأتي لننظر إلى ابن عمر أو أبي سعيد الخدري ثم ننظر إلى الصحابة الآخرين نجد أن هؤلاء كانوا صغاراً، فمثلاً ابن عمر في غزوة بدر وأحد كان عمره أربع عشرة سنة، وقد ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليجيزه للقتال، ولم يجزه؛ لأنه ما كان يجيز أحداً إلا إذا بلغ خمسة عشر عاماً.
ومعنى هذا أنه كان من صغار الصحابة، ولذا فعندما يأتي واحد من البصرة يريد ابن عمر بالذات فلا بد أن يكون ابن عمر في ذلك الوقت كبيراً في السن والشأن، ولا يكون هذا إلا في أواخر عهد الصحابة.
قال: [فلقينا ابن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله.
قال: قلت: تسأله أو أسأله؟ قال: لا.
بل أسأله؛ لأني كنت أبسط لساناً منه -وفي رواية: وكنت أحد منه لساناً- قال: قلت يا أبا عبد الرحمن -وهذه كنية عبد الله بن عمر - إن ناساً عندنا بالعراق قد قرءوا القرآن، وفرضوا الفرائض -أي: التزموا بالفرائض- وقصوا على الناس، يزعمون أن العمل أنف، من شاء عمل خيراً ومن شاء عمل شراً.
قال ابن عمر: فإذا لقيتم ذلك فقولوا: يقول ابن عمر: هو منكم بريء، وأنتم منه براء، فوالله لو جاء أحدهم من العمل بمثل أحد ما تُقبل منه حتى يؤمن بالقدر.
وفي الحديث الصحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر).
ثم قال: [لقد حدثني عمر -وهو أبوه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى لقي آدم فقال: يا آدم أنت خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار)] أي: لولا الخطيئة التي فعلتها ما دخل أحد من ذريتك النار، وإنما كلهم كانوا سيدخلون الجنة.
قال: [(فقال: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، تلومني بما قد كان كُتب علي قبل أن أُخلق؟ فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى)].
قال: قال -أي: ابن عمر - لقد حدثني عمر أن رجلاً في آخر عمر النبي عليه الصلاة والسلام جاء إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله أدنو منك؟ -وانظروا إلى هذا الأدب الشديد، أدب المتعلم بين يدي المعلم- قال: نعم.
قال: فجاء حتى وضع يده على ركبته -أي: حتى وضع هذا السائل يده على ركبته هو، لا على ركبة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا يتنافى مع أدب العالم والمتعلم- فقال: ما الإسلام؟ قال: تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: نعم.
قال: صدقت)].
ومن شأن السائل أنه جاهل، فلا يصدق المجيب ولا المفتي ولا المسئول، ولذلك قال عمر: [(قال: فجعل الناس يتعجبون منه يقولون: ا(39/6)
رواية ابن بريدة لحديث ابن عمر في إنكاره على القدرية
قال: [عن ابن بريدة قال: قدمنا المدينة فأتينا عبد الله بن عمر فقلنا: يا أبا عبد الرحمن إنا بأرض قوم يزعمون أن لا قدر.
فقال: من المسلمين هم؟ ممن يصلي إلى القبلة؟ قلنا: نعم ممن يصلي إلى القبلة.
قال: فغضب حتى وددت أني لم أكن سألته.
ثم قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه براء].
أي: أنهم ليسوا مني ولست منهم، ومعنى هذا أنهم ليسوا من المسلمين، ولا المسلمين يمتون لهم بصلة، فالحبل الذي بينهم قد انقطع، ولذلك إجمع الصحابة على أن من تكلم في القدر كافر خارج عن ملة الإسلام وخاصة هؤلاء الغلاة.
[ثم قال: إن شئت حدثناك عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فقلت: أجل.
قال: (كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام فأتاه رجل حسن الثياب طيب الريح حسن الوجه.
فقال: السلام عليكم يا رسول الله.
قال: وعليك.
قال: يا رسول الله أدن منك؟ قال: ادن.
فقلنا: ما رأينا كاليوم رجلاً أحسن ثوباً ولا أطيب ريحاً ولا أحسن وجهاً ولا أشد توقيراً للنبي عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: يا رسول الله أدن منك؟ قال: نعم.
فدنا منه نبذة)].
أي: اقترب منه اقتراباً، وكلمة (نبذة) تفيدنا فائدة وهي: أنه لم يقترب منه حتى لزق ركبته إلى ركبته، ولذا إذا قال بعد ذلك: حتى وضع كفيه على فخذيه، فيكون الذي وضع كفيه على فخذيه هو جبريل؛ لأنه لم يلزق فيه لزوقاً، وإنما دنا منه نبذة.
أي: اقترب منه شيئاً يسيراً.
قال: [(فقلنا مثل مقالتنا.
ثم قال الثالثة: أدن منك يا رسول الله؟ قال: نعم.
فدنا حتى ألزق ركبته بركبة النبي عليه الصلاة والسلام.
فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتغتسل من الجناية.
قال: صدقت.
قال عمر: (فقلنا ما رأينا كاليوم رجلاً كأنه يعلم رسول الله، -أي: كأنه هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس جاهلاً، ثم تبين بعد ذلك أنه فعلاً معلم- ثم قال: وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والملائكة، والكتاب، والنبيين، والقدر كله خيره وشره، حلوه ومره)].
إذاً: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس والمعاصي، لكن الذي قدر المعاصي على العبد قدر لها عقوبة وحداً، فتكون المعصية بقدر الله، ويكون الحد أو العقوبة بقدر الله.
[قال: (صدقت.
فقلنا: والله ما رأينا كاليوم قط فوالله كأنه يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ما المسئول بأعلم بها من السائل.
ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل -أي: اتبعوا هذا الرجل- قال عمر: فقمنا بأجمعنا نطلب الرجل فطلبناه فلم نقدر عليه)].
لأنه بمجرد ما إن خرج من المسجد وغاب عن أعين الناس رجع إلى طبيعته التي خلقه الله عليها، وحجب عن الصحابة، فهو يراهم لكنهم لا يرونه.
وتأمل حينما قال لهم: علي بالرجل.
لم يعتذر أحد منهم؛ لأنه أمر.
[فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هذا جبريل جاء ليعلمكم دينكم، وما أتاني في صورة إلا عرفته قبل مرتي هذه)].
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أنه جبريل إلا بعد أن ولى.
وهناك أمارة أيضاً في صدر الحديث تقول: إن هذا الرجل ليس عادياً، حيث أن عمر يقول: (بينما نحن جلوس عند النبي عليه الصلاة والسلام إذ طلع علينا رجل).
ولم يقل إذ خرج علينا رجل، وهذا لا تنطبق على الرجال العاديين.
قال: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر).
أي: لا غبار عليه ولا تراب، فهو غريب عن المدينة، والمدينة كلها إنما هي عدة البيوت بين جبلين (لا يعرفه منا أحد، ولا يُرى عليه أثر السفر)، أي: أن هذا الرجل إما أنه أتى من الأرض أو أنه أتى من السماء؛ لأنه لو كان من المدينة لعرفناه، وهذا لم يعرفه منا أحد، ولو كان جاء من سفر لكان عليه أثر السفر، فليس في هذا الرجل أي علامة تدل على أنه أتى من سفر، إذاً فلا بد أن يكون رجلاً غير عادي.
وفي هذا أيضاً: جواز أن يرى المسلم أو المؤمن الملائكة، لكن على غير صورتهم التي خلقهم الله عز وجل عليها، فقد خلق الله جبريل له ستمائة جناح، والجناح الواحد يسد الأفق.
أي: أنك حين ترى جهة السماء لن ترى الشمس ولا النجوم ولا القمر، بل لن ترى شيئاً أبداً؛ بسبب جناح جبريل.
مع أنه لا يمكن أن تتصور مخلوقاً له ستمائة جناح، فإذا كان هذا جبريل فما بالك برب جبريل؟! لا يمكن لأحد أبداً، ولا يسمح له ولا يجاز له في أن يطلق خياله لأن يتصور الذات العلية سبحانه وتعالى.(39/7)
الروايات الواردة في إثبات كتابة مصير العبد قبل ولادته(39/8)
حديث ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)
قال: [عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق].
وانظروا إلى هذا الكلام الجميل، فهو عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق، حتى وإن كان الأمر لا تستوعبه عقولنا، لكن ما دام أن الذي حدثنا به هو النبي عليه الصلاة والسلام فهو صحيح.
ثم أرأيت إلى إيمان الصحابة؟ فإنه ليس كإيماننا، تجد الواحد منا قد يقول: الشفاعة هذه ليست معقولة، والجنة والنار ليستا بمخلوقتين، وربما قال: لا أؤمن بالجنة أو النار حتى أرى رجلاً من أهل النار يخرج علينا، لطلع لنا واحد من أصحاب النار بعد أن رأى النار بعينيه فيقول: كان أبوك فيقول لنا: آمنوا بالنار والجنة؛ لأنني أنا رأيتها رأي العين.
لكن من رحمة الله عز وجل أنه لا يبعث الموتى إلا يوم البعث، وترك الناس بعد أن أنزل لهم الكتب، وأرسل لهم الرسل، ورزقهم العقل الراجح الذي يميزون به بين الحق والباطل بين الصواب والخطأ.
إذاً: فكل يعمل على شاكلته، فالذي يعمل خيراً يجد خيراً، والذي يعمل شراً يجد شراً، حتى وإن كان هذا الكلام لا تستوعبه عقولنا؛ لأنه يخفى الشيء الكثير عنها -أي: عن عقولنا- فأمور الغيب كلها لا تستوعبها عقولنا.
أي: حينما نقيسها بالعقل فإننا لا يمكن أن نستوعبها، فمثلاً إذا كان القبر قطعة من الأرض متر في مترين، والكافر يُضرب فيها بمزربة عظيمة حتى يغوص في الأرض سبعين ذراعاً، فكيف هذا؟! إن هذه الأمور تريد قلوباً مؤمنة مسلمة تقول: يا رب سمعنا وأطعنا، وهذا هو الابتلاء في الإيمان.
وأما بالنسبة للابتلاء في البدن فهذه مسألة سهلة جداً، بل لا يوجد أسهل منها، فتُضرب وتتألم وتعلق وتكهرب، كل هذه أشياء بسيطة؛ لأنك في النهاية تخرج، ولا سلطان لأحد على قلبك، إنما لو كان هناك سلطان على قلبك فهذه هي المصيبة السوداء، فيتحول قلبك من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، أو من الثبات إلى الزعزعة والشك، فتدخل بها النار والعياذ بالله.
إنما السلطان على البدن إذا أرادوا أخذه فليأخذوه، أما القلب فلا يفرط فيه المسلم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- كان دائماً يدعو ربه بقوله: (اللهم ثبتني على الإيمان).
لأنه يعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولذلك يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.
فيأتي له واحد ويقول له: نريد منك أن تفتي في المسألة الفلانية بأنها حلال -وهي حرام- فيأتي بأدلة ونصوص ويلويها ليحلل هذه المسألة، أو يأتي بمسألة حلال فيحرمها.
مع أنه يتهيأ لي أن الشيطان لا يستطيع أن يفكر بهذه الطريقة، فيعجز أن يلوي نصوص الرحمن، وإلا حينما خاطب الله عز وجل إبليس كان إبليس صريحاً في جحوده ونكرانه وكفره، بينما هؤلاء ليس عندهم صراحة، والمنافقين لم يبلغوا هذا المبلغ أيضاً.
قال: [(إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك)].
كل هذا الكلام غيب، ولهذا ابن مسعود قال: أنا مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عندي علم بهذا وما يجري داخل رحم المرأة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتكلم إلا بالصدق، فهو صادق مصدق عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ثم يبعث إليه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه)].
ما الذي سيأخذه؟ وما هو الشيء الذي هو من نصيبه أو ليس من نصيبه [(وعمله)].
ماذا يعمل؟ حلال أم حرام؟ قد يعمل في الشركة الفلانية، ثم ينتهي عمله فيها، ثم يعمل في شركة أخرى.
[(وأجله)].
متى يموت؟ وكم يعيش؟ بالثانية الواحدة.
[(وشقي أو سعيد)].
ولذلك الذين يقولون: نحن الآن بالتكنولوجيا قد توصلنا إلى معرفة الجنين: أذكر أم أنثى؟ نقول لهم: لا بأس بهذا الكلام، والشرع لم يمنع منه، وإنما الإسلام تحدى أن تعرف كل شيء عن الجنين.
وأيضاً: مسألة الأجهزة التي تثبت الذكورة أو الأنوثة للجنين ليست صادقة في كل ما تقول، فربما تكون صادقة في معظم ما تقول، لكن قد تخطئ أحياناً، والذي لا يخطئ قط هو الله عز وجل.
ثم إذا علموا أنه ذكر أو أنثى فهل هذه الأجهزة تعلم شقاوته أو سعادته؟ هل تعرف أن هذا الجنين سيكون من أهل النار أم من أهل الجنة؟ لا تعرف.
وهل تعرف رزقه؟ أيضاً لا تعرف؛ لأن الأرزاق بيد الله عز وجل لا يعرفها إلا هو، كما أنهم لا يعرفون ماذا يعمل في المستقبل؟ لكن أحياناً الطبيبة تقول: أنا أعرف البنت هذه أو الابن هذا ماذا سيعمل؟ تقول لك: إنه طبيب مثلي، فهل جرت العادة على أن أبناء الأطباء مثل آبائهم؟ من الممكن أن يعمل عملاً آخر ممتهن وحقير، ويمكن أن يفقد عقله بشرب المخدرات وغير ذلك من البلايا التي تجعل أذكى الناس أغباهم، والمخدرات تدمر خلايا المخ تماماً، فلا يحصل على الإعدادية؛ لأن شرب هذه المادة يبدأ من سنة أولى ابتدائي، ويم(39/9)
رؤيا محمد بن يزيد الأسفاطي في حديث ابن مسعود
قال: [حدثنا محمد بن يزيد الأسفاطي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله حدثت عن عبد الله بن مسعود حيث يقول: حدثني الصادق المصدوق -أعني حديث القدر- فقال: نعم إي والله الذي لا إله إلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله زيد بن وهب حيث حدث به، ورحم الله الأعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأعمش، ورحم الله من حدث به بعد الأعمش].
فهذه رؤيا منامية يدعو فيها النبي عليه الصلاة والسلام لكل من حدث بهذا الحديث ابتداء من عبد الله بن مسعود -أول السند- إلى الأعمش، ثم دعا دعوة عامة لمن حدث به بعد الأعمش وقبل الأعمش.
ومعلوم أن هذه الرؤى إنما هي مبشرات لأصحابها، ولا يؤخذ منها أحكام عند أهل السنة والجماعة.
قال: [قال ابن قتيبة في كتاب (مختلف الحديث): حُكي عن أبي الهذيل العلاف].
وهو من مجرمي المبتدعة وليس مبتدعاً فحسب، بل من كبار الضُلال ورأس من رءوس المعتزلة، قد كذَّب بكل شيء، وشكك في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وعمل ليله ونهاره على محاربة أهل السنة في زمانه والتشكيك في المبادئ والمسلمات لديهم.
حكى عنه ابن قتيبة: [أنه لما روي له عن عبد الله بن مسعود هذا الحديث فقال: كذب عبد الله بن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم].
وهل لك أنت أن تكذب أحد الصحابة؟ وما هي القيمة أن تقول: رسول الله؟ إن الذي يحترم الرسول لا بد أن يحترم أصحابه، والذي يؤمن بالرسول لا بد وأن يؤمن بأصحابه، ولذا فلو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فالصحابة لهم قدسية أخذوها من قدسية النبي عليه الصلاة والسلام، وما أخذوا هذه القدسية إلا لشرف الصحبة.
إذاً كيف يأتي هذا ويقول: كذب عبد الله بن مسعود! بل هو الكذاب المجرم الجاحد الكافر.
ولذلك قال ابن قتيبة: [وكذب أبو الهذيل الكافر الجاحد لعنه الله].(39/10)
حديث حذيفة بن أسيد: (إذا مضت على النطفة خمسة وأربعون)
قال: [عن عمرو سمع أبا الطفيل يقول: قال حذيفة بن أسيد: سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: (إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقول الملك: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقول الله عز وجل -أي: فيقول الله: شقي أو سعيد- فيكتبانه فيقول الملك: ذكر أو أنثى؟ فيقضي الله ويكتب الملك.
ويقول: عمله وأجله؟ فيقضي الله ويكتب الملك ثم يطوي الصحيفة فلا يزاد فيها ولا يُنقص منها)، أخرجه مسلم].
وقد اختلف أهل العلم في السن التي يؤمر فيها الملك بكتب الرزق والأجل والعمل والشقاوة والسعادة، وهي اللحظة التي يؤمر الملك فيها بنفخ الروح، والراجح من أقوال أهل العلم: أن الروح لا تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، وإنما تنفخ بعد أربعين ليلة.
وقيل: بعد خمس وأربعين ليلة.
وينبني على هذا الكلام: أن الإجهاض حرام بعد الأربعين ليلة، وقبلها جائز، لكن قد تأتيك امرأة تستفتيك وتقول: والله أنا صحتي تعبانة، وعندي كثير من الأولاد، ولا أستطيع تربيتهم، فهل يجوز لي الإجهاض؟
الجواب
لا.
لأن هذه ليست أعذاراً، والطبيبة أو الطبيب الحاذق المسلم الورع هو الذي يقرر أن هذا الحمل يضر بهذه المرأة، أو يقتلها، أو غير ذلك من الأضرار الجسيمة التي لا قِبل للمرأة بها، وعند ذلك يجوز للمرأة أن تسقط جنينها، أما بعد الأربعين فقد سمعت شيخنا الإمام العلم المبجل الشيخ ابن عثيمين يقول: لو ماتت المرأة لا تُسقِط جنينها وإن كانت صاحبة عذر بعد الأربعين.
أي: أنها وإن كانت صاحبة عذر فلا يجوز لها؛ لأن من يقول بهذا الرأي -وهو الصواب- يأخذ المسألة من جانبين: الأول: أن الأربعين حد بين الحلال والحرام، والعذر في الإجهاض، وهو كذلك حد بين جواز الإجهاض وعدمه، فإذا بلغ الجنين في بطن المرأة أربعين يوماً، وكانت صاحبة عذر فلا يحل لها الإجهاض، أما إذا لم يبلغ وكانت صاحبة عذر فيحل لها الإجهاض، وإذا لم تبلغ الأربعين ولم يكن لديها عذر فلا يحل لها ولو كان الجنين ابن يوم واحد.(39/11)
حديث ابن مسعود: (الشقي من شقي في بطن أمه)
قال: [عن ابن جريج قال: حدثني أبو الزبير عن أبي الطفيل: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره].
وانظر إلى هذا الكلام الجميل! إذ هو فهم للقدر، وهل هذا ظلم أم عدل؟ أنت تشك في أن هذا عدل؛ لأنه لو كان عدلاً مستقراً عندكم لقلتم: عدل.
وليس هناك شيء اسمه ظلم؛ لأن الله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة.
إذاً: فلماذا قلنا: إنه عدل؟
الجواب
لأنه سبحانه علِم ما سيعملون وما إليه يصيرون فكتبه عليهم.
وعلة أخرى: الميثاق الذي أخذه الله على العباد وهم في عالم الذر، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
أي: أنهم شهدوا الله بالربوبية والوحدانية، ولذا عندما أدخلهم الله صلب آدم مرة أخرى، وكانوا بعد ذلك على هيئة البشر، نسوا ذلك؛ لأن الميثاق قد أُخذ عليهم من يوم أن خلق الله تعالى آدم وأخرجنا من صلبه كالذر، فنحن لا نذكر هذا الميثاق، وحجتنا أننا لا نذكر هذا الميثاق، فهل هذه الحجة تنفع بين يدي الله؟ لا.
لأن الله أرسل لنا الرسل ليذكرونا بهذا الميثاق، وأنزل الكتب أيضاً لتذكرنا بالميثاق الأول، وعليه فليس لنا حجة بعد ذلك.
لكن قد يقول قائل: إذا كان الإنسان مجنوناً فما ذنبه؟ نقول: هذا لا يحاسبه الله؛ لأنه غير مكلف، والقلم مرفوع عنه.
[قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه].
أي: أن الشقاوة والسعادة معلومة أزلاً لله عز وجل، وأن هذا العبد بعد استنفاد الحجج معه سيختار طريق الشقاء، فالله تعالى يكتبه شقياً قبل أن يخلقه.
قال: [والسعيد من وعظ بغيره].
ولذلك حينما يفكر أحدنا بالسرقة ثم يفكر أن الحد يقام على سارق أمام الجميع، وأن هذا المشهد سيأتي على التلفزيون، والأمة كلها تراه، فإن مليوناً من السرق سيفكر في هذا الموقف قبل السرقة، وعليه فسيكون سعيداً؛ لأنه قد وعظ بغيره، حيث أنه كان يفكر في الشقاء، فحينما رأى نتيجة الشقاء قال: كيف أسرق ربع دينار وأفقد ذراعي؟! فأنا سأذهب لأشتغل وآتي بهذا الربع الدينار، بل وآتي بألف دينار، وهنا يكون قد وعظ بغيره، وهذا باب من أبواب السعادة.
إذاً علم الله عز وجل أزلاً أنه سيتعظ بغيره، فكتب أنه من أهل السعادة.
[قال: قلت: خزياً للشيطان أيسعد ويشقى قبل أن يعمل؟ قال: فأتى حذيفة بن أسيد فأخبره بما قال ابن مسعود.
قال: أفلا أخبرك بما سمعت من النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: بلى.
قال: سمعته يقول: (إذا استقرت النطفة في الرحم اثنين وأربعين صباحاً نزل ملك الأرحام فخلق عظمها ولحمها وسمعها وبصرها، ثم قال: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك بالصحيفة، وما زاد ولا نقص)].
أي: دون زيادة ولا نقصان.(39/12)
حديث أبي هريرة: (السعيد من سعد في بطن أمه)
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه)].
وهذا الحديث ضعيف، لكن النصوص الأخرى تشهد بصحته.(39/13)
روايات في إثبات أن العباد ميسرون لما خلقوا له(39/14)
حديث علي: (ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار)
قال: [عن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله عليه الصلاة والسلام في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به في الأرض -أي: أنه أخذ عصا أو شيئاً فظل يضرب به الأرض- ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة -أي: أن هذه المسألة محسومة قديماً- فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ -أي: لماذا العمل؟ لا بد أن تعمل؛ لأنك لا تدري أمن أهل الشقاوة أنت أم من أهل السعادة؟ - فقال: لا اعملوا فكل ميسر لما خُلق له -أي: من خلق من أهل السعادة فبعمل أهل السعادة يعمل، ومن خُلق للشقاء فبعمل أهل الشقاء يعمل- قال: أما ما كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما ما كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10])، أخرجه البخاري عن آدم ومسلم من حديث شعبة].
قال: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي عليه الصلاة والسلام فانتهينا إلى بقيع الغرقد -أي: حتى وصلنا إلى البقيع- فقعد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قعدنا حوله، وأخذ عوداً فنكت به في الأرض، ثم رفع رأسه فقال: ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا وقد عُلم مكانها من الجنة أو النار، شقية أو سعيدة.
فقال رجل: يا رسول الله ألا ندع العمل ونقبل على كتابنا، فمن كان منا من أهل السعادة صار إليها، ومن كان منا من أهل الشقاوة صار إلى الشقوة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر، فمن كان من أهل الشقوة يُسر لعملها، ومن كان من أهل السعادة يُسر لعملها، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5])] إلى آخر السورة.(39/15)
حديث ابن عمر: (علام نعمل؟)
قال: [عن عبد الله بن عمر قال: نزل: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105]-فقال عمر: (يا نبي الله! علام نعمل على أمر قد فُرغ منه أم لم يُفرغ منه؟ -أي: هل نحن نعمل شيئاًَ جديداً الآن الله يعلمه وكتبه علينا قبل ذلك، أم شيئاً في المستقبل؟ - قال: لا.
على أمر قد فُرغ منه وجرى به القلم -أي: شيء مكتوب قديماً- ولكن كل امرئ ميسر، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5])].(39/16)
حديث عمران بن حصين في معرفة أهل الجنة من أهل النار
قال: [عن عمران بن الحصين أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل أو قيل: (أيُعرف أهل الجنة من أهل النار؟ فقال: نعم.
قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: نعم كل ميسر لما خُلق له).
أخرجه البخاري ومسلم].(39/17)
حديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)
قال: [عن سراقة قال: قلت: (يا نبي الله! خبرنا عن ديننا كأننا ننظر إليه.
قال: فيما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير يعملون؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) أخرجه مسلم].(39/18)
حديث: (إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً)
قال: [عن عائشة أم المؤمنين قالت: (دُعي رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى جنازة غلام من الأنصار.
فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدركه السوء ولم يعمله -لأنه غلام صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجري عليه القلم- قال: أوغير ذلك؟)].
لأنها قالت: طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، ولذلك حينما سُئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الأطفال؟ قال: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
وفي رواية أنه سئل عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
ومذهب جماهير أهل السنة: أن أطفال المشركين في الجنة، وإجماعهم على أن أطفال المسلمين في الجنة.
وقال بعض أهل العلم: إن الله تعالى يختبر ويبتلي أطفال المشركين يوم القيامة، فإذا عملوا صالحاً وقالوا صواباً أدخلهم الجنة، وإذا قالوا غير ذلك أدخلهم النار.
والفريق الثالث توقف في أطفال المشركين، ولم يقل فيهم خيراً ولا شراً.
فـ عائشة رضي الله عنها حينما شهدت بأن هذا الغلام من عصافير الجنة فطوبى له قال النبي صلى الله عليه وسلم: [(أوغير ذلك؟ إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً وهم في أصلاب آبائهم)] ولذلك حينما يسمع أحدنا هذا الحديث فإنه لا يطمئن أبداً.
فهذا أبو بكر الصديق أحد المبشرين بالجنة يقول: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.
وهذا عمر بن الخطاب يقول: لو نودي في المحشر: كل الناس يدخلون الجنة إلا واحداً لظننت أنني هو.
فلا يأمن أحد من مكر الله عز وجل.(39/19)
حديث كفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام
قال: [عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً)].
ألم ينكر عليه موسى حينما قتل الخضر الغلام فقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]؟ أي: أمراً منكراً الذي أتيت به.
وفي هذا الحديث سلوى لمن كان عنده أو عند امرأته عقم، فيشقى بالليل والنهار لأجل الولد، ويقول: إن الأطباء جميعاً قد قرروا أنه ليس هناك إنجاب، وأيضاً عنده أمل ويسعى، وإن كان يذهب ليشحت ويسرق ويستدين ليعمل عمليات هو يعلم أنه لا فائدة من ورائها، لكنه يعمل هذا كله رجاء في الإنجاب، وفي النهاية تنجب الزوجة ولد طاغية وعاص لله، فيقول: يا ليتني لم أسع، يا ليتني لم أذهب ولم أرجع، ويكره الأولاد ويكره الذرية والحياة بسبب هذا الولد، لذا كانت تربية الأولاد من أصعب الصعوبات، فهي مهمة الأنبياء.
أي: أن التربية مهمة الأنبياء جميعاً، فعندما يكون لديك ولد من حُفاظ القرآن وحفاظ السنة وحريص على الصلوات في جماعة، ومؤدب معك ومع أمه وجيرانه والناس أجمعين، فما أسعدك به، لكن حينما يكون عندك ولد كل خطوة بمشكلة ومصيبة فأنت ستكره الأولاد وتكره عيشتهم السوداء، والواحد دائماً يتمنى الولد الصالح الذي يسعد به في الدنيا والآخرة، ولا يتمنى الولد العاصي.(39/20)
حديث اعتذار الهالك في الفترة والمعتوه والمولود
قال: [عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الهالك في الفترة والمعتوه والمولود يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول، ثم تلا هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} [طه:134]).
ويقول المعتوه: لم يجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً.
ويقول المولود: لم أدرك الحلم -أي: أن كلاً منهم عنده عذره وعلته، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً، لكن الشواهد في الشرع تشهد به- فترفع لهم نار فيقال: اوردوها أو ادخلوها.
قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل.
قال: ويمسك عنها من كان في علمه شقياً لو أدرك العلم.
قال: فيقول: إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب أتتكم؟)].
وهذا الحديث ضعيف.
نتوقف هنا؛ لأن هذا الباب فيه أدلة كثيرة، وأدلة إثبات الإيمان بالقدر أدلة ممتعة جداً، وهي مئات الأدلة من كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على النبي محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(39/21)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أقوال الصحابة في إثبات القدر [1]
الإيمان بالقدر وما يتضمنه من مراتب من جملة أركان الإيمان التي لا يتم الإيمان بدونها، وقد امتلأت كتب الآثار بكلام الصحابة في إثبات القدر، ونكيرهم على الجبرية والقدرية الذين زاغوا عن الهدى القويم، والصراط المستقيم.(40/1)
مراتب الإيمان بالقدر
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
لا زال الكلام موصولاً عن القدر، والقدر هو سر الله تعالى في الكون، وحكمته من خلق الخلق، ومراتب القدر أربع قد تكلمنا عنها، وقلنا: إن أول مرتبة هي مرتبة العلم.
أي: أن الله تبارك وتعالى علم أزلاً ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما كان ذلك كتبه الله تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل المحو ولا الإثبات، ثم قدر ذلك وشاءه لعباده، فشاء لهم الطاعة وشاء لهم البر والخير مشيئة شرعية دينية، محلها ومناطها الرضا، وشاء الله تبارك وتعالى الكفر والكبائر وسائر المعاصي، بمعنى أنه أذن في وجودها في الكون، وأذن الله تعالى في خلقها لا أنه يحبها ويرضاها، بل حذر منها ونهى عنها ورتب عليها العقوبات، ولأجلها أرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ومنحك العقل، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.
والمرتبة الرابعة: هي مرتبة الخلق.
فأفعال العباد جميعاً مخلوقة لله عز وجل.
بمعنى: أنه أذن في وجودها خيرها وشرها، فالخير والشر من الله عز وجل، كما دل على ذلك تلك الآيات الكثيرة التي سقناها في دروس مضت، ثم أقواله عليه الصلاة والسلام وأحاديثه التي مضت في دروسنا أيضاً لإثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل، مع أنه لا يرضى الشر، ولكنه أذن في وجوده ووقوعه، وأذن في خلقه؛ لأن الله تعالى علم أن العبد سيختار طريق المعصية فكتب ذلك عليه، لا أنه سبحانه يرضى المعاصي.(40/2)
أقوال الصحابة في إثبات القدر وأن الخير والشر من عند الله عز وجل
وها نحن اليوم مع الأدلة من أقوال الصحابة رضي الله عنهم في إثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل، ولا يجوز لأحد أن يقول: إذا كان الخير والشر من عند الله فلِم يعاقبنا عليه؟ لأنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا بشرط التوبة منها.
ولذلك إذا كانت المعاصي من قدر الله فإن العقوبات كذلك من قدر الله، فهل ترضى أن تُقطع يدك؟ سيكون الجواب حتماً: لا.
لأنه لا أحد يرضى بذلك، فإذا كنت لا ترضى بقطع يدك فلِم مددتها للسرقة؟ لِم أطلقت ليدك العنان أن تأخذ أموال الناس من أحرازها؟ فإذا كانت المعاصي من قدر الله وهي كذلك، فلا بد أن هذه العقوبات هي كذلك من قدر الله، فلا بد لكل إنسان ذكي عاقل قبل أن يفكر في الذنب أن يفكر في عقوبته، وأن الذنب وعقوبته المترتبة عليه إنما هما بقدر الله عز وجل.
وأقوال الصحابة في إثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل كثيرة جداً لا تكاد تحصى، بل لم يأتنا نص واحد عن صاحب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يبين أن الخير من عند الله وأن الشر من عند الناس؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا أنه لا يكون في ملك الله إلا ما أراد وقدر، فإذا كان هذا الأمر محل إجماع الصحابة رضي الله عنهم فكفى به إجماعاً، بل كفى به دليلاً، فلو لم يأت في كتاب الله آية واحدة ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام حديث واحد لكفى إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الخير والشر من عند الله عز وجل.
تصور أمر يُجمع عليه جميع الأصحاب ولم يأتنا مخالف لهم، بل لم يأتنا مخالف لهم حتى ممن أتى بعدهم من أهل السنة والجماعة وممن نهج منهج أهل السنة، فكيف يكون هذا الأمر محل نزاع أو محل خصومة؟(40/3)
قول أبي بكر رضي الله عنه في إثبات القدر
هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال: [خلق الله الخلق فكانوا في قبضته -أي: في قبضة الله عز وجل- فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى -وهي اليمين كذلك؛ لأن كلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، أما الحديث الذي ورد بإثبات الشمال لله عز وجل حديث شاذ كما ذكرنا ذلك بالتفصيل آنفاً- ادخلوا النار ولا أبالي فذهبت إلى يوم القيامة].
أي: هذا كائن إلى يوم القيامة.
معنى ذلك: أن الله تعالى علم أهل الجنة سلفاً وأزلاً، وعلم أهل النار أزلاً، بل قبل أن يخلقهم علم أهل الجنة وأهل النار.
قال: [عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ قال أبو بكر: نعم.
قال: فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ -يُنكر ذلك.
أي: إذا كان الله تعالى هو الذي قدر علي الزنا فكيف يعذبني- قال أبو بكر: نعم يا ابن الخنا] يزجره؛ لأنه تكلم في القدر بكلام عجيب لم يرد عن سلف هذه الأمة.
[قال: نعم.
يا ابن الخنا] أي: يا ابن الفواحش [أما والله لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك].
أي: أن يقطع أنفك.(40/4)
قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إثبات القدر
عن أبي عثمان النهدي رحمه الله -وهو من سادات التابعين، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام- قال: [سمعت عمر بن الخطاب وهو يطوف بالبيت يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها -أي: إذا كنت كتبتني من أهل السعادة- فهو يرجو ربه أن يثبت على أهل السعادة وأن يبقى فيهم حتى يلقى الله عز وجل- وإن كنت كتبتني في الشقوة -أي: من أهل الشقاء والتعاسة- فامحني منها وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب] وتكلمنا أن أم الكتاب لا تقبل المحو ولا الإثبات، أما الصحف التي بأيدي الملائكة فهي التي تقبل المحو والإثبات.(40/5)
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إثبات القدر
قال: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ذُكر عنده القدر يوماً -أي: عند علي بن أبي طالب ذكر قوم القدر- فأدخل أصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم بهما على باطن يده، فقال: أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب].
أي: أن هذا قد علمه الله تعالى أزلاً.
أي: حينما أدخل السبابة والوسطى في فمه فبلهما بريقه ولعابه فختم بهما باطن كفه قال: هذا الختم والله قد علمه الله تعالى قبل أن يخلق الخلق فكيف لا يعلم سبحانه وقوع الخير والشر من العباد؟ [عن علي قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه -أي: لن يستقر الإيمان في قلبه- حتى يستقر يقيناً غير ظن أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويقر بالقدر كله] خيره وشره.
فمسألة القدر تعلقها بالإيمان تعلق عظيم جداً: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر).
لأن القدر أمر عجيب جداً، إذ ليس لك أمام القدر إلا التسليم والإيمان والإذعان، فلو قلت: لِم فعل كذا؟ ولِم قال كذا؟ فإنك ستضل كما ضل من قبلك.(40/6)
قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في إثبات القدر
قال: [عن عبد الله يعني: ابن مسعود قال: أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه]، أي: من كتب الله تعالى عليه الشقاء قبل أن يخلقه.
وهل هذا من الظلم؟ الجواب لا.
لأن الظلم نقص لا يليق إلا بالعباد، والله تعالى منزه عن كل نقص، فإن الله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة.
إذاً: فلِم كتب الله تعالى هذا العبد من أهل الشقاء وهو في بطن أمه.
وهو لم يعمل خيراً ولم يقم على الشر، بل لم يولد بعد، فلم كتبه الله تعالى من أهل الشقاء؟
الجواب
لأن الله تعالى علم أزلاً قبل أن يخلق الخلق أن من عباده فلان ابن فلان سيميل إلى الشر مع بيان الشر والخير ووضوحهما له تمام الوضوح، ولكن العبد سيختار طريق الشر، ولذلك العبد له اختيار لأعماله، وليس معنى: أن الله تعالى كتب عليه الشر أنه جعله مقهوراً مجبوراً أن يقع في الشر.
لا، فالله تعالى حينما علم أنه سيعمل الشر ويميل إليه ويترك الخير مع معرفته إياه كتب ذلك سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ: أن عبده فلان سيعمل بالشر.
وهكذا أعطانا الله تبارك وتعالى كل البينات والحجج، فلم يبق لنا بين يدي الله معذرة، بعد أن بين الله لنا طريق الجنة وطريق النار، لو سألناك عن أي عمل تعمله أو لا تعمله: هل هذا يؤدي إلى الجنة أم إلى النار؟ لو سألناك عن الصلاة لقلت: تؤدي إلى الجنة.
فلم تتركها؟ لو سألناك عن الزنا لقلت: يؤدي إلى النار.
فلم تأتيه؟ لماذا تدع الطاعة وتُقبل على المعصية، وأنت تعلم علماً يقينياً أن مآل الصلاة الجنة، ومآل الزنا النار، ومع هذا تخالف ما تعلمه من دينك يقيناً؟ علمت ذلك من الكتب التي أنزلها الله عز وجل عن طريق رسله، والله تعالى جعلك مكلفاً بالغاً عاقلاً مميزاً، فأين حجتك التي تحتج بها أمام الله عز وجل؟ هل ستقول: لماذا يا رب! قدرت هذا علي؟ إذا كان الله قدر عليك الزنا فقدر عليك كذلك الرجم أو الجلد، فهل ترضى أن تُرجم أو تُجلد؟
الجواب
لا، لا أحد يرضى بذلك أبداً، فلم رضيت بشيء أدى بك إلى إيقاع هذه العقوبة ببدنك؟ ولذلك نحن لو أتيناك بطريقين يؤديان إلى غرض واحد، أحدهما قد امتلأ شوكاً والآخر ممهد ملطف، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين فإنهما جميعاً يؤديان إلى غرضك، فأي الطريق ستسلك؟ لا شك أن ستسلك الطريق الممهد، فلِم تختار طريق الشوك الذي يؤدي بك إلى النار؟ قال: [فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره].
أي: علم الله تعالى أن عبده سيختار طريق النار، فحينما علم ذلك من عبده قدره عليه، وأراده له إرادة كونية قدرية لا شرعية دينية.
[عن عبد الله قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يكن].
[عن الحارث قال: سمعت ابن مسعود يقول وهو يدخل أصبعه في فيه قال: لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر].
وكأن الإيمان شيء محسوس له طعم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً) فهنا صور النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان بالشيء الذي يؤكل أو يُشرب وله مذاق جميل، لكن لا يتذوق الإيمان على هذا النحو إلا رجل آمن بالقدر.
[ويقر ويعلم أنه ميت، وأنه مبعوث من بعد الموت].
[عن ابن مسعود قال: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة: اصرفوا عنه] أي: أن العبد يأتي عملاً من أعمال الدنيا، والله تبارك وتعالى ينظر له من فوق سبع سماوات، وربما يكون في هذا العمل شر للعبد، فإن الله تعالى يأمر ملائكته أن يصرفوا عبده عن الإتيان لهذا الفعل.
قال: [فإني إن يسرته له أدخلته النار -أي: بسبب هذا الفعل- فيصرفه الله عز وجل] أي: فيصرف العبد عن إتيان هذا العمل.(40/7)
قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في إثبات القدر
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [العجز والكيس بقدر].
وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فيصح مرفوعاً وموقوفاً.
[عن ابن عباس قال: لو أخذت رجلاً من هؤلاء الذين يقولون: لا قدر، لأخذت برأسه وقلت: لولا ولولا].
أي: أن ابن عباس تمنى أن يقتله قتلاً؛ لأنه ينكر القدر.
قال: [عن مجاهد قال: قيل لـ ابن عباس: [إن ناساً يقولون في القدر].
أي: هناك ناس تكلموا في القدر، وهذا الأمر كان منكراً جداً لدى الصحابة، فلم يكن يتكلم أحد في القدر، فلما تكلم الناس في القدر أنكر ذلك ابن عباس، بل الصحابة كـ ابن عمر وغيرهم أشد الإنكار.
قال: [يُكذبون بالكتاب؟].
لأن الكتاب أثبت القدر خيره وشره، فالذين تكلموا في القدر بعد كتاب الله وبعد سنة النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يريدون؟ وماذا يقولون؟ قال: [يُكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه -أي: لآخذن بناصيته- إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق القلم فأمره أن يكتب فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
قوله: (كتب ما هو كائن) أي: قبل أن يخلق الخلق؛ لأن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب.
فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة، وكان آدم لم يُخلق بعد؛ لأن المقطوع به عند علماء المسلمين أن القلم مخلوق قبل آدم، والقلم جرى بما هو كائن وبما عليه العباد إلى يوم القيامة، وهذا يدل على علم الله الأزلي.
قال: [فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه].
أي: على أمر قد علمه الله تعالى أزلاً، فكتبه على العباد وقدره عليهم، وشاءه لهم، وأذن في خلقه وإيجاده ووقوعه، ومنه ما أراده إرادة شرعية دينية مبناها الرضا وهي اتباع الشرع في باب الأوامر، وأما في باب النواهي فإن العبد لو انتهى بما نهاه الله تعالى ورسوله عنه فهذا أيضاً من الإرادة الشرعية الدينية، وإذا وقع فيما نهاه الله عز وجل عنه فإنما يقع فيها بقدر من الله عز وجل، لكن لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي.
قال: [عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد -القدر هو التوحيد- فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضاً للتوحيد].
وهذا تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) ابن عباس يقول: القدر نظام التوحيد.
أي: أنه أساس التوحيد ومحل الابتلاء والاختبار فيه، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء والقدر نقضاً للتوحيد.
[ومن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها].
و [عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس! أرأيت من صدني عن الهدى، وأوردني الضلالة والردى، ألا تراه قد ظلمني؟] فهذا السؤال من جهة العقل له وجه، لكن الدين لا يثبت بالعقل وإنما يثبت بالنقل.
يقول له: أليست الهداية والإضلال بيد الله عز وجل؟ ما تقول فيمن صدني وردني وأضلني وأوردني الهلاك والردى والضلالة، ألا يكون قد ظلمني؟ إذاً فمن الذي بيده الضلالة؟ الله عز وجل، والسؤال هذا يطرأ على أذهان الجميع إلا من رحم الله عز وجل من أهل العلم.
وانظر إلى ابن عباس ماذا قال له؟ قال: [إن كان الهدى كان شيئاً لك عنده فمنعكه -أي الله عز وجل منعك إياه- فقد ظلمك].
فـ ابن عباس قرب له المسألة من جهة العقل، وإلا فالأصل في هذا المثل ألا يُضرب، لكنه يريد أن يقرب له المعنى في مقابلة سؤاله الذي لا يجوز طرحه.
قال: [إن كان الهدى كان شيئاً لك عنده فمنعكه فقد ظلمك، وإن كان هو له -أي: ملكه سبحانه وتعالى- يؤتيه من يشاء فلم يظلمك.
قم لا تجالسني].
أرأيتم إلى مسائل القضاء؟ تحتاج إلى قلوب واعية جداً، وأفهام نيرة، وقلوب لا تملك إلا الخضوع والذل لله عز وجل، يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى.
فليس لك بعد أن علمت أن الهداية والضلال بيد الله عز وجل إلا أن تتعلق بحبال الطاعة، ليس لك إلا ذلك، ترجو ثواب الله وتهرب من عقابه.
فلو أنك علمت أن الله تعالى يسوق الرزق إليك عن طريق فلان من الخلق لتملقت له أشد التملق، فلماذا لا تتملق لله عز وجل فهو الأولى بذلك؟ قال: [عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الهدهد يدل سليمان على الماء -مع أن الهدهد هذا طائر ضعيف- فقلت له: كيف ذاك يا إمام! والهدهد يُنصب له الفخ عليه التراب؟].
الصبيان ينصبوا الفخ للهدهد عليه التراب، حتى يأتي الهدهد فيقع فيه؟ أي أنه طائر غبي لا يعرف شيئاً، فكيف ينقر في الأرض وينقب فيها حتى يخرج الماء لسليمان ويدله على أن هذا المكان فيه ماء وأن هذا المكان ليس فيه ماء؟ [فقال -أي: ابن عباس - ألم يكن إذا جاء القضاء ذهب البصر؟] إذا قدر الله شيئاً(40/8)
أقوال ابن عمر والحسن بن علي وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في إثبات القدر
قال: [عن يحيى بن يعمر قال: قلت لـ ابن عمر: إنا نسافر فنلقى قوماً يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف -أي أن الله لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع- قال -أي: ابن عمر - إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء، ثلاث مرات] قال ذلك.
وبذلك قال أبي بن كعب وعبادة بن الصامت وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان.
وقال الحسن بن علي بن أبي طالب وهو صحابي صغير: [قضي القضاء -أي: قضى الله تعالى القضاء- وجف القلم، وأمور بقضاء في كتاب قد خلا].
يعني: أمور قد قضى الله تعالى أن تكون، وكتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق.
[قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث -أي: إلى ثلاثة أمور-: المرء يفر من القدر وهو لاقيه] المرء يفر من شيء قدر له وهو ملاقيه، فقد تتوقع وجود الشر هنا فتفر منه، فإذا بك تجد الشر ينتظرك على ناصية الطريق الآخر الذي هربت إليه.
إذاً: إيماننا بالقضاء يعلمنا حسن التوكل على الله عز وجل.
[قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه -وهذه واحدة- ويرى في أعين أخيه القذى فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها].
وهذا معنى الحديث المرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) الواحد منا ينظر إلى الناس فيرى عيوبهم مهما دقت وجلت وصغرت، فيستعظمها جداً، ويرى أنه صاحب طاعة، وفيه من العيوب ما ليس في الآخرين، ولكنه لا يُبصر عيوبه وربما لا يرضى بالنصيحة أن توجه إليه؛ وذلك لأنه يرى نفسه أعلى من كل أحد، وأنه قد خلا عن كل مفسدة، فهو يرى في نفسه أنه صاحب طاعة، والآخرين أصحاب معصية، عبد هذه نظرته لا يُرجى خيره قط، فالذي يُرجى خيره أن يكون في عين نفسه حقيراً وفي أعين الناس كبيراً.
الثالثة: [ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها].
الصعر: آفة تصيب الحيوانات، فهو إذا أصابت دابته علة وآفة قام بإصلاحها، كأن تكون لديك سيارة إذا اشتكت أي شكوى قمت بإصلاحها من باب الأمان، فمهما كان عيبها صغيراً حقيراً لا بد من أخذ الاستعداد والأهبة لهذا الطريق الطويل، فبينما أنت على هذه الحال نسيت أنك قد امتلأت غشاً وحسداً وبغضاً وضغينة وخيانة وغير ذلك من البلايا القلبية وغير القلبية، ومع هذا لا تُراعي في نفسك إصلاح هذه العيوب.(40/9)
قول عبد الله بن عمرو بن العاص في إثبات القدر
قال: [عن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له -أي: بستان أو مزرعة- بالطائف.
قال: ومعه فتى من قريش يزن بشرب الخمر -أي: يعاب عليه أنه يشرب الخمر- فقلت له: بلغني عنك حديث: (أنه من شرب شربة خمر لم يقبل الله توبته أربعين صباحاً، وإن الشقي من شقي في بطن أمه)] قال: نعم.
يقر ذلك.
محل الشاهد قوله: (وإن الشقي من شقي في بطن أمه) وأنتم تعلمون حديث عبد الله بن مسعود عن الصادق المصدوق، إذا بلغ أربعين يوماً، فمذهب الجمهور: أن الروح تنفخ بعد مائة وعشرين يوماً، ولكن الراجح عند المحققين: أنها تنفخ بعد الأربعين، ويؤمر الملك الموكل بكتابة أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، مع أنه ما زال في بطن أمه، ولكنه يُكتب: هل هو من أهل الشقاء أم من أهل السعادة، فهل في هذا شيء من الظلم؟ لا.(40/10)
قول أبي الدرداء رضي الله عنه في إثبات القدر
قال: [عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذروة الإيمان أربع:] أربعة أشياء هي قمة الإيمان التي تدل على أن صاحبها قد حقق الإيمان الكامل في قلبه وجوارحه.
قال: [الصبر للحكم] والحكم هذا من أثقل الأشياء، فأنت إذا كانت لك الصولة والجولة وكان لك الحق في مسألة لطرت بها في الآفاق؛ لتثبت للناس أنك صاحب حق، ولو كنت مخطئاً تعلم ذلك من نفسك لخنست فلا تريد أن يعرف أحد عنك ذلك، ولو قضي عليك بالحق لكرهت ذلك، وتتمنى أن يخفى الحق أو يلتبس على الحكم فيحكم لك، مع أنك تعلم أنك مخطئ، والحُكم هو من خصائص الله عز وجل؛ ولذلك قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] فليس الحكم إلا لله عز وجل.
ولذلك قال الشافعي عليه رحمة الله: من شرع فاستحسن فقد كفر.
لأن التشريع حق لله عز وجل، ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز لأحد من الأمة بأسرها أن يشرع أو أن يأتي بشيء من عند نفسه بين يدي الله عز وجل، وإلا فإنه محاد لله ورسوله مضاد لشرعه، بل كافر بشرع الله عز وجل.
فالحكم لله عز وجل لا لأحد غيره، ولذلك لا يرضى به ولا يحقق مراد الله عز وجل في هذا الباب إلا رجل قد اكتمل إيمانه.
وأنتم تعلمون على الساحة العالمية في كثير من العصور المتأخرة أن الناس قبل أن يجلسوا على كراسيهم يظنون أنهم يحكمون بشرع الله، فإذا ما جلسوا على هذه الكراسي المزيفة حكموا بآرائهم وأهوائهم ووثائقهم كما حكم التتار بتلك الوثائق المخترعة، فالحكم ثقيل جداً ولا تقوى على حمله إلا قلوب قد امتلأت إيماناً.
ولذلك قال أبو الدرداء: [ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر].
وهناك فرق يا إخواني! بين من يصبر على القدر وبين من يرضى بالقدر.
يقول علماء التصوف: إن البلاء إذا نزل بالعبد فصبر عليه فعمله عمل صغار القوم، أما كبار القوم فإنهم يرضون به ويفرحون.
فحينما تمرض وتعلم أن هذا المرض هو من قدر الله عز وجل فتصبر على ذلك، فهذا بلا شك أجر عظيم جداً وإيمان بالقضاء والقدر، لكن أعلى من ذلك أنك ترضى وتفرح بما آتاك الله عز وجل، وابن تيمية عليه رحمة الله لما سجنوه علم أنهم ليس لهم سلطان إلا على البدن، وسلطانهم أيضاً مقيد بقدر الله عز وجل، فكان يقول: فماذا يفعل أعدائي بي؟ إن سجنوني فسجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة.
وهل هناك أفضل من الخلوة للذكر والتسبيح والتهليل وقراءة القرآن والصلاة وقيام الليل وغير ذلك؟ فالذي لا يستطيع أن يفعله في خارج السجن يفعله داخله، ولذلك فإن الذين هم بداخل السجون في نعيم نحن لسنا فيه، فنحن مشغولون بدنيانا، أما من كان بالداخل فهو أرق فؤاداً ممن كان بخارجه إلا من رحم الله عز وجل.
ولذلك حينما أغلقوا عليه باب السجن تلا آية تغيظ الكفار والمجرمين.
قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] أتظنون أنكم في سعة من أمركم، وفي حرية؟ بل أنتم والله المسجونون، وهذه حقيقة، فالواحد فيهم يمشي بحراسة وبمدرعات ومصفحات مدججة، ومع هذا لا يشعر بالأمان، وأنت بعد أن تصلي الفجر تخرج بأي لباس كان وتمشي بحرية تامة، فلا يستطيع أن يعمل مثل عملك هذا هؤلاء المجرمون؛ لأنهم يخافون.
قال: [والرضا بالقدر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للرب].
هذا هو الإيمان الكامل.(40/11)
قول سلمان الفارسي رضي الله عنه في إثبات القدر
قال: [عن أبي الحجاج الأزدي قال: سألت سلمان: ما الإيمان بالقدر؟ فقال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك] الذي ليس لك ولا من نصيبك لو اجتمع العالم كله في صعيد واحد أن يجلبوه لك لا يقدرون، ولا يمكن أن يكون من حظك ولا من نصيبك.
وقال أبو نعامة السعدي: [كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره -أي: أني مطمئن وفرح ومسرور بأن الله تبارك وتعالى كتب ما أنا عامل أولاً قبل أن يخلق الخلق- فقال: ثبتك الله! كنا عند سلمان: فحمدنا الله ودعوناه -أي: دعونا الله- وذكرناه فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره، فقال سلمان: ثبتك الله! إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار] وفي رواية: ما هو ذراري؛ وهذا حديث الميثاق الطويل الذي ذكرناه من قبل.
قال: فأخذ عليهم العهد: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
إذاً: فقد اعترفوا بالربوبية وبالألوهية وتوحيد الرب تبارك وتعالى الذي ورد في حديث: (ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة).
وفي رواية: (على فطرة الإسلام -ثم يأتي بعد ذلك النجس والخبث- فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه).
وفي رواية مسلم: (ويشركانه) أي: ويجعلانه مشركاً.
قال: [إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذارٍ إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة، فمن علم الله تعالى أنه من أهل السعادة فعل الخير ومجالس الخير -أي: وفقه ويسر له هذا- ومن علم الله عز وجل فيه الشقاوة يسره لعمل أهل الشقاوة ففعل الشر وجلس مجالس الشر].(40/12)
قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه في إثبات القدر
قال: [عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره].
المسألة مهمة جداً، أي أن تؤمن بأن كل شيء من خير وشر إنما هو من عند الله عز وجل.
[ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه].(40/13)
قول عائشة رضي الله عنها في إثبات القدر
قال: [عن عائشة قالت: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة، وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار].
ولذلك أنت تقول: العبد طيلة حياته يعمل بعمل أهل الجنة، فكيف يختم له بالنار؟ فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إنما الأعمال بالخواتيم)، ويقول: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)؟ أي: أنك ترى أن هذا العمل عمل أهل الجنة لا يعمله إلا ناس قد أحبهم الله عز وجل ويسرهم ووفقهم إلى فعل هذا الخير، ولكنه يصلي الفجر معك ويضع رجله على رجليك؛ ويجلس بجوارك ليتجسس عليك ويعرف اسمك ويكتب فيك تقريراً فهذا العمل عمل أهل النار وليس عمل أهل الجنة.
قالت: [إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار].
إذاً: فهذا يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولا بد من كلمة: (فيما يبدو للناس)؛ لأن هذه قد وردت في رواية ابن مسعود من طريق آخر، وهي تحل جميع الإشكالات التي وردت في هذا الحديث.
وقال محمد بن كثير العبدي: سمعت سفيان الثوري يقول: إن الرجل ليعبد الأصنام وهو حبيب الله.
وعبادة الأصنام هذه محببة إلى الشيطان، ولكن العبد يعبد الأصنام وهو حبيب الله؛ لما سبق من علم الله أنه سيُختم له بخاتمة الطاعة، فيكون من أحبائه بعد الهداية لا أثناء عبادة الأصنام: (والأعمال بالخواتيم)، وقال: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) فحينئذ يكون حبيب الله عز وجل.(40/14)
أقوال التابعين في إثبات أن الخير والشر من عند الله عز وجل(40/15)
قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله في إثبات القدر
عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [إن الله لو كلف العباد العمل على قدر عظمته لما قامت لذلك سماء ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء، ولكن أخذ منهم اليسر].
قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فلا يستطيع أحد أن يؤدي لله حقاً، فلو أن أحدنا سجد سجدة لله طيلة عمره من أول التكليف والتمييز حتى قبض هل أدى حق الله عز وجل؟
الجواب
لا، بل لم يؤد نعمة واحدة من نعم الله عز وجل عليه، ولكن الله رضي منا بالشيء اليسير، فقد فرض علينا خمس صلوات وأعطانا فضلاً منه أجر خمسين صلاة، وهذا فضل عظيم جداً.
قال: [إن الله لو كلف العباد العمل على قدر عظمته -أي: على قدر قدره ومكانته سبحانه وتعالى- لما قامت لذلك سماء -وما قدرت على ذلك- ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء، ولكن أخذ منهم اليسر، ولو أراد ألا يعصى لم يخلق إبليس رأس المعصية].
فإبليس هو رأس الشر، فلو لم يخلق الله إبليس هل ستكون في الأرض معصية؟ لا يمكن.
لأن مصدر كل معصية هو إبليس، فإذا كان الله تعالى لم يخلق إبليس لم يكن هناك معصية، بل كان جميع الخلق مؤمنين موحدين، لا يعرفون طريق المعصية كالملائكة تماماً: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ولكن الله تعالى حينما علم أن عباده سيفعلون المعصية جعل لهم سبباً في ذلك وهو خلق إبليس، ولكنه عرفهم بأنه عدوهم وحذرهم من اتباعه، ولكن العباد تركوا هذا التحذير ووقعوا في حبائل الشيطان.
قال: [عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتاباً فكان فيما كتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة] إلى آخر الكلام.
إذاً: يقول: أنا أسأل الله تعالى الذي بيده القلوب، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).
يعني: يجعلها كافرة، يجعلها مؤمنة، يجعلها طائعة، يجعلها عاصية، له سبحانه وتعالى في قلوب عباده ما يشاء؛ لأننا ملك له سبحانه وتعالى، كما أن الهداية والإضلال ملك لله عز وجل، فكذلك العباد وقلوبهم ملك لله عز وجل، ومعلوم أن المالك يصنع في ملكه ما يشاء سبحانه وتعالى.(40/16)
قول الحسن البصري رحمه الله في إثبات القدر
قال: [عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن -رحمه الله تعالى- يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82].
قال -أي: الحسن في تفسير هذه الآية- لوح من ذهب مكتوب فيها: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟] عجبت لمن يؤمن بالقدر خيره وشره وأنه من عند الله كيف يحزن إذا وقع به البلاء؟ [وعجبت لمن آمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله].
هذا الكلام كلام موقوف عن الحسن وفيه نظر؛ لأن العبد إذا أدركه الموت إن كان من أهل الطاعة فرح بلقاء الله عز وجل، وبذلك صحت الأخبار، وأما إذا كان من أهل المعصية فإنه يكره لقاء الله عز وجل، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
عن تمام بن نجيح قال: [سمعت الحسن وقد تاه رجل فأخذ بعنان دابته فقال: أيها الضال المضل! حتى متى تضل الناس؟ فقال الرجل: وما ذاك؟ قال الحسن: أتزعم أن من قُتل مظلوماً فقد قُتل في غير أجله؟ قال -أي: الحسن - فمن يأكل بقية رزقه يا لكع؟] هل يمكن لأحد أن يأكل رزق الآخر؟ وهل يمكن لأحد أن يأخذ عمر الآخر؟ لا يمكن.
ولكن أليس داود عليه السلام قد أخذ أربعين عاماً من عمر أبيه آدم؟ هو الوحيد الذي أخذ عمراً من عمر أبيه آدم، أما بقية الخلق فإنه قد كُتبت أعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وشقاوتهم وسعادتهم على النحو المعلوم لدى الله عز وجل كتابة لا تقبل المحو في اللوح المحفوظ.
قال: [أتزعم أن من قُتل مظلوماً فقد قُتل في غير أجله؟ فمن يأكل بقية رزقه يالكع؟ خل الدابة] أي: انزل عنها، فإنها أفضل منك.
وهل هناك أحد يُقتل قبل أجله؟ فمن يكمل أجله؟ ولذلك من الأخطاء الفادحة جداً في الاعتقاد أنك تذهب لواحد قد مات له ميت فتقول له: البقية في حياتك! هل هو مات قبل أجله؟ ولذلك علمنا النبي عليه الصلاة والسلام عزاءً شرعياً: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل).
أي: أن هذا الذي مات مات في أجله، فاصبر واحتسب وليس لك إلا هذا، قد أوجب الله تعالى عليك في هذا الموطن أن تصبر على ما نزل بك من بلاء وتحتسب عند الله عز وجل حتى تؤجر عليه، وتصبر صبراً صادقاً، وترضى رضاء تاماً عن الله عز وجل وعن أفعاله سبحانه وتعالى، لا أن تظل تلطم وجهك وتضع التراب على رأسك، وفي الأخير أنت تعرف أنه قد مات ووضع في قبره، فلماذا الجزع؟ بل تصبر وتحتسب.
وقال الحسن: [الشقي من شقي في بطن أمه].
وقال في مرضه الذي مات فيه: [إن الله قدر أجلاً وقدر معه مرضاً -أي: جعل المرض سبباً لنهاية الحياة- وقدر معه معافاة].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء.
فتداووا عباد الله).
فالمرض بقدر الله، وأيضاً العلاج بقدر الله، ومن الناس من يقول: العلاج هذا يقدح في التوحيد.
فنقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام عولج من مرضه، وقال: (إن الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوي أصحابه مرة بالتفل ومرة بالدعاء، وكلها أسباب للشفاء فقال: (تداووا عباد الله! ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء) فإذا كان العلاج يقدح في التوحيد فإذا جعت فلا تأكل؛ لأن هذا اعتماد على الطعام، وأنت رجل موحد فاعتمد على الله عز وجل، وإذا عطشت فلا تشرب، وإذا أردت الولد فاحصل عليه دون زوجة!! وفي الحقيقة كل هذا كذب، والأصل أخذ الأسباب وإعمالها في حصول المسبب.
قال الحسن في مرضه الذي مرض فيه: [إن الله قدر أجلاً وقدر معه مرضاً، وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب القرآن فقد كذب بالحق].
وقال: [من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام].
كأن القدر هو الإسلام كله، كأن عنوانك في الإيمان والإسلام وثبوتك على ذلك إنما هو إيمانك بالقدر.(40/17)
أقوال مطرف بن عبد الله الشخير ووهب بن منبه رحمهما الله في إثبات القدر
قال: [عن مطرف قال: نظرت فإذا ابن آدم ملقى بين يدي الله وبين يدي إبليس].
معنى (نظرت) أي: فكرت وتدبرت وأمعنت في النظر، فتصور لي أن ابن آدم ملقى بين يدي الله وبين إبليس.
قال: [فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إبليس].
واجتمع وهب بن منبه وعطاء الخرساني بمكة، فقال له عطاء: يا أبا عبد الله! بلغني أنك كتبت في القدر، أي: كتبت كتاباً عن القدر وتكلمت فيه.
قال وهب: [ما كتبت كتباً ولا تكلمت في القدر].
أي: أنا على إيمان النبي صلى الله عليه وسلم وعقيدته.
ثم قال وهب: [قرأت نيفاً وتسعين كتاباً من كتب الله، منها نيف وسبعون ظاهرة لا يعلمها إلا قليل من الناس، فوجدت فيها كلها: أن كل من وكل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر].
وهذا كلام يرد به على الجهمية الذين يقولون: إن الله تبارك وتعالى لا علاقة له بأفعال العباد، وأنها من مشيئة العباد وأعمالهم وأفعالهم، وأن الله لا دخل له بأعمال العباد.
ولذلك لو رجعنا إلى نص مطرف قال: [فإن شاء الله أن يعصمه عصمه].
فالعصمة والهداية والضلال بيد الله؛ لأن الله لو ترك عبده لتخطفه إبليس، وتخطف إبليس لهذا العبد إنما هو بقدر من الله عز وجل.
[عن ثابت أن مطرفاً قال: نظرت في هذا الأمر ممن كان فإذا بدؤه من الله عز وجل، وإذا تمامه على الله] إذاً: بداية هذا الأمر بيد الله، ونهايته بيد الله عز وجل.
قال: [ونظرت ما ملاكه، -أي: ذروة سنامه- فإذا ملاكه الدعاء] لأن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
يقول ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب الداء والدواء: الدعاء على ثلاث مراتب يشرح الحديث: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) أي: لا شيء ينفع مع القضاء إلا الدعاء.
وأنتم تعلمون أن الدعاء كذلك بقضاء وقدر، فإن الله تعالى علم أزلاً أنه سيبتلي عبده فلان في المكان الفلاني والزمان الفلاني ببلية فلانية، وأن العبد بقدر الله سيوفق لدعاء يدعوه في هذا الموطن وفي هذا المكان وفي هذه الحالة، وأن الدعاء يكون أقوى من البلاء، إذ يلح فيه العبد بصدق وإخلاص وحسن لجوء وتوجه إلى الله عز وجل؛ فيكون الدعاء أقوى من البلاء الذي نزل، فيدفع الله تبارك وتعالى هذا البلاء بهذا الدعاء؛ لأنه أقوى من البلاء.
وأحياناً يكون الدعاء رخواً ميتاً لا روح فيه، فيكون البلاء أقوى منه ويستقر في العبد، وأحياناً يكون الدعاء على قدر مساو للبلاء فيتعالجان أو يعتلجان أو يتناطحان في السماء إلى يوم القيامة، فلا هذا يغلب هذا ولا هذا يغلب هذا، وكله بقضاء الله وقدره وعلمه السابق.(40/18)
قول كعب الأحبار رحمه الله في إثبات القدر
قال: [عن يونس بن سيف أن عطية بن قيس: أخبره أن رهطاً عادوا كعب الأحبار.
- كعب بن ماتع الحميري حينما مرض عاده أناس- فقالوا له: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟! قال: بخير، عبد أُخذ بذنبه -أي: أني أنا قد أخذني الله تعالى بذنب اقترفته- فإن قبضه الله إليه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه، وإن عاقبه ينشيه نظيفاً] أي: يبعثه في الجنة نظيفاً بلا ذنب.
هذا الكلام فيه أصول وعقائد عظيمة جداً، منها: الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من عند الله عز وجل.
ومنها: أن صاحب الكبيرة أو أن صاحب الذنب يعفو الله عنه، أو يعذبه بذنبه في النار ثم يخرج منها.
ومنها: أن العبد العاصي الذي وحد الله وخلط ذلك بمعصية لا يستوي مع عبد كفر بالله عز وجل أصلاً، فإن هذا مخلد، والأول ناج وإن دخل النار أولاً.(40/19)
قول محمد بن كعب القرظي رحمه الله في إثبات القدر
وقال محمد بن كعب القرظي: [ما أُنزلت هذه الآية إلا تعييراً لأهل القدر: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]].
ما دون الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته مخلوق.
فكلامنا الآن وحديثنا وحركاتنا وسكناتنا وقيامنا وقعودنا مخلوق لله عز وجل، والمرض مخلوق، والذي خلقه هو الله عز وجل، فكل شيء من عند الله بقضائه وقدره، سواء كان خيراً أو كان شراً.(40/20)
قول علي بن الحسين رحمه الله في إثبات القدر
وقال علي بن الحسين: [إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله عز وجل على ضعف رأيهم فقالوا لله: لِم] أي: لم فعلت كذا يا رب؟! يسألون الله تبارك وتعالى سؤال استنكار: لِم قدر كذا؟ ولِم قضى بكذا؟ ولِم فعل كذا؟ [ولا ينبغي أن يقال لله لِمَ؟] مستنكراً: لِم كذا؟ وكيف فعلت كذا؟ لأن أفعال الله تبارك وتعالى لا تحصر، ولا يقال فيها: لِم ولا كيف.(40/21)
قول محمد بن علي بن الحسين رحمه الله في إثبات القدر
قال أبو عبد الله العطافي -ينقل عن الشيعة- قال: [جاء رجل من أهل البصرة، فسأل عن محمد بن علي بن الحسين بن علي؟ والشيعة يقولون: إنه من رجالنا وأئمتنا فقيل له: هو ذاك الغلام.
فقال: فجئت إليه وكأنه ما بلغ بعد -غُلام صغير- قال: فقلت: يا سيدي! إني وافد أهل البصرة إليك، وذاك أن القدر قد نشأ في البصرة، وقد ارتد أكثر الناس، وأريد أن أسألك عنه؟] إن أول من تكلم في القدر هو معبد وبئس المعبد هو، ومعبد شيخه سوسن النصراني، ولذلك أصل كل ضلالة في الإسلام إما نصراني أو مجوسي أو يهودي، وإذا نظرت إلى تاريخ كل بدعة وأصلها لوجدت أن أهل هذه البدعة يضعون أيديهم في أيدي أصل هذه البدعة عندهم حرباً على الإسلام وأهله.
[قال: سل.
فقلت: أحب الخلوة.
فقام فمشى حتى خلا.
قال له: سل.
فقال: فقلت: الخير؟ فقال لي: اكتب: علم وقضى وقدر وشاء وأراد وأحب ورضي.
قال: قلت: زدني.
فقال لي: هكذا خرج أو هكذا جاء إلينا أو وصل إلينا].
إذاً: نحن في باب القدر بالذات نتوقف عند الذي جاء عن سلفنا، ولذلك كان كثير من السلف جداً يسكتون إذا سئلوا عن القدر، لا عن عجز وإنما اتباع لسلف هذه الأمة.
[قال: قلت: الشر؟ قال: اكتب: علم وقضى وقدر وشاء وأراد ولم يرض ولم يحب].
وفي الخير قال: ورضي وأحب، ولكن في الشر قال: ولم يرض ولم يحب، مع أنه قضى وقدر وأراد وشاء، لكن أراد وقدر وشاء إرادة الشر إرادة كونية قدرية، فليس من الممكن أن يذهب أحد فيزني ثم يقول: أنا سأذهب لأزني، قدر الله ذلك أو لم يقدره، شاءه أو لم يشأه؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراده الله، لكن لا يجوز الاحتجاج بهذا، فإذا أردت أن تحتج بهذا فاحتج بالعقوبة أيضاً، ولذلك جيء برجل قد سرق إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو زنى في رواية أخرى، فلما أمر به عمر ليقام عليه الحد، قال: يا عمر! أتحدني في أمر قد قدره الله علي؟ قال: نعم.
نحدك بقدر الله أيضاً.
إذاً: الحد أيضاً من قدر الله.
[قال: قلت: زدني.
قال: هكذا خرج إلينا].
الخير: أراده وقضاه وقدره وشاءه وأحبه ورضيه.
والشر: أراده وشاءه وقضاه وقدره ولم يحبه ولم يرضه، ومع هذا أذن في وقوعه وخلقه وإيجاده.
فهل أنتم تحبون الكفر أم تكرهونه؟ فالله تبارك وتعالى أشد كراهية للكفر منكم، ومع هذا هل يستطيع أحد أن يكفر دون أن يقدر الله عليه هذا الكفر؟
الجواب
لا، والله يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] ومع هذا وقع الكفر في الكون، ولكن وقع بإذنه وأمره وإيجاده وخلقه، ولم يحبه ولم يرضه.
[قال: زدني.
قال: هكذا خرج إلينا].
أي: هذا الذي وصلنا عن سلفنا.
قال: [فقال الرجل: فرجعت إلى البصرة فنصب لي منبر في مسجد الجامع، فاجتمع الناس فقرأت عليهم ما كتبت فرجع أكثر الناس].
فقد كان معبد قبل ذلك يُعمل لسانه في غيبة أهل العلم.(40/22)
قول جعفر بن محمد الصادق رحمه الله في إثبات القدر
قال: [قال رجل من الشيعة للصادق: إن القدرية تقول لنا: إنكم كفار.
قال: فقال له: اكتب: إن الله عز وجل لا يُطاع قهراً.
ولا يعصى قهراً، فإذا أراد الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت، فإن عذب فبحق، وإن عفا فبفضل].
فهل جعفر الصادق يرضى عن الخميني وعصابته؟ لا يرضى عنهم، ونسبتهم إليه نسبة كذب وافتراء.
ألم تعلموا أن شاه إيران هذا ليس له في الشيعة ولا في السنة حظ ولا نصيب وفي الإسلام أصلاً، إلا حظاً يتسلى به كما يتسلى الملوك عادة بأهل العلم أو أهل الالتزام أو غير ذلك.
قال: اليوم سأعرف هل الشيعة على الحق أم أهل السنة؟ وجمع (11) من أهل السنة، و (11) من الشيعة، يريد أن يلعب ويتسلى، ووضع مناظرة فيما بينهم، فقال رجل من أهل السنة -وهو زعيم الفريق- آمراً لإخوانه: لا تقولوا شيئاً ولا تفعلوا إلا أن تصدروا عني -أي: لا تتكلموا حتى أتكلم أنا- فلما دخل على طاولة النقاش قام بوضع نعله تحت إبطه، فلما رأوه فعل هذا قاموا بتقليده ووضعوا نعالهم تحت آباطهم، فلما دخلوا وجلسوا وضع زعيم أهل السنة نعله أمامه على الطاولة، فوضع أتباعه من أهل السنة أحذيتهم على الطاولة، فتعجب شاه إيران كيف يكون هذا بحضرة الملك؟! فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: عندنا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الشيعة كانوا على زمانه يسرقون النعال، فقام زعيم فريق الشيعة وقال: لم يكن الشيعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهت المناظرة.
[قال رجل من الشيعة للصادق: إن القدرية تقول لنا: إنكم كفار.
قال: فقال له: اكتب: إن الله عز وجل لا يُطاع قهراً كما أنه لا يُعصى قهراً، فإذا أراد الطاعة كانت -أي: كانت من العباد ووقعت منهم- وإذا أراد المعصية -إرادة كونية قدرية- كانت، فإن عذب فبحق، وإن عفا فبفضله سبحانه وتعالى].(40/23)
قول زيد بن علي رحمه الله في إثبات القدر
[جاء رجل إلى زيد بن علي فقال: يا زيد! أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يُعصى؟ فقال له زيد: أيُعصى عنوة؟ قال: فاقبل يحظر].(40/24)
قول ربيعة الرأي رحمه الله في إثبات القدر
قال: [قال غيلان الدمشقي -قدري- لـ ربيعة: يا أبا عثمان! أيرضى الله عز وجل أن يُعصى؟ فقال له ربيعة: أفيعصى قسراً؟] أي: هل يمكن أن يعصى الله رغماً عنه وقسراً عنه سبحانه وتعالى؟ فهذا لا يمكن.
[قال: ولا أعلمه إلا قال: يا أبا مروان].(40/25)
قول سالم بن عبد الله بن عمر رحمه الله في إثبات القدر
سأل رجل سالم بن عبد الله بن عمر فقال: [أيزني الرجل بقدر؟ قال: نعم.
قال: أشيء كتبه الله عليه؟ قال: نعم.
قال: فيعذبه عليه وقد كتبه عليه؟ قال: فحصبه] بحصى كانت في يده.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في خطبته التي كان يكررها دائماً: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) أي: أن الهداية والإضلال بيد الله عز وجل.(40/26)
قول محمد بن سيرين رحمه الله في إثبات القدر
قال: [قال يحيى بن عتيق: كنا في بيت محمد بن سيرين أنا وسالم بن قتيبة.
فقال سالم: لوددنا أنا علمنا ما قول محمد بن سيرين في القدر؟ قال: فدخل رجل فقلنا: سله ما يقول في القدر.
فسأله الرجل قال: فنكس محمد ونكسنا مطرقين -أي: أنه سكت وسكتنا؛ لأن الخوض في القدر مصيبة- ثم إن محمداً قال: أيهم أمرك بها؟ ثم سكت ساعة ثم قال: إن الشيطان ليس له سلطان، ولكن من أطاعه أضله].(40/27)
قول طاوس بن كيسان رحمه الله في معبد الجهني
قال طاوس لأصحابه: [احذروا معبد الجهني فإنه قدري أو قال: فإنه كان قدرياً].(40/28)
قول أبي قلابة رحمه الله في إثبات القدر
قال أبو قلابة لـ أيوب: [يا أيوب! اضبط عني أربعاً -أي: احفظ عني أربع مسائل- لا تقولن في القرآن برأيك -لأن هذا محذور شرعي- وإياك والقدر -أي: أن تتكلم فيه- وإذا ذُكر أصحاب محمد فأمسك].
وأنتم تعلمون أن الشيعة وقعوا في جُل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، بل لم ينج من ألسنتهم إلا نفر قليل من أصحابه عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان يقول: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) أي: أقل من النصف.
قال: [وإذا ذُكر أصحاب محمد فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء سمعك فيغيروا قلبك].
أي: احذر أن تجتمع بصاحب بدعة.
فهؤلاء الأئمة في الأزمنة السابقة كانوا يفرون من أصحاب البدع فرارهم من الأسد مع أنهم أئمة وكانت بإمكانهم مناظرتهم، فالحجة بأيديهم يقيمونها عليهم، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا ليقتدي بهم من يأتي بعدهم، فليس لك أن تقول: أنا من أهل العلم المجتهدين، وسأذهب لأناقش أصحاب التكفير والهجرة، ثم ما إن ترجع من مناقشتك معهم إلا وقد أخذت عنهم الكثير، ثم تقول بأنهم على حق، فهذا ليس ميدانك.
نكتفي بهذا، وصلى الله على محمد، وآله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.(40/29)
الأسئلة(40/30)
حكم تعليم الرجال للطالبات
السؤال
بمناسبة الإجازة الصيفية للطلبة والطالبات يسأل كثير من الإخوة في أحد المساجد عن مدى مشروعية تحفيظهم للتلميذات داخل المسجد مع تعليمهن بعض آداب الإسلام، علماً بأن كثيراً من أبناء وبنات المسلمين لا يعلمون عن الإسلام شيئاً، ولو تركناهم وخلينا بيننا وبينهم لزاد فسادهم وفسادهن، وبالتالي يزداد إفسادهن للغير، مع العلم بعدم وجود أخوات يقمن بتحفيظهن وتعليمهن، فإن جاز قيام الإخوة بهذه المهمة، فما هي الاحتياطات اللازم اتخاذها، وإن لم يجز فيتساءلون: ألم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم النساء ويخص لهن يوماً يذهب إليهن فيه.
نرجو توضيح المسألة؟
الجواب
في الحقيقة تعليم البنات كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام أمر لازم لا يختلف فيه أحد، ولكن ما هي الضرورة إلى أن يتصدر إلى تعليم البنات رجل؟ خاصة وقد أثبت الواقع مفاسد لا نهاية لها، فإذا أرادت البنت أن تتعلم أو أراد والدها أن يعلمها فليأت لها بصاحبة مثلها تتعلم القرآن، وإذا كانت المسائل هذه في نطاق هذه المنطقة فأنا أدل الآباء والأمهات على إرسال أولادهن من الذكور والبنات إلى مسجد نور الإسلام، إذ يقوم على هذا الملتقى العلمي في الصيف إخوة أفاضل جداً فيما يتعلق بتعليم الأولاد القرآن والآداب الإسلامية، وكذلك أخوات هنَّ نقابة قد أُجيزت، فالنقابات التي هناك حافظات خاتمات للقرآن الكريم، حاصلات على إجازة في رواية القرآن الكريم، وهن صاحبات دين كذلك ولا أزكي على الله أحداً.
فأيهما يزيدك اطمئناناً: أن تدفع بابنتك إلى شاب مراهق ربما يتسلط عليه الشيطان، أو إلى امرأة مثلها؟ إنما حينما تحتج بحديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه جعل للنساء يوماً يعلمهن فيه! فهذا الحديث صحيح في البخاري في كتاب العلم، ولكن الزمان قد اختلف، والقلوب قد اختلفت والواقع يشهد بذلك.
كما أنه لم يكن بين النساء وبين الرجال سترة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، والسترة مشروعة، لكنها لم تكن في زمانه لغلبة الإيمان، وحرص كل رجل على أن يتقرب بتقوى الله عز وجل إليه، وأن يتقيه من النار.
فليس لك أن تحتج على جواز أن تتكشف المرأة أمام الرجل، كما هو منهج بعض المساجد أو بعض الجمعيات وتقول: لا دليل على وجوب السترة بين الرجال والنساء، أو بين المعلم والمتعلم حتى وإن كان المعلم رجلاً والمتعلم أنثى! نقول: هناك أدلة، منها أن الله تعالى أمرنا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] وغير ذلك من الأدلة، لكن على فرض أن المسألة ليس فيها دليل فالواقع يشهد بلزوم الساتر والحاجز بين المرأة وبين الرجل، فإننا الآن نسمع عن مصائب لم تكن من قبل، فإنه لم يكن من أحوال القرون الأولى أنه كان رجل يقابل امرأة في الطريق فيجامعها، بل على السيارات، وهل نسيتم ما يحصل في داخل السيارات من اختلاط النساء بالرجال؟(40/31)
التداوي من الأمراض أمر مشروع
السؤال
هل التداوي من الأمراض -كما في الحديث- بالأسباب البشرية فقط أم بالأسباب الطبيعية الإلهية أي: الدعاء والعسل وغير هذا؟
الجواب
بالأمرين.(40/32)
كتابة الأشياء عن المولود وهو في بطن أمه قابلة للمحو والإثبات
السؤال
الحديث الذي فيه أن الملك يؤمر بكتابة أربعة أشياء عن المولود، هل هذه الكتابة قابلة للمحو والإثبات؟
الجواب
نعم.
قابلة للمحو والإثبات؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وأم الكتاب: هو الكتاب المحفوظ، وهو لا يقبل محواً ولا إثباتاً بعد الذي أُثبت فيه، أما الذي يقبل المحو والإثبات كما في الآية: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)) في الكتب التي بأيدي الملائكة.
فإنه كما في الحديث: (صلة الرحم تزيد في العمر)، أو (البر يزيد في العمر)، مع أن العمر هو الأجل، وإذا كان الأجل مكتوباً على نحو واحد لا يتبدل ولا يتغير، فليس لهذا الحديث معنى إلا معنى قد قاله بعض أهل العلم: أن ذلك متعلق ببركة العمر.
لكن هناك تأويل آخر لهذا الحديث وهو: أن الله تبارك وتعالى علم أنه سيعطي ويمنح عبده هذا خمسين عاماً، وأخفى ذلك على ملك الأرحام فقال: اكتبه إن كان يصل الرحم فيعيش خمسين عاماً، وإن كان قاطعاً فيعيش ثلاثين عاماً.
فهل الملك هنا يعلم يقيناً أن هذا العبد سيعيش ثلاثين أم خمسين؟ الذي يعلم ذلك هو الله، فلما علم الله تعالى أن هذا العبد سيكون واصلاً للرحم كتبه في اللوح المحفوظ الذي لا يعلمه أحد غيره أن العبد سيعيش خمسين عاماً، ولكن ملك الأرحام إنما يكتب أن عمر العبد سيتردد ما بين الثلاثين إلى الخمسين، على حسب صلته للرحم أو قطعه لها، ولا يعلم ذلك يقيناً بالتحديد، فإذا بالعبد يكون واصلاً للرحم، فيمحى العمر الأول (30) سنة، ويثبت له عمر (50) سنة.
وهذا تأويل ابن القيم -وينقله عن كثير من أهل العلم- في كتابه الداء والدواء.(40/33)
حكم خلط الثمار
السؤال
ما الحكم في خلط الثمار كالكوكتيل؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الخليطين أو عن الثمرتين أن ينبذا جميعاً، فنهى كما في البخاري ومسلم عن خلط التمر بالبسر، وعن خلط التمر بالجنيب، والجنيب بالبسر، وأهل العلم اختلفوا في هذا فقالوا: النهي للتحريم، والجمهور: على أن النهي للكراهة، والراجح أنه للتحريم.
ثم ذكروا مسألة أخرى: هل الحرمة والكراهة متعلقتان بالمذكور نصاً؟ أي: أنها متعلقتان بأصناف الثمار المذكورة في الحديث؟ الظاهرية وبعض الحنابلة قالوا: بالمذكور نصاً، وجمهور أهل العلم على أن ذلك عام في كل الثمرتين.
أي: حينما تضع فراولة وموز وتنقعهم في الماء فهذا خلط قد نهى عنه الشرع.
وفي رواية المختار بن فلفل عن أنس رضي الله عنه في سنن النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين).
وهذا حديث عام يعم الثمار كلها؛ ولذلك ذهب أهل العلم في الكوكتيل إلى مذهبين: الحرمة والكراهة إذا كان ذلك نقعاً؛ لأن الانتباذ هو النقع.(40/34)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أقوال الصحابة في إثبات القدر [2]
كثر السؤال عن القدر في زمن الصحابة، وكثر جوابهم عن هذه الأسئلة، حتى إنك لا تكاد تجد صحابياً لم ينبه على مسألة القدر، ويوضح الأمر فيها لمن جاء بعدهم من الأمة، وما ذاك إلا لخطر الانحراف في هذا الباب، وكل من جاء بعد الصحابة والتابعين هم عيال عليهم ويسعه ما وسعهم فيه.(41/1)
أقوال الصحابة رضوان الله عليهم في إثبات القدر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تكلمنا عن القدر وسقنا الآيات ثم الأحاديث التي تدل على أن السلف كانوا يثبتون القدر، وأن من نفى القدر إنما أتى ببدعة في الإسلام.
ويبقى أن نتكلم وأن نسرد أقاويل الصحابة رضي الله عنهم في إثبات القدر.
فروي في إثبات القدر عن أبي بكر وعمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة والتابعين.(41/2)
أقوال الخلفاء الراشدين الأربعة في إثبات القدر
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أتاه رجل فقال أبو بكر: خلق الله الخلق فكانوا في قبضته فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام.
حينما خلق الله عز وجل الخلق قسمهم إلى قسمين: فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في يده الأخرى -وهي اليمين أيضاً؛ لأن كلتا يديه يمين-: ادخلوا النار ولا أبالي.
قال: فذهبت إلى يوم القيامة.
أي: ذهبت كل طائفة منهما إلى يوم القيامة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن نافع عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر؟ -يسأله عن وقوع المعاصي هل تقع بقدر، أي: هل الله عز وجل قدرها؟ - قال: نعم].
أبو بكر قال: الزنا يقع بقدر، ولعلكم تذكرون أننا حينما تكلمنا عن القدر قلنا: هناك مشيئة كونية ومشيئة شرعية، أو قدر شرعي وقدر كوني، ولا يلزم في القدر الكوني محبة الله عز وجل، وإنما يلزم في القدر الشرعي، فكل ما في الكون يقع بقدر الله عز وجل من خير وشر، بمعنى: أن الله تعالى أذن في وقوعه وقدره.
فقال الرجل لـ أبي بكر: أرأيت الزنا بقدر؟ قال أبو بكر: نعم.
قال: فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ فهذا فهم القدر بمعنى: أن الله تعالى جبره على ذلك.
قال: [فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ قال أبو بكر: نعم.
يا ابن الخنا! -أي: يا ابن الفحش- أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك].
أي: لو كان عندي الآن من آمره أن يجأ أنفك وأن يضربه لفعلت.
قال: [وهذا عمر رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني]، أي: إن كنت قدرت علي الشقاء فامحه عني واجعلني في السعداء، وهذا يثبت أن عمر إنما كان يؤمن أن الخير والشر بيد الله عز وجل، وأن الله تعالى كتب وقدر الخلائق إلى قسمين فجعل أحدهما في النار والآخر في الجنة، فلما خفي هذا عن عمر رضي الله عنه وفي أي القسمين هو ناجى الله عز وجل بقوله: اللهم إن كنت كتبتني شقياً -أي: قدرت علي الشقاء- فسامحني واكتبني في السعداء.
قال: [وقال أبو عثمان النهدي: سمعت عمر بن الخطاب وهو يطوف بالبيت قال: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في الشقوة -أي: في فريق الشقاء- فامحني منها وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب].
والمحو والإثبات في الصحف التي بيد الملائكة، أما أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ فلا محو فيه ألبتة؛ لقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] فالمحو والإثبات بيد الملائكة {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] الذي ليس فيه محو ولا إثبات بعد الذي أُثبت فيه.
قال: [وعن ابن أبزى قال: أتي عمر فقيل له: إن ناساً يتكلمون في القدر فقام خطيباً فقال: يا أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم في القدر، والذي نفس عمر بيده لا أسمع برجلين تكلما فيه إلا ضربت أعناقهما].
حينما بلغ عمر أن رجلاً تكلم في القدر بمعنى أنكره أو أنكر علم الله عز وجل، وأن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها قال: والله لا يأتيني أحد يتكلم في القدر إلا ضربت عنقه.
وهكذا مهمة الأمراء والولاة والخلفاء: الحفاظ على الدين أولاً، وعلى عقيدة الناس بعد ذلك.
قال: [فأحجم الناس فما تكلم فيه أحد حتى ظهرت نابغة الشام]، أي: حتى ظهر من يتكلم في ذلك بالشام.
قال: [وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب في الناس يوماً فقال: ما يمنعه أن يقوم فيخضب هذا من هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! أما إذ عرفته فأرنا نبير عترته.
فقال: أنشدكم الله ألا يقتل بي غير قاتلي.
قالوا: فأوصنا.
قال: أكلكم إلى ما وكلكم الله ورسوله إليه.
قالوا: فما تقول لربك إذا قدمت عليه؟ قال: أقول: كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم حتى توفيتني، وهم عبادك إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم].
والشاهد قوله: إن شئت أصلحتهم وإن شئت أفسدتهم، يدل على أن الصلاح والفساد بيد الله عز وجل.
قال: [وهذا عبد الله بن سبع يقول: إن علياً خطبهم بهذه الخطبة.
وقال عبد الله بن الحارث: سمعت علياً يقول: ليأتين على الناس زمان يُكذبون فيه بالقدر، تجيء المرأة سوقاً أو حاجتها، فترجع إلى منزلها وقد مُسخ زوجها بتكذيبه القدر].
أي: أن المرأة تترك بيتها وتذهب إلى السوق وزوجها يتكلم في القدر، والمعلوم أن الواحد يقضي حاجته بأسرع وقت في السوق؛ لأنها شر البقاع، فإذا انقلبت المرأة بعد قضاء حاجتها من السوق إلى بيتها وقد اشترت حاجاتها تجد أن زوجها الذي تركته زوجاً ورجلاً قد مُسخ قرداً أو خنزيراً؛ لماذا؟ لأنه يتكلم في القدر.
قال: [وعن علي بن أبي طالب قال: إن القدر(41/3)
قول عبد الله بن مسعود في إثبات القدر
قال: [عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره].
والشاهد هنا في قوله: (فإن الشقي من شقي في بطن أمه) أي: أن الله تبارك وتعالى كتبه من الأشقياء قبل أن يولد، فمن قال: إن هذا ظلم؛ كفر؛ لأنه يقصد أن الذي ظلمه هو الله، والله تبارك وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، فما بال الله عز وجل كتبه وهو في بطن أمه من الأشقياء؟ وأنتم تعلمون حديث عبد الله بن مسعود: (ويؤمر الملك بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) وهذا يكون بعد تكوين الجنين بأربعين يوماً، وقيل: بمائة وعشرين يوماً، والراجح: أن الروح تنفخ بعد الأربعين لا بعد المائة والعشرين، والمسألة محل خلاف بين أهل العلم.
والذي يترجح لدي: أنها تنفخ بعد الأربعين؛ ولذلك لا يجوز الإجهاض بعد الأربعين حتى وإن ماتت المرأة، أما إذا كانت هناك علة وعذر شرعي للإجهاض قبل الأربعين فبها ونعمت، وإن لم يكن هناك عذر حرم الإجهاض أيضاً.
قال: (والشقي من شقي في بطن أمه) أي: يختار طريق الشقاء فيكتبه الله عليه حينئذ؛ لأن الله تبارك وتعالى علم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة، وما بعد ذلك وما قبل ذلك، فعلم الله عز وجل أن هذا العبد قبل أن يكون جنيناً حينما خلقه من ظهر أبيه آدم، أنه سيختار طريق الشقاء رغم إرسال الله عز وجل للرسل، وإنزاله الكتب، وتسخيره العقل السليم لهذا الرجل الذي يميز به بين الحق والباطل، ومع هذا يختار هذا الشقي طريق الشقاء.
فإذا كان الأمر كذلك فما الضرر بعد ذلك أن يكتبه الله تبارك وتعالى من الأشقياء؟ قال: [وعن عبد الله بن مسعود قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي، أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يكن].
أي: لا يعترض على قضاء الله وقدره.
قال: [ويقول الحارث: سمعت ابن مسعود يقول وهو يدخل إصبعه في فيه: لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر، ويُقر ويعلم أنه ميت مُخرج، وأنه مبعوث من بعد الموت وكل هذا بقدر.
وقال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة: اصرفوا عنه.
فإني إن يسرته له أدخلته النار].
أرأيتم رحمة الله؟ أي: أن المرء يحب أن يفعل شيئاً، وربما يستخير الله عز وجل على فعل هذا الشيء، لكنه قبل أن يستخير يتمنى أن لو يُسر له هذا الأمر، إذاً: الاستخارة هذه ضعيفة جداً، والدعاء فيها يكاد يكون ميتاً؛ لأنه قد عقد قلبه على محبة هذا الشيء وحب الحصول عليه، فـ عبد الله بن مسعود يقول: وإن هذا العبد ليهم بفعل الأمر ويهواه ويشتهيه ولو أن الله تعالى يسره له لكان فيه هلكته، ولكن الله تعالى يصرفه.
فكم من رجل كان صاحب خلق ودين، فلما عمل بالتجارة فسدت أخلاقه وضاع دينه، وكم من رجل لما تأمر وتسلط وترأس نسي دينه تماماً، فبسبب معاصيه وانهماكه في معصية الله عز وجل يدخله الله تبارك وتعالى النار، ولو أن الله صرف عنه التجارة من الأول لكان في ذلك النجاة كل النجاة، ولكن العبد إنما يحب ما يراه هو خيراً لا ما يراه الله عز وجل؛ ولذلك شرع الله تعالى الاستخارة: (إذا هم أحدكم بالأمر -أي: إذا أراد أن يفعل شيئاً- فليركع ركعتين من غير الفريضة -أي نافلة- ثم ليقل: اللهم إني أسألك بعلمك -أي بعلمك السابق الأزلي الذي تعلم به الخير والشر- وأستقدرك بقدرتك وأستخيرك من فضلك، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم -وهذا من الأدب- اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -الذي يريد أن يقدم عليه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أي: في الآخرة- آجله وعاجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان) فكأن العبد يرتمي بكليته في بحر علم الله عز وجل وبحر كرمه وفضله: يا رب اختر لي فأنا لا أعلم شيئاً.(41/4)
قول عبد الرحمن بن عوف في إثبات القدر
قال: [وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مرض مرضاً شديداً أُغمي عليه فأفاق فقال: أُعمي علي؟ قالوا: نعم.
قال: إنه أتاني رجلان غليظان، فأخذا بيدي فقالا: انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين.
فانطلقا بي فلقيهما رجل قال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين، فقال: دعاه -أي: اتركاه- فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه].(41/5)
قول عبد الله بن عباس في إثبات القدر
قال: [يقول طاووس -تلميذ ابن عباس -: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: العجز والكيس بقدر].
أي: النشاط والقدرة والقوة وكذلك الضعف والخوف كل ذلك بقدر الله عز وجل.
قال: [وعن ابن عباس قال: لو أخذت رجلاً من هؤلاء الذين يقولون: لا قدر لأخذت برأسه وقلت: لولا ولولا.
وقيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر -أي: أنهم يتكلمون في القدر ويقولون: لا قدر- وأن الأمر أنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم الأمر إلا بعد وقوعه].
ونحن نعلم أن الإنسان لا يعلم الأشياء المستقبلية التي غابت عنه أو غابت عنه أسبابها حتى تقع؛ ولذلك لو حدث شيء الآن لقلنا: سبحان الله! كيف حدث؟ لم يكن عندنا علم ولا أسباب سبقته ولا غير ذلك، فالذي علم ذلك في الأزل هو الله عز وجل، فهناك أناس يتكلمون في القدر ويقولون: إن الأمر أُنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم ما سيكون.
وهذا فيه تسوية للخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى.
قال: [قيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر، قال: يكذبون بالكتاب؟ -أي: يكذبون بالكتاب الذي أثبت العلم الأزلي لله عز وجل؟ - لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه -أي: لأقطعنه- إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً فخلق القلم -أول المخلوقات- فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
فالذي أمر بأن يكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة عالم أم لا؟
الجواب
عالم سبحانه وتعالى.
قال: [فإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه].
أي: أن الذي يفعله الناس اليوم مقدر في الأزل، وأن الله تعالى علمه من عباده وخلقه؛ فقدره عليهم وكتبه عليهم، هذا من أهل السعادة وذاك من أهل الشقاء.
قال: [وقال ابن عباس: القدر نظام التوحيد]، أي هو سلوك الموحدين وطريقهم؛ لأن من كفر بالقدر فقد كفر بالتوحيد وكفر بالله عز وجل؛ ولذلك أفردته النصوص بإلزام الإيمان به، فلما سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) فلم يعطف القدر على بقية أركان الإيمان وإنما أفرده (قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله) ولم يقل: وأن تؤمن بالملائكة، وأن تؤمن بالرسل، وإنما قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر) فعطف هؤلاء جميعاً على قوله: (أن تؤمن) ثم أفرد القدر.
قال: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)، فلا يصح إسلام العبد ولا إيمانه إلا إذا آمن بالقدر خيره وشره، وأن القدر خيره وشره من عند الله عز وجل، ولكن الله تعالى أراد من عباده الخير وكلفهم به وألزمهم بإتيانه وأثابهم عليه، وأن الشر يقع في الكون بإرادة الله وإذنه مع أن الله قد نهى عنه، وغضب وسخط على من يأتي الشر أو المعصية، لكن هذا لا يُفهم منه أن الخير من الله وأن الشر من الناس.
فيكون الشر من خلق الله عز وجل، ومعنى (من خلقه) أي: أن الله تعالى أذن في وجوده ووقوعه في الكون، وإلا لو أراد رجل أن يزني فقال: أنا أزني رغماً عن الله عز وجل.
هل يستطيع ذلك؟ أبداً لا يستطيع، إذا كان الله لم يقدر هذا الزنا؛ لأن الزنا لا يقع إلا إذا أذن الله تعالى به، وإن كان الله تعالى حرمه فما قصة وقوعه بقدر؟
الجواب
لأنه لا شيء يقع في كون الله إلا إذا أمر الله تعالى به أو إذا قدره وأراده إرادة كونية قدرية لا إرادة شرعية دينية.
فالإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا كما اتفقنا، فإن الذي يصلي فيقوم ويركع ويسجد ويجلس ويسلم يمنة ويسرة كل ذلك بقدر، والله تعالى يحب ذلك؛ لأنه خير والله تعالى أمر به، والذي يخطو خطوات لأجل السطو على أموال الغير أو قطع الطريق أو الزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك، هل يستطيع عبد أن ينقل قدماً وأن يحط أخرى إلا بقدر، فإن الذي يمشي إلى الصلاة يمشي بقدر، وإن الذي يمشي إلى السرقة يمشي كذلك بقدر، ولكن الله تعالى يحب المشي إلى الصلاة ويبغض المشي إلى السرقة والكل بقدر الله عز وجل، فإن الله تعالى قدر المشي إلى الصلاة وأمر به وأذن في وقوعه في كونه وأثاب فاعله على ذلك؛ لأنه أطاع الأمر، وفي المقابل الذي يخطو هذه الخطوات للسرقة الله تعالى أذن له وقدر له هذه الخطوات، مع أن الله تعالى أفرغ عذر هذا الرجل بأن أرسل له الرسل وأنزل عليهم الكتب، وبلغته الدعوة، وحذره وبين له أن هذا شر بناء على العقل السليم الذي ركبه في رأسه، وإلا لو زنى مجنون هل يؤاخذ؟ ولو سرق مجنون هل يؤاخذ؟ لو شرب الخمر مجنون هل يؤاخذ؟ لا، ولكن الله تعالى جعل العقل مناط التكليف.
ولذلك لو أتيناك بطريقين أحدهما قد امتلأ شوكاً، والآخر قد امتلأ ورداً وقلنا: اسلك أحد الطريقين وكلاهما يبلغ إلى المكان الفلاني أو الغرض الفلاني، فأي الطريقين تسلك أنت؟ الجواب: طريق الورد، فلو سألناك: لِم سلكت هذا الطريق وتركت الثاني؟ لقلت: إن هذا ممهد موطأ معبد، وإن هذا قد امتلأ شوكاً.
فالذي جعلك تميز بعقلك السليم بين هذا وذاك يجع(41/6)
قول ابن عمر في إثبات القدر
قال: [وعن يحيى بن يعمر قال: قلت لـ ابن عمر: إنا نسافر فنلقى قوماً يقولون: لا قدر.
قال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء ثلاث مرات].
فالعلماء حملوا براءة ابن عمر من القدرية على الكفر، ونحن قلنا: إن القدر هذا أربع مراتب: المرتبة الأولى: مرتبة العلم.
المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة.
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق.
مرتبة العلم: أن الله تعالى علم كل شيء يفعله العباد من خير وشر، فقدره عليه بعد أن أفرغ حجته.
ثم حينما علم الله عز وجل كل شيء كان خلق القلم، وأمره بأن يكتب كل شيء سيكون إلى يوم القيامة.
وهاتان المرتبتان منكرهما وجاحدهما كافر خارج عن ملة الإسلام، والذي كان يقول: لا قدر في البصرة وهو معبد الجهني في زمن عبد الله بن عمر كان ينكر علم الله السابق وينكر الكتابة.
فالذي ينكر هاتين المرتبتين والمنزلتين كافر خارج عن ملة الإسلام.
أما المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة، والمرتبة الرابعة مرتبة خلق أفعال العباد خيرها وشرها فإن النزاع قائم بين أهل العلم في كفر من قال بغير ذلك أو عداه.
قال ابن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه براء ثلاث مرات.(41/7)
أقوال أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة وزيد بن ثابت في إثبات القدر
والكلام في القدر من جهة الصحابة ثابت عن أبي بن كعب وعبادة بن الصامت وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وغيرهم.
قال: [قال ابن الديلمي: أتيت أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر! إنه وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه عني].
أي: أن ابن الديلمي ذهب لـ أبي بن كعب ليستنجد به، وأنتم تعلمون أن أبي بن كعب من كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الحفاظ المتقنين المتثبتين.
فهو يقول له: دخل في نفسي شيء من القدر فأرجو أن تتكلم حتى يزول عني؛ لأنه يعلم أنه باطل ولكن ربما دخلته الشبهة.
قال: [فقال أُبي: إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم].
وأهل السماوات هم الملائكة، وهؤلاء الملائكة جبلوا وخلقوا وكتبوا على الطاعة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] أي: أن المعصية لا تأتي من جهتهم قط، فعلام يُعذبون؟ ولكن لو أن الله عذبهم هل يكون ظالماً لهم؟ قال: [إن الله عز وجل لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير ذلك دخلت النار].
قال ابن الديلمي: ثم أتيت ابن مسعود فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت حذيفة فحدثني بمثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني بمثل ذلك.
فهؤلاء الصحابة قد تكلموا في القدر هنا بكلام جميل جداً وممتع للغاية، ثم نجد أن مسائل القدر حاكت في صدور التابعين ومن بعدهم أيما حياكة، فكان من شأن علماء التابعين ومن بعدهم أنهم كفوا عن الكلام في القدر، وكان يوصي بعضهم البعض فيقولون: إذا ذُكر القدر فأمسكوا، وإذا ذُكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عنهم- فأمسكوا، فكانت هناك مسائل إذا ذُكرت لا يتكلم فيها أحد لا عن جهل، وإنما يرون أن ذلك باب عظيم للفتنة، فقلة الكلام فيه أولى من التصدي له.(41/8)
أقوال الحسن بن علي وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو وأبي الدرداء في إثبات القدر
قال: [وعن الحسن بن علي قال: قضى الله القضاء وجف القلم وأمور بقضاء في كتاب قد خلا].
أي أن الله تبارك وتعالى قدر الأقدار وقضى القضايا قبل أن يخلق السماوات والأرض، فكتب ذلك في كتاب لا يقبل المحو ولا الإثبات.
قال: [وعن عمرو بن العاص قال: انتهى عجبي إلى ثلاث -أي عجبت عجباً شديداً من ثلاث-: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في أعين أخيه القذى فيعيبها ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها].
وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه).
أي: أن أحدنا يرى من أخيه أدق العيوب وهو عنده أعظم العيوب فلا يراها (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه).
قال: [ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها.
وعن عبد الله بن الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو وهو في حائط له بالطائف بالوهط، -وهذا اسم الحديقة والبستان الذي تركه عمرو بن العاص رضي الله عنه لولده عبد الله - ومعه فتى من قريش يزن بشرب الخمر -أي: أنه يُعرف بأنه شارب خمر- فقلت له: بلغني عنك حديث: (أنه من شرب شربة خمر لم يقبل الله توبته أربعين صباحاً، وإن الشقي من شقي في بطن أمه).
وعن أبي الدرداء قال: ذروة الإيمان أربع -أعلى مسائل الإيمان أربع-: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب تبارك وتعالى].
والشاهد: (والرضا بالقدر).(41/9)
قول سلمان الفارسي في إثبات القدر
قال: [وعن أبي الحجاج الأزدي قال: سألت سلمان الفارسي: ما هو الإيمان بالقدر؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
وعن أبي نعامة السعدي قال: كنا عند أبي عثمان النهدي فحمدنا الله ودعونا فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره.
فقال: ثبتك الله، كنا عند سلمان فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره.
فقال سلمان: ثبتك الله.
إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذارٍ إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة، فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير، ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر].
فقوله هنا: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره، أي: إنني أؤمن إيماناً جازماً بما قدره الله عز وجل وقضاه علي أولاً، فأنا أفرح بما قدره الله عز وجل علي أولاً قبل أن يخلقني، وأن عملي وإن كان صالحاً ما هو إلا سبب لدخول الجنة.
فهو يفرح بما قدره الله له، ولا يفرح بعمله؛ لأن الأعمال بالخواتيم.(41/10)
أقوال جابر بن عبد الله وعائشة في إثبات القدر
قال: [وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر]، وأهل العلم يقولون: (لا) هنا نافية لأصل الإيمان: فقوله: (لا يؤمن) أي: لا يؤمن ألبتة عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره.
قال: [وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وعن عائشة قالت: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار].
أي: إن العبد ليعمل عمراً طويلاً بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار، وهذا ليس ظلماً، وتفسره الرواية التي تقول: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)، ولكنه مراءٍ ومنافق بهذا العمل، فلا يعمله لله عز وجل، وإنما يعمله لوجوه الناس، فهو عمل حابط وإن كان في ظاهره صالح إلا أنه عند الله لا يساوي شيئاً؛ لأنه لم يبتغ به وجهه، وأشرك فيه مع الله تعالى آخر؛ ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه، أنا أغنى الشركاء عن الشرك أنا أغنى الشركاء عن الشرك أنا أغنى الشركاء عن الشرك).(41/11)
أقوال التابعين رحمهم الله في إثبات القدر(41/12)
أقوال سفيان الثوري وعمر بن عبد العزيز في إثبات القدر
قال: [وقال محمد بن كثير العبدي: سمعت سفيان الثوري يقول: إن الرجل ليعبد الأصنام وهو حبيب الله].
وليس هو حبيب الله في وقت عبادته للصنم، وهذا معلوم بداهة، وإنما هو حبيب الله لأن الله تبارك وتعالى قدر أن هذا العبد سيتوب وسيعبد الله تبارك وتعالى.
فـ عمر رضي الله عنه كُتب له في اللوح المحفوظ أنه من أهل السعادة قطعاً؛ لأن النبي قطع بذلك عليه الصلاة والسلام، وهذا عمر كان يعبد الأصنام، وحينما كان يعبد الأصنام سبق في علم الله عز وجل أنه يتوب وأنه يؤمن وأنه يعبد الله تبارك وتعالى، بل يحارب الدنيا بأسرها لأجل عبادة الله، فهل كان مكتوباً أولاً أنه من أعداء الله ثم تغير اللوح المحفوظ وأُثبت مكان هذه العداوة محبة، أم أنه كان مكتوباً أولاً أنه سيكون من أحباب الله؟ بل حتى في اللحظة التي كان يعبد فيها الصنم كان مكتوباً أنه سيكون من أهل السعادة ومن أهل محبة الله عز وجل.
فهذا معنى كلام سفيان الثوري حتى لا تستنكره: إن الرجل ليعبد الأصنام وهو حبيب الله.
ليس حبيب الله عز وجل لأنه يعبد الأصنام، وإنما هو حبيب الله باعتبار ما سيكون بعد التوبة.
قال: [كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتاباً فكان فيما كُتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة].
يعني: يقلبها كيف يشاء كما في الحديث، يصنع فيها ما شاء من هدى وضلالة، إذاً: فالله تبارك وتعالى يصنع في القلوب الهدى والضلالة، وهنا (يصنع) بمعنى: يخلق.
يخلق الهدى ويخلق الضلال.
أليس الهدى فعلاً والضلال فعلاً؟
الجواب
نعم.
إذاً: الأفعال مخلوقة لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى قدر وجودها، فكما قدر وجود الصلاة قدر وجود السرقة، لكن الصلاة هدى والسرقة ضلال، فحينما قدر الله عز وجل هذا وذاك معناه: أنه يملك خلق الهدى والضلال سبحانه وتعالى.(41/13)
قول الحسن البصري في إثبات القدر
قال: [وعن نعيم العنبري -وكان من جلساء الحسن البصري - قال في قول الله عز وجل: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] قال الحسن: لوح من ذهب مكتوب فيها: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن آمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله].
هذا تفسير الحسن البصري رحمه الله لقوله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] ولكن هذا التفسير مردود؛ لأنه من علم الغيب، ولا يتكلم أحدٌ في الغيب إلا بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
قال: [وقال تمام بن نجيح: سمعت الحسن وقد أتاه رجل فأخذ بعنان دابته فقال: أيها الضال المضل حتى متى تضل الناس؟].
واحد اعترض للإمام الحسن البصري وأخذ بلجام دابته وقال: أيها الضال المضل! فهو يوجه الكلام للحسن البصري فيقول له: أنت ضال مضل.
ثم قال له: إلى متى تضل الناس؟ قال: [قال: وما ذاك؟ قال: تزعم أن من قتل مظلوماً فقد قُتل في غير أجله؟ قال الحسن: فمن يأكل بقية رزقه يا لكع! خل الدابة.
قتل في أجله].
أي: اترك الدابة لقد قُتل في أجله وأنا ما قلت ذلك.
قال: [فقال الرجل: والله ما أحب أن لي بما سمعت منك اليوم ما طلعت عليه الشمس].
أي: أن أحب شيء إلي هو هذا الكلام الذي سمعته منك الآن.
قال: [وقال أبو خلدة: سمعت الحسن يقول: الشقي من شقي في بطن أمه].
أي: من كُتب عليه الشقاء وهو في بطن أمه.
وهذا لا يردنا عن العمل الصالح، لأن الشبهة هذه دخلت على الصحابة أيضاً رضي الله عنهم.
أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن ما نحن فيه اليوم أمر قد فُرغ منه أم بعد؟) أي: أنه قد قُدر علينا وانتهى أم ليس مقدراً بعد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أمر قد فُرغ منه، فقال الرجل: ففيم العمل إذاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا.
فكل ميسر لما خُلق له) فأنت لا تعتمد على ما قُدر لك، فهل تعرف ما الذي قدره الله عز وجل لك؟ أتعرف إذا كنت من أهل الشقاء أم من أهل السعادة؟ فمن الطبيعي أنك تحرص أن تكون من أهل السعادة، والذي يحرص أن يكون من أهل السعادة يأتي الطاعات ويترك المنكرات، وهي أسباب السعادة، فإذا اجتهد المرء في ذلك ولم يوفق وارتكب النهي واقترف المعصية واكتسب الإثم والوزر فكل هذا سبب في الشقاء، فالطاعة بأسباب والمعصية والشقاء بأسباب، وهذه الأسباب مقدرة، والله تبارك وتعالى علمها من عبده فقدرها عليه، فحينما كان الواحد منا لا يعلم ما هو مكتوب له في اللوح المحفوظ وهل هو من أهل الشقاء أم من أهل السعادة، فطبيعي أنه سيحرص على أن يكون من أهل السعادة فيأتي أسباب السعادة، فإذا تنكب الطريق فقد أتى الأسباب التي تؤهله لدخول النار.
قال: [وقال عاصم: سمعت الحسن يقول في مرضه الذي مات فيه: إن الله قدر أجلاً، وقدر معه مرضاً، وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب بالقرآن فقد كذب بالحق.
وقال الحسن: من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام.
ثم قال: إن الله خلق خلقاً فخلقهم بقدر وقسم الآجال بقدر، وقسم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر].
أي أن كل شيء في الدنيا لا بد أن يكون بقدر حتى البصمة التي ذكرناها في يد علي بن أبي طالب أيضاً مكتوبة في اللوح المحفوظ.(41/14)
قول مطرف بن عبد الله بن الشخير في إثبات القدر
قال: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: نظرت فإذا ابن آدم ملقي بين يدي الله عز وجل وبين يدي إبليس].
فهو يريد أن يقول: ابن آدم هذا إما أن يكون بين يدي الله عز وجل فيطيعه، أو بين يدي إبليس فيطيعه.
قال: [فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إبليس].
وإن تركه الله -وهذا الترك بقدر- ذهب به إبليس.
قال: [وقال مطرف: نظرت في هذا الأمر ممن كان؟ فإذا بدؤه من الله عز وجل وإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه فإذا ملاكه الدعاء].
أي: أن المرء الذي يؤمن بأن القدر خيره وشره من عند الله وأنه إما أن يكون من أهل الشقاء أو من أهل السعادة، فإذا كان الأمر هكذا في معتقد العبد فينبغي أن يتضرع إلى الله عز وجل بالليل والنهار بالدعاء، حتى يصرف عنه ذلك البلاء إذا كان كتب له.(41/15)
أقوال كعب الأحبار في إثبات القدر
قال: [وجاء قوم إلى كعب الأحبار فقالوا له: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟! -أي: كيف حالك يا أبا إسحاق؟ - قال: بخير.
عبد أُخذ بذنبه، فإن قبضه إليه ربه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه، وإن عاقبه ينشئه نظيفاً].
كأنه يقول لهم: الحمد لله أنا في عافية، إن أراد الله عز وجل أن يدخلني الجنة فهذا فضل منه ورحمة، وإن شاء أن يدخلني النار حتى أتطهر من ذنوبي ثم ينشئني في الجنة نظيفاً بعد ذلك فله ما يشاء سبحانه وتعالى.(41/16)
قول محمد بن كعب القرظي في إثبات القدر
قال: [وعن محمد بن كعب القرظي قال: ما أنزلت هذه الآية إلا تعييراً لأهل القدر، وهي قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]].
فهنا لفظ (كل) من ألفاظ العموم، فهو يشمل كل شيء؛ الأشياء العظيمة والحقيرة، ويشمل الصغيرة والكبيرة وغير ذلك.(41/17)
قول علي بن الحسين في إثبات القدر
قال: [وعن علي بن الحسين أنه قال: إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله عز وجل على ضعف رأيهم.
فقالوا لله: لِم؟].
أي: أن أصحاب القدر يقولون: لِم فعل الله كذا، ولِم قدر كذا؟ ولا ينبغي أن يقال لله: لِم؟ ولا كيف؟ ولا ينبغي أن يقول أحد لله: لماذا أخذت أبي؟ لماذا أمت ابني؟ فهذا اعتراض على الله عز وجل؛ ولذلك لا يجوز ولا ينبغي.
وغير ذلك أيها الإخوة الكرام من أقوال سلفنا -رضي الله عنهم- الشيء الكثير التابعين وأتباعهم، بل ورد في كلام العرب من الشعر والنثر والنظم الشيء الكثير.
فبقية الباب أدعه لقراءتكم؛ لأنه لا يزيد الأمر إلا وضوحاً، ليس فيه جديد عما ذكرناه.(41/18)
الأسئلة(41/19)
التوبة تجب ما قبلها
السؤال
كنت تاركاً للصلاة مدمناً للخمر، ولكن الله عافاني من ترك الصلاة، وظللت مدة أصلي وأنا أشرب الخمر، وذات يوم أخطأت في الصلاة فعاهدت ربي ألا أشرب خمراً إلى أن يقبضني الله عز وجل، وتبت إليه ولم أرجع إلى هذه الكبيرة، ولكني قرأت حديث طينة الخبال: (عهد الله إلى شارب الخمر أن يسقيه من طينة الخبال)، وأنا ندمت على هذه الأيام، وعزمت على عدم العودة، فهل يعافيني ربي من هذا العقاب؟
الجواب
نعم.
إذا كنت صادقاً في توبتك عازماً على الاستمرار في الطاعة، فإن الله تبارك وتعالى قد فتح باب التوبة على مصراعيه: (وإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وإن العبد إذا أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً وبلغ السلطان وجب إقامة الحد، أما إذا لم يبلغ السلطان فليس عليك إلا أن تتوب بينك وبين الله عز وجل، والله تعالى يتوب عليك كما وعد سبحانه، ووعد الله عز وجل لا يتخلف ولا يُخلف؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد، أما وعيده فإن شاء أنفذه وإن شاء عفا سبحانه وتعالى.
فالتوبة معروضة على العبد حتى يغرغر كما في الحديث: (إن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر) أي: ما لم يبلغ حالة الاحتضار، فهذا الأخ الذي كان تاركاً للصلاة شارباً للخمر، ما دام قد تاب من هاتين البليتين العظيمتين فهنيئاً له التوبة، وأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا والسائل على الطاعة.(41/20)
بيان ما يفعل من سرق مالاً
السؤال
كنت أعمل أجيراً عند أحد الناس، وتجمع لي عنده مبلغ من المال، وماطل في دفعه إلى أن يئست منه، فسرقت منه شيئاً مقابل مالي الذي عنده، ثم اكتشفت بعد ذلك أن هذا الشيء الذي سرقته ملك لوالد زوجته، وكنت في هذه الفترة لم أصل بعد، وأنا أعرف صاحب هذا الشيء الذي سرقته منه، وكلما رأيته -بعد أن هداني الله للصلاة- ذكرت أنني سرقته، ولا أعلم ماذا أفعل؟ هل أرد هذا الشيء وهو صعب جداً، أم أدفع إليه ثمنه بطريقة غير مباشرة، أم أنه لا شيء علي حيث أني كنت لا أصلي ولا أعرف شيئاً حينها، وشكر الله لكم؟
الجواب
ولكم شكر الله.
السؤال صريح جداً وجريء، ويحتاج إلى جرأة كذلك في المنتهى.
فإذا كنت جريئاً في الأولى فينبغي أن تكون جريئاً في الثانية، وهذا الذي ذكرته استوعبه شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (إغاثة اللهفان) في شرحه لحديث (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك).
فقوله: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) أمر، وقوله: (ولا تخن من خانك) نهي، فهذا الرجل الذي عملت عنده أجيراً فماطل في دفع مالك أو أكل حقك أو غير ذلك لا يسمح لك أن تسرقه، وأنت في سؤالك قد سميت فعلك سرقة، والسرقة حرام بالكتاب والسنة والإجماع، فحينما سميته سرقة كان ينبغي أن تعطي لنفسك الجواب؛ لأن السرقة ليست بأمر مشروع، بل هي أمر محرم، فهنا يجب عليك -خاصة بعد أن علمت أن هذا المال الذي سرقته ليس مال الرجل الذي ماطل في دفع الحق، وإنما هو مال غيره الغير مكلف بدفع هذا المال إليك- وجوباً شرعياً أن تتخلص من هذا المال برده إلى صاحبه ما دام معلوماً فهو أولى به، ولا بد من رده إليه، وأنت تعلم أن من شروط التوبة رد المظالم إذا كانت بين العباد، فينبغي رد المظالم إلى أصحابها، وهو شرط في قبول التوبة الصحيحة، فهذا السائل يجب عليه أن يدفع هذا المال إلى صاحبه بأي طريقة كانت، ولا بأس أن يتحرى طريقة ليس فيها مفسدة أعظم، ولكن لا يسولن له الشيطان أن يتصدق بها عنه؛ لأنه بالإمكان إيصال هذه الأموال إلى أصحابها، أما التصدق عنه فهذا شيء يمكن عند خفاء صاحب الحق أو ذهابه وعدم عودته، أو أن يكون الأمر يتوقع منه مفسدة أعظم كمن زنى بامرأة الجار، وتاب إلى الله عز وجل، وأراد أن يستسمح صاحب المعصية التي وقع فيها، فهل يتصور أنه يذهب إليه ويقول: سامحني! فأنا قد زنيت بامرأتك في اليوم الفلاني؟! فإذا كانت هناك مفسدة أعظم فما عليه إلا أن يستغفر ويتوب إلى الله عز وجل، ويكثر من الصدقات والدعوات لصاحب هذه المظلمة.
والله تعالى أعلم.(41/21)
حكم تدريس الرجال للبنات في المرحلة الإعدادية والثانوية
السؤال
هل يجوز تدريس الرجال للبنات والعكس في المرحلة الإعدادية والثانوية؟
الجواب
لا يجوز، نحن في الحقيقة مللنا من توجيه السؤال هذا، إنك تذهب للتدريس في مدرسة ثانوية، والفتاة عمرها ثماني عشرة سنة أو أقل أو أكثر، فهي مؤهلة للزواج، وفي سن يفور شباباً وحيوية وجمالاً واهتماماً بمنظرها وجمالها، وأنت لست بحائط ولا عمود، أنت رجل لك شعور يتحرك، وإذا كنت ممن يشتهي الجمال ويطلق العنان لبصره أن ينفذ إلى أي شيء جميل فكبر على نفسك أربعاً لوفاتك في هذه المدرسة، وكثير جداً من المدرسين يشكو ويقول: أنا أدرس في الفصل الفلاني، وهناك بنت جميلة، وأنا صراحة لا أستطيع أن أحجب نفسي عنها، وقد فعلت كذا وكذا، واتفقت معها وغير ذلك من البلاء الذي نسمعه في كل يوم، وقد علمتم بأنه قد وقع الزنا في المدارس الابتدائية، وعلمنا بأن مدرساً يزني ببنت لا تزال ما بين سن السابعة إلى سن العاشرة من عمرها، هذا إذا كانت في سن الابتدائية فما بالك بالإعدادية ثم الثانوية ثم الجامعة؟! فهذا الأمر قطعنا فيه بعدم الجواز، فيجب أن يدرس في مدارس البنات نساء، ومدارس الأولاد يدرس فيها رجال.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(41/22)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - القدري من يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد
القدرية هم الذين ينفون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف، فيزعمون أن ثمة خالقاً مع الله عز وجل، وهم في ذلك يشابهون المجوسية القائلين بوجود إلهين إله الخير والنور وإله الشر والظلمة، وقد رد عليهم أهل السنة والجماعة وأبطلوا مذهبهم وحاربوه، حتى أظهر الله على أيديهم الحق وأزهق الباطل.(42/1)
مراتب الإيمان بالقدر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: ففي هذا الباب الذي بين أيدينا لا يزال الكلام موصولاً ابتداءً عن القدر، وزعم قوم أن الله تبارك وتعالى خالق الخير، وأنه ليس خالقاً للشر، وهذه عقيدة وثنية؛ لأن الوثنيين كانوا يعتقدون أن للكون إلهين: إله للنور وإله للظلمة.
وغيرهم كان يعتقد أن للكون إلهين: إله للخير وإله للشر، وأن إله الخير لا يخلق الشر، وأن إله الشر لا يستطيع أن يخلق الخير، وهذه عقيدة مجوسية وثنية، ولذلك ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (القدرية مجوس هذه الأمة).
في الوقت الذي لم يكن هناك قدرية في ذلك الوقت؛ لأن القدرية في زمن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن لهم ظهور ولا نابتة، ومع هذا حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقبل أن نبدأ في هذا الباب لا بد وأن نعرج على أصول الإيمان بالقدر، أو مراتب القدر: المرتبة الأولى: مرتبة العلم.
أي: أن الله تبارك وتعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون.
المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، لما علم الله عز وجل كتب، ولا أقول: لما علم أنه كان غير عالم ثم علم، ولكن العلم الأزلي السرمدي الأبدي ثابت لله عز وجل، فعلم الله عز وجل بما هو كائن قبل أن يكون فكتبه في اللوح المحفوظ.
العلم أولاً ثم الكتابة، ثم المشيئة والإرادة.(42/2)
الفرق بين الإرادة الشرعية والكونية عند أهل السنة والجماعة
مشيئة الله تبارك وتعالى مشيئة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، وهي أوامره التي أمر بها وأوامر الرسول عليه الصلاة والسلام التي أمر بها كذلك.
أما أوامره الكونية وهي الوقوع في مناهيه ومعاصيه فهي وقعت بإرادة الله عز وجل؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر على العباد، وليس بلازم أنه أحب ذلك، فالزنا والسرقة وشرب الخمر وسائر المعاصي تقع في الكون بإرادة الله وإذنه، ليس معنى ذلك أن الله أحبها، ولا أنه يرضى عنها، وفي المقابل لا يزني الزاني رغماً عن الله ولكن بإذن من الله عز وجل، فالله أذن أن تقع هذه المعصية في كونه مع أنه لا يحبها، فهناك إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، أي: محبة الله ومحبة الرسول، ورضا الله ورضا الرسول.
وإرادة كونية أي: أن هذه الأفعال والمعاصي تقع في الكون، فهذه إرادة كونية قدرية، أي: ما وقعت إلا بقدر من الله عز وجل وكتابة من الله عز وجل وعلم من الله عز وجل الأزلي السابق بأن عبده فلاناً سيفعل كيت وكيت من معاصيه في يوم كذا وكذا وفي مكان كذا وكذا، فلما علم الله عز وجل منه ذلك كتبه وقدره عليه.
والأمر عندنا أن الأشياء إما خالقة وإما مخلوقة، فلما كان مستقراً عند العامة والخاصة أنه لا خالق إلا الله عز وجل تبين أن ما دون الله عز وجل مخلوق، وأسماء الله عز وجل وصفاته ليست مخلوقة، لأن الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق وإنما هو الخالق الوحيد، فصفاته لازمة لذاته، أي: أنها ليست مخلوقة، فلا أولية لها كما أنها لا آخرية لها، لأن الله تعالى هو الأول وهو اسم من أسمائه ليس قبله أحد، وهو الآخر ليس أحد بعده، وهو الظاهر وهو الباطن، فأسماء الله عز وجل وصفاته ليست مخلوقة، لأن الله تبارك وتعالى المتصف بهذه الصفات ليس مخلوقاً، بل هو الخالق سبحانه وتعالى.
فتبين أن ما دون الله عز وجل وما دون أسمائه وصفاته مخلوق، فالعبد مخلوق، وما ينتج عن هذا العبد مخلوق، مشيك، كلامك، حركاتك، سكناتك، أفعالك، تصرفاتك، خطواتك كل هذا الله عز وجل أذن فيه وخلقه وشاءه على هاتين المشيئتين دينية أو كونية قدرية، وكتب ذلك لأن الله علم أنك ستفعل ذلك، وأن هذا الفعل لا يكون إلا بإرادته ومشيئة، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، فأثبت للعبد مشيئة وأثبت لنفسه سبحانه مشيئة، ولكن العبد لا يشاء شيئاً إلا بعد مشيئة الله له أن يشأ ذلك، فمشيئة العبد مندرجة تحت مشيئة الله عز وجل، فليس لعبد أن يشأ شيئاً لم يشأه الله عز وجل، وليس لعبد أن يريد شيئاً كما قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67] فأثبت العبد إرادة ولكن الله عز وجل له إرادة أخرى، فإرادة الله عز وجل فوق إرادة العبد، ومشيئة الله عز وجل فوق مشيئة العبد، فليس لعبد أن يريد شيئاً إلا إذا أراده الله إما إرادة شرعية وإما إرادة كونية، وليس للعبد أن يشأ شيئاً إلا أن يشاء الله إما مشيئة شرعية وإما مشيئة كونية قدرية.
والنبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت عنه قال: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته) يعني: أنت مخلوق لله عز وجل لأن الله هو الذي خلقك، وما ينجم عنك من حركة وسكنة ومشي وسكون وتكلم وسكوت وغير ذلك، هذا أيضاً مخلوق فيك لله عز وجل.
بمعنى: أن الله تعالى هو الذي خلق فيك الكلام ولو شاء لأخرسك، خلق فيك المشي ولو شاء لأقعدك، خلق فيك النظر ولو شاء لأعماك، فكلما تفعله أنت فإن الله تعالى خلقه وأذن فيه وشاءه وكتبه وعلمه، وهذه كلها مراتب القدر، ولذلك هذا تفسير وتأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خالق كل صانع) أي: كل مخلوق.
(وصنعته) أي: وأفعاله وأقواله وحركاته وسكناته، فأنت وما تفعل مخلوق لله عز وجل.
هذا الكلام فيه الرد على القدرية الذين يقولون: إن الله تعالى لا يخلق الشر وإنما يخلق الخير.
وبعضهم قال: إن الله تعالى جبر العبد - وهؤلاء هم الجبرية - على الأفعال فكيف يحاسبهم؟ أي: إذا كنت مجبوراً على إتيان الشر فكيف يعاقبك الله عز وجل وهو الذي جبرك وقهرك على أن تفعل الشر، وكيف يحاسبك حينئذ؟ فيلزمهم لزوماً أكيداً بسبب هذه المقالة أن يقولوا: إن الله تعالى ظالم، والظلم صفة لا تليق بالله عز وجل إنما تليق بالمخلوقين.
وبعضهم قال: ليس لله عز وجل في أفعال خلقه مشيئة، فأفعال العبد هو الذي شاءها وأرادها وفعلها وليس لله تبارك وتعالى فيها دخل.
بمعنى: أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه.
وهؤلاء سلبوا الله عز وجل صفة هي من أعظم صفاته وهي صفة الربوبية المتعلقة بالخلق، فيجعلون مع الله إلهاً آخر؛ لأن المعلوم أن الإله هو الذي يخلق، وأن أفعال العبد مخلوقة، فإما أن يخلقها العبد لنفسه، وإما أن يخلقها الله تعالى في عبده.
فإذا قالوا: إن الله لم يخلقها في العبد وإن العبد هو الذي خلقها في نفسه فيكون العبد حينئذ خالقاً، وهذا سلب لصفة الربوبية عن الله عز وجل، فكلاهما شر مستطير.(42/3)
سياق ما روي في القدري الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي في أن القدري الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد] القدري هو الذي يزعم أن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يقدرها عليهم، فمعتقد القدرية أنهم قالوا أولاً: إن الله لم يخلق أفعال العباد.
إذاً: هنا أنكروا مرتبة من مراتب القدر وهي الخلق.
وقولهم: (ولم يقدرها عليهم) إنكار لمرتبة المشيئة.
قال: [ويكذب بخلق الله لها، وينسب الأفعال إلى نفسه دون الله].
كأنه يقول: أنا خالق لفعل نفسي، بدليل: أنني لو أردت أن أقوم الآن لقمت، وإذا أردت ألا أقوم لا أقوم.
ونسي أن الله عز وجل قادر على أنه إذا هم بالقيام أقعده الله، وإذا كان واقفاً فأراد أن يجلس ما استطاع أن يجلس، وهذا يدل على أن الخلق بيد الله عز وجل لا بيد العباد، ولذلك جرت مناظرات بين سلفنا رضي الله عنهم وبين القدرية.
قال: [عن ابن عباس: كلام القدرية كفر].
لأنه لا ينكر مرتبة العلم ولا مرتبة الكتابة إلا كافر بالله عز وجل [وكلام الحرورية ضلالة].
وقال أيضاً: [لا أعرف الحق إلا في كلام قوم ألجئوا ما غاب عنهم في الأمور إلى الله تبارك وتعالى].
فهذا الكلام يصح أن يكون أصولاً سلفية لترشيد هذه الصحوة الإسلامية فيما يتعلق بمسألة الاعتقاد.
فقوله: لا أعرف.
وابن عباس إذا قال: لا أعرف، فمعنى ذلك: أن الذي لا يعرفه ابن عباس لا يكون ديناً.
قال: لا أعرف الحق إلا في كلام قوم ألجئوا - أي: فوضوا - ما غاب عنهم في الأمور إلى الله تبارك وتعالى.
يعني: الأمور الغيبية الاعتقادية نفوض الأمر فيها إلى الله عز وجل وإن كان ذلك أكبر من عقولنا.
قال: [وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلاً بقضاء الله وقدره].
يعني: آمنوا بأن القضاء والقدر من عند الله عز وجل وإن كان ذلك أمر فوق طاقة عقولهم إلا أنهم يقولون سمعنا وأطعنا.
قال: [أتى عبد الله بن عباس على قوم يتنازعون في القدر.
فقال: لا تختلفوا في القدر، فإنكم لو قلتم: إن الله شاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من مشيئة الله إلى مشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله بأعظم ملكه].
أي: وجد قوماً يتخاصمون في القدر فقال: لا تختلفوا في القدر؛ لأن اختلافكم لا يدور إلا على أمرين اثنين لا ثالث لهما، فإن قلتم: إن الله أمر العباد وشاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من طاعته ودخلوا في معصيته بمشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله.
أي: سلبتم الله تبارك وتعالى أعظم ملكه وهي الربوبية.
[وإن قلتم: إن الله جبرهم على الخطايا]، وعلى فعل المعاصي، فإما أن تكون المعاصي من عند الله عز وجل، وإما أن تكون من عند العبد، فإن كان العبد يعمل المعصية بمشيئته وقدرته وإرادته وقضائه لنفسه وقدره على نفسه فإنه لا دخل حينئذ للإله وللرب تبارك وتعالى في أفعال العباد، فيكون العبد هو الخالق لفعل نفسه وليس الله عز وجل هو الذي خلق، وهذا سلب لصفة الربوبية عن الله عز وجل.
[وإن قلتم: إن الله جبرهم على الخطايا ثم عذبهم عليها لقلتم إن الله ظلمهم].
فالقدر ليس هو إلا أمرين اثنين: إما أن يشاء الله عز وجل ويخلق ويكتب ويعلم ويقدر، وإما أن يسلب ذلك ويخلق العبد فعل نفسه، وإما أن الله يجبر العبد على فعل الخطايا ثم يعذبه فإنه حينئذ ظالم، فلا تختلفوا حينئذ لأنكم بين شرين وبين ضلالتين، بل وبين كفرين.
قال: [ذكر ابن عباس رضي الله عنه القدر فقال: الزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، والسرقة].
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لم يؤمن بالقدر)، فالإيمان بالقدر فرض، والتكذيب به كفر، والكلام فيه بدعة، والسكوت عنه سنة.(42/4)
سياق ما روي عن الصحابة والتابعين والعلماء في إقامة الحدود على القدرية
قال: [سياق ما روي من المأثور عن الصحابة وما نقل عن أئمة المسلمين من إقامة حدود الله في القدرية من القتل والنكال والصلب.
عن أبي الزبير قال: كنا نطوف مع طاوس فمررنا بـ معبد الجهني قال: فقيل لـ طاوس: هذا معبد الذي يقول بالقدر.
قال: فقال: أنت الذي تفتري على الله بما لا تعلم؟! قال: فقال: يكذب علي -أنا لم أقل شيئاً- قال: فدخلنا على ابن عباس فقال له طاوس: يا ابن عباس! الذين يقولون في القدر، فقال: أروني بعضهم، قال: صانع ماذا؟ قال: أدخل يدي في رأسه ثم أدق عنقه].
وقد مضى عنه أنه قال: أدخل يدي في عينيه فأقلعهما ولا نصونه.
يعني: بعدما نقلع له عينيه لا نضمنهما.
يعني: ليس علينا فيهما دية، لأنهم لا دية لهم.
قال: [وهذا كله لا يفعل بالمسلمين وإنما يفعل بالكفار].(42/5)
موقف عمر بن عبد العزيز من غيلان الدمشقي
قال: [قال عمر بن عبد العزيز: يا غيلان!] هذا من القدرية في دمشق سوريا اسمه غيلان الدمشقي.
[قال عمر بن عبد العزيز: يا غيلان! بلغني أنك تتكلم في القدر.
فقال: يكذبون علي يا أمير المؤمنين.
قال: اقرأ علي سورة يس، فقرأ عليهم: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:1 - 7] والشاهد: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7].
وكذا قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ما كان في إمكان أبي لهب أن يؤمن لو أراد أن يعاند، ولكن علم الله تعالى السابق أن أبا لهب لا يؤمن قط وأنه من الهالكين، فلم يؤمن ولم يحرج النبي عليه الصلاة والسلام لأنه سبق في علم الله أنه لا يقول ذلك، وأنه من الهالكين لا محالة، وأنه ليس من الناجين في يوم ما قط، فالله تعالى قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس:7] يعني: دخول النار، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7] فلم ينطقوا بالشهادتين ولو كذباً أو نفاقاً، فالله تعالى يتكلم بعلم، فإذا تكلم بعلم عن أمر في المستقبل وأنهم لا يؤمنون نثبت العلم الأزلي لله.
ولذلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي ما كانوا يثبتون العلم لله عز وجل.
ولذا فإن عمر بن عبد العزيز قال لـ غيلان: اقرأ علي يس، حتى تعلم أن الله تبارك وتعالى قضى على أشياء في المستقبل بأنها لا تكون، فهل هذا من العليم الخبير أم ممن لا يعلم؟ قال غيلان: لا والله، لكأني يا أمير المؤمنين لم أقرأها قط إلا اليوم، اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب من القول بالقدر].
وهو كذاب لأنه بين يدي أمير المؤمنين الذي سيقتله ويعلقه في السقف، فهو خائف أن يواجه أمير المؤمنين.
[فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين].
يعني: افضحه إذا كان كاذباً، واجعله آية للمؤمنين.
قال: [مر التيمي بمنزل ابن عون فحدثه بهذا الحديث.
قال ابن عون: أنا والله رأيت غيلان الدمشقي مصلوباً بدمشق] لأنه كان دجالاً، كان يكذب على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي قال: يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا.
فـ غيلان كذب على عمر بن عبد العزيز، وطبعاً من غشنا في الله أو من خدعنا في الله خدعنا له، هذا منهج أهل السنة، من أقسم بالله أنه تاب فليس لنا عليه سبيل، وحسابه على الله عز وجل، لكن علينا نحن بالدعاء له أو عليه، إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فاجعله للمؤمنين آية.
فصلب في دمشق.
وقال أبو جعفر الخطمي: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر.
فقال له: ويحك يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لا أقول.
قال: ما تقول في العلم -أي: في علم الله- قال: نفذ العلم.
أي: العلم لله ثابت.
قال: أنت مخصوم.
يعني: مغلوب.
فاذهب فقل ما شئت، يا غيلان! إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحد فتكفر.
ثم قال له: أتقرأ يس؟ قال: نعم.
قال: اقرأ، فقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2] إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7] قال: قف كيف ترى الآية هذه؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين! قال: زد.
فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:8 - 9] فقال عمر: {سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:9 - 10] علم الله أزلاً وسلفاً أن الإنذار لا ينفع معهم، فسواء أنذرتهم أو لم تنذرهم لا يؤمنون، ولا يعتبرون بهذا الإنذار، والذي علم أنهم لا يؤمنون هو الله.
فالله تعالى عالم قبل هذا الإ(42/6)
موقف هشام بن عبد الملك من القدرية
وعن الوليد بن هشام قال عن أبيه: بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلاً يقول بالقدر وقد أغوى خلقاً كثيراً، فبعث إليه هشام فأحضره.
فقوله: وقد أغوى خلقاً كثيراً مع أنه قدري ومخالف لأصول أهل السنة والجماعة، إلا أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة.
فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول: إن الله لم يقدر على خلق الشر.
قال: بذلك أقول، فأحضر من شئت يحاجني فيه.
قال له: أنا أقول ربنا لم يخلق الشر، وإذا كنت لا تصدقني أدخل علي من يناظرني في المسألة هذه.
فبعث هشام بن عبد الملك إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته.
الإمام الأوزاعي كان صاحب مذهب، عمل بمذهبه في الشام مائتي سنة، لم يكن هناك أحد يسمع عن أبي حنيفة ولا عن مالك ولا عن أحمد بن حنبل ولا عن الشافعي، كان أهل الشام يقولون في فتاويهم: قال الأوزاعي كذا، إلى أن ظهرت وانتشرت هذه المذاهب الأربعة فغطت على بقية المذاهب ومنها مذهب الأوزاعي.
الأوزاعي كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ينهى أمة ويأمر أمة، وقد صنفت في ترجمته رسالة لطيفة اسمها: (أحسن المساعي في بيان فضائل ومناقب الأوزاعي) لما تقرأها تحتقر نفسك، بل تحتقر علماء الأمة في هذا الزمان، كان جبلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان لا يهمه الحجاج ولا غير الحجاج، الحجاج الذي لم يكن أحد يدخل عليه لا من الصحابة ولا من غيرهم إلا ويخاف على نفسه، أما الأوزاعي فما ضره ذلك، دخل عليه فوعظه وأمره ونهاه ثم انطلق وقال: لا يضرني ملكك ولا جبروتك، لأن الملك وصاحب الجبروت الأعظم في السماء قادر عليك.
الأوزاعي جاء من أجل أن يناظر هذا القدري الذي يقول: إن الله لم يخلق الشر، فقال له الأوزاعي: إن شئت سألتك عن واحدة، وإن شئت سألتك عن ثلاث، وإن شئت عن أربع، أخبرني عن الله: هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء.
أي: أنا لم أفهم شيئاً.
فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه واحدة.
أي: الأوزاعي يقول لـ هشام بن عبد الملك: هذه واحدة لا يعرف كيف يرد عليها.
ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر.
يعني: هل الله منع دون ما أمر؟ فقال المبتدع: هذه أشد من الأولى.
فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه اثنتان.
أي: سجل عندك.
ثم قلت له: هل تعلم أن الله أعان على ما حرم؟ يعني: ساعد ويسر على ما حرم؟ قال: هذه أشد من الأولى والثانية.
فقلت: يا أمير المؤمنين! هذه قد حل بها ضرب عنقه.
ولم يأت بالمسألة الرابعة.
فأمر به هشام فضربت عنقه.
وهذا لما كانت للإسلام قوة وسطوة، وأيام ما كان لهم اهتمام بأمر الدين، هذه الأسئلة الثلاثة لما أنكرها هذا المبتدع حلت رقبته فقتله هشام بن عبد الملك، وهشام لا يفهم الكلام هذا، لكن المبتدع يفهم ولا يريد أن يجيب، لأنه إذا أجاب هزم ويلزمه التوبة.
ثم قال هشام بن عبد الملك للأوزاعي: يا أبا عمرو! فسر لنا هذه المسائل.
يعني: بين لنا الكلام هذا.
قال: نعم.
يا أمير المؤمنين! سألته أولاً: هل يعلم أن الله قضى على ما نهى.
السؤال الأول وهو أن الله تعالى نهى آدم عن الأكل من الشجرة ثم قضى عليه بأكلها، وهذا ثابت في القرآن والسنة، فالله تعالى قضى عليه وقدر أن يأكل منها، ولو أن المبتدع أجاب عن هذا السؤال للزمه أن يقول: إن الله قضى على ما نهى، فالله لا يقضي على شيء إلا إذا علمه، وهذا الشر الذي وقع من آدم بعلم الله وبقدره، وأن الله هو الذي أذن فيه بقضائه وقدره.
قال: وسألته ثانياً: هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ -أي: منع دون ما أمر- أمر إبليس بالسجود لآدم ثم حال بينه وبين السجود.
لما إبليس أمر بالسجود امتنع، فامتناع إبليس مخلوق، والذي خلقه هو الله عز وجل، خلقه بعلم سابق، فالامتناع عن السجود لآدم ومخالفة الأمر شر، والذي خلقه هو الله، فالله الذي خلق الخير والشر، لكن المبتدع لما أدرك هذه الحقيقة اعتذر عن الجواب، فقال: لا يعرف شيئاً.
هذه مسألة صعبة جداً.
قال: وسألته ثالثاً: هل يعلم أن الله أعان على ما حرم أم لا؟ فقال: هذه أشد من الأولى والثانية.
والمعنى: أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه، فالله تعالى أعان على ما حرم مع أنه شر ولكنه رخص في مواطن وظروف بعينها، والذي رخص هو الله عز وجل.
قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ فقال: كنت سأقول له: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال: مع الله فقد اتخذ مع الله شريكاً.
يعني: أنه جعل مشيئته مع مشيئ(42/7)
موقف المهدي من القدرية
ويقول الإخباري: قرأت في أخبار إبراهيم بن المهدي أنه حدث عن زيبة المدني [أن المهدي أشخص من المدينة -أي: أرسل من المدينة- ثلاثين شيخاً ممن تكلم في القدر واشتهر به.
قال: فكنت فيهم -يعني: زيبة كان فيهم وكان صبياً صغيراً أتى من المدينة إلى العراق مع ثلاثين شيخاً يتكلمون في القدر -فلما مثلنا بين يديه ضربهم بالسياط أجمعين وأخرني لصغره- فلما قدمت قال: أراك صبياً ألم يكن بالمدينة من هو أسن منك تتم به العدة؟] يعني: إبراهيم بن المهدي يقول له: هم ما أرسلوا رجلاً يكمل الثلاثين، كأن العدة ثلاثين شخصاً، حتى أرسلوك وأنت صبي صغير.
[قلت: جماعة يا أمير المؤمنين! فقال: إذاً إنما قربت إليهم لأنك من مثلهم -يعني: أنت جئت معهم لأنك قدري مثلهم- ثم دعا بالسياط، فلما ضربت سوطاً، فقلت: يا أمير المؤمنين! نشدتك الله إلا أدنيتني إليك أكلمك ولك رأيك.
فقدمني فقلت: أنا رجل من أهل المدينة قطن أبي فيها -أي: سكن أبي في المدينة- وهو من وادي القرى -أي: بمكة- وكان تاجراً ذا مال، فعلمني القرآن ثم أمرني أن أغدو إلى حلقة ابن أبي ذئب - ابن أبي ذئب كان قدرياً- وأروح إلى ربيعة الرأي، فعن لي شيخ لم أكن رأيته قط -يعني: أنا فكرت بشيخ لم أره قط- فقال لي: يا بني! قد بلغت من العلم وما أراك استبصرت في دينك] يعني: أنت يا ابني عالم أخذت العلم عن ربيعة الرأي وعن ابن أبي ذئب ولكن العلم هذا ليس له قيمة، لأنك لست بصيراً بدينك.
[فقلت: وما ذاك يا عم؟] يعني: أنت ماذا ترى؟.
[قال: هل رأيت مقعداً قط؟] يعني: هل رأيت رجلاً مشلولاً لا يستطيع أن يقوم.
[قلت: نعم.
قال: فلو رأيت رجلاً كلفه صعود نخلة ما كنت تقول؟] يعني: لو رأيت رجلاً قال لهذا القعيد: اصعد هذا الدرج أو السطح، أيستطيع؟ [قلت: هو جاهل.
قال: فلو ضربه على قصوره عن صعودها؟ قلت: ظالم] لأنه يضرب رجلاً ليس في إمكانه أن يصعد ويحمله الصعود فهو ظالم.
[فقال: يا بني! هذا حكمك على إنسان فكيف بالله سبحانه في عدله؟ أتقول: إنه يكلف عباده ما ليس في وسعهم ثم يعاقبهم عليه مع قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] قال: فتعدني يا أمير المؤمنين بالمقعد -يعني: أنت تأمرني مثل المقعد، تكلفني فوق طاقتي ثم تعذبني- قال زيبة: فضحك المهدي أمير المؤمنين ثم أمر فطرح ثيابي علي، فلما لبست أدناني ثم قال: أجبني وأنت آمن -يعني: تكلم براحتك، واعلم أنني لا أمد على بدنك السوط نهائياً- قال أمير المؤمنين: لو أنك في سفر فرأيت عليلاً في برية -أي: في الصحراء- فاستطعم رجلاً فلم يطعمه وتركه ومضى ما كنت قائلاً؟ قلت: ظالم.
قال: فهل علمت أن أحداً من خلق الله كان في برية عليلاً عادماً للطعام والشراب؟ قلت: كثيراً -أي: كثير من يموت من الجوع- قال: فإن دعا ربه أن ينجيه هل كان الله سبحانه قادراً على أن يطعمه ويسقيه؟ قلت: اللهم نعم -أي: لو دعا ربه فإن الله قادر على أن يطعمه ويسقيه- قال: فهل تقول إن دعا ربه أن يطعمه ويرويه فلم يجب دعاءه ومات أن الله ظلمه؟ -يعني: ربنا ما استجاب دعاء هذا الذي في البرية للطعام والشراب فمات، هل الله تعالى قد ظلمه في هذا؟ - قلت: لا.
قال: فكيف تقول لمن أقعدك مثل هذا؟ -أي: كيف تقول لمن أقعدك إنه ظالم- قال: لأن الأشياء كلها لله تعالى لا عليه، والتجوير يجب علي من الأشياء لا له يا زيبة، إن الإيمان إذا سكن القلب قبل الاحتجاج لم يخرجه الاحتجاج].
يعني: الإيمان عندما يكون في القلب حتى وإن كان صاحب هذا الإيمان جاهل وحجة الخصم أقوى فهذه الحجة لا تخرج هذا الإيمان من القلب.
أذكر وأنا في معهد البخوري سنة (1982) دخل علينا رجل يتكلم عن الإسراء والمعراج وأنه كان بالروح دون الجسد.
قلت له: يا شيخ! هل هذه عقيدتك؟ قال: نعم.
قلت: ولكن عقيدة أهل السنة أن الإسراء كان بالروح والجسد.
فقال لي: قم واقفاً من أجل أن أراك.
فقمت نصف ساعة وأنا واقف على قدمي يشرح لي معنى حرف الباء فقط في قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ليخرج في النهاية أن من معاني الباء أنها مصاحبة للروح دون البدن، وبعد نصف ساعة قال لي: فهمت يا ابني.
قلت له: نعم فهمت.
قال: وماذا فهمت؟ قلت: أن الإسراء بالروح والجسد.
فقال لي: اقعد فأنت يا ابني عامل حسابك ألا تفهم.
قلت له: صحيح.
لأنني فهمت معتقد أهل السنة والجماعة فليس عندي استعداد أن أغيره.
قال: [إن الإيمان إذا سكن في القلب قبل الاحتجاج لم يخرجه الاحتجاج، وإذا سكن الحجاج قبل الإيمان كان منتقلاً متى حاجه من هو أحج منه].
يعني: إذا كان لا يقوى على حجج المبتدعة فإنه كلما أتاه مبتدع حجته أقوى من حجة المبتدع الأول تنقل، النهار هذا قدري، بكرة شيعي(42/8)
الأسئلة(42/9)
الحكم على أثر عمر (اللهم إن كنت كتبتني من أهل الشقاء) وبيان معناه
السؤال
جاء عن عمر أنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل الشقاء فامحني واكتبني من أهل السعادة، هل صح هذا الدعاء؟ وما معناه؟
الجواب
هذا دعاء صحيح، فقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه دعا بهذا الدعاء، ومعنى ذلك: أن هذا العبد يتمنى على الله عز وجل أنه إن كان كتبه من أهل الشقاء فليمح ذلك وليثبته من أهل السعادة، وهذا لا يعدو أن يكون دعاءً ورجاءً في الله عز وجل.
يعني: يحسن نية هذا العبد أن يميته على الإسلام، والله أعلم.(42/10)
حكم تحديد مواقيت إقامة الصلاة
السؤال
ما حكم تحديد مواقيت إقامة الصلاة؟
الجواب
ليس ذلك من السنة، المحدود في المساجد أن صلاة الفجر بعد نصف ساعة وصلاة الظهر والعصر والعشاء بعد ربع ساعة، والمغرب بعد خمس دقائق أو عشر دقائق، هذا ليس من السنة، ولكن إقامة الصلاة تكون بإذن إمام المسجد لا بغير إذنه، ولا ينبغي لإمام المسجد أن يأمر بإقامة الصلاة ولم يجتمع إليه أهل الحي، إنما هذا الأذان فائدته إعلام القوم وإخبارهم بدخول وقت الصلاة، فالذي يسمع الأذان بعد أن يبتدئ دخول الوقت يستعد له فيتوضأ ويأتي إلى المسجد فيصلي ركعتين ثم يصلي مع الإمام.
وليس معقولاً أن الإمام يأمر بإقامة الصلاة وكل من في المسجد أو غالبهم يصلي السنة، بل ينتظر حتى يفرغ الناس من السنة، فإذا اجتمع أهل الحي فلا قيمة للانتظار، بل يقيم بعد خمس دقائق، أو عشر دقائق، أو خمسين دقيقة، على حسب عادة أهل الحي، فإذا كنا أهل الحي قد اجتمعنا جميعاً في الدرس بعد المغرب وأذن لصلاة العشاء، أقيموا الصلاة، نحن لسنا منتظرين أحداً، أهل الحي موجودين من المغرب وأذن لصلاة العشاء فلا قيمة للانتظار.(42/11)
الفرق بين نافع مولى ابن عمر ونافع صاحب القراءة المشهورة
السؤال
هل نافع الذي روى عنه ورش القراءة المعروفة هو نافع الذي روى الحديث عن ابن عمر؟
الجواب
لا، نافع الذي يروي عن ورش هو غير نافع الفقيه مولى ابن عمر.(42/12)
حكم لبس الطاقية
السؤال
هل لبس الطاقية من السنن المستحبة أم ماذا؟
الجواب
لبس الطاقية من السنن المستحبة، وهو هدي النبي عليه الصلاة والسلام.(42/13)
مقدار الأخذ من اللحية
السؤال
ما هو مقدار الأخذ من اللحية؟
الجواب
إذا زادت عن القبضة فخذ ما دون القبضة.
يعني: تمسك لحيتك من الذقن والعارضين، والذي يفضل عن القبضة خذه.(42/14)
حكم من عصى الله في رمضان وأفطر فيه ثم تاب إلى الله
السؤال
ما حكم من ارتكب الفواحش في رمضان وأفطر فيه ثم تاب إلى الله تعالى؟
الجواب
الأخ الذي يسأل من أنه في أيام معاصيه وقبل توبته ارتكب فاحشة في رمضان أو ارتكب معصية أو كبيرة ولكنه تاب منها وندم على ما فعل وقضى الأيام التي أفطر فيها في أثناء معصيته فهذا يكفيه ولا شيء عليه، ولكن لو أكثر من السنن والمستحبات لكان خيراً له حتى تتم له التوبة، والله تعالى أعلم.(42/15)
حكم من أقيمت الصلاة وهو يصلي السنة القبلية
السؤال
من كان يصلي سنة والسنة -مثلاً- رباعية وهو في الركعة الثالثة وأقيمت فهل يسلم قبل أن يصلي الرابعة لحديث: (لا صلاة إلا المكتوبة)؟
الجواب
الحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) وهو حديث صحيح، ولكن تأويله محل نزاع بين أهل العلم.
الرأي الأول: أنه لا صلاة قط بحضرة المكتوبة، إذا أقيم لها فلا صلاة.
وهذا كان مذهب الشيخ الألباني رحمه الله، كان يقول: إذا أقيمت صلاة الفرض فلا صلاة مطلقاً لأحد في المسجد، وإن أتم الصلاة فصلاته باطلة، ولكن هذا الرأي فيه غلو.
وبعض أهل العلم قالوا وهو الرأي الراجح وهو مذهب الجمهور: إذا أقيم لصلاة الفرض فلا صلاة لمصل يشرع فيها.
وهذا أقوى الأقوال، وكنت آخذ بغيره آنفاً والآن أرجع عن القول الأول وأميل إلى الرأي الثاني، والمرء قد يرجع عن قوله ويتبنى قولاً جديداً، وهذا الرأي هو مذهب الجمهور: أنه إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز لأحد أن يشرع في صلاة سنة، فإن شرع فصلاته باطلة.(42/16)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما روي في منع الصلاة خلف القدرية
الإيمان بالقدر مرتبة من مراتب الإيمان ضل فيها الجبرية والقدرية لانحرافهم عن دلائل النصوص من الكتاب والسنة، ولا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان بالقدر كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شنع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وسلف هذه الأمة من التابعين والفقهاء والعلماء على القدرية وحذروا من اتباعهم ومجالستهم والصلاة خلفهم، وتزويجهم وأكل ذبائحهم ومجالستهم ومبايعتهم وقبول شهادتهم، بل جعلوهم بمنزلة أهل الكتاب، حتى سماهم النبي عليه الصلاة والسلام مجوس هذه الأمة؛ لفظاعة ما أتوا به وشناعة ما نسبوه إلى الله تعالى.(43/1)
سياق ما روي في منع الصلاة خلف القدرية
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن القدر، والآن مع [ما روي في منع الصلاة خلف القدرية والتزويج إليهم وأكل ذبائحهم، ورد شهادتهم].
قال المصنف رحمه الله: [سياق ما روي في منع الصلاة خلف القدرية، والتزويج إليهم وأكل ذبائحهم، ورد شهادتهم] شهادة الفاسق مردودة عند جماهير العلماء، ولكن ترك أكل الذبائح لا يكون إلا مع الكفار، ومنع الصلاة لا يكون إلا خلف المبتدع والكافر، وكذلك ترك الزواج لا يكون إلا من الكافرين والكافرات.(43/2)
كلام السلف في حكم الصلاة خلف القدرية
قال: [روي عن واثلة بن الأسقع أنه أمر بإعادة الصلاة خلف القدرية، ونهى عن الائتمام بهم].
رجل يقول: إن الله لا يعلم الأشياء حتى تقع، فهذا لا تجوز الصلاة خلفه، لأنه كافر مرتد، وبالتالي من صلى خلف قدري وجبت عليه الإعادة ولو بعد مائة عام.
قال: [ومن التابعين: عن علي بن عبد الله بن العباس أنه كان يقول: إذا كان الإمام صاحب هوى فلا يصلى خلفه].
أي: صاحب بدعة وهو داعٍ إلى بدعته ورأس فيها فلا يصلى خلفه.
[وعن محمد بن علي بن الحسين: أنه أمر بإعادة الصلاة خلف القدري.
وعن سيار أبي الحكم يقول: لا يصلى خلف القدرية، فإذا صلي خلف أحد منهم أعاد].
أي: وجبت عليه الإعادة.
[وعن أيوب السختياني مثله].
الكلام السابق.
قال: [ومن الفقهاء: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي وأبو يوسف القاضي -صاحب أبي حنيفة - والإمام أحمد بن حنبل مثله].
أي: هذا الكلام.
[وعن ابن سيرين: أنه كره ذبائح القدرية].
لم يحرمها تحريماً إنما كرهها.
قال: [عن حبيب بن عمر الأنصاري قال: حدثني أبي قال: سألت واثلة بن الأسقع -وهو صحابي رضي الله عنه- عن الصلاة خلف القدري، فقال: لا يصلى خلفه، أما إني لو صليت خلفه لأعدت صلاتي].
أي: لو أني صليت خلفه لوجبت علي الإعادة.
[عن الحارث بن سريج البزاز قال: قلت لـ محمد بن علي: إن لنا إماماً يقول بالقدر -إمامنا في المسجد قدري- فقال: يا ابن الفارسي! انظر كل صلاة صليتها خلفه أعدها، إنما هم إخوان اليهود والنصارى، قاتلهم الله أنى يؤفكون].
القدرية إخوان اليهود والنصارى، وما من بدعة من البدع وردت في الإسلام إلا وأصولها يهودية أو نصرانية أو مجوسية، والقدرية إنما هي بدعة نصرانية في أصلها قال بها سوسن العراقي، وعنه أخذ معبد الجهني، وعن معبد غيره حتى تسلسل الأمر.
قال: [كان سيار أبو الحكم يقول: لا يصلى خلف القدرية، فإذا صلى خلف أحد منهم أعاد الصلاة].
عن صدقة بن يزيد قال: [مررت مع أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - وهو آخذ بيدي إلى المسجد لنصلي فيه، فمررنا بمسجد قد أقيمت الصلاة فيه، فذهبت لأدخل فنتر يده من يدي فترة، ثم قال: أما علمت أن إمامهم قدري].
وما قصد صدقة أن يصلي خلف قدري، وإنما اجتهد في إدراك الصلاة خاصة وأنه قد سمع إقامة الصلاة، ولكن أن تفوتك الصلاة خير من أن تصلي خلف قدري، والسلف رضي الله عنهم كانوا يتحرون الصلاة خلف أوثق وأعدل الأئمة الذين أنيطت بهم إمامة الناس في الصلاة وفي غيرها.
عن مصعب قال: [سمعت مالك بن أنس يقول: لا يصلى خلف القدرية].
وعن مروان بن محمد قال: [سألت مالك بن أنس عن تزويج القدري فقال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة:221]].
وهذا حكم عقدي عليه بأنه كافر.
[وروي عن مالك أنه سئل عن القدري الذي يستتاب من هو؟ قال: الذي يقول: إن الله عز وجل لم يعلم ما العباد عاملون حتى يعملوا].
يعني: الذي ينكر العلم الأزلي الأبدي السرمدي لله عز وجل، فهذا الذي يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهل يقتل حداً أو ردة؟ يقتل ردة؛ لأنه لا يقتل حداً إلا صاحب المعصية، على أن تكون هذه المعصية دون الشرك، إذ كل معصية دون الشرك فالعقوبة فيها حد، مثل حد الزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك من المعاصي كلها العقوبة فيها الحد، وما دون هذه الكبائر فإن العقوبة فيها التعزير، أما الشرك والردة -وهي نوع من الشرك والكفر- فالعقوبة فيها ردة لا حداً.
فإذا استتيب هذا القدري فتاب تاب الله عز وجل عليه، فإن لم يتب قتل ولكنه يقتل ردة، ويموت على الكفر لا يرث ولا يورث، وماله لبيت المال.
وعن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل قال: [سمعت أبي يقول: لا يصلى خلف القدرية والمعتزلة].
وعن سوار بن عبد الله قال: [حدثني معاذ بن معاذ قال: صليت خلف رجل من بني سعد، ثم بلغني أنه قدري، فأعدت الصلاة بعد أربعين سنة، أو ثلاثين سنة].
شك الراوي.
انظروا إلى اهتمام السلف بأمر الصلاة إلى أي حد بلغ! [عن أبي يوسف القاضي -وهو صاحب أبي حنيفة - قال: لا أصلي خلف جهمي، ولا رافضي -شيعي خبيث- ولا قدري.
وعنه أنه سئل: ما الحكم في القدرية -يعني: لو أنك حاكم ماذا تصنع بهم- قال: الحكم أنه من جحد العلم أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته].
والعلم هو أول مرتبة من مراتب القدر، والذين كفرهم عبد الله بن عمر رضي الل(43/3)
حكم الأئمة في تزويج القدرية
وعن عبد الصمد بن مردويه قال: [سمعت رجلاً يقول للفضيل: من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها، فقال له الفضيل: من زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها].
فالفاسق أهون من المبتدع، الفاسق صاحب كبيرة أو المصر على الصغيرة المبتدع شر منه، ولذلك العلماء لما قسموا المعاصي قسموها على الترتيب الثلاثي: الكفر، البدعة، المعصية، والكفر أمره معلوم، وصاحب المعصية إنما يعصي الله وهو يعلم أنه عاصٍ، وهل يتصور أن الزاني يزني وهو يعتقد أن الزنا طاعة وقربة؟ أو أن سارقاً يسرق وهو يتقرب بهذه السرقة إلى الله؟ لا يمكن أن يكون هذا.
أما المبتدع فهو قائم على بدعته ظناً منه أنها الحق، وأنها قربة إلى الله عز وجل، ولذلك هو يتمسك ببدعته فوق تمسك صاحب المعصية بمعصيته.
ولذلك أنت إذا حدثت صاحب معصية في معصيته وضع وجهه في الأرض استحياء مما يأتي، حتى لو كانت من المعاصي الصغيرة التي لم تبلغ حد الكبائر، ويبدأ يلوم نفسه ويسأل الله المغفرة، وغير ذلك من الكلمات التي تسمعها بصدق من لسان هذا العاصي.
ولكن انظر إلى رافضي خبيث شيعي مجرم يتقرب إلى الله -وقد صحت النصوص عندهم- بتكفير الشيخين، بل جاء في كتاب الكافي وهو عند الشيعة كـ البخاري عند أهل السنة، جاء فيه: أن من لم يلعن أبا بكر وعمر في كل صباح ومساء فليس برافضي حقاً، وليس بشيعي حقاً.
تصور رجلاً يقوم مبكراً ويسب أبا بكر وعمر وهو يعتقد أنه يتقرب إلى الله عز وجل بذلك، خاصة إذا كان من رعاع المذهب لا من رءوسهم، فهذا الذي تريد أن تخلعه عن هذه الكبيرة وهذا الجرم وهذا الكفر كيف تخلعه؟ أمر صعب جداً، ولذلك نسمع في كل يوم أن عشرات من أصحاب المعاصي يتوبون إلى الله عز وجل ويتركون معاصيهم، وفي كل مائة عام نسمع عن توبة رجل من رءوس البدعة، لأنه أشد تمسكاً ببدعته من صاحب المعصية بمعصيته، ولذلك المعصية أخف ضرراً من البدعة، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).
ولم يقل ذلك في أصحاب المعاصي، بل أصحاب المعاصي تحت مشيئة الله، وهذا في حالة ما إذا ماتوا وهم مصرون على معاصيهم وإن كانت كبائر، فإن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وإن ماتوا على ذلك غير مستحلين لها فهم تحت مشيئة الله إن شاء تاب عليهم وعفا عنهم، وإن شاء أخذهم بذنبهم، بخلاف صاحب البدعة؛ فإن الله تعالى يؤاخذه لأنه يدخل في الدين ويلحق به ما ليس منه، كما أنه اتهام الله عز وجل بعدم تمام الشريعة وبنقصان هذا الدين، مكذباً بالقرآن والسنة، ومكذباً بأقوال الرسول عليه الصلاة والسلام.(43/4)
حكم الأئمة في عيادة المريض من القدرية
قال الأثرم: قيل لـ أحمد بن حنبل: [رجل قدري أعوده إذا مرض؟] أي: هل يحل لرجل من أهل السنة أن يعوده في مرضه؟ قال: [إذا كان داعية إلى الهوى فلا].
يفرق أحمد هنا بين صاحب البدعة الداعي إليها الرأس فيها، وبين عامة الناس في هذه البدعة، فلهذا حكمه وللآخر حكم آخر يفرق بين صاحب البدعة، ومن هو رأس فيها وداعٍ إليها ومدافع ومنافح عنها في الليل والنهار، وينفق ماله ومال أمته على هذه البدعة وعلى إظهارها، وطمس مذهب أهل السنة والجماعة، فهذا الرجل له حكم بخلاف من نشأ في بدعة أو في بلد قد انتشرت فيه هذه البدعة.
أقول: الخميني الذي أقام ثورته الإسلامية المكذوبة، والذي طبل له المغفلون في هذه البلاد وفي غيرها شرقاً وغرباً وصفق له المغفلون والجهلة في كل مكان ظناً منهم أن هذه ثورة إسلامية، وهم لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين العقيدة الصحيحة وبين غيرها، بل معظمهم على غير العقيدة السليمة، وعلى غير عقيدة السلف، ولذلك الخميني له حكم ورعاع الشعب الإيراني لهم حكم، أما الخميني فإنما هو رأس في البدعة مجتهد فيها، داع إليها، فهذا له الحكم الذي ينطبق على معبد الجهني، وغيلان الدمشقي وغيرهم من أصحاب البدعة، أما عامة الشعب فلا يكفرون، وإنما يفسقون ببدعتهم، وفرق بين الكفر وبين الفسق.
قال: [إذا كان داعية إلى الهوى فلا.
قيل له: أصلي عليه؟ فلم يجب].
يعني: إذا مرض هذا الرجل القدري وكان رأساً في البدعة فلا تعده، وأما عن الصلاة خلفه فما استطاع أحمد رحمه الله أن يتكلم، ولا أن يجيب عن هذا السؤال، وكان بحضرته إبراهيم بن الحارث العبادي.
[فقال له إبراهيم بن الحارث العبادي وأبو عبد الله يسمع: إذا كان صاحب بدعة فلا تسلم عليه، ولا تصلي خلفه، ولا تصلي عليه.
قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: كافأك الله يا أبا إسحاق وجزاك خيراً].
وهذا إقرار منه لفتواه.(43/5)
رأي الأئمة في ذبائح القدرية ورد شهادتهم
قال: [عن ابن سيرين: أنه كره ذبائح القدرية].
وعن علي بن المديني شيخ الإمام البخاري وقرين أحمد بن حنبل قال: [سمعت معاذ بن معاذ حين قدم من عند هارون الرشيد في القدمة التي كان أجازه فيها هارون، فسمعته يقول: قال لي أمير المؤمنين: إني والله ما بعثت إليك لموجدة وجدتها عليك، ولكن لم أزل أحب رؤيتك ومعرفتك].
يعني هارون يقول له: أنا ما أرسلت إليك لأجل خصومة بيني وبينك وغضب مني عليك، وإنما أرسلت إليك، لأني أحب رؤيتك، أيام ما كان الأمراء والخلفاء يحبون أهل العلم.
ثم قال: [بلغني أنك ترد شهادة قوم.
قلت: يا أمير المؤمنين! قدرية ومعتزلة.
قال: أصبت وفقك الله].(43/6)
كراهة العلماء لمجالسة ومبايعة أهل القدر
قال: [عن إدريس القصير عن أبيه قال: شهدت عبيد الله بن الحسن العنبري واختصم إليه رجلان -كان قاضياً عظيماً مشهوراً، واختصم إليه رجلان في قضية من القضايا- فقال أحدهما: اشتريت منه عبداً على أنه ليس به داء ولا علة ولا غليلة، بيع المسلم للمسلم وأنه قدري].
يعني: ممنوع أن يكون هناك غليلة وإخفاء للعيب بين المسلم والمسلم، ولكني لما اشتريته وجدت هذا الغلام قدري، وهذا أمر لابد أن يبينه البائع، فلما اشتراه كان لزاماً على البائع أن يبين عيبه أنه قدري، ولما أخفى هذا العيب بطل البيع، ولذلك حكم عبيد الله العنبري ببطلان البيع للعيب.
قال: [فقال عبيد الله بن الحسن له: إنما اشتريت مسلماً ولم تشتر كافراً فرد عليه].
قال: [أرسل رجل من أهل خراسان بكتاب يسأل أبا ثور -وهو إمام عظيم من أئمة الفقه- فأجاب: سألتم رحمكم الله عمن قال: إن المعاصي لم تقدر هل هو فاسق يصلى خلفه].
رجل يقول: المعاصي ليست من عند الله، ولم يقدرها الله عز وجل على العباد إنما هي من فعل البشر، ووقعت بمشيئة الفاعل ولا علاقة لمشيئة الله بها، فهل هو فاسق؟ وهل يصلى خلفه أم لا؟ فقال: [فهذا فاسق بتفسيق أهل العلم، لا يصلى خلفه، وهو داخل في حكم أهل القدر، ومن قال: الأشياء كلها بقدر إلا المعاصي فلا يصلى خلفه].
وهذا يبين أن الأشياء من عند الله عز وجل خيرها وشرها، ويكفينا حديث النبي عليه الصلاة والسلام (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).
فأثبت أن الشر بقدر.
إذاً: الخير من الله والشر من الله، الخير أراده الله عز وجل وأمر به إرادة شرعية دينية، والشر نهى الله عز وجل عنه، ولكنه أراده في كونه إرادة كونية قدرية لا شرعية دينية.
[قال سفيان بن عيينة: لا تصلوا خلف الرافضي، ولا خلف الجهمي، ولا خلف القدري، ولا خلف المرجئ].
تصور عندما يذهب من يزعم أنه أمير جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يذهب إلى إيران بدعوى من الخميني، وهذا الرجل قد تربينا على يديه من سنة (1979م) إلى سنة (1981م)، ثلاث سنوات ونحن نسمعه في مسجد سوق الآخرة بحلوان، وكان لا يتوقف عند المحطات الصغيرة، والذي كان يفسقه أهل العلم كان يكفره هو، فما بالك بالذي يكفره من أهل العلم؟! فكان قد حكم في ذلك الزمان بأن خميني إيران كافر، وأن هذه الثورة ثورة كاذبة لا تمت للإسلام بصلة، بل كان يحكم على طلاب إيران الموجودين في كلية دار العلوم في ذلك الوقت بالكفر، وكان يطردهم من مسجده، ويقول: إنما أتوا إلينا تقية؛ لأن خميني إيران سئل بعد ثورته بعام من قبل طلاب كلية دار العلوم بالقاهرة: ماذا نفعل في مسائل تعترضنا في حياتنا بمصر لا نجد لها جواباً ولا نعلم لها حلاً في ديننا؟ أي: في دين الشيعة.
قال: سلوا علماء الناصبة -أي: علماء السنة- ثم خالفوهم، فإذا قالوا حلالاً، فاعلموا أنه حرام، وإذا قالوا حراماً فإنما هو حلال.
هذه فتوى الخميني عليه لعنة الله.
هذا الرجل لما فتن في دينه، وأراد أن يظهر، وقد حذرنا منه الصادقون المخلصون ولكننا على عادتنا ونحن في بداية طريقنا لم نقبل هدى الذي يريد أن يهدينا، ولا نصح الذي يريد أن ينصحنا، لأننا ألفنا أن نسمع من رجل واحد، وهذا خطأ، ولذلك أنت لا تعلم خطأ شيخك حتى تسمع من غيره، إذ كيف يتسنى لك أن تعرف الحق من الباطل وأنت تزعم أن كل إنسان ليس معصوماً إلا الأنبياء؟ فشيخك ليس معصوماً، فينبغي أن تسمع من غيره حتى يتبين لك الخطأ، فإذا كان الأمر كذلك فنحن خالفنا في أول الطريق حتى رأينا بأعين رءوسنا وقلوبنا أن هذا الرجل قد فتن، وأنه ذهب يبحث عن المناصب والمظاهر شرقاً وغرباً أماته الله عز وجل، وهو حي الآن يحمل وزره، ولكنه في قلوب الشباب ميت لا قيمة له، ولا دعوى له تسمع.
ذهب هذا الرجل إلى إيران فصلى خلف الخميني، وهو الذي كان يكفره، صلى خلفه وقد مرت به هذه النصوص، وهو يعلم أن الصلاة خلف الرافضي لا تصح وتجب إعادتها، إذا صلى خلفه مسروراً أو مكرهاً أو خائفاً، وجبت عليه الإعادة ولو إيماءً، فصلى خلفه ثم أتى إلى مصر وهو يشيد بثورة الخميني، ويقول: لقد جالسته فوجدته صالحاً! والله كلاكما كاذب، وأنت ما سافرت إلا ليقال: فلان سافر، وفلان رحل، وفلان قابل الزعيم الشيعي وغير ذلك.
قال روح بن عبادة: [سمعت منادياً ينادي على الفجر يقول: إن الأمير أمر ألا يبايع زكريا بن إسحاق ولا يجالس، فمن فعل ذلك فقد حلت به العقوبة لموضع القدر].
أي: بعلة القدر.(43/7)
موقف الحارث المحاسبي من أبيه لقوله في القدر
قال: [مات أبو الحارث المحاسبي] يعني: والد الحارث المحاسبي، وأنتم تعلمون أن الحارث المحاسبي كان إماماً في الزهد والورع، وعاش في عصر أحمد بن حنبل، وأثنى عليه أحمد بن حنبل خيراً في زهده وورعه وتقواه.
ولذلك لما سألت امرأة أحمد بن حنبل أيغزل في ضوء موكب السلطان، ثم يباع ويتربح ويتكسب من هذا وهذه الإضاءة وهذه الأنوار ليست له خاصة، فتعجب أحمد بن حنبل من السؤال، وقال: من السائل؟ قالت: أنا أخت الحارث.
قال الإمام: من بيتكم خرج الورع، أما إنه لا يحل لك أنت بالذات إنما لسائر الناس يحل؛ لأن الأمر على الإباحة والجواز، لكن الحارث لو سمع بهذا ما أجازه من شدة ورعه وزهده وخوفه من الله عز وجل، فقال: من بيتكم خرج الورع.
كان والد الحارث المحاسبي قدرياً.
قال: [يوم مات وحارث محتاج إلى أقل من درهم -أو كما قيل- لعيال وبنات عليه، وترك أبوه مالاً وضيعه وأثاثاً وأموالاً كثيرة نفيسة، فلم يقبل -أي: الحارث - منها شيئاً.
فقيل له في ذلك؟ فقال: روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أهل ملتين شتى لا يتوارثان)] نعم.
(لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم).
يعني الحارث المحاسبي يكفر والده، لأنه كان قدرياً.
وهذا فارق ما بيننا وبين السلف! كما قيل للفقيه: إن الكلب قد بال على الجدار كيف نطهره؟ قال: بهدمه وبنائه سبع مرات.
قيل له: إن الجدار بيننا وبينك.
قال: إنما يكفيك شيء من الماء ترشه عليه.
هذا الفقيه هو أنا أو أنت، إذا كانت النصوص لنا فبها ونعمت، وإذا كانت علينا لوينا رءوسنا وتنكرنا لها.(43/8)
ما ذكر من مخازي مشايخ القدرية وفضائح المعتزلة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ما ذكر من مخازي مشايخ القدرية وفضائح المعتزلة].
عن معاذ بن معاذ قال: [كنت عند عمرو بن عبيد -وعمرو بن عبيد رأس في القدر- فجاءه رجل، فقال: ألا تعجب من فلان يزعم أن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] في اللوح المحفوظ؟ فقال عمرو بن عبيد: لئن كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] وتب في اللوح المحفوظ فما على أبي لهب من لوم، وما على الوليد من لوم، يعني في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11]].
يعني: جاءه رجل في حضرة معاذ بن معاذ يقول له: يا عمرو بن عبيد! يزعم رجل أن {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] في اللوح المحفوظ.
فقال له: إذا كانت في اللوح المحفوظ فلم يعاقبه الله وقد حكم عليه بأنه من الهالكين أولاً قبل أن يخلقه؟ ولم يعاقب الوليد والد خالد بن الوليد رضي الله عنه؟ وهو الذي نزلت فيه الآيات الطويلة في سورة المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:11 - 14] إلى آخر الآيات.
قال: فلم يعاقبهم الله وقد قضى عليهم في الأزل أنهم من الهالكين.
قال [عن ثابت البناني قال: رأيت عمرو بن عبيد في النوم يحك آية من المصحف، فقلت: ما تصنع؟ فقال: أثبت مكانها خيراً منها].
هذا عمرو بن عبيد يريد أن يثبت آية في كتاب الله خيراً من كلام الله عز وجل.
وعن عاصم الأحول قال: [جلست إلى قتادة فذكِر في هذا المجلس عمرو بن عبيد، فقلت: يا أبا الخطاب! -وهي كنية قتادة - ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض.
قال: يا أحول! أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تعلم؟!] لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى أشياء من الغيبة، فذكرك أخاك بما يكره غيبة إلا ما استثناه النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هذا المستثنى ذكرك صاحب البدعة، وصاحب الفجور الذي يجاهر بفجوره ومعصيته.
ولذلك تلك المرأة التي لاعنها زوجها هلال بن أمية عند النبي عليه الصلاة والسلام، قيل: لـ ابن عباس أهي هذه المرأة التي قال فيها النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت جالداً أحداً أو راجماً أحداً بغير بينة لرجمت هذه) قال: لا.
إنما هذه امرأة أعلنت السوء، والحديث في الصحيحين.
يعني: لو كان يحل لي أن أرجم أحداً بغير بينة ولا شهود ولا إقرار لرجمت هذه المرأة التي اشتهر عنها البغاء والزنا، ولكن لم يثبت عليها بشهادة أربعة، وهو نصاب الشهادة في الزنا فلا يحل إقامة الحد، بل من تكلم في عرض أحد بغير نصاب الشهادة جلد هو في ظهره ثمانين جلدة، وهو حد القذف.
[قال: يا أحول! أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تعلم؟!] هذا صاحب البدعة ينبغي أن يذكر ببدعته في المجالس وعلى الملأ حتى نحذر بدعته.
قال: [فجئت من عند قتادة وأنا مغتم -لم يعجبه كلام قتادة، مع أنه كان قدرياً ثم تاب- لقوله في عمرو بن عبيد، وما رأيت من نسك عمرو بن عبيد وهديه]، يعني: غره نسك صاحب البدعة، وأصحاب البدع لعلهم أشد في العبادة من أصحاب السنة، فيغتر الجهلاء والحمقى بهذه العبادة، كيف لا والنبي عليه الصلاة والسلام نفسه شهد بهذا فقال: (سيأتي أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
وأنكر أبو موسى الأشعري على هؤلاء الناس العبادة والذكر والتسبيح والتهليل، وابن مسعود الفقيه الصحابي الجليل رضي الله عنه لم تنطلي عليه هذه العبادة، وأنها عبادة غير مستقيمة ولا مرضية، فلذلك قال لهم لما رآهم على هذه الكيفية من العبادة والتي لم تأت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام قال: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة ولا أراه إلا هذا.
أي: ولا أراكم إلا على ضلالة، مع أنه رآهم يسبحون ويكبرون ويهللون ويحمدون.
فأنت رجل لا علم عندك، أول ما ترى صاحب بدعة له عبادة أو له شهرة بالدعوة إلى الإسلام تغتر به، مثل من سمع عن خميني إيران عندما قاد الثورة الإسلامية، الكل ذهب يطبل ويزمر فرحاً بالثورة الإسلامية الثورة بنيت على غير أساس ودليل، بل بنيت على الباطل من أولها إلى آخرها، وكل ما في الأمر أنه نجح في تطويع شعبه(43/9)
سياق ما روي عن الرؤيا السوء من المعتزلة
قال: [وسمعت أبا أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد الفرايضي رحمه الله الشيخ الصالح الأمين الثقة يقول غير مرة: كان رجل ضرير من أهل القرآن يقرأ علي، وأثنى عليه خيراً أبو أحمد، فقال لي بعدما مات الجعد لعنه الله: قد رأيت رؤيا.
فقلت: ماذا رأيت؟ قال: رأيت كأني كنت في مسجد وفيه جماعة من الناس يريدون الصلاة، وقد قام الإمام ليقيم الصلاة، فدخل رجل من برا -أي: من البر- وأسر إليه شيئاً، فالتفت الإمام وقال: قد مات جعد لا رحم الله جعداً، وحشا قبره ناراً وأراح المسلمين منه].
فموت الجعد كان لهذا الإمام بشرى طيبة، ولذلك أعلن قبل الدخول في الصلاة هذا القول، قال: [لا رحم الله جعداً وحشاً قبره ناراً، وأراح المسلمين منه].
ولذلك حمل هذا الإمام على أن يصلي على الجعد، فقال: والله لأصلين عليه وإن حملتموني على ألا أصلي عليه.
يعني: حتى لو لم تريدوا أن أصلي عليه لابد من أن أصلي عليه، فغضب عليه أهل السنة وتركوا الصلاة خلفه فترة من الزمان حتى قدموا إلى بيته، وقالوا: يا فلان، ما الذي حملك على أن تصلي على هذا الرجل؟ قال: وما الذي يمنعني من أن أصلي عليه؟ قالوا: كيف قلت في صلاتك؟ قال: والله ما قرأت فاتحة الكتاب، ولا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أبي الأنبياء، وإنما أخذتها من أولها إلى آخرها: اللهم احشره في زمرة فرعون وهامان وقارون، اللهم العنه في الدنيا والآخرة، اللهم املأ قبره عليه ناراً، اللهم لا تخلفه بخير في المسلمين.
وظل يدعو عليه، فاعترفوا به إماماً للمسجد وصلوا خلفه بعد ذلك.
قال الشيخ أبو أحمد: [قلت له: تعرف هذا الرجل الذي رأيت له الرؤيا؟ قال: لا والله ما أعرفه، ولا سمعت باسمه إلا في الرؤيا.
قلت: هذا من متكلمي المعتزلة، وقد مات في هذه الأوقات.
قال الشيخ أبو القاسم رحمه الله: وسمعته غير مرة يذكر أبا حامد المرورذي يثني على عمله، ويطنب في فضله وحسن صورته وجملته، فقال: رأيته في النوم وكأنه على سطح مسجد قاعد وحوله جماعة وسخة ثيابهم كأنهم يشبهون غلمان البزارين، وبين يديه طبق عليه عود يلوكه بأسنانه، وقد أسودت جلدة وجهه بعد حسنها ونضارتها في حياته، فلما نظرت إليه أنكر نظري وكأنه خُيل إليه أنه أنا نائله- أي: آخذ منه، أو مصيبه بشيء مكروه -لما أعلم مما كان يرمي به من بدعته.
فقال: إنا لا نظلم الله.
فقلت: ألا لعنة الله على الظالمين.
فهمَّ الذين حواليه بسوء يوقعونه بي، فقرأت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وأخذت أشير بأصبعي، وكان رحمه الله يشير في اليقظة كذلك وانتبهت].
وهذا النص لا أراه نصاً صريحاً ولا صحيحاً ولا جيداً، خاصة: وأن من رؤيت له هذه الرؤيا كان من كبار فقهاء الشافعية العاملين بسنة النبي عليه الصلاة والسلام.(43/10)
سياق ما روي أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت
قال: [سياق ما وري أن مسألة القدر متى حدثت في الإسلام وفشت.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر)]، قوله: (لا يؤمن عبد).
هل هذا النفي على إطلاقه؟ أي: لا إيمان للعبد ألبتة؟ هل هذا نفي لمطلق الإيمان أم الإيمان المطلق؟ يعني: نفي لأصل الإيمان أم نفي لكمال الإيمان؟ [قال أبو حازم: لعن الله ديناً أنا أكبر منه.
يعني التكذيب بالقدر]، أي: لعن الله دين القدرية الذي أنا لا أعتقده، وأنهم يكذبون بالقدر.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: [أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم -يأخذ ماءً بدلو من زمزم- قد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت: قد تكلم في القدر.
قال: أوقد فعلوها؟ فقلت: نعم.
فقال: والله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48 - 49] أولئك شرار هذه الأمة].
وكل من ألفاظ العموم أو من الخصوص؟ لو قلت: من ألفاظ الخصوص، فأنت متفق مع القدرية بأن الله تعالى خلق الخير ولم يخلق الشر، لكن إذا قلت: إن كل من ألفاظ العموم فيشمل الخير والشر وهو من عند الله عز وجل، والله عز وجل هو الذي خلقهم.
وعن أيوب بن أبي تميمة السختياني قال: [أدركت الناس هاهنا وكلامهم: وإن قضى وإن قدر].
يعني: وإن قضى الله قضاءً أمضاه، وإن قدر الله قدراً أمضاه.
وعن عثمان بن عبد الله قال: [أول من تكلم في شأن القدر: أبو الأسود الدؤلي.
وأنتم تعلمون أن أبا الأسود الديلي] تاب ونزع من هذه البدعة، وقد مر بنا التنبيه على أن أبو الأسود الدؤلي رحمه الله إمام من أئمة البصرة، بل هو الذي نقط القرآن وشكله وضبطه بأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو من سادات التابعين ومن أئمة اللغة، وهو الذي وضع علم العروض وعلم العربية وغير ذلك من مناقبه العظيمة، ويكفي أنه تلميذ علي بن أبي طالب.
[عن الحسن بن محمد قال: أول من تكلم في القدر حين احترقت الكعبة] سنة أربع وستين هجرية.
كانت هذه أول مرة تحترق فيها الكعبة، وقد احترقت بعد ذلك مرات، وسرق الحجر الأسود منها مرات، لكن أول مرة حرقت الكعبة كانت سنة أربع وستين في دولة بني أمية على يد الحجاج في زمن الزبير، فقال قائل أهل السنة: إن احتراق الكعبة من قدر الله، فقال آخر: ما كان هذا من قضاء الله.
إحراق الكعبة شر من عند الناس، والناس هم الذين يفعلون الخير والشر، ويجري على أيديهم الكسب، والكسب هو العمل، والعفة مخلوقة في العبد، والشر مخلوق في العبد، والزنا مخلوق في العبد.
هل هناك خالق غير الله عز وجل؟ فالله عز وجل خلق الشر وقدره ولم يرض عنه وحذر منه، وعاقب عليه بخلق النار، وأمر بالطاعة وأحبها ورضيها ويسر لها أهلها، ثم كافأهم بأن جعل لهم في الآخرة الجنة.
عن حازم قال: [سمعت حوشب يقول لـ عمرو بن عبيد في حبوة الحبس: ما هذا الذي أحدثت؟ قد نبت قلوب إخوانك عنك.
قال: انطلق إلى الحسن حتى نسأله عن هذا الأمر.
قال: كسرها الله لو ذهبت إليه -يعني: رجليه- وكان قتادة يتكلم في حقه ويسبه وربما يلعنه، قال: فجثوت -أي: عاصم الأحول - على ركبتي، وقلت: يا أبا الخطاب! وإن الفقهاء ينال بعضهم من بعض -يعني: لا يصح أن تقع فيه ولا هو يقع فيك- قال: يا أحول! رجل مبتدع ابتدع بدعة تذكر بدعته خير من أن يكف عنها.
قال: فوجدت على قتادة -أي: فغضبت منه- فوضعت رأسي، فإذا بـ عمرو يحك آية من القرآن.
قلت: لم تصنع؟ قال: إني أعيدها.
قال: فحكها.
قلت: أعدها.
قال: لا أستطيع].
[عن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان حتى نشأ هاهنا حقير يقال له: سنسويه البقال].
وهو اسم فارسي معرب بـ سوسن، وهو رجل نصراني أسلم ثم ارتد، ثم أسلم ثم ارتد، فتكلم في القدر، فأخذ عنه معبد الجهني قال: [فكان أول من تكلم في القدر.
قال حماد: ما ظنكم برجل يقول عنه ابن عون: هو حقير؟!] يعني: تكفي عليه هذه الشهادة.
وقال الأوزاعي: [أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد].
وهلم جرا إلى يومنا هذا.
فبدعة القدر أصلها نصراني من العراق، ومعظم الفتن أصلها العراق، والنبي عليه الصلاة والسل(43/11)
الأسئلة(43/12)
حكم الاستدلال بالرؤى على الأحكام
السؤال
فيما يتعلق برؤى أهل العلم، هل يترتب على هذا شيء في الاعتقاد أو غيره؟
الجواب
الرؤى والأحلام في مذهب سلفنا رضي الله عنهم لا يبنى عليها اعتقاد، وإنما هي من المبشرات، والصحابة رضي الله عنهم منهم من رأى الخير في منامه ومنهم من رأى الشر، ورؤية الشر في المنام لا تعد من أسباب سوء الخاتمة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم في منامه ما يكره فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً، وليتفل عن يساره ثلاثاً، ويتحول عن مكانه الذي كان ينام فيه، ولا يخبر بذلك أحداً، فإنها إن شاء الله لا تضره).
إذاً: الذي يرى ما يكره في منامه عليه: أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم بمجرد أن يستيقظ، وأن يتفل عن يساره ثلاثاً، وأن يقوم فيتوضأ ويصلي ركعتين، ولا يخبر بذلك أحداً، فإنها إن شاء الله لا تضره.(43/13)
الجمع بين حديث: (ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة) وحديث ادخار الدعاء
السؤال
كيف نوفق بين قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، وبين الحديث الآخر الذي مؤداه: أن الدعاء يجاب في الحال، أو في المآل، أو يدخر له إلى يوم القيامة، أو يدفع من السوء مثله، كيف نجمع بين اليقين بإجابة الدعاء، وبين ما سبق؟
الجواب
ليس هناك تعارض بين الدليلين.
قوله عليه الصلاة والسلام: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)؛ وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (دعاء المؤمن إما أن يدخر له إلى يوم القيامة، أو يدفع عنه من الشر مثله).
أنا في كل الأحوال على يقين بأن الله تقبل دعائي خاصة إذا حققت شروط قبول الدعاء من أكل الحلال واليقين بالله عز وجل، والتوكل عليه، وغير ذلك من أسباب الطاعة التي تؤهلني لرفع دعائي إلى الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فأنا على يقين بأن الله تقبل دعائي، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرني أن قبول الدعاء ليس بلازم أن يكون مرئياً رؤيا العين؛ لأن الله تعالى يؤخر لي الإجابة ليكافئني بها يوم القيامة، أو يدفع عني من الشر الذي لا أعلمه مثل الذي طلبته، فأنا أحوالي كلها تدور من خير إلى خير إلى خير، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وعد بهذا فما الذي يضيرني أن أعقد قلبي وأعزم عقيدتي على أن دعائي مجاب في كل الأحوال، فليس هناك تعارض بين الدليلين.(43/14)
المكتوب في اللوح المحفوظ هو علم الله فيما سيعمله العبد
السؤال
هل المكتوب في اللوح المحفوظ هو قدر الله على العباد، أم أنه علم الله بما سيعمله العباد؟
الجواب
المكتوب في اللوح المحفوظ هو علم الله تبارك وتعالى فيما سيعمله العباد، فقدره عليهم ثم كتبه.(43/15)
معنى قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]؟
الجواب
هذه الآية وافقت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الله خالق كل صانع وصنعته) فأنت مخلوق لله عز وجل، وهذا الذي يوافق قول الله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
أي: وما تصنعون.
فهذا الكلام الذي تتكلمه أنت مخلوق فيك أي: حركات فمك ولسانك وأطرافك وحلقومك وغير ذلك كلها حركات مخلوقات، والصوت الذي خرج من فمك مخلوق كذلك.
أما الذي تتكلمه فإما أن يكون مخلوقاً أو غير مخلوق، فإن تكلمت بكلام الله عز وجل فكلام الله غير مخلوق، وإن تكلمت بكلام غير الله فكلام غير الله مخلوق.
وحركاتك وأداؤك وإخراجك الحروف والأصوات مخلوق، وصناعتك ومشيك وقعودك وسكونك وحركتك كل هذا مخلوق، وأعمالك التي تنتجها كلها مخلوقة لله عز وجل، وهذا معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].(43/16)
مصير الكفار في الآخرة
السؤال
هل الكافر يوم القيامة داخل في مشيئة الرحمة أو العذاب، أم أنه ليس له إلا النار؟
الجواب
الكافر لا رحمة له في الآخرة، وليس له إلا النار.(43/17)
الأحاديث في غير الصحيحين
السؤال
هل كل حديث خارج الصحيحين لا يعمل به إلا بعد التأكد من صحته أو حسنه؟
الجواب
كل حديث ليس في الصحيحين ينبغي البحث عن أحوال رواته وعنه قبولاً ورداً.(43/18)
صحة حديث: (استوصوا بأهل مصر خيراً)
السؤال
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (استوصوا بأهل مصر خيراً، وبأرض الكنانة).
هل هذه الأحاديث صحيحة أم لا؟ وما معنى كلمة: شعب مصر وهل هو دليل أم كلام؟
الجواب
هذه الأحاديث في مجموعها حسنة.(43/19)
تفسير رؤيا
السؤال
رأيت في المنام الشيخ يمسك يدي اليمنى ويقرأ قرآن، وعندما استيقظت من نومي سمعت هذا القرآن في محطة القرآن الكريم، أرجو الإفادة؟
الجواب
الكلام هذا غلط، لا يحل للشيخ أن يمسك بيدك وأنت أجنبية.(43/20)
حكم المجامع يسمع أذان الفجر
السؤال
هل يجب على من يجامع أهله أن ينزع عند الأذان الصادق؟
الجواب
لا.
بل قبل الأذان الصادق، ولكن إن وافق ذلك الأذان نزع، مع أن هذه مسألة قد اختلف فيها أهل العلم، قالوا: لو أن الرجل سمع أذان ابن أم مكتوم وهو يجامع ماذا يصنع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم).
قال الجمهور: إذا كان الرجل يجامع أهله فسمع تأذين ابن أم مكتوم فلينزع.
قال الأحناف: لا ينزع.
قيل: لم؟ قالوا: لأن النزع لذة، ولا تحل اللذة بعد دخول الوقت.
فيقال لهم: فماذا يعمل؟ هل يبقى مجامعاً حتى ليل اليوم الثاني؟ طبعاً رأي الأحناف رأي باطل وفاسد، والمذهب الصحيح أن الرجل ينبغي عليه أن ينزع قبل الفجر الصادق في وقت يسمح له بالاغتسال والطهارة.
فإذا قام من الليل وظن أن الفجر بقي عليه من الوقت ما يسمح له ثم جامع ففوجئ بالأذان وجب عليه أن ينزع ثم يبادر بالاغتسال، وإن جامع الرجل ونام بلا غسل وهو ينوي أن يقوم قبل الفجر ليغتسل ثم أخذته نومة فقام بعد أن طلع النهار أو أذن الفجر فلا شيء عليه، ويغتسل، ويتم صيامه ولا إعادة عليه.(43/21)
نصيحة لموسوس
السؤال
خلاصة
السؤال
أنه موسوس، لا يكاد يتوضأ وضوءاً إلا ويرهقه الوساوس، وهو في الصلاة كذلك، وبعد الصلاة إذا خرج منه ريح يسأل هل يذهب يتوضأ حتى يتمكن من التسبيح أم التسبيح يحصل بغير وضوء؟
الجواب
التسبيح يمكن بغير وضوء، وذكر الله تعالى على غير وضوء جائز، وهذا مذهب العلماء.
أما السائل الذي يسأل عن وسوسته عند قيامه للصلاة، فهذا السائل نسأل الله تعالى لنا وله العافية، فالوسوسة ليست من دين النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا نقول: ما عليه إلا أن يتوضأ ثلاثاً ويقف خلف الإمام، ويكبر للصلاة فور تكبير الإمام، ولا شيء عليه بعد ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا دخل أحدكم في صلاته فلا يخرج منها حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهذا يدل على المبالغة في رد الوسواس.(43/22)
حكم رواية المبتدع بدعة مكفرة
السؤال
المبتدع إن كفر ببدعته ترد روايته؟
الجواب
نعم.
إن كفرته ببدعته ترد روايته، وإن لم يكفر ببدعته ولم يستحل الكذب وتوافرت فيه شروط قبول الرواية قبلت.
مداخلة: وهل هناك فرق بين المبتدع الداعية وغير الداعية؟ الشيخ طبعاً هناك فرق بين المبتدع الداعية وغير الداعية، فالداعي إلى بدعته يغلب عليه الكذب، ولذلك ترد روايته، وهناك فرق بين المستحل وغير المستحل.(43/23)
حكم الصلاة خلف القدرية
السؤال
من عقائد أهل السنة والجماعة: (أن الصلاة تجوز خلف كل بر وفاجر)، وأنت قلت: إن الصلاة لا تجوز وراء القدرية؟
الجواب
ليس هذا قولي: (إن الصلاة لا تجوز خلف القدرية)، بل إن أمة لا إله إلا الله تقول هذا الكلام، والذي قلته هو إن الصلاة تجوز خلف كل بر وفاجر ما لم يكن مبتدعاً بدعة تكفره ويدعو إليها.(43/24)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - جماع الكلام في الإيمان - الأركان الخمسة
جماع الكلام في الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت، وتؤمن بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وتعلم أن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، هذا هو مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة، ومن خالف أهل السنة والجماعة في شيء من ذلك فهو من أهل الضلالة والزيغ والغواية.(44/1)
مسلك اللالكائي في كلامه عن مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فهذا كتاب (مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة) لإمام كبير من أئمة السنة، وهو أبو القاسم الطبري اللالكائي رحمه الله، وهو كتاب عظيم جداً في بابه، فقد جمع شتات مسائل الاعتقاد التي خالفت فيها الفرق الضالة أهل السنة والجماعة.
وهذا الكتاب سلك فيه مؤلفه مسلكاً عظيماً وإن كان فيه شيء من الخلل، فقد ذكر المسائل التي خرج بها من خرج عن حد الاستقامة من أصحاب الفرق الضالة، والتي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة، وإذا كانت المسألة محل نزاع عند أهل السنة فإنه لا يذكر هذا النزاع ولا يعتني به، وإنما يذكر ما ترجح لديه وأدلته، فمثلاً في مسألة رؤية الله عز وجل للنبي عليه الصلاة والسلام لم يسق فيها الخلاف الذي حدث، وإنما ذكر ما ترجح لديه -وهو الراجح حقاً- أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه بعيني رأسه، وإنما رآه بفؤاده، فساق الأدلة لإثبات هذا المعتقد، وهو الصحيح.
فهو لا يعنى بالخلاف حتى وإن كان هذا الخلاف بين جماعة أهل السنة والجماعة.
والكتاب قد شرحناه منذ عام يقل قليلاً أو يزيد قليلاً، ولن نرجع نسرد أدلة الكتاب ونقرأ الأبواب من أول الكتاب، وإنما سنبني على ما مضى، وكنا قد وقفنا عند موضوع حيوي جداً، وهو الكلام في الإيمان وأصوله، والتعليق على عقائد الفرق الضالة.
وهذا الموضوع بدأ في نهاية الجزء الرابع وينتهي في نهاية الجزء التاسع، والكتاب طبع في خمسة مجلدات، الأربعة الأولى كل واحد منها جزءان، وكان الجزء الثاني مفقوداً من المخطوط، ولكن المحقق عثر عليه أخيراً فطبعه في مجلد مستقل.
وقد عقدنا العزم على دراسة كتب السنة المفردة -أي: كتب الاعتقاد المسندة- ككتاب الإيمان لـ ابن مندة، وكتاب السنة للخلال، وكتاب السنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وكتاب الشريعة للإمام الآجري، وغيرها من الكتب لمؤلفيها.(44/2)
جماع الكلام في الإيمان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب جماع الكلام في الإيمان.
سياق ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن دعائم الإيمان وقواعده: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان].
وسنستغني عن ذكر الأدلة الضعيفة وسردها، وسنذكر الأدلة الصحيحة، ولن نذكر الإسناد وإنما سنذكر المتن مع الصحابي الذي رواه، أو مع الراوي الذي قاله.
قال ابن عباس: [إن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بالإيمان بالله قال: (أتدرون ما الإيمان؟)].
ووفد عبد القيس كانوا لا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام إلا في الأشهر الحرم؛ لأن بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام كفار مضر، فقالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من مضر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم).
وهذا من شدة أدبهم رضي الله عنهم، وإلا فالإيمان بالله معلوم لدى العامة فضلاً عن الخاصة، ووفد عبد القيس أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليسألوه عن أصول دينهم، وعما يجب عليهم وما حرم، وعما أحل لهم، فهم لم يكونوا يعملون ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم).
ومن أدب الطالب: أن ينسب الجهل إلى نفسه، وأن ينسب العلم إلى شيخه، وإن كان جاهلاً، وهذا من باب حسن الأدب ومكارم الأخلاق، حتى يستفيد مما عند شيخه، ولو أن طالباً أظهر ما عنده من علم ثم عرج على جهل شيخه فإنه لن يحظى منه بشيء، فالأدب الصادق أن يظهر جهله وإن كان عالماً، وأن يظهر علم الشيخ وإن كان جاهلاً.
[[(قالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)].
والصواب أن هذا الحديث ليس فيه الحج؛ لأن الحج لم يكن قد فرض بعد، فهو إنما فرض مؤخراً، والسؤال كان قبل فرض الحج، فيكون الأمر: (آمركم بالإيمان بالله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان).
وليس فيه الحج.
ثم قال: [(وأن تؤدوا الخمس من المغنم)].
أي: من المغانم، فقد كانوا أهل جهاد مع كفار مضر، وأهل الجهاد إما أن يخسروا وإما أن يغنموا، فلما غلب النصر على هؤلاء لزم من ذلك حصولهم على الغنائم الكثيرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: (وأن تؤدوا الخمس من المغنم).
وليس معنى ذلك أن أداء الخمس معطوف على ما أمرهم به عليه الصلاة والسلام من أصول الإيمان، بل هو من الإيمان، وقد أفرده البخاري في كتاب الإيمان له فقال: باب قوله: باب أداء الخمس من الإيمان.
وقد ذكره في نهاية كتاب الإيمان من صحيحه، وعد أداء الخمس شعبة من شعب الإيمان.
فهنا قال: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قالوا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان).
وقد كان قال لهم: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع).
وقوله: (وأن تؤدوا الخمس من المغنم) تعد خامسة، فهي معطوفة على قوله: (آمركم بأربع).
يعني: ليست داخلة في الأربع، وإنما هي خامسة، فقد كانوا في حاجة إليها لأنهم أهل جهاد، فزادهم ما يخص عملهم وكفاحهم وجهادهم مع كفار مضر، فهم لما كانوا أهل جهاد وغنيمة لزمهم في ذلك أن يؤدوا الخمس، فزادهم هذه من عنده، وليس هذا من الأربع التي أمرهم بها عليه الصلاة والسلام، بل هذا أمر مستقل يبعد عما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أولاً أن يأمر به.
قال: (وأنهاكم عن الحنتم والنقير والدباء والمزفت).
وهذه أوان كان يستعملها العرب في الجاهلية في تخمير الخمر، والشيء إذا وضع في هذه الأواني كان سريع التخمر والحموضة، فنهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن استعمال هذه الأواني.
وهذا الحديث أخرجه البخاري.
قال: [عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)].
وهذا الحديث كذلك عند الشيخين في الصحيحين.
والشاهد في هذا الحديث قوله: (بني).
وهذا يدل على أن دعائم الإيمان والإسلام تقوم على هذه الأسس؛ لأنها مبانٍ، وليست مكملات ولا فرعيات ولا شكليات، وإنما هي مبانٍ كالقواعد والسواري والأعمدة للبناء العظيم الذي هو الإسلام، وهذا يعني أن من لم يأت بقائمة من هذه القوائم اختل إسلامه، فالخلل لا يقع في الإيمان فحسب(44/3)
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإسلام أعم من الإيمان والإيمان أخص منه
قال: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص منه].
الإسلام دائرته أوسع من دائرة الإيمان، فدائرة الإيمان خاصة، ودائرة الإسلام عامة، فالإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص منه.
[قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14]]، أي: ادعوا أنهم قد آمنوا، [{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]].
فانظر إلى نفي الله عز وجل ادعاء الأعراب أنهم آمنوا، [{وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]].
أي: لم يدخل بعد، ولكنه سيكون في المستقبل، فـ (لما) تفيد عدم التحقق حالاً، وربما يتحقق مآلا في المستقبل، {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14] فهنا فرق بين الإيمان والإسلام، بأن الإيمان شيء والإسلام شيء آخر.
فالإسلام أصل وهو يثبت لصاحبه ومدعيه بالشهادة وإن كان كاذباً.
يعني: لو قالها متعوذاً ثبت له الإسلام ظاهراً في أحكام الدنيا وإن كان عند الله كافراً، ولو قالها كافر في ساحة الوغى والجهاد فراراً من القتل لما تمكن منه المسلم فيجب على المسلم الذي تمكن منه وكان على وشك قتله أن ينتهي عن قتله، وإلا صار آثماً إثماً عظيماً، ولا أدل على ذلك مما فعله أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فإنه لما تمكن من رقبة كافر نطق بالشهادتين فقتله أسامة، فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك قال: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله.
فقال أسامة: إنما قالها متعوذاً).
يعني: يريد أن ينجو بها لما أيقن الهلاك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله.
قال: يا رسول الله! قالها تعوذاً.
قال: يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله.
ثلاث مرات، حتى قال أسامة: ليتني ما أسلمت إلا الآن).
يعني: يا ليت هذا الجرم لم يقع مني في حال إسلامي، ويا ليتني أسلمت الآن إسلاماً لا خطأ فيه، وحزن أسامة على فعله حزناً شديداً حتى مات رضي الله تعالى عنه.(44/4)
ما ينقض به الإسلام
الإسلام يثبت بكلمة الشهادة، وإذا ثبت بهذه الكلمة فلا ينتفي إلا بما يضادها، فإذا أتى بنقيضها كأن يصرح بأنه يعبد إلهاً آخر غير الله عز وجل كفر، كهؤلاء الذين ظهروا في مصر مؤخراً يعبدون الشيطان، وقد صرحوا بأنهم يعبدون الشيطان، فالذي يعبد إلهاً غير الله يكفر، وإن لم يكفر فلا يوجد في الدين أو الدنيا كفر بعد ذلك، فهؤلاء قد كفروا من أوسع الأبواب، وكذلك من رضي بفعلهم والتمس العذر لهم مع إقرارهم الذي لا يحتاج معه إلى إقرار، وهم معلومون بأعيانهم وذواتهم؛ لأنهم من أبناء علية القوم، فهم قد كفروا بالله العظيم، كما كفر ذلك الدعي الذي سماه الناس أو سمى نفسه أو سمته وزارة الثقافة حيدر، وهو صاحب الكتاب المشهور الذي ذكر فيه قبل أسبوعين أن كلام الله (خرى) هكذا -أعوذ بالله- وأن الله تعالى كذاب فاشل.
هكذا قال، وأن الرسول مزواج كما جاء في كتابه.
فهذا الكلام كفر بواح، ومن دافع عنه بأنه ليس كفراً أو أن كاتبه أو ناشره أو طابعه أو طالبه ليسوا كذلك فهو كذلك كافر، فمسائل الإيمان والكفر لا تحتاج إلى هوادة خاصة في هذا الزمان الذي رفع فيه كل كذاب عقيرته، بل ينبغي في مسائل الإيمان والكفر وضع النقاط على الحروف من أول وهلة؛ حتى يعلم كل عبد أهو مسلم أو كافر.
وإذا كنا أهل السنة ندع هؤلاء بيننا يتكلمون بما شاءوا من طعن في الله عز وجل، وفي الرسول والقرآن ثم نذهب نلتمس لهم الأعذار التي لا يتمنونها هم فهذا خبل وجنون.
هو نفسه لا يتمنى ذلك، ولا يريد أن يلتمس أحد له عذراً، بل إنه أتى برسالة ومهمة يؤديها على أكمل وجه تحت عين ونظر وبصر وزارة الثقافة، وإن شئت فقل: وزارة السفالة والإباحة المصرية.
فهذا كفر ليس بعده كفر، ومن رأى غير ذلك فليهنأ بكفره ذلك، سواءً كان ذلك كبيراً أو صغيراً، أو حتى رجل الشارع.
فهذه مسائل لا يعذر بالجهل فيها، فلا يعذر بالجهل من سب الله عز وجل؛ لأنه لا يجهل أحد أن سب الله تعالى كفر حتى يسب الله تعالى، ويسب كلام الله القرآن الكريم.
وأما أن يهان الله عز وجل وحاشاه أن يهان، أو يهان كلامه، أو يهان رسله وأنبياؤه ونحن باقون على وجه الحياة فلا قيمة لنا، والموت أهون من كل شيء، وهو خير من أن يحاسبنا الله عز وجل كيف قيل هذا الكلام ولم يكن لكم فيه كلام ولا رد.(44/5)
ثبوت أصل الإيمان بالإسلام
قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أي: الإسلام باق لكم، وأما الإيمان الذي تزعمونه وتدعونه فإنه شيء آخر لم تكسبوه بعد.
{وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، أي: فهذا غير موجود الآن، وليس معنى ذلك أن الإيمان لم يوجد منه شيء قط في قلوبهم؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل إما بالقلب وإما باللسان والجوارح، والقول هو إقرار العبد بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وإقراره بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشره، فإذا آمن العبد بهذا فقد آمن بأصول الإيمان.
أي: تمسك بأصول الإيمان.
وأما كمال الإيمان ونقصانه فهذا محله الطاعات التي فرضها الله عز وجل على العباد من الفرائض والواجبات والسنن والمستحبات وغير ذلك، فكلما اجتهد فيها العبد وأداها على أكمل وجه كلما ازداد إيمانه، وكلما قصر في شيء من ذلك فقد قصر في شيء من تمامه وكماله، وهذا يعني أن المسلم لابد أن يكون عنده شيء من الإيمان، ولذلك أهل العلم يفرقون بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فالإيمان المطلق: هو الإيمان الكامل الشامل، وهو تمام الإيمان وكماله وزيادته إلى أقصى حد، وأما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان.
والإيمان له قاعدة وجذور، وله فروع، فأصل الإيمان موجود مع من دخل في دين الله -أي: في الإسلام- ولو بمجرد النطق بالشهادتين، واستقرار هذا الأصل الإيماني محله القلب.
فالإيمان الآن له أصل وله فروع، فالأصل موطنه القلب، وهو أنه إذا نطق بالشهادتين صدق هاتين الشهادتين وآمن بهما، وأحبهما وعلم معناهما، وهو على استعداد كامل لأداء ما أوجبته هذه الكلمة، وكل هذا محله القلب، ويسمى إيماناً، فالمسلم معه أصل الإيمان، ثم يأتي بعد ذلك بالطاعات التي هي عمل الجوارح، فكلما ازداد المرء منها ازداد من الِإيمان بفروعه وجذوره وأصوله، فكلما ازداد العبد من الطاعات ازداد إيمانه ويقينه بالله عز وجل، وكلما نقص نقص إيمانه، حتى إذا ترك العمل بالكلية خرج من إيمانه بالكلية إذا خرج من أصل هاتين الكلمتين، وهما: الشهادتان.(44/6)
مخالفة المرجئة لأهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه
قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] لا يعني أنهم كفار، بل المسلم معه أصل الإيمان، ولا يتصور إسلام بلا إيمان، وهذه شبهة من قال: الإيمان هو التصديق، والتصديق محله القلب وليس الجوارح، فقالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه لا يتصور على تعريفنا للإيمان بأنه التصديق أن يكفر بهذا، لأن المصدق للخبر إذا نقص تصديقه نقص إلى العدم، فكأن المصدق للإسلام والإيمان إذا نقص تصديقه فقد ذهب إيمانه، ولذلك الإيمان عند المرجئة لا يزيد، كما أنه غير قابل للنقصان؛ لأنه إذا نقص يكفر صاحبه كما قالوا، فهم يقولون: الإيمان هو التصديق، وأما أهل السنة والجماعة فالإيمان عندهم ليس هو التصديق فحسب؛ لأن التصديق عند أهل السنة يعني أصل الإيمان الذي لا يثبت إسلام العبد إلا به، ولكن كمال الإيمان وتمامه باب آخر عند أهل السنة والجماعة، وله تعليق آخر عند أهل السنة والجماعة.
وليس معنى ذلك أن أهل السنة لا يقولون بأن الإيمان هو التصديق، بل يقولون: بأن الإيمان هو التصديق والزيادة.
فالتصديق عند أهل السنة يعني التصديق بالشهادتين، وهو: استقرار أصل الإيمان في القلب.
والجوارح لها عمل، والقلب له عمل، وعمله: المحبة والرضاء والتصديق والإيمان، وكل هذه أعمال قلبية، فالقلب له عمل كما أن الجوارح لها عمل، ولكن عمل القلب أصل في الإيمان، وأما عمل الجوارح فهو من مكملات ومتممات الإيمان، ومن أسباب كماله وزيادته، وبعض أعمال الجوارح أصل في الإيمان.(44/7)
تفريق العلماء بين الإيمان والإسلام
قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
هذه الآية تدل على أن الإسلام لابد أن يكون معه أصل الإيمان.
قال: [وقال الزهري: الإيمان: العمل].
عرف الإيمان بالعمل، والزهري من أكابر أهل السنة، فقال: الإيمان هو العمل.
أي: عمل القلب وعمل الجوارح.
ولو أن إنساناً عمل بجوارحه جميع أعمال الطاعات التي تؤدى بالجوارح ولم يستقر الإيمان في قلبه لم يصلح إيمانه، بل لا يصلح إسلامه أيضاً، وإن استقر الإيمان في قلبه ولم ينطق بالشهادتين لم يصح إسلامه، فلو أن أحداً يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويعمل كل شيء ويجاهد ولكنه يبغض هذا كله فليس بينه فرق وبين عبد الله بن أبي بن سلول، فقد كان يصوم ويصلي ويزكي ويحج، بل كان يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام في ساحة الجهاد، ولكنه لم ينفعه ذلك؛ لأن أعمال الجوارح هذه كلها لم يستقر أساسها وأصلها في قلبه، بل كرهها وأبغضها، وإنما كان يفعلها نفاقاً ورياءً.
[قال الزهري: الإيمان: العمل.
والإسلام: الكلمة]، يعني: الإسلام يثبت بمجرد الكلمة.
والمبحث الذي تدور حوله المشكلة دائماً ليس في كيفية ثبوت الإسلام، بل الكل يعلم يقيناً أن الإسلام يثبت بالكلمة، بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ولكن كيف يخرج المرء من الإسلام، فالقضية كلها في أحكام الردة، والمشكلات التي تثار حول الإيمان والإسلام كلها متعلقة بكيف يحكم بالردة على المسلم.
قال: [وعن الحسن البصري ومحمد بن سيرين أنهما كان يهابان مؤمن ويقولان: مسلم].
وهذا من باب كراهة التزكية، وأن الله تعالى أعلم بمن اتقى، وهؤلاء كانوا يقولون: نحن مسلمون، أو أنا مسلم، ولا يزكون أنفسهم بقولهم: أنا مؤمن.
وفي حديث جبريل لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام عرفه له وبينه، ثم سأله عن الإيمان فعرفه وبينه، ثم سأله عن الإحسان، وهذا يدل على أن كل محسن مؤمن، وليس كل مؤمن محسن، ويدل على أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن.
وبين هذه الألفاظ والمصطلحات الثلاثة عموم من جهة وخصوص من جهة أخرى.
وأما إذا كان قول أحدهم أنا مؤمن من باب بيان الحال، وكذلك يؤدي إلى نفع المجتمع فإنه لا بأس أن يقول المرء: أنا مؤمن.
قال: [وبه قال من الفقهاء: حماد بن زيد ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وأحمد بن حنبل] أي: نفس هذا الكلام.(44/8)
تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والإسلام
قال: [عن عامر بن سعد - وهو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- يروي عن أبيه قال: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى رجالاً ولم يعط رجالاً)].
يعني: في توزيع الغنائم أعطى النبي عليه الصلاة والسلام أناساً ولم يعط آخرين، [(فقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! ما بالك أعطيت أناساً ولم تعط آخرين، وإني لأراهم مؤمنين -يعني: رأيتك أعطيت فلاناً ولم تعط فلان وهو مؤمن- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوهو مسلم.
فقال: يا رسول الله! هذا مؤمن)].
وهذا لما يعلمه سعد بن أبي وقاص من حال ذلك الرجل، وأنه يأتي بجميع الطاعات صغيرها وكبيرها ويحافظ عليها، فهو قدوة ومثل يقتدى به، ومعلوم من صلاحه وتقواه الشيء الكثير، ولذلك أصر سعد بن أبي وقاص على أن هذا الرجل مؤمن، ولكن لما كان الإيمان أصله القلب ثم يظهر ذلك على الجوارح، وربما ظهر على الجوارح ما لا يدل بالضرورة على أصله في القلب كان الحكم بالإيمان لله عز وجل أو للرسول عليه الصلاة والسلام إذا أطلعه ربه على إيمان عبد بعينه، ولكن سعد بن أبي وقاص لما أعطى النبي عليه الصلاة والسلام أناساً من الغنائم ولم يعط آخرين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك أعطيت فلاناً ولم تعط فلاناً، وإني لأراه مؤمناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أو هو مسلم -يعني: يا سعد أو هو مسلم- قال: يا رسول الله! بل مسلم) ثلاث مرات ينازعه سعد في إثبات إيمان من منعه وحرمه النبي عليه الصلاة والسلام من قسم الغنائم، ثم بين له النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن الفرق قائم بين المؤمن والمسلم، وهذا يدل على أن الإسلام شيء والإيمان شيء آخر أخص منه، فبين النبي عليه الصلاة والسلام عذراً لإعطائه أناساً وحرمانه آخرين رغم بيان الأفضلية ولو في الظاهر، فقال: [(إني لأعطي أناساً وغيرهم أحب إلي منهم؛ مخافة أن يكبهم الله تعالى على وجوههم أو قال: على مناخرهم).
وفي رواية: (على مناخرهم في النار).
فقوله: (إني لأعطي أناساً وغيرهم أحب إلي) أي: في إيمانهم وإسلامهم أحب، وهم يقدرون القضية أيما تقدير، ولذلك شرع أن يصرف من مال الزكاة على المؤلفة قلوبهم، وهم: حديثو العهد بالإسلام والإيمان؛ لتثبيتهم على الإيمان.
وقد سن النبي عليه الصلاة والسلام سنناً عظيمة جداً وسار عليها الصحابة رضي الله عنهم وخاصة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في إعطاء كل صاحب منزلة منزلته وزيادة؛ تثبيتاً له على الإيمان والإسلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن).
ودار أبي سفيان ليست حرماً حتى ينعقد الأمن فيها؛ ولكنها منقبة لـ أبي سفيان، لأنه قد ورد في رواية: (إن أبا سفيان رجل يحب الفخر).
فهذا منقبة لـ أبي سفيان يفاخر بها أصحابه بأن من دخل داره كان آمناً، وهذا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام وشهادته وإقراره، ولم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام بيت أحد من أصحابه حتى ولا بيت الخلفاء الراشدين مع بيت أبي سفيان حتى يكون لـ أبي سفيان هذا المنقبة منفرد بها؛ لأنه رجل يحب الفخر.
وسلمة بن الأكوع رضي الله عنه كان في الجاهلية رجلاً عظيماً شريفاً في قومه، فإذا أسلم فلابد أن ينزل منزلة عظيمة في الإسلام، وهذا يشهد له قوله عليه الصلاة والسلام: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا).
ولما أسلم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وكان من أشراف قومه أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن ينزل في عوالي المدينة.
يعني: يسكن في القصور التي هي على مشارف المدينة؛ لأنها تتناسب مع مقامه.
وهذا يلزم منه أن يركب البعير فوق الأرض الساخنة والرمال الملتهبة، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام معاوية بن أبي سفيان أن يأخذ بخطام بعير سلمة، فأخذ معاوية بخطام بعير سلمة بن الأكوع، وسلمة يعرف أي فتى معاوية، فقد كانوا يعرفون بعضهم بعضاً، فلما اشتدت الحرارة في أقدام معاوية قال: يا سلمة! احملني خلفك.
قال سلمة: إنما يكفيك أن تستظل بظل البعير، وسلمة لا يخفى عليه الحال في مثل هذا ولكنه أبى.
فقال: يا سلمة! هل لك أن تسلفني نعلك؟ فقال: لا.
فاستمر معاوية في سوقه البعير حتى وصل إلى عوالي المدنية؛ لأنه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام وليس أمر سلمة، وهذه المنزلة هي منزلة سلمة، وسلم(44/9)
الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا
اختلف أهل العلم في الإيمان والإسلام، فبعض أهل العلم قالوا: الإيمان هو الإسلام، ولا فرق بينهما، واحتجوا بأدلة، منها قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:69].
قالوا: فهذان وصفان لموصوف واحد وهو المخاطب، فوصفهم بالإيمان والإسلام، وهذا يدل على أنه لا فرق بينهما.
وقال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36].
وهذا يدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد.
والأصل ألا نضرب آيات الله عز وجل بعضها ببعض، ولا نضرب كلامه بعضه ببعض، فهذه الآية بينت أن الإيمان والإسلام قد اجتمعا في موصوف واحد، ولكن الآيات والأدلة الأخرى بينت الفرق بين الإيمان والإسلام بنفي الإيمان، ولذلك أهل العلم يقولون: الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
يعني: إذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد، فهذا يدل على أن الإسلام له مدلول، والإيمان له مدلول آخر، وإذا افترق الإيمان والإسلام دلا على أن كل منهما بمعنى الآخر، ومثاله: قول النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل ما الإسلام؟ قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت).
فعلمنا أن دعائم وأركان الإسلام هي هذه.
(فقال: صدقت.
ثم سأله عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره).
فعلمنا أن هذا هو مدلول الإيمان.
إذاً: الإيمان إذا اجتمع مع الإسلام كان لكل منهما مدلول يخصه، مثل الفقير والمسكين، وإذا افترقا فهما بمعنى واحد.
يعني: إذا ذكر الفقير شمل المسكين، وإذا ذكر المسكين فقط شمل الفقير، فكذلك الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يخصه، وإذا ذكر واحد منهما في دليل شمل الآخر معه، كما في حديث وفد عبد القيس قال: (وآمركم بالإيمان.
أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان).
وهذا نفس تعريف الإسلام في حديث جبريل، ولكنه لم يذكر الإسلام هنا، فدل على أن الإيمان يشمله، كما ذكر الإسلام في قول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فشمل معه الإيمان.
فهذا معنى قول أهل العلم: إذا اجتمعا -أي: في دليل- افترقا.
يعني: كان لكل واحد منهم تعريف خاص.
وإذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر الإيمان أو الإسلام في دليل خاص شمل معه الآخر.
قال: [عن أبي برزة الأسلمي قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته).
فقال في هذا الحديث: (يا معشر من آمن بلسانه)، واللسان جارحة، ولابد من النطق في إثبات الإسلام، ولا يثبت الإسلام لعبد قادر على الكلام إلا بالنطق بالشهادتين، والنطق بالشهادتين محله اللسان، والنطق بالشهادة شرط في صحة إسلام العبد، أي: الخارج عن الكفر.
فقوله: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه)، أي: لم يدخل كمال الإيمان وليس أصل الإيمان، لأنه لو آمن بلسانه فإنه يلزم من هذا الإيمان الظاهري وجود أصل الإيمان في القلب من المحبة والرضا والقبول والاستعانة والاستغاثة وغير ذلك، وأما عمل الجوارح فهو مكمل ومتمم للإيمان.
عن أبي سلمة الخزاعي: [إن حماد بن زيد كان يفرق بين الإيمان والإسلام، ويجعل الإسلام عاماً والإيمان خاصاً].
أي: يضع الإسلام عاماً مع أصل الإيمان.
أي: معه مطلق الإيمان، وأما الإيمان المطلق فهو فوق الإسلام بكثير.
وقال حنبل - وهو ابن أخ الإمام أحمد بن حنبل قال: [سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - وسئل عن الإيمان والإسلام قال: قال ابن أبي ذئب: الإسلام: القول.
والإيمان: العمل].
وهذا نفس كلام الإمام الزهري الذي تقدم.
وقوله: الإسلام القول.
يعني: يثبت الإسلام بالنطق بالشهادتين، وهو عمل اللسان.
والإيمان: العمل.
إما عمل قلب أو عمل جوارح، فإذا فرط العبد في عمل الجوارح نقص إيمانه على قدر ما فرط من العمل، وإذا انخلع أصل الإيمان من قلب العبد انخلع إسلامه؛ لأن الإيمان نوعان: إيمان القلب، وهو عمل القلب، وإيمان الجوارح، فإيمان القلب هو مطلق الإيمان، وإيمان الجوارح هو الإيمان المطلق.
فلابد أن نفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فمطلق الإيمان هو أصل الإيمان المستقر في القلب، فإذا زال هذا الإيمان زال إسلام العبد؛ لأن هذا يشمل التصد(44/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما روي أن الصلاة ركن في الإيمان
الصلاة من أعظم أركان الدين، فهي تأتي في الأهمية بعد الشهادتين، ومن ثم فقد اعتنى بها الإسلام، وحث عليها، ورتب أعظم الأجور عليها، وأيضاً رتب الإثم والعقوبة على تاركها، وهدده أعظم تهديد، بل جاءت النصوص موضحة أنه لا يتركها مسلم أبداً.
وأمام هذه النصوص الشديدة التهديد اختلف العلماء في تاركها، وهل يحكم له بالإسلام أم أنه قد انخلع منه ودخل في الكفر؟ فمن العلماء من حكم بإسلامه، ومنهم من كفره.(45/1)
سياق ما جاء عن النبي في أن الصلاة من الإيمان(45/2)
اختلاف العلماء في كفر تارك الصلاة
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فالذي يقرأ الأدلة من الكتاب والسنة، ويعرف كلام أهل العلم في تارك الصلاة يكاد يحار ويتوقف في حكم تاركها ولا يجزم بأمر منهما، وهل هو كافر خارج من الملة، أو أنه فاسق بتركه للصلاة؟ ولاشك أن من قال بعدم كفره كفراً اعتقادياً يثبت له الكفر العملي، بل هو عنده من أخبث الناس، يعني: أنه يثبت له أخطر درجات الكفر، وذهب كثير من السلف خاصة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين والأئمة المتبوعين إلى كفر تارك الصلاة كفراً أكبر يخرج به صاحبه عن ملة الإسلام.
والناظر في الأدلة يكاد يرجح جانب الكفر الاعتقادي على جانب الكفر العملي، يعني: يكاد يرجح أنه خارج عن ملة الإسلام، والأدلة تشهد بهذا.
والعلماء الذين لم يكفروه أولوا هذه الأدلة وصرفوها عن ظاهرها، وإن شئت فقل: رجحوا صرفها وتأويلها بغير مرجح.
وهذه المسألة ما جزمت فيها إلى يومي هذا بحكم من الاثنين، هل هو كافر حقاً ويخرج من الملة، أو أنه فاسق فسقاً عظيماً جداً لكن لا يخرج من الملة.
وكثيراً ما ذهبت إلى كفره ثم رجعت، ثم عدت إلى تكفيره ثم رجعت؛ وهذا لغلبة كل من القولين على الآخر، وإن كان في كل مرة يترجح لدي كفره، وما ذهبت إلى كفر تارك الصلاة إلا من تركها بالكلية، وأما من تركها ثم عاد إليها ثم تركها ثم عاد إليها -يعني: يصلي تارة ويقطعها تارة- فهذا يرفع عنه حكم الكفر، ولا خلاف عندي في أن هذا من أفسق الناس، وأما كونه كافراً فلا، وأما من تركها بالكلية ولم يصل قط فالذي يترجح لدي أنه كافر خارج عن ملة الإسلام.
وأنت إذا اطلعت على أدلة القائلين بكفره وعدم إسلامه فلابد أن تقف إذا كنت صاحب علم، ولست متبعاً للهوى، وإن لم تقف فستجزم بكفره؛ لأن الأدلة الواردة عن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم كلها قاضية بكفره، فالإمام أبو القاسم اللالكائي يذهب في هذا الكتاب إلى كفر تارك الصلاة، وذهب غير واحد ممن صنف في السنة إلى كفر تارك الصلاة؛ لأن الله تعالى ذكر أن الصلاة من الإيمان، فهي ليست من أعمال الجوارح فحسب، وإنما هي من أصول الإيمان.(45/3)
من ذهب إلى كفر تارك الصلاة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروي ذلك -يعني: كفر تارك الصلاة- عن الصحابة منهم عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء والبراء وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين].
قال: [فعن جابر بن عبد الله أنه سئل ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم في الأعمال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الصلاة].
ولو كان المقصود من هذا النص الكفر العملي لجمع الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك؛ لأن من ترك شيئاً من هذا سمي كافراً كفراً عملياً، ولا يخرج من الملة.
ولكن السؤال هنا انصب على الكفر المخرج من الملة، فقد قال: ما الذي كان يفرق بين الإيمان والكفر؟ ولو كان يسأل عن الكفر العملي لما كان للإيمان هنا معنى؛ لأنه ذكر الإيمان في مقابلة الكفر، فدل على أن الكفر المذكور في السؤال هو الكفر الذي يناقض الإيمان، وهو المخرج من الملة.
هذه إجابة جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من المقربين إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومن كبار الصحابة.
قال: [وعن الحسن قال: بلغني أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر].
وهذا القول قاله من التابعين مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس، وسعيد بن جبير تلميذ ابن عباس كذلك، وجابر بن زيد، وعمرو بن دينار تلميذ ابن عمر، وإبراهيم النخعي، والقاسم بن مخيمرة، كلهم يقولون: بأن تارك الصلاة كافر خارج عن الملة.
ولو لم يكن في هذه القضية عار لتارك الصلاة إلا أن أهل العلم اختلفوا في كفره من عدمه لكفى.
ومن الفقهاء الذين يقولون بكفر تارك الصلاة الإمام مالك بن أنس، والأوزاعي إمام الشام، والشافعي وشريك بن عبد الله النخعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور، وأبو عبيد القاسم بن سلام، جميع هؤلاء يقولون بكفره وخروجه من ملة الإسلام.
وهؤلاء الذين كفروا تارك الصلاة هم علماء السنة وعلماء الإسلام فلا يقال: إن من كفر تارك الصلاة من الخوارج، ومن قال ذلك يلزمه أن يسحب هذا الحكم وهذا الاستهزاء على كل من كفر تارك الصلاة.(45/4)
سبب نزول قول الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)
روى أبو إسحاق عن البراء -أي ابن عازب - في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] قصة طويلة في سبب نزولها، ومفاد هذه القصة كما في الصحيحين وغيرهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً قبل أن تتحول القبلة إلى بيت الله الحرام، وهذا كان في المدينة، وصلى معه أناس وماتوا قبل أن تتحول القبلة إلى بيت الله الحرام، فلما مات من مات ممن صلى إلى بيت المقدس أشفق عليهم أصحابهم الذين بقوا حتى تحولت القبلة، فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن حكم صلاة من صلى إلى بيت المقدس، وهل هي مقبولة صحيحة يثابون عليها؟ فلما سألوا عن ذلك أنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143].
فالإيمان هنا بمعنى الصلاة، والتقدير: وما كان الله ليضيع صلاة من صلى إلى بيت المقدس، بل صلاته محفوظة مقبولة صحيحة.
فسمى الله عز وجل الصلاة في هذه الآية إيماناً، وهذا يدل على أن الصلاة من الإيمان، لا أنها من أعمال الجوارح فحسب، فهي وإن كانت تؤدى بالجوارح إلا أن الله تعالى سماها إيماناً، فمن أتى بهذه الصلاة كان مؤمناً، ومن تركها كان كافراً.
وهذا هو ما فهمه كل من ذكرناهم بل وغيرهم من أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء والأئمة المتبوعين، فقد فهموا أن الصلاة من الإيمان، فمن أتى بها كان مؤمناً، ومن تركها كان كافراً، فهذا الفهم قديم قدم هذه الرسالة، وقد فهمه الصحابة رضي الله عنهم.(45/5)
التحذير من ترك الصلاة
قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بين العبد وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة -أي: بيننا وبين اليهود والنصارى، أو بيننا وبين الكفار- فمن تركها فقد كفر)، وفي رواية: (فقد كفر وأشرك)، بالعطف لا بأو التي تفيد التخيير.
وعن شريك قال: استأذنت على المهدي وعنده أبو يوسف القاضي -وهو صاحب أبي حنيفة، والأحناف لا يقولون بكفر تارك الصلاة، ومنهم أبو يوسف القاضي -وقد امتريا- يعني: تجادلا وتخاصما وتناظرا- في تارك الصلاة هل هو كافر أم غير كافر؟ فقال المهدي: هو كافر، وقال أبو يوسف: ليس بكافر، فقال المهدي: لقد دخل من يفصل بيننا، يعني: شريك بن عبد الله النخعي دخل وهو الذي يقضي بيننا، وكان المهدي يقول: الصلاة من الإيمان، وأبو يوسف يقول: الصلاة ليست من الإيمان، قال: فلما دخل سلم، قال: فردوا عليه، فقال -أي المهدي -: يا أبا عبد الله! ما تقول في رجلين امتريا فقال أحدهما: الصلاة من الإيمان، وقال الآخر: الصلاة من العمل؟ أي من عمل الجوارح التي لا علاقة لها بأصل الإيمان.
قال شريك: أصاب الذي قال الصلاة من الإيمان، وأخطأ الذي قال الصلاة من العمل، قال: فقال أبو يوسف: من أين قلت ذاك؟ قال: حدثني أبو إسحاق عن البراء بن عازب في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] قال: صلاتكم نحو بيت المقدس، قال: فألقمه حجراً]، أي: أقام عليه الحجة أن الصلاة من الإيمان، وأن تركها كفر.
قال: [وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -لأن هذا أصل الإسلام- ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)].
فهنا قرن الصلاة والزكاة بالشهادة، وهذا يدل على أن الصلاة من الإيمان؛ لأن الشهادة إيمان بلا خلاف بين أهل العلم، وهذا الحديث أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
قال: [وعن أنس قال: قال رجل: (يا رسول الله! كم افترض الله على عباده من الصلوات؟ قال: خمس صلوات، قال: هل قبلهن وبعدهن شيء -أي مفروض-؟ قال: افترض الله على عباده صلوات خمساً، فحلف الرجل لا يزيد عليهن ولا ينقص، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن صدق دخل الجنة).
وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لئن صدق ليدخلن الجنة)]، يعني: لو صدق في إتيانه لهذه الصلوات الخمس، فهو يتكلم هنا عن الصلوات الخمس فحسب، ومن البدهي أن الصلاة بعد الشهادتين؛ لأنها لا تصح قبلها، وتكون مردودة على صاحبها.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لئن صدق) أي في إتيانه بهذه الصلوات الخمس على أكمل وجه، (ليدخلن الجنة)، وهذا يدل على أن من لم يأتها دخل النار.
قال: [وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم).
أخرجه الشيخان.
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة)].
وهذا يدل على أن من ترك الصلاة وقع في الشرك.
وهذا الحديث يدل على أن الصلاة من الإيمان، وأن إتيانها إيمان، وتركها كفر ونفاق.
قال: [وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة).
وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة).
أخرجه مسلم].(45/6)
حكم تارك الزكاة
يتساءل البعض لماذا لم يقم الخلاف في منع الزكاة كما قام في ترك الصلاة؟
و
الجواب
لوجود هذا النص وأمثاله، فإنه مخصص لعموم الأدلة التي ذكرت الزكاة، وإن كان بعض أهل العلم أخذ بظاهر النصوص التي شملت وقرنت الزكاة بالصلاة، وهي كثيرة جداً تبلغ أكثر من سبعين آية، وهناك مئات الأحاديث قرنت الزكاة بالصلاة، فأخذ بعض أهل العلم بظاهرها وقالوا: إن مانع الزكاة وتارك الصلاة كافران، ولكن جمهور السلف على أن مانع الزكاة لا يكفر إلا إذا جحد ذلك بعد قيام الحجة عليه، مثل تارك الصلاة جاحداً ليس هناك نزاع بين أهل العلم في كفره.(45/7)
استتابة تارك الصلاة
تارك الصلاة يستتاب ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل.
ولا يتصور أن يترك إنسان الصلاة متكاسلاً، فليس هناك شيء اسمه كسل، وإنما هو إيمان وكفر، فيحبس ثلاثة أيام، فإما أن ينيب ويتوب إلى الله عز وجل ويرجع ويتوب ويؤدي هذه الصلاة، وإما يقتل بالسيف.
وتصور شخصاً يحبس في غرفة ثلاثة أيام وهو يعلم أنه إن صلى ثبت له الإسلام وأخرج وإلا قتل بالسيف ردة وليس حداً ومع هذا يبقى ثلاثة أيام في الحبس ولا يصلي، فهل هذا يعد متكاسلاً؟ لا يمكن، فأي كسل هذا؟(45/8)
كيفية التعامل مع تارك الصلاة مع تعذر إقامة حكم الردة عليه
إن الرجل الصالح في المجتمع اليوم هو الذي لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ويسب الله والرسول، ولكنه ليس صالحاً عند الله.
والذي لا يصلي الآن ليس بإمكان أحد من حملة الراية والمهتمين بنشر دعوة الإسلام لا من الحكام ولا من المحكومين استتابته، لكن يبقى إقامة الحجة عليه، وتخويفه بكلام أهل العلم سلفاً وخلفاً أنه يكفر إن لم يرجع إلى الصلاة، ثم يقرع سمعه بالأدلة من الكتاب والسنة، فإن رجع في خلال ثلاث فقد رجع إلى إيمانه وإلا فهو كافر ولا كرامة، فهذه نصوص شرعية، وهذا فهم أهل العلم لها.
ونحن نخاف اليوم من تكفيره لأنه ليس بإمكاننا استتابة تاركها.(45/9)
تلون بعض أهل الإسلام اليوم في عقائدهم ومقارنته بثبات أهل الجاهلية على ضلالهم
والناس في هذا الزمان يتلونون في كل لحظة عدة ألوان، وأما في السابق فقد كان الرجل عند كلمته، إذا قال: نصلي يذعن، وإذا كان تركه للصلاة عن اعتقاد وردة فإنه لا يرجع إلى الإسلام وإن كان في ذلك قتله، ونحن نعلم أن دخول الإسلام بكلمة، واليوم لو قابلت نصرانياً أو يهودياً في الشارع وقلت له: قل: لا إله إلا الله فإنه يقولها أمامك مائة مرة، بل ويشرحها لك ويبين شروطها وواجباتها وأركانها، وهو مع هذا باق على يهوديته ونصرانيته وكفره.
وقد كان أبو سفيان يستطيع أن يقولها قبل أن ينشرح صدره للإسلام، ولكنه لم يرض بهذا، وكانت الحروب الضارية التي قامت بين معسكر الإيمان والكفر في زمن النبوة بسبب هذه الكلمة، وكان الواحد يتعرض لبريق السيف على أم رأسه، ومع هذا كان يفضل أن يقتل ولا يرجع عن دينه، وكان بإمكان أبي طالب أن يقولها، ولكنه كان رجلاً قومياً شديداً، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حالة الاحتضار: (قل كلمة أشهد لك بها عند ربي)، قال: أتريد أن تقول العرب: إن أبا طالب صبأ عن دين قومه وأجداده؟ فالشاهد من ذلك: أن الشخص منهم كان بإمكانه على الأقل في وقت الضيق أن يقولها، ولكنه كان رجلاً مع أنه مشرك.
وأبو سفيان يقول بعدما سأله هرقل عن النبي عليه الصلاة والسلام: لولا أن تعدها العرب علي كذبة لكذبت، ومع أن الشرك أعظم من الكذب، إلا أنه لما اتخذ الشرك والكفر وعبادة الأصنام والأوثان ديناً، وصار هذا عاماً في أهل ذلك الزمان صار الشرك أعظم من الكذب؛ إلا أنه مألوف، ولكن الكذب لم يكن مألوف، ولذلك خشي أبو سفيان أن تعيره العرب بأنه كذب، فلم يكذب، وكان كلما سأله هرقل عن النبي عليه الصلاة والسلام سؤالاً أجاب إجابة على الحقيقة، ليس فيها خداع، ولما سأله هرقل: هل يغدر؟ قال: لا، ولكنا منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها.
وقد كان المشركون في ذلك الوقت في هدنة بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فلما سأله هرقل: هل يغدر محمد؟ قال له: لا يغدر، ولكن بيننا وبينه في هذا الوقت عهد لا نزال فيه، فيمكن أن يغدر ويمكن ألا يغدر.
قال أبو سفيان: وما استطعت أن أدخل إلا بهذه الكلمة، يعني: أنه كان يريد أن ينتقص النبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء ولكنه يخاف من الكذب، عن الذي مضى.
اليوم قد تأتي إلى الشخص وتدعوه إلى الصلاة فيقول: نعم سأصلي فالصلاة هذه أفضل شيء، فالواحد يخرج من الصلاة مرتاحاً وقلبه منور، فإذا سألته: إذا كنت تعلم بهذه الفوائد كلها عن الصلاة والتي لا نعرفها نحن ونحن نصلي فلماذا لا تصلي؟ فيقول لك: يمنعني صاحب العمل وصاحب الشركة، وهل يمنعه صاحب الشركة عن الصلاة في يوم الجمعة وهو في البيت؟ فكل هذا كذب ودجل، ويدل على فساد قلب ذلك المتكلم.
قال معدان بن أبي طلحة: قلت لـ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا حديثاً ينفعنا الله به فسكت، فقلت: حدثنا حديثاً ينفعنا الله به قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك).(45/10)
فضل الصلاة
قال: [عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون -يعني: تعرفون من أحوالهم، وتنكرون منها- فمن أنكر فقد بريء، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع -أي: من رضي هذا منهم وتابعهم على ما أساءوا فيه وما أتوا به من منكر- قالوا: أفلا نقتلهم؟ -يعني: إذا أظهر هؤلاء الأمراء المنكر هل نقاتلهم؟ - قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا ما صلوا، لا ما صلوا)]، يعني: لا تقاتلونهم إذا كانوا يصلون، وهذا يدل على أن الصلاة مانعة وعاصمة للدماء والأموال، وهذا كما في حديث عبد الله بن عمر السابق: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فمن فعل ذلك فقد عصم مني دمه وماله إلا بحقها وحسابه على الله).
قال: [وعن جابر قال: (قال النعمان بن قوقل: يا رسول الله! أرأيت إن صليت المكتوبات، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئاً أدخل الجنة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم)].
فذكر الصلاة في هذا الدليل يدل على أن لها حكماً خاصاً دون بقية الفرائض والواجبات والأركان.
قال: [وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان وهو يبكي، ويقول: يا ويلي! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار)]، وهذا يدل على أن السجود هو أعظم ركن من أركان الصلاة، من فعله دخل الجنة ومن لم يفعله دخل النار، وأن من ترك الصلاة فيه شبه عظيم من الشيطان؛ لأن الشيطان أمر بالإيمان أولاً فكفر، وأمر بالسجود فلم يسجد، وكذلك الذي أمر بالإيمان فلم يؤمن، والصلاة من الإيمان، فهو أمر بالصلاة -أي: أمر بالإيمان- فلم يؤمن، وأمر بالسجود فلم يسجد.
فالذي ترك الصلاة فيه شبه بالشيطان عظيم جداً.
وقد جاء هذا عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم.(45/11)
حكم عمر بن الخطاب فيمن ترك الصلاة
قال: [عن المسور بن مخرمة أنه دخل هو وابن عباس على عمر بن الخطاب بعد ما أسفر، يعني بعد ما كاد يخرج وقت الفجر، وقالا له: الصلاة يا أمير المؤمنين! فقال: نعم، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وجرحه يثعب دماً]، يعني: يسيل دماً.
والذي طعنه هو أبو لؤلؤة المجوسي في أثناء الصلاة، وهكذا أهل الغدر ينتهزون الفرص التي لا يجابههم فيها أحد كالمشركين، كما قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فهذا أتى لـ عمر وهو في الصلاة فطعنه وطعن غيره، فقتل عدداً من أصحابه، ومات عمر بسبب هذه الطعنة رضي الله عنه، ولكنه لم يمت في الحال، وإنما مات بعدها وقد أدركته عدة فروض بعد ما طعن، فكانوا في كل فرض ينبهونه من غيبوبته التي هو فيها ويقولون: يا أمير المؤمنين! الصلاة، فيلتفت إليهم ويقول: نعم، إنه لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الصلاة، وهذا يدل على أن الصلاة إسلام وإيمان، فمن تركها فقد ترك الإسلام وترك كذلك الإيمان.
قال: [وعن ابن عباس قال: لما طعن عمر أخذته غشية - أي: إغماء- قال: فقال رجل: إنكم لن تفزعوه إلا بالصلاة]، يعني: لا يمكن أن يفيق معكم إلا إذا ذكرتم عند أذنه الصلاة فإنه حينئذ يفيق، هذا لأهمية الصلاة في الإسلام، وبيان أهميتها عند عمر رضي الله عنه، وليس الزكاة والصيام والحج كالصلاة، وهذا قد جاء في نصوص كثيرة لأهل العلم.
قال: [فقلنا: الصلاة يا أمير المؤمنين! قال: ففتح عينيه فقال: أصلى الناس؟ قلنا: نعم، قال: أما إنه لا حظ في الإسلام لأحد أضاع الصلاة، وربما قال: ترك الصلاة، ثم صلى وجرحه يثعب دمعاًً].(45/12)
الصلاة قوام الدين
قال: [نزل عمر بالجابية في الشام لما ذهب إلى بيت المقدس، قال: فمر بـ معاذ بن جبل وهو في مجلس قال: فقال له يا معاذ! ائتني ولا يأت معك من القوم أحد، قال: فجاءه معاذ، فقال أمير المؤمنين يا معاذ! ما قوام هذا الأمر]، يعني ما هو الشيء الذي يقوم الدين والإسلام به ويعتمدا عليه وإذا انكسر انكسرا معه؟ قال: [قال معاذ: الصلاة، وهي الملة، قال: ثم مه؟ -أي: ما الذي بعد ذلك؟ - قال: ثم الطاعة وسيكون اختلاف]، أي: طاعة العلماء والأمراء.
وقد أخرج أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله عليه الصلاة والسلام موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)، أي: السمع لأولي العلم، والطاعة لأولي الأمر، أو كلاً منهما لأهل العلم وللأمراء.
قال: (والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً).
والمخرج من هذا الاختلاف قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
فالنبي صلى الله عليه وسلم شخص الداء ووصف معه الدواء، وهو السمع والطاعة.
فقول معاذ: الخلاف والاختلاف لابد أن يقع، يعني: عدم السمع والطاعة لابد أن يقع.
قال: [فقال عمر: حسبي].
وعمر لم ينكر على معاذ أن قوام الإسلام والدين والإيمان هو الصلاة، بل قال: حسبي، ولو لم يكن لـ عمر من رحلته من المدينة إلى الشام إلا هذه الفائدة من معاذ بن جبل لكفاه.
قال: [فلما ولى عمر -أي ذهب- قال معاذ: ما -ورب معاذ - سأل بشر منهم، قال: فأخبرني أنه سمع عمر يدعو على المنبر: اللهم ثبتنا على أمرك، واعصمنا بحبلك، وارزقنا من فضلك].
فـ عمر يدعو؛ لأن هذه الفتنة ليست بعيدة على أحد.
الناس اليوم يقولون: إن المشايخ والعلماء والدعاة معصومون، وأنهم لا يتأثرون بالفتنة وبالبلاء الذي عم المجتمع في الليل والنهار، ولا يعلمون أن الشيخ معرض للفتنة في كل وقت أكثر من غيره؛ لأن الشيخ معروف وظاهر، فإذا وقعت فتنة من الفتن فالشيخ معرض لأولها وآخرها، وبقية الناس معرضون لآخرها فقط، فلا يتصورن أحد أن الشيخ هو خباب بن الأرت أو معاذ بن جبل أو حذيفة أو عمر أو أبو ذر.
وهذه الفتن تعرض على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأيما قلب أشربها -سواء كان قلب العالم أو الشيخ أو الداعية- نكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يصير في القلب ران أسود لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، اللهم سلم.(45/13)
دلالة ومفهوم إكثار الله عز وجل من ذكر الصلاة في القرآن
قال: [قال عبد الله بن مسعود: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن]، فهنا ينبهنا ابن مسعود أن الله تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34].
وقال: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23].
قال: [قال: ذلك على مواقيتها، قال: نرى ألا تترك؛ فإن تركها الكفر]، ولم يقل: فإن تركها كفر، وإنما قال: فإن تركها الكفر، والألف واللام هنا للعهد، يعني: أنه الكفر الذي تعهدونه وتعرفونه، وهو المخرج من الملة، فقوله: فإن تركها الكفر، يعني: الكفر المعروف لدينا.
قال: [وقيل لـ عبد الله: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن الكريم، قال: ذاك على مواقيتها.
وقالوا: ما كنا نرى أن تترك الصلاة].(45/14)
اختلف الصحابة في حكم تارك الصلاة مع أنه لم يتركها أحد منهم
إن لنا أن نتساءل كيف وقع هذا الخلاف بين الصحابة مع أنه لم يرد أن أحداً من الصحابة ولا من التابعين ترك الصلاة؟
و
الجواب
إن هذا الخلاف وقع على فرض أن أحداً ترك الصلاة، هو ترك الصلاة، والذي يصلي يوصف بأنه إرهابي ومتشدد ومتطرف، ويقولون: إن المصلي يمرض القلب، فهو كلما سمع الأذان ذهب إلى المسجد ثم يرجع منه، فما هذا العمل المزعج.(45/15)
حال الناس اليوم مع الصلاة
إن صلاتنا اليوم ليس فيها طعم ولا لون ولا رائحة في الحقيقة، ولو عرضت هذه الصلاة على سلف الأمة لردوها ولما قبلوها؛ لأنه ليس فيها خشوع أو خضوع أو ذل.
هل صلاتنا هذه هي الصلاة التي أمرنا الله عز وجل بها؟ وأجيب عن نفسي وعنكم بالنيابة واسمحوا لي بهذا: ليست هي الصلاة التي أمرنا الله بها؛ لأن الذي يراجع حال السلف في الصلاة يوقن أننا لا نصلي، فقد كان الواحد منهم يقف في الصلاة فيحمر ويخضر لونه، ويكاد يذهب عقله، فإذا سئل عن ذلك؟ قال: أتدرون بين يدي من أقف؟ يعني: أن الواحد منهم كان يستشعر أنه واقف بين يدي الله تعالى، ومن منا اليوم يستشعر أن الله تعالى ينصب وجهه إليه؟ وهناك أناس صالحون، فإنه لا يعدم الخير في الأمة، والطائفة المنصورة ستبقى موجودة وقائمة إلى قيام الساعة رغم أنف المعاندين والجاحدين.
ولا تصح صلاة من صلى بغير وضوء، كما لا يصح إيمان من ترك الصلاة، وفي الحديث: (لا إيمان -وهذا نفي للإيمان- لمن لا صلاة له، ولا صلاة لمن لا وضوء له).(45/16)
تفريق الصحابة بين المؤمن والكافر كان بالصلاة
قال: [وجابر لما سئل: هل كنتم تعدون الذنب فيكم كفراً؟] يعني: هل كنتم تسمون المذنب كافراً؟ وجابر صحابي، فقال: [لا إلا الصلاة]، يعني: كنا متفقين ومجمعين على أن صاحب الذنب لا يكفر بذنبه إلا تارك الصلاة، وقال: [وما بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة].
قال: [قلت له: ما كان يفرق بين الإيمان والكفر عندكم من الأعمال على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: الصلاة.
وعن الحسن قال: بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر].
وقد جاء هذا في نصوص كثيرة، ولكن أكتفي بذكر هذا في بيان أن السلف كان جمهورهم على أن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر وقد خرج من الملة.(45/17)
قول أهل العلم في حكم تارك الصلاة جحوداً أو جهلاً أو تكاسلاً
هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم.
اتفق أهل العلم على أن تارك الصلاة جاحداً لها كافر، وهذا محل إجماع لا نزاع فيه.
واتفقوا كذلك على أن من ترك الصلاة جاهلاً بها لحداثة عهده بالإسلام أو لعجمة عنده لم يتعرف بها على فراض الله عز وجل أنه لا يكفر، كأن يكون مثلاً في دولة أجنبية كدول أوروبا أو أمريكا ثم أسلم ولم يسمع عن صلاة ولا صيام ولا زكاة، ولا شيء من هذا، فلو أنه ترك كل هذا لم يكفر؛ لأنه جاهل لا يعرف ما فرض الله عز وجل عليه.
وأما إذا عرف ذلك فحكمه حكم من عاش في ديار المسلمين وقامت عليه الحجة بظهور العلم.
وأما تارك الصلاة كسلاً فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافاً بيناً، فمنهم من كفره وهم جمهور السلف، ومنهم من قال: لا يكفر؛ لأن تارك الصلاة كسلاً لا يستوي مع تاركها عمداً بغير عذر، والذي يترجح لدينا أن تارك الصلاة بالكلية كافر، وينبني عليه أحكام الكفر المعروفة.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(45/18)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الإيمان قول وعمل
اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، وقد وردت في ذلك الآيات الكثيرة، والأحاديث الصحيحة المستفيضة، والآثار عن الصحابة والتابعين.(46/1)
سياق ما روي عن النبي في أن الإيمان تلفظ باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الإيمان تلفظ باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح].
وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان؛ ويتكون من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: وهو واجب اللسان، فلابد من التلفظ بالشهادة لمن كان قادراً عليها، ثم ما تلفظ به يعتقده ويقر به جازماً بذلك قلبه، ثم يعمل بمقتضى ما تلفظ به وما استقر في قلبه سواء كان ذلك من عمل القلب أو من عمل الجوارح.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة: أن الإيمان لفظ باللسان، أي: النطق بالشهادتين، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، فمن اعتقد ذلك اعتقاداً جازماً وعمل بمقتضاه، ولكنه لم يتلفظ فإنه ليس مؤمناً، بل ليس مسلماً، ومن تلفظ ولكنه كره ما تلفظ به ولم يعمل بمقتضاه فإنه ليس مسلماً، بل هو كافر، فمن تلفظ بالإيمان وجزم بذلك قلبه ثم قصر في العمل فعنده من الإيمان على قدر ما عنده من العمل، وعنده من النفاق والفسق على قدر ما فيه من تقصير في العمل.
على اختلاف بين أهل العلم في الأعمال المكفرة من غيرها، ومن الأعمال القلبية ما يجعل صاحبه كافراً، ومنها ما يجعله صادقاً، فذكر أن الذي يبغض الله تعالى أو يبغض رسوله صلى الله عليه وسلم أو يبغض الشرع، وإن أقر بلسانه وصام وصلى وزكى وحج فإنه عند الله كافر، وإن كان حكمه في الدنيا أنه مسلم؛ لأنه أتى بالشهادتين، لكنه عند الله تعالى كافر لبغضه لشرعه.
ومن عرف الإيمان بأنه معرفة الله عز وجل فقط، فهو جهمي، فإن الجهمية قالوا: الإيمان هو العلم.
إبليس عليه لعنة الله كان يعلم أن الله تعالى واحد، ولا يخفى عليه وحدانية الله عز وجل، بل أبو طالب لما دعاه النبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته إلى أن ينطق بالشهادتين قال: إني لأعلم أنك على الحق، لكني أخشى أن تعيرني نساء قريش، يعني: هو كان يعرف ذلك.
فالإيمان ليس هو المعرفة فحسب ولا هو اليقين فحسب، بل هو عند أهل السنة والجماعة مجموع من ثلاثة: إقرار باللسان وهو نطق بالشهادتين، واعتقاد بالقلب، ثم عمل يصدق الإقرار والاعتقاد الجازم.(46/2)
الأدلة على أن الإيمان قول باللسان
وأراد الإمام في هذا الباب أن يبين أدلة هذا عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
والأدلة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام على صحة ما عليه أهل السنة والجماعة، على أنه تلفظ باللسان؛ قول الله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
هذه الآية لم تنف عن الأعراب أصل الإيمان، وإنما نفت كماله وتمامه، قالت الأعراب وزعمت الأعراب أنهم آمنوا، والله تبارك وتعالى رد عليهم زعمهم فقال: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، يعني: لم يدخل الآن، ولكنه سيدخل في المستقبل بالعمل، و (لما) لنفي الحال وجواز وقوعه في المستقبل.
لا أعني من هذا أن الله تعالى نفى عنهم الإيمان من أصله، ففي الدروس الماضية قد بينا الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان: هو أصل الإيمان، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل.
إذاً: الله تبارك وتعالى نفى عنهم مطلق الإيمان؛ لأنهم لم يعملوا بعد، ولذلك أوقفهم الله تعالى عند حد الإسلام؛ لأنهم أقروا به ولم ينف عنهم أصل الإيمان؛ لأن المسلم إذا تلفظ بالشهادتين يلزمه أصل الإيمان بجوار الإقرار والنطق بالشهادتين حتى يكون مسلماً صحيح الإسلام.
فلو قال إنسان تعوذاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ يعني: خائفاً من السيف؛ أول ما تمكن منه المسلم في ساحة الجهاد نطق بالشهادتين، لكنه لم ينطق بها معتقداً بذلك قلبه وإنما مخافة السيف.
ولذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أسامة بن زيد لما قتل من نطق بالشهادتين في الجهاد؛ لما تمكن منه أسامة قال: (يا رسول الله! والله ما قالها إلا تعوذاً، قال: أشققت عن صدره؟)، يعني: ما يدريك أنه قالها تعوذاً ربما يكون صادقاً.
فهذا يدل على أن لنا الظواهر والله يتولى السرائر؛ فالله يتولى فعل هذا المتعوذ الذي اضطر حتى نطق بالشهادتين، ولذلك {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، ولم من ألفاظ النفي، لكنه لم ينف مطلق الإيمان وإنما نفى الإيمان المطلق؛ نفى كمال الإيمان وتمامه؛ لأن من نطق بالشهادتين يلزمه محبة هذه الكلمة والرضا بها، والاقتداء بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبة الله ورسوله على محبة غيره، وغير ذلك من مقتضيات وشروط هذه الكلمة؛ كالعلم واليقين والصدق.
فإذا جمع هذه الأعمال القلبية من الصدق والمحبة والرضا وغير ذلك إلى هذه الكلمة فهذا يسمى عمل القلب، وقد قلنا من قبل: إن الأعمال أعمال جوارح وأعمال قلب، أما أعمال القلب فهذه يطلق عليها من أول وهلة أصول الإيمان؛ ولو أن شخصاً نطق بالشهادتين ولم يكن في حال نطقه بالشهادتين مقراً بقلبه بيقين وصدق وإخلاص وحب لهذه الكلمة لا يكون مسلماً عند الله.
ولذلك لابد أن يجمع مع الإقرار محبة هذه الكلمة والصدق في نطقها، والاستعداد التام للعمل بمقتضاها والعلم بمعناها الحقيقي لله عز وجل، وغير ذلك من شروط التوحيد.
فإذا اكتملت هذه الأعمال القلبية في حال النطق بالشهادة فيكون قد جمع أصول الإيمان في قلبه مع النطق بالشهادتين.
فإذاً: قول الله عز وجل: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، أي: لم تؤمنوا الإيمان الكامل، وأصل الإيمان موجود في قلوبهم.
وهنا بين النبي عليه الصلاة والسلام شرط نطق الشهادتين باللسان، وذلك لمن كان قادراً على ذلك بخلاف من كان أخرس أو أبكم لا يستطيع أن ينطق، أو لا يستطيع أن يتكلم من أصله فإنه لا يلزمه ذلك إلا إذا علم ذلك بالإشارة، وإنما تكفيه الإشارة.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله -أي: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا بألسنتهم لا إله إلا الله- فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل).(46/3)
الأدلة على أن الإيمان اعتقاد بالقلب
والدلالة على أنها اعتقاد بالقلب قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: كماله وتمامه ليس موجوداً؛ ولكنه سيوجد في المستقبل، وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7]، وموطن هذا الحب هو القلب: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ} [الحجرات:7]، وتفسير الآية: وحبب وزين الإيمان في قلوبكم.
إذاً: الحب والتزيين للإيمان محله القلب، ولذلك محبة هذه الكلمة شرط في صحة إيمان من قالها، ولذلك من قالها وهو يبغضها لا يكون عند الله مسلماً مؤمناً.
وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22] أي: فرض في قلوبهم الإيمان، أي: جعله فرضاً في القلب لا يغادره، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]، يقول بلسانه: أنا مؤمن كمال الإيمان، أما قلبه فليس فيه من الإيمان حبة خردل، ومحل الإيمان هو القلب.
وحديث أبي برزة الأسلمي وبريدة بن الحصيب والبراء بن عازب كلهم يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه -يعني: يا معشر من زعم أنه مؤمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه- لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عورتهم اتبع الله تعالى عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته)، أي: الجزاء من جنس العمل.
وهذا يدل على أن محل الإيمان في القلب.
والأدلة على أنه اعتقاد بالجنان -أي: القلب- قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فالعبادة على القلب والجوارح، ((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ)) فأعاد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على إخلاص العبادة لله عز وجل.(46/4)
الأدلة على أن الإيمان عمل بالجوراح
لما كان الإخلاص عملاً قلبياً وكذلك الزكاة والصلاة عمل من أعمال الجوارح جمع الله تبارك وتعالى العبادة في آية واحدة مما يدل على أن الإيمان يشمل عمل القلب وعمل الجوارح.
وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110]، أي: يؤمل أن يلقى الله تبارك وتعالى أحسن لقاء، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
أما قوله: ((وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)) فهذا يدل على شرط الإخلاص لله عز وجل وعدم الشرك به في القول والعمل، وهذا قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: فليعمل عملاً مستقيماً من صلاة وزكاة وصيام وحج وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وكل ما سوى ذلك من عمل شرعي يعمله الإنسان على وجه الصلاح، ووجه الصلاح لا يكون إلا باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم إدخال الزيادة على العبادة، كما أنه لا يجوز له أن ينقص منها.
لابد أن يكون العمل الصالح مستقيماً على منهاج النبي عليه الصلاة والسلام بغير زيادة ولا نقصان، فالزيادة كالنقصان بدعة سواء بسواء.
أما عدم الشرك بالله عز وجل وهو الشرط الثاني من شرطي قبول العمل عند الله عز وجل، قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، هذا هو محل الشاهد.
والخير هنا بمعنى: العمل الصالح من الطاعات التي فرضها الله عز وجل على العباد، والعبد الذي يأتيه بعض آيات ربه وهو الموت في ساعة الاحتضار يتمنى ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]؛ لأنه يرى الحقائق في لحظة موته عياناً بياناً، فحينئذ يستبشر بلقاء الله عز وجل إذا كان من أهل الصلاح، أو يسوءه لقاء الله عز وجل وهو على هذا الحال، وفي هذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)؛ لأن العبد إذا كان من أهل العمل الصالح بشر بمقعده من الجنة، ورأى مقعده من النار؛ لأن كل إنسان أعد الله تبارك وتعالى له مقعداً في النار ومقعداً في الجنة.
فالعبد الصالح في لحظة الاحتضار يرى مقعده من النار، والملائكة تبشره وتقول: يا فلان هذا مكانك من النار أبدلك الله تبارك وتعالى به مكانك في الجنة وهو هذا فانظر إليه، فحينئذ يستبشر ويفرح بلقاء الله عز وجل، فالله تبارك وتعالى يرضى ويفرح بلقائه، وهو يفرح بلقاء الله عز وجل.
وكذلك العبد السيئ الذي لم يعمل صالحاً، أو لم يكن لديه عمل يؤهله لدخول الجنة يرى مكانه من الجنة، والملائكة تبشره بالعذاب والسوء، فيقولون: يا فلان هذا مكانك في الجنة، ولكن الله أبدلك به مكاناً في النار فانظر إليه، فحينئذ يكره لقاء الله فيكره الله تعالى لقاءه.
فهنا لابد أن يجمع العبد في قلبه إيماناً، هذا الإيمان يترجم ترجمة عملية في أداء الطاعات واجتناب المنهيات، والنبي عليه الصلاة والسلام في مرض موته لما نزل إليه ملك الموت وبشره بالرفيق الأعلى، وما من نبي قبض إلا خير بين البقاء والقبض، وهذه علامة من علامات موت الأنبياء، فلما بشره ملك الموت بالرفيق الأعلى قال: (يا محمد أتبقى؟ قال: بل الرفيق الأعلى)، فعلمت ابنته فاطمة رضي الله عنها -وكانت تحضر وفاته- أن أباها يحتضر صلى الله عليه وسلم.
قال: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، يعني: أتت من الأعمال الصالحة ما يؤهلها لهذا الخير.
وحديث الأعرابي لما عد عليه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال، وهو حديث في الصحيحين طويل معروف يقول: يا رسول الله! ماذا علي من الصلاة؟ ماذا علي من الصيام؟ ماذا علي من الحج؟ ماذا علي من الزكاة؟ فكل مرة يقول: هل إذا فعلت ذلك فأنا مسلم صادق؟ قال: نعم.
ثم قال: بأن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وهذا مذهب الصحابة من تقدم ذكرهم في الرواية وغيرهم كـ عمر وعلي ومعاذ وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وغيرهم كثير، يعني: هذا مذهب السلف جميعاً.
وكذلك من التابعين الحسن وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومجاهد وهشام بن حسان و(46/5)
حكم تارك الزكاة في الإسلام كحكم تارك الصلاة
قال: [وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة أخبره قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال ذلك عصم مني ماله ودمه ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟ قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق)].
هذا الحديث من أعظم الأحاديث وأجلها وأكثرها فوائد.
يقول فيه أبو هريرة: (لما توفي النبي عليه الصلاة والسلام واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب) يعني: ارتد من العرب من ارتد، والردة هي الخروج والمروق عن الإسلام تماماً، مع أن الأدلة قضت بأن في هؤلاء المرتدين الذين قاتلهم أبو بكر من لم يكونوا في الحقيقة مرتدين، بل كانوا مقرين بالزكاة، بل بنو يربوع جمعوا الزكاة -أي: زكاة أموالهم- وأرادوا أن يرسلوها إلى المدينة إلى أبي بكر وهو الخليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام فمنعهم مالك بن نويرة وأخذ أموالهم فصرفها فيهم.
ولكن هؤلاء لم يتميزوا ولم يتحيزوا، وإنما كانوا في ضمن صفوف وبيوت هؤلاء المرتدين، والمرتدون الذين حاربهم أبو بكر على عدة أصناف: منهم أتباع مسيلمة الكذاب وأتباع الأسود العنسي، وهؤلاء مرتدون، وحتى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانوا من المنافقين وأنتم تعلمون ذلك.
وقسم آخر من هؤلاء جحدوا الإسلام فتركوا الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك.
وأما الصنف الثالث فمنهم من منع الزكاة متأولاً ومنهم من أدى الزكاة، ولكن مجموع هؤلاء جميعاً كانوا في صعيد واحد، وخطرهم على المدينة محدق، ولابد لـ أبي بكر أن يتخلص من هؤلاء حتى يستقيم له الأمر وإلا فهؤلاء يشكلون خطراً عظيماً جداً على الإسلام، ولما لم يتحيز ويتميز هؤلاء الذين أقروا بالزكاة أو جمعوها بالفعل وأرادوا إرسالها ولكن منعهم مالك بن نويرة؛ فحينئذ حاربهم جميعاً أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأن هذا المعلوم في الإسلام بحكم الثغر.
إذا كان في ثغر من ثغور الإسلام بعض الأعداء وخطرهم محدق بالإسلام وأهله، ومع هؤلاء في نفس الموضع أناس من أهل التوحيد والإيمان، لكن لا يمكن تخليص هؤلاء من بين الأعداء كما لا يمكن التخلص من الأعداء إلا بقتلهم فيقتل الجميع ثم يبعث المسلم على نيته، ولذلك قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه هؤلاء جميعاً المتأول وغير المتأول، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قامت عنده شبهة فقال: كيف تقاتل الناس وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوها، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)؟ فـ عمر نظر إلى صدر الكلام ولم ينظر إلى عجزه، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه انتبه إلى الشرط (إلا بحقها) أي: إلا بحق هذه الكلمة، وحق هذه الكلمة: أن يصلوا وأن يصوموا ويؤدوا الزكاة، فقال: يا عمر! لو أن الناس تركوا الصلاة أكنت تقاتلهم؟ قال: نعم.
هذا أمر مستقر لدى الصحابة أن من منع الصلاة أو ترك الصلاة يقاتل حتى يصلي، مع أنه تارك للصلاة وهو دائم على قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهذا كان أمراً معلوماً مستقراً لدى الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك الصلاة قوتل حتى يرجع إليها وإلا قتل ردة، فلما كان هذا معلوماً مستقراً عند عمر وعند غيره من الناس أراد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يلفت نظره إلى أن الصلاة كالزكاة، إذا كانت الصلاة هي علاقة العبد بربه، فكذلك الزكاة هي حق المال الذي فرضه الله عز وجل.
فكما أن الله هو الذي فرض الصلاة هو كذلك الذي فرض الزكاة، فمن فرق بين الصلاة والزكاة قاتلته، لأن الذي يفرق لا حجة له بعد التفريق؛ لأن الله تعالى جمع بينهما في أكثر من سبعين آية في كتاب الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فمن فرق بينهما وجعل لكل واحد منهما حكماً فقد فرق بغير مسوغ وبغير دليل.
ولذلك قال: (فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ودمه ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله).
وقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن(46/6)
منهج الإيمان في الأخذ بالأسباب
قال: [وعن سعيد بن المسيب أن عمر قال: (يا نبي الله! أرأيت ما نعمل نحن الآن لأمر قد فرغ منه أو لأمر نستقبله استقبالاً؟)] هذا كلام جميل جداً في القدر.
أي: الأعمال التي عملناها يا رسول الله أهي أعمال قد كتبت علينا وفرغ الأمر منها أو هي مستقبلية؟ قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل لأمر قد فرغ منه، فقال عمر: فعلام العمل إذاً؟)] أي: لماذا نعمل؟ لأن هذا العمل قد كتبه الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في رواية مسلم، ألسنا نريد مقاتلة المشركين؟ فالله عز وجل إما أن يكون قد كتب النصر أو الهزيمة، من منا يعلم قبل بدء المعركة ما كتب لنا من نصر أو هزيمة؟ لابد من خوض المعركة.
فإذا كتب لنا النصر علمنا أن الله تعالى كان قد كتب لنا النصر، ولذلك سخرنا وهدانا لهذا النصر أخذاً بالأسباب، هل يستطيع إنسان أن يقول: أنا جائع ولا داعي للأكل، لأن الله تعالى لو كتب لي الشبع فإنه قادر على أن يشبعني دون أن أطعم أو أشرب، وكذلك من يريد ولداً يقول: إن الله تعالى قادر على أن يرزقني الولد من غير أن أتزوج؟ هذا لا يمكن أن يقوله إنسان عاقل.
لابد من استعمال السبب، وترك السبب قدح في توحيد الله عز وجل، كما أن الاعتماد على السبب شرك بالله عز وجل.
ومعنى (فرغ منه) أي: علمه الله عز وجل، ولما علمه كتبه في اللوح المحفوظ وسطره على العباد، لكن هل العباد يعلمون هذه القضية؟ هل العباد علموا ما كتب لهم وقدر؟ هل هم يعلمون ذلك إلا بعد أن يقع؟ فالعباد لا يعلمون ذلك.
فلذلك لابد من اتخاذ الأسباب، وبعد اتخاذ الأسباب يعلمون ما كان قد قدر لهم، لأن ربنا كتب كل شيء، فهو عنده في كتاب تحت العرش، وأنت ما أدراك أن هذا المكتوب خير أم شر، لك أو عليك؟ لابد من العمل حتى تدرك بعد ذلك ما كان قد قدر لك من الخير أو الشر.
كان أحدهم ممن لا يؤمن بالقدر وعنده فلسفات جدلية على القدر، وكان في إحدى زياراتي له ضرب ابنه ضرباً مبرحاً من أجل أن يجتهد في المذاكرة، والامتحان كان على الأبواب، مع أنه قبل ساعات طويلة كان يقول: إن كل شيء قدره الله عز وجل، فلم العمل؟ نفس السؤال الذي عرضه عمر على النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن عمر آمن بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوراً، ولا يمنع أن يكون عمر سأل لأجل أن يتعلم الجاهل، فهذا لا يخفى عليكم.
فهذه العشرون عاماً أجرى الله تبارك وتعالى فيها أحكام الدنيا إلى قيام الساعة تأصيلاً أو فروعاً أو سياسة، ولذلك أحداث الدنيا إلى قيام الساعة لابد أن يكون لها أصلا في كتاب الله أو في سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أو في إجماع الأمة أو بالسند الصحيح، وهي مصادر الإسلام.
فقلت لهذا المخبول بعد أن ضرب ابنه: لم تضربه هذا الضرب كله؟ قال: الامتحان على الأبواب، وهو لا يريد أن يذاكر، قلت: ولم يذاكر؟ قال: حتى يوفق في الامتحان وينجح، قلت: إذا كان الله قدر له النجاح سينجح وإن لم يذاكر ويدخل الامتحان، فنظر وبحلق في عيني، قلت: هذه مثل تلك التي كنت تناقش فيها منذ ساعات؛ لأنه لم يكن يعمل، وكان يظن أن العمل شرك بالله عز وجل، وهذا هو البرماوي وأنتم تعرفونه، ويعتقد أن هذا من باب التوكل على الله.
قلت: وما الذي يمنع ابنك أن يتوكل على الله أعظم من توكلك؛ بأن يجتهد في المذاكرة قبل دخول الامتحان، وعلى اعتقادي أن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يجعله الأول على الجمهورية وعلى العالم كله لفعل ذلك؛ لأن كل شيء بيده سبحانه وتعالى، لكن لما كان كل شيء بيده تبارك وتعالى أمرنا باتخاذ الأسباب.
وقلت له بعد ذلك: يلعب ويمرح ويلهو ويأخذ الذي قدره الله عز وجل له، وعلمت بعد أيام من هذا اللقاء أنه رجع عما كان عليه؛ لأن مناقشته في قدرة الله عز وجل وإرادته في أمر قد مسه هو شخصياً، لم يتلقاه عن شيخه المضل، وإنما تلقاه عن ولده الذي ربما يضيع لو ترك المذاكرة، والمذاكرة سبب من أسباب الله عز وجل.
قال: [(قال عمر ففيم العمل؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا ينال إلا بعمل -يعني: هذا المفروغ المقدر لا ينال إلا بعمل- فقال عمر: إذاً نجتهد)]، إذا كان المقدر والمكتوب هذا لا ينال إلا بعمل، إذاً: لابد أن نجتهد ونعمل.
الله عز وجل كتب أن العبد لابد أن يعمل فعمل العبد هو كذلك مكتوب، والله تبارك وتعالى كتب أن إبراهيم سينجح وكتب أن إبراهيم سيذاكر، فالله كتب العمل وكتب نتيجته، فإذا كان هذا وذاك مكتوبان فلابد من الإتيان بهما.
قال: [وقال عمران بن حصين: (قال رجل: يا رسول الله! أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيم يعمل العامل)]، فالله عز وجل يعلم أهل الجنة من أهل النار، وما أدراك أنك من أهل الجنة أو من أهل النار؟ والله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق(46/7)
فضل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
قال: [وعن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان رديفه معاذ رضي الله عنه على الراحلة فقال: (يا معاذ بن جبل -ثلاثاً- ومعاذ يقول: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا حرمه الله على النار)]، هاتان الكلمتان لهما مقتضيات، فمن تلفظ بهما وهو لا يعلم معناهما ولا يعرف أي شيء عنهما لا يصح هذا منه.
وآخر يقول هاتين الكلمتين ولكنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم أشد البغض لا يقبل منه هذا، ويكون هذا رياء ونفاقاً.
إذاً: هذه الكلمة عند إطلاقها ليست مقصودة في ذاتها، ولكن تنفع صاحبها إذا كانت مكتملة الشروط والأركان.
قال: [(يا رسول الله! أفلا أخبر به الناس)، معاذ بن جبل يقول: يا رسول الله! هل تأذن لي وتسمح أن أبشر الناس بذلك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إذاً يتكلوا)]، يعني: يتكلوا على مجرد القول، ويتركوا العمل.
قال: [(فأخبر بها معاذ في آخر حياته تأثماً)]، يعني: مخافة أن يموت وهو كاتم العلم.
قال: [وعن سليم أبي عامر قال: (سمعت أبا بكر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج فأنادي من يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فله الجنة.
قال: فخرجت فلقيني عمر فسألني فأخبرته، فقال: ارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قل له: دع الناس يعملون فإنهم إن سمعوا اتكلوا عليه)].
وحديث أبي هريرة عند مسلم، قال رضي الله عنه: (كان النبي عليه الصلاة والسلام في نفر من أصحابه، وفينا أبو بكر وعمر، فقام عنا فأبطأ علينا، فخشينا عليه، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت حائطاً من حوائط الأنصار فدرت به حتى وجدت جدولاً -والجدول الربيع أو قال: وجدت ربيعاً والربيع جدول- فاحتفزتُ كما يحتفز الثعلب، فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبا هريرة؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قلت: يا رسول الله! إنك كنت بيننا فقمت عنا، فأبطأت علينا وخشينا عليك، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط، فمررت به علِّي أجد مكاناً أدخل منه، ولم أجد إلا جدولاً فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة خذ نعلي هاتين، أو خذ نعلي هذا واذهب، فمن لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فبشره بالجنة، قال: فخرجت فكان أول من لقيني عمر، وقال: ما هذا يا أبا هريرة؟ قلت: هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه القصة، فقال: أمرني النبي عليه الصلاة والسلام أن آخذ نعله وأخرج خارج الحائط، فمن لقيته يشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله بشرته بالجنة، قال: فضربني عمر في صدري حتى خررت على استي، أو وقعت على مؤخرتي، قال: فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعمر على إثري -يعني: عمر وراءه خطوة بخطوة- فلما دخلت على النبي عليه الصلاة والسلام قصصت عليه ما كان من أمر عمر، فقال: يا عمر ما حملك على هذا؟ قال عمر: يا رسول الله أأنت قلت له كيت وكيت؟ -يعني: أنت الذي قلت له: اعمل كيت وكيت وكيت؟ - قال: نعم، قال: يا رسول الله! لا تفعل؛ خل الناس يعملوا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: خلهم يا عمر يعملوا) عمر رضي الله عنه خشي أن يتكل الناس على مجرد النطق بهذه الكلمة، وأما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يعلم علماً يقينياً أن من أتى بها مجردة عن العمل القلبي وعمل الجوارح لا تنفعه بين يدي الله عز وجل، وخشي أن يتغير الزمان وتتقلب الأحوال ويكتفي الناس من إسلامهم وإيمانهم بمجرد الكلمة.
ولذلك وافق عمر على الفور في وجوب أو استحباب ستر هذه البشارة عن الناس؛ لأنه فعلاً ربما اتكلوا عليها، وأنتم ترون أن الناس متكلون عليها، يأتي العبد من العباد أفجر خلق الله لم يترك معصية إلا وهو في أوحالها بالليل والنهار، أما الطاعات فلا دراية له بها ألبتة، لسانه لسان الزنباوي؛ لأن الزنباوي من أيام الثورة سنة 1957م، يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، فلم يكن أحد أشطر منه في الأفق، حتى ضرب بلسانه المثل بعد ذلك.
فتصور شخصاً تكلمه يقول لك: أتظن أنك لا تصلي إلا أنت، أبعد عني، أتعلمني كيف أصلي، وكيف أتوضأ وعمري ستون أو سبعون سنة؟ وهو لا يريد أن يتعلم، وهو يدعي أن قلبه أنظف القلوب، بل هذا القلب من أوسخ القلوب التي خلقت، فهو أوسخ من قلوب اليهود والنصارى.
فهذا دليل وعلامة من علامات النبوة أن النبي عليه الصلاة(46/8)
كلام بعض السلف في معنى الإيمان ومقتضياته
قال: [وعن عدي بن عدي قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز]، وعدي بن عدي هو والي الجزيرة لـ عمر بن عبد العزيز في فترة خلافته.
قال: [كتب إلي عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن للإيمان فرائض]، يعني: أعمالاً مفروضة مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك.
إذاً: الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك من فرائض الإسلام هي من فرائض الإيمان كذلك.
قال: إن للإيمان فرائض، وهي الأعمال التي فرضها الله عز وجل على أهل الإسلام.
قال: [فإن للإيمان فرائض وشرائع]، هذه الشرائع هي العقائد الدينية، أو الأمور الغيبية الاعتقادية.
إذاً: عندنا الفرائض هي الأعمال المفروضة، وعندنا الشرائع هي المعتقدات.
إذاً: فجانب الاعتقاد يطلق عليه شريعة، وجانب الفرائض يطلق على الأعمال، والشريعة عمل قلبي، وهي: مجموعة الاعتقادات، والاعتقادات محلها القلب.
فيكون قول عمر هنا: إن للإيمان فرائض وشرائع، وفي رواية البخاري في مقدمة كتاب الإيمان أنه أورد هذا الأثر قال: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، والحدود هي التي ترتبت عن ارتكاب المنهيات.
قال: [وسنناً -أي: مندوبات- فمن استكملها استكمل الإيمان]، يعني: من أتى بالفرائض والشرائع وترك ما يستوجب الحد وأتى بالسنن والمندوبات والمستحبات فقد استكمل الإيمان.
وهذا يدل على أن الإيمان يزيد وينقص عند عمر بن عبد العزيز، من أتى بهذه الأعمال كلها سواء كانت اعتقادية أو عملية فقد استكمل الإيمان.
قال: [ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن عشت أبينها لكم حتى تعملوا بها]، ليس المقصود بيان الأصول، وإنما بيان الفرعيات الدقيقة؛ لأن الأصول مستقرة لدى التابعين.
قال: [فإن عشت أبينها لكم حتى تعملوا بها إن شاء الله، وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له]، يعني: أنتم أمرتم بالصلاة والزكاة، والأمر بهما مقرون في كتاب الله وفي سنة رسوله، فلم فرقتم بين هذا وذاك؟ قال: [فمن ترك الزكاة فلا صلاة له.
وقال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فليس بمسلم ينفعه عمله.
وعنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم.
وكان هشام بن حسان في حلقة بمكة فقيل له: ما كان الحسن يقول في الإيمان؟ قال: كان الحسن يقول: هو قول وعمل، وقيل للحسن: ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة، قال: الصبر على محارم الله، والسماحة في فرائض الله]، فالصبر على ألا يقترف معصية من معاصي الله عز وجل، والسماحة القيام بطاعة الله عز وجل.
قال: [وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: الإيمان قائد]-أي: الإيمان هو بمثابة القائد الذي يقودك إلى الله- والعمل سائق، والنفس حرون]، ومعنى حرون: تأبى عليه، يقال هذا حرون، أو هذا الحمار أو الحصان حرن، وهذه الكلمة عربية أصيلة، يعني: أن الدابة مهما ضربتها فإنها لا تنقاد.
فهو يقول: الإيمان قائد والعمل سائق، أي: الإيمان يقودك إلى الله والعمل معه بمرتبة السائق، والنفس بطبيعتها تأبى وترفض هذا، فمن تغلب على نفسه نفعه إيمانه وعمله.
قال: فإذا وني قائدها، كأنه يقول لك: إياك أن تضعف، إياك أن تفتر.
قال: [فإذا وني قائدها لم يستقم سائقها]، يعني: إذا نقص الإيمان لم ينفعه العمل، إذا وني قائدها لم يستقم سائقها، قال: [الإيمان بالله مع العمل والعمل مع الإيمان، ولا يصلح هذا إلا مع هذا حتى يقدمان على الخير إن شاء الله تعالى.
وعن إبراهيم التيمي قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً]، أي: ما عرضت بزعمي الإيمان الكامل على عملي القليل النادر إلا خشيت أن أكون إنساناً كذاباً، وهذا الكلام محمول منه على الورع الشديد جداً في قوله هذا، وهذا هو الظن به.
فإذا كان إبراهيم التيمي لم يحقق كمال الإيمان، فمن الذي سيحققه؟ فكيف إذا أتى ورآنا ونحن في أسوأ حال؟ ومع هذا تجد منا من هو في منتهى الجرأة على الله فيدعي تمام الإيمان وكماله، ويقول بكل بجاحة: إن قلبي عامر بالإيمان! وكل هذا كذب وعواطف، وإبراهيم التيمي لم يكن يعرف هذا.
إبراهيم التيمي قد حقق أحسن الأعمال وأكملها وأتمها، ولكنه يقول: العملية أقل مما يطلب منا بكثير جداً.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد بعد أن سأل هشام بن حسان وهو في الطواف، ما كان الحسن يقول في الإيمان؟ قال: كان يقول: هو قول وعمل.
قال: [وعن زيد بن أسلم -وهو من أئمة المدنيين وسيد من سادات التابعين- يقول: لابد لهذا الدين من أربع]، يعني: حتى يستقيم لك دينك لابد من اجتماع أربع مسائل: قال: [دخول في دعوة المسلمين]، أي: ألا تفارق جماعة المسلمين.(46/9)
مناقشة كلام أبي ثور في الإيمان وضوابطه
قال: [وعن إدريس بن عبد الكريم المقرئ قال: سأل رجل من أهل خراسان أبا ثور عن الإيمان]، وأبو ثور إمام كبير من الأئمة الفقهاء، وللأسف الشديد لا تعرفون مذهبه! قال: [سأل رجل أبا ثور عن الإيمان ما هو؟ وهل يزيد وينقص؟ وهل هو قول وعمل؟ فأجابه أبو ثور فقال: اعلم يرحمنا الله وإياك]، وهذا من المستحب أن يبدأ الإنسان بالدعاء لنفسه قبل الغير، فلا ينبغي أن يقول: يرحمك الله وإيانا.
قال: [أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح]، وانتبه لهذه الوصية فإنها وصية جامعة، وفيها مناقشة عقلية رائعة.
قال: [اعلم أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن الله تعالى واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به، أنه ليس بمسلم].
يعني: ليس بين أهل العلم خلاف أن هذا ليس بمسلم، هل قد سمعتم مثل هذا الكلام أيها الإخوة؟ فهذا الإنسان علم أو اعترف، ولم يستقر ذلك في قلبه، فليس بمسلم.
قال: [وأنه ليس بين أهل العلم قط خلاف في أن من قال ذلك ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، ولم يعتقد قلبه على شيء من ذلك أنه كافر في إظهار ذلك وليس بمسلم]، وهذا كلام جميل.
في الصورة الأولى يقول: أنه أقر بما يجب عليه أن يقر به بلسانه، ولم يعقد قلبه على ذلك ليس هو بمسلم، بل هو منافق.
وفي الصورة الثانية: أنه أقر بأن المسيح هو الله، وقال: إياكم أن تصدقوني أنا أضحك فقط؛ لأني في قرارة نفسي لا أعتقد أن المسيح هو الله، أرأيتم كيف أن هذه الصورة عكسية؟ في الصورة الأولى أقر بالإيمان بلسانه ولم يعتقده بجنانه، فهذا ليس بمسلم.
والصورة الثانية: أتى ما يستوجب الكفر وهو قوله: إن المسيح هو الله، وإن لم يعتقد ذلك في قلبه فلنا نحن الظاهر، والظاهر في الصورتين الكفر؛ لأنه لما أقر بالإيمان بلسانه، رجع مرة أخرى فأقر بلسانه وسمعناه يقول: أنه لم يعتقد شيئاً من هذا كله، وحكمنا عليه بالكفر؛ لأنه لما أقر بالإيمان رجع مرة أخرى فأنكره، وقال: لا تصدقوا أني أصدق شيئاً من هذا ولم يستقر منه شيء في قلبي.
والصورة الثانية: نطق بالكفر، وهو قوله أن المسيح هو الله، وأنكر شرائع الإسلام، فمثلاً تقول له: صل يا فلان، يقول لك: صلاة ماذا؟ وما هذه الصلاة؟ أنترك أعمالنا ونذهب إلى هذه الصلاة؟ أتظن أننا غير مشغولين؟! أو تقول له: زك يا فلان، فيقول: ولمَ أزك؟ والنبي قد مات، وكلما تكلمه في فريضة من فرائض الإسلام ينكرها ويركض كالحمار، ومع هذا يقول: المسيح هو الله، أو ابن الله، هذا لا يكون مسلماً، فالذي لا يكفره يكون كافراً.
قال: [ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، قال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن.
فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمناً، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمناً حتى يكون مصدقاً بقلبه مقراً بلسانه] يعني: الإقرار باللسان لا يكفي، وجزم القلب وتصديق القلب بذلك مع عدم الإقرار وإمكانية الإقرار، هو كذلك ليس بمسلم.
قال: [فإذا كان تصديق بالقلب وإقرار باللسان كان عندهم مؤمناً]، فإذا كان إقرار باللسان وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- كان عند البعض مؤمناً.
قال: [وعند بعضهم لا يكون حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت فيه مؤمناً.
فلما نفوا أن الإيمان شيء واحد وقالوا: يكون بشيئين في قول بعضهم وثلاثة أشياء في قول البعض الآخر لم يكن مؤمناً إلا بما اجتمعوا عليه]، يعني: البعض قالوا: إذا أقر بلسانه واعتقد بقلبه فهو مؤمن، والبعض الآخر قالوا: هذا الذي يقر بلسانه ويعتقد بقلبه والجوارح تصدق ذلك، بأن يعمل بمقتضى الإقرار والتصديق هذا الذي يكون مؤمناً.
والذين قالوا: إن المؤمن هو من أقر بلسانه وصدق بقلبه وفرط في العمل أو لم يعمل لا يختلف مع من يقول بوجوب العمل وهذا هو الإيمان، يعني: الذي يقول الآن بعدم وجوب النقاب، هل يقول بعدم الاستحباب؟ فنفي الوجوب لا ينفي الاستحباب.
فالذي ينفي شيئاً يثبت ما هو دونه من دون الوجوب ويثبت ما هو فوقه من باب الاستحباب، فالذي يقول: إن النقاب ليس بواجب على المرأة، يقول: ولو انتقبت لكان ذلك أفضل.
إذاً: ينفي الوجوب لأجل الاستحباب، فالذين يقولون: الإيمان يثبت بالإقرار باللسان والتصديق بالقلب، هم من باب أولى يثبتون الإيمان بالدرجة الأولى لمن جمع إلى هذين العمل، فيتفقون مع من يوجب العمل، لكن يختلفون في مسألة واحدة أن هذا العمل شرط أم ليس بشرط؟ القول الأول: العمل ليس شرطاً في الإيمان، والثاني: العمل شرط في الإيمان، لكنهما يجتمعان في أن العبد إذا عمل لكان هذا إيماناً.
قال: [فلا ندع ما اجتمعوا عليه لما اختلفوا لها]، يعني: إذا كان هذا إيماناً فلا ندع ما اجتمعوا عليه من لزوم العم(46/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - شعب الإيمان [1]
الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، منها: الشهادتان والحياء، وإماطة الأذى عن الطريق، والعمل بأركان الإسلام وأركان الإيمان، والجهاد لإعلاء كلمة الله، وتفضيل حب الله ورسوله على حب ما سواهما، وحب الأنصار، والحب في الله والبغض في الله، وحب علي بن أبي طالب، وعدم إيذاء الجار، وإكرام الضيف، وإلقاء السلام، وصيام رمضان وقيامه، وغيرها من الشعب.(47/1)
الشهادتان والحياء وإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: في الدرس الماضي من دروس الاعتقاد استعرضنا سريعاً كتاب الإيمان في صحيح البخاري، وقلنا: إن شعب الإيمان محل نزاع بين أهل العلم، منهم من قال: هي بضع وستون، ومنهم من قال: هي بضع وسبعون، وسبق العلماء الإمام ابن حبان، فعد خصال الإيمان من القرآن والسنة، ومن أقاويل السلف رضي الله عنهم أجمعين فبلغ بها بضعاً وسبعين شعبة.
ومرد هذه الشعب إما أن يكون إلى أعمال الجوارح، أو أعمال القلب، أو أعمال اللسان، فمرد هذه الشعب كلها إلى هذه الثلاثة الأصول.
والإمام البخاري إنما نهج في كتاب الإيمان على منوال واحد، فذكر أولاً الإيمان، وبين اختلاف أهل العلم في تعريف الإيمان، هذا في أصول الأبواب عنده.
ثم بين أن الإيمان يزيد وينقص، وعلامات ذلك من كتاب الله تعالى ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بين أن الإيمان شعب ومراتب، ثم ذهب في بقية الكتاب يعدد هذه المراتب وهذه الشعب، فقال: الصلاة من الإيمان، الزكاة من الإيمان، الحج من الإيمان، الجهاد من الإيمان، أداء الخمس من الإيمان، إلى أن عد شعباً عديدة، لكنه لم يجمع شعب الإيمان؛ لأنه إنما قصد في كتابه هذا أن يعد شعب الإيمان التي على شرطه؛ لأنه لا يخرج عن شرطه لأجل أن يعد شعب الإيمان؛ لأن هذا ليس مقصداً أساسياً له بخلاف أنه أراد ألا يذكر في كتابه إلا حديثاً كان على شرطه؛ فهذا استعراض سريع لكتاب الإيمان عند البخاري وليس هو المراد، إنما المراد ذكر كتاب وشعب الإيمان عند الإمام اللالكائي في كتاب أصول الاعتقاد.
ولذلك آثرت أن أرجع إلى نفس الباب من كتاب أصول الاعتقاد للالكائي خاصة وأن الإمام إنما ذكر شعباً لم يذكرها البخاري ولم يذكرها كذلك الحافظ ابن حجر، فقد ذكر شعباً أدلتها ضعيفة لا يمكن تقوى، ولا يمكن إثبات أنها من الإيمان لعدم نهوض الدليل على كونها كذلك.
فقال: [ذكر الخصال المعدودة من الإيمان المروية في الأخبار، فأول مرتبة من إيمانه وأعلاه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله].
قال: [وأدناه -أي: أدنى مراتب الإيمان- إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان].
ثم ذكر حديث أبي هريرة: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
فهذا الحديث إنما ذكر ثلاث شعب من شعب الإيمان.(47/2)
أركان الإسلام كالصلاة والزكاة وغيرهما من شعب الإيمان
والخصلة الرابعة هي: الصلاة، وبينا في الدرس الماضي أن الصلاة من الإيمان في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، أي: ليضيع صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل إنزال الوحي بتحويل القبلة إلى البيت الحرام.
والخصلة الخامسة: الزكاة، والسادسة: الخمس من المغنم، والسابعة: الصوم، والثامنة: الحج.
كل هذا من الإيمان، ومن هذه الخصال ما يتعلق بالقلب وهو الاعتقاد، ومنه ما يتعلق بالجوارح، ومنه ما يتعلق باللسان وهو الشهادتان.
كما في حديث ابن عباس وهو المعروف بحديث وفد عبد القيس لما أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك كفار مضر ولا نخلص إليك -أي: ولا نأتي إليك ولا نتمكن من لقائك- إلا في الأشهر الحرم، فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا، قال: آمركم بالإيمان بالله وحده؟ أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتؤدوا الخمس من المغنم).
فعرف الإيمان هنا بما عرف به الإسلام في حديث جبريل عليه السلام، قال: (وأنهاكم عن أربع: أنهاكم عن الدباء والحنتم، والنقير، والمقير) وفي رواية: (والمزفت).
وكل هذه إنما هي أسامي أواني كانوا يخمرون فيها الخمر، ومن شأن هذه الأواني على جهة الخصوص أن الخمر أو أن الشراب إذا وضع فيها اشتد سريعاً؛ ولذلك كان العرب قبل الإسلام يأتون بهذه الأواني خصيصاً حتى لا تتأخر فيها الأشربة بحيث تتخلل وتتخمر سريعاً، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك.(47/3)
أركان الإيمان الستة من شعب الإيمان
وذكر الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، والقدر خيره وشره فذلك ثمان خصال؛ إلا أن ذكر الإيمان بالله تعالى تقدم فتبقى سبع، وهي مع الثمان الخصال السابقة التي ذكرناها تكون حينئذ خمس عشرة خصلة.
قال: [وعن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ -أي: ما هو الإيمان وما حقيقته؟ - قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبالقدر خيره وشره، قال: فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال: نعم، قال: ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: أرأيت إن فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال: نعم) إلى آخر الحديث فبين النبي عليه الصلاة والسلام هنا أن شعب الإيمان تتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره، وبالبعث بعد الموت، والجنة والنار، والصراط والحساب والجزاء؛ كل هذا من الإيمان، بل كل ما يتعلق بأمر غيبي هو من أصول الإيمان، فإنكاره يؤدي بالعبد إلى النار عياذاً بالله.
فلو أن عبداً أنكر الجنة والنار لأنه لم يرهما، أو أنكر البعث بعد الموت؛ كل من أنكر شيئاً من أمر الغيب الذي جاء في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام المتواترة فإنه يكفر بذلك ويخرج عن ملة الإسلام.(47/4)
الجهاد لإعلاء كلمة الله من شعب الإيمان
الخصلة السادسة عشرة: هي الجهاد، أي: إثبات أن الجهاد من الإيمان.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور)].(47/5)
تفضيل حب رسول الله على حب الولد والوالد والناس أجمعين
الخصلة السابعة عشرة: قال: [عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
يعني: حتى يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.
الناس يخالفون هذه الشعبة من حيث لا يدرون، فالوالد يقدم محبة ولده على محبة الله ورسوله وهو لا يدري، لو كان الولد عاصياً أو شارباً للخمر مثلاً، فالوالد يعطي ولده المال ليشرب الخمر أو ليشرب البانجو، أو ليعصي بها أياً كان نوع المعصية، فإذا قيل للوالد: لم تفعل هذا؟ قال: والله هو شباب ولا بأس في ذلك وغير هذا من الأعذار، وهو لا يدري أن هذا فيه معصية لله ومعصية للرسول عليه الصلاة والسلام ثم يميع أمر الله عز وجل في مقابلة أن يرضي ولده، فمثل هذا العبد فاقد للإيمان، لأنه قدم حب ولده على حب الله ورسوله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وفي رواية: (حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين)، فلا بد من تقديم محبة الله ومحبة الرسول عليه الصلاة والسلام على كل محبوب دونهما.(47/6)
الحب في الله وكراهية الكفر من شعب الإيمان
والخصلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرون: قال: [عن أنس رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)]، وهذا من أعظم شعب الإيمان وعرى الإيمان.
قال: [(وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن توقد له نار فيقذف فيها)].
فلو أن ناراً أججت وقالوا: إما أن ترجع عن دينك وإما أن نلقيك في النار، فقل: النار أحب إلي، وليس هذا كلاماً يقرأ، فهذه عقيدة المسلمين دائماً.
فلا بد من الوقوف عند كل نص شرعي، واستنباط المعاني والأحكام والعقائد والأخلاق والآداب والسلوكيات منه، ولا يمكن أن تبنى الشخصية الإسلامية المحترمة إلا بالوقوف عند كل نص، واستنباط ما ذكرت منه، بل والوقوف عند هذه الاستنباطات لأجل العمل بعد الاعتقاد.
أما إنسان يقرأ القرآن من أوله إلى آخره دون أن يقف على حدوده، ودون أن يقف على حلاله وحرامه فكيف له أن يتعرف على الحلال والحرام؟ وكيف له أن يتعرف على العقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد، وكذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ فلا بد للإنسان من الوقوف عند كل نص ليستفيد، ثم لا يجاوز هذه النصوص إلا بعمل.(47/7)
حب الأنصار من شعب الإيمان
قال: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)].
إذاً: ما دام النبي عليه الصلاة والسلام علق هذه الشعبة بالإيمان فهي من الإيمان، فحبي للأنصار علامة على إيماني، وبغضي للأنصار علامة على نفاقي.
وهذا الحديث فيه فضيلة للأنصار وأبنائهم إلى قيام الساعة، وإن كان لفظ الأنصار عند الإطلاق يطلق على من ناصر النبي عليه الصلاة والسلام من أهل المدينة خاصة، مع أنه قد نصره من هم من غير أهل المدينة، فالمهاجرون لما هاجروا من مكة إلى المدينة أليس هذا نصرة للنبي عليه الصلاة والسلام ولدين الإسلام؟ وغيرهم من القبائل والبلاد المجاورة للمدينة، بل أهل الحبشة الذين ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وغير أهل هذه البلدان قد ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام.
فكلهم أنصار، وكلهم قد تحققت فيهم النصرة والمؤازرة والتعزير والتوقير للنبي عليه الصلاة والسلام، لكن لفظ الأنصار عند الإطلاق يطلق على أهل المدينة ممن صحب النبي عليه الصلاة والسلام.
أما عند إرادة إطلاق اللفظ فيطلق على الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار إلى آخر الزمان، فبغض الأنصار لأجل النصرة علامة على النفاق، حتى لا يتحرج الإنسان الآن أنه يدخل المدينة فيجد رجلاً مثلاً من أهل المدينة لكنه من أهل المعصية ليس من أهل الطاعة، أي: أنه رجل مثلاً يزني ويسرق ويشرب الخمر وغير ذلك، فهذا لا يحب وإن كان من الأنصار، فقوله عليه الصلاة والسلام: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) أي: علامة الإيمان أن تحب الأنصار لكونهم ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وعلامة النفاق أن تبغض الأنصار لأنهم ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، فإثبات الإيمان ونفيه متعلق بحب الأنصار وبغضهم لأجل النصرة.
فحينما نذكر مثلاً سعد بن معاذ نقول: رضي الله عنه، لقد ناصر النبي عليه الصلاة والسلام، ونحب أبناءه وأبناء أبنائه الذين هم على الطاعة؛ لأنهم ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وناصروا الله عز وجل.
أما أن يأتيني رجل مثلاً من الأنصار، لكنه يعيث في الأرض فساداً فأنا أبغضه، لا أبغضه لأن آباءه ناصروا النبي عليه الصلاة والسلام، لكني أبغضه لأنه يعصي الله، فهذا أيضاً من الإيمان، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أوثق عرى الإيمان أن تحب لله وأن تبغض لله) يدخل في هذا المهاجرون والأنصار.
لو أن مهاجراً ممن هاجر من مكة إلى المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان إلى الكفر فلا نحبه؛ فهجرته نسخت بردته؛ لأن الردة تمحو ما كان قبلها من خير، كما أن الإيمان يمحو ما كان قبله من شر.(47/8)
حب الخير للآخرين من شعب الإيمان
قال: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)]، وهذه علامة مهمة، وهي أن تحب لأخيك مثل الذي تحب لنفسك تماماً، وهذه مرتبة ينبغي أن نقف عندها؛ فقد قل من الناس من يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل كل الناس أو جلهم إنما يحب نفسه أكثر من كل شيء، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: (والله يا رسول الله إني لأحبك أكثر من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي)، وهو عمر، وهذه نفس بشرية جبلت على هذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك، فوقف عمر مع نفسه وقفة فقال: والله يا رسول الله! إنك لأحب إلي من كل شيء حتى من نفسي التي بين جنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر) يعني: الآن قد حققت كمال الإيمان، لأن عمر قال هذا حينما سمع قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).(47/9)
عدم إيذاء الجار واجتناب الغيبة والنميمة من شعب الإيمان
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)].
هنا علق حقوق الجار بالإيمان، فلا يحفظها إلا مؤمن، ولا يضيعها إلا إنسان ناقص الإيمان أو فاقد الإيمان.
فالذي يؤذي جاره لا يتحقق لديه كمال الإيمان، فليس من الإيمان إيذاء الجار، بل من الإيمان حفظ حقوق الجار، والجيران في هذا الزمان كاد كل واحد منهم أن يخرج من داره ومن أهله وبيته هرباً مما يحدثه الجار من إزعاج ومعاص وارتفاع بالمذياع وسباب للدين، وسباب للرسول والقرآن والسنة وغير ذلك عياناً بياناً.
ولو كان لهذه الأمة حارس يخشى على دين الله عز وجل لأدب الناس في حجر نومهم، لكن لا حارس للأسف الشديد، فلا يبقى أمام الناس إلا الوازع الديني الذي استقر في قلوبهم، فإذا غاب السلطان والحاكم لا بد من استخلاف الوازع الديني في قلب العبد المؤمن، بحيث يحمله على ملازمة التقوى والمروءة، ويأمره ويحضه على ملازمة التقوى؛ لأن السلطان لا يمكنه أن يفلح في هذا مهما بلغ بجبروته وطغيانه وعدته وعتاده لا يمكن للسلطان أن يسيطر على قلبك، بل القلب موهبة من الله عز وجل، والوازع الديني والإيماني في قلب العبد هو منحة ربانية من الله عز وجل؛ ولذلك لو راقبك العالم أجمع فاستطعت أن تصنع شيئاً في غفلة هؤلاء لفعلت، لكن لو أن العبد قد استكمل الإيمان بقلبه بمعنى أنه حقق خشية الله عز وجل على أعلى مستوى، فلو وضعوه مع أعظم المشتهيات كملكة جمال مثلاً، أو كان يشرب الخمر سابقاً ووضعوه في غرفة خمر مثلاً، لكنه تاب إلى الله عز وجل وعرف الله تعالى، فإنه لا يستطيع بل ولا يجرؤ أن يزني أو يشرب الخمر لأن معه الوازع الديني، ولأنه يملك بين جنبيه مخافة الله عز وجل، فلا يمكن أن ينظر إلى تلك المرأة، بل ربما يراها أذم الخلق، ويراها خبيثة فينصرف عنها، وهذه تكون منحة من الله عز وجل.
والسلطان الحاكم لا تأثير له إلا على الأبدان، أما تأثير الإيمان فإنه ينطلق بالعبد فيمشي في وسط الشوك بلا خدش، لا تخدشه المعاصي ولا تخدشه الشهوات ولا الشبهات من هنا وهناك؛ لأن حارسه نابع من داخله، فلا يتأثر بهذا الفساد الذي يحيط به من كل جانب.
قال: [(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)].
إذاً: الغيبة والنميمة وطول اللسان وهتك الأعراض وغير ذلك ليس من الإيمان، وليست القضية مجرد أنه بمقدورك أن تغتاب ما شئت، ثم تنصرف من المجلس وتقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت حتى يُغفر لك ما كان في المجلس، فالقضية هذه متعلقة بالإيمان، وإن غفر الله تعالى لك غيبتك لأخيك في مجلس جلسته واغتبته فيه فيبقى أن إيمانك تأثر بهذا الكلام، فلو كان منسوب الإيمان عندك مثلاً (70%) واغتبت أخاً في الله ربما ينزل إلى (50%) وأقل من ذلك، لأن الغيبة والنميمة وهتك العرض والكلام في أعراض الناس والطعن والقذف؛ كل هذا مناف للإيمان، وقديماً كان السلف إذا ذكرت غيبة في مجلس أنكروا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بأمر الله ورسوله، فإذا استجاب القوم وإلا انصرفوا.
ولذلك يقول قائلهم: إذا كنت في مكان به منكر فأنكر، فإن زال وإلا فزل أنت عنه.
أي: فإن استطعت أن تغير هذا المنكر إلى معروف، أو على الأقل تزيل المنكر فافعل، وإلا فيجب عليك أن تقوم من هذا المكان وتنصرف.
ولذلك عذب الله عز وجل بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا إذا رأوا المنكر أنكروا، حتى إذا كان الغد لم يمنع هؤلاء الذين أنكروا بالأمس أن يكونوا معهم في الأكل والشرب والمجالس، والله عز وجل قد لعن قوماً جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر.
فهم لم يشربوا وإنما جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر؛ فكأنهم رضوا بهذا، والراضي بالذنب كالفاعل للذنب.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال: دعه فإن الحياء من الإيمان).
يعظ أخاه أي: ينهاه.
وليس معنى هذا أن تقول له: ما من داع لأن تستحي كثيراً، فأنت كثير الحياء؛ فبهذا تكون قد نهرته عن الحياء ولم تعظه.
فحينما نرى من عنده حياء فنقول: هذا حيي فوق اللازم وأكثر من اللازم، فنحن ننهره بهذا، بل الحياء كله خير.
إذاً: ما في الحياء شيء اسمه أكثر من اللازم إذا كان هو كله خير كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، أي: أنه لا يأتي من روائه إلا خير، فهل يقال لفلان: انته عن الحياء؟ أليس النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع رجلاً يعظ أخاه في الحياء، يعني: سمعه يقول له ليس بالضرورة كثرة الحياء، قال له: (دعه فإن الحياء من الإيمان).(47/10)
إلقاء السلام وإفشاؤه من شعب الإيمان
قال: [قال: النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا -لأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة- ولا تؤمنوا حتى تحابوا).
إذاًَ: فسبب الإيمان هو المحبة، أو علامة الإيمان محبة المؤمنين بعضهم لبعض.
قال: [(أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟)]؛ يعني: أدلكم على البوابة التي إذا فعلتموها ودخلتم منها حصلت لكم المحبة والثواب، قال: [(أفشوا السلام بينكم)].
ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب إلقاء السلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألق السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف)، أي: من المسلمين، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لقيتم اليهود والنصارى فلا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم، فإنهم لا يقولون السلام: وإنما يقولون: السام.
أي: يقول اليهود والنصارى: السام عليكم، فإذا قالوا لكم ذلك فقولوا: وعليكم).
ولذلك دخل رجل من اليهود على النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (السام عليك يا محمد! فقالت عائشة من خلف الجدار رضي الله عنها: وعليك السام واللعنة والغضب يا عدو الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، يا عائشة! إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
قالت: يا رسول الله! أما سمعت ما قال؟ -أي: أما سمعت أنه يقول: السام عليك يا محمد أي: الهلاك والموت عليك يا محمد! - قال: أما سمعت ما رددت به عليه؟) يعني: أنا قلت: وعليكم، وهذا فيه كفاية.
لو أني سمعت مسلماً يقول لرجل من المسلمين أحبه: السام عليك لغضبت غضباً شديداً، ولو قال أحد لشيخك مثلاً: السام عليك، وأدركت المقصود ربما غضبت غضباً شديداً وحدثت بينكما مشاجرة.
فهذه عائشة رضي الله عنها أخذتها الغيرة والغضب والحب للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن حبها للنبي انعقد في الله عز وجل، فتأبى هذه المحبة أن تسمع دعاء بالهلاك على النبي عليه الصلاة والسلام، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم، وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه).
قال العلماء: اضطرار اليهود والنصارى في أضيق الطريق أن يكون للمسلم عرض الطريق، أي: وسطه، ولليهود والنصارى حافة الطريق، فهذا الاضطرار لأضيق الطرق؛ لأن بعض الإخوة فهمه للنص أن يظل يضيق عليه في مطلق التعامل معه.
وهذا مفهوم غير صحيح للنص، وإنما دعه يمشي على حافة الطريق، أما المسلم فله وسط الطريق، وهذا الوسط يدل على العزة، ولكن هذا الكلام حينما كان للمسلمين عزة، ودولة وصولة وجولة، وحكام يدافعون عنهم ويحبون الإسلام والمسلمين وغير ذلك، ولما كنت كذلك محترماً لدينك ولإسلامك ولإيمانك، لكن حينما فقدنا هذه المؤهلات كلها وصرنا أذل أمة وأحط من اليهود والنصارى فينبغي أن نجعل اليهود والنصارى يمشون معنا في وسط الطريق.
فهذا كان من قبل خاصة أيام الدولة الأموية ناهيك عن الخلافة الراشدة أو فترة النبوة، كان النصراني أو اليهودي إذا كان في شارع أمام بيته ووجد مسلماً أتى من بعيد كان يهرب إلى داخل بيته ويغلق البيت، حتى يوسع الطريق للمسلم، وما كان ممكناً أن يضع رجلاً على رجل والمسلم يمشي في الشارع، لم يكن هذا موجوداً، فلو كان ممكناً لقطع رقبته، ولقامت فيها مجازر بين اليهود والمسلمين.
فـ سنسبري اليهودي الذي كتب على محلاته في لندن: ممنوع دخول الكلاب والعرب، أي: أنه يساوينا بالكلاب! ثم يأتي إلى بلادنا ويستثمر فيها، وهذا كله لمصلحة البلد، نعم لمصلحة ضرب اقتصاد البلد، وغيرها من الشركات التي ترتع في أموال المسلمين بالليل والنهار، فهذه الشركات النصرانية واليهودية التي تمرح وترعى في البلد بغير رقيب ولا حسيب، هم هؤلاء ناس صالحون ومحترمون!! أما أن تقوم شركات إسلامية تظهر للعالم حسنة واحدة من حسنات الإسلام ومن حسنات الاقتصاد الإسلامي فهذا لا يمكن، فهؤلاء ينبغي أن يقتلوا في مهدهم وينبغي ألا يظهروا.
وهذا ليس موضوعنا، إنما موضوعنا لما يسلم علينا يهودي أو نصراني إذا تأكدنا من أنه يقول: السلام عليكم، نقول: وعليكم السلام، وهذا مذهب ابن تيمية وابن القيم، أما إذا لم نتأكد ماذا قال فيجب علينا أن نقول: وعليكم فقط، أي: الهلاك علينا وعليكم، نحن وأنتم سنموت فليس أحد منا سيخلف.
ولو اضطررت إلى ذلك فاخرج منها واهرب منها، فقل: كيف حالك، سلامات، صباح الخير، مساء الخير.
الخصلة السابعة والعشرون: [قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم)]، وأفشوا من الفشو والانتشار، وكأنه يريد أن يقول: ما أحد يمر على أحد إلا ويسلم عليه، سواء يعرفه أو لا ي(47/11)
صيام رمضان وقيامه واتباع جنازة المسلم من شعب الإيمان
قال: [قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)]، إذاً: صيام رمضان من الإيمان.
قال: [(ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً)]، وقيام رمضان من الإيمان.
قال: [(ومن تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً)]، وتشييع الجنائز من الإيمان، ففي هذا الوقت الناس لا تفعل ذلك من باب الإيمان؛ ولذلك يا إخواني لابد من الإخلاص في هذا العمل.
والواحد منا لما يقرأ في الإخلاص أو يقرأ في سير المخلصين من السلف يوقن بالهلاك، ويتهم نفسه بالنفاق في كل قول وعمل، لأن السلف ما كانوا يصنعون شيئاً إلا بعد أن يحاسبوا أنفسهم قبل العمل، أنا أعمل العمل هذا لله وإلا للناس؟ إذاً: المسألة هذه متعلقة بأداء الواجب، فأنت ترى أن هذا واجب عرفي فلا بد أن تؤديه، فلا تفعله من باب الإيمان، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه لما سمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تبع جنازة من بيتها حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى توارى في قبرها فله قيراطان، والقيراط كجبل أحد، بكى عبد الله بن عمر وقال: والله لقد فرطنا في قراريط كثيرة).
فلو كنت راكباً في سيارة ولست مستعجلاً، ورأيت جنازة ماشية استأذن من السواق، أو إذا كانت سيارتك فأوقفها على جنب، وانزل وشيعها تأخذ قيراطاً، أو إذا صليت عليها أخذت قيراطين، القيراط الواحد كجبل أحد من الثواب والحسنات.
إن عضلة القلب كعضلة الذراع تماماً بتمام، عضلة الذراع لا تتقوى إلا بالمجهود، كذلك عضلة القلب لا يمكن أن تتربى على الإيمان إلا بالعمل، ومن العمل الصالح أن تشيع الجنازة، وأن تقف على القبر حتى يدفن ويوارى هذا الميت، وتبقى بعد المواراة قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه، هذه هي السنة، وليست السنة أن نرميه ثم نجري ونخرج من المقبرة، بل نضعه بمنتهى الشفقة والرفق، لقوله عليه الصلاة والسلام: (كسر عظم الميت ككسره حياً) يعني: احترام الميت مثل احترام الحي؛ لأن كسر عظم الميت ككسره وهو حي.
ثم تنتظر على شفير القبر مقدار أن يذبح جمل ويسلخ ويوزع لحمه على الفقراء، فهذه المدة نحن مأمورون أن نقف على القبر بمقدارها بعد أن يوارى الميت.
فإنه يسأله منكر ونكير؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اسألوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل)، فكل إنسان ينشغل بالدعاء للميت، وهذا تقريباً يعتبر من أخريات الحقوق لهذا الرجل على من شيع جنازته، أنهم يقفون معه في الموقف العصيب.
فقد ورد في وصف منكر ونكير ما يدل على أنه لا يصمد أمامهما أحلم الحلماء.
والدعاء الجماعي بدعة، والمسنون أن يتقدم أحد الوعاظ بموعظة، يذكر الناس فيها بالله في هذا الموطن الذي جرحت فيه القلوب، وتعلقت بربها، فإن فعل كان ذلك حسناً، أما الدعاء فكل يدعو بنفسه، ولو كان الدعاء جماعياً في هذا الموطن مشروعاً لدعا النبي عليه الصلاة والسلام وأمر أصحابه، ولكنه أمرهم جميعاً أن يدعو كل واحد بما تيسر له، والدعاء عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، فإذا كان الدعاء عبادة فلا تحرم نفسك من العبادة في هذا الموطن.
أما رواية: (الدعاء مخ العبادة)، فهي رواية ضعيفة.
قال: (من تبع جنازة مسلم) إذاً: القيد هنا بأنها جنازة مسلم، فلا تتبع جنازة كافر، وليس للتابع فيها أجر، فالكافر يلقى، وهذا إجماع أهل العلم أنه لا يستحب دفن الكافر إلا إذا خيف التأذي به بعد الموت؛ لأن الكفار لا يكرمون أحياء ولا أمواتاً، فدفن الميت من أعظم إكرام الميت، وغير المسلم إذا مات الأصل فيه أنه لا يوارى ولا يقبر ولا يدفن ولا يصلى عليه، وغير ذلك مما يترتب للمسلم، فالذي يفعل ذلك من المسلمين هذا من خيبة الأمل، لما يموت نصراني أو نصرانية، فإذا نظرت ستجد أن معظم المعزين مسلمون، ومع ذلك فإنهم قد ابتدعوا أيضاً، فالنصارى يقلدون المسلمين فيأتون بقسيس يعظ، يعني: إبليس يتكلم ويعظ الناس، وتجد المسلمين وهم جلوس، ويضعون أيديهم على جيوبهم، فهم متأثرون ومتجاوبون مع القسيس.(47/12)
الجهاد من شعب الإيمان
والجهاد من الإيمان، وهل ضيع المسلمين إلا ضياع الجهاد وترك الجهاد، أقسم بالله لو أن اليهود في فلسطين يسمعون أن المسلمين يعدون للجهاد، وأن المسلمين اصطلحوا مع بعضهم وقرروا الجهاد، فإن اليهود سيسلمونا المفاتيح.
هم هكذا؛ لأنهم أجبن الخلق، ربنا يخبرنا بأن أجبن الخلق هم اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14]؛ لو كانوا شجعان لكان القتال وجهاً لوجه، لكن هم أهل غدر، لا يقاتلون إلا غدراً.
قال: [(أنتدب الله لمن خرج في سبيله)]، بمعنى: تكفل الله لمن خرج في سبيله مجاهداً.
قال: [(لا يخرجه إلا إيمان به)]، أي: لا يخرجه إلى الجهاد في سبيل الله، إذاً: الجهاد إيمان.
قال: [(وتصديق برسله أنه ضامن -أي: أن الله تعالى ضامن- أن يدخله الجنة، أو أن يرده إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة)]، يعني: معه الذي معه من الأجر عند الله أو الغنيمة التي يأخذها.(47/13)
دفع الوسوسة ومجاهدة النفس من شعب الإيمان
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إن أحدنا ليحدث نفسه بشيء ما يود أن يتكلم به -يعني: الواحد فينا يحيك في صدره أشياء- لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك محض الإيمان)]، إذاً: هذا الكلام يفهم منه أن دفع الوسوسة ومجاهدة النفس من الإيمان.
قال: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (شكا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام رجل الوسوسة، فقال: ذاك صريح الإيمان)] يعني: كونك تألمت من هذا الوسواس فهذا يدل على صحة إيمانك.(47/14)
السرور عند الحسنة والحزن عند السيئة من شعب الإيمان
قال: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)]، يعني: الذي يصنع المعروف ويفرح به علامة على الإيمان، والذي يفعل السيئة ويغتم ويستاء من نفسه ويكره نفسه؛ لأنه فعل السيئة وما كان ينبغي لمثله أن يفعل ذلك، فهذا دليل على الإيمان أيضاً، يعني: تصور أنك لما تعصي الله عز وجل بمعصية تضيق عليك نفسك حتى لا تجد في الأرض رحباً، مع أن الأرض واسعة، فتحس بضيق صدر وضيق أفق عندك، حتى كدت أن تموت وتختنق؛ لأنك وقعت في معصية الله، هذا الضيق وهذا الألم الناتج عن حدوث المعصية علامة على إيمان العبد، لكن واحد يشرب خمراً، وحين تقول له: يا فلان هذا حرام، يقول: أنا أحسن من غيري ألف مرة، فهذا معناه أنه مستمر على المعصية، فقل أن يوجد عنده إيمان، لما تكلمه في معصية يذكر لك معصية أعظم منها وأفجر منها، يقول لك: صحيح أنا أزني وأسرق واقتل وأشرب الخمر، لكن غيري يعمل مثل الذي أنا أعمله عشر مرات، أنا والحمد لله ما أعمل إلا هذه الخمس فقط.
فالعبد الصالح الذي نقى قلبه لله عز وجل يفرح فعلاً بالطاعة، ومع فرحه بالطاعة يخشى ألا تتقبل منه، فهذه خشية تحمله على المزيد من أداء العمل الصالح؛ ولذلك (لما تلت عائشة رضي الله عنها قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]-فمعنى قلوبهم وجلة أي: خائفة- قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ قال لها: لا يا ابنة الصديق! إنما هؤلاء أقوام قد أتوا بصلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد، يخافون ألا يتقبل منهم) يعني: قد عملوا الصالحات، لكنهم يخافون ألا يتقبل الله منهم ذلك، فيحملهم الخوف على المزيد من العمل، لا يحملهم الخوف على اليأس؛ لأن الخوف منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم، فالخوف الذي يؤدي إلى اليأس من رحمة الله، هذا نوع كفر، قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، إنما الخوف الذي يؤدي بك إلى المزيد من الطاعة هذا هو الخوف الممدوح، فالذي هو خائف من النار فإنه يعمل من أجل أن ينجو من النار، فيلتزم الأوامر وينتهي عن النواهي ولا يتعدى الحد، فإن من يتعدى حدود الله فقط ظلم نفسه.
إذاً: أمامك ثلاثة أشياء: التزام الأمر والعمل به، وترك النهي طاعة لله عز وجل واستجلاباً لرضاه، والوقوف عند حدود الله ومحارمه لا تتعداها.
لو أن عبداً أتى إلى الله بهذه الثلاث لنجا من النار ودخل الجنة.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عمر أمتي ما بين الستين إلى السبعين لا يزيد عنه إلا قليل) فمن زاد عن ذلك فقوته تتهدد، وإن ارتكب المعاصي فهو أشقى الخلق، فإن الأصل أن الإنسان بعد الستين سنة ينتهي أمره، ويبدأ في العد التنازلي.
فالأصل في هذا السن أنه لا يقع في المعصية، لأنه يعجز غالباً عن الوقوع فيها، فإذا كان عمر الإنسان يتحدد بستين سنة، وهذه الستين السنة منها عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة نوم، وعشر سنوات إلى خمس عشرة سنة قبل البلوغ، ومجموع ذلك ثلاثون سنة، والباقي ثلاثون سنة، فهل يعجز المرء أن يستقيم على أمر الله ثلاثين سنة، مقابل نعيم لا ينفد ولا ينقطع، في جنة عرضها السماوات والأرض؟ حياة أبدية سرمدية لا نهاية لها، من النعيم واللذة والنظر إلى وجه الله الكريم، الواحد منا لو يحجز نفسه في بيت، ويلزم نفسه بالطاعة إلى أن يأتيه أجله، يفعل ذلك من أجل النعيم الذي سيأتي.
فما وقع عبد في معصية إلا وأحس بتفاهة نفسه بعد الوقوع فيها، خاصة العبد الذي عنده أصول الإيمان.
تصور لو أنك سرقت مال أخيك، فحين تنفقه لا تشعر بلذة، وتتمنى لو أنه رجع إلى صاحبه ثانية، ولو أن أحدهم زنى، فبعد الفراغ من الزنا مباشرة يحتقر نفسه، بل ربما يبصق على نفسه من سوء ما فعل؛ ولذلك فإن بين الطاعة والمعصية لحظة، فاضغط على نفسك فيها.
تصور لو أن امرأة جميلة مشت في الشارع تنادي على الزناة أن ينظروا إليها، وأن يقعوا عليها، وأنت لقيت هذه المرأة في الطريق، فما بينك وبينها إلا أن تغض بصرك لحظة حتى تمر خلف ظهرك، وتفرغ من أمرها، ثم ترى بعد ذلك ما يقدر الله عز وجل لك من الخير.
فالفرق بين الطاعة والمعصية ما هي إلا لحظات! يضغط فيها العبد على نفسه حتى ينجو من عذاب الله عز وجل.(47/15)
حسن الخلق من شعب الإيمان
قال: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة)].
فقوله: (إن أكمل المؤمنين) يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، فهنا شيء كامل وشيء ناقص.
فمن حسن خلقه فقد وافق شعبة من شعب الإيمان، ومن ساء خلقه ثم تاب إلى الله من ذلك، واعتذر إلى إخوانه فهو دليل على صدق إيمانه، وقل أن يأتي أحد في هذا الزمان ويعتذر عن فعل قبيح قد فعله، وعلى المسلمين أن يقبلوا عذر هذا المعتذر، وأن يعفوا جميعاً عنه ويقبلوا معذرته، ولهم أن يجربوه في الأيام المقبلة، فإن تحسن خلقه حقيقة كان ذلك فضلاً من الله عز وجل، وإن ساء خلقه أو عاملهم بمثل معاملته السابقة فلهم أن يتجنبوه أو يحتملوه.
فلا يقبل العذر إلا كريم، ولا يرده إلا لئيم، وإذا أتاك أخوك معتذراً فاقبل منه، وهذا قول ابن سيرين عليه رحمة الله.(47/16)
حفظ الأمانة من شعب الإيمان
قال: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (خطبنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)]، وقل من الناس من يستأمن على شيء فيكون أميناً، وهذه شكوى عامة في الخلق، لا يؤتمن أحد على شيء إلا كما يؤتمن الذئب على الغنم.(47/17)
أعجب الخلق إيماناً
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أي شيء أعجب إيماناً)] النبي عليه الصلاة والسلام يخاطب أصحابه يقول لهم: ما أعجب شعب الإيمان أو ما أعجب شيء في الإيمان؟ قالوا: [(الملائكة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: كيف وهم في السماء يرون من أمر السماء ما لا ترون؟!)] يعني: كيف لا يؤمنون وهم عند ربهم يرون من أمر السماء ما لا ترون؟ فالملائكة جبلوا على الطاعة، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وهؤلاء أيضاً لهم منزلة، فهم أهل السماء، يعرفون من الأخبار ما لا تعرفون فكيف لا يؤمنون؟ [(قالوا: يا رسول الله! فالأنبياء قال: كيف وهم يأتيهم الوحي؟)]، يعني: النبي يأتيه الوحي، وهو رسولٌ اصطفاه الله تعالى من الخلق فكيف لا يؤمن؟ قالوا: [(فنحن يا رسول الله! -أي: فلم يبق لك إلا الصحابة- قال: فكيف وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟!)] يعني: أنتم تقرءون القرآن بالليل والنهار وفيكم رسوله، فكيف لا تؤمنون؟! قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(أعجب الخلق إيماناً قوم يكونون من بعدكم يجدون صحفاً فيؤمنون بي ولم يروني)] وهم التابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة.
والحديث هذا محل نزاع بين أهل العلم، والراجح أنه حديث حسن.
ومعنى الحديث أنك إذا قرأت هذا القرآن وصدقته وصدقت أنه من عند الله، وسمعت أباً عن جد أن الله أرسل نبياً اسمه محمد فآمنت به واتبعته، هذه درجة من الإيمان عظيمة جداً.
وبنو إسرائيل ما كانوا يؤمنون بشيء إلا بعد أن يروه، إلى أن قالوا لموسى: أرنا الله جهرة من أجل أن نؤمن، فبنو إسرائيل ما كانوا مؤمنين بالله؛ لأنهم اعتادوا وألفوا ألا يؤمنوا بشيء إلا إذا رأوه، حتى طلبوا من موسى أن يريهم الله تعالى عياناً بياناً.(47/18)
انتفاء الإيمان عمن يؤذي جيرانه
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من هو يا رسول الله! خاب وخسر -أي: من هذا الذي تحلف عليه بقولك: والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن- قال النبي عليه الصلاة والسلام: من لا يأمن جاره بوائقه)] والبوائق التي هي الغوائل والشرور.
يعني: جارك لا يأمن شرك فكيف تكون مؤمناً؟ والنبي عليه الصلاة والسلام أقسم ثلاثاً وهو الصادق المصدوق بغير قسم عليه الصلاة والسلام، لكنه أقسم هنا وأكد قسمه ثلاثاً بالتكرار وكثرة العدد لبيان خطورة الأمر، وأن الجار الذي لا يأمن جاره بوائقه يدل على فساد إيمانه.(47/19)
الألفة والمحبة بين المسلمين من شعب الإيمان
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث النعمان عند مسلم: (المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر).
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
وقال النبي عليه الصلاة السلام: (وإن الشيطان ليأكل من الغنم القاصية)]، ويقول غير واحد من السلف كـ عبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: وإن ما تعملونه في الجماعة وأنتم تكرهون خير لكم مما تعملونه في الفرقة وأنتم تحبون، يعني: العمل الذي تعمله في وسط جماعة المسلمين وإن كنت لا تحبه هو خير لك بين يدي الله عز وجل من أن تعمل عملاً في الفرقة وإن كنت تحبه.
ولذلك الخلاف شر، والود والألفة والمحبة بين المسلمين خير، فمحبة الله ورسوله والمؤمنين من العمل الصالح، والنصارى دائماً يدندنون على المحبة، وهذه بضاعتنا فإن الغرب أخذوا ديننا فعملوا به فسادوا الدنيا بأسرها في الوقت الذي نحن تأخرنا عن ركب الحضارة؛ لأننا لم نتمسك بحبل الله المتين.
الأصل في كل رقي ديني أو دنيوي، عقائدي أو أخلاقي هو القرآن والسنة، فإذا تمسك به الكفار سادوا، وإذا تمسك به المسلمون سادوا، فهذه القضية ما فيها محاباة، فهي قضية اتباع وقضية إيمان بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المسافر شيطان، والمسافران شيطانان، والثلاثة ركب)، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده، وفي حديث آخر: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يسافر الرجل وحده، أو أن يبيت وحده)، الواحد فينا لما يبيت في بيت لوحده، لو قام في الليل وفزع، فربما يذهب عقله، وهذا يحصل.
ولو أن شاباً في ريعان شبابه يبيت وحده، ربما مارس العادة الخبيثة مرتين وثلاث في الليلة؛ لأنه يبيت في بيته مع الشيطان، والشيطان يأمره بالمعصية؛ ولذلك إذا بات الرجل وحده فقد بات معه الشيطان، ولا يبيتن رجل في غرفة لوحده، إنما يبيت الاثنان؛ لأن المرء إذا دخل غرفته وأغلق على نفسه الباب وإن كان معه في الغرف المجاورة أناس آخرون، فهو يمكن أو يسهل عليه أن يقع في المعصية؛ ولذلك من عوامل تثبيت الإيمان في القلب الصحبة المؤمنة، والذي يتعرف على شباب فاسدين سيتأثر بهم، بخلاف ما لو تعرف على شباب صالحين.
فالصحبة المؤمنة تزيد من إيمان المرء، لأن المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن يألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
فمن كان لا يألف ولا يؤلف فهو في خطر عظيم؛ وعلى المسلم أن يعامله معاملة حسنة وأن يحتسبه عند الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد أوذي ومع هذا تكلف الود.
فقد كان يأتي الأعرابي البدوي الجلف من البادية فيجذب النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤثر في رقبته، يقول: (يا محمد! أعطني من مال الله فإنه ليس من مالك ولا من مال أبيك!).
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (دعه يا عمر! واقض حاجته)، فـ عمر هو الذي سيأخذ هذا الرجل وسيذهب به إلى بيت المال، وسيعطيه إلى أن يقول: كفاية، فأعطاه منه حتى قال له: أرضيت؟ قال: رضيت.
فرجع الرجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا رسول الله! لقد قرأت في كتب أهل الكتاب أن علامة النبي العربي أنه إذا جهل عليه أحد حلم، فأردت أن أعرف ذلك فيك) يعني: ما عمل هذا إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يتأكد من أن هذه علامة النبي الجديد، أنه كلما يجهل عليه أحد يزداد حلماً، إلى أن رأى بعينه.
والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن في حاجة لدفاع عمر، فإنه لم يدخل في مصارعة قط مع أحد إلا صرعه، فهو ما يرد الإساءة بالإساءة، إنما يرد الإساءة بالإحسان.
اجعل بينك وبين أخيك المؤمن أو المسلم وداً وألفة ومحبة، أما غير المسلم فإنك تتصنعه لاستمالة قلبه للدخول في الإسلام.(47/20)
حب الإمام علي بن أبي طالب من شعب الإيمان
قال: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لعهد إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)]، إذاً: حب علي بن أبي طالب دليل على الإيمان، وبغضه دليل على النفاق، فالذي يبغض علي بن أبي طالب يكون على خطر عظيم جداً.
لكن على آية حال نحن نحب النبي عليه الصلاة والسلام وآل بيت النبي عليه الصلاة والسلام حباً كما أحبهم أهل السنة والجماعة، بغير إفراط ولا تفريط، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم) يعني: لا تمدحوني وتثنوا علي بما ليس في ولا أستحقه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يستحق شيئاً ولا يستحق شيئاً آخر، فلا يستحق أن يكون إلهاً، أو أن يكون ابن الإله؛ لأن النصارى مدحت عيسى بن مريم وجعلته إلهاً، وبعضهم قال: هو ليس إلهاً ولكنه ابن الإله، فهذا بلا شك غلو شديد جداً في الأنبياء.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يحذر من ذلك، فلا يجوز أن يسجد أحد للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صرف ما لله لغير الله، ولا يجوز صرف ما يجب أن يصرف لله لغير الله، كما لا يجوز أن يصرف لغير الرسول ما للرسول، فلا يجوز أبداً أن نؤمن بـ علي بن أبي طالب كما نؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن علي بن أبي طالب ما هو إلا رجل من المسلمين، وهو خليفة من الخلفاء الراشدين، نحبه؛ لأنه رجل مؤمن؛ ولأنه رجل صالح؛ ولأنه من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولأنه أحد الخلفاء؛ ولأنه من أهل بيته عليه الصلاة والسلام.
وغير ذلك من مناقبه وشمائله رضي الله عنه، لكن لا نرفعه إلى مرتبة النبوة، كما فعلت الشيعة، الذين يجعلون مرتبة الولاية فوق مرتبة النبوة كما تقوله الصوفية تماماً بتمام، حتى قالوا: الخلفاء الاثنا عشر هم الخلفاء الراشدون، فلا يعترفون بـ أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، إنما يعترفون بـ علي بن أبي طالب ومن بعده من أهل بيته، حتى الإمام الثاني عشر وهو عندهم المهدي المنتظر، والمهدي المنتظر عند الشيعة يختلف عن المهدي المنتظر عند اليهود والنصارى، وأهل السنة والجماعة.
فالمهدي المنتظر عند الشيعة هو أبو الحسن العسكري الذي اختفى في سرداب سامراء في العراق، وله من العمر أربع سنوات، يزعمون أنه اختفى وأخذ قرآن فاطمة، ويقولون: القرآن الذي بيد النواصب -ويقصدون بذلك أهل السنة- ليس منه حرف واحد نزل من السماء، وهو يقدر بثلث القرآن الحقيقي الذي اختفى في سرداب سامراء مع المهدي المنتظر، وهم ينتظرونه يوماً في كل عام على فوهة السرداب بالخيل المزينة والمزخرفة وغير ذلك، والله تبارك وتعالى في كل عام يخيب سعيهم إلى قيام الساعة.
والمهدي المنتظر عند اليهود والنصارى هو المسيح الدجال الذي حذرنا منه النبي عليه الصلاة والسلام، أما المهدي المنتظر عند أهل السنة والجماعة فإنه محمد بن عبد الله القرشي، رجل من قريش، وافق اسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، واسم أبيه اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم، رجل يصلحه الله تعالى في ليلة، ثم يظهر في الأرض فيقطعها شرقاً وغرباً يدعو الناس إلى الله عز وجل، ويمكث في الأرض قدراً من الزمان، ويضع يده في يد عيسى بن مريم عليه السلام، فينزل عيسى بن مريم عند باب لد في فلسطين فيقتل المسيح الدجال وهو مهدي اليهود والنصارى، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير وهما رمز النصارى.
ثم ينطلق عيسى بن مريم مع محمد بن عبد الله المهدي لدعوة الناس إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك أجمع أهل السنة والجماعة على أن عيسى بن مريم هو أحد أفراد أمة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو آخر الصحابة موتاً في آخر الزمان على الإطلاق؛ لأن عيسى حي عليه السلام، رفع إلى الله عز وجل في السماء، وهو حي الآن، وينزل في آخر الزمان، ولا يموت إلا موتة واحدة في آخر الزمان، وقد رأى عيسى بن مريم النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء الإسراء من مكة إلى بيت المقدس، وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام بالأنبياء، وسلم عليهم نبياً نبياً، فهنا بيان أن عيسى بن مريم هو آخر الصحابة موتاً؛ قال ذلك الإمام الذهبي في كتاب تجريد أسماء الصحابة.(47/21)
مراقبة الله في السر والعلن من شعب الإيمان
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان)]، وهذه مرتبة الإحسان والمراقبة؛ ولذلك فإن في حديث جبريل: الإحسان يشمل الإيمان والإسلام، والإيمان يشمل الإسلام بغير عكس، يعني: كل محسن مؤمن ومسلم، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، كما أنه ليس كل مؤمن محسناً.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بـ: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهذا تمام وكمال المراقبة لله عز وجل، وهذه شفافية ما بعدها شفافية بين العبد وبين الله عز وجل، وهذه من الإيمان، لأن كل محسن مؤمن، فالإحسان إيمان.(47/22)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستئذان الأهل من شعب الإيمان
الخصلة الثالثة والخمسون: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخصلة الرابعة والخمسون: تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليسلم على أهله -أو على أهل بيته- إذا دخل)]، يعني: إذا دخلت البيت فقل: السلام عليكم يا أم فلان، أو يا أولاد أو يا فلانة، فلا تدخل وتضع عصاك أمام الباب، ثم تأخذها وتدخل بالضرب والصياح والشتيمة وغير ذلك، لا يمكن أن تكون هذه عيشة أبداً.
فالتأديب بقدره، إما بالهجر وإما بالضرب غير المبرح، فقد فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (ألا تشق رأساً ولا تكسر عظماً)، وبعض الناس لا يحلو له إلا الضرب في الرأس والوجه، مع أن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! ما حق امرأة أحدنا عليه قال: أن تطعمها مما تطعم، وأن تلبسها مما تلبس، وألا تقبح ولا تضرب الوجه) يعني: لا تقولن لامرأتك: قبح الله وجهك؛ لأن الله تعالى خلق آدم على صورته، فسب الوجه أو سب الخلقة إنما هو كسب آدم عليه السلام.
نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(47/23)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - شعب الإيمان [2]
شعب الإيمان كثيرة ومتعددة، فمنها: الحب في الله والبغض في الله، وحسن الخلق، والزهد عن الدنيا والتقلل منها، والجهاد في سبيل الله تعالى، وذكر الله سبحانه وتعالى، والمحافظة على الطهور والورع، والتعرف على الله والإيمان به قبل تعلم العلم ثم الإقبال عليه.(48/1)
الحب في الله والبغض في الله من شعب الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ثلاث من كن فيه فهو عبد طعم الإيمان وحلاوته)]، ثلاث من كن فيه أي: من توفرت فيه هذه الخصال الثلاث فقد حقق العبودية لله عز وجل، وقد ذاق طعم الإيمان، فشبه الإيمان بالشيء الحلو الذي يتذوق من طَعِمَه.
قال: [فقال: قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم]، يعني: الراوي عن أنس يسأله هذا السؤال يقول: هل أنت سمعت هذا من النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) أي: أن يكون الله ورسوله من جهة الاعتقاد والعلم والعمل والمحبة والرضا وغير ذلك من شعب الإيمان القلبية والعملية، قال: [(وأن يحب في الله ويبغض في الله)] لأن أعظم عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.
قال: [(وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها ولا يشرك به شيئاً)]، يعني: لو أن ناراً عظيمة أججت في أخدود عظيم جداً وألقي فيها المرء كان ذلك أحب إليه من أن يقع في الشرك بالله عز وجل، هذه الثلاثة الأشياء لو اجتمعت في قلب العبد المؤمن وجرت مقتضياتها على جوارحه فإنه يكون قد حقق الإيمان الكامل التام، وذاق طعم الإيمان.
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله عز وجل وعاد في الله، فإنه لا تنال ولاية الله عز وجل إلا بذلك].
فإن تحب في الله، وتبغض في الله، وتعطي لله، وتمنع لله، كل ذلك لا يمكن للعبد المؤمن أن يفعله إلا لله عز وجل، ولو فعله لنفسه أو نصرة أو غضباً لنفسه أو حمية أو غير ذلك من النيات والأغراض والمقاصد الأخرى فإنها ليست لله عز وجل، وإنما هي انتقام أو انتصار لنفسه؛ ولذلك لو أن العبد منع العطية لوجه الله عز وجل، أو أعطى العطية لوجه الله عز وجل، أو خاصم هذا في الله، أو صالح هذا في الله، فهذا العبد قد ضبط نفسه وسلوكه وعمله على أن تكون كلها لله عز وجل.
أنت تخاصم أخاك الفلاني؛ لأنه قد عصى الله عز وجل، وعلمت من واقع حاله أنه لا يصلح إلا بالهجر، فتهجره في الله عز وجل، كما هجر الصحابة رضي الله عنهم الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وصار الواحد منهم لا يدري أين يذهب.
كان لـ كعب -وهو أحد الثلاثة- جار وقريب له، وكان يصعد الجدار ويسلم على جاره، ولكن هذا الجار ما كان يرد عليه السلام -مع أن رد السلام واجب- لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقاطعوا هؤلاء الثلاثة، فكان الواحد منهم يمشي في شوارع المدينة حائراً لا يدري ماذا يفعل، ضاقت عليه الأرض، الوفاة خير له من الحياة من فرط ما ضاقت به أموره وأحواله؛ لأنه تخلف عن الجهاد بغير عذر، فلما نزلت توبتهم من السماء فرح هذا الجار فرحاً عظيماً جداً، وأسرع بمجرد سماع الآيات إلى كعب يبشره بأن الله تعالى قد تاب عليه، فلو كان هذا خصاماً للذات أو لخلاف وقع بين الجيران أو غير ذلك لا يهمه أن تنزل فيه توبة، وكذا الصحابة لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام ألا يكلموهم، فامتنع الصحابة جميعاً عن محادثة القوم، فلما نزلت التوبة فرح الصحابة، وليس الثلاثة فحسب، فهذا المنع من محادثة القوم كان لله عز وجل، وهذا المنع قد بلغ خمسين يوماً، فتصور أن امرأة لا تكلمه، وأن ولداً لا يكلمه، وأن جاراً لا يكلمه، وأن صديقاً لا يكلمه، وأن تاجراً لا يكلمه، المدينة كلها امتنعت عن محادثة القوم، حتى أهل بيت الثلاثة لم يكونوا يكلمون هؤلاء الثلاثة قط، فتصور رجلاً يعيش وحده في مجتمع يعج بالأفراد شرقاً وغرباً، لا يتكلم أحد منهم معه، فماذا يكون حاله؟ يكلم نفسه، أو يتكلم هؤلاء الثلاثة، مع أنهم قد كره بعضهم بعضاً في هذه المدة؛ لأنهم شعروا باتحاد المعصية بينهم، فكره الواحد منهم أن يكلم أخاه؛ ولذلك لما جاءت لـ كعب رسالة من أمير من أمراء الكفر أن ائتنا نولك ما رغبت يعني: ائت إلينا وسنوليك ونعطيك من المال ما ترغب فيه، قال: هذه ثالثة الأثافي، هذا ابتلاء واختبار، ثم قال: لا والله إن محمداً عليه الصلاة والسلام وأصحابه أحب إلي من الدنيا وما فيها، فالإيمان لا يزال متمكناً في قلوبهم، لكنها غفلة انتهزها الشيطان فخلفهم عن الجهاد.
الشاهد من هذا كله أن الصحابة امتنعوا حيث أمروا بالامتناع عن المحادثة، وفرحوا أشد الفرح حيث كان الأمر يستوجب الفرح، فهم فرحوا لله، وامتنعوا لله عز وجل، وهذا من فرط وكمال وتمام إيمان الصحابة رضي الله عنهم.
قال: [ولن تجد طعم ا(48/2)
حسن الخلق من شعب الإيمان
الخصلة الحادية والستون: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يستكمل العبد الإيمان حتى يحسن خلقه، ولا يشفي غيظه)]، وهذا الحديث في سنده بعض الضعف، وبعض أهل العلم حسنه، ومعنى حسن خلقه يعني: عامل الناس بالخلق الحسن؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بعض أصحابه ويقول: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، فهذا الخلق الحسن الذي تخلق به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وتخلق به أصحابهم وحواريهم.
فقوله: (لا يستكمل العبد الإيمان) يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وقوله: (حتى يحسن خلقه، ولا يشفي غيظه) يعني: لا ينتقم ولا ينتصر لنفسه.(48/3)
تغيير المنكر من شعب الإيمان
ٌقال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)] وهذا باب عظيم جداً من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه أراد أن يقول: وتغيير المنكر من الإيمان؛ لأنه من شعب الإيمان، فقال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لم يخالط الناس ولم يصبر على أذاهم.
أحياناً يبلغ اليأس ببعض الدعاة ورؤيتهم القاتمة لما عليه المسلمون من ضلال وانحراف عن شرع ربهم بأن يؤثر في أحدهم اليأس أن يقيم في بيته وألا يتكلم مع أحد، وهذا الحديث أو النص كفيل وخليق بأن يرده إلى رشده وصوابه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم)، وفي رواية: (فهو أهلكَهم) أي: فهو الذي تسبب في إهلاكهم، أو على الرواية الأولى: فهو أشدهم هلاكاً، ومن قال: (هلك الناس فهو أهلكهم) أي: فهو الذي أهلكهم، وهذا نص كفيل بأن يحاسب كل أحد منا نفسه.
وإذا كان الناس فيهم خلل أو نقص أو عيب أو جرأة أو فجور فلا بد أن يكون في الداعية حظ ونصيب من هذا كذلك، فإذا كان يعيب على الناس أشياء مثل هذه فلا بد أن يرجع لنفسه باتهامها أكثر من اتهامه للناس، حتى يستقيم له الأمر.
وفي حياة الأنبياء وجهادهم أعظم قدوة ونبراس لنا، فنوح عليه السلام الذي مكث في قومه ٍيدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما آمن معه بعد هذه الأعوام كلها إلا قليل، فأعظم عدد ذكر أنهم ثمانون رجلاً، وأقل العدد اثنا عشر رجلاً، وحتى لو كانوا خمسين رجلاً، فمعنى ذلك أنه يؤمن كل عشر سنين رجلاً واحداً، فهذا أسوة وقدوة لنا، خاصة للإخوة في الريف، فالأخ قد يمكث أربع سنوات في القاهرة من أجل الدراسة في الجامعة أو غير ذلك فيمن الله تبارك وتعالى عليه بالعلم الشرعي والفهم الصحيح وغير ذلك، فيذهب إلى قريته بعد التخرج، فيفاجأ بالواقع المر الأليم في قريته، ويعرف أن الناس إنما مكثوا على دين منذ مئات السنين وما عند أحدهم استعداد أن يغير ذلك، فيصدم في واقعه الذي عاش فيه وكان هو أحد أفراده، فيصاب بيأس شديد جداً، فيأتي بعد ذلك من القرية ويشكو مر الشكوى من قومه الذين لا يقبلون دعوته، هو كان أحد أفراد هذا المجتمع الذي لم يقبل دعوة من سبقه، فلا بد من الصبر، فهذه سنة كونية قدرية في أهل الإيمان، بدءاً بالأنبياء والمرسلين وانتهاءً بالصالحين، وحذاري أن تظن أنك إذا آمنت بالله ورسوله، وحملت هذه الدعوة ورفعت لواءها أن الأرض تفرش لك بالحرير، إذا كنت تتصور ذلك فأرجو أن تعتزل وأن تعتذر الآن وتمكث في بيتك، فطريق الدعوة هو أصعب طريق خلقه الله عز وجل؛ ولذلك خلق له أعظم البشر وهم الأنبياء والمرسلون؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الناس بلاءً -وفي رواية: أشد الناس بلاءً- الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) يعني: ثم من يشبه الأنبياء ثم من يشبه من يشبه الأنبياء، وهكذا.
فالمعلوم أن الأنبياء وأتباعهم من الدعاة والعلماء هم على نسق ومنوال واحد من وقوع الأذى بهم؛ لأن الناس الذين انتكست فطرهم إنما يحبون الحياة الدنيا حباً جماً، ويحبون جمع المال من حل ومن حرام، وإن الدعاة هم الذين يقفون حائل صد أمام هؤلاء لبيان الحلال والحرام، وبنهي هؤلاء الذين يرتكبون المنكرات والفظائع والفجور ينهونهم عما هم عليه؛ ولذلك تكون العداوة بينهم وبين أهل الإيمان، وكذلك أصحاب الجاه والمناصب والكراسي وغيرها، كل حظ ليس لله تبارك وتعالى فيه نصيب لا بد أن تحدث العداوة بين أصحاب هذه الحظوظ وبين الدعاة إلى الله عز وجل.
وسنة الله تبارك وتعالى قضت بأن عامة الفساق لهم تمكن في وقوع الأذى بأهل الإيمان ما لم يكن لأهل الإيمان راية تحميهم، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي بل يجب على أهل العلم بالذات من أهل الإيمان أن يعدوا صبراً عظيماً جداً وتحملاً فوق طاقة البشر في حمل دعوة الله عز وجل وتبليغ دعوة الحق إلى الخلق.
أما أن تتصور أنك صاحب سنة أو صاحب دين أو صاحب علم أو غير ذلك، وأن الناس ستفرش لك الأرض حريراً ويضعونك على الرءوس فهذا لن يكون، فلا بد أن توقن أن الناس يضعونك تحت أقدامهم، وأن الناس يحاربونك من أول وهلة تخرج عليهم فيها فتسفه أحلامهم، وتبطل ما هم عليه من باطل، وترتفع بإيمانك وعلمك على هذا الواقع الباطل الذي يعيشه الناس، فلو أنك بهذه الأخلاق، وبهذه القوة والمتانة، فلا أحد يتركك، بل كل من استطاع أن يلحق بك الأذى فعل ولا يقصر، فمخالطة الناس والصبر على أذاهم أعظم أجراً ودرجة ممن اعتزل الناس؛ لأنه لم يصبر على أذاهم بلا شك.(48/4)
الحب في الله من شعب الإيمان
قال: [وقال عبد الله بن مسعود: إن من الإيمان أن تحب أخاك عن غير معرفة ولا قرابة ولا مال أعطاك لا تحبه إلا لله]، أي: من شعب الإيمان أن تحب أخاك المؤمن من غير معرفة سابقة ولا قرابة ولا جوار، إنسان قابلته فبدا منه الصلاح والعمل الصالح، وحب الله ورسوله، فهذا الإنسان يجب عليك أن تحبه في الله، وإلا فلا يزال الإيمان في نقصان ويحتاج إلى زيادة.(48/5)
الزهد عن الدنيا من شعب الإيمان
قال: [وعنه قال: إن الله قسم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم]، فالأخلاق رزق كالطعام والشراب، الأخلاق رزق والمنطق رزق، لسانك الذي في فمك هو رزق من السماء، إما أن يكون حلواً لذيذاً يقطر عسلاً أو يقطر سماً وهو اللسان في نهاية أمره، وشتان بين منطق كل لسان واللسان الآخر، فهذا يقطر سماً وهذا يقطر عسلاً، هذا أديب، وهذا فصيح، وهذا بليغ، وهذا مفسر، وهذا محدث، وكل ذلك إنما تظهر آثاره على اللسان.
قال: [وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن يبغض]؛ لأن الدنيا لا قيمة لها، ولا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وهذا من هوان الدنيا على الله.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام عاش حياته كلها يحذر أصحابه الفتن، ومنها وأعظمها فتنة الدنيا، أن يفتن المرء بأي فتنة من فتن الدنيا، فتنة النساء، فتنة المال، فتنة الجاه، فتنة السلطان، كل هذا من فتن الحياة الدنيا.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله لا أخشى عليكم الفقر) أو (ما أخشى عليكم الفقر ولكني أخشى أن تفتح عليكم -أي: الدنيا- فتنافسوها كما تنافسوها -أي: كما تنافسها من كان قبلكم- فتهلككم كما أهلكتهم).
فبين عليه الصلاة والسلام أن الدنيا مهلكة، وقال أيضاً: (ويقول الإنسان: مالي مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، ولبس فأبلى)، فالذي هو حريص على جمع المليارات هو يحب من؟ ميمون بن مهران رضي الله عنه ورحمه يقول: عجبت لجامع الدنيا يحاسب عليها مرتين، يعني: يحاسب على ماله مرتين، أو قال: يسأل عنه مرتين، يتركه كله ويسأل عنه كله.
ولو أنه جمعه من حلال وأدى حق الله فيه فنعم المال الصالح للعبد الصالح، لكن الحذر كل الحذر لمن يجمع الدنيا من حل وحرام من أجل أن يبقى عنده مال، فلو لبس أحسن الملابس، وركب أحسن المراكب، وأكل أفخر الطعام، فلا بد أنه سيترك المال لورثته، ثم يسأل عن هذا المال كله يوم القيامة، فيشقى به حياً وميتاً.
في الوقت الذي لا تضمن فيه أن هذا المال ربما يكون سبباً لفتنة أبنائك، فما وجدت أعظم من أن يعرق الإنسان بجبينه في جمع لقمة عيشه، وإذا أتت الدنيا إلى آحاد الناس بسهولة لا بد أنها تذهب عنه كذلك بسهولة، الإنسان منا لو أنه جد واجتهد في جمع الدينار والدرهم لا بد أنه يحافظ عليه ويفكر ألف مرة قبل إنفاقه.
أما إنسان انتقلت إليه الملايين أو الألوف عن طريق الميراث مثلاً أو الهدايا أو المنح والهبات فإن هذا المال يكون أهون عليه من أن يفكر مرة واحدة حين إنفاقه، ولذلك فإن أصحاب الأعمال هم أنجح الناس، كالذي يعمل بمسحاته وفأسه وفي مصنعه وفي شركته بيده ويبيت في ليله مكدوداً من عمل يده طول النهار، فهؤلاء هم أنجح الناس وهم الرجال وعليهم اعتماد الأمة.
أما هؤلاء المرفهون المترفون الذين يرتعون في أموال آبائهم وأمهاتهم لا يدرون من أين أتت هذه الأموال فهم كذلك لا يدرون كيف ينفقون هذه الأموال، وإننا لنعلم أطفالاً مصروف أحدهم يبلغ مائتي جنيه، وهذا في اليوم الواحد وليس في الشهر؛ ولذلك فسد هذا الولد وشرب الخمر، وتعرف على النساء وانحرف أيما انحراف، فكل مجالات الانحراف انحرفها.
فلما استدعانا أبوه لنكلم الولد قلت له: أنا منذ أن رأيت هذا الولد لا يطمئن قلبي له ولا لك، قال: وهل آذاك أحدنا؟ قلت: أنت قد آذيت نفسك وآذيت أمتك، لما دخل عليه الولد وقال: أعطني مصروفي، فناوله الأب خمسين جنيهاً، -أنا قلت: ليتني ابنه- وإذا بالولد يقذف بالخمسين جنيهاً في وجه أبيه، فقلت له: لماذا يا بني عملت هذا؟ قال: أنا مصروفي مائتي جنيه.
وكان من قبل أبوه يشكو لي ظروف الحياة، فقلت: ماذا تعمل؟ قال: أنا مدير بنك، قلت: تأخذ كم؟ قال: سبعة آلاف جنيه، فقلت: وتشتكي ظروف الحياة، والإخوة يعملون في المحلات في مقابل مائتين أو ثلاثمائة جنيه في الشهر، وابنك يأخذها مصروفاً في اليوم، قال: أنا مضطر أن أعطيه.
وأعطاه مائة وخمسين جنيهاً، قلت: لا بأس أن تقبل يده من أجل أن ترضيه؛ لأنه ممكن أن يغضب، ويخرج غضبان، قال: إذا لم يأخذ مني مائتي جنيه فإنه سيأخذ السائق ويذهب معه إلى المصنع، وهناك يأخذ بالقوة ما يشاء من خزينة المصنع.
انحرف الولد انحرافاً ما بعده انحراف، ومع هذا كان يتمتع بذكاء خارق، حتى كان أبوه يرسله إلى أعمامه وأخواله وإخوانه في أمريكا وأوروبا لوحده، وعنده من العمر ستة عشرة أو سبع عشرة سنة.
فإذا بهذا الولد ينقلب بزاوية (180) درجة على والده وعلى والدته فيلقيهما أشد أنواع العذاب، حتى دعا عليه أبوه، وكان دائماً يدعو عليه لما كبر الولد صار الأب من فرط ما تأذى بولده يدعو عليه.
وفي يوم من الأيام اتصلت به شرطة المرور من طريق الصحراوي وقالوا له: أنت فلان؟ قال: نعم، قالوا: وجدنا سائق سيارة مرسيدس نوعها كذا وموديلها كذا، قال: نعم، قالوا: ولك ابن اسمه كذا، قال: نعم، قالوا: تفضل استلمه فإنه مقتول في سيارته، وهذا فعلاً هو نهاية سوء التربية.
قا(48/6)
ذروة الإيمان وكماله
قال: [وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذروة الإيمان أربع -يعني: كمال الإيمان وتمامه أربع- الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص والتوكل، والاستسلام للرب تبارك وتعالى.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: ثلاث من استكملهن فقد استكمل بهن الإيمان -أي: ثلاث خصال من واضب عليها وحققها كاملة فقد حقق الإيمان كله-: إنصاف المرء من نفسه]، من منا ينصف الناس من نفسه؟ بل كل الناس لهم الحق عند هذا الرجل من بعضهم البعض، أما إذا كان حق آحاد الناس عنده فلا حق له؛ ولذلك ينبغي إذا اتهم الإنسان الآخرين أن يكون لنفسه أشد اتهاماً، لا يزكي نفسه فالله تعالى أعلم بمن اتقى.
قال: [إنصاف من نفسك، والإنفاق من الإقتار -يعني: إنسان فقير محتاج ومع هذا يتصدق- وبذل السلام للعالم]؛ لأن هذا دليل المحبة، وسبب لانتشار الإيمان بين الناس، الذي يؤدي بدوره إلى دخول الجنة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، فإفشاء السلام للعالم يوازي قوله عليه الصلاة والسلام: (وألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف) أي: من المسلمين.(48/7)
الجهاد في سبيل الله من شعب الإيمان
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بموعد الله كان شبعه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة)]، وهذا يدل على أن الجهاد من شعب الإيمان، فهذا إنسان حبس فرسه في سبيل الله إيماناً بالله، وتصديقاً بوعد الله عز وجل، فإذا حازه وميزه وقال: هذا الفرس أنا أعده للجهاد في سبيل الله عز وجل، فإذا كانت نيته هكذا إيماناً بالله وتصديقاً بما عند الله من ثواب للمجاهدين، فإن روث هذا الفرس وبوله وطعامه وشرابه كله في ميزان صاحب الفرس، وكذا السيارة، فإنها لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا تتروث، فالله تبارك وتعالى قادر على أن يجعل لك من الثواب أعظم مما جعل لصاحب الفرس.
وهذا مثل حديث: (من خرج من بيته إلى صلاة الجمعة فلا يرفع قدماً ولا يحط قدماً إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة) فمن خرج إلى صلاة الجمعة راكباً فله مثل ذلك، فإن الله تعالى قادر على أن يثيبك الأجر الذي يناسبك، ماشياً أو راكباً، والنبي عليه الصلاة والسلام ذهب للصلاة ماشياً وراكباً.(48/8)
زيادة الإيمان ونقصانه عند الصحابة
أما قانون الصحابة في شعب وخصال الإيمان وإثبات أن الإيمان يزيد وينقص، فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: [هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله عز وجل]، يعني: يا معشر الصحابة! هلموا نجتمع فنذكر الله تعالى حتى نزداد بهذا الذكر إيماناً بالله، إذاً: الذكر سبب لزيادة الإيمان، لكن يكون الذكر على الطريقة السلفية، ليس على الطريقة الصوفية.
قال: [وفي حديث علي: إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب]، يعني: نَكتة مثل النقطة، فاللمظة في اللغة هي النَكتة.
قال: [كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة]، يعني: القلب تنكت فيه نكتة إيمان، ثم مع العمل تزداد هذه النكتة أو هذه اللمظة إيماناً، حتى يمتلئ القلب كله إيماناً، يعني: الإيمان بسبب ترك الأعمال يظل في نقصان، حتى لا يبقى منه في القلب شيء، ومع العمل واستمراره يزيد الإيمان حتى يطفح عن القلب ويسيل، فيكون في اللحم والدم والعظم والأحشاء وغيرها، فيمتلئ المرء كله إيماناً؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا في المنام، أن الناس يلبسون أثواباً فمنهم من بلغ ثوبه إلى ثديه، ومنهم من بلغ إلى سرته، ومنهم من بلغ إلى حقوه، ورأى عمر يجر ثوبه، يعني: رأى عمر مسبلاً ثوبه، فهذه رؤيا في المنام لا تفيد جواز الإسبال؛ ولذلك قال الصحابة: (فما أولتها يا رسول الله! قال: بالدين) وهذه رواية البخاري، والدين هو عبارة عن الإيمان والإحسان والإسلام، كما في حديث جبريل عليه السلام.
فـ عمر رضي الله عنه قد بلغ في الديانة والإيمان والإسلام مبلغاً عظيماً حتى فاض عنه، فالإيمان في القلب يكون مثل ما لو أتيت بقدر مثلاً أو إناء من الأواني، فامتلأ بالماء حتى تسرب من الإناء.
قال: [وعن علي قال: الطهور نصف الإيمان]، وهو الوضوء، وفي الحديث: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) وهذا يدل على أن الوضوء شعبة من شعب الإيمان، فمع كل وضوء تزداد إيماناً، ويا حبذا لو أتيت بعد كل وضوء بركعتين.
قال: [وعن عبد الله بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود في دعائه يقول: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً]، وهذا يدل على أن الإيمان يزيد، اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً.
قال: [وعنه قال: ينتهي الإيمان إلى الورع]، يعني: أعظم درجات الإيمان في الورع، والورع أنواع، وأعظم الورع ترك المباح، لكن من كان صدراً في الناس يشار إليه بالبنان أنت لو رأيت واحداً من عامة الناس يجري وراء الحافلة ويستمر يجري على أمل أن يدرك الحافلة ستقول: ما شاء الله، هذا الرجل عنده عزيمة وإصرار، الحافلة ذهبت ومع هذا هو مصر على أنه يدركها، فأنت تنظر إلى هذا الفعل من عامة الناس على أنه عمل جيد، ودليل على الفتوة وعلى قوة العزيمة والإصرار على إدراك المصلحة.
لكن لو وجدت شيخاً قد ألقى محاضرة ثم هو يجري وراء الحافلة، فهذا العمل لا يليق بالرجل هذا، ستقول: كيف تجري وراء الحافلة وأنت شيخ وعالم؟ لماذا لا تركب تكسياً بجنيه؟ أما غير العالم فبالنسبة له هذا عمل مباح.
مثل بعض الناس الذين يسبون الدين، فهم يقولون: الشيخ لا يسب الدين، فإن دين الشيخ غير ديننا، فهذا عيب على الشيخ، لا يصح منه ذلك.
كذلك مثلاً عندما يدخل السينما، فإن أول شخص سينكر عليه هو الذي يقطع التذكرة، وصاحب السينما نفسه ممكن يعترض ويقول: أنت شيخ لا تدخل، وهذا عيب لا يصح، أما أنا فهذه تجارتي، وهذا عملي، إنما منك فهذا عيب لا يصح، هذا لا يستقيم مع أخلاقك ولا دينك، ومعنى هذا أن الناس تعرف منهجك، وتعرف الحلال والحرام، إنما الأمر من باب وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
فهنا ينبغي للشيخ أو لطلاب العلم أن يتورعوا عن بعض أو كثير من المباح، وهذا أعلى درجات الورع.
قال: [ومن خير الدين -أي: ومن أعظم الدين- ألا تزال تالياً باكياً]، يعني: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل وأنت باك، وهذا من أعظم شعب الإيمان.
قال: [من ذكر الله ومن رضي بما أنزل الله من السماء أدخله الله الجنة إن شاء، ومن أراد الجنة لا شك فيها فلا يخاف في الله لومة لائم]، من أراد الجنة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فلا يخشى في الله لومة لائم؛ لأن أعظم ما يمكن أن يحققه من لوم اللائمين القتل.
بمعنى: لو أراد أحد أن ينكر عليك وأنت تدعو إلى الله عز وجل، فإن أعظم ما يمكن أن ينزله بك هو القتل، وقبل ذلك السباب والشتم والتعذيب والضرب وغير ذلك، فأعظم درجة يوقعها أعداء الملة بك وأنت تدعو إلى الله هي القتل، فإن قتلت وأنت تدعو إلى الله عز وجل فهذا عين الشرف.
أذكر منذ حوالي سبع أو ثمان سنوات ونحن في الحرم، مات رجل عالم من علماء الحرم بعد صلاة العصر وهو يلقي الدرس، فالفضائل التي اجتمعت على هذا الرجل، أنه رجل من أهل العلم والإيمان -نحسبه كذلك- وأتاه الموت وهو يلقي الدرس بعد صلاة العصر، وفي بيت الله الحرام، وهو صائم، وكان اليوم يوم جمعة، فهذه الم(48/9)
التعرف على الله تعالى والإيمان به قبل تعلم القرآن
قال: [يقول جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة -يعني: أشداء- فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن بعد فازددنا إيماناً)، وهذا نص عظيم جداً، أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن.
وهذا يدل على وجوب التعرف على الله عز وجل أولاً قبل دراسة العلم، أو قبل القرآن الكريم؛ ولذلك الذي كان يأتي من أهل الشرك والكفر بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام كان يشهد الشهادتين بين يديه ويدخل في الإيمان، ثم بعد ذلك يتعلم الآيات القليلات من كتاب الله عز وجل فيزداد بها إيماناً.
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: (ما كنا نجاوز العشر آيات من كتاب الله عز وجل حتى نتعلم ما فيها من حلال وحرام وأحكام وإيمان وغير ذلك، فإذا حفظنا ذلك وعملنا به حفظنا غيرها) أي: غير هذه العشر الآيات، كل هذا بعد أن اكتسبوا الإيمان بسبب صحبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا فيه إثبات أن الإيمان يزيد وينقص؛ ولذلك لا يمكن قط أن يستوي إيمان عبد يحفظ كتاب الله عز وجل مع عبد لا يحفظ كتاب الله، لقول جندب وعبد الله بن عمر: ثم نتعلم كتاب الله فنزداد به إيماناً، وهذا يدل على أن من درس كتاب الله لا بد وأن يزداد به إيماناً، بخلاف العبد الذي لم يدرس كتاب الله عز وجل.
قال: [وقال عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه -أمير مصر-: إن الرجل يتفضل بالإيمان كما يتفضل ثوب المرأة]، يعني: يزداد في إيمانه حتى يفضل عنه، يقصد أن الإيمان يزيد زيادة ملحوظة حتى يشمل ويعم جميع صاحبه ويزيد عنه، كما أن ثوب المرأة ينبغي أن يكون ساتراً وزائداً، كما في حديث أم سلمة لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إزرة المؤمن إلى منتصف الساق، فإن أبى ففوق الكعبين، فقالت أم سلمة: وإزرة النساء يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى الأرض -يعني: أن يبلغ ثوبها الأرض- قالت: يا رسول الله! إذاً ينكشفن) المرأة لما يكون ثوبها إلى الأرض ثم تركع أو تسجد ممكن تنكشف، فـ أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (إذاً ينكشفن يا رسول الله! قال: تزيد شبراً -وفي رواية- ترخي أو يرخين شبراً، قالت: إذاً ينكشفن يا رسول الله! قال: يرخين ذراعاً ولا يزدن عليه) معذرة في سياق الرواية أنا أتيت بها بالمعنى ولذلك زدت فيها.
لما كانت أم سلمة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن ثوبها قال: (يرخين شبراً) لم يقل إلى الأرض، وإنما قال: يرخين شبراً تحت الكعب، فقالت: (إذاً ينكشفن) قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرخين ذراعاً لا يزدن عليه) يعني: لا يجوز أن تطيلي بعد هذا، هذا آخر حد المرأة، المرأة التي ترخي شبراً أو ذراعاً من ثوبها بعد كعبها لا شك أنه يجرجر خلفها، ويفيض على الأرض، فكذلك الإيمان يتفضل في العبد كما يتفضل ثوب المرأة، يعني: يزيد ويكون زائداً كما يزيد ثوب المرأة عن عادته.(48/10)
حكم من قال بأن الإيمان هو التصديق فقط
قال: [وقال حذيفة: إني لأعلم أهل دينين في النار]، يعني: أنا أعرف فرقتين في النار، وإن كانوا يدينون بدين واحد، ويزعمون أنهم مسلمون.
قال: [يقولون: الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق]، يعني: يقولون: الإيمان تلفظ فقط، وهذا قول المرجئة، وغلاة الجهمية.
فالمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، يعني: لو أن العبد صدق بقلبه يكون كفاية، لكن الجهمية يقولون: الإيمان هو الإقرار، يعني: لا بد أن يقر العبد بلسانه أنه مسلم، وكلاهما باطل.
فيقولون: الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق وإن قتل، وهم يقولون: إن من كان قبلنا كانوا ضلالاً، وهذه الفرقة الثانية يزعمون أن الصلوات ليست خمساً وإنما هي اثنتان، واحدة في الصباح وواحدة في المساء، فالقائلون بهذا حوالي ثنتي عشرة فرقة من فرق الضلالة.
والحقيقة ليست كل فرقة قالت هذا وإنما بعض الفرق الفرعية التي تشعبت عن الفرق الأصلية قالوا هذا؛ ولذلك هذا القول غير مشهور.
لكن الصلاة أمر معلوم من دين الله بالضرورة، من حيث العدد أمر معلوم، فمثلاً: لو قال رجل: الظهر ثلاث ركعات، لا نقبل منه هذا الكلام، ولا يحل له أن يقول هذا، فأنت لما تسأل طفلاً صغيراً لم يبلغ الحلم: كم ركعات صلاة الظهر؟ يقول لك: أربع ركعات، ولما تقول له: والصبح كم ركعة؟ يقول لك: ركعتان وهكذا، فهو يريد أن يقول لك: إن عدد الصلوات والركعات من الأصول التي لا يقبل من أحد خلاف ما هو مجمع عليه، وما جاء في الكتاب والسنة فيها.
وهناك شخص يقول بهذا القول وهو لا يخفى عليكم، وهو المعروف بـ إيهاب بن حسن السلفي الأسدي، فقد كتب كتاباً ينكر فيه دخول الجني في الإنسي، وأنا لما قرأت قليلاً من هذا الكتاب ما طقت، لأنه كلام ليس فيه روح العلم ولا نور العلم ولا إيمان أبداً، كلام من عند نفسه، لم يرجع فيه إلى أحد من أهل العلم، وقد رد عليه سماحة الشيخ ابن باز وسلخه سلخاً.
فـ ابن باز قال بجواز دخول الجني في الإنسي، فقلت للذي أعطاني الكتب: أنا لا أستطيع قراءة هذا الكتاب، وأرجعه للحيوان هذا وأخبره أنه لا بد أن يبتلى في دينه؛ لأن هذه ضريبة الوقوع في أعراض أهل العلم، هذا ليس من عندي ولا أنا مكشوف عني الحجاب، لكنها سنة الله تعالى الكونية في الخلق، أن الذي يقع في أهل العلم لا بد أن يبتلى؛ لأن أهل العلم يقولون: لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وما تعرض أحد لعالم بالثلب إلا ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فقلت له: سيبتلى، وفوجئنا بثنتي عشرة رسالة، منها: الرد على جهالة الألباني، والرد على سفالة الألباني، فكل عنوان رسالة، فيزين العنوان حتى أن الناس تقرؤه وتشتريه، وهكذا.
ففي هذه الرسالة تضعيف ما صححه الألباني، وتصحيح ما ضعفه الألباني، فهذا لا يمكن أن يصدر من إنسان سوي محترم، فلم يكتب لهذه الكتب القبول، بل صبت اللعنات والسباب والشتائم على قائل هذه الكلمات، وما برح هذا الرجل أن مضى على طباعة هذه الكتب سنة أو سنتين إلا وسمعنا أنه يخطب في الناس ويقول: بأن الصلوات الخمس لم يثبت بها دليل، إنما هما صلاتان في الصباح والمساء، قلت: الحمد لله أنه وصل إلى هذه المرحلة، الحمد لله أنها جاءت منه، من أجل يأخذ الختم الأحمر ليس خسارة فيه.
قال: [إني لأعلم أهل دينين في النار، يقولون: الإيمان كلام وإن زنا وقتل]، يعني: يقولون: الإيمان هذا عبارة عن إقرار، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يكون إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإن أتى جميع القبائح والنقائص، فهم لا يعدون العمل من الإيمان.
قال: [وقوم آخرون يقولون: إن من كانوا قبلنا ضلالاً يزعمون أن الصلاة ليست خمساً وإنما هما صلاتان: صلاة العشاء وصلاة الفجر].(48/11)
معنى زيادة الإيمان ونقصانه عند السلف
قال: [وفي تفسير الزيادة والنقصان يقول عمير بن حبيب: الإيمان يزيد وينقص، قيل له: ما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله عز وجل وحمدناه وسبحناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا فذلك نقصانه]، وهذا يدل على أن العمل من الإيمان.
قال ابن رواحة وابن عمر وابن مسعود ومعاذ وعمر وغيرهم: إن الزيادة هي ذكر الله تعالى، والنقصان ضد ذلك، وهذا قد ثبت عن غير واحد من السلف.
أما أقوال التابعين فقال كعب: [من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وسمع وأطاع توسط الإيمان]، يعني: بلغ في الإيمان وسطه ونصفه.
قال: [ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان]، فهذا يدل على أن الإيمان له أصل ووسط وكمال.
أصل: وهو لا يمكن أن يقبل من عبد أن يأتي الله بغيره، وهناك فرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فالإيمان المطلق هو الكامل، ومطلق الإيمان هو أصل الإيمان، هذا لا بد أن يكون موجوداً مع كل إنسان مسلم.
ولما قال الله تبارك وتعالى للأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، يعني: إسلام ليس معه أي إيمان لا يمكن أن يقبل منه؛ ولذلك لو قال إنسان بلسانه فقط دون أن يعتقد بقلبه ما يقول: آمنت بالله ورسوله، لو قالها بلسانه ولم يكن لها ظل في قلبه ولا رصيد في قلبه لا يقبل ذلك منه عند الله، وهو منافق؛ ولذلك قالها المنافقون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وقبلت منهم وعوملوا على أنهم مسلمون، ولم يقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه عرفهم بأعيانهم وأسمائهم وذواتهم، بل وأخبر بعض أصحابه بأعيانهم، ولذلك لما نصح عليه الصلاة والسلام أن يقتلهم حيث عرفهم، قال: لا، مخافة أن يتحدث الناس غداً أن محمداً يقتل أصحابه، صناديد الشرك يعرفون أن عبد الله بن أبي ابن سلول هو رأس المنافقين؛ لأنه لا تزال الصحبة بينه وبينهم قائمة، لكن لو أن النبي عليه الصلاة والسلام قتلهم فإن هؤلاء على الأقل سيقولون: ألم نقل لكم: إن محمداً يقتل المسلمين، فقد قتل عبد الله بن أبي ابن سلول، رغم أنه كان يصلي ويصوم ويجاهد معه، فما الداعي في قتله؟ ألم نخبركم من قبل أن محمداً يقتل أصحابه؟ إذاً: هذا باب من أبواب الصد عن دين الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل هؤلاء لأجل المصلحة العامة، وهي مصلحة الإسلام.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم) والمعنى: أن نقض الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم هو الأولى، وهذا من المصلحة الشرعية، لكن المصلحة الخاصة هي ألا يقول المشركون والمنافقون والملحدون في زمانه: أرأيتم الكعبة معظمة ومشرفة قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ألم تكن معظمة عند أهل الجاهلية؟ هذا محمد بعدما سفه أحلامنا وجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً، رجع إلى الكعبة وهدمها، وأنتم تعرفون أنها معظمة ومشرفة.
قال كعب: من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان.
وقال: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا إيمان لمن لا أمانة له) يعني: أنه إنسان خائن للأمانة دائماً يبقى معه أصل الإيمان الذي هو مطلق الإيمان، أما كمال الإيمان وتمامه فلا، حتى يكون أميناً، ويتعلم كيف يكون مؤتمناً على ما كلف بحفظه ورعايته، ففي الحالة هذه يزداد إيماناً.
قال: [وقال الحسن في قوله تعالى: {َمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] قال: ما زادهم البلاء إلا إيماناً بالرب، وتسليماً للقضاء].
وبعض الناس ما زادهم البلاء إلا تسخطاً على الله عز وجل وعلى شرعه وقدره، أما أهل الإيمان فما زادهم البلاء إلا إيماناً بالله، لما ينزل على أحدهم البلاء يكون مثل الذهب الذي أدخل النار، فيصير خالصاً؛ ولذلك لا بد من الابتلاء.
إذاً: القضية كلها متعلقة بك أنت وليس بالغير.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(48/12)
الأسئلة(48/13)
صفة توبة من سب الدين
السؤال
من سب الدين فهذا كفر مخرج من الملة، فكيف الدخول في الملة مرة أخرى؟
الجواب
على أية حال السائل مصيب في هذا، وإن كان قد حدث عنده في الفهم لبس.
سب الدين لا يختلف أحد أنه كفر؛ ولذلك نقل الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم الصارم المسلول في حكم سب الرسول، تعرض في المسألة الرابعة لسب الدين وقال: أجمع العلماء نقلاً عن ابن عيينة وسفيان الثوري على أن سب الدين كفر لا خلاف على ذلك.
لكن الخلاف هو مناط البحث في الساب نفسه، هل يكفر بسبه للدين؟ إذاً: نريد أن نفرق بين القول وقائله، فالقول هو سب الدين وهو كفر بلا خلاف بين أهل العلم.
أما القائل أي: الساب هل يكفر بهذا أم لا يكفر؟ هذا الذي وقع فيه الخلاف والاجتهاد، فبعضهم قال: يكفر، وبعضهم قال: لا يكفر إلا إذا توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع، فمن موانع إلحاق الكفر بقائل الكفر أن يكون ناقلاً لذلك عن الغير؛ ولذلك أهل العلم يقولون: ناقل الكفر ليس بكافر، كمن كلف بتوصيل أو نقل رسالة فيها كفر.
وكمن قال: سمعت فلاناً يسب الدين، ويحكي قوله، أو أن القاضي يسأل الشاهد ويقول: ماذا سمعته يقول؟ فيقول: سمعته بأذني ورأته عيناي يسب الدين ويقول كذا وكذا، فهذا القول كفر لكنه ناقل له لا فاعل له على الحقيقة، هذا مانع من الموانع.
المانع الثاني: أن يكون مجنوناً، إنسان مجنون سب الدين، ليس عليه حرج، وصبي لم يبلغ ولم يعرف خطورة الأمر ليس عليه حرج كذلك.
والعجيب أنني سمعت امرأة شامية تدرس نساء فيما يتعلق بسب الدين وكان ذلك سنة 1983م، وتقول لهن: وكذلك من الموانع: امرأة حائض، هذا عذر، فهذا ليس عذراً.
وقالت لهن: إن رفع الفستان قريباً من الركبة أمر جائز ليس حراماً، واستشهدت بقول الله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:44].
ومن الموانع كذلك عدم توجه القصد والإرادة، كمن يسب الدين وهو لم يقصد دين الله الذي نزل من السماء، إنما قصد بالدين أخلاق المسبوب وأفعاله، هذا لا يكفر، لكن يعزر لأنه أطلق السب على الدين.
وكذا من توجهت إرادته لغير دين الله، فلو أن إنساناً سب الدين فقلنا له: ماذا تقصد؟ قال: أقصد دين الله الذي نزل من السماء على محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا يكفر، فالذي توجهت نيته وإرادته إلى سب دين الله والذي توجهت إرادته إلى سب أخلاق المسبوب لا يستويان في الحكم.(48/14)
حكم منح المدير إجازات للموظفين من غير أيام الإجازة الرسمية
السؤال
أنا أعمل في إحدى الشركات وصاحب القرار في هذه الشركة هو المدير، فاجتهد المدير في أن يعطي لكل موظف في الشركة يوم راحة، وكأنه يقصد غير يوم الجمعة، فهل هذا يجوز له أم لا يجوز؟
الجواب
إذا كان قد خول من قبل الدولة في إدارة هذه الشركة، وأن الحكومة قد أعطته الحق في أن يدير هذه الشركة بما يجلب عليها المصلحة والنفع، ورأى هذا المدير أن المصلحة في أخذ يوم أو اثنين إجازة فلا حرج على الموظفين في قبول هذه الهدية.(48/15)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الاستثناء في الإيمان
اختلف السلف رحمهم الله في مسألة الاستثناء في الإيمان إلى مذاهب مختلفة، والصواب -كما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية- هو التفصيل، وهو أنه إن صدر الاستثناء عن شك فهو حرام، وإن صدر تورعاً من العبد مخافة أن يزكي نفسه فهو واجب.
والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة، ولم يخالف في ذلك إلا المبتدعة كالمرجئة القائلين بحرمة الاستثناء في الإيمان.(49/1)
سياق ما ذكر في وجوب الاستثناء في الإيمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما ذُكر من كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين من بعدهم، والعلماء الخالفين لهم في وجوب الاستثناء في الإيمان].(49/2)
المذاهب في حكم من قال: (أنا مؤمن إن شاء الله)
جاء في الحديث: (من حلف فاستثنى -أي: في يمينه- لم يحنث) أي: لو قال رجل: والله لأفعلن كذا إن شاء الله فإن لم يفعل فلا حرج عليه ولا كفارة، لأنه علق الفعل على مشيئة الله عز وجل، فهل يجوز لمسلم أن يقول: أنا مؤمن بغير أن يعلق هذا الإيمان على مشيئة الله عز وجل، أي: بغير أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؟ هذه المسألة أخذت مآخذ وردوداً عند أهل العلم قديماً وحديثاً، وهذه القضية فيها أربعة مذاهب: المذهب الأول: وهو مذهب الأحناف قالوا بحرمة الاستثناء، أي: أنه لا يجوز عند الأحناف أن يقول المؤمن أو المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله، أو تعليق الإيمان على المشيئة، وهذا الحكم جرياً عندهم على أن الإيمان هو التصديق أو القول، وهذا هو مذهب الجهمية من قبلهم.
فقالوا بحرمة الاستثناء، لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب، أو هو قول اللسان، ويقولون: هذا التصديق لا يتصور نزوله إلا إلى الكفر البواح، وأن التصديق عندهم لا يقبل الزيادة والنقصان، ولذلك هم يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن الإيمان عندهم تصديق، كما أن الإيمان عند الجهمية قول باللسان وقد قال، أي: قد نطق بالشهادتين وقال: أنا مؤمن بالكتاب والسنة وغير ذلك، فلا يتصور الرجوع عن هذا القول باللسان ولا ترك الاعتقاد القلبي أو التصديق عند المرجئة إلا من باب الشك.
ولذلك يقولون: من استثنى في الإيمان فإنما مرده إلى الشك في إيمانه، ولذلك يسمون أهل السنة الذين يقولون بوجوب الاستثناء بأنهم شكاكون، وهذا المصطلح معروف في كتب الاعتقاد التي صنفها المرجئة والجهمية، لأن الإيمان عندهم تصديق وقول أو تصديق أو قول، وقد قالوا وقد صدقوا، فلا يشكون ولا يعلقون هذا الإيمان على مشيئة الله عز وجل، لأنه قد وقع منهم حقيقة، فلماذا يعلقونه إذاً؟ المذهب الثاني: وهو مذهب عامة السلف يقولون بوجوب الاستثناء، وهذا يعتبر مذهب مناقض للمذهب الأول، فالمذهب الأول يقول بحرمة الاستثناء، وهذا المذهب يقول بوجوب الاستثناء.
وهذا المذهب اعتمد على اعتبارين: الاعتبار الأول: أن الإيمان هو ما يُختم به للمرء لا ما يحيا به، فالعبرة عند عامة السلف في الإيمان بما يُختم للعبد به، وهذا في المستقبل.
فربما عاش العبد في إيمان فيما يبدو للناس وخُتم له بغير ذلك، كما في حديث عبد الله بن مسعود (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
فالأعمال بالخواتيم كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، والإيمان عمل قلب وعمل جوارح، وإذا كانت هذه الأعمال بالخواتيم فإن الإيمان إنما يُحكم به للعبد إذا خُتم له بذلك، والعبد لا يعلم ذلك من نفسه؛ لأن هذا أمر سيكون في آخر حياته، فكيف يتعرف عليه العبد؟ فهم يقولون: لا بد أن يقول العبد: أنا مؤمن إن شاء الله، أي: إن قدر لي ذلك في المستقبل وختم لي به، وإلا فأنا لا أعرف شيئاً.
الاعتبار الثاني بهذا المذهب: هو أن عدم الاستثناء تزكية للنفس، وشهادة لها بأنها من الأتقياء الأبرار.
فلو قال عبد: أنا مؤمن، فكأنه يقول: أنا من أهل الجنة، مع أن بعض الصحابة رضي الله عنهم رغم أنهم مبشرون بالجنة كانوا يخافون أشد الخوف على أنفسهم من النفاق في أعمالهم وأقوالهم، وقد ورد هذا عن أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا يعني أنهم لا يأمنون مكر الله عز وجل، ولا يعرفون ما يُختم لهم به، ولذلك قال عامة السلف أن الاستثناء في الإيمان واجب من باب الهروب من تزكية المرء نفسه.
وعلى العبد أن يأتي بجميع المأمورات وأن يكون قد ترك جميع المنهيات، وأن عبداً ما ليس في وسعه أن يفعل هذا كله، فالعبد الكامل الإيمان إنما هو الذي حقق المأمورات وترك المنهيات، ومن من الناس لم يقع في معصية؟ أو لم يترك أمراً أمر الله عز وجل به أو أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام؟ فإذا كان أحدنا فرط في الأمر أو اقترف النهي، فكيف يزعم أنه مؤمن كامل الإيمان حينئذ؟ إذاً: عندنا مذهبان: مذهب يقول بحرمة الاستثناء وهو مذهب المرجئة والجهمية.
والمذهب الثاني وهو مذهب عامة السلف: القائل بوجوب الاستثناء تحقيقاً لمخافة الله عز وجل وخشيته، وهروباً من تزكية المرء نفسه، وكذلك هروباً من الشهادة لنفسه بأنه من الأتقياء الورعين المتقين.
والمذهب الثالث: يذهب إلى التفصيل، فإن صدر الاستثناء عن شك في أصل الإيمان فهذا بلا شك حرام بل كفر.
فعندما يسألك سائل: هل أنت مؤمن؟ تقول: أنا لا أعلم ذلك من نفسي هل أنا مؤمن أم لا وما معنى الإيمان؟ فإنه إذا صدر جوابه هذا من باب الشك في الإيمان وأصوله فلا شك أنه كافر.
وإن صدر استثناؤه في الإيمان من باب التورع عن التزكية والشهادة فهو واجب مخافة الوقوع في التزكية وإثبات أنه من المتقين أو الأبرار أو من أهل الجنة.
المذهب الرابع: هو التوقف واعتبار أن توجيه مثل هذه الأسئلة بدعة في الدين، ولذلك أنكرها كثير من السلف كالإمام(49/3)
الأدلة على وجوب الاستثناء في الإيمان
أما الإمام اللالكائي فإنه رجح المذهب الثاني القائل بوجوب الاستثناء، فذكر من أدلة ذلك: [من كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح:27]]، أي: أن الله تعالى علم أنه لا بد ولا محالة أنهم داخلون المسجد الحرام.
قال: [وقوله تعالى كذلك: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] والمؤمنون يكونون في الجنة قال النبي عليه الصلاة والسلام حين دخل المقبرة: (إنا إن شاء الله بكم لاحقون)]، مع أنه لو قال: إنا بكم لاحقون لما أخطأ في ذلك، لأنه لا محالة سيموت الأحياء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فلماذا علق اللحوق بأصحاب القبور والموتى على المشيئة؟ مع أن ذلك لا بد أنه واقع.
وروي عنه عليه الصلاة والسلام بسند ضعيف: (من تمام إيمان المرء استثناؤه في كل كلام) أي: تعليق كل كلام المرء على مشيئة الله عز وجل.
وروي عن عمر وهو كذلك حديث ضعيف قال: من قال أنا مؤمن حقاً فهو كافر حقاً، وهذا كلام لم يثبت عنه رضي الله عنه.(49/4)
القائلون من الصحابة والسلف بالاستثناء في الإيمان
وروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعائشة وابن أبي مليكة الاستثناء في الإيمان.
قال ابن أبي مليكة: أدركت كذا وكذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات رجل منهم إلا وهو يخشى النفاق على نفسه.
وابن أبي مليكة أدرك أكابر الصحابة.
أما التابعون فمنهم طاوس والحسن ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وأبو البختري سعيد بن فيروز والضحاك والأعمش ومنصور وإسماعيل بن أبي خالد وعطاء بن السائب وحمزة الزيات وعمارة بن القعقاع ومغيرة بن مقسم ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم ومحل بن خليفة.
ومن الفقهاء كذلك ابن شبرمة ومعمر والثوري وابن عيينة وجرير وابن المبارك والقطان قالوا جميعاً: وما أدركت أحداً من أصحابنا وما بلغني عنه إلا الاستثناء.
وكذلك عن أحمد وأبي عبيد وأبي ثور الاستثناء في الإيمان.(49/5)
الاستثناء في الدعاء عند المقابر
قال: [وعن ابن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا أتى على المقابر) أي: زار المقابر، وفي رواية سفيان: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا خرجنا إلى المقابر قال: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم لنا سلف، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)].
الشاهد هنا: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فحينما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا محالة هو وجميع الخلق لاحقون بأهل القبور، فلماذا علق ذلك على المشيئة؟ قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقبرة فسلم على أهلها فقال: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد).
وعن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى البقيع فقال: سلام عليكم وإنا بكم لاحقون إن شاء الله، أسأل الله ألا يحرمنا أجركم ولا يفتنا بعدكم)].(49/6)
عدم حصول الولد لسليمان عليه السلام لعدم استثنائه
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن نبي الله سليمان عليه السلام كان له ستون امرأة فقال: لأطوفن الليلة على النساء، وستحمل كل امرأة، ولتلدن فارساً يقاتل في سبيل الله، قال: فطاف على نسائه فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق إنسان، أي: إنساناً معيباً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأة منهن فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله) وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحب -أي صاحب سليمان-: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)]، أي: لأتت كل امرأة بولد فارس يجاهد في سبيل الله عز وجل.
والحديثان في الصحيحين.(49/7)
استثناء النبي في إخباره أنه أتقى الخلق وأعرفهم بالله
قال: [وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال: (يا رسول الله إني أُصبح جنباً وإني أريد الصيام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وإني أُصبح جنباً وإني أريد الصيام فأغتسل ثم أُصبح من ذلك صائماً، فقال الرجل: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقيه)] أي: بما أتقي من عذاب الله عز وجل، أو بمن أتقي أي: بالله عز وجل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام رد على هذا الرجل الذي يقول: أنا أُصبح جنباً وإني أريد الصيام، فماذا أصنع؟ أي: يؤذن الفجر ويدخل وقت الصبح وأنا جنب، وإني أريد الصيام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لهذا السائل: وأنا يحدث لي مثل الذي يحدث معك، فأُصبح جنباً من جماع غير احتلام فأغتسل وأصلي الصبح، ثم أصوم ولا يمنعني هذا.
قال: يا رسول الله! إنك لست كهيئتنا، أنت رجل قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت خير الخلق، وأنت أول من ينشق عنه القبر، وأنت الشافع المشفع، وأنت وأنت وظل يعدد من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام، أي: أنت في غنى عما نحن فيه.
وقصة الثلاثة الذين أتوا إلى بيته يسألونه عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنهم تقالوها قالوا: إنما يلزمنا أن نجتهد في العبادة، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، أما نحن فنؤاخذ بذنوبنا، فنحن نحتاج إلى مزيد من الطاعة حتى تشفع لنا طاعتنا عند ربنا.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا كنتم تقولون إنني أول من تنشق عنه الأرض وقد غفر الله لي وكذا وكذا وظللتم تعددوا من خصائصي ومناقبي، كأنه أراد أن يقول لهم هذا، فإن الذي قد حباه الله تعالى بهذه الخصائص إنما يلزمه أن يكون أخشى الناس لله وأتقاهم له، وإن العبد إنما يعبد ربه على نحو خوفه ورجائه في الله عز وجل، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الناس بالله فلا بد أنه أعلم الناس بما عنده من نار وبما عنده من جنة بما عنده من ثواب وبما عنده من عقاب، فالذي يعلم ما عند الله من خير وشر، من جنة ونار، من ثواب وعقاب أحق الناس بالعبادة، ولكن الفارق بين عبادة المذنب وعبادة غير المذنب أن عبادة غير المذنب إنما هي عبادة شاكر، أما عبادة المذنب فإنما هي عبادة مستغفر يرجو أن يغفر الله تعالى له ذنبه.
ولذلك قال: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقيه) والحديث أخرجه مسلم.(49/8)
استثناء النبي في ادخاره دعوته لأمته يوم القيامة
قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له)]، أي: كل نبي له دعوة واحدة مستجابة وهي الدعوة العامة التي تخص الأمة بأسرها، فكل نبي استنفد دعوته في أمته إلا نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [(وإني أريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)]، فلماذا قال: إن شاء الله مع أن الله تعالى خيره بين أن يدعو بدعوته أو أن يدخرها شفاعة لأمته في عرصات القيامة، فاختار اختياراً سبق وانتهى أمره وحسم بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي في عرصات القيامة) فلماذا حينما أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه ادخر دعوته علق ذلك على المشيئة؟ مع أن هذا قد مر وانتهى.
قال: (لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له، وإني أريد إن شاء الله) وهذا الشاهد (أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) والحديث كذلك أخرجه مسلم.(49/9)
في ذكر صفات المؤمن والمسلم
قال: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خطب عمر رضي الله عنه الناس بالجابية وهي قرية بالشام فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا، أي: صعد المنبر فخطب الناس ووعظهم فكان فيما قال: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن).
من سرته حسنته أي: من فرح بطاعته واغتم لذنبه، فهذا علامة إيمانه.
وعن عامر الشعبي قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقال له: أخبرني ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عبد الله: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)].
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، مع أن تعريف الإسلام غير ذلك، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يعالج أمراً عند السائل قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وذكر اللسان واليد على جهة الخصوص؛ لأن معظم الأذى إنما يقع بهما ومنهما، معظم الأذى يقع باليد التي تبطش وباللسان الذي ينم ويغتاب ويعير وغير ذلك فمن حفظ لسانه ويده فقد حقق كمال الإسلام الذي هو الاستسلام والخضوع لله عز وجل.
والمهاجر عند الإطلاق يعني الذي يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإيمان، وأصل الهجرة كانت من مكة إلى المدينة، وهذه الهجرة منسوخة إلى يوم القيامة؛ لأن مكة دار إيمان إلى قيام الساعة، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه عرف المهاجر هنا بالتعريف العام للهجرة لا التعريف الخاص، فقال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وفي رواية قال: (المهاجر من هجر المعاصي) والمعنى واحد.(49/10)
الحكم لمعين بالشهادة
قال: [وقال عمر رضي الله عنه: (لما كان يوم خيبر قُتل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة غلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) والحديث أخرجه مسلم].
إذا قلت لفلان إنه شهيد فكأنك تقول إنه من أهل الجنة؛ لأن الشهداء في الجنة، لكن الحرج أن تشهد لفلان بعينه أنه شهيد، فكأنك قلت: فلان بعينه من أهل الجنة، وأنت لا تعلم ما صنع.
ولذلك حينما قُتل هذا الرجل في يوم خيبر، وأنتم تعلمون أن خيبر كانت بين اليهود وبين المؤمنين، وأن القتلى الذين يكونون في مثل هذه المعارك إما قتلى في معسكر الإيمان أو في معسكر الكفر، فأما من قتل في معسكر الكفر فهو في النار لا محالة؛ لأنه مات على الكفر، إلا أن يكون أخفى إسلامه، ولم يقاتل وإنما خرج قهراً أو قسراً وجبراً وأخفى إسلامه مخافة القتل، فهذا بلا شك على معصية في تكثير سواد المشركين، لكن إن دعته دواع للخروج لقتال معسكر الإيمان ولكنه لم يشارك حقيقة في القتال ومات بسيف الإيمان بسبب قتال معسكر الإيمان فهو من أهل الإيمان ومن أهل الإسلام.
أما الذين يموتون من معسكر الإيمان فلا يقطع لهم بالشهادة، إنما نرجو الله أن يتقبلهم في الشهداء، أما القطع لهم بالشهادة حتى لو كانوا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فلا يجوز، ولذلك من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد الله تبارك وتعالى له في كتابه، أو شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته.
ولذلك فالصحابة رضي الله عنهم إنما ساروا على الأصل الأصيل عندهم، وأن من مات في القتال مع العدو فهو شهيد، فساروا بين القتلى وهم يقولون: هذا فلان نعرفه كان في معسكرنا إنه شهيد، وهذا فلان كان في معسكرنا وإننا نعرفه هو فلان بن فلان فهو شهيد، لأنه قُتل في معركة بين المؤمنين والكفار فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلا والله إني رأيته في النار في بردة غلها أو في عباءة غلها).
والذي يحول بين العبد وبين الشهادة بردة أو عباءة أخذها من الغنيمة قبل توزيعها، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161]، ويحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ شيئاً من الغنيمة قبل توزيعها؛ لأنه له فيها الخمس ولا شيء له بعد ذلك.
فقال: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] حتى لو كان نبياً، والغلول كبيرة من الكبائر، ولا يمكن أن يقع النبي في كبيرة، ولكن الله تعالى ضرب هذا المثال لفظاعة الغلول، وأنه مهلك، وأنه حائل بين العبد وبين دخوله الجنة، ولذلك قال: (كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها أو في عباءة أو شملة غلها)، ولذلك حينما رأى الصحابة رضي الله عنهم رجلاً يقاتل قتالاً عنيفاً حتى أن هذا القتال أثار إعجابهم جميعاً قالوا: إن فلاناً يمشي بيننا وهو من أهل الجنة، كأنهم كانوا ينظرون إليه ويعجبون به أيما إعجاب، يظنون أنه من أهل الجنة، بسبب قتاله وقوته وشدته على العدو، فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: (والله يا رسول الله إنا لنرى فلاناً من أهل الجنة، فقال: وإني لأراه من أهل النار) أي: أنتم ترونه من أهل الجنة وأنا أراه من أهل النار، ففزع الصحابة أيما فزع لهذا، إذا كان هذا الرجل على قوة قتاله وتقدمه في صفوف الأعداء من أهل النار، فكأنهم قالوا: فما بالنا نحن؟ قال أحدهم: فتبعت هذا الرجل، فكلما أسرع أسرعت وكلما وقف وقفت أنظر ماذا يصنع؟ أي: ماذا يأتي من الأعمال التي تجعله من أهل النار لا من أهل الجنة، فقال: فأُصيب بسهم فلم يصبر عليه، فوضع ذبابة سيفه في بطنه فاتكأ عليه فخرج من ظهره فقتل نفسه، فذهب هذا الرجل مسرعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله أترى هذا الرجل الذي قلنا فيه إنه من أهل الجنة وقلت فيه إنه من أهل النار، لقد صنع في نفسه كيت وكيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الحمد لله أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) فالأعمال بالخواتيم أسأل الله أن يحسن خاتمتنا جميعاً.
فقال: (يا ابن الخطاب اذهب وناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون).(49/11)
حكم الشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة
قال: [وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الإرجاء بدعة، والشهادة بدعة]، أي: الشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة بدعة مخالفة لمعتقد السلف ومعتقد أهل السنة، والبراءة كذلك بدعة.
قال: [ويقول ابن مسعود: من شهد على نفسه أنه مؤمن فليشهد أنه في الجنة].
هل يستطيع أحد منا أن يقطع لنفسه بأنه من أهل الجنة؟ والله لقد قطع رجل لنفسه بأنه من أهل الجنة فمات على الكفر البواح وارتد عن الدين تماماً، وصنف كتباً يسب فيها الإسلام.
قطع لنفسه بالجنة فحول الله تعالى قلبه، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فيصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، والعكس بالعكس.
والبراءة مختلف فيها، ولذلك يقول المحشي: البراءة المراد بها ما يفعله الخوارج مع بعضهم البعض ومع غيرهم إذا خالفهم في أمر فإنهم يتبرءون منه، ولا يكاد يخلو هذا الوصف في عقائد جميعهم.
قال نافع بن الأزرق: والذي أحدثه البراءة من القعدة.
وقال عن الأزارقة أنها لتتبرأ ممن تقدمها من سلفها من الخوارج، وهكذا تُذكر البراءة في مواطن من عقائدهم.
وكأنه يريد أن يقول: إن ترك البراءة بدعة، أي: حينما يأتي إنسان فيسأل: هل أنت مسلم يا فلان؟ فيجيب: نعم، أنا مؤمن، والحمد لله، ثم يسأل: هل تبرأت من الكفر والطواغيت؟ فيقول: لا، هذا لا يلزمني كمن يأتي إلى أحد من أهل السنة فيقول له: هل أنت من أهل السنة؟ يقول: نعم إن شاء الله، هل تبرأت من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والقدرية وو؟ يقول: لا، أنا ليس لي علاقة بهؤلاء أبداً، لأنه ليس من معتقدي البراءة، إنما من معتقدي الولاء، فأنا أوالي الله ورسوله والمسلمين.
كما يقال لرجل: من تعبد؟ يقول: الشيطان، فيقال: لماذا؟ قال: حتى أتجنب شره، أي حتى يكون بيني وبينه سلم ولا يكون هناك حرب بيني وبين الشيطان فأنا لا أعبده وإنما أراضيه، وبالتالي لا يوسوس لي ولا يتسلط علي ولا يفعل بي أي شيء! هذا الكلام كفر بواح.
فكذلك أهل البدع لا يتبرءون من عقائد بعضهم البعض، ولكن أهل السنة يلزمهم في حسن إيمانهم وإسلامهم إثبات البراءة أولاً ثم إحلال الولاء محل هذا البراء، ولذلك لا يمكن أبداً أن يحقق العبد الإيمان لله عز وجل إلا بالكفر بالطواغيت فكيف تؤمن بالله والطواغيت في وقت واحد؟ لا يمكن أبداً أن يجتمعا في قلب عبد مؤمن.
قال: [وقال علقمة: قال رجل عند عبد الله بن مسعود: أنا مؤمن أي: ولم يستثن، قال: قل: إني في الجنة].
عبد الله بن مسعود يسكته فيقول له: أنت تقول أنك مؤمن ولم تقل: إن شاء الله، ما دام الأمر كذلك فقل أنك في الجنة.
ثم قال ابن مسعود: [ولكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر] إلى آخر فروع وأصول الإيمان.
قال: [وعن أبي وائل قال رجل لـ عبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن! لقيت ركباً فقلنا: من أنتم؟ قالوا: نحن المؤمنون.
وقال أبو وائل: إن حائكاً -أي: خياطاً- من المرجئة بلغه قول عبد الله بن مسعود في الإيمان قال: زلة عالم]، وأنه يقول بوجوب الاستثناء، والمرجئة يقولون بحرمة الاستثناء، أي: أن المرجئ يقول: أنا مؤمن من غير أن يقول: إن شاء الله، وعامة السلف على وجوب الاستثناء مخافة التزكية، ومخافة أن يكون قد فرط في أمر أو ارتكب نهياً أو مخافة أن يُختم له بغير ذلك، وأن الإيمان أمر مستقبل، والعبرة فيه بالخواتيم، وهذا أمر لا يعلمه المرء حتى يموت، فكيف يقطع بالإيمان؟ ولذلك مذهب عامة السلف وجوب الاستثناء في الإيمان.
فهذا المرجئ يقول بغير قول عامة السلف، حينما بلغه أن عبد الله بن مسعود استثنى قال: زلة عالم.
خياط يعدل على عبد الله بن مسعود ولكنه يعلق بأدب، ويثبت أن ابن مسعود لا يفهم شيئاً، ولكن بأسلوب رقيق نوعاً ما فيقول: هذه زلة عالم خياط يعدل على سادس ستة في الإسلام صاحب النعل للنبي عليه الصلاة والسلام.
أحد الخياطين من التابعين يقول عن عبد الله بن مسعود أحد أكابر المحدثين والفقهاء في الصحابة: زلة عالم، وقد أحسن حينما قال أنه عالم، ولكن أخطأ حينما قال أنه زل.
وآخر يقول مثلاً: الشيخ ابن باز شيخ عالم وفاضل، ولكنه لم يوافق التوثيق أو خالف الصواب في هذه المسألة وإذا قلت له: الظهر كم ركعة؟ وما الأدلة على ذلك؟ والله لا يستطيع أن يجيب أن يجيب.
قال: [وعن سلمة بن كهيل قال: اجتمع الضحاك وبكير الطائي وميسرة وأبو البختري فأجمعوا أن الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والولاية بدعة، والإرجاء بدعة].
الشاهد هنا أنهم اعتبروا أن الشهادة بدعة، وهي كذلك.
ولذلك كثيراً ما نسمع الشهيد فلان والشهيد فلان وهذا الكلام لو عرضناه على كلام أهل العلم فإنه لا يصح.(49/12)
حكم من لا يستثني في الإيمان عند السلف
قال: [وقال جرير: سمعت منصور بن المعتمر والمغيرة بن مقسم والأعمش وليث بن أبي سليم وعمارة بن القعقاع وابن شبرمة والعلاء بن المسيب وإسماعيل بن أبي خالد وعطاء بن السائب وحمزة بن حبيب الزيات ويزيد بن أبي زياد وسفيان الثوري وابن المبارك ومن أدركته يستثنون في الإيمان ويعيبون على من لا يستثني].
فالسلف يستثنون في الإيمان، إذا سئل أحدهم قال: أنا مؤمن إن شاء الله، ويعيبون على من قال: أنا مؤمن فقط ولم يستثن.
قال: [وعن جرير بن عبد الحميد قال: كان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني.
وعن محل بن محرز قال: قال لي إبراهيم النخعي: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله].
أي: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ ويمكن السؤال هذا يواجهك، وربما تظل محتاراً في الإجابة عن هذا السؤال بسبب اختلاف العلماء، ولكن قل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والحساب والجزاء والجنة والنار والصراط وغير ذلك وبهذا تكون قد خرجت من الخلاف، فلا تقل: نعم أنا مؤمن، أو أنا مؤمن إن شاء الله.
فعدد أصول الإيمان وقل: آمنت بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فإذا كنت مؤمناً بهذا كله فيكون جوابك من غير إن شاء الله، لأنك قاطع بأنك مؤمن بهذا كله، وهذه غيبيات وأنت قد آمنت بها، وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان في حديث جبريل وغيره بهذا حين سئل عن الإيمان؟ فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) فلو سئلت عن الإيمان فعدد أنك قد آمنت بأصول الإيمان، وأنت الآن مؤمن بالأعمال الموجبة لدخول الجنة، فأنت لم تزك نفسك بعمل، لأن هذا من أصول الإيمان، عليك أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره فأنت قد قررت بأنك آمنت بكذا وكذا وكذا ولم تزك نفسك بخلاف لو قال لك: أنت مؤمن؟ فقلت: نعم أنا مؤمن، مع أن الإيمان يستلزم فوق ما آمنت به غيباً أن تأتي به عملاً وأن تنتهي عنه تركاً، وهذا متعلق بالأوامر والنواهي بالواجبات والمحرمات، فهذا باب آخر غير الباب الغيبي الذي آمنت به.
فلو أنك قلت: نعم أنا مؤمن، فكأنك تقول: أنا قد أتيت من الأعمال ما يستوجب على الله أن يدخلني الجنة، ولكن حينما تقول: أنا آمنت بالله وملائكته وكتبه فأنت هنا تقرر حالتك الإيمانية.(49/13)
الإيمان والإسلام بين أهل السنة والمرجئة والجهمية
درسنا كله متعلق بالإيمان، ولكن يعكر على ذلك تعريف المرجئة والجهمية للإيمان؛ لأن المرجئة والجهمية إنما يعرفونه بمطلق الإيمان لا الإيمان المطلق، وهناك فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان.
وقلنا: إن مطلق الإيمان هو أصل الإيمان، وهي القاعدة التي لا يمكن أن تنزل ولا يتصور نزولها إلا إلى الكفر، وهو التصديق عند المرجئة والتلفظ عند الجهمية هذا تعريف مطلق الإيمان عند الجهمية والمرجئة.
أما الإيمان عند أهل السنة فإنما يعني الإيمان المطلق الكامل، فالاستثناء في درسنا هذا متعلق عند أهل السنة بالإيمان المطلق، أما عند المرجئة والجهمية فإنه متعلق بمطلق الإيمان.
وأنت لا يسعك إلا ما وسع السلف بصرف النظر عنهم، سواء كان سائلك جاهلاً أو عالماً: هل أنت مؤمن؟ قل: نعم أنا مؤمن إن شاء الله.
وحديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أناساً ولم يعط آخرين، فقال: يا رسول الله! أعطيت فلاناً وتركت فلاناً وهو مؤمن قال: أو مسلم؟ قال: بل مؤمن يا رسول الله! قال: أو مسلم؟ ثلاث مرات)، والمعلوم أن المسلم إن وقف عند حد الإسلام فمعه مطلق الإيمان، ومع هذا تغاضى النبي صلى الله عليه وسلم عن مطلق الإيمان، لأن القصد في الإيمان: الإيمان المطلق، وحينما قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14]، والأعراب مسلمون، والمسلم معه أصل الإيمان وهو يسعه أن يدخل الإسلام بهذا الأصل، ومع هذا نفى الله تبارك وتعالى عنهم الإيمان {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14] هل النفي هنا يشمل أصل الإيمان أم الكمال؟ إذاً: يجوز أن أنفي الإيمان عن المرء ولكن هذا النفي ينصب على الإيمان الكامل التام، ويبقى معه أصل الإيمان؛ لأن الله تعالى نفى ذلك عن الأعراب، مع أنه لا يسعهم إلا المحافظة على أصل الإيمان، ومع هذا قال لهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ} [الحجرات:14]، يدخل هنا بمعنى يزداد {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: حينما يزداد الإيمان في قلوبكم، و (لما) التي تفيد نفي الحصول في الماضي ولا تفيد نفيه في المستقبل، أي: أنه سيكون عندكم الإيمان الكامل في المستقبل، فالواحد حينما يسأل: هل أنت مؤمن؟ وهو يعلم أنه مؤمن وأنا أعرف أنه مؤمن، لأن هذا لا يسعنا أن ننزل عنه، وهو مطلق الإيمان، لأن المؤمن بغير هذا اليقين لا يصح منه حتى الإسلام، لكن النزاع في مطلق الإيمان، ولذلك فإن الذين يخالفون أهل السنة هم الجهمية والمرجئة، لأن الإيمان عندهم لا علاقة له بالزيادة ولا بالنقصان، إذاً: فالكلام كله متعلق بالإيمان الكامل.
قال: [وقال حماد بن زيد قال: سمعت هشاماً وهو ابن حسان الأزدي يقول: كان الحسن ومحمد يقولان: مسلم، ويهابان مؤمن].
إذاً: الحسن البصري قد حقق كمال الإيمان، وكذلك محمد بن سيرين، وهما من المنزلة بمكان في قلوب كل الموحدين، لكن لا نستطيع أن نقطع لهما بالجنة، فالجنة ليست ملكاً لأحد، فالذي يجعلك تقطع لفلاناً بالجنة يجعلك تقطع لفلان بالنار، فهل هذا شأنك؟ ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.
قال: [وقال محمد بن سيرين: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق].
كمن يقول لك: في أي جماعة أنت؟ فقل: أنا مسلم.
أو يقول لك: كل الناس هؤلاء مسلمون، ولكن من أي جماعة أنت؟ فقل: ولكني أنا مسلم، على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج السلف الصالح، وعلى ما فهمه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فاختصر هذا وقل: أنا سلفي.
فحينما تقول: أنا سلفي، فعندها أنا سأعرف كيف تفكر.
لأن المصطلح هذا يتناول عدة عناوين ورءوس أقلام ومعتقدات وقواعد، وسأفهم أنك على كل هذه الأصول والقواعد بكلمة واحدة وهي كلمة: سلفي، كما يقول آخر: أنا كذا.
فنكون بهذه الكلمة الواحدة قد عرفنا منهجه كاملاً.
والسلف كانوا يقولون للذي يسألهم عن الإيمان بأنهم قد آمنوا بالله وكتبه ورسله وما أُنزل على نبينا وعلى الأنبياء السابقين وهذا كلام جميل جداً، لأن هذا ليس سؤال عبد، فأنت حينما تقول: أنا مؤمن فتكون قد زكيت نفسك على ربك، فالمسألة متعلقة بالله عز وجل وليست متعلقة بالسائل.
قال: [قال أبو أسامة: قال لي الثوري وأنا وهو في بيته مالنا ثالث ثلاثة: نحن مؤمنون والناس عندنا مؤمنون، ولم يكن هذا أفعال من مضى].
كأن الإمام الثوري يقول له: نحن مؤمنون والناس الذين عندنا أيضاً مؤمنون، لكن لا بد أن تعرف أن هذا ليس نهج سلفنا، إنما نهج سلفنا أنهم لا يقولون نحن مؤمنون إلا أن يستثنوا، و(49/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مذهب المرجئة في الإيمان [1]
لقد تعددت الفرق في باب العقيدة وتنوعت، واختلفت فيما بينها اختلافاً كثيراً، واختطت كل فرقة لنفسها خطاً سلكته وسارت عليه، وتميزت به، ومن هذه الفرق المرجئة، فقد سلكت لنفسها طريقاً خاصاً بها في باب الإيمان بالله عز وجل، ثم إنها انقسمت على نفسها إلى فرق شتى، مبنية على المنهج الأساس، وكل هذه الفرق ضالة منحرفة، تتفاوت في درجة انحرافها بحسب ما عندها من تفصيلات، وقد حذر علماء الإسلام من هذه العقيدة وبينوا قبح لوازمها وفساد نتائج القول بها.(50/1)
الإرجاء بين أهل السنة والمرجئة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فقد ذكر الإمام اللالكائي الإرجاء باعتبار أنه بدعة وفرقة من الفرق الضالة، ولكنه قدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم، فذكر في الفصل الأول ذم الإرجاء وذكر من ذم الإرجاء، ثم عقب بباب لمدح من ترك الإرجاء، ثم ثلث بباب أول ظهور الإرجاء، وكان الحق أن يقدم الباب الثالث بدل الباب الأول.
والإرجاء هو تأخير العمل عن الإيمان، ونحن قلنا في الدروس الماضية: إن العمل من الإيمان.(50/2)
مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل من الإيمان
وكثير من السلف في مصنفاتهم -وعلى رأسهم الإمام البخاري عليه رحمة الله، ومن قبله الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة- التي صنفوها في معتقد أهل السنة والجماعة قالوا: العمل من الإيمان، وكانوا يصدرون هذا الباب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون أو وستون شعبة -وفي رواية عند مسلم - أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، ثم يعقبون هذا بأبواب تتعلق بالعمل، وأنه من الإيمان، وذلك مثل: باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب الحج من الإيمان، باب الجهاد من الإيمان، باب دفع الخمس من الإيمان.
وكل هذه أعمال جوارح، وقد أطلق النبي عليه الصلاة والسلام عليها أنها من الإيمان كما أطلق القرآن كذلك على بعض الأعمال أنها من الإيمان، وأنها الإيمان ذاته.(50/3)
تعريف الإيمان عند أهل السنة وعند المرجئة
تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة مختلف عن تعريفه عند الفرق الضالة، فالإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، وهو يزيد وينقص، بخلاف المرجئة الذين يقولون: الإيمان هو التصديق، ومنهم من قال: هو الإقرار، ومنهم من قال: هو العلم.
فهذه تعريفات ثلاثة للإيمان عند أهل البدع، وليس يصح عند أهل السنة والجماعة تعريف منها.
والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، أي: تصديق القلب، وهو متعلق بالقلب فقط، ولو لم يتلفظ به صاحبه أو يعمل بمقتضاه، وهم متفقون على أن العمل لا علاقة له بالإيمان، ولذلك يقولون: العمل يتأخر عن الإيمان، أي: لا علاقة له به، وبالتالي يستوي عندهم أطوع الناس لله عز وجل ولرسوله الكريم مع أعصى وأفسق الناس لله عز وجل ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، حتى قال قائلهم: يستوي إيمان أفسق الناس مع إيمان جبريل وميكائيل؛ لأن تفاضل الأعمال عنده لا علاقة له بالإيمان، بل الإيمان عنده هو التصديق، وقد صدق جبريل وميكائيل كما صدق هذا الفاسق الزنديق العاصي بأن الله تبارك وتعالى واجد وموجود وموجد، وأنه أرسل الرسل، وغير ذلك.
فالإرجاء هو تأخير العمل عن مسمى الإيمان، وهذه قضية عظيمة جداً، وهي تقريباً بيت القصيد في خلاف أهل العلم قديماً وحديثاً حتى في وقتنا الحاضر، فالذي يؤخر العمل عن الإيمان لا يفسق ولا يبدع ولا يكفر، حتى وإن كان ترك العمل كفراً فإنه لا يكفر تاركه؛ لأنه لا علاقة لهذا العمل بالإيمان أصلاً.
قال الإمام البغدادي في كتابه العظيم الفرق بين الفرق: وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان.(50/4)
أول ظهور الإرجاء وسببه والمقصود به
سبب ظهور الإرجاء أنه كان رد فعل لتكفير الخوارج للحكمين ولـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليس هو الإرجاء المتعلق بالإيمان، يعني: أن أول كلمة إرجاء ظهرت على الساحة كانت في القرن الأول الهجري، وأطلق هذا المصطلح على الحكمين وعلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، والحكمان هما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عنهما اللذان انتخبا لفصل النزاع وفض الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، فلما حصل ما حصل في شهادة الحكمين أرجأ أناس أمرهما إلى الله وعلى رأسهم الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، فـ الحسن لما سئل عن حكم الحكمين، أي: عن عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري أرجأ أمرهما إلى الله عز وجل، وقال: أرجئ أمرهما إلى الله عز وجل، ومن هنا قيل لأول مرة: الإرجاء، أي: أن مذهب الحسن بن محمد بن الحنفية في الحكمين الإرجاء، أي: تأخير حكمهما حتى يحاكمهما الله عز وجل.
فالإرجاء الذي تقدم به الحسن بن الحنفية لم يكن له أدنى علاقة بالإيمان، وليس هو الإرجاء الاصطلاحي الذي ظهر بعد ذلك، وإنما كان عبارة عن تأخير الحكم على الحكمين حتى يحكم الله عز وجل فيهما.
والناظر إلى هذا الكلام لا يمكن أن يقول: إن هذا هو الإرجاء المذموم، بل هو الإرجاء اللغوي، أي: تأخير الحكم على هذين حتى يحكم الله عز وجل فيهما، وأما مصطلح الإرجاء فقد ظهر بعد ذلك واتخذ شكلاً آخر سياسياً، ثم شكلاً آخر شرعياً، وصار له أصوله وقواعده وأتباعه وجماعته وفرقته، ثم استقر مصطلح الإرجاء بعد ذلك على ما يسمى بتأخير العمل عن مسمى الإيمان، وأن العمل لا علاقة له بالإيمان وليس داخلاً فيه.
قال: فإن أول من تكلم في الإرجاء لم يكن كلامه إلا في إرجاء أمر المتقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل، وأول من تكلم في الإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى عام (99هـ)، وقد ذكر ذلك كل من ترجم له، فقال ابن سعد في كتابه الطبقات في ترجمة ابن الحنفية: وهو أول من تكلم في الإرجاء، ويذكر كذلك أن زادان وميسرة دخلا عليه، فلاماه على الكتاب الذي وضعه في الإرجاء، يعني: أن الحسن بن محمد بن الحنفية كتب كتاباً في الإرجاء، وعاب عليه زادان وميسرة لما دخلا عليه أن يكتب كتاباً في الإرجاء، فقال ابن الحنفية لـ زادان: يا أبا عمر! لوددت أني كنت مت ولم أكتبه.
ويبدو من كلامه هذا أنه تكلم في الإرجاء الاصطلاحي ولم يكن الأمر كذلك، وإنما تكلم فيه عن إرجاء أمر المشتركين في الفتنة التي حدثت بعد خلافة الشيخين أبي بكر وعمر إلى الله عز وجل.
وهذا المعنى أكده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه تهذيب التهذيب، فقال: وقد اطلعت على هذا الكتاب، والمراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه هو غير الإرجاء المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة، فهذا إرجاء وذاك إرجاء آخر؛ وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، وأخرجه ابن أبي عمر في كتاب الإيمان له، وقال في آخره: حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس -يعني: الحسن عندما صنف هذا الكتاب في الإرجاء كان يأمر عبد الواحد بن أيمن أن يقرأه على الناس- وقال فيه: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله، وذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية بكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة ولم تشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله.
إلى آخر الكلام.
وهذا محل الشاهد، فقد قال: نوالي ونحب أبا بكر وعمر؛ لأن الأمة أجمعت عليهما، ولم يخالف في ذلك إلا الشذاذ من الشيعة وغيرهم، وأما عثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص وما وقع من فتنة ومن هرج وقتل وإراقة للدماء وغير ذلك فلا نتكلم فيها، بل نكل أمرها إلى الله عز وجل يفصل فيها بما يشاء.
وبلا شك فإن هذا هو الإرجاء اللغوي وليس الإرجاء الاصطلاحي المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة والجماعة، والذي مفاده تأخير العمل عن مسمى الإيمان.
قال: فهذا هو الإرجاء الذي تكلم فيه الحسن بن محمد، وقد أكد(50/5)
اختلاف الفرق في حكم مرتكب الكبيرة
يقول الشهرستاني في بدعة واصل بن عطاء المعتزلي: دخل واصل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج عن الملة، وهؤلاء هم وعيدية الخوارج، -يعني: الذين يأخذون بالوعيد ولا يعتبرون الوعد- وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، يعني: يؤخرون الحكم على صاحب الكبيرة ولا يحكمون عليه بشيء ألبتة، لا بالفسق ولا بالكفر ولا بالإيمان.
والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، يعني: لو قال الإنسان: أنا مؤمن وارتكب جميع الكبائر إلا الشرك فإن هذه الكبائر كلها لا تضر الإيمان؛ لأن العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الإيمان، فكيف تحكم لنا في ذلك يا إمام الدين؟! أي: فكيف تحكم على هؤلاء؟ أو ما هو الحكم الصحيح الصواب في مثل هذا المعتقد؟ ففكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي: لا مؤمن ولا كافر.
وأما المرجئة فهم يقولون: صاحب الكبائر مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن العمل لا علاقة له به، وسواء كان عملاً صالحاً أو عملاً سيئاً، ولذلك يستوي عندهم صاحب المعصية مع صحاب الطاعة، بل المطيع دوماً يستوي عندهم مع العاصي دوماً؛ لإخراجهم العمل عن مسمى الإيمان، وأنه لا علاقة له به.(50/6)
الاختلاف في تعريف الإرجاء
قال ابن الجوزي: المرجئة لقبوا بذلك لأنهم يرجئون العمل عن النية، أي: يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، أو أنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
وقد عرف الإرجاء بتعريفات عدة، الأول: إن الإرجاء هو التأخير، كما قال الله تعالى: {قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ} [الأعراف:111]، أي: أخره وأمهله.
والتعريف الثاني: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، هذا باعتبار إعطاء الرجال، فقد كانوا يعطون المؤمن العاصي الرجاء في ثواب الله، يعني: لا يقنطونه من رحمة الله، ومهما ارتكب من المعاصي فإنهم يبشرونه بأن الله سيغفر له.
وقيل: الإرجاء هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة.
وهذا تعريف ثالث للإرجاء فلا يحكمون على صاحب الكبيرة ولا يقضون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه مثلاً من أهل الجنة أو من أهل النار.
وعلى هذا فالمرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان، فالمرجئة يقولون: لا تضره كبيرته، والوعيدية -أي: الخوارج- يقولون: هو كافر يخلد بكبيرته في النار.
وقيل: الإرجاء هو تأخير علي بن أبي طالب عن الدرجة الأولى إلى الرابعة.
وعلى هذا فالمرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان، فالمرجئة يقولون: علي بن أبي طالب يؤخر إلى المرتبة الرابعة، والشيعة يقولون: هو مقدم على أبي بكر وعمر، بل من الشيعة من جعل علي بن أبي طالب في مرتبة النبوة، ومنهم من جعله في مرتبة الإلهية، وهم السبئية عليهم لعنة الله.(50/7)
فرق المرجئة وأصنافهم
المرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة.
قال ابن الجوزي: وفرق المرجئة خمس، ومنهم من جعلها سبعاً، ومنهم من جعلها عشراً، ومنهم من جعلها ثنتي عشرة، ومنهم من جعلها خمس عشرة فرقة، وهذا لا يضر؛ لأن الذي زاد إنما قسم الفرقة الواحدة إلى أقسام متعددة باعتبار الخلافات الداخلية التي حصلت في كل فرقة على حدة.(50/8)
من فرق المرجئة اليونسية
أول فرق المرجئة: اليونسية، وهم أصحاب يونس النميري، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى، ولا شك أن أعرف الخلق بالله عز وجل هو أول الخلق، وهو إبليس، فهو أعرف الخلق بالله، وأعلم الخلق بقدر الله عز وجل، ولكنه عصى وطغى وبغى.
ومن يسمع هذا الكلام يظن أنه كلام مستقيم ومتزن، فهم يقولون: الإيمان هو المعرفة، أي: هو معرفة الله عز وجل، ولكن هذا التعريف غير كاف؛ لأن من الكفار من يعرف الله تعالى، فمجرد المعرفة بالله عز وجل لا يثبت بها الإيمان لصاحبها، وإلا لكان إبليس من أوائل المؤمنين.
ويقولون: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى والخضوع له والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن، ولا يضر معها ترك الطاعات وارتكاب المعاصي، بل ولا يعاقب عليها صاحبها، يعني: لو أن العبد عرف الله تعالى وأحبه وخضع له وذل فإن أتى بعد ذلك بجميع المعاصي فإنه لا يعاقب عليها.
وهذا كلام كله ضلال؛ لأن إبليس كان عارفاً بالله تعالى، والمرجئة لم يكفروا إبليس لكفره بالله عز وجل، وإنما كفروه لاستكباره وترك الخضوع لله تعالى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
هذه الفرقة الأولى، وكلامها كله تخبيط وخلط.(50/9)
من فرق المرجئة العبيدية
الفرقة الثانية من فرق المرجئة: العبيدية، وهم أصحاب عبيد المكتب، وهؤلاء قالوا بنفس مقولة اليونسية، وزادوا عليها أن علم الله تعالى لم يزل شيئاً غير ذاته، وكذلك باقي صفات المولى تبارك وتعالى، وهذا كلام يخالف كلام أهل السنة.(50/10)
تشبيه العبيدية للخالق بالمخلوق والرد على أدلتهم
قالت العبيدية: إن الله تعالى على صورة إنسان، يعني: قالوا: إن الله تعالى إنسان، وعلى صورة إنسان، ولكنه أجمل وألطف وأطيب وأطهر من الإنسان، وهذا بلا شك تمثيل في غاية القبح، واستندوا في هذا الكفر الذي أتوا به إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، وهذا الحديث في الصحيحين، وفي رواية خارج الصحيحين: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
وهذا حديث مشكل، وبعض أهل العلم ضعف رواية الرحمن، ولكن الصحيح من مذاهب المحدثين أن الحديثين صحيحان.
فقوله: (إن الله خلق آدم على صورته) أخرجه الشيخان، ومناسبته: أن معاوية بن الحكم السلمي لطم جاريته، ثم ذهب يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن كفارة ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تضرب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته)، فقال بعض أهل العلم: الضمير في قوله: (صورته) يعود على وجه المضروب، وربما يكون الأمر كذلك، ولكن الرواية الأخرى: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) يعكر هذا التفسير، وقال المحققون من أهل السنة: إن الله تعالى له ذات وله صورة، وإن العبد له ذات وله صورة، فيكون التقدير: لا تضرب الوجه؛ فإن الله تعالى خلق هذا الوجه وصوره في صورة بمشيئته وقدرته، كما أن لله تعالى صورة تليق بجلاله وكماله.
إطلاق لفظ الصورة على الله عز وجل أمر اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وليس إثبات الصورة لله عز وجل يساوي إثبات الصورة للعبد، كما أن إثبات الصورة للعبد لا تعني بذلك أنه شبيه ومثيل لله عز وجل في صورته.(50/11)
قاعدة في اللفظ المجرد واللفظ المطلق وتطبيقها في مسألة الصفات
اللفظ المجرد دائماً يراد به المعنى المطلق المتبادر إلى الأذهان، بخلاف ما لو قيد هذا اللفظ المطلق، فإذا قلت: يد، تبادر إلى ذهن المستمع يد الإنسان، ولكنه لا يتصور أنها يد محمد أو يد إبراهيم أو يد زيد أو يد عمرو؛ لأن هذه الكلمة مفردة مطلقة غير مقيدة، ولكن لو قلت: يد الله فقد أضفت اليد لله عز وجل، وعند إطلاق هذه اليد مقيدة ومضافة لله عز وجل لا يمكن قط أن يخطر ببال وعقل إنسان تصور ولا تمثل لهذه اليد؛ لأنها يد الإله تبارك وتعالى، وكما خفيت ذاته تبارك وتعالى عن أفهام خلقه فكذلك لابد أن تخفى صفاته عن أفهام خلقه، وإذا قلنا: يد محمد تصورنا يد محمد، ولو قلنا: ضرب عمرو زيداً بيده لم نجد عناء في تصور اليد وتصور الضرب، لأن يد عمرو يد مخلوقة يستوي معها كثير من أيدي المخلوقين، وأما لو قلت: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فهذا فيه إضافة اليد لله عز وجل، ولا يمكن أن نتصور يد الله عز وجل، ولكن هناك قدر مشترك، فإن لله يداً ولمحمد يداً، فالقدر المشترك أن لكل منهما يداً، ولكن عند الإضافة لابد أن تختلف يد الله عن يد محمد، ولذلك لو قلنا: يد فقط لشردت الأذهان إلى تصور اليد وتمثيلها وتكييفها، ولو أضفنا هذه اليد إلى الله فإن الأذهان تتوقف تماماً ولا تخوض في الكيفية، ويحرم عليها التصوير والتمثيل، ولابد أن نثبت أن ليد الله تبارك وتعالى صورة لا يعلمها إلا الله، أما يد محمد فأنا أتصورها وأكيفها وأمثلها وأصورها، فالصورة في اللغة هي الذات المتصفة بالصفات.
والحق تبارك وتعالى له ذات وله صفات، وآدم له ذات وله صفات، واللغة عند تجردها تكون عامة في الاستخدام بين الله وبين الخلق، مثلما لو قلت: عين مطلقة ومجردة ومفردة، فهي في اللغة تعني: العين الباصرة التي يبصر بها المرء، وتعني: الفهم أحياناً، وتعني: الجاسوس والمخبر، وتعني: العين التي ينبع منها الماء، فكل هذه يطلق عليها عين عند التجرد، وأما لو أضفت هذه الكلمة فقلت: عين محمد فيكون المقصود بالعين هنا عين محمد، ولو قلت: عين الله كما في قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فالضمير في (عيني) يعود على عين الله، ولا يستطيع أحد أن يصف عين الله؛ لأنه لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل.
فاللغة عند تجردها عامة الاستخدام بين الله وبين الخلق.
فلما قال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته) أي: في القدر المشترك؛ لأن هذه الألفاظ متجردة عن الإضافة، وصورة آدم بينها وبين الحق تبارك وتعالى ما دل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وصفة اليد عند التجرد صالحة للاستخدام في حق الله وحق آدم، ولكنها لو أضيفت إلى الله فليست هي يد آدم، ولو أضيفت إلى آدم فليست هي يد الله.(50/12)
القدر المشترك والقدر الفارق بين الموصوفات
قال ابن تيمية عليه رحمة الله: ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق، وهذا القدر المشترك يكون عند التجرد والإفراد، مثل لو قلت: يد، فهي عند الإطلاق تصدق على يد الله وعلى يد آدم، وأما عند التقييد والإضافة مثل قولنا: يد الله فهذه الإضافة تخرج يد آدم، ولو قلنا: يد آدم فإنه يخرج منها يد الله عز وجل.
فالقدر المشترك بين يد الله ويد آدم هو الاسم فقط، والقدر الفارق أن يد الله تختلف عن يد آدم.
وهذا حتى في الفاكهة ففي الجنة تفاح ورمان وزيتون، والتفاح والزيتون والرمان الذي في الجنة لا يشترك مع التفاح والزيتون والرمان الموجود في الدنيا والذي نأكله نحن الآن إلا في الأسماء، فالذي في الجنة غير الذي في الدنيا، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا يدل على أن الاشتراك بينهما في الاسم فقط، وأما الكنه والكيفية فتختلف تماماً، ففاكهة الدنيا وإن اشتركت مع فاكهة الآخرة ونعيم الجنة في الاسم إلا أنها تختلف عنها في الكيفية، ومن باب أولى أن تختلف الأوصاف المخلوقة في الدنيا مع أوصاف الخالق تبارك وتعالى، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، وهذا القدر المشترك يكون في الاسم، والقدر الفارق يكون في الأوصاف والكيفيات.
يقول ابن تيمية: فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، فالمعطلة والجهمية قالوا: لو أثبتنا لله يداً وعيناً ورجلاً وغير ذلك فسيكون في النهاية إنساناً، ولذلك نفوا جميع الصفات، والنفي بمعنى التعطيل، أي: عطلوا الخالق تبارك وتعالى عن صفاته، فقالوا: هو ذات بغير صفات، مع أنه لا يمكن تصور ذات بغير صفات خاصة، والله تبارك وتعالى قد وصف نفسه ووصفه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بصفات عديدة.
فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل، يعني: لا نقول: إن يدي كيد الله تبارك وتعالى، وعيني كعين الله تبارك وتعالى، فهذا تمثيل.
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية كلام ممتع ورائع جداً، وقل أن تجده في كتاب أو تسمعه من عالم إلا إذا كان قد أتى بعده واستفاد منه، فهو يقول: ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل.
فلو علمت هذه القاعدة وعرفت معناها فستكون إن شاء الله عصمة لك في كل أسماء وصفات الباري تبارك وتعالى.(50/13)
الرد على من قدر عود الضمير على آدم في حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)
من قدر عود الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: (صورته) على آدم تقديره مردود من ناحيتين، الأولى: لأن المعنى يكون حينئذ: إن الله خلق آدم على صورة آدم.
وهو كلام غير بليغ ولا فصيح، ولا يليق بكلام النبوة ولا بالنبي الذي أوتي جوامع الكلم.
الثاني: أن هذا التقدير لا يبين القدر المشترك والقدر الفارق للصورة، والذي تقدم بسطه آنفاً.
والذين استبشعوا لفظ صورة الرحمن قالوا: لأنه يلزم من هذا تشبيه الله بخلقه، وليس الأمر كذلك، ولا يضرهم أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام على ما يليق بجلاله وكماله سبحانه، وتنزيه الله تعالى لا يكون بسلب ونفي صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال كما أراد سبحانه، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140].
وإن التنزيه حق التنزيه إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى درجات الكمال؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به إلا الله عز وجل وحده.
هذا وإنه ليترجح لدينا مع قلة البضاعة وفقدان الصناعة صحة الحديث بلفظيه، أي: على صورته، وصورة الرحمن، وأن الضمير في اللفظ الأول محمول على التصريح في اللفظ الثاني على أصول السلف في صفات الباري تبارك وتعالى.(50/14)
تابع: فرق المرجئة وأصنافهم(50/15)
من فرق المرجئة الغسانية
الفرقة الثالثة من فرق المرجئة هي: الغسانية، وهم أصحاب غسان الكوفي، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة، ولكنهم زادوا فقالوا: المعرفة بالله وبرسوله إجمالاً لا تفصيلاً.
وهذا الكلام في منتهى الخطورة، ودائماً كلام أهل البدع كلام مجمل؛ حتى لا ينتبه له من لا حظ له من العلم.
والإجمال مثل أن يقول العبد: قد فرض الله الحج، ولكن لا أدري أين الكعبة، فأنا مؤمن بأن الله تعالى فرض علي الحج، ولكن كيف أحج؟ وأنا مؤمن أن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، ولكني لا أدري أين الكعبة، فلعلها التي في مكة، ولعلها غير التي في مكة، وأعلم أن الله تعالى حرم الخنزير، ولكني لا أعرف الخنزير، فربما يكون هو هذه الدابة أو هذه الشاة أو غيرها، وأعلم أن الله تعالى حرم الخمر، ولكني لا أعرف الخمر التي حرمها الله عز وجل، يعني: أنه يقر بالأصول وينكرها في نفس التوقيت، وهذا تلاعب.
والقائل بهذه المقالات عندهم مؤمن، ومقصوده بما ذكره أن هذه الأمور ليست داخلة في حقيقة الإيمان، وإلا فهذه الأمور لا يشك فيها عاقل.
والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وإذا كان إنكار أصول الإسلام وثوابت الإيمان عندهم هو تمام الإيمان فكيف يتصور نقصانه وزيادته؟(50/16)
من فرق المرجئة الثوبانية
الفرقة الرابعة: الثوبانية، وهم أصحاب أبي ثوبان المرجئ، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى وبرسوله وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله، وما جاز في العقل أن يفعله فليس اعتقاده من الإيمان.
وقولهم: الإيمان هو الإقرار والمعرفة بالله وبرسوله هذا الكلام لا بأس به، ولكن قولهم: وبكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله الله ولا أن يفعله الرسول غير مقبول؛ إذ إن مرد الإيمان عندهم إلى العقل، فما تصوره العقل في حق الله وفي حق الرسول عليه الصلاة والسلام فهو من الإيمان، وما لا يمكن أن يتصوره العقل في حق الله ولا في حق الرسول فليس من الإيمان، فجعلوا العقل حاكماً على الله وعلى رسوله، حتى في الأمور الغيبية.
وقال لي شخص من المرجئة سنة (1983م): أنا لا أتصور أن الله تعالى خلق السماوات في يومين والأرض في يومين، ولا أتصور أن الله خلق جميع الخلق وقدر السماوات والأرض والأقوات والمخلوقات في ستة أيام، ونازع وأصر أن الله على فرض أنه فعل ذلك فلابد أن يكون يوم الجمعة هو يوم راحته، مع أن القرآن نفى أن الله يكل أو يمل أو يتعب نفياً صريحاً أكيداً، ولكنه أصر على هذا الكفر والعناد.
قالت الثوبانية: إن الإيمان هو: أن نؤمن بكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله -أي: أن يفعله الله ورسوله- وما جاز في العقل أن يفعله ليس اعتقاده من الإيمان.
ومن أصول المعتزلة الأصيلة تقديم العقل على النقل، ومعنى تقديم العقل على النقل: أن التحسين والتقبيح راجعان إلى العقل، فالذي يحسن ويقبح هو العقل عند المعتزلة، وهو كذلك عند هذه الفرقة الضالة الثوبانية.
أما التحسين والتقبيح عند أهل السنة فإنه يستند إلى الشرع، والشرع عبارة عن الكتاب والسنة، والتحسين والتقبيح في الشرع مداره على النقل، فما قضى النقل بأنه قبيح يكون قبيحاً، وما قضى النقل بأنه حسن يكون حسناً.(50/17)
دليل المعتزلة على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين والرد عليهم في ذلك
استدل المعتزلة على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين بحديث عبد الله بن مسعود: (ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو قبيح)، وهو حديث ضعيف، قالوا فلم يقل: ما قضى الله ورسوله أنه قبيح يكون قبيحاً، وما قضى الله ورسوله أنه حسن يكون حسناً، وإنما قال: (ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن)، وفي رواية: (ما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح).
وهذه شبهة المعتزلة، فهم يستدلون بهذا الحديث، ويهتمون ببيان صحته وثبوته، ولو افترضنا أن الحديث صحيح فمعناه ما رآى المسلمون اجتهاداً منهم أنه حسن، فيكون الحكم على الشيء بأنه حسن موافق للشرع، ولا يكون هذا إلا باجتهاد المجتهدين.
ومعنى المؤمنون في الحديث أي: المجتهدون من أهل العلم، فما أجمع عليه العلماء أنه حسن فهو حسن، فيكون حسناً بتحسين الشرع.
وقد أجمع العلماء على تحسين الصلاة، وأنها من الأعمال الحسنة الطيبة، وإجماعهم على تحسين الصلاة وأنها من العمل الحسن الطيب المبارك مرده إلى الشرع.
وأجمعوا على قبح شرب الخمر، وهذا الإجماع مرده إلى الشرع.
إذاً: فما رأى المسلمون باجتهادهم وإجماعهم أنه حسن بتحسين الشرع له فهو عند الله حسن، وما رأى المسلمون المؤمنون المجتهدون العالمون أنه قبيح بتقبيح الشرع له فهو عند الله قبيح.
فمدار الحسن والقبح عند أهل السنة والجماعة على النقل لا على العقل خلافاً للمعتزلة، وبذلك تزول شبهة المعتزلة حول حديث ابن مسعود، وللشيخ الألباني بحث طيب جداً في هذا في السلسلة الصحيحة بإمكانك أن ترجع إليه.(50/18)
مشابهة عقائد الثوبانية لعقائد المعتزلة
قال: والثوبانية يرون تأخير العمل كله عن الإيمان، يعني: أنه لا علاقة للعمل قط بالإيمان، لا عمل القلب ولا عمل اللسان ولا عمل الجوارح؛ لأن العمل عندهم خارج عن مسمى وماهية الإيمان، واتفقوا على أنه تعالى لو عفا يوم القيامة عن عاص فلابد أن يعفو عن كل من هو مثله، يعني: لو أن الله تبارك وتعالى عفا عن زان أو سارق أو شارب للخمر فعلى مذهب الثوبانية يلزمه لزوماً أن يعفو عن كل من هو مثل هذا المذنب أو العاصي.
وهذا المبدأ عند الثوبانية يشبه مبدأ جبرية المعتزلة، وهذا المبدأ عند المعتزلة يسمونه العدل، وهو من أصولهم.
وأصول المعتزلة خمسة، أولاً: التوحيد.
ثانياً: العدل.
ثالثاً: المنزلة بين المنزلتين.
رابعاً: الوعد والوعيد.
خامساً: تقديم العقل على النقل.
وهناك أصل سادس يدخل تحت الوعد والوعيد وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والناظر إلى هذه الأصول يجدها جيدة، يعني: إذا قلنا: من أصول المعتزلة التوحيد فليس هناك من يكره التوحيد، ولكن التوحيد عندهم يساوي تعطيل الصفات؛ لأنهم قالوا: بلزوم التشبيه حين إثبات الصفات، فقد قالوا: نحن نريد أن ننزه ربنا، فنفوا جميع الصفات الموجودة في الكتاب والسنة وأولوها، قالوا: لأن الإثبات يستلزم تشبيه الخالق بالمخلوق، فمثلاً إذا أثبتنا اليد فإن الذهن ينصرف إلى تشبيه يد الخالق بيد المخلوقين، وإذا قلنا بهذا فنحن لم نوحده، بل جعلنا الخلق شركاء له في الصفات، فكلمة التوحيد التي يزعمونها أصلها ضلال.
ومن أصول المعتزلة العدل، وهو يعني عندهم وجوب الأصلح على الله عز وجل، وقيل: وجوب الصالح، يعني: أنهم مختلفون فيما بينهم، فالعدل عندهم يساوي وجوب الأصلح في حق الله أو وجوب الصالح، وكلاهما باطل.
والله تبارك وتعالى لا يشرع لعباده إلا الأصلح أو الصالح، ولا يقدر لهم إلا الأصلح أو الصالح.
وقالوا: بوجوب إثابة المطيع ومعاقبة العاصي، وأن هذا عدل، وأن الله تبارك وتعالى لا يساوي بين الطائع والعاصي، بل الطائع لزاماً على الله أن يثيبه، والعاصي لزاماً على الله أن يعاقبه، وهذه جرأة وقلة أدب مع الله عز وجل.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لو مات مرتكب الكبيرة عليها فإنه في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فهو يفعل ما يشاء، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وأن هذه كلها مشيئة الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يحاسب الله تعالى لم أثاب هذا ولم عاقب هذا، بل المقطوع به يقيناً عند أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لو أدخل عبداً الجنة لأدخله برحمته وفضله، ولو أدخله النار لأدخله بعدله غير ظالم له، وأنه إذا عفا تبارك وتعالى عن عبده فإن ذلك يكون لحكمة؛ لأن أفعال الله تبارك وتعالى كلها موصوفة بالحكمة.
وهؤلاء قالوا: العدل يعني: أن الطائع لابد أن يأخذ ثواب الطاعة، ونحن نسألهم: إذا رأينا رجلاً يصلي لغير الله، ومعلوم أن الصلاة طاعة، أو يصلي رياء وسمعة، وآخر يجاهد رياء وسمعة، وآخر يعلم العلم رياء وسمعة وطلباً للشهرة والرئاسة وغير ذلك، هل يلزم الله تبارك وتعالى أن يثيب هذا العبد؛ لأنه طائع؟
الجواب
لا، والأعمال بالخواتيم، ونحن نعرف حديث ابن مسعود الطويل: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار -أي: طوال حياته- فإذا ما كان بينه وبينها إلا ذراع -يعني: وقت يسير جداً- سبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
والمعتزلة يقولون: لا، إذ كيف يعمل خمسين سنة بعمل أهل النار من المعاصي والفجور وغير ذلك ثم قبل أن يموت بيومين أو ثلاثة يعمل بالطاعة ويدخل الجنة؟ بل لابد أن يأخذ عقابه تماماً على معاصيه طوال الخمسين السنة، وبعد ذلك يثاب على طاعة اليومين أو الثلاثة، مع أنه جاء في الحديث: (الأعمال بالخواتيم).
فهم قالوا بلزوم الأصلح في حق الله عز وجل أو بلزوم الصالح، ووجوب إثابة الطائع وعقاب العاصي على الله عز وجل، وأوجبوا ذلك على الله عز وجل.
وهذا المبدأ يسمى عند المعتزلة مبدأ العدل.
وكلمة العدل عند الإطلاق ممدوحة، ولكنها على تفسيرهم صارت مذمومة، وهذا من أجل أن تعلم أن كلام أهل البدع دائماً مجمل؛ لأنهم لو شرحوه وبينوه فسيكون قبيحاً وسيرد عليهم في ذلك.
واتفق الثوبانية على أنه تعالى لو عفا في القيامة عن عاص فإنه يلزمه أن يعفو عن جميع العصاة من أمثاله، وكذا لو أخرج أحداً من النار للزمه أن يخرج كل من هو مثله.
وهذا الكلام شبيه بمبدأ العدل عند المعتزلة.
والثوبانية لم يجزموا بخروج عصاة المؤمنين من النار، بل قالوا: يمكن أن يخرجوا ويمكن ألا يخرجوا.
وكلمة يمكن أنهم لا يخرجون تعني: أنهم قد يخلدون في النار، وأهل السنة والجماعة يجزمون بأنه لا يبقى في النار قط من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وإن دخل بعض المؤمنين النار بسبب أعمالهم التي استوجبت لهم العذاب في النار فإنهم لابد خارجون منها، وداخلون الجنة ومخلدون فيها، ولا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، وأما المؤمنون فإنهم وإن دخلوا الن(50/19)
من فرق المرجئة التومنية
الفرقة الخامسة والأخيرة من فرق المرجئة هي: التومنية وهم أصحاب أبي معاذ التومني، وهؤلاء قالوا: الإيمان هو المعرفة والتصديق والمحبة والإخلاص والإقرار بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وترك كله أو بعضه كفر، وليس بعضه إيماناً ولا بعضه كفراً.
قالوا: ولو ترك كل ما جاء به الرسول يكون كافراً، وكل معصية لم يجمع على أنها كفر فصاحبها يقال له: فاسق، أو يقال: إنه فسق، أي: ارتكب عملاً من أعمال الفسق، ومن ترك الصلاة مستحلاً يكفر؛ لتكذيبه بما جاء به النبي.
وقولهم: ومن ترك الصلاة مستحلاً يكفر هذا معتقد أهل السنة والجماعة، ولكن علة الكفر عندهم هو تكذيب ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تركها بنية القضاء لا يكفر، ومن قتل نبياً أو لطمه يكفر، لا لأجل القتل أو اللطم، بل لكونه دليلاً على تكذيبه وبغضه.
وهذه هي المرجئة الخالصة.
ومنهم من جمع بين الإرجاء والقدر، بمعنى إسناد الأفعال إلى العباد، وقال: إن الله عز وجل لم يقدر أفعال العبد، وإن العبد هو المتصرف في أفعاله، وأنها ليست مخلوقة لله عز وجل، وهذا ضلال، ومن هؤلاء الصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب، بل منهم من جمع إلى ذلك الخروج أيضاً كـ غيلان حيث قال: يجوز ألا يكون الإمام قرشياً، يعني: يجوز أن يكون من غير قريش، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الأئمة من قريش).(50/20)
بعض ما يرد به على المرجئة
روى اللالكائي عن زبيد بن الحارث اليامي قال: [لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
قال شعبة: وحدثني منصور بن المعتمر وسليمان الأعمش أنهما سمعا أبا وائل يحدث عن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
قال شعبة: فذكرت ذلك لـ حماد بن أبي سليمان -وهو شيخ أبي حنيفة، وكان رأساً في الإرجاء في الكوفة- فقال حماد لـ شعبة: يا شعبة! أنت منا إلا قطرة؛ لأن حماد بن أبي سليمان كان من كبار المرجئة، وهو شيخ أبي حنيفة، بل وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بعض الإرجاء عن حماد بن أبي سليمان، وهذا مما عيب عليه، فأراد حماد بن أبي سليمان أن يجر شعبة إلى الإرجاء]، فقال: يا شعبة! أنت منا لولا قطرة، يعني: نحن وأنت متفقون في كل شيء، لولا أنك تخالفنا في هذه القضية، أي: قضية العمل هل هو من الإيمان أو ليس من الإيمان، فيا ليتك تقول: إنه ليس من الإيمان، فتكون منا تماماً، وأما كونك تخالفنا في هذه القضية فأنت منا ونحن منك في كل شيء إلا في هذه القضية.
قال: [قال شعبة: أتتهم زبيداً؟ قال: لا، قال: أتتهم منصوراً؟ قال: لا، قال: أتتهم سليمان؟ قال: لا، ولكني أتهم أبا وائل] وهو شقيق بن سلمة الكوفي تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان متهماً بالإرجاء كذلك، يعني: أن الإرجاء كان من القدم، فـ أبو وائل كان من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن مسعود مات مبكراً بالكوفة، وأكبر تلاميذه على الإطلاق أبو وائل كان مرجئاً.(50/21)
ترفع السلف عن كلام المرجئة
قال: [قال أبو المليح: سئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: أنا أكبر من ذلك]، يعني: أنا أكبر من أن أتكلم في كلام المرجئة، يعني: كلامهم سخيف ليس عليه أحد من سلف الأمة، ولذلك أنا أجل نفسي أن أتكلم فيه.
قال: [وعن قتادة قال: إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث]، وابن الأشعث مات في سنة (82) في قتال دار بينه وبين الحجاج بن يوسف الثقفي.
قال: [وقال جرير: ذكر الإرجاء عند سليمان بن مهران الكوفي الأعمش فقال: ما ترجو من رأي أنا أكبر منه]، يعني: لا أتكلم في مثل هذا؛ لأنه أسخف من أن نتكلم فيه.
قال: [قال جرير: وكان المغيرة يقول: أخبرنا حماد بن أبي سليمان قبل أن يصير مرجئاً، وربما قال: حدثنا حماد من قبل أن يفسد]، فالمؤلف في هذا الباب يريد أن يقول: إن الإرجاء قديم جداً في القرن الأول الهجري؛ لأنه يذكر عن أبي وائل وحماد بن أبي سليمان، وكل هؤلاء من أبناء القرن الأول الهجري.
قال: [عن المغيرة قال: لم يزل في الناس بقية -أي: بقية خير- حتى دخل عمرو بن مرة في الإرجاء، فتهافت الناس فيه].
وعمرو بن مرة هو المرادي، وكان رجلاً عابداً صالحاً أثنى عليه العلماء، وإنما عيب عليه دخوله في الإرجاء، حيث كان دخوله في الإرجاء فتنة عظيمة جداً لغيره، فمثله في علمه وفضله وصلاحه إن أظهر قولاً أو عمل عملاً فإنه يؤثر في اتجاه العامة.
فـ عمرو بن مرة المرادي على جلالة قدره وعلو منزلته في العلم والعمل والزهد والعبادة والصلاح والتقوى دخل في الإرجاء، وكان قد بلغ منزلة في العلم والعمل لم يبلغها أحد في زمانه، فلما دخل في الإرجاء ظن العامة أن الإرجاء حق، فلما زلت قدم عمرو بن مرة المرادي في الإرجاء زلت بزلته أقدام كثيرة، ولذلك دائماً أهل العلم يقولون: زلة العالم بزلة عالم، ودائماً كلام وعمل أهل العلم محسوب عليهم.
وأنا لست من أهل العلم، وأحد ضباط الجيش كان صديقاً لي منذ أن كنا أطفالاً رضع، فهو ينظر إلى عملي ولا يسألني، ففوجئت بوالده -وهو بلدي- يقابلني في المنصورة، ويقول: يا شيخ حسن! أريد أن أسألك سؤالاً وأرجو ألا تتحرج مني وأن تجيبني بصراحة، فقلت له: تفضل، قال: المرآة حلال أم حرام؟ قلت: المرآة حلال، ومن الذي حرمها؟ فسكت، قلت له: لابد أن تخبرني؛ لأن في بلادنا جميع أنواع البدع، فأريد أن أعرف من القائل، قال: إن هذا الكلام منقول عنك، قلت: منقول عني؟ قال لي: قاله ابني علي، فقابلت علياً وهو عقيد في الجيش، يعني: أنه ليس بسيطاً، فقلت له: يا علي! أنا حرمت المرآة؟ فاصفر وجهه، وقال: يا شيخ! أنا دائماً أدخل عندك وأنت تدخل عندي وعندما أدخل عليك لا أرى عندك مرآة قط، قلت: وهل يلزمني أن أضع المرآة في غرفة الضيوف؟ وأدخلته غرفة النوم وغرفة الأولاد وهنا وهنا، وقلت له: انظر، عد المرايا، بل الدولاب في غرفة النوم في داخله مرايا، حتى إذا لبس الشخص الملابس لا يتكلف الذهاب إلى مرآة أخرى.
فهذا حرم المرآة على أهل بيته؛ لأنه لم يسأل، وإنما رأى أن أحداً ممن يظنه من أهل العلم لا يوجد عنده مرآة، فظن أنها محرمة، ودائماً العلماء يقولون: العامة يتورعون في الحلال والحرام، وأما أهل العلم فيجب أن يتورعوا في باب المباح؛ لأن الناس ينظرون إليهم على أنهم القدوة والأسوة والمثل الأعلى.
فينبغي على أهل العلم أن يحتاطوا دائماً في أقوالهم وأفعالهم، ويتورعوا عن المباح؛ مخافة أن يقع الناس فيما هو أعظم من ذلك وشر.
قال: [قال أيوب: أنا أكبر من المرجئة، يعني: أنا أكبر من أن أصاحبهم وأجالسهم وأتكلم فيهم.
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: الحسن بن محمد بن علي أمه جمال بنت قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي أول من تكلم في الإرجاء.
وقال مسعر: رأيت مسلم البطين يهجو المرجئة، يعني: يقول فيها شعراً يذمها، فقلت له: سبحان الله! وقال عبد الله بن نمير: سمعت سفيان وذكر المرجئة، فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره]، رأي محدث، أي: مذهب المرجئة مذهب محدث، رأيت الناس -أي: سلف الأمة- على غير هذا.
قال: [قال الحسن بن وهب الجمحي: قدم علينا عبد العزيز بن أبي رواد وهو شاب يومئذ ابن نيف وعشرين سنة -وكان من العلماء الصالحين جداً ومن العباد والثقات الأثبات في الرواية- فمكث فينا أربعين أو خمسين سنة لا يعرف بشيء من الإرجاء -يعني: لا أحد يعلم عنه أي خلل في اعتقاده- حتى نشأ ابنه عبد المجيد -يعني: حتى(50/22)
الأسئلة(50/23)
حسن العشرة مع الزوجة
السؤال
ما نصيحتكم للزوج الذي يظهر لزوجته الحدة وسوء الخلق، ويعاملها بمنتهى العنف والشدة؟
الجواب
المؤمن أو الحر تكفيه الإشارة، والعبد يقرع بالعصا، وربما لا تنفع معه العصا، فالحر المؤمن الواعي يكفيه أن تقرع سمعه بقال الله وقال رسوله، والله تعالى يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2].
فالإمساك دائماً -أي: الإبقاء على الزوجة دائماً- يكون بالمعروف، ولما سئل معاوية بن حيدة النبي عليه الصلاة والسلام عن حق الزوجة بقوله: (ما حق امرأة أحدنا علينا يا رسول الله؟! قال: أن تعاشرها بالمعروف، وأن تطعهما مما تطعم، وتلبسها مما تلبس، وتسكنها مما تسكن، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح).
وفي حديث جابر في صحيح مسلم في حجة الوداع ذكر هذه الحقوق كذلك، فقال: (ولكم عليهن ألا يأذن في فرشكم لأحد تكرهونه)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال).
فكل هذه النصوص تبين أنه يلزم الرجل أن يعامل امرأته بالمعروف، كما يجب على المرأة كذلك أن تعامل زوجها بالمعروف وحسن الخلق، فمن تنكب هذا فإنما يتنكب طريق السنة والهداية، وآثر سوء الخلق على حسن الخلق، وربما يكون المشكو منه موجوداً معنا.
فأسأل الله تعالى أن ينتفع بهذه الكلمات.(50/24)
حث الشريعة على الإكثار من الأولاد
السؤال
هل من الشريعة الإسلامية والسنة النبوية الاكتفاء بولد أو اثنين أم الإكثار من الأولاد؟
الجواب
الشريعة حضت على كثرة الولد، ولذلك أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بنكاح الولود الودود، وقال: (إني مباه بكم الأمم يوم القيامة)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: يأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه الفئة، ويأتي ومعه العشرة، ويأتي ومعه الاثنان، ويأتي النبي وليس معه أحد، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة.
فالإكثار من الأولاد سنة النبي عليه الصلاة والسلام.(50/25)
حكم الزكاة على مبلغ (1400) جنيه
السؤال
عندي أموال عمرة ألف وأربعمائة جنيه، هل عليها زكاة؟
الجواب
ليس على هذا المال زكاة؛ لأن هذا المال لم يبلغ النصاب.(50/26)
الكتب التي تتحدث عن كيفية تحديد القبلة، وكيفية تحديد القبلة لمن يعيش في بلاد المشرق
السؤال
ما هي طرق العرب أو المسلمين في التعرف على القبلة، وما هي الكتب التي تتحدث عن هذا؟
الجواب
لا أعرف كتباً خاصة في مثل هذا، ولا يخلو الأمر من إخراج كتب، وهذا يوجد في شروح النصوص المتعلقة بمعرفة القبلة، وجهة القبلة في بلاد المشرق أن يقف الإنسان ووجهه جهة الشمال ويده اليسرى جهة طلوع الشمس ويده اليمنى جهة الغروب ثم يميل بزاوية خمسة وأربعين درجة جهة الشمال.(50/27)
الأحكام تجرى على الظاهر
السؤال
أخت تقول: إنها لم تكن ملتزمة من قبل، فمن الله عليها بالهداية، وحاولت مع زوجها مراراًً أن يلتزم، وهو يتصنع الصلاة أمامها، فما العمل؟
الجواب
أنت غير ملزمة بالبحث والتنقيب عن مثل هذا، ويكفي أنه يصلي، وأما كونها تذهب معه أو تذهب وراءه إلى العمل وتسأل زملاءه هل يصلي أو لا يصلي وتسأل الجيران وغير ذلك فهي ليست مطالبة بهذا، وأما كونه يتصنع لها الصلاة أو يصلي لأجلها فهذا أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولذلك نحن مأمورون بإجراء الأمور على الظاهر والله تعالى يتولى السرائر.
وهناك كثير من الإخوة يسألون أسئلة لا ينبني عليها عمل، وهذا باب من أبواب التنطع، فمثلاً أحدهم يسأل ما اسم أم موسى؟ وما له وأم موسى؟ فهو لن يسأل عنها يوم القيامة، ولو عرف أن اسمها زليخة أو زينب أو فاطمة فما الداعي لهذه المعرفة؟ وهناك من يسأل وهو مهتم وحزين ومغموم وسيموت كمداً إن لم يعرف اسم كلب أصحاب الكهف، مع أنه مطالب بالإيمان أن هؤلاء الناس الطيبين كان معهم كلب فقط، وليس مكلفاً بمعرفة اسمه، ومع ذلك فهو مغموم بشدة وحزين ومستاء غاية الاستياء، وقد وضع في رأسه هم الدنيا لمعرفة اسم الكلب!(50/28)
العقيدة في كتب الأزهر
السؤال
ذكر في كتاب التوحيد في المدارس أن اليد في قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] تعني: قوة الله فوق أيديهم، فهل هذا صحيح؟
الجواب
أنصح الإخوة ألا يقرءوا نهائياً في العقيدة في كتب الأزهر؛ لأنها عقيدة الأشاعرة، وهي بلا شك عقيدة فاسدة.(50/29)
الحجة في تعدد الزوجات ولمن يكون، وضوابط التعدد، وحكم الطلاق
السؤال
ما الحجة في تعدد الزوجات؟
الجواب
الحجة كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وفعله، وفعل الصحابة والسلف إلى يومنا هذا، وليس هناك حجة أفضل من ذلك.
وأنا عندما تكلمت في مؤتمر مسجد العزيز وعلقت تعليقاً سريعاً عن تعدد الزوجات استاء الناس مني، ومن سوء الأدب الشديد جداً أن يتكلم رجل في مسألة فيتلقفها المستمع ويؤولها حسبما يراه، فأنا عندما تكلمت في مؤتمر العزيز عن الطلاق وأنه شريعة الله عز وجل قلت: الطلاق الأصل فيه المنع والحظر، وبينت بالدليل أن الأصل في النكاح الدوام والاستمرار والطلاق طارئ عليه، وهو استثناء له من البقاء، ولذلك لا يصار إليه إلا لعلة، وبعد استنفاد الوسائل المشروعة في قيام البيت، وكما يقال: آخر الدواء الكي، أي: أننا لم نتزوج لنطلق، وإنما تزوجنا لنستمر، ويقطع هذا الاستمرار علة قوية لا ينفع معها البقاء.
فلابد من اختيار الزوجة على أصل سليم، وتربيتها على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتعليمها وتثقيفها بأمر دينها وحق زوجها، ولو دفع ما دفع من المهر.
وليست هذه هي القضية، وإنما القضية الآن أن البيت الواحد الذي يعيش في مستوى الدون يصرف أهله في اليوم عشرة جنيهات، أي: ثلاثمائة جنيه في الشهر، وممنوع أن يطرق الضيف الباب؛ لئلا تختل الميزانية.
فلا يصح أن أقول لشخص دخله مائتي جنيه في الشهر وهو متزوج وعنده ثلاثة أو أربعة أولاد يفطرون فولاً ويتغدون فولاً ويتعشون فولاً: إن عليك الزواج مرة أخرى، ولو لم تتزوج فأنت آثم ومكذب للقرآن والسنة.
وبعض الناس كتب كتباً يقول فيها بوجوب تعدد الزوجات، وعندما يقرأ شخص هذه الكتب يتزوج حتى ينجو من الإثم، ثم يتابع الزواج بعد ذلك، ثم يفاجأ بواقع مرير، فهو يتقاضى مائتي جنيه أو ثلاثمائة أو حتى خمسمائة جنيه، وهذا المبلغ لا يقيم بيتاً، ولو افترضنا أن هذا يقيم في بيت وعنده أربعة أولاد في المدرسة، وكل ولد مصروفه في كل يوم نصف جنيه في المدرسة، واثنين أو ثلاثة جنيه للإفطار فهذا المبلغ لن يكفي الأولاد عشرة أيام في الشهر، فإذا تزوج امرأة أخرى فكيف سيصنع معها ومع أولادها ومع استئجار بيت لها.
ويعلم الله عز وجل أنني دائماً أنصح من يريد الزواج والظروف تسمح له بذلك بالزواج.
ولا يحل للشخص المدين والمغرق في الدين الزواج.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر الشباب)، والمعلوم من الخطاب لأول وهلة أنه للزواج الأول، فلم يقل له: يتوكل على الله إذا كان ليس له دخل، ولم يقل له: اذهب وتزوج صاحبة المغزل كما في الحديث الموضوع الذي يحتجون به، فإذا كانت الباءة والقدرة عليها مشروطة في الزواج الأول فمن باب الأولى أن تكون مشروطة في الأنكحة المتعاقبة أو المتعددة.
وأقسم بالله العظيم أن هناك اثنين وعشرين بيتاً مسجلين عندي في دفتر الذي انهار منهم قد انهار والذي لم ينهر على وشك الانهيار؛ بسبب أنه صدق بوجوب التعدد، وهناك شخص يعيش أصلاً على أموال الصدقات والزكوات وينتظر الصدقة من الناس، ثم فوجئت بأنه تزوج الثانية، فلما نصحناه قال: أبو الأشبال يحارب التعدد، وهو الآن بصدد طلاق امرأتيه، وهذا مثل شخص من أصحابنا تزوج امرأة واختلف معها فقال: لابد أن أؤدبها وآتي بامرأة أخرى، فاتفقتا، فتزوج الثالثة فاتفقن على غير قياس، فتزوج الرابعة فاتفقن على غير قياس، فترك الأربع وذهب إلى أمه.
وهناك أمثلة كثيرة جداً من المحيط الذي نعيش فيه، وأصحابه يندمون ندماً كبيراً جداً.
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، هذا في النكاح الأول.
والفقير هو الذي له دخل لا يكفيه، وهو درجات، فذكر في الآية أنهم فقراء، وليس معنى ذلك أنهم معدمون مساكين ليس لهم شيء، بل إن لهم دخلاً، فالله تبارك وتعالى يغنيهم إن شاء الله من فضله، هذا في الزواج الأول، وزواج الثانية والثالثة والرابعة لمن كان غنياً يقدر أن يفتح بيتاً واثنين وثلاثة وأربعة، والزوجة الواحدة لا تكفيه، وكانت حاجته إلى النساء شديدة، فله أن يتزوج، وأي إنسان مجنون وليس عاقلاً فقط يقول له: يتزوج.
والإمام أحمد بن حنبل لم يتزوج المرة الأولى إلا في سن الأربعين حرصاً على طلب العلم، ولا زلت أسمع أهل العلم وآخرهم الشيخ الألباني عليه رحمة الله يقول: لا أحب تعدد الزوجات لطالب العلم حرصاً على طلب العلم، وأنا أقول هذا الكلام، وأقول: إذا غلب على ظنك أنك لا تعدل بين الزوجتين لم يجز لك تعداد الزوجات، فهذه كلها قيود وشروط.
وهذا الذي يدعو إلى تعدد الزوجات يذكر الأمر بغير هذه القيود والشروط، وأنت إذا أردت التكلم عن هذه المسألة فعليك أن تأخذها من جميع جوانبها وشروطها وقيودها، فإذا سمعها شخص قال: أنا لست من أهل التعدد، فأنا أحب امرأتي جداً جداً جداً، ولا يمكن أن أستغني عنها، ويغلب على ظني أني لو تزوجت مرة أخرى فسأظلمها، ولو سمعها رجل فقير جداً لقال: يكفيني واحدة فقط، ويعرف أ(50/30)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مذهب المرجئة في الإيمان [2]
عقيدة الإرجاء عقيدة فاسدة، حذر منها السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم والصلاح، وذلك لأنها تؤول بصاحبها إلى المجوسية، ولهذا فقد حكم السلف على أصحابها بالضلال، وأوصوا بهجرهم وعدم الجلوس معهم؛ حتى لا تنطلي بدعهم على الناس.(51/1)
باب ما روي في تضليل المرجئة وهجرانهم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: في الدرس الماضي عرفنا الإرجاء، ومتى ظهر الإرجاء في الأمة.
وهذا باب جديد في سياق ما روي مرفوعاً وموقوفاً في تضليل المرجئة وهجرانهم، وترك السلام عليهم والصلاة خلفهم والاجتماع معهم.
والمرجئة من المبتدعة، والمبتدع قسمان: فإما أن يكون داعية ضلالة، كأن يكون مؤصلاً لها أو كاتباً داعياً إليها، وإما أن يكون من رعاع أهل البدع يتبع كل ناعق، ولا يدري حقيقة ما هو عليه، وربما يقرأ القارئ كلمات أو نصوصاً في تكفير أهل البدع، ونصوصاً أخرى في عدم تكفيرهم، وقد قال أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية: إن نصوص التكفير إنما تقع على رءوس أهل البدع والدعاة إلى البدعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في تضليل المرجئة وهجرانهم]، وهجر أهل البدع دائماً هو وصية السلف للخلف.
قال: [وترك السلام عليهم والصلاة خلفهم]، أي: لا نصلي خلف مبتدع داع إلى بدعته، خاصة إذا كانت بدعته مكفرة.
قال: [والاجتماع معهم] ولا نجتمع معهم مخافة أن تتغير وتتبدل قلوبنا.
قال: [عن ابن عمر قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: القدرية، والمرجئة)]، وكل الأحاديث المرفوعة التي رويت في ذم الإرجاء لم يصح منها شيء، والأمر لا يحتاج إلى التعلق بشيء ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك بعد أن أجمعت الأمة على أن الإرجاء ضلالة محدثة في الدين، وأن المرجئة فرقة من فرق الضلالة في الإسلام.
قال: [وفي حديث حذيفة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صنفان من أمتي كلاهما في النار)] فهنا حكم عليهما بدخول النار، ولا يعني ذلك أنهم كفار، كما لا يعني أنهم مخلدون فيها أبداً.
وقد تكلمنا عن هذا أثناء كلامنا على حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة هي ما أنا عليه وأصحابي) في معرض كلامه عن فرق الضلالة.(51/2)
ملحوظتان حول حديث (كلها في النار إلا واحدة)
حديث: (كلها في النار إلا واحدة هي ما أنا عليه وأصحابي) يحتاج إلى عدة ملحوظات.
الأولى: قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار) لا يستلزم أنها كافرة؛ لأن عصاة الموحدين كذلك يدخلون النار ولا يخلدون فيها، وإنما أمرهم إلى الله عز وجل إن شاء عذبهم ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، وإن شاء عفا عنهم بمنه وكرمه سبحانه وتعالى.
الثانية: قوله: (كلها في النار إلا واحدة)، أي: إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية، وليسوا هم من علم معنى الأسماء والصفات فقط، أو من لهم موقف سليم سديد من جهة ذات الإله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، وليسوا بالضرورة أنهم الذين أطلقوا لحاهم ولبسوا الثياب البيض وغير ذلك، بل هم من تمسك بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من جهة العقيدة والأخلاق والسلوك والمعاملات والعلم والعمل، فإذا كنت كذلك فأنت من أهل السنة حقاً، ولا يلزم من تزييك بزي أهل الصلاح أن تكون صالحاً، حتى يعلم أبناء الصحوة أنهم مطالبون بأخذ الدين مظهراً وجوهراً، وأنهم لن يكونوا من أهل السنة على الحقيقة إلا إذا كانوا كذلك، وأما إذا اكتفوا من الإسلام بالظاهر فليسوا من السنة في شيء.(51/3)
شرح حديث (صنفان من أمتي كلاهما في النار)
يقول عليه الصلاة والسلام في حديث ضعيف: [(صنفان من أمتي كلاهما في النار: قوم يقولون: إنما الإيمان كلام وإن زنا وإن سرق)]، أي: هذا المؤمن عندهم؛ لأن العمل عندهم ليس من الإيمان، ولا يدخل في مسمى الإيمان، فاحتجوا بأن الإيمان هو التصديق، فإذا قال الإنسان: آمنت بالله أو شهد الشهادتين وأتى جميع المعاصي فإنه مؤمن؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب فقط، ولم يقولوا حتى: الإيمان هو الإذعان.
والانقياد والخضوع بالقلب والجوارح، وإنما قالوا: الإيمان هو التصديق فقط.
وليس الأمر كذلك، فالإيمان ليس هو الإقرار فقط، ولا الشهادتان فقط، وإنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهو يزيد وينقص، وزيادته ونقصانه متعلق بالعمل، وسواء كان ذلك عمل القلب أو عمل الجوارح.
فقال في الحديث: (قوم يقولون: إن الإيمان كلام)، أي: نطق أو إقرار أو شهادة فقط.
قال: [(وإن زنا وإن سرق، وآخرون يقولون: إن أولينا كانوا ضلالاً يقولون: خمس صلوات في اليوم والليلة، وإنما هما صلاتان)]، يعني: حكموا على الأوائل بأنهم أهل ضلالة؛ لأنهم أجمعوا على أن الصلوات خمس في اليوم والليلة، وهؤلاء أي: ضلال القدرية يزعمون أن الصلاة إنما هي صلاتان فحسب، صلاة في أول النهار، وصلاة في أول الليل، وكل صلاة منهما ركعتان، ولا ندري من أين أتوا بهذا الكلام، فإنه من أعجب الكلام.
وهذا الكلام من جهة الرفع غير ثابت، وإن ثبت أن بعض الفرق الضالة قالت به فعلاً، وقد ذكرت لكم منذ عدة أشهر أن إيهاب بن حسن الأثري أبو عبد الرحمن صنف كتاباً يذم فيه أهل العلم مثل الشيخ الألباني مثلاً والشيخ ابن باز وغيرهما من أهل العلم، وهو الآن ينكر الصلوات الخمس ويقول: ما هما إلا صلاتان في أول النهار وفي آخره، يعني: أن هذا ما زال موجوداً إلى يومنا هذا.
فلا يزال ميراث الفرق الضالة التي ظهرت ونشأت منذ عدة قرون تتوارثه الأجيال إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة؛ لأن الناس في نقصان دائماً، وأعظم النقصان أن يكون في الدين وفي الإيمان.(51/4)
ذم الصحابة للمرجئة
قال: [جاء عن ابن عباس أنه قال: اتقوا الإرجاء؛ فإنه شعبة من النصرانية]، أي: خصلة منها.
قال: [وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: لقد لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم].
وهذا كلام يحتاج إلى نظر.(51/5)
تدرج البدع من الإرجاء إلى المجوسية
قال: [قال مجاهد: يبدءون فيكم مرجئة، ثم يكونون قدرية، ثم يصيرون مجوساً].
وهذا في الحقيقة ترتيب وتدرج طبيعي لأهل البدع؛ لأنهم يبدءون بالرجاء في الله عز وجل، وهذا الرجاء يحملهم على ترك العمل، ومنهج أهل السنة والجماعة أن الخوف والرجاء جناحا المؤمن إلى الله عز وجل، فالخوف يحمله على مزيد الطاعة، والرجاء يحمله على عدم الإياس من رحمة الله عز وجل، فهما صنوان لكل عبد يريد أن يسير إلى الله سيراً حثيثاً، وأما إذا غلب جانب الخشية على إنسان وخاصة عند مماته فإنه يلقى الله تعالى آيساً من رحمته، وهذه كبيرة من الكبائر، وإذا غلب على إنسان في حال حياته جانب الرجاء على الخوف فإنه يقع في التسويف وترك العمل، ومعظم الأمة الآن مفرطة عاصية تاركة لفرائض الإيمان والإسلام، إذا ذكرتهم بالله أو بالصلاة أو بالزكاة أو بالحج وهم قادرون على ذلك قالوا: رحمة ربك واسعة، وإن ربك غفور رحيم، فهم يرجون الله تعالى بغير عمل، وفي حقيقة الأمر ليس هذا من باب الرجاء المشروع، وإنما الرجاء أن تعمل ثم ترجو الله تعالى أن يتقبل منك ذلك، كما كان حال النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان أعبد الناس وأتقاهم وأعلمهم وأخشاهم لربه، ومع ذلك لم يفرط قط عليه الصلاة والسلام في عمل سواء كان مفروضاً أو واجباً أو مستحباً أو مندوباً، فقد كان يقوم الليل كله حتى تتفطر قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام هو القدوة والأسوة والمثل الأعلى الحسن، وهو الذي ما فرط في عمل قط مهما دق وجل، فينبغي إذا كنا فعلاً صادقين في زعمنا أو قولنا بأننا مؤمنون ومسلمون ومتبعون أن نضع النبي عليه الصلاة والسلام نصب أعيننا في المثل والقدوة.
فقوله: يبدءون فيكم مرجئة، يعني: يبدءون أول بدعتهم بالإرجاء، وهو تأخير العمل عن مسمى الإيمان وترك العمل بالكلية استناداً واتكالاً على رحمة الله عز وجل، وأنها وسعت كل شيء.
ثم يكونون قدرية، يعني: ينتقل من الإرجاء إلى القدر، ثم ينتقل من القدرية إلى المجوسية؛ لأن بين القدرية والمجوسية شبه عظيم جداً مثل الشبه بين النصرانية والإرجاء.(51/6)
حكم سؤال الشخص أهو مؤمن
قال: [عن ابن سيرين قال: سؤال الرجل أخاه: أمؤمن أنت؟ محنة وبدعة].
وهذا كما يمتحن الخوارج الناس.
وهذا النص كان أليق به أن يكون في الباب قبل الماضي.(51/7)
تحذير إبراهيم النخعي من المرجئة
قال: [عن المغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يدعو إلى هذا الرأي، أي: إلى الإرجاء، فحدث بذلك إبراهيم النخعي، فأتيته فقال: أخبرني يا مغيرة! هل يدعو إلى هذا الرأي أحداً؟ فإنه حلف لي بالله أن الله لم يطلع على قلبه أنه يرى هذا الرأي، وقد كنت سمعته يدعو إليه]، يعني: أن إبراهيم النخعي جاء إلى إبراهيم التيمي وقال له: بلغني أنك تدعو إلى الإرجاء؟ قال: والله ما دعوت إليه، ووالله ما أنا بمرجئ، فسأل إبراهيم النخعي المغيرة: هل كان إبراهيم التيمي يدعو إلى الإرجاء، فإني قد سألته فأقسم أنه ليس كذلك؟ قال: [فدارى عليه المغيرة وقال: لعله تاب من ذلك، مع أني قد سمعته يدعو إلى ذلك، وقال إبراهيم: لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة].
والأزارقة هم أتباع نافع بن الأزرق، وهو من رءوس الخوارج، فاختلف مع بقية الرءوس في هذه الفرقة، فتنحى وصنع لنفسه فرقة هي أضل فرق الخوارج وأسماها باسمه، وهم الأزارقة نسبة إلى أبيه.
وكلام إبراهيم النخعي حقيقة، وصحيح أن كل فتنة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وأن الإرجاء والخارجية مصيبتان حلتا بالأمة، ولكن الإرجاء وجهه حسن لأول وهلة، والخوارج وجههم قبيح لأول وهلة، ولذلك فتنة الخوارج لا يشربها أحد إلا بعد مناظرات ومجادلات وربما تأثر بها فدخل فيها، وأما الإرجاء فشكله جميل؛ لأنه دعوة إلى رحمة الله وإلى فضله ومغفرته وتوبته، وأن الله يتجاوز ويعفو عن المسيء، وهو يعطي الرجاء والأمل للعاصي أن الله لا يعذبه، وهذا أمر يتعلق به كل عاص.
وتصور لو أنك وقعت في ذنب أتحب من يتوعدك ويتهددك أو من يؤملك خيراً ويطمئنك على موقفك بين يدي الله عز وجل؟ لا شك أنك تحب الثاني.
فالمرجئة خرجت على الأمة بهذا الرجاء في الله عز وجل، ولكنه زاد وفاق عن الحد حتى أثر في اعتقاد القوم من جهة إتيان العمل المستلزم للإيمان أو الذي هو ثمرة الإيمان الذي وقر في القلب، فتركوا العمل اتكالاً على رحمة الله عز وجل.
قال: [وقال إبراهيم النخعي: تركت المرجئة الدين أرق من ثوب سابري].
وأنا لا أدري من هو سابري هذا، وربما يكون في النص تحريف، فإني لم أطلع عليه إلا في هذا الكتاب وفي هذا النص، ولم أجد من تعرض لتعريفه، وربما يكون رجلاً رقيقاً أو ناعم الملبس أو غير ذلك، فأراد إبراهيم النخعي في الكوفة أن يبين أن فتنة المرجئة إذا دخلت في قلب إنسان فإنما تأخذ دينه عروة عروة وشيئاً فشيئاً حتى تدعه بلا دين، أو لا تدع فيه من الدين إلا الشيء اليسير واليسير جداً، ربما يكون المعنى هكذا.
والله أعلم.(51/8)
هجر العلماء للمرجئة
قال: [عن المغيرة قال: مر إبراهيم التيمي بـ إبراهيم النخعي فسلم عليه فلم يرد عليه السلام].
وهذا فيه جواز هجر أصحاب المعاصي والبدع الكبار.
قال: [وعن سعيد بن جبير -وهو سيد من سادات التابعين ومن تلاميذ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما- قال: المرجئة يهود أهل القبلة]، يعني: يهود أهل الإسلام.
قال: [وعن أيوب -وهو ابن أبي تميمية السختياني البصري - قال: رآني سعيد بن جبير وأنا جالس إلى طلق بن حبيب -وكان طلق من أهل البدع- قال أيوب: وما أدركت في البصرة أعبد منه]، أي: من طلق بن حبيب، فجلس أيوب معه لأجل عبادته.
قال: [فلما رآه سعيد أنكر عليه ذلك، وقال: لا تجلس معه؛ لأنه يرى رأي المرجئة].(51/9)
قاعدة في الحكم على الأشخاص
أيها الإخوة! إن الحكم على الأشخاص يستلزم دائماً نظرة عامة له من جهة العلم والعمل، فلا يحكم على إنسان بأنه ضال لمجرد وقوعه في الضلال، ولا يحكم عليه بالاستقامة لمجرد أنه وجد متلبساً بعمل طاعة، بل لابد من نظرة شاملة عامة لما هو عليه من علم وعمل، وأقصد بالعلم الاعتقاد، فالعلم دائماً يطلقه أهل العلم الذين تكلموا في السنة على الاعتقاد، والسنة كذلك إنما تعني الاعتقاد، فإذا كان المرء من جهة العلم والاعتقاد والدعوة على السنة، وكان عاملاً بهذا العلم ويجري هذا العلم على جوارحه فإنه بلا شك على استقامة وإن تلبس بمعصية، وإن وقع في بعض البدع سواء من بدع الاعتقاد أو العمل، أما إذا كان المرء الأصل فيه الانحراف والزيغ والضلال فلا يحكم عليه بالصلاح والتقوى لمجرد أنه قائم بالليل أو صائم بالنهار، أو يصلي في اليوم ألف ركعة؛ لأن الأصل فيه الفساد من جهة العلم والعمل كذلك، فلابد للحكم على الآخرين من نظرة عامة شاملة، فلا يحكم عليه بعدم الصلاح لكونه مثلاً زنى، أو سرق، ولست بذلك أهون من شأن هذه الكبائر والمعاصي، بل أقول: إن هذه المعاصي والكبائر وقعت من سلف الأمة ومن صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام حد الزنا على بعض أصحابه، كما أقام حد السرقة على بعض أصحابه، والحدود إنما وردت للأمة بأسرها، والمخاطب بها أولاً هم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا زنى أحد صحابة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يعني هذا أنه فاسد، وأنه خارج عن حد الصحبة وعن حد قول الله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، بل هذه لحظة ضعف تسلط فيها عليه الشيطان، ولا يخرج بهذا عن صلاحه، وإنما نقول: إنه كان غافلاً ساهياً، فتسلط عليه الشيطان فأوقعه في حبائله وفي معاصي الله عز وجل ومحارمه، وأما غيره -أي: غير الصحابة من الأمة- فإن الذي يأتي بهذه الكبائر والمعاصي فلا شك أنه فاسق بكبيرته مؤمن ببقية أعماله العلمية والعملية.
وفي خطبة الجمعة الماضية في مسجد العزيز تكلمت عن الشيعة وانتشارهم في هذه البلاد، وأن أحدهم يقرر أن الشيعة بلغوا ستة ملايين شخص في مصر، وبصرف النظر عن صحة هذا الكلام أو عدم صحته أقول: إن العبرة بصحة ما أنت عليه من عمل، وليس بكثرة الأتباع، ولكن العبرة بموافقة ذلك للحق والإخلاص لله عز وجل.
وأقول بهذه المناسبة: إن طلق بن حبيب كان من أعبد الناس بالبصرة وأبر الناس بوالديه، ولكن هذا لا يعني أنه على الحق، ولا شك أن العبادة وبر الوالدين أمران ممدوحان، ولكن توفرهما في شخص لا يلزم منه أن يكون بالضرورة صالحاً من جميع الوجوه.
فتكلمت عن الشيعة وسوء معتقدهم، وقد تناولنا منذ عدة سنوات معتقد الشيعة في هذا المسجد بتفصيل لم نتناوله في غيره من بيوت الله عز وجل، فقام أحد الأشخاص لا أدري أهو جاهل أو مغرض أو غير ذلك فقال: أنت تسب الشيعة وتقول: عليهم من الله ما يستحقون، ويكفي أن الإمام الخميني هو الذي وقف من حكام المسلمين بجوار العراق، ويكفي أنه الذي رصد مليون دولار لمن يقتل سلمان رشدي، وله مواقف محمودة جداً.
وأقول: نعم هذه مواقف محمودة، والله تعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
فالعمل الصالح صالح وإن أتى من الكافر، ولو أن يهودياً اتصف بإكرام الضيف لحمد له هذا، ومن الظلم البين عدم احترامه واعتباره في هذا الباب؛ لأن هذا من مكارم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، بل وجعلها شعبة من شعب الإيمان، لكن لا يقبل هذا عند الله إلا بعد الإيمان إذا صدر من الكافر، فكون خميني إيران رصد مبلغاً من المال لفلان أو أنه وقف بجانب فلان ليس له ثمرة، ونحن نعتقد أن الذي حدث من خالد الإسلامبولي ليس موافقاً للشريعة، وإذا كان موافقاً فليس له ثمرة جنتها الصحوة الإسلامية، بل تأخرت مائة عام، والذي سبق خير من الحادث، وإن اشتركا في كثير من الباطل، وأظن أن الذي عاصر ذلك الوقت يقول اليوم: يا ليت يوماً واحداً من أيام السابق يعود، فقد كان الواحد منا يرتع بالليل والنار، ويجوب محافظات مصر بحرية، فإذا سمع بمحاضرة للشيخ الفلاني في البحر الأحمر ذهب إليها دون أن يستوقفه أحد، واليوم لا تستطيع أن تزور أبويك في الفيوم مثلاً إلا واستوقفك غير واحد على الطريق ويحاكمك، فأيهما خير هذه الأيام أم الأيام السابقة؟ وما حدث هذا إلا بسبب الخروج.(51/10)
شروط الخروج على الحاكم
نحن نعتقد أن الخروج على السلطة له فقهه وأحكامه، ومن أعظم فقهه وأحكامه عدم الخروج إلا إذا رأينا كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان، أي: دليل قاطع على أن هذا كفر مجمع عليه لا يختلف فيه، ثم الحكم بالكفر يختلف عن الخروج عليه، فلا يخرج على الحاكم إلا بإجماع أهل الحل والعقد، وأن يكون ذلك بسبب الكفر، والشرط الثالث: أن يكون هذا الخروج مضمون النتيجة، فلا يكون الخارج ضعيفاً، بل لابد أن يكون قوياً متسلحاً، فالذي يحمل نبلاً مثلاً أو حجراً أو غير ذلك لا يقال: إنه قوي وبإمكانه أن يخرج، فهذا خبل، وإن فعل ذلك بحسن نية فنسأل الله تعالى أن يغفر له ويأجره على نيته، وأما العمل من جهة ميزان الحق فليس هذا من عمل السلف، ولا يوافق عليه لا السلف ولا حتى الخلف، وأما تزكية الخميني الإيراني فإنها لا تعطي لهذا العمل مشروعية، وخميني إيران يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف، وكان رجلاً ذكياً فقيهاً في مذهبه، أي: في مذهب التشيع، على مستوى العقيدة والفقه، وكان عالماً بأصول الاعتقاد عند الشيعة الإثني عشرية، بل وغيرهم من فرق الشيعة.
والذي أقرره وأؤكد عليه دائماً أن المرء لو وقف بعض المواقف المحمودة في نظر البعض لا يستلزم بالضرورة أن يكون محموداً من كل جانب، بل ربما يكون الأصل فيه الفساد والضلال كما هو شأن الخميني.
قال: [قال سعيد بن جبير: ألم أرك جالساً إليه؟ -أي: أيوب - لا تجالسه، قال أيوب: وكان والله ناصحاً وما استشرته]، أي: سعيد بن جبير كان ناصحاً لـ أيوب وأبدى إليه نصيحة من غير أن يستشيره فيه.(51/11)
تحذير العلماء من التنقل بين الفرق
قال: [قال سعيد بن جبير لـ ذر: يا ذر! ما لي أراك كل يوم تجدد ديناً؟] يعني: تنتقل من الاعتزال إلى الإرجاء إلى القدرية، وهكذا، فما لي أراك تتقلب وتجعل دينك عرضة للخصومات والمنازعات، فكل يوم أنت في حدث وشكل.
قال: [وعن أبي البختري قال: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي قال: مررت به فسلمت عليه فلم يرد علي، وقال أبو البختري لـ سعيد، فقال سعيد بن جبير: إن هذا كل يوم يجدد ديناً، لا والله لا أكلمه]، أي: حتى يثبت على السنة.
قال: [وعن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد المرجئة قال: فضرب لهم مثلاً، فقال: مثلهم مثل الصابئين -يعني: الروحانيين، وإذا أطلق الصابئون في كتب الاعتقاد فإنما يقصد بهم الروحانيون من الفلاسفة- أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، فتركوهم وأتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن بين دينين، فلم يثبتوا على دينهم ولم يتهودوا ولم يتنصروا، فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء]، وهكذا شأن من أراد أن ينتقل ويتحول من دين إلى دين أو من ملة إلى ملة، أو من فرقة إلى فرقة.(51/12)
تشبيه العلماء للمرجئة باليهود
قال: [عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: ما ليل بليل، ولا نهار بنهار أشبه من المرجئة باليهود]، يعني: أن هؤلاء المرجئة أشبه باليهود من الليل بالليل ومن النهار بالنهار، يعني: إذا دخل عليك الليل فلن تستطيع أن تميز ولا أن تفرق بين هذه الليلة وما فيها من سواد وبين الليلة الماضية، وإذا طلعت الشمس فلا تستطيع أن تفرق بين هذا النهار وما فيه من ضوء ونور وبين النهار الذي سبقه أو الذي يتلوه، وكذلك المرجئة هم أشبه باليهود تماماً بتمام.
هكذا ضرب لهم المثل.(51/13)
التحذير من الإرجاء وتضليل السلف لهم
قال: [قال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهما على هذه الأمة من الإرجاء]، يعني: أعظم هوى في الأمة هو الإرجاء.
قال: [قال منصور بن المعتمر: أعداء الله المرجئة والرافضة].
والرافضة هم الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين لما قالوا لـ زيد: أنت إمامنا لكن بشرط أن تلعن أبا بكر وعمر، قال: كيف ألعنهما وهما وزيرا جدي؟ ولما خرج الخوارج على أمير المؤمنين والخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز كفروه، فقال: وما وجه تكفيري؟ قالوا: إنك لا تلعن بني أمية، وهو من بني أمية، يقصدون معاوية وولده يزيد، قالوا: فإما أن تلعنهم وإما تبرأنا منك، قال: أسألكم بالله أتلعنون فرعون؟ أي: وقد جاء صريحاً في النصوص وجوب اللعنة عليه، ووجوب التبري منه ومن دينه، قالوا: لا، قال: فكيف بكم تركتم من استحق اللعنة في الكتاب والسنة وتلزموني أن ألعن رجلاً آمن بالله ورسوله؟ فهذا خلط وتخبيط.
فلما رفض زيد أن يلعن أبا بكر وعمر رفضوه وخرجوا عليه، ومن هنا سموا الرافضة، وهم فرقة من أضل فرق الشيعة، وفرق الشيعة بلغت حوالي خمسة عشر فرقة أو زيادة.
قال: [وعن جعفر الأحمر قال: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة.
وعن أبي عاصم قال: جاء عكرمة بن عمار إلى ابن أبي رواد فدق عليه الباب وقال: أين هذا الضال؟] لأن ابن أبي رواد كان مرجئاً.(51/14)
ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وأقوال العلماء فيه
قال: [عن طاوس قال: يا أهل العراق! أنتم تزعمون أن الحجاج مؤمن؟] والحجاج هو ابن يوسف الثقفي، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه يخرج من ثقيف كذاب ومبير).
فأما الكذاب فهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة، وأما المبير -أي: الظالم لنفسه ولأمته- فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد تولى حكم المسلمين في العراق في خلافة بني أمية كذلك.
وقوله: يا أهل العراق! أنتم تزعمون أن الحجاج مؤمن؟ أي: مع كل ما أتاه من ظلم وفجور؟ والحجاج اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من كفره، ومنهم من توقف عن تكفيره، ومنهم من أثبت له الإسلام وقال: الذي أتاه الحجاج كان معاص، فقد كان الحجاج معروفاً مشهوراً بسفك وإراقة الدماء، وكان معروفاً بشدته وقسوته على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وكان له موقف مع أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام، فقد اتخذ الحجاج خاتماً وكان يحميه في النار حتى يحمر ويختم به أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بين أكتافهم في ظهورهم، فلما جاء الدور إلى أنس بكى، فقال: ما يبكيك يا خادم رسول الله! يعني: أن الحجاج يعلم أن هذا خادم النبي عليه الصلاة والسلام، قال: والله لا أبكي جزعاً، وإنما أبكي أن النصارى لا يفعلون هذا بأساقفتهم ولا رهبانهم، وأنت تفعل هذا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يبكي لأن الأمة أنجبت مثل هذا.
ويقول عمر بن عبد العزيز كما قال الحسن البصري: لو جاءت كل أمة بأخبث من فيها وجئنا بـ الحجاج لغلبناهم.
وقد كان الحجاج محباً للقرآن الكريم، ومعظماً جداً للقراء، وأنس من أهل القرآن، ولكنه لم يكن مشهوراً به كشهرة أبي بن كعب مثلاً، كما كان الصحابة يعرفون الفرائض ولكن ليس كمعرفة زيد بن ثابت بها، فـ الحجاج كان يعظم رءوس القراء الذين لهم اجتهاد وحذق في كتاب الله عز وجل، وكان يغدق عليهم ويكرمهم، وهذه بلا شك منقبة، وكانت له عبادة طويلة في ليله ونهاره كالصيام والقيام، وكانت له من البلاغة ومحبة الفصاحة ونصرة اللغة العربية على غيرها الشيء والباع الطويل.
والشاهد: أنه كانت له مناقب ومثالب، وهذا الذي حدا ببعض أهل العلم أن يتوقف فيه، وهم كثرة، وكان الحسن يقول فيه قولاً شديداً، فلما مات الحجاج، قيل: إن الحسن رآه في نومه فسأله: ما فعل الله بك يا حجاج؟! قال: قتلني بكل نفس قتلتها قتلة، أي: قتلني قتلة في مقابل كل نفس قتلتها، ثم غفر لي، قال الحسن: فوالله لا أقول فيه شيئاً بعد اليوم، أي: لا أكفره بعد اليوم، إلى غير ذلك من النصوص التي وردت عن السلف، فمن قادح ومن مادح ومن متوقف ومن مكفر في أمر الحجاج، ويكفيه عاراً أن الأمة اختلفت في إيمانه وإسلامه وفي كفره، ولأجل هذا قال طاوس لأهل العراق: أنتم تزعمون أن الحجاج مؤمن؟ قال: [وقال منصور عن إبراهيم: كفى به عمى الذي يعمى عليه أمر الحجاج]، يعني: الذي يعمى أن الحجاج كافر مثلاً فهذا عمى وعقوبة من الله عز وجل، وقد طمس على بصيرته.
قال: [وقال إبراهيم لما ذكر الحجاج: ألا لعنة الله على الظالمين].
ومن المعلوم أن اللعنة لا توجه إلا إلى كافر.
قال: [وعن طاوس قال: عجبت لإخواننا من أهل العراق يقولون: الحجاج مؤمن! وعن أبي رزين قال: إن كان الحجاج على هدى إني إذاً لفي ضلال]، يعني: إذا كان الحجاج مع كل هذا البلاء مؤمن وعلى هدى فمن يحمل عليه فهو على ضلال، وهذا الكلام مفاده أنه لا يستوي أهل المعاصي مع أهل الإيمان والطاعات، يعني: يريد أن يقول: نحن نعلم يقيناً أننا على الهدى، وأن الحجاج على المعاصي، ويكفي أنه سفاك للدماء، فإذا كان الحجاج يستوي مع أهل الطاعة فهذا يعني أن أهل العراق وخاصة الكوفة يقولون: إن أصحاب المعاصي يستوون في الإيمان مع أصحاب الطاعات، وهذا هو الإرجاء، فالمرجئة يقولون: أفسق الناس كأعبد الناس فيما يتعلق بالإيمان، حتى قال قائلهم: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل.
وهذا بلا شك كلام يخالف أصل الاعتقاد.
[وقال الأجلح: قلت للشعبي: إن الناس يزعمون أن الحجاج مؤمن؟ قال: صدقوا، مؤمن بالجبت والطاغوت كافر بالله].
والإيمان أشكال وأنواع.
قال: [وقال الحجاج -وهو الحجاج بن محم(51/15)
اشتراط العمل في صحة الإيمان
وكثير من الطلاب يسألون خاصة مع الفتنة التي تدور على الساحة الدعوية: هل العمل شرط صحة أو شرط كمال؟ ونقول ابتداء: إن أهل السنة يعتقدون أن الإيمان قول وعمل، وأن العمل داخل في مسمى الإيمان، فالإيمان قول باللسان وعمل بالقلب والجوارح، والعمل القلبي: هو انقياد القلب وإذعانه وخضوعه لما أقر به اللسان، وعمل القلب شرط صحة في الإيمان، وأما عمل الجوارح فمكمل للإيمان.
والكمال نوعان: كمال واجب وكمال مستحب، وهذا أعظم كلام في الإيمان وهو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السابع من الفتاوى، فهو يقول: إن العمل عملان: عمل واجب، وهو ما يطلق عليه الكمال الواجب في الإيمان من الحلال والحرام وغير ذلك من الأمور المفروضة والواجبة، وكمال مستحب وهو الذي يتعلق به المستحبات من سائر النوافل المطلقة والراتبة وغير ذلك، فكلما ازداد المرء من هذه النوافل أحبه الله عز وجل، كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، فهذا هو الكمال الواجب، وأما الكمال المستحب ففي قوله تعالى في نفس الحديث: (ولا يزال المرء يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) إلى آخر الحديث.
فالكمال الواجب متعلق بالواجبات والفروض في الإسلام، ولها تأثير قوي جداً في زيادة الإيمان ونقصانه، والكمال المستحب هو الذي يبلغ بصاحبه ذروة الإيمان وكماله وتمامه.
هذا معتقدنا في كون العمل شرطاً في صحة الإيمان أو شرط كمال، نقول: إذا كان الكلام منصرفاً إلى عمل القلب فإن عمل القلب من الذل والخضوع والانقياد شرط صحة في الإيمان، وأما عمل الجوارح فمنها ما هو متعلق بالكمال الواجب، وهذا يتعلق كذلك بأعمال الجوارح فعله المفروضة الواجبة، وأما الأعمال المستحبة فإنها تدخل في الكمال المستحب.
ونعتقد أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الشيء إذا كان قابلاً للزيادة فلابد أن يقبل النقصان، وهذه القاعدة مسلم بها حتى عند المنطقيين والفلاسفة، وكذلك عند المرجئة، فالمرجئة يقولون: إذا كان الإيمان يزيد فلابد أن ينقص، ولما كان الإيمان عندهم هو التصديق فقد قالوا بعدم الزيادة في الإيمان، قالوا: لأن تصور الزيادة يستلزم تصور النقصان، والتصديق عندهم لا يقبل النقصان؛ لأنه لو قبل النقصان ونقص لنقص إلى الكفر والخروج عن الملة.(51/16)
حكم تارك الصلاة
أهل العلم الذين كفروا تارك الصلاة لم يكفروا الذي يأتيها مرة ويدعها أخرى، وإنما كفروه إذا تركها بالكلية، وهذا هو الراجح لدى أهل العلم، والإمام الحميدي نقل الإجماع في مسنده على أن تارك الخمس كافر في آخر المجلد الثاني قبل الفهرس، فقد ذكر هناك مجمل اعتقاده، وهو مجمل اعتقاد أهل السنة، وقد أجمل معتقد أهل السنة والجماعة في ورقة واحدة، حتى تعلموا بساطة الشرع وبساطة الاعتقاد، يعني: تصور أن اعتقادك يجمل في ورقة، هذا شيء عظيم جداً.
فقد قال: وأجمع أهل السنة أن تارك الخمس كافر، أي: تارك الخمسة الأركان، ووقع النزاع في تارك الواحدة منهن، يعني: من ترك الصلاة الواحدة هل يكفر أو لا يكفر نزاع بين أهل العلم، والنزاع هذا معتبر، وتارك الزكاة كذلك وقع فيه النزاع، وأما تارك الصيام فلم يقع فيه كبير نزاع، وأعظم النزاع شهرة هو ما وقع في ترك الصلاة.(51/17)
حكم تارك الزكاة
اختلف العلماء في تارك الزكاة؛ لما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قاتل مانعي الزكاة، لكن مقاتلة أبي بكر لمانعي الزكاة كان لها فقه وتأويل، بدليل أن أبا بكر لما سئل: أكفار هم؟ قال: لا، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن مقاتله الخوارج: أكفار هم؟ قال: لا، ولكنهم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم، فعدهم من البغاة، بل والنبي عليه الصلاة والسلام حكم بذلك عندما قال: (تقتل عمار الفئة الباغية).
وكان عمار بن ياسر في صف علي بن أبي طالب، فسماهم بغاة، والبغاة لا يقاتلون إلا بشرطين، الشرط الأول: أن يتحزبوا ويتميزوا ويتحيزوا في صعيد واحد، والشرط الثاني: أن يعظم خطرهم على الإمام ومن معه، أو أن يبدءوا الإمام بالقتال، فحينئذ يجوز بل يجب على الإمام أن يقاتل من بغى وخرج عليه، وهذا الذي حدث من علي بن أبي طالب مع الخوارج ومن قبله أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومن مانعي الزكاة من تأول قول الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
فمانعو الزكاة الذين حاربهم أبو بكر الصديق كانوا صنفين، منهم قوم ظنوا واجتهدوا اجتهاداً خاطئاً أن الزكاة إنما تخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون من يأتي بعده، لقول الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام: ((خُذْ))، أي: يا محمد! ((مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، وفهموا أن هذا الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، وليس لأحد من الخلفاء ممن يأتي من بعده.
فهؤلاء تأولوا، ولكنهم أخطئوا، والمتأول المخطئ لا يحارب، وإنما يفهم ويبين له الأمر، ولكن هؤلاء تميزوا وتحيزوا مع المرتدين الذين ارتدوا عن دين الإسلام، فصاروا في صعيد واحد، فأخذ هذا الأمر حكم ما يسمى في الإسلام بقتال أهل الثغر.
والثغر يجوز فيه قتل المؤمنين الموحدين إذا بقوا في وسط الكفار إذا قامت الحرب بينهم وبين الإمام، وهذا أمر معلوم، كما قال الله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح:25]، ولكنهم لم يتزيلوا، ومعنى تزيلوا: أي: تحيزوا وتميزوا، فهؤلاء لم يتميزوا ولم يتحيزوا، وصاروا ثلة قليلة من مانعي الزكاة المتأولين في وسط قوم عظام كثرة ارتدوا عن دين الإسلام صراحة، وكان يلزم أبا بكر الصديق أن يقاتل ويحارب هؤلاء المرتدين حتى يردهم إلى الإسلام أو يقتلهم، وإذا قتلهم فلابد أن يقتل معهم المتأولين في منع الزكاة، وإما أن يتركهم بلا قتال، وبالتالي يعظم خطرهم جداً على المدينة وعلى أهل المدينة من المؤمنين، خاصة مع موت النبي عليه الصلاة والسلام وجرح جميع القلوب في المدينة، بل وفي كل بقعة دخلت في الإسلام، فكانت المصلحة تستدعي قتالهم، وقد أنكر عمر بن الخطاب على أبي بكر قتالهم في أول الأمر، ثم أقره في آخر الأمر وشاركه في مقاتلتهم وقال: فما خاصمت أبا بكر فيها بعد، فسرعان ما انشرح لذلك، وعلمت أنه الحق، أي: علمت أن ما عليه أبو بكر الصديق هو الحق، وعلمت أن الله شرح صدره لذلك، فعلم عمر بذلك أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق.(51/18)
حكم السجود للأصنام
من سجد للصنم خوفاً من القتل وقلبه مطمئن بالإيمان فقد قال الله فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، أي: إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر، وأهل العلم يقولون: ليس كل من تلبس بالبدعة لبسته البدعة، وليس كل من وقع في الكفر كان كافراً.
هذا كلام أهل السنة، فلو أن رجلاً سجد لصنم فقد يكون لم يره، فالمبادرة إلى الحكم الشرعي عليه بالكفر تجاوز، وربما سجد للصنم وهو لا يدري أن هذا صنم، لكن الرائي له يعلم أن هذا صنم، وأما الذي سجد فلا يعلم أنه صنم، فهو جاهل هنا بأن هذا صنم، وأما من سجد للصنم مختاراً غير مكره وهو راض بذلك فلا شك أنه كافر.(51/19)
حكم العمل وتركه في الإيمان
لو قلنا: إن العمل ركن مجمل في الإيمان فهذا كلام لطيف، والركن هو ما كان داخلاً في ماهية الشيء، فيصح الشيء بصحته ويبطل بإبطاله، فهو داخل في ماهية الشيء، كالركوع في الصلاة مثلاً، فلا تصح الصلاة بغير ركوع، سواء تركه المرء عامداً أو جاهلاً أو ناسياً.
هذا تعريف الركن عند الأصوليين.
وماهية الشيء: أصله وذاته، فيبطل الشيء بترك ركنه عمداً أو سهواً أو جهلاً، ودائماً الذي تربى على مذهب واحد في قضية ما يصعب عليه أن يتعايش مع القضايا الأخرى، وإذا كان الخلاف بين أهل العلم معتبراً فأرجو أن يكون عندك معتبراً، والذي يترجح لدي في تارك الصلاة أنه كافر، وهذا هو الذي تخدمه الأدلة، ولكني لا أكفر إلا من ترك الصلاة بالكلية، وأما الذي يأتيها أحياناً ويدعها أحياناً فإنه وإن كان على خطر عظيم لكني لا أجرؤ على تكفيره، هذا إذا كنت تريد أن تسمع رأيي في القضية، وأما إذا كان الأمر لا يعنيك فهو كذلك لا يعنيني إن شاء الله.
فمجمل العمل ركن في الإيمان، بمعنى: أن المرء لو ترك العمل كله لكفر، وهذا هو كلام الحميدي الذي نقلته، قال الحميدي: أجمع العلماء على أن من ترك الخمس كفر.
وأنا أيدت الحميدي، وهذا هو كلام ابن تيمية، فالرجل الذي يصلي الصلوات الخمس مؤمن، وكلما صلى كلما ازداد إيمانه، فإن كان لا يصلي السنن الراتبة ولا النوافل وغيره يصلي الخمس مثله ويحافظ على السنن الراتبة والنوافل فالذي يصلي الرواتب والنوافل أعظم أيماناً منه، فزيادة الإيمان هنا ترتبت على العمل، لكن العمل منه ما هو فرض ومنه ما هو مستحب، والكمال الواجب في الإيمان هو الذي لا يسع المؤمن تركه، ويمكن أن نقول عنه: إنه المفروض، أو أصل الإيمان.
ولو أن شخصاً الآن يصوم رمضان دائماً، وآخر يصوم رمضان ويصوم الإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر وغير ذلك من الأيام، وثالث يصوم يوماً ويفطر يوماً -وهذا خير الصيام وهو صيام داود عليه السلام- فإن الثالث أعظم إيماناً، وهذا بلا خلاف بيني وبينك، والثاني أعظم إيماناً من الأول، وقد أتت زيادة الإيمان من النوافل، وزيادة الإيمان هنا متعلقة بالإيمان المستحب، ونحن لا نختلف في هذا.
وتسمية ابن تيمية للإيمان بالإيمان الواجب والإيمان المستحب هذا محل اجتهاد، فلك أن تسمي الكمال الواجب بأصل الإيمان أو فرض الإيمان، خاصة إذا كان هذا فيما يتعلق بمجمل العمل وعمل الفرائض، وأما عمل المستحبات فلا خلاف بيني وبينك -كما لا خلاف بيننا وبين ابن تيمية - أنه متعلق بالكمال المستحب.(51/20)
ضرورة التفريق بين رؤساء الفرق والأتباع
قال: [قال: سألت سفيان الثوري: أصلي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ قال: لا، ولا كرامة]، يعني: لا تصل خلفه.
وهذا محمول على الداعية، أو على الرءوس.
وقد سئل مرة عالم من علماء الحرم: هل الشيعة كفار أو مسلمون؟ وهذا السؤال وجيه جداً، وأوجه من ذلك أن يوجه لكل فرقة من فرق الضلالة، هل هي كافرة أو مسلمة؟ فأجاب الشيخ إجابة عظيمة جداً، فقال: تقصد الشيعة الذين ينظرون ويدعون ويكتبون ويؤلفون، أم تقصد الشيعة الذين يسيرون في الشوارع والطرقات؟ ولو قرأت في ترجمة علي بن أبي طالب أو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما لوجدت أن شيخ الإسلام الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء يقول بعد أن تكلم في الفتنة بكلام لطيف جداً: وما ذنب من نشأ في الشام يحب يزيد؟ أو قال: ما ذنب من نشأ في الشام على رضاع حب يزيد وحب معاوية ولا يعرف الرأي الآخر، وهو ليس من أهل العلم والنظر؟ كما أنه كذلك ما ذنب من نشأ بالعراق على حب علي رضي الله عنه، ولا حظ له من العلم والبحث والنظر فدرس القضية من أولها إلى آخرها، وإنا لنحمد الله تعالى أنه لم يجعلنا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فإننا نحب علياً ومعاوية ونواليهما ونترضى عنهما.
وهذا كلام جميل جداً، فهو يحمد الله أنه لم يكن من أهل هذا الفريق ولا من ذاك، ولكنه يلتمس العذر لمن نشأ من عامة الشعب الشامي أو من عامة الشعب العراقي، فهذا نشأ في حب معاوية وذاك نشأ في حب علي، وهما لا علم عندهما ولا فقه، ولو أخذت الآن طفلاً عمره سنتان ووضعته في بيئة نصرانية فبلا شك أنه سيكون نصرانياً، وربما تعصب للنصرانية؛ لأنه لم ير غيرها، ولو أتيت بطفل نصراني إلى بيئة المسلمين فنشأ بينهم فسيكون مسلماً، ولو نشأ بين إخوة داعين للسنة ومحبين لها فسينشأ معهم في مسجدهم محباً للسنة مدافعاً عنها، يغضب إذا انتهكت حرمة من حرماتها؛ لأنه نشأ على هذا.
وقد التقيت في أمريكا برجل كان من رءوس الشيعة في العراق، وكان قد أخذ على عاتقه دعوة الشيعة في مدينة دترويت، وهي أعظم مدينة في أمريكا تشيعاً، والذي يدخل في الإسلام من الأمريكان يدخل على مذهب الشيعة؛ لأن أحداً هناك لا يجرؤ أن يدعو إلى السنة مخافة بطش الشيعة في هذه البقعة من الأرض، فهم لهم شوكة ونجدة قوية جداً في هذا البلد، حتى إن الإخوة السلفيين يخافون أن يتكلموا، وبالمناسبة -والحر تكفيه الإشارة- الشيعة لا يسمحون لأحد بالكلام إلا لجماعة التبليغ، وهذا له مدلوله عندي.
فالشيعة يدعون في هذا المكان، والذي يدخل في الإسلام يدخله على مذهبهم، وهذا الأخ العراقي كان مشاركاً في الحرب الإيرانية العراقية والعراقية الكويتية، فأسر في بلاد الحجاز ومكث في بلاد الحجاز عامين، ثم خيروه بعد ذلك بين أن يرجع إلى بلاده أو يهاجر إلى أي بلد من بلاد المهجر؛ لأن السعودية أبت أن تبقي الأسرى بين أحضانها أكثر من ذلك، فاختار هذا الأخ السفر إلى بلد أوروبي آمن، فاختارت السعودية أن تذهب بهؤلاء إلى لندن وفرنسا وأمريكا، فكانت قرعة هذا في أمريكا، وفي أمريكا اختلط رغماً عنه بإخوة سلفيين، وظل يسمع منهم تقريباً على مدار عام وهو على تشيعه، وكانت له زوجة بالعراق وسبعة من الأبناء، فلما هداه الله عز وجل للسنة أنفق كل ماله على الهاتف مع امرأته وأولاده يدعوهم إلى السنة وإلى ترك التشيع، وحتى عهد قريب جداً لم يدخلوا، بل إنهم من أشد الناس حرباً على أبيهم، وحاربته المرأة مع أهلها وحاربه أهله؛ لأنه صبأ وخرج عن التشيع الذي هم فيه.
وقد أخبرني هذا الأخ أن بلاد العراق يكاد البيت لا يخلو من أصنام أهل البيت، فهم يصورون التماثيل لـ علي بن أبي طالب أو لـ محمد الباقر أو لـ موسى أو لـ جعفر الصادق أو غيرهم من أئمة الشيعة، حتى أبو الحسن العسكري مهديهم المنتظر، فيصورون هذه التماثيل ويتقربون إلى الله بعبادتها، كل في بيته.
ويقول: لا يخلو شارع ولا حارة ولا مسجد ربما من قبر من قبور أهل البيت.
وقال: يصعب جداً على رجل يعيش في العراق أن ينخلع من شيعيته.
ولا بد أن نعلم أن أصل العراق كان على السنة، والذي أدخل التشيع في العراق هي إيران، كما أنها تحاول جاهدة الآن إدخال التشيع في بلاد مصر.(51/21)
ترك العلماء شهود جنائز أهل البدع
قال: [قال أبو نعيم: مرت بنا جنازة مسعر بن كدام منذ خمسين سنة ليس فيها سفيان ولا شريك]، مع أن الكل من الكوفة، ولكن لما كان مسعر بن كدام مرجئاً لم يشهد جنازته سفيان ولا شريك النخعي؛ لأنه مبتدع، مع أن الأئمة احتملوا حديث مسعر بن كدام، بل إن حديثه في صحيح مسلم، وهو من رجال مسلم.(51/22)
حكم رواية المبتدع
البدعة شيء والعدالة في الرواية شيء آخر، فربما يكون المبتدع من أشد الناس في روايته، ولذلك يقول الإمام الشافعي: رواية أهل البدع الأصل فيها الرد ما لم يوافق الثقات إلا الخوارج، مع أن الخوارج هؤلاء من شر خلق الله كذلك، ولكن الأصل عندهم تكفير مرتكب الكبيرة، والكذب المتعمد في حديث الناس كبيرة، فما بالك في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، فهم مع بدعتهم لا يكذبون قط في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لا يكذبون في حديث الناس، فكيف يكذبون على الله ورسوله؟ فلما اطمأن أهل السنة إلى أن رواية الخوارج ليس فيها كذب ولا تدليس ولا خيانة ولا غش احتملوها؛ لأنهم من جهة الرواية ثقات عدول، وأما من جهة الاعتقاد فهم على بدعة، وأهل السنة يقولون: لا بأس بحمل الرواية عن المبتدع ما لم يكن داعية إلى بدعته، وما لم تكن روايته مؤيدة لبدعته، مثل أن يأتي حنفي مثلاً يروي بالسند المتصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (سيخرج في أمتي رجل يسمى محمد بن إدريس هو أشد عليها من إبليس).
ومحمد بن أدريس هو الشافعي، فهذا الكلام فضلاً عن نكارته الظاهرة فإن رواته أحناف وكذابون فلا يقبل، ولم يرد الشافعية عليهم، يعني: لم يردوا عليهم الكذب بالكذب والاختراع بالاختراع.(51/23)
نهي الإمام مالك عن تزويج المرجئة
قال: [كان رجل بالمدينة يقال له: أبو الجويرية يرى الإرجاء، فقال مالك بن أنس: لا تناكحوه].(51/24)
بعض معتقدي الإرجاء كانوا من أكثر الناس عملاً
كان أئمة الإرجاء من أشد الناس عملاً، وليس معنى أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان عندهم أنهم لا يعملون اتكالاً على هذا، فـ طلق بن حبيب كان مرجئاً وكان من أعبد الناس، فلا يلزم من المخالفة في المعتقد أو القول بشيء يخالف المعتقد أن يخالف كذلك من جهة العمل، فعندما يروى عن إمام من أئمة الإرجاء أنه يقول: الإيمان قول بلا عمل فهذا لا يستلزم أنه نفسه تارك للعمل، بل ربما يكون من أشد الناس وأحرصهم على العمل، وعندما نتكلم عن حكم صلاة الجماعة سنقول اختلف أهل العلم فيها على أربعة مذاهب، منهم من قال: هي واجبة، ومنهم من قال: سنة مؤكدة، ومنهم من قال: هي واجبة لكنها ليست شرط صحة في الصلاة، ومنهم من قال: بل هي واجبة وشرط صحة في الصلاة، وجمهور العلماء الذين قالوا: إن صلاة الجماعة سنة مؤكدة لم يرد عنهم أنهم تركوا الجماعة.(51/25)
اختلاف حكم الداعية للبدعة عن المتبع لها فقط
قال: [قال يزيد بن هارون: من كان داعية إلى الإرجاء فإن الصلاة خلفه تعاد].
وهذا النص فيه تصريح في التفريق بين الداعية وبين الأتباع.
فلا يصح عند أهل السنة إطلاق البدعة على المتبع للبدعة، وإنما يصح على المبتدع أو الداعية، وقد قلت: إن الشيخ الذي في الحرم عند أن سئل: هل الشيعة مسلمون أم لا؟ قال: تسأل عن من؟ أتسأل عن الخميني الذي هو إمامهم والمنظر لهم، وهو روح الله آية من الآيات عندهم، وهو الذي يدعو إلى التشيع ويحميه في العالم كله؟ أو تسأل عن شخص نشأ في إيران؟ فكان هذا التفريق من توفيق الله عز وجل لهذا الشيخ.(51/26)
مخالفة المرجئة للإيمان
قال: [وقال محمد بن يوسف دخلت على سفيان الثوري وفي حجره المصحف وهو يقلب أوراقه، فقال: ما أحد أبعد منه من المرجئة]، أي: أنه يريد أن يقول: المصحف كله من أوله إلى آخره يأمرنا بالعلم والعمل على حد سواء، فكيف بالمرجئة يفرقون في كلام الله عز وجل بين الأمر بالإيمان والأمر بالعمل الذي هو أصل أو داخل في مسمى الإيمان.(51/27)
باب ما نقل من مقابح مذهب المرجئة
قال: [باب ما نقل من مقابح مذهب المرجئة].(51/28)
ما روي عن أبي حنيفة من القول بالإرجاء
قال: [عن سفيان الثوري قال: سمعت عباد بن كثير يقول: استتيب أبو حنيفة مرتين، قال مرة: لو أن رجلاً قال: أشهد أن لله بيتاً إلا أني لا أدري أهو هذا أو بيت بخراسان كان عندي مؤمناً].
وهذا صريح في كتاب المجروحين لـ ابن حبان بلفظ: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين.
هكذا ورد النص.
وأبو حنيفة عند الإطلاق هو الإمام العلم المشهور النعمان بن ثابت الكوفي، وهو معاصر لـ سفيان الثوري وعباد بن كثير، وكلهم من بلد واحد، وكان بينهم من الإحن ما بينهم، فقد كان أبو حنيفة إمام الرأي، وكان سفيان الثوري وعباد بن كثير رأسان في السنة، وأنتم تعلمون أنهم بشر، والقاعدة عند أهل العلم: كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى، ولو أصغينا لكلام كل قرين في قرينه لم يسلم لنا أحد لا من السلف ولا من خلف.
وأما قول عباد: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين، فهذا فيه نظر من جهة السند ومن جهة النظر، ولو صح هذا الأمر في حق أبي حنيفة لكان مشهوراً جداً شهرة النار على العلم، أو شهرة الشمس في رابعة النهار، ولا يتصور أن أمراً خطيراً كهذا يروى بإسناد واحد ومن طريق واحد، وأي عمل أوقع أبا حنيفة في الكفر؟ وأنا ما كنت أحب دراسة هذا الباب، لكني خشيت أن يفهم فهماً مغلوطاً معكوساً فأحببت التعريج والتعليق عليه.
فأما التعليق فأحيل إلى الكتاب الجليل العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وذكر منهم أبا حنيفة رضي الله عنه ورحمه.
فـ أبو حنيفة وقع حقيقة في شيء من الإرجاء، ولكنه لم يكن داعية إليه، وليس هو الذي ابتدع الإرجاء، وإنما قال بقول المرجئة أحياناً، ولم يتبن مذهب الإرجاء في كل قضية من قضايا الإيمان، وإنما زلت قدمه في بعض القضايا فوافق فيها المرجئة، فهذه المسائل تعاب عليه وترد، ولا ننفي أن الأصل فيه الاستقامة والصلاح من جهة العلم والعمل، وكان داعية إلى السنة وإن خفيت عليه في بعض الأحيان، وأما كونه استتيب من الكفر مرتين، يعني: أنه حبس في بيت ثلاثة أيام في كل مرة، ويقال له: إما أن ترجع عن هذا الكفر الذي تقوله أو نقتلك، فما وجد بداً إلا أن يرجع مخافة القتل، فهذا كلام بعيد جداً أن يصدر من إمام من أئمة الهدى كـ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولا يتصور أن أبا حنيفة يقول: أشهد أن لله بيتاً، لكني لا أدري أهو الذي بمكة أو بيت آخر بخراسان، لا من جهة النظر ولا من جهة العقل، وقد ثبت أن أبا حنيفة حج مراراً، فلم يحج إلى خراسان ولا مرة يبحث عن البيت هناك، بل كان حجه مع المسلمين إلى بيت الله الحرام.
قال: [ولو أن رجلاً قال: أشهد أن محمداً رسول الله إلا أني لا أدري أهو الذي بالمدينة أو رجل كان بخراسان، كان عندي مؤمناً].
وهذا لا يتصور عنه كذلك كما لا يتصور الأول.
قال: [وقال حمزة بن الحارث عن أبيه: سمعت رجلاً سأل أبا حنيفة في المسجد الحرام عن رجل قال: أشهد أن الكعبة حق، ولكني لا أدري هي هذه أم لا، فقال: مؤمن حقاً.
وسأله رجل فقال: أشهد أن محمد بن عبد الله نبي، لكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا، قال: مؤمن حقاً.
قال حنبل: قال الحميدي: من قال هذا فقد كفر، وسمعت أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر].
وهذا صحيح عن أحمد.
ولكنهم لم يكفروا أبا حنيفة، وإنما قالوا: من قال هذا.
وفي ثبوت هذا عن أبي حنيفة أكبر النظر من جهة الإسناد ومن جهة النظر كذلك في حال أبي حنيفة وفي عمله.
فمن قال: إن لله كعبة لكني لا أدري أهي التي في مكة أم في غيرها، ومن قال: إن الله أرسل محمداً نبياً، ولكني لا أدري أهو الذي قبره بالمدينة أم غير ذلك، ومن قال: إن الله افترض خمس صلوات في اليوم والليلة، ولكني لا أدري أهي الصلاة التي يصليها الناس أو غيرها، ومن قال: إن الله افترض زكاة في أموال الأغنياء ترد إلى فقرائهم، ولكني لا أدري ما كنه هذه الزكاة وما مقدارها وعددها، وغير ذلك على سبيل التنكر فإنه لا يكون مؤمناً، ولم يكن أبو حنيفة من هذا الصنف.
قال: [قال أبو إسحاق الفزاري: قال أبو حنيفة: إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد].
وهذا لا يمكن أن يقوله أحد من أجهل جهلة المسلمين، بل لو سئل كافر يهودي عن هذا الكلام لأنكره، وقال: لا يعقل هذا، مع أن اليهود يكرهون جبريل؛ لأنه صاحب الوحي، وعداؤهم لجبريل لا ينتهي، وقد بين الله تعالى عداءهم له عليه السلام في سورة البقرة وفي غيرها من السور، حتى هم نفس(51/29)
تحذير السلف من منهج المرجئة
قال: [قال الثوري: اتقوا هذه الأهواء، قيل له: بين لنا -رحمك الله- ما هي الأهواء وماذا نجتنب؟ فقال: أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل، من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل الإيمان -أي: عند المرجئة- إيمانه على إيمان جبريل والملائكة، وإن قتل كذا وكذا فهو مؤمن، وإن ترك الغسل من الجنابة فهو مؤمن، وإن ترك الصلاة، وهم يرون السيف على أهل القبلة.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: من قال: إنه مؤمن فهو مرجئ.
وقال الأوزاعي: من آمن وعصى إيمانه كإيمان إبليس أشبه منه بإيمان جبريل؛ لأن جبريل آمن وأطاع، وإبليس آمن وعصى.
وقال وكيع: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة تقول: الإيمان قول بلا عمل، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة.
ومر أبو حنيفة بسكران -أي: برجل سكران- فقال له: يا أبا حنيفة! يا مرجئ! -أي: السكران هو الذي يقول لـ أبي حنيفة: يا مرجئ! - فقال له أبو حنيفة: صدقت، الذنب مني، جئت سميتك مؤمناً مستكمل الإيمان]، يعني: أنا المخطئ إذ سميتك مؤمناً؛ لأنه مرتكب كبيرة، وعند المرجئة أن من ارتكب جميع الكبائر إيمانه كإيمان أبي بكر.
فتصور أن أبا حنيفة كان مخطئاً في مذهبه وجاءه شخص سكران فأفاق أبو حنيفة مما هو فيه من الباطل عندما قال له السكران: يا مرجئ! فقال أبو حنيفة: أنا مخطئ إذ جعلت لهؤلاء الناس أشياء لا يستحقونها.(51/30)
ثناء العلماء على أبي حنيفة
أثنى العلماء على أبي حنيفة، ولا يكاد أحد منهم يذكر أبا حنيفة إلا ويثني عليه، وقد قال ابن تيمية كلاماً جميلاً حيث قال: من ظن بـ أبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى.
وقال ابن كثير في ترجمته: فقيه العراق وأحد أئمة الإسلام والسادة الأعلام، وأحد أركان العلماء.
وأورد ثناء الأئمة عليه، منهم يحيى بن سعيد وابن المبارك والشافعي وأبو نعيم ومكي بن إبراهيم وهؤلاء العلماء كانوا قريبي عهد به، فلو كان ما نسب إليه من مستشنعات صحيحاً عنه لكانوا أول من يعلم به، ولكنهم أثنوا عليه مع اطلاعهم على هذه المستشنعات ولم يلتفتوا إليها، فرحم الله علماء الأمة الإسلامية، وكتب لهم أجر جهودهم ونشرهم لدينه سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(51/31)
الأسئلة(51/32)
تحالف الشيعة مع المجوس واليهود والنصارى
السؤال
إن الشيعة على فساد عقيدتهم هم الذين تحدوا الظلم والجبابرة على مر العصور، فهل هذا فتنة لأهل السنة والجماعة، أم أن الأسماء ليست دليلاً دقيقاً على المسميات، أقصد أن أهل السنة والجماعة أيضاً يشوبهم كأشخاص نقص؟
الجواب
ليس الشيعة هم الذين تحدوا الظلم وتصدوا للجبابرة، بل الدارس لتاريخ الشيعة يعلم جيداً أن الشيعة وضعوا أيديهم في أيدي المجوس تارة والنصارى واليهود تارات أخرى في محاربة أهل السنة والجماعة، وهذا أمر يطول، وقد تناولت طرفاً عظيماً منه في أثناء التعليق على معتقدات الشيعة، والمقام لا يسمح بسرد شيء منه، ولو رجعت مثلاً إلى البداية والنهاية لـ ابن كثير، أو إلى كتاب تاريخ السنن والملوك أو العواصم من القواصم للإمام ابن العربي أو غيرها من الكتب لعلمت أن هؤلاء فرقوا المسلمين، وهم يعملون بالليل والنهار على محاربة السنة.
ومصر كانت في زمن الدولة الفاطمية بلداً شيعياً، فقد حمل البلد على التشيع رغم أنفه، والذي يتتبع تاريخ الفاطميين يعلم أنهم لما فتحوا مصر بنوا الأزهر لنشر مذهب الباطنية والإسماعيلية والرافضة وغير ذلك، بل هذه المذاهب هي التي كانت تدرس فحسب في الأزهر الشريف، لما لم يكن شريفاً في ذلك الوقت، وما كان الأزهر شريفاً إلا في فترة صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
ولما كان للشيعة في مصر الغلبة والنجدة والصولة كانوا يفتشون بيوت أهل السنة بيتاً بيتاً في كل ليلة، فإذا وجدوا عند أحدهم مصحفاً أو كتاباً من كتب السنة كـ البخاري أو مسلم أو موطأ مالك أو مسند أحمد شنقوا صاحب هذا الكتاب في الميادين العامة حتى يكون عبرة لغيره.
وهذا الكلام مذكور في كتب التاريخ ككتاب البداية والنهاية.(51/33)
حكم إقامة غير المؤذن، وحكم الخروج من المسجد بعد الأذان
السؤال
أذنت أذان صلاة العشاء، ثم وكلت شخصاً لإقامة الصلاة؛ لأنني أريد أن أحضر درس العلم وأحرص على حضور الدرس من أوله، فما حكم هذا الفعل؟
الجواب
هو مشروع وإن كان خلاف الأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام قضى بأن من دخل المسجد بعد الأذان فلا يخرج منه حتى يصلي الفرض الذي أذن له، وهذا الأمر محمول على الاستحباب، ومن خالف ذلك فقد وقع في الكراهة التنزيهية، والحكم يختلف بحسب السبب الداعي للخروج، فلو أنك دخلت مسجداً فوجدت فيه قبراً فيجب عليك أن تخرج منه، ومن كانت له حاجة أو عنده مصلحة تقضي أن يصلي في مسجد آخر فلا بأس أن يخرج من هذا المسجد إذا أيقن أنه يدرك الجماعة في المسجد الآخر، حتى وإن كان هذا الخروج بعد الأذان.(51/34)
حكم الاتكاء على راحة اليد الشمال
السؤال
هل النهي عن الاتكاء على راحة اليد الشمال في الصلاة فقط، أم هو نهي عام؟
الجواب
هو نهي عام في الصلاة وغيرها.(51/35)
حكم الأكل من الطعام المصنوع بمناسبة مولد الحسين
السؤال
اشترت جارة لنا لحماً وصنعت طعاماً بمناسبة مولد الحسين -رضي الله عنه- ووزعته على الجيران، فهل يجوز الأكل منه أم لا؟
الجواب
لا يجوز، سواء ذبحته لهذه المناسبة أو اشترته من الجزار لأجل هذه المناسبة، فلا يجوز الأكل منه، وهو أشبه بلحم ذبح على النصب.(51/36)
صفة ثوب الصلاة للمرأة
السؤال
ما صفة ثوب الصلاة للمرأة؟
الجواب
يجب على المرأة أن تلبس ثوباً طويلاً للصلاة، يغطي ذراعيها إلى الرسغين على الأقل ويغطي ظهر القدم.(51/37)
حكم العقيقة، وميقاتها
السؤال
إذا لم يعق عن الولد في اليوم السابع أو الرابع عشر أو الواحد والعشرين هل يعق عنه في أي وقت؟ وهل كل إنسان يعق عن نفسه إذا كبر إذا لم يعق عنه والده؟ وهل العقيقة سنة أم واجبة؟
الجواب
العقيقة محل نزاع بين أهل العلم بين سنيتها ووجوبها، والذي يترجح من مذاهب جميع العلماء: أن العقيقة سنة مؤكدة، والنبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد البعثة، وهذا يدل على تأكيدها، وقال: (كل غلام مرتهن بعقيقته).
وهذا تهديد ربما تناسب مع قول القائلين بأن العقيقة واجبة.
وأما ميقاتها ففي اليوم السابع، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يعق عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى)، يعني: يحلق رأسه ويماط عنه الأذى في يوم سابعه، وأما حديث الأربعة عشر أو الواحد والعشرين فحديث ضعيف، وذهب ابن حزم إلى أن من لم يعق عن ولده في اليوم السابع لم يقبل ذلك بعد السابع، ولكن جمهور أهل العلم -ورأيهم هو الرأي الصواب- أن من لم يتيسر له العق عن ولده في اليوم السابع فهي في ذمته متى تيسر له ذلك، واستحب أحمد أن يستدين ليعق عن ولده في اليوم السابع إذا غلب على ظنه أن يأتيه مال بعد السابع.
ويستحب للإنسان أن يعق عن نفسه إذا لم يعق عنه والده، وليس على سبيل الوجوب؛ لأنه إن كان فيها إثم فإنما يقع على الأب إذا تيسر له ذلك فلم يفعل.
وأما من لم يتمكن من العق مطلقاً في حياته لعدم الميسرة فإن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا شيء عليه.(51/38)
قول الشيعة الإمامية بنقص القرآن الكريم
السؤال
ما هي الفرقة التي ادعت أن القرآن غير مكتمل، وأن ثلثيه سيأتي به المهدي المنتظر؟
الجواب
الإمامية، قالوا: القرآن الذي بين يدي الناصبة -الذين هم نحن، يعني: أهل السنة، فهم يسموننا ناصبة أو نواصب؛ لأننا نناصبهم أو نناصب أهل البيت العداء، وليس الأمر كذلك، بل إننا نحب أهل البيت حباً جماً، ونعطي لهم حقهم، رضي الله عنهم- إنما هو ثلث القرآن الحقيقي، ومنهم من يقول: ليس هو القرآن الذي بين يدي الناصبة -أي: أهل السنة- وأن هذا القرآن لم ينزل منه حرف واحد من السماء، وأن القرآن الذي نزل من السماء خص النبي عليه الصلاة والسلام به علياً، وخص علي به فاطمة، وخصت به فاطمة أبناءها الحسن والحسين وغير ذلك، حتى اختفى هذا القرآن مع المهدي المنتظر أبو الحسن العسكري في سرداب سامراء في العراق، وسيظهر آخر الزمان، وهو المهدي المنتظر عندهم، بخلاف المهدي المنتظر عندنا.(51/39)
حكم حلق اللحية للسفر إلى العمرة
الشيخ: شخص يريد السفر لأداء العمرة وجواز سفره فيه صورة من غير لحية، وأصبح الآن له لحية، فهل يحلق لحيته أم لا؟ وإذا لم يحلقها فهل يلحقه ضرر من ذلك؟
الجواب
إن شاء الله لا يكون في ذلك ضرر، وتوكل على الله وسافر، وقد سافر معنا أناس على نحو ما ذكرت، وإن شاء الله بالخروج بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل تنجو من فتنة القوم.(51/40)
حكم لعن إبليس والاستعاذة منه
السؤال
هل يجوز لعن إبليس أم نستعيذ بالله منه فقط؟
الجواب
يجوز الاثنان، فإذا كانت اللعنة جائزة على أصحاب المعاصي أحياناً، فكيف برأس المعاصي كلها والسبب في وجودها.(51/41)
العذر بالإكراه
السؤال
لو قال رجل من أهل العلم المتبعين قولاً وهو مجبر مضطر، والعامة والجمهور يعتقدون أنه قال ذلك عن علم وحجة، واتبعوه على ذلك، فما حكمه، مثل أن يقول للعامة: إن بين المسلمين وغيرهم أخوة وطن وقومية، فهل يعذر لو كان مجبراً؟
الجواب
دائماً ينظر الواحد للقضية على أنها قضية الغير وليست قضيته، فلماذا لا تضع نفسك أنت في هذا الموقف، فإنك إذا أخذت وعزلت ستقول ذلك، وأنت مجبر؛ لأنك قد عذبت غاية العذاب، وعندما نرى أن ما نزل بك من بلاء أقوى من قدرتك على تحمله فسنعذرك.
نسأل الله السلامة لنا ولكم.(51/42)
حد عورة المرأة المسلمة بين المحارم
السؤال
ما هو حد العورة للمرأة المسلمة بالنسبة لمحارمها؟
الجواب
الكلام في هذه القضية كلام طويل جداً، وقد سمعت في الأسبوع الماضي شريطاً مدته ساعة ونصف تقريباً للشيخ الألباني رحمه الله يتعلق بهذه القضية فقط، وعنوان الشريط عورة المرأة المسلمة أمام المحارم، وخلاصته: أن عورة المرأة المسلمة أمام محارمها -يعني: أمام ولدها وعمها وأبيها وخالها وابنها من الرضاعة- هي مواضع الوضوء، يعني: لا بأس أن تظهر المرأة شيئاً من قدمها وشيئاً من ذراعها مثلاً، ورقبتها ووجهها وكفيها إذا كانت من أهل النقاب، وأما الشعر فقد وقع فيه نزاع، وكره أحمد بن حنبل رحمه الله أن يطلع -أي: المحارم- على شعر المرأة، وهذا طبعاً داعية إلى تمام الصيانة والعفة.(51/43)
حكم الصلاة خلف مرتكب البدعة غير المكفرة
السؤال
هل تجوز الصلاة خلف الإمام المرتكب بدعة غير مكفرة؟
الجواب
نعم إذا كانت البدعة غير مكفرة، والذي يطوف حول القبر ويستغيث بالمقبور بدعته مكفرة، لأنه صرف ما يجب لله عز وجل لغير الله، وهذا النوع شرك، فإذا دخلت المسجد ووجدت حلقة ذكر مثلاً وأصحابها يترنحون يمنة ويسرة ويذكرون الله على الحقيقة، وفي أثناء ذكرهم يتلون أشعاراً أو يذكرون الله تعالى ذكراً ليس فيه نوع شرك، فهذه الطريقة طريقة مبتدعة، ولو صلى أحد الصوفية وليس له من البدعة إلا هذا النوع من الذكر فهذه البدعة غير مكفرة، وهي لا تمنع من الصلاة خلفه، فإذا كانت البدعة غير مكفرة فلا بأس أبداً بالصلاة خلفه، مع اعتقاد أن الأمة سلفاً وخلفاً لا تزال تحرص على أداء الصلاة، وعلى صحبة أفضل الناس وأخيرهم وألزمهم للسنة، ولست بذلك أعني أنه لابد أن تصلي خلفه، بل لو كان هناك من الأئمة من هو أحسن منه حالاً فلا شك أن الصلاة خلفه أولى من الصلاة خلف هذا، ولكن لو اضطررت إلى أن تصلي خلف مبتدع بدعة غير مكفرة فإنه لا بأس بهذه الصلاة وهي صحيحة.(51/44)
إفتاء الشيخ الألباني بإخراج زكاة الفطر حبوباً وما شابهها
السؤال
المعروف عن الشيخ الألباني رحمه الله أنه يقدم الحديث على أي قول، فكيف قال بجواز صدقة الفطر من المال، ولم يقل من الطعام كما ورد في النص؟
الجواب
أين قرأت هذا الكلام للشيخ؟ وهل قال هذا الشيخ الألباني؟ فالمشهور والمعروف عن الشيخ الألباني أنه يرفض رأي أبي حنيفة في هذا تماماً، وهو معروف بتشدده جداً في هذه القضية، وقد سئل مراراً وسمعناه مشافهة وفي المسجلات يرفض تماماً أن تخرج زكاة الفطر مالاً، ويقول بوجوب إخراج زكاة الفطر حبوباً وما شابهها، بل إنه سئل -وأنا جالس أسمع- عمن أخرج زكاة فطره مالاً فقال: يعيد إخراجها طعاماً إذا كان في رمضان، يعني: إذا كان ما زال في رمضان يعيد مرة أخرى ويخرجها طعاماً، فنسبة الوهم إلى الناقل لهذا الكلام أولى من نسبة هذا القول إلى الشيخ مع ما اشتهر عنه من القول بالرأي الآخر.(51/45)
حكم الدراسة عند أهل البدع
السؤال
أريد أن أقرأ على شيخ في أحد المذاهب الفقهية وأنا محتاج إلى هذا، ولكن هذا الشيخ تغلب عليه البدعة في بعض مسائل العقيدة، ويغلب على ظني أني لن أتأثر به إن شاء الله، فهل يجوز أن أقرأ عليه؟
الجواب
أصل هذا السؤال عند أهل العلم الجواز، فربما يكون مبتدعاً في باب الاعتقاد مجتهداً في غيره من الأبواب، وتاريخ الأمة يقضي بأن الواحد إذا كان عنده خلل أو تقصير أو ضعف في جانب فلا يمنع أن يبلغ ضابط الاجتهاد في جوانب أخرى، والأمة تستفيد منه في هذه الجوانب التي تفوق فيها، ولكن الخطر كل الخطر على من يأخذ على يد هذا المبتدع، فإذا كان متيقظاً وحذراً جداً من بدعته وفتنته في الاعتقاد أو في المسلك فلا بأس بالأخذ على يديه.
وكثير من أبناء هذا المسجد -حتى لا نبعد بعيداً- ذهبوا إلى شيخ من شيوخ البدعة في الأزهر مشهور ومعلوم عنه البروز في الفقه وأصوله خاصة فقه الشافعية، ولكنه في الاعتقاد أشعري، حتى أصبح الواحد منهم يرسل الرسائل ويقول: أنا مستعد للخصومة والمحاججة في أن مذهب الأشاعرة هو الحق، وأن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، والذي أرسل إلي بهذه الرسالة كان قد أرسل إلي بمثل هذا السؤال سواء بسواء، وقال: أنا آمن على نفسي الفتنة منه، وإذا به في حقيقة الأمر لم يأمن، بل وقع في براثن الانحراف من أول وهلة؛ لأن هؤلاء يملكون الحجج والبينات والبيان والفصاحة واللسان الطلق الذي لا يمكن لأحد أن يقف أمامهم إلا أحد على مثل ما هم عليه من فصاحة وبيان وإلمام بالأدلة ومعرفة بما عليه الخصم ورد أهل السنة على مفترياتهم وغير ذلك، وما أظن أن أحداً تأهل لذلك.
فالأصل في هذا عند السلف الجواز، وواقع الناس يخوف من الأخذ بما قاله السلف تماماً.(51/46)
حكم العلاج بالعسل
السؤال
ما حكم استخدام العسل في العلاج مثل استخدامه في فتحة الشرج؟
الجواب
جائز.(51/47)
حكم تشميت العاطس
السؤال
إذا قال العاطس: الحمد لله، فهل يجب على كل من سمعه أن يقول له: يرحمك الله؟
الجواب
هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، وقد ذكر ابن عبد البر في مطلع كتابه الاستذكار فروض الكفايات وفروض الأعيان وحقوق الإسلام، فذكر كما هو راجح في مذهب المالكية أن هذا من فروض الأعيان، كتشييع الجنازة مثلاً أو الصلاة عليها أو رد السلام أو عيادة المريض، فترجح لديه أن هذا فرض عين على كل من سمع السلام مثلاً أو ألقي عليه السلام، فلو دخل شخص الآن المسجد وقال: السلام عليكم فعلينا كلنا الرد عليه، والجمهور على أن هذه الواجبات من فروض الكفايات، وإذا رد البعض سقط الإثم عن الباقين.
وأما المالكية فترجح لديهم أن هذه الواجبات هي واجبات على الأعيان، والراجح هو مذهب الجمهور.(51/48)
حكم الاستعانة بالجن على إخراج الكنوز من باطن الأرض
السؤال
هل يجوز الاستعانة بالجان لاستخراج الكنوز وغيرها من باطن الأرض؟
الجواب
قد أجبنا على هذا السؤال مراراً بأنه لا يجوز ذلك.(51/49)
الواجب على من أراد أن يكون طالب علم
السؤال
ماذا أفعل لكي أكون طالب علم وماذا علي؟
الجواب
الذي عليك أن تواظب على حضور مجالس العلم.(51/50)
النية شرط في العبادات
السؤال
هل النية شرط في أعمال العبادات والطاعات وأيضاً في الأعمال المباحة كالأكل والشرب والاغتسال المباح والنوم، أم في العبادات فقط، وكيف تعقد عند كل عمل إن كانت شرطاً لصحة العمل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
النية شرط في العبادة بلا خلاف بين أهل العلم، والنية هي التي تفرق العادة من العبادة، كما أنها تفرق العبادات بعضها عن بعض، فهذا فرض وهذا نفل، فالنية هي التي دفعتك إلى الدخول في العبادة، فمثلاً: أنت عندما تسمع أذان العشاء وتتوضأ وتخرج من البيت وتقف في الصف خلف الإمام، فهذا الخروج من البيت والوقوف مع الإمام وأداء الصلاة معه من النية، فهي لا تنعقد نطقاً وإنما تنعقد بالقلب؛ لأن محلها القلب، فلا يلزم أن تقول مثلاً: نويت أن أصلي العشاء في المسجد الفلاني في الساعة الفلانية خلف الإمام الفلاني، وغير ذلك من الكلام الطويل الذي يقوله الناس.(51/51)
ما يحذر العاقد فعله أيام العقد
السؤال
هل يجوز للعاقد أن يقبل ويضم زوجته قبل البناء، وإن كان لا يجوز فما الذي يجوز له؟
الجواب
الأخ عبد المنعم إبراهيم صنف كتاباً لطيفاً في هذه الحقوق اسمه الإتحاف، وأعطاني نسخة منه يوم الجمعة الماضية، وهو كتاب لطيف إن شاء الله، فيه من الفوائد والأحكام الشيء الكثير، ويلزم كل عاقد على أن يعرف ما له وما عليه.
وأما هل يجوز له أن يضم ويقبل؟ فإذا كانت الإجابة بالإيجاب فإنه يخشى مما هو أبعد من ذلك، فينبغي لكل عاقل أن يحترم نفسه، وأن يصبر على حرقة الشوق مدة العقد حتى يدخل بشيء من الحب والشوق إلى امرأته بعد البناء؛ لأن الذي يقبل ويحضن وغير ذلك خاصة إذا طالت مدة العقد فإنه يفتر شيئاً فشيئاً حتى إذا أتى موعد البناء لم يكن له حاجة فيها في الغالب، ثم إن هذا قد يؤدي إلى جماعها، وغالباً الإنسان إذا كان شاباً ولم يسبق له الزواج لا يأمن على نفسه، وعائشة رضي الله عنها في غير ما حديث تقول: (فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم ويخرج إلى الصلاة فيصلي ولا يتوضأ)، يعني: بوضوئه الأول، (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أملككم لإربه، وأيكم -تخاطب الصحابة- أيكم أملك لإربه؟) أي: حاجته وشهوته، فإن أحداً لا يستطيع ذلك، فإذا كان هذا الخطاب للصحابة فهو من باب أولى أن يكون لشباب اليوم الذي يتحرق ناراً وشوقاً إلى معاشرة النساء.
فإذا علم أن المعقود عليها حلال له الاستمتاع بها ظاهراً فربما أدى به إلى الإيقاع بها باطناً، وأحد الإخوة لما علم أن ذلك له مباح فعل، فلما فعل استنكف جداً أن تكون هذه امرأته، وقال: هذه المرأة ليست شريفة، ولو كانت شريفة لدفعتني ومنعتني، فلما فعلت ذلك هذا يدل على أنها مكنت من نفسها غيري، فلا مانع أن تمكن الغير منها بعد البناء، ولعب الفأر بعبايته أو برأسه واستقر أمره على أن يطلقها.
ووقعت أكثر من عشر حالات على هذا النحو ثم وقع بينهم الطلاق، ولابد من النظر إلى العرف، فكيف ينظر أهل الحي لهذه المرأة؟ وهل ينظرون إليها على أنها زانية أم أنها شريفة وأن زوجها هو الذي أتاها؟ فينظر المجتمع الجاهل على أن هذا المرأة زانية، وظاهر نصوص القرآن والسنة توجد فيها فروق كثيرة بين المعقود عليها وبين المدخول بها من جهة الحقوق، من الميراث والعدة، وغير ذلك من سائر الحقوق التي بين الزوجين.
أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد.(51/52)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما جاء في أن الإيمان اسم مدح
معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، فالأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان؛ وما من عمل إلا وهو يؤثر في إيمان العبد؛ فإما يزيده، وإما ينقصه، وإما يسلبه بالكلية.(52/1)
ما ورد في كتاب الله تعالى في أن اسم الإيمان اسم مدح وأن المؤمنين في الجنة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فأول الجزء السادس من كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي يتكلم عما ورد من الآيات في كتاب الله عز وجل، في أن اسم الإيمان اسم مدح، وأن المؤمنين في الجنة.(52/2)
المقصود من اسم الإيمان الوارد في الكتاب والسنة
أنا أريد أن أقول: إن مصطلح الإيمان أو اسم الإيمان واسم الكفر أو الفسوق أو العصيان وضعت لمعانٍ معينة.
أما ما ورد في الكتاب والسنة باسم الإيمان فإنما ورد في معرض المدح لا في معرض الذم، وأن هذا المصطلح إنما وضع للأعمال والمعتقدات، مما يدل على أن الأعمال داخلة في الإيمان؛ لأنه لما تكلم الله عز وجل في غير ما موطن من كتابه عن المؤمنين تكلم لا عن ذات المؤمنين وإنما عن السبب الذي مدح به المؤمنون، وهو أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم عن اللغو معرضون، وغير ذلك من صفات المؤمنين، فالمدح إنما انصب على عملهم.
أما هم فهم في الجنة والسبب أعمالهم التي هي داخلة في مسمى الإيمان أو في حقيقة الإيمان، وهذا بخلاف غيرهم ممن أوردهم الله عز وجل على سبيل الذم، وهم المنافقون، والكافرون، والعصاة، ولكل واحد منهم منزلة في النار، أو يعفو الله عز وجل عن عصاة الموحدين، فهو يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
فالمؤلف رحمه الله أراد أن يبين في هذا الباب أن مصطلحات معينة في الشرع وضعت، منها ما وضع للمدح كمصطلح الإيمان، ومنها ما وضع للذم كمصطلح الفسوق والعصيان والنفاق والكفر.
أما الإيمان فإنما هو اسم مدح لأهله؛ لأنهم عملوا كيت وكيت من الأعمال الصالحة، وأما مصطلحات الفسوق والعصيان والفجور والنفاق والكفر فكلها مصطلحات ذم وضعت لأقوام عملوا لمعصية الله عز وجل، وعدد بعض الصفات التي استوجبت لأصحابها النار، كما أنها استوجبت لأصحابها اسم الفسوق أو العصيان أو النفاق أو الفجور أو الكفر، وغير ذلك من سائر المصطلحات التي تستوجب النار أو يعفو عنها الغفار تبارك وتعالى.
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، أي: أفمن كان مؤمناً من الناس يعمل الطاعات وينتهي عن المعاصي كمن كان فاسقاً، والفاسق: هو من ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة، سواء من جهة الميل القلبي أو من جهة العمل، أي: عمل الجوارح.
فإن الذي يزني لا بد أن يسلب عنه حين الزنا اسم الإيمان، ولذا فإننا نفرق دائماً بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق.
أما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان الذي استقر في القلب وقت النطق بالشهادتين، وهذا الإيمان الذي هو من عمل القلب إذا زال عن المرء زال عنه تماماً اسم الإيمان والإسلام.
أما الإيمان المطلق فهو كمال الإيمان وتمامه، إما كماله الواجب أو كماله المستحب، فالكمال نوعان: إما كمال واجب يتعلق بالحلال والحرام وغير ذلك من سائر الفرائض والأركان الشرعية، وإما كمال مستحب يتعلق بسائر النوافل.
فمن أدى الفرائض وحرم الحرام وأحل الحلال وعمل بالأمر وانتهى عن النهي فإنما يكون قد أدى الكمال الواجب في الإيمان المتعلق بالجوارح، وأما إذا زاد عن ذلك فعمل النوافل وتقرب إلى الله عز وجل بسائر المستحبات فإنما قد حقق الإيمان الكامل أو قد بلغ حقيقة الإيمان؛ ولذلك لما أثنى الله تعالى على المؤمنين بأعمالهم قال في نهاية مدحه لهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4] يعني: هؤلاء الذين بلغوا حقيقة الإيمان، وكمال الإيمان، وتمام الإيمان، لأنهم فعلوا أعمالاً صالحة.(52/3)
تفريق الله تعالى في كتابه بين المؤمن والفاسق أو المنافق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:18] هذه الآية فيها رد على المرجئة الذي يقولون: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، لأنهم يخرجون العمل عن ماهية الإيمان وعن مسمى الإيمان وعن حقيقة الإيمان، فيقولون: الإيمان هو: التصديق بالقلب والقول باللسان.
والجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة، حتى وإن لم يستقر ذلك في القلب، وإن لم يتلفظ به اللسان، فإبليس عليه لعنة الله يعلم جيداً أن الله عز وجل حق، وبالتالي يرد عليهم بأيسر ما يمكن؛ لأن حجتهم أوهن من بيت العنكبوت.
وكذلك المرجئة الغلاة فهم لا يفرقون بين الطائع والعاصي؛ وهذا كلام استقر في أذهان العامة، فضلاً عن الخاصة؛ فالذي يزني ويعتاد الزنا ليس كالطاهر العفيف، حتى في أعراف الناس لا يستويان، وكذلك السارق الذي أدمن وألف السرقة لا يمكن قط أن يستوي مع إنسان عف نفسه عن الحرام أو امتنع عما ليس له.
فالمرجئة يقولون: إيمان أطوع الناس لله عز وجل كإيمان أعصى الناس لله عز وجل.
إذا كان إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليس كإيمان جبريل، وأبو بكر رضي الله عنه هو من هو في الإمامة والهدى والعلم وغير ذلك؛ ومع هذا لا يستوي إيمانه مع إيمان جبريل عليه السلام، بل جبريل عليه السلام أسبق إيماناً من أبي بكر؛ لأن الله تعالى خلق الملائكة قبل أن يخلق الإنس، فجبريل في الخلق سابق على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبو بكر الصديق في آخر أمة من أمم الله عز وجل، فجبريل قد وحد الله تعالى آلاف السنين قبل أن يخلق الله أبا بكر، فكيف يستويان، فضلاً عن استواء العاصي مع الطائع؟ ولذلك الله تعالى إنما ذكر هذه الآية على سبيل التقريع والتوبيخ أو لفت الأنظار.
فقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة:18]، يعني: هما الاثنان لا يستويان، فبين الله تبارك وتعالى الفرق بين المؤمن العامل بمقتضى الإيمان وبين الفاسق الذي لم يعمل بمقتضى الإيمان.
قال: [وقال تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:11]]، ففرق بين الإيمان والنفاق، فالنفاق هو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، ولكن إذا خفي هذا على الخلق فإنه لا يخفى على الله عز وجل، والله تعالى يعلمه حقيقة العلم قبل أن يوجد وقبل أن يخلق.
قال: [وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، فكيف يكون مؤمناً من كان فاسقاً منافقاً؟ وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]]، النداء وجه لأهل الإيمان، فإذا كان الإيمان اسم مدح لصاحبه فلم أمرهم الله عز وجل في هذه الآية بعد أن مدحهم أن يتوبوا إليه؟ وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء) ولفظ (كل) من ألفاظ العموم، والراجح أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر، وهذا مذهب جماهير أهل العلم من أهل السنة وهو الحق الذي أيدته الأدلة من الكتاب والسنة، فأصلح الصلحاء، وأطوع الطائعين من بعد الأنبياء أولى باقتراف الذنب، إما هفوة ولمماً أو صغيرة وإما كبيرة، بل أحياناً نجد من أهل الصلاح من يرتد عن دين الله عز وجل ثم يرجع إليه أخرى، فالنداء هنا لأهل الإيمان الممدوحين سلفاً.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:8] توبوا: فعل أمر يفيد الوجوب.
أي: توبوا توبة خالصة صادقة لا ترجعوا بعدها إلى الذنب، بأن تعزموا على الاقتلاع والانتهاء عن المعصية، وأن تتفطر قلوبكم عما بدر منكم، مهما قل ودق وصغر حجمه.
قال: [ولا شك أن التوبة تكون من المحظورات والمناهي]، فالمسلم يتوب من شيء وقع فيه، من معصية صغيرة أو كبيرة، فإذا كان الله تعالى أمر أهل الإيمان أن يتوبوا فمن باب أولى أن يوجه هذا النداء لأهل العصيان والفجور والفسوق وغير ذلك من أصحاب الكبائر.
فدلت هذه الآية مع قوله عليه الصلاة والسلام: [(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة كبيرة يتطلع إليه فيها الناس بأبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل الغال حين يغل وهو مؤمن)].
أي: لا يزني الزاني، ولا يسرق السارق، ولا ينهب الناهب، ولا يغل الغال، إلا ويسلب عنه اسم الإيمان، لكن سلب الإيمان لا يدل على أنه قد كفر؛ لأن بعض الناس يقول: إن لم يكن مؤمناً لا بد أن يكون كافراً، لابد أن تعلم كما قال كثير من السلف وأشاروا بأصابعهم إلى أن الإسلام دائرة كبيرة عظيمة، وأن الإيمان هكذا، وحلقوا بأصابعهم حلقة صغيرة في وسط دائرة الإسلام، إذا نزع هذا الإيمان لا بد أن يقع صاحبه في دا(52/4)
الأدلة على أن الأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان
ودلت الآيات والأخبار كلها عن أن الإيمان اسم مدح يستحق صاحبه المدح على أفعاله، والفسق اسم ذم يستحق صاحبه الذم على أفعاله، ودليل هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ} [الأنفال:2] يعني: خشعت قلوبهم وذلت وانقادت وخضعت لله عز وجل، فالإيمان يزيد بسماعهم لتلاوة آيات الذكر الحكيم، كلما سمعوا آية ازدادوا إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، فكل الذي سبق عمل قلبي.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، الصلاة عمل الجوارح، وعمل القلب كله داخل في الإيمان.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، والنفقة تكون بالجوارح.
إذاً: عمل الجوارح وعمل القلب داخل في حقيقة الإيمان.
وقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:4]، بين الله عز وجل أن من جمع بين عمل القلب الإيماني وعمل الجوارح هو المؤمن حقاً، وهذا يدل على أن الأعمال داخلة في حقيقة الإيمان، كل على حسبه، {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:4].
قال: [وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]]، والوعد والجزاء للمؤمنين الذين أتوا من الأعمال القلبية وأعمال الجوارح ما يحقق لهم الإيمان الكامل أو الإيمان التام.
ٌقال: [وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:65]، وقال تعالى في صفة المنافقين: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]]، فهؤلاء استحقوا هذه الدركة من النار بسبب ما قد أتوا من أفعال استوجبت لهم هذه الدركة، وسماهم الله تعالى منافقين وهو اسم ذم.
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)]، فلا يمكن أن يستوي الذي يسب الناس ويشتمهم ويلعنهم ويؤذيهم مع الذي لا يسبهم ولا يشتمهم ولا يلعنهم ولا يؤذيهم؛ لأن الذي يسب ويشتم ويلعن ويفسق ويبدع بغير حق يستحق الذم لما قد بدر من لسانه من السب والشتم واللعن، والضرب باليد والقدم، كل هذه من أعمال الجوارح، فإنها تخرج صاحبها من اسم المدح وهو الإيمان وتدخله في اسم الذم وهو الفسوق، فالذي يسب ويشتم ويلعن وغير ذلك بغير حق فإنما هو فاسق.
وإذا كان لفظ القتال، يعني: إراقة الدماء، فقتل المؤمن بغير حق لا شك أنه معصية كبيرة، ونحن نعلم أن صاحب المعصية لا يكفر مهما كانت كبيرة إلا إذا استحلها، مع قيام الحجة عليه، كل أنواع الكبائر لا يكفر صاحبها إلا إذا استحلها، حاشا الشرك، فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه، وإذا أقيم عليه الحد فهو كفارته، وإذا مات مصراً على الذنب غير مستحل له فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
هذا تأصيل علمي لمرتكب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة، بخلاف المرجئة فإنهم يقولون: لو ارتكب امرؤ كل الكبائر عدا الشرك بالله فإنه مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، ولا حرج عليه.
لا شك أن هذه دعوة إلى الفجور والمعاصي، إذا علم المرء من نفسه أن إيمانه لا يتزعزع ولا ينقص، وأنه داخل الجنة لا محالة مهما ارتكب من كبائر وسيئات، فلا يردعه عن الكبائر شيء؛ لأنه وجبريل عليه السلام في منزلة واحدة في الجنة مهما ارتكب من الكبائر.
فإذاً: ما الذي يمنعه عن ارتكاب الكبائر؟! فهذا المذهب من أفسد المذاهب، وأنا لا زلت في حيرة من أمري، هل هؤلاء القائلون بهذا الرأي فقدوا عقولهم تماماً حتى يتجرأ قائلهم ويقول: إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، وأنهم في منزلة واحدة في الجنة؟ أما الخوارج فإنهم قاموا على مرتكب الكبيرة وكفروه وغلاتهم كفروا مرتكب الصغائر، أما عامة الخوارج فإنهم يكفرون مرتكب الكبيرة، بخلاف المعتزلة، فإنهم وقفوا من مرتكب الكبيرة موقفاً مخزياً إلى أقصى حد، فقالوا: مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهذا حكمه في الدنيا.
أما في الآخرة فإنه مخلد في النار لا يخرج منها أبداً، كيف ذلك والعقيدة المستقرة بأنه لا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، سواء كان الكفر كفراً أصلياً أو كفر ردة، والمنافقون كذلك، هؤلاء هم الذين يخلدون في النار ولا يخلد أحد غيرهم، فكيف لا هو مؤمن ولا هو كافر ومع هذا هو مخلد في النار؟ وأهل السنة والجماعة يقولون: مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فهم لا ينفون عنه اسم الإيمان بالكلية، كما لا يعطونه م(52/5)
الأعمال التي تنقص من الإيمان أو تسلبه بالكلية
فقوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، أي: لا يستوي قط من سب مسلماً ومن لم يسب، ولا من قاتل مسلماً ومن لم يقاتل، فالذي لم يقاتل يستحق المدح، والذي قاتل وسب يستحق الذم، وذمه إما أن يكون كافراً، وإما أن يكون فاسقاً، فالسباب فسوق، أما القتال فمنه ما هو فسوق إذا كان كبيرة، ومنه ما هو كفر إذا استحل ذلك بعد قيام الحجة عليه.
قال: [وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: الكذب يجانب الإيمان]، يعني: الكذب لا يمكن أن يتفق قط مع الإيمان؛ لأن الكذب كبيرة من الكبائر، خاصة الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (آية المنافق ثلاث -يعني: علامة المنافق ثلاث- إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)، وفي رواية: (وإذا عاهد غدر).
والمعلوم أن الواحد منا يكذب، ويعد ولا يفي، ويؤتمن ويخون، وغير ذلك من الخصال المذكورة في الحديث، فهل الواحد إذا كذب في حديثه يكون منافقاً؟ أنتم تعلمون أن النفاق أشد خطورة من الكفر البواح؛ لأنه يبدي ويظهر خلاف ما يبطن، فيأمنه الناس على دينه، وهو في حقيقة الأمر غير أمين على شيء، فخطورته عظيمة جداً.
وهذا الحديث قال فيه أهل العلم: أنه ورد بصيغة الاستمرار (إذا) التي تفيد الاستمرار، فقوله: (إذا حدث كذب) قالوا: الغالب عليه في حديثه الكذب، فقل أن يصدق، فهو مثل الشيطان الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، لأنه ليس له مصلحة في هذا الموطن أن يكذب فصدق حتى يأخذ النوال والعطاء.
فلما دعته المصلحة الشخصية للصدق صدق، لكن الأصل فيه أنه كذوب، فقوله: (إذا حدث كذب)، يعني: مستمر وقائم ومداوم على الكذب، حتى إن الناس يشيرون إليه بأصابع الاتهام: إن فلاناً هذا كذاب فلا تصدقوه.
على عكس ما كانوا يشيرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فالصدق اسم مدح، والكذب اسم ذم، ومن وقع في الكذب استحق الذم، ومن تلبس بالصدق استحق المدح، فالصادق والكاذب لا يستويان، هذا مذموم وذاوك ممدوح، هذا في الجنة وذاك في النار.
فالكاذب في أثناء ما يحدثك هو يكذب ويعلم أنه يكذب ومستمر على الكذب ومصر عليه.
وإذا استحل الكذب كفر، وإذا كان مداوماً عليه غير مستحل له فإنه فاسق مرتكب لكبيرة عظيمة من الكبائر.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا وعد أخلف) أي: كما أنه إذا وعد أخلف، وحرف (إذا) يفيد الاستمرار، يعني: هذا الإنسان معلوم عند الناس أنه لا يفي بوعد قط، بل في أثناء وعده إياه بعمل الشيء أو باللقاء في المكان الفلاني هو غير ناو الوفاء، لأنه يخلط بين الكذب في الوعد وبين خلف الوعد في أثناء الوعد، وكذلك (إذا عاهد غدر).
وهذه الخصال كانت في الجاهلية مذمومة، فـ أبو سفيان رضي الله عنه لما كان مشركاً كافراً وسأله هرقل عظيم الروم عن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يصدق في كل جواب رداً على هرقل ويقول: (لو لم تعدها علي العرب كذبة لكذبت) يعني: هو خائف أن العرب تقول: أبو سفيان كذاب، لأجل كذبة واحدة.
وكذلك مسألة الجوار، فقد كان الجوار معروفاً في الجاهلية، فإن الواحد منهم كان يفعل الفعلة أو يأتي من بلاد بعيدة وينزل على فلان من الناس عظيم أو شريف من الشرفاء ويقول له: أدخلني في جوارك، أو ارحمني، فلا يمكن لأحد قط أن يمسه بأذى إلا أن يخرج من الجوار، وكانوا يحترمون هذا ولا يغدرون به قط.
أما هذا الوقت فإن فيه من التفريط والإهمال والمعاصي والمنكرات التي تسربت إلى أبنائنا لما تشربوها من آبائهم وأمهاتهم، فعندما يقول القائل: أنا في جوار ربنا، فإن الخصم ينتقم منه أشد الانتقام، لا يراعي جوار الله، ولا جوار الشرع ولا أصل الأصول ولا أي شيء، وهذا يدل على أنه إذا عاهد غدر، يعني: بعدما يدخل بجواره يقتله وهذا غدر، فلا يمكن قط أن يستوي صاحب هذه الخصال مع من يأتي بنقيضها مما يأمر به الإيمان.
[وروي عن ابن عباس وأبي الدرداء وأبي هريرة وعقبة بن عامر الجهني والحسن وعطاء وأبي جعفر الباقر والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ممن تقدم وممن لم يأت.
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]، فقوله: (حين) يعني: في وقت زناه يسلب عنه الإيمان، وكذلك في وقت السرقة يسلب عنه الإيمان ثم يعود إليه، لكن لا يعود إليه الإيمان إلا إذا تاب، ولكنه لا يخرج من حظيرة الإسلام إلا إذا استحل هذه المعصية اعتقاداً، سواء عمل بها بالجارحة أو لم يعمل.
قال: [(ولا يغل(52/6)
كلام ابن عباس في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي
قال: [وعن ابن عباس أنه قال لغلمانه -أي: لمواليه-: من أراد منكم الباءة زوجناه -يعني: من أراد منكم أن يتزوج زوجناه- لا يزني منكم زان إلا نزع الإيمان منه].
هو يقول لهم: ممنوع لأي شخص منكم أن يفكر أن يزني؛ لأن الواحد منكم إذا كان في حاجة إلى الزواج فليخبرني وأنا أزوجه، مخافة أن يقع في الزنا الذي يسلب معه الإيمان.
قال: [فإن شاء أن يرده الله عليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه]، لأن الأمر مثلما يقول ابن تيمية وابن الجوزي وغيرهما أن الطاعة دائماً تسلم إلى أختها، وأن المعصية في الغالب تسلم إلى أختها، وقل أن يوفق صاحب كبيرة إلى التوبة، لأن المعصية لها حلاوة، والقلب يتعلق بها أيما تعلق، فيصعب جداً على صاحب القلب الضعيف والإيمان القليل أن يرجع إلى إيمانه الذي تركه أو الذي سلب عنه آنفاً.
فتصور لو أنك مثلاً شاهدت حلقة من مسلسل في التلفزيون، وإن كان المسلسل خنا وضياع وشذوذ لكنك وقفت على لقطة سلبت قلبك فأنت متعلق بالحلقة التالية منتظر لها لأنه قد نزع من قلبك الإيمان الذي يحملك على بغض النظر إلى هذا، وركب في قلبك شهوة لها اتصال قوي بالمعاصي، فهي تريد أن تعرف إلى أي حد تصل هذه المعصية، فأنت مع كل حلقة تسلمك إلى الثانية.
أما إذا كنت من أهل الإيمان وأهل الطاعة وأصحاب الصلاة وأصحاب العلم فإنك إذا سمعت درساً في شعبة من شعب الإيمان فأنت متعلق بهذا الدرس حتى تعلم الشعبة الثانية والثالثة والرابعة والعاشرة والخمسين والسبعين والبضع والسبعين، حتى تكتمل لديك شعب الإيمان.
فالطاعة دائماً تسلم إلى طاعة، والمعصية تسلم إلى معصية، وقل أن تسلم معصية إلى طاعة، لأن التوبة شديدة جداً على نفس العاصي، فاحذر من هذا؛ ولذلك فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تهديد حيث قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) وفي نهاية الأمر (والتوبة معروضة بعد) يعني: بعدما وقعت في هذا كله التوبة أمامك، فهل تستطيع أن تتوب أو لا؟ فقل أن يتمكن إنسان بعد انغماسه في المعاصي من الرجوع إلى الله عز وجل؛ لأن الشيطان لا يتركك، الشيطان يقول لك: انظر إلى هذا الفيلم فقط، أو إلى هذه الحلقة فقط، أو إلى هذه البنت الجميلة فقط.
أو يزين لك فيقول: يا رجل أنت بعيد عن الزنا، نحن نسمع من الشيوخ أنه حرام، وربنا أكده والرسول عليه الصلاة والسلام فقط أنظر إليها، استمتع فقط بالنظر.
والاستمتاع بالنظر يأتي بعده البسمة، ثم الضحك، ثم الغمز، ثم اللمز، ثم الوعد، ثم المقابلة وغير ذلك من أعمال المعاصي التي هي بريد الزنا.
فلا بد في نهاية الأمر أن تقع في الفاحشة البينة، فإذا كان ذلك منك فهل يا ترى تستطيع أن تقلع عن الذنب حينئذ؟ ربما يكون ذلك وربما لا يكون، فإذا كان الأمر غير راجح عندك أنك تترك المعصية فلا بد أن تستأصل شأفة الأسباب المؤدية إلى اقتراف الذنب من أول وهلة.
قال: [وقال ابن عباس: الحياء والإيمان في قرن واحد، فإذا انتزع أحدهما من العبد اتبعه الآخر]؛ لأنه ما امتلك زمامه.
فأنتم تعلمون أن الحياء من الإيمان، وهو شعبة من شعبه كما أخبر عليه الصلاة والسلام، إذا نزع الإيمان نزع الحياء، وإذا نزع الحياء نزع قدره من الإيمان.
إذا كانت هذه كلها شعب الإيمان فبلا شك أن ترك شعبة من الإيمان يترك من الإيمان على قدر تركها، فمن ترك مثلاً الصدقة لا بد أن يخدش إيمانه على قدر تفريطه في الصدقة، والذي يترك الحياء فلا بد أن يخدش إيمانه على قدر تركه للحياء، وهكذا كل شعبة من شعب الإيمان.(52/7)
كلام أبي هريرة في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي
قال: [وقال أبو هريرة: لا يزني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن.
قال عطاء: يتنحى عنه الإيمان]، ولا يبقى في القلب إلا غبرات الإيمان وأصله وشبحه.
أما الإيمان الذي ينير القلب لصاحبه ليسلك الطريق إلى الله عز وجل، فلا شك أن ذلك مرهون بالعمل؛ فإن جملة العمل -أي: عمل الجوارح- في الإسلام داخلة في مسمى الإيمان.
قال: [وقال أبو هريرة: إذا أتى الرجل امرأة حراماً فارقه الإيمان]، يعني: إذا زنا الرجل فارقه الإيمان، ووصفه أحد الرواة بأن وضع إحدى يديه على الأخرى ثم فرق بينهما قليلاً.
قال: إذا أتى الرجل امرأة حراماً انتزع منه الإيمان ورفع إحدى كفيه عن الأخرى شيئاً يسيراً، فإذا سرق زادت، أي: زادت المفارقة بسبب المعاصي، فإذا غل زاد، وهكذا كلما ارتكب ذنباً تباعد إيمانه، أو انسلخ إيمانه من قلبه.
قال: ثم فرق بينهما قليلاً ثم قال: يفارقه الإيمان هكذا حتى إذا رجع أعمال الطاعة رجع الإيمان حتى أطبق بين يديه؛ ولذلك فإن إبراهيم بن عيينة وهو أخو سفيان بن عيينة لما سمع الثوري أو سمع أخاه سفيان بن عيينة يقول: وإن الإيمان يزيد وينقص، قال: يا إمام! يزيد لكنه لا ينقص، قال: اسكت يا غبي، فإن الإيمان ينقص حتى لا يبقى في القلب شيئاً.
هذا نص عظيم جداً من إمام من أئمة السنة سواء كان هو ابن عيينة أو الثوري فإنهما إمامان عظيمان من أئمة السنة والأثر.(52/8)
كلام أبي الدرداء في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي
قال: [قال أبو الدرداء: ما الإيمان إلا كقميص أحدكم يخلعه مرة ويلبسه أخرى].
وأريد أن أؤكد على أن هذه النصوص وغيرها إنما تتكلم عن الإيمان الواجب والإيمان المستحب، أما أصل الإيمان فإنه إذا فارقه العبد لا بد أن يفارقه الإسلام جملة.
يعني: لو قلنا: إن الإيمان أصل ومقتضى، فالأصل إنما هو القدر الذي يلزم المرء في ثبوت إسلامه، فهذا الذي يسميه العلماء أصل الإيمان، أو مطلق الإيمان، فإذا ذهب هذا الإيمان أو ذهب هذا الأصل لا يبقى مع صاحبه لا إيمان ولا إسلام.
أما الآيات والأحاديث التي تسلب المسلم اسم المدح بسبب ذنب ارتكبه فإنما سلبت هذه الآيات وهذه الأحاديث اسم المدح وهو الإيمان المتعلق بالإيمان الواجب والإيمان المستحب الذي يتعلق بالحلال والحرام ويتعلق بالواجبات والفرائض وأركان الشريعة وغير ذلك.
أما الإيمان المستحب فهو المتعلق بسائر النوافل والطاعات التي ليست بواجبة أصلاً.
قال: [قال: ما الإيمان إلا كقميص أحدكم يخلعه مرة ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه]؛ لأن الأصل في المؤمن أنه يسير إلى الله تعالى بجناح الخوف وجناح الرجاء، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، فمن أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة) وفي رواية: (يوم يقوم الحساب).(52/9)
كلام أبي بكر في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي
قال: [وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب الإيمان.
وقال الحسن: يجانبه الإيمان ما دام كذلك]، فإذا ترك الكذب رجع إليه الإيمان، فالذي يقع في الكذب وهو كبيرة من الكبائر لا بد أن يخصم من إيمانه على قدر كذبه.
والإيمان والفجور مخلوقان، فالله تبارك وتعالى جعل الإيمان على قدر الطاعات، وجعل الفجور على قدر المعاصي.
ومدح الله تعالى أهل الإيمان باسم المؤمن، وذم أهل المعاصي باسم الفسوق والعصيان وبكل أساليب الذم.
فإذا كان هذا وذاك رزق أو خلق فإن الله تعالى جعل الإيمان على قدر ما خلق من أعمال الطاعات، فكلما أتى المرء طاعة من الطاعات ازداد من الإيمان على قدر حفاظه على هذه الطاعة، فإذا فرط في طاعة وتلبس بمعصية فإنما يمقت إيمانه على قدر هذه المعصية، كما أنه يستحق اسم الذم للوقوع في المعصية، فإذا كانت مفسقة كان بها فاسقاً، كالزنا والسرقة وسائر الكبائر أو الإصرار على الصغائر.(52/10)
خروج العاصي من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام
قال: [وسئل أبو جعفر محمد بن علي وهو أبو جعفر الباقر عن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)، فقال: هذا هو الإسلام، ودور دائرة عظيمة، ثم دور دائرة في جوفها أصغر منها، ثم قال: هذا الإيمان].
إذاً: حظيرة الإسلام أوسع من حظيرة الإيمان، والذي يشمله الإسلام لا يلزم أن يشمله الإيمان، لكن الذي يشمله الإيمان لا بد أن يشمله الإسلام من باب أولى، والذي يسلب عنه الإيمان لا يلزم أن يسلب عنه الإسلام، بخلاف الذي يسلب عنه الإسلام لا بد أن يسلب عنه الإيمان من باب أولى.
قال: [هذا الإيمان مقصور في الإسلام، فإذا هو زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام]، ولا يخرج من الإيمان إلى الكفر، لأن فيه مرتبة لا يتعداها إلا إذا أتى فيها ما يستوجب الخروج عنها.
يعني: يعتبر أن الإيمان دائرة ومن بعده دائرة الإسلام وهو أوسع، ومن بعده دائرة الكفر وهو أوسع الدوائر، فمن خرج من الإيمان ينحط إلى الإسلام، ومن أتى عملاً يناقض الإسلام متعمداً مع قيام الحجة عليه يسقط إلى هاوية الفسق أو الكفر.
ونذكر من الدوائر دائرة الفسق؛ لأنه لا يمنع أن يكون الرجل مؤمناً وفاسقاً، ولا يمنع أن يكون مسلماً وفاسقاً، وهذا الذي تكلمنا عنه منذ قليل فيما يتعلق بارتكاب الكبائر، وأن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن بطاعته، فاسق بكبيرته أو فاسق بمعصيته.
قال: [فإذا هو زنى أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، فإذا تاب رجع إلى الإيمان، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله]، وأنا أرى النص هذا من أفضل وأوضح النصوص فيما يتعلق بالإيمان والإسلام والكفر، فهو في غاية الأهمية.(52/11)
سياق ما روي عن النبي في أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، وعلامة المنافق
قال: [سياق ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر].
وكذلك باقي علامات المنافقين.
فمعنى الحديث: أن المسلم إذا سب المسلم وقذفه فقد كذب، والكذاب فاسق ويزول عنه اسم الإيمان، وباستحلاله قتاله يصير كافراً.
وقال: (من علامات المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر)، وغير ذلك من خلال وخصال المنافقين، لكن لا يكون منافقاً -أي: خارجاً عن الإسلام وداخلاً في دائرة الكفر- إلا إذا استحل هذا مع قيام الحجة عليه بحرمة هذا كله.
أما إذا وقع فيها مرة أو مرتين فإن هذا لا يضره، إلا على قدر ما قد أتى، أما إذا كان مداوماً عليه يشار إليه بأصابع الاتهام أنه مقيم على ذلك على اعتبار ما يفيده حرف (إذا) الذي يفيد الاستمرار، من أنه دائماً كذاب، ودائماً مخادع، ودائماً غدار، ودائماً فاجر عند الخصومة، وغير ذلك من الأعمال التي ذكرت في هذا الحديث.
وبعضهم قال: إن هذا الحديث ورد في رجل خاص بعينه، فهي حادثة عين في زمنه عليه الصلاة والسلام.
وبعضهم قال: بل هذا إنما هو نفاق العمل، وكل عالم يرجح قولاً من هذه الأقوال، كما اختلف ابن بطال عن الإمام الحافظ ابن حجر عن الإمام النووي، فكل منهما رجح قولاً من هذه الأقوال، ولا بأس أبداً بحمل الحديث أو بحمل هذه الأقوال كلها على الحديث، خاصة أنه ورد بصيغة العموم.
وهنا حديث مرسل من طريق الحسن عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن في أثناء الحديث ما يفيد باتصاله، وإن كان الذي يترجح لدي ضعف هذا الحديث.
قال: [قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، من إذا حدث كذب)]، (ومن) من صيغ العموم، (وإذا) تفيد الاستمرار، يعني: أي إنسان مسلم.
قال: [(إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)، هذه خمس خصال وخلال من علامات المنافقين.
قال: فسأل محمد بن محرم الحسن البصري فقال: لئن كان لرجل علي دين فلقيني فتقاضاني فخفت أن يحبسني أو يهلك عيالي، فوعدت أن أقضيه إذا رأيت الهلال، فلم أفعل، أمنافق أنا؟ فقال: حدثته ووعدت فأخلفته.
ثم قال: إن عبد الله بن عمرو حدث أن أباه لما حضره الموت قال: إني كنت وعدت فلاناً أن أزوجه فزوجوه، لا ألقى الله عز وجل بثلث النفاق.
قال محمد بن محرم: يا أبا سعيد! أيكون في الرجل ثلث النفاق وثلثان إيمان؟ قال: هكذا جاء الحديث.
قال محمد بن محرم: فحججت إلى بيت الله الحرام، فلقيت عطاءً، فذكرت له هذا الحديث، وما قال لي الحسن البصري.
قال عطاء: فقال: أعجزت أن تقول للحسن: أخبرني عن إخوة يوسف، ألم يعدو أباهم فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، وحدثوه فكذبوا، أمنافقين كانوا؟ أفلم يكونوا أنبياء؟ وأبوهم نبي وجدهم نبي؟] والحقيقة أنهم فعلوا ذلك قبل أن يكونوا أنبياء، فقد كانوا مسلمين، وعملهم هذا لم يخرجهم هذا من دائرة الإسلام.
قال: [قلت: يا أبا محمد! حدثني بأصل هذا الحديث وأصل النفاق، يعني: زدني فيما يتعلق بالحجة، قال: حدثني جابر بن عبد الله أن هذا الحديث خاصة في الذين حدثوا النبي عليه الصلاة والسلام فكذبوه، وائتمنهم على سره فخانوه، ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه.
فقال: وأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن أبا سفيان قد توجه وهو في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا، قال: فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله عز وجل: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال:27]، ونزل في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] إلى قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:77] إلى آخر الآية.
قال عطاء: فإذا أتيت الحسن فأخبره بالذي قلته لك، وبأصل هذا، قال: فرجعت إلى الحسن فأخبرته بما قلت لفظاً وبما قال لي، قال: فأخذ الحسن بيدي فأشالها، ثم قال: يا أهل العراق! أعجزتم أن تكونوا مثل هذا سمع مني حديثاً فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء].
وهذا الحديث يغلب على ظني أنه ضعيف، خاصة وأن الحسن البصري إمام أهل البصرة، وإمام أهل السنة في زمانه، لا تخفى عليه مسائل الإيمان والكفر ما دق منها وجل وصغر وعظم، فلا يخفى عليه قط أن علامة المنافق لا تخرج صاحبها عن دائرة الإسلام إلا إذا استحل هذا.
وهذا الحديث يقضي بأن الحسن البصري إنما عد أن من ارتكب هذه الخلال(52/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - حكم القاتل عمداً وهل له توبة
القتل كبيرة من كبائر الذنوب، بل هو أعظم الذنوب على الإطلاق بعد الشرك بالله عز وجل، وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في القاتل عمداً، فمنهم من قال بأنه ليست له توبة، وأنه مخلد في النار، ومن من قال غير ذلك.(53/1)
مسائل في الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن الإيمان، والإيمان في عقيدة أهل السنة والجماعة قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وأنواع الطاعات كثيرة، فكل ما أمر الله عز وجل به فامتثال الأمر فيه طاعة، وكل ما نهى الله عز وجل عنه ورسوله فالانتهاء بهذا النهي طاعة، فالامتناع عن الزنا لأن الله نهى عنه طاعة لله عز وجل، والتعفف عن السرقة لأن الله نهى عنها طاعة لله عز وجل، فالطاعة تكون بامتثال الأمر واجتناب النهي.
وإذا كان في عقيدتنا أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فهذا يدل على أن المرء كلما ازداد من الطاعات ازداد معه الإيمان، وكلما وقع في معصية نقص من إيمانه بقدر هذه المعصية التي ارتكبها.(53/2)
حديث شعب الإيمان وبيان تعدد هذه الشعب
الإيمان شعب، كما في حديث أبي هريرة في مسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة).
وفي الصحيحين: (بضع وستون شعبة، أعلاها -كما في رواية مسلم - لا إله إلا الله).
وهو توحيد الله عز وجل.
فأعلى شعبة من شعب الإيمان توحيد الله عز وجل، ويقابله في أعظم الذنوب الشرك والكفر بالله عز وجل، فأعظم ذنب يرتكبه المرء هو أن يشرك بالله عز وجل.
وأعلى شعبة من شعب الإيمان التوحيد الخالص لله عز وجل، كما في الحديث: (أعلاها -أي: أعلى هذه الشعب- لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان).
وهذا الحديث فيه إشارات متعددة: الأولى: بيان أن شعب الإيمان متعددة، وبالتالي الطاعات متعددة.
الثانية: أن شعب الإيمان بعضها أقوى من بعض، فلا يمكن أبداً أن يستوي إماطة الأذى عن الطريق مع توحيد الله عز وجل، بدليل أن من ترك الأذى في طريق الناس وهو قادر على أن يميطه لا يستوي مع من أشرك بالله عز وجل، بل هذا ذنب وذاك كفر بواح.
فإذا كانت شعب الإيمان متعددة فهي كذلك متفاوتة في المرتبة والفضل والخلق وغير ذلك، ويجمعها كلها اسم الإيمان، ولذلك قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة).
وهذا يدل على أن هذه الشعب كلها تدخل في مسمى الإيمان.
الثالثة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والحياء شعبة من الإيمان).
ولم يذكر بقية الشعب.
ولو نظرنا إلى المذكورات في هذا الحديث لوجدنا أن المذكورات: شهادة أن لا إله إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء.(53/3)
توحيد الله عز وجل من شعب الإيمان
جعل النبي عليه الصلاة والسلام توحيد الله عز وجل أعلى مراتب الإيمان، وهو كذلك حقاً، وهذا التوحيد متعلق بالقلب واللسان والجوارح، فهو متعلق باللسان أولاً؛ لأن المرء القادر على أن ينطق بالشهادتين إذا لم ينطق بهما لا يصح له الإسلام، بل لا يثبت له الإسلام وإن عمل بمقتضى الإسلام كله؛ لأنه يجب عليه أولاً قبل العمل أن ينطق بالشهادتين، وفي حين نطقه بالشهادتين يستقر في قلبه الإيمان الجازم بهذه الكلمة محبة ورضاً وذلاً وخضوعاً، وغير ذلك من لوازم الإيمان.
إن كلمة التوحيد تستلزم نطقاً باللسان واعتقاداً بالقلب وعملاً بالجوارح بمقتضى هذا الإيمان، ونحن نقول دائماً: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وعمل بالجوارح والقلب، فلا بد أن يحب القلب هذه الكلمة، وأن يرضى عنها، وأن يعلم حقيقتها، وإلا فقد امتنع المشركون عن النطق بهذه الكلمة؛ لأنهم علموا مقتضياتها، وأنها ليست مجرد كلمة تقال فقط.
هذه الشعبة الأولى من شعب الإيمان، وهي في أصل الطاعة.(53/4)
الحياء وإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان
الشعبة الثانية: إماطة الأذى عن الطريق، وإماطة الأذى عن الطريق من عمل الجوارح، فجمع عليه الصلاة والسلام بين عمل اللسان وعمل القلب في شهادة التوحيد، مع عمل الجوارح في إماطة الأذى عن الطريق، مع العامل النفسي الحياء؛ لأن الحياء هو انفعالات نفسية تدور في نفس الإنسان، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يقول: الإيمان لا بد أن يتخلل لسان المرء وقلبه وجوارحه وعواطفه، وحينئذ يكتمل الإيمان.
ولو أن المرء استقصى أعمال الإيمان كما استقصيناها من قبل مراراً، لوجدنا أن أعمال الإيمان فيما هو الراجح من أقوال أهل العلم بلغت تسعاً وسبعين شعبة، فلو أن المرء حقق هذه الشعب كلها لاكتمل إيمانه؛ لأنه قال: (الإيمان - أي: الإيمان الكامل التام - بضع وسبعون شعبة).
والبضع من ثلاث إلى تسع.
وقد تتبع ابن حبان وغير واحد الأعمال القلبية وأعمال الجوارح واللسان التي وردت في القرآن والسنة فوجدوها تسعاً وسبعين عملاً، وهذا قد صنف في غير ما كتاب، كما صنف في ذلك القزويني والإمام البيهقي وغير واحد في كتب أسموها: شعب الإيمان، وأقوى هذه الكتب وأكثرها استيعاباً هو كتاب شعب الإيمان للبيهقي، وهو كتاب عظيم جداً في حوالي عشرين مجلداً شرح فيها شعب الإيمان، وقد سار فيه على منهج ابن حبان بأن شعب الإيمان تسعاً وسبعين شعبة.
وهناك كتاب الإيمان للإمام البخاري، وكذلك كتاب الإيمان للإمام مسلم، وهما في صحيحيهما، وأصرح من مسلم الإمام البخاري حيث كان يقول: باب الزكاة من الإيمان وأتى بالدليل باب الصلاة من الإيمان باب الحج من الإيمان باب الصدقة من الإيمان باب الجهاد من الإيمان وفي كل باب كان يأتي بأدلة من السنة؛ ليثبت أن هذا العمل هو شعبة من شعب الإيمان.(53/5)
كما أن الإيمان يزيد بالطاعة فإنه ينقص بالمعصية
إذا كان كل طاعة يأتيها المرء يزداد بها إيمانه فكذلك كل معصية في المقابل لا بد أن ينقص بها إيمان المرء، كما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
فالعفاف والإحصان والطهر من الإيمان، وفي المقابل الزنا والفجور والخنا لا بد أن تكون مؤثرة في الإيمان بالنقصان.
قال: (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة حين ينتهبها ذات شرف يتطلع إليه فيها الناس وهو مؤمن)، يعني: الغصب، فمن غصب شيئاً فهذا مؤثر في إيمانه.(53/6)
حكم مرتكب الكبيرة عند أهل السنة وغيرهم
قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) استدل به بعض الناس على إخراجه من الإيمان مطلقاً وأبقوا له الإسلام، وبعضهم قال: بل ينتفي عنه الإيمان في لحظة الزنا ثم يعود إليه فور انتهائه من الزنا، وهذا الرأي التزام بظاهر النص (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، يعني: ينزع عنه اسم الإيمان -وهو اسم المدح- حين المعصية، ثم يعود إليه اسم المدح بعد انتهائه من المعصية.
والخوارج يقولون: بل يكفر بهذا الذنب، لأن الخوارج أو غلاة الخوارج عندهم أن مرتكب الكبيرة كافر خارج عن الملة، والمعتزلة عندهم أن مرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين بين الإيمان والكفر.
ومن عجيب أقوالهم أنهم يقولون: هذا حكمه في الدنيا، وأما في الآخرة فإنه مخلد في النار، مع أن المقطوع به عند أهل السنة والجماعة أنه لا يخلد في النار إلا الكفار سواء كان كفرهم كفراً أصلياً أو ردة أو نفاقاً، وأما الزنا فمع بشاعته وجرمه ونفور النفوس الطيبة عنه إلا أنه من جهة حكمه الشرعي كبيرة، وصاحب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة إن تاب منها تاب الله عز وجل عليه بغير حد، وإن رفع أمره إلى السلطان واعترف أو أقيمت عليه البينة وأقيم عليه الحد فالحد كفارته؛ لأن الحدود كفارات لأهلها.
وإذا مات من ذنبه -أي: مات وهو مذنب مصر على ذنبه- وهو غير مستحل له فهو في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، كما في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
وهذا قطع، فالله عز وجل لا يغفر الشرك مطلقاً إلا إذا تاب صاحبه منه، فإذا مات عن غير توبة فإنه لا يغفر له شركه، بل هو من المخلدين في نار جهنم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48].
وكلمة ما دون ذلك تشمل الكبائر والصغائر، ولكن هذا مرهون ومعلق على مشيئة الله، يعني: إن شاء الله تعالى عذبه بعدله، وإن شاء سبحانه وتعالى عفا عنه بفضله.
فصاحب الكبيرة بل وصاحب الصغائر هو في مشيئة الله عز وجل إن لم يتب قبل موته.
ومن ارتكب كبيرة وهو مستحل لها عالم بحرمتها خرج من دائرة الإسلام، فمن علم أن القتل كبيرة، وعلم أدلة هذا العمل الشنيع البشع، ولكنه أقدم على قتل صاحبه استحلالاً، يعني: وهو لا يعتقد أنه يأتي معصية، وإنما يفعل ذلك مستحلاً، كأن يقال له: إن هذا الدم حرام، فيقول: لا، بل هو حلال، فكأنه عاند وجحد، فمن استحل ذنباً كبيراً فلا شك أنه يخرج به من دائرة الإسلام إلى الكفر.(53/7)
اختلاف الصحابة في حكم قاتل المؤمن عمداً راجع إلى قول بعضهم بنسخ آيات النساء المتعلقة بجزاء قاتل المؤمن عمداً
وقضية قاتل المؤمن عمداً قضية مشكلة، ولذلك أشكلت على بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الأمر فيها يحكمه عدة أدلة، فمنهم من ادعى النسخ بين هذه الأدلة التي جاءت في كتاب الله عز وجل، ومنهم من قال بأن الآيات محكمة وليست منسوخة، وإذا قيل: آية محكمة فهذا يعني أن زعم النسخ فيها غير صحيح، أو أنه لم يقل أحد بأن فيها نسخاً، وقول الخطيب أو الواعظ: وجاء في آيات الله المحكمات، أي: التي لم يلحقها نسخ.
والنسخ لا يشمل الأخبار قط، وإنما يشمل الأحكام، وقضية النسخ في القرآن والسنة أو في العلم عموماً لا تلحق الخبر؛ لأن الخبر لا يحتمل إلا أمرين، الصدق أو الكذب.
أما الإنشاء فيدخله النسخ، ومنه الأحكام، فالأحكام تتغير وتتبدل، فالله عز وجل قد أمر المسلمين أول الأمر أن يصلوا إلى بيت المقدس، حتى صلوا إليه سبعة عشر شهراً أو ستة عشر شهراً كما في الصحيحين، ثم نسخ ذلك وأمرهم بالصلاة إلى بيت الله الحرام، وهذا حكم.
والله تعالى لم يخبرنا عن أمة أو عن نبي أو عن رسول من السابقين ثم قال: لا، هذا لم يحدث، لأن هذه كلها أخبار عن الأمم الماضية والغابرة لا يلحقها النسخ، والنسخ إنما يلحق الأحكام.
لما كان القتل من الأحكام لا من الأخبار وتعارضت ظواهر نصوص الكتاب فيما يتعلق بهذا الحكم زعم جمهور أهل العلم من الصحابة وغيرهم أن الآيات التي وردت في هذه القضية أو في هذا الحد -فيما يتعلق بقتل المؤمن عمداً- منسوخة بآيات أخر سنذكرها الآن.
وزعم ابن عباس وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل: أن الآيات غير منسوخة، بل هي محكمة، وسموا الآيات كما أسماها زيد بن ثابت رضي الله عنه: آيات الغلظة وآيات اللين، فسمى آيات سورة الفرقان بالآيات اللينة أي: التي لانت في أسلوبها مع القاتل أو مع وصف عباد الرحمن، وسمى آيات سورة النساء المتعلقة بجزاء القاتل للمؤمن عمداً بالغلظة والشدة.(53/8)
سياق ما روي في أن القاتل عمداً له توبة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي في أن القاتل عمداً له توبة، وتفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] وأنها منسوخة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48].
وروي ذلك عن عمر وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وإحدى الروايتين عن ابن عباس.
ومن التابعين روي ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وأبي مجلز لاحق بن حميد وغير واحد].(53/9)
كلام ابن عمر في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار
قال: [قال ابن عمر: كنا نرى أن من قتل مؤمناً فقد وجبت له النار.
يعني: كانوا في أول الأمر وفي صدر الإسلام يرون أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه النار.
قال: وكنا نرى أن من أكل مال يتيمه فقد وجبت له النار، ومن أكل الربا فقد وجبت له النار، حتى أنزل الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]].
والشاهد من هذا الحديث: أنهم كانوا يرون أن قاتل المؤمن عمداً قد وجبت له النار، حتى نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فلم يستثن من عدم المغفرة إلا ذنباً واحداً وهو الشرك، وعلق مغفرة الذنوب التي هي دون الشرك على مشيئته، فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، أي: ما دون الشرك.
{لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ومنها القتل سواء كان ذلك قتل المؤمن أو قتل غير المؤمن.
قال: [قال ابن عمر: فلم ندر من يدخل في مشيئة الله ومن يخرج منها، فكففنا ورجونا].
يعني: يقول ابن عمر: لما أنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] علمنا يقيناً أن الشرك ذنب لا يغفر، وأن ما دون الشرك يغفر إذا أراده الله عز وجل وشاءه، فلما خفيت علينا مشيئة الله في من أراد الله تعالى عذابه بذنبه أو مغفرته تفضلاً منه سبحانه كففنا عما كنا نعتقده أولاً أن آكل الربا قد وجبت له النار، وأن آكل مال اليتيم قد وجبت له النار، وأن قاتل المؤمن عمداً قد وجبت له النار، فكففنا عن هذا المعتقد وقلنا: ما هي إلا ذنوب لا تبلغ درجة الشرك، وإذا كانت دون الشرك فهي داخلة في الذنوب التي علقت على مشيئة الله، فإن شاء أخذ المذنب بها وإن شاء عفا سبحانه وتعالى.
فلما خفي هذا على ابن عمر وغيره من سائر الخلق قال: فكففنا ورجونا.
وكلمة رجونا إشارة إلى معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمعصية العاصي، فلو عصى إنسان معصية كبيرة فلا نتمنى له أن يدخل النار، وهذا من سعة رحمة رب العالمين، فقد أمرنا أن نترحم على أصحاب المعاصي، ونرجو لهم أن يرحمهم الله عز وجل.
والناس عندهم من المعاصي الظاهرة ما يوجب لهم النار، ولو أراد الله تعالى أن يعاملهم بعدله لأدخلهم النار، ولكنه سبحانه وتعالى يتفضل بالعفو عنهم؛ لأنه الغني عن عذاب عباده.
ونحن عندنا من الذنوب الشيء الكثير الذي يبلغ درجة الزنا وشرب الخمر والقتل أحياناً، وهو الوقيعة في أعراض الناس بالغيبة والنميمة، ونقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وهذه من كبائر الذنوب، ونحن نقع فيها بالليل والنهار، والإخوة الصالحون يأنفون جداً من سماع لفظ الزنا والسرقة والقتل وشرب الخمر وغير ذلك، وهم أبعد الناس عن ذلك، وإذا كانوا يحرمون السجائر فكيف بالخمر الصريحة؟ وهذا من فضل الله عز وجل على أبناء الصحوة وأصحاب الالتزام، لكن هناك كبائر عظيمة جداً مهلكة لأصحابها يقعون فيها، بل من فرط ما وقعنا فيها استمرأناها، كالغيبة والنميمة وغيرها من الذنوب.
ولو أنك راجعت كتاباً من كتب الكبائر ككتاب الكبائر للإمام الذهبي فإنك ستجد أنه عد اثنتين وسبعين كبيرة، ولعلمت أنك واقع في عشر كبائر على الأقل، مع أنك تنظر بعين السخط لأصحاب الكبائر الظاهرة، في الوقت الذي تقع أنت فيه في كبائر أخرى، لكنها كبائر خفية، مثلما تقع في الغيبة والنميمة في ثوب النصح، ولكن هذا المكر لا يخفى على الله عز وجل.
فينبغي على كل منا أن يعلم الفرق بين كبائر الذنوب وصغائرها، وأن ينزه نفسه ودينه وعرضه عن كبائر الذنوب وصغيرها.
قال: [وقال ابن عمر: كنا نبت على القاتل -أي: نقطع للقاتل عمداً بأنه في النار- حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فأمسكنا]، أي: فأمسكنا عن هذا البت والقطع.
يعني: كانوا إذا أتاهم قاتل يقول: أنا قتلت مؤمناً، يقولون له: أنت في النار لا محالة، وليس عندنا من العلم إلا هذا، حتى نزل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48].
ومنه القتل.(53/10)
كلام عمر في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار
قال: [وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! إني قتلت، فهل لي من توبة؟ فقرأ عليه عمر: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:1 - 3]، ثم قال له: اعمل ولا تيئس].
فبين له أن الله تعالى غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وإجابة عمر إجابة ليس فيها قطع في القضية، ولكن عمر شرح له هذه الآية وقال له: اعمل ولا تيئس، وإذا كان مقطوعاً له بالنار لا محالة فلم العمل؟ والكافر الذي يموت على كفره لا ينفعه عمل صالح إلا إذا أسلم وآمن، فحينئذ يضاعف له عمله ويضم إليه عمله الصالح الذي كان يعمله في الجاهلية.(53/11)
كلام ابن عباس في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار
قال: [وجاء إلى ابن عباس رجل فقال: إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها]، أي: لما تقدم لها غيره رضيت بذلك وقبلت ووافقت، فغار عليها مع أنه ليس خاطباً ولا عاقداً ولا قريباً لها، فلما غار عليها قام إليها فقتلها، وهذا حب أعمى.
قال: [قال ابن عباس: أمك حية؟ قال: لا.
قال: تب إلى الله عز وجل وتقرب إليه].
وابن عباس من صغار الصحابة، فقد ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، في شعب من شعاب قريش قبل هجرة النبي عليه السلام بثلاث سنين، وصغار الصحابة هو وعبد الله بن عمر والبراء وأنس بن مالك وغيرهم لما كانت غزوة بدر لم يكن سنهم بلغ الخامسة عشر، ولذلك لم يجزهم النبي عليه الصلاة والسلام في القتال، لأنه ما كان يجيز من كان أقل من سن خمسة عشر عاماً، ابن عباس كان أصغر منهم جميعاً.
ولما جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن ابن عباس نبت له، يعني: كان صغيراً لم ينبت له شعر، فالنبي عليه السلام مات وعند ابن عباس ثلاثة عشر عاماً فقط، وكان طفلاً أو غلاماً ذكياً جداً ببركة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام له، فلما سأل عمر كبار المهاجرين والأنصار عن معنى قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] أجمعوا كلهم على أن المقصود بها فتح مكة.
فلما جاء الدور على ابن عباس قال: ما أرى إلا أن الله تعالى نعى إلينا رسوله، فقال أمير المؤمنين: وأنا والله لا أرى منها إلا ما ترى يا ابن عباس! قال: [وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]-ولا شك أن القاتل قد عمل سوءاً وقد ظلم نفسه- قال: أخبر الله تعالى عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً].
ولم يقل له ابن عباس: كفرت، أو وجبت لك النار.
ونحن نعلم أن هذه المسألة - أي: مسألة قتل المؤمن عمداً - خالف فيها ابن عباس جميع الصحابة، فقال بأنه في النار خالد مخلد فيها أبداً، وقال جمهور الصحابة: بل قتل المؤمن كبيرة من الكبائر، وتأخذ حكم الكبيرة، فإذا أقيم عليه الحد أو تاب منها أو مات ولم يتب فإنه في مشيئة الله عز وجل.
والشاهد من ذلك: أن ابن عباس اجتهد في أول أمره في حكم قاتل المؤمن عمداً فقال بخلوده في النار، وأنه لا يغفر له ذلك، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك لما وقف على قول جماهير الصحابة أو قول كل الصحابة دونه، فلما علم أن الحق معهم رجع عن قوله الأول.(53/12)
سبب إهمال اللالكائي لما روي عن ابن عباس أول الأمر من عدم قبول توبة القاتل عمداً
لما كانت هذه المسألة محل اضطراب عند ابن عباس، ولم يعلم ويشتهر بمخالفة جماهير الصحابة فيه إلا هذا الصحابي الجليل ابن عباس لم يورد الإمام اللالكائي الآراء المسندة إليه بعدم قبول توبة التائب من قتل المؤمن عمداً، وإنما أتى بالرأي الثاني الموافق لجماهير العلماء ومنهم الصحابة أجمعون إلا هو، وقيل: وافقه زيد بن ثابت.
وهذا ضعيف عنه.
وقد روي عن ابن عباس ما يدل على أنه رجع، فقد قال: أخبر الله تعالى عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً - والمعلوم أن القتل كبيرة من الكبائر - ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً، ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال.(53/13)
ما جاء عن بعض الصحابة والتابعين في قبول توبة القاتل عمداً
قال: [وقال ثمامة بن حزن: كنت مع أبي فسأل رجل عبد الله بن عمرو - أي: ابن العاص - فقال: من كل ذنب توبة يقبل الله التوبة؟ -يعني: لو أن العبد أذنب ذنوباً فتاب من كل ذنب هل يقبل الله تعالى التوبة؟ - قال: نعم].
وهذا اللفظ من ألفاظ العموم، فقوله: (لو أن عبداً أذنب كل ذنب) يشمل الكبائر والصغائر ويشمل القتل كذلك.
قال: [وعن مجاهد - وهو مجاهد بن جبر المكي من التابعين- قال: لقاتل المؤمن توبة].
ولما عدد الله عز وجل الكبائر أو بعض الكبائر ومنها قتل النفس قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفرقان:70]، يعني: لا يتوب عليهم فقط، بل يجعل أعمالهم السيئة حسنات بحسن إيمانهم وصدقهم في توبتهم.
قال: [وعن سعيد بن جبير قال: ما أعلم لقاتل المؤمن توبة إلا الاستغفار].
يعني: جعل الاستغفار علامة توبة المؤمن.
وهناك حديث ضعيف يشهد لهذا المعتقد، قال: [فعنه صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] قال عليه الصلاة والسلام: (هو جزاؤه إن جازاه)]، يعني: هذا جزاؤه إن جازاه الله عز وجل.
قال: [وعن سعيد بن جبير: أنها نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل الفهري، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم معه ليأخذ دية أخيه فأنزل الله فيه قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]]، يعني: أن الله عز وجل سماه مؤمناً وأخاً لك، فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178].
فالمعفو له هو القاتل، وصاحب العفو هم أولياء المقتول.
{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، يعني: تلطف حتى في الكفارات وغير ذلك.
والله تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9].
فلم ينف الإيمان عن إحدى الطائفتين سواء كانت قاتلة أو مقتولة، ولا يمكن قط أن يستقيم وصف الإيمان - وهو اسم مدح - مع معتقد أن القاتل المؤمن عمداً مخلد في نار جهنم وأنه لا تقبل منه التوبة، إذ كيف يكون مؤمناً حينئذ؟(53/14)
شرح حديث قاتل المائة نفس
قال: [وعن أبي سعيد الخدري: أنه حدث أصحابه قال: لا أحدثكم إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته أذناي ووعاه قلبي: (أن عبداً قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل -أي: راهب- فأتاه، فقال: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فقال: أبعد قتل تسعة وتسعين نفساً؟)] يعني: جئت تسأل عن التوبة بعدما قتلت تسعة وتسعين نفساً.
قال: [(فانتضى سيفه فقتله فأكمل به المائة)]، يعني: فأشهر سيفه وقتله؛ لأنه أيسه من رحمة الله عز وجل، فقد قال له: قتلت مائة نفس وتريد تتوب؟ كيف تتوب؟ فأيسه من رحمة الله، فأتم به المائة.
قال: [(ثم عرضت له التوبة)]، يعني: ثم فكر في التوبة من جديد: [(فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل فأتاه، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟)]، واللغة تسمح بأن يعبر الشخص عن نفسه بضمير الغائب.
[(قال العالم: من يحول بينك وبين التوبة؟)] يعني: ومن الذي يمنعك من ذلك إذا كان باب التوبة مفتوحاً؟ والله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، والتوبة تكون من المعصية، والله تعالى يقبل توبة العبد، وهي التوبة الخاصة بكل عبد على حدة، بخلاف التوبة العامة، فإن بابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، فحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
وأما التوبة الخاصة بكل عبد على حدة فوقتها الذي ترفع فيه ولا يقبل من صاحبها توبة هو أن تبلغ الروح الحلقوم ويصل إلى الغرغرة، أي: أن يشرف على الموت، فإذا أشرف على الموت وعاينه قال: إني تبت الآن، ولا يقبل منه ذلك.
قال: [(من يحول بينك وبين التوبة؟ اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها)]، يعني: أيضاً فتح له باب الأمل والرجاء في سعة رحمة رب العالمين، ثم وصف له الطريق الذي ينجو به، وهو أن يهجر أرض السوء والمعصية وصحبة الباطل وينصرف إلى أرض جديدة يعبد الله تعالى فيها ولا يشرك به.
قال: [(اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة كذا وكذا، فاعبد ربك فيها.
قال: فخرج فعرض له أجله)]، يعني: أدركه أجله في أثناء الطريق قبل أن يصل.
[(فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، فقال إبليس عليه لعنة الله: لم يعصني ساعة قط -يعني: هذا تبعي، ومن حزبي- فقالت ملائكة الرحمن: إنه خرج تائباً)] أي: يردون على إبليس فهو لم يعصك قط، لكن آخر أمره هو التوبة والرجوع والإنابة، والأعمال بالخواتيم كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فبعث الله ملكاً فاختصموا إليه)، يعني: رضوا بأن يحكم بينهم].
قال: [(فاختصموا إليه، قال: انظروا إلى أي القريتين كان أقرب)] أي: قيسوا ما بين القريتين التي خرج منها والتي هو قادم إليها، فأياً كان قربه إليها فهو من أهلها، فإذا كان لا زال في النصف الأول فقرية الخبث أولى به، وإذا كان أقرب إلى القرية التي هو ذاهب إليها فهو إلى الرحمة أقرب، قال: (انظروا إلى أي القريتين كان أقرب فألحقوه بها.
قال قتادة: فحدثنا الحسن: أنه لما عرف الموت احتضر بنفسه فقرب الله منه القرية الصالحة، وباعد منه القرية الخبيثة فألحقه بأهلها)]، يعني: أمر الله تعالى الأرض أن تطوى وأن تقترب حتى - جاء في أحدى الروايات - أنه كان أقرب إلى الأرض الطيبة قدر شبر واحد، فألحقوه بأهلها.
وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.(53/15)
كفارة القتل العمد إذا عفى أولياء المقتول عن القصاص
قال: [وعن ابن الديلمي قال: أتيت واثلة بن الأسقع]، وواثلة بن الأسقع هو آخر الصحابة موتاً على الإطلاق.
قال: [فقلنا له: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان فغضب، وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص، فقلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام]، يعني: ما قصدوا ظاهر الكلام، واعتذروا بأن مقصودهم: حدثنا بحديث سمعته من الرسول لكن بغير زيادة ولا نقصان، فلا نريد أن نسمع من قولك شيئاً، ولكن انقل إلينا ما سمعته حرفياً، فغضب لذلك وقال: إن أحدكم يقرأ في المصحف في بيته فيزيد وينقص، فكيف تلزموني بهذا؟ قال: [(فقال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب -أي: وجبت له النار- فقال: اعتقوا عنه يعتق الله كل عضو منه عضواً منه من النار)].
ولذلك جماهير العلماء يقولون: إن كفارة القتل العمد إذا رضي أهل القتيل بذلك هي عتق رقبة مؤمنة، فإذا أعتق نصف هذه الرقبة، يعني: لو كان شريكاً في رقبة فأعتق نصيبه فقد أعتق نصفه أو حظه في الشركة من هذا العبد من بدنه من النار، ويلزمه أن يشارك في عبد آخر ثم يعتق نصيبه حتى يكتمل له عبد كامل، مع إلزامه بالاستغفار والتوبة وحسن الإنابة إلى الله عز وجل.
قال: [وعن ابن عمر: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك والدة؟ قال: لا.
قال: ألك خالة؟ قال: نعم.
قال: اذهب فبرها)]، وهذا يدل على أن الخالة بمنزلة الأم.
أكبر الذنوب هو قتل المؤمن عمداً، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم لم يختلفوا قط في كبيرة من الكبائر بأن لها حكم الكبيرة إلا في قتل المؤمن عمداً، ولذلك آثر اللالكائي أن يتكلم عن هذا في مقدمة موضوع حكم مرتكب الكبيرة لأجل الخلاف الناشئ فيه بين ابن عباس وبين الجمهور، والذي يترجح لدي أن ابن عباس رجع عن رأيه الأول وهو أن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له، وأن الله تعالى يقبل توبة التائب من ذنبه مهما كبر حتى وإن كان قتل المؤمن عمداً.
والمعاصي كلها صغيرها وكبيرها مؤثرة في نقصان الإيمان، كما أن الطاعات مؤثرة في الإيمان بالزيادة، حتى وإن كانت أعظم الذنوب، وأعظمها هو قتل المؤمن عمداً.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(53/16)
الأسئلة(53/17)
حكم من لم يقدر على إرجاع ما أخذه من الغير
السؤال
كنت أعمل في أحد الفنادق وألزمني المدير أن آخذ ملاحتين من الفندق، ثم تركت العمل لما علمت بخبثه، وأريد إرجاع ما أخذت، ولا سبيل إلى ذلك، فكيف أعمل؟
الجواب
بإمكانك أن تتصدق بهما وتتخلص منهما.(53/18)
ما يباح للخاطب
السؤال
أنا خاطب، فهل يجوز للمخطوبة أن تجلس معي وهي كاشفة وجهها؟
الجواب
لا تجلس لا وهي كاشفة ولا وهي مغطية، وأنا قد سألت هذا السؤال الشيخ الألباني رحمه الله فقال: ولا أن يراسلها مراسلة، ولا أن يشافهها على الهاتف؛ لأن المخطوبة امرأة أجنبية، فإذا أردت أن تجلس معها فاعقد عليها، وأما قبل ذلك فإن الخطبة لا تثبت حقاً إلا حق الاحتجاز، يعني: أنها محجوزة لك، فلا يجوز لأحد أن يخطبها إلا أن تدع أنت، وبعضهم يقول: أجلس معها حتى أعلمها، فنقول: علم أبوها وأبوها سيعلمها، وتكون قد ضربت عصفورين بحجر.(53/19)
الإيمان بكرامات الأولياء والتحدث بها إلى الآخرين
السؤال
هل يجوز التحدث عن كرامات بعض الصالحين في هذا الزمن وأنا لم أرها، ولكني سمعتها من بعض الإخوة، فهل يجوز لي التحدث بها؟
الجواب
الإيمان بكرامات الأولياء من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، فكيف نكتم أصلاً من أصول إيماننا.
ولكن نخشى أن يلتبس هذا الكلام بخرافات الصوفية وغيرهم، وكرامات الأولياء والصالحين أمر ثابت مستقر في عقيدة الموحدين، والتحدث به من باب البشارة ومن باب الخير، وأرجو ألا يخلط بين هذا وذاك، ولذلك جعل شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله حداً فاصلاً بين هذه الخزعبلات والخرافات وبين الكرامات، كما نقل عنه غير واحد، فقد قال: لا تعجب من عمل العامل حتى لو طار في الهواء ومشى على الماء حتى تنظر إلى عمله، فإن كان عمله مستقيماً على كتاب الله وسنة رسوله فاعلم أن هذه كرامة، وإذا كان عمله غير ذلك فاعلم أن هذا استدراج من الشيطان.(53/20)
مدى صحة حديث (من أدخل سروراً على مسلم)
السؤال
يقول: (إن من أدخل سروراً على مسلم خلق الله من هذا السرور ملكاً يعبد الله عز وجل إلى يوم القيامة)؟
الجواب
لا أعرفه أبداً، ويبدو أنه من وضعك أنت، يعني حتى أنك لم تأت به من كتب الموضوعات.(53/21)
حكم تأخر من يصلح للإمامة إذا لم يوجد غيره
السؤال
من كان يعمل كبيرة توجب لعنة الله ثم تركها لأجل الله عز وجل وتعلم القرآن وصار الناس يرونه أهلاً للإمامة وهو يخاف أن يتقدمهم، ويخاف أيضاً أن يتخلف عن إمامتهم فهو من أقرئهم للقرآن، حتى لا يدخل للإمامة من يفسد الصلاة، فكيف المخرج يرحمكم الله تعالى؟
الجواب
ويرحمكم.
لا بد أن تعلم أن الإمامة هي دين الله عز وجل، يعني: أن مسألة الإمامة والتصدي لإمامة الناس أو تدريسهم أو قضاء حوائجهم من التكليف الشرعي، فهذا الأمر ليس من باب التشريف بل هو تكليف شرعي، فإذا تعينت عليك الإمامة -بمعنى: أنه لا يوجد أحد في الناس يصلح أن يكون إماماً إلا أنت- فتأخرك معصية لله عز وجل، وهذا ورع كاذب، بل الورع هو الاستقامة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فالاستقامة: أن تحافظ على صحة صلاتك وصحة صلاة الناس.
ولو تورعت أن تصلي بالناس ثم دخلت في الصلاة الجهرية خلف شخص لا يحسن قراءة الفاتحة فإنك ستبقى في صراع نفسي أثناء الصلاة هل تعيد الصلاة أم لا؟ وإذا كنت خائفاً على صلاة الناس أيضاً فماذا ستقول لهم بعد الصلاة؟ وهل ستأمرهم بإعادة الصلاة؛ لأن هذه الصلاة باطلة.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله في النار)؛ لأنه تعين عليهم العمل فتخلفوا عنه عمداً، فهذه معصية أخرى، فلا تتصور أن هذا ورع في وقت قد تجرأ فيه جل الناس على الإمامة، وكل واحد يرى أنه أولى بالإمامة وأنه أهل للإمامة، بل إن المؤذن الذي لا يحسن أن يؤذن إذا أذن وأقام الصلاة يجد شخصاً واقفاً جنبه أو اثنين أيضاً، بل إنه بعد أن يفرغ من الإقامة يطمع في الإمامة، وكل واحد يرى أنه أهل للإمامة، والورع أن تنظر بتقوى الله فلا ترى من هو أفضل منك للإمامة، وليس معنى ذلك أنك أفضل الناس على الإطلاق، ولكنك أفضل الموجودين في شروط الإمامة، مع أنه يمكن أن تكون فاسقاً عياذاً بالله، فقد يكون عندك كبيرة تفسق بها، وصاحب الكبيرة المحافظ عليها فاسق، وإمامة الفاسق جائزة، والفاسق لا يفسق إلا بكبيرة أو بالمحافظة على الصغيرة.
وتسعون في المائة من الأئمة في التكبير حتى في الصلاة السرية يقول: الله أجبر بالجيم بدل الكاف، ومذهب جماهير الفقهاء أن تحويل الكاف إلى جيم يبطل الصلاة ويلزم الإعادة حتى في الصلاة السرية.
فهذه مسائل فنية لا دراية لأحد بها إلا أحد تدرب عليها وعرف أحكام التجويد ومخارج الحروف، وعامة الناس لا علم لهم بذلك.
وهذه من مسائل الدين.(53/22)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - حكم مرتكب الكبيرة
لقد رغبت الشريعة الإسلامية في التوبة من الذنوب، والعودة إلى الله عز وجل، بل جعلت التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وأخبرت أن من مات مصراً على معصيته فهو تحت مشيئة الله عز وجل، وخالف بعض أهل البدع في حكم الكبائر، فمنهم من حكم بكفر مرتكبها، ومنهم من فسقه، ومنهم من حكم له بالخلود في النار.(54/1)
سياق ما روي فيمن تاب من الكبائر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن المسلمين لا تضرهم الذنوب التي هي الكبائر إذا ماتوا عن توبة من غير إصرار، ولا يوجب التكفير، وإن ماتوا عن غير توبة فأمرهم إلى الله تعالى، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم].
هذا الباب متعلق بحكم مرتكب الكبيرة، وأن من وقع في كبيرة إن تاب منها تاب الله عز وجل عليه قولاً واحداً، وإن أقيم عليه الحد فالحد كفارته، وإن مات من غير توبة فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
هذا مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمرتكب الكبيرة.
وأما المعتزلة فقالوا: مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً في الدنيا، وأما في الآخرة فهو مخلد في النار أبد الآبدين.
والمعلوم قطعاً عند أهل السنة أنه لا يخلد في النار إلا الكفار، والمعتزلة لم يجعلوه مؤمناً ولا كافراً، ثم جعلوه من المخلدين في النار.
وأما الخوارج فقالوا: مرتكب الكبيرة كافر خارج عن الملة مخلد في النار إلا من تاب.
ونصوص القرآن والسنة شاهدة على بطلان قول الخوارج وقول المعتزلة في آن واحد، ولا يسلم لنا إلا مذهب أهل السنة والجماعة، وهو أن مرتكب الكبيرة إن أُقيم عليه الحد فالحد كفارته، ولا يطالبه الله عز وجل يوم القيامة، ولا يسأله عن هذا الذنب أبداً؛ لأنه تطهر منه في الدنيا بقيام الحد عليه، وإن تاب فيما بينه وبين الله عز وجل تاب الله عز وجل عليه، وأما إن بلغ أمره إلى السلطان فيجب على السلطان أن يقيم عليه الحد حتى وإن تاب، وليس للسلطان العفو عن صاحب الكبيرة إذا قال: لقد تبت إلى الله عز وجل؛ لأن السلطان حر فيما يتعلق بما هو دون الكبيرة، وأما الكبائر فلا بد من إقامة الحد على المذنب إذا بلغ الأمر إلى السلطان، وإذا مات صاحب الكبيرة وهو مصر عليها غير مستحل لها فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(54/2)
موقف الصحابة والتابعين من أهل الكبائر من المسلمين
قال: [قال أبو سفيان: قلت لـ جابر: كنتم تقولون لأهل القبلة: إنكم كفار؟ قال: لا.
وعن سليمان اليشكري: أكنتم تعدون الذنب شركاً -أي: مخرجاً عن الملة- قال: لا.
وعن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود: أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر -أي: يرجون الله تعالى أن يغفر لأهل الكبائر-.
وصلى علي رضي الله عنه على قتلى معاوية.
وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح -أي: لا يجهزون عليه إذا أدركوه جريحاً ولا يقتلونه، وإنما يعفون عنه- ولا يطلبون مولياً -أي: الذي يهرب منهم لا يطلبونه، ولا يعدون خلفه لقتله- ولا يسلبون قتيلاً]؛ لأنه لا يُسلب إلا كافر، والسلب هو: أخذ متاع الفارس أو المقاتل، مثل أخذ فرسه وماله وطعامه وشرابه، وكل هذا لا يحل إلا في قتال الكافرين، ولما لم يفعل علي رضي الله عنه شيئاً من ذلك دل ذلك على أن مقاتليه لم يكونوا عنده كفاراً، ولذلك حينما سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: أهم كفار؟ قال: بل هم من الكفر فروا، قيل: إذاً فمن هم؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم، فما سماهم أكثر من بغاة، والباغي لا يزال الإسلام ثابتاً له.
قال: [وعن أبي الجوزاء قال: ليس فيما طلبت من العلم ورحلت فيه إلى العلماء وسألت عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسمعت الله عز وجل يقول لذنب: لا أغفر].
وكأنه يقول: ما سمعت أحداً قط ينقل عن الله ولا عن رسوله أن صاحب الذنب لا يغفر له، بل صاحب الذنب يغفر له إذا تاب من ذنبه.
قال: [وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أنه سئل عن أصحاب الجمل؟ فقال: مؤمنون وليسوا بكفار.
وعن ابن سيرين قال: لا نعلم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا من غيرهم من التابعين تركوا الصلاة على أحد من أهل القبلة تأثماً].
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يصلون خلف كل بر وفاجر، وعلى كل بر وفاجر، ما لم يكفر وما لم يشرك، وأما الكافر فإنه إن مات على كفره فإنه لا يصلى عليه؛ لأنه ليس أهلاً للصلاة عليه.
وهنا ينقل ابن سيرين عن جميع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وعمن أدركه من التابعين أنه لم يترك أحد منهم الصلاة على فاجر تأثماً، أي: مخافة الوقوع في الإثم؛ لأنه لا يزال من أهل القبلة.
قال: [وعن النخعي قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة]، أي: لم يكونوا يمنعوا الصلاة على أحد من أهل القبلة.
ومعلوم أنه عند إطلاق مصطلح أهل القبلة يدل على أنهم ليسوا على السنة ولا يعني أنهم كفار، فليس معنى أن الأشاعرة مثلاً أو الماتريدية أو المعتزلة أو المرجئة ليسوا من أهل السنة أنهم كفار، ولكن العلماء يفرقون بين قول: ليسوا من أهل السنة، وقول ليسوا من أهل القبلة، فإذا لم يكونوا من أهل القبلة فهذا يعني أنهم كفار، وأما كونهم ليسوا من أهل السنة فهذا يعني: أنهم من أهل القبلة.(54/3)
الصلاة على من مات من أهل الكبائر من المسلمين
قال: [وعن عطاء قال: صل على من صلى إلى قبلتك.
وعن الحسن قال: إذا قال: لا إله إلا الله صل عليه.
وعن ربيعة الرأي قال: إذا عرف الله فالصلاة عليه حق]، أي: إذا كان موحداً فالصلاة عليه حق واجب له.
قال: [وعن مالك قال: إن أفضل ذلك وأعدله عندي إذا قال: لا إله إلا الله ثم هلك -أي: ثم مات- أن يغسل وأن يصلى عليه.
وعن أبي إسحاق الفزاري قال: سألت الأوزاعي والثوري: هل تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة وإن عمل أي عمل؟ قال: لا.
وعن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد مثله].
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قُرب إليه أحد أصحابه ليصلي عليه قال: (أعليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترك ما يؤدي عنه؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم).
وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كصلاة غيره، والله تعالى قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]، أي: ادع لهم، وصلاة الجنازة دعاء، {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
فصلاته مخصوصة بهذا، والرجاء معقود في أن تكون صلاة الشفعاء جميعاً رحمة وسكينة للميت، وهذا مقطوع به في حق النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من أئمة الإسلام.
والنبي عليه الصلاة والسلام ما ترك الصلاة على هذا الرجل تكفيراً له، أو إخراجاً له عن الملة، أو لأنه ليس من أهل القبلة، والدليل على ذلك قوله لهم: (صلوا على صاحبكم).
ولو كان كافراً بهذا الذنب لما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصلوا عليه.
والذي دفع النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك هو أنه مشرع، وقوله دين يُتعبد به إلى قيام الساعة، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين خطورة الدين، وأن يزجر الأحياء أن يقعوا في مثل ما وقع فيه الميت، وليس من باب أنه كافر أو أنه ليس من أهل القبلة، ولكن لزجر الأحياء أن يفعلوا مثله، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام ذلك في صاحب دين عليه ديناران، فإنه لما قال: (صلوا على صاحبكم، قام إليه أبو قتادة وقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، ثم لما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي قتادة: هل أديت عن صاحبك؟ قال: يا رسول الله! ما هو إلا اليوم -أي: أنك لم تأمرني إلا اليوم والرجل ما مات إلا اليوم- فقال: اذهب فأد عن صاحبك، فذهب فأدى عن صاحبه في الليل وأتى في الغداة -أي: في صلاة الفجر- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبو قتادة؟ فقال: ها أنا يا رسول الله! قال: هل أديت عن صاحبك؟ قال: نعم، قال: متى؟ قال: الآن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلده).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الشهيد يُغفر له كل شيء إلا الدين).
وقد قيل: إن هذه الأحاديث منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وله مال فلعياله، ومن مات وعليه دين فلي وعلي)، وفي رواية: (فإلي وعلي)، أي: يعطى من بيت مال المسلمين إذا لم يكن قادراً.(54/4)
فضل التوحيد وخطورة الشرك
قال: [قال عبد الله بن مسعود: حينما أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يخرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما هُبط من فوقها فيقبض منها، {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16] قال: فراش من ذهب، فأُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات]، أي: الكبائر، التي يُقحم صاحبها في النار بسببها، فتسمى المقحمات، وتسمى الكبائر، وفظائع الأعمال والأمور.
والشاهد هنا قوله: وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته المقحمات، أي: الكبائر، وهذا محمول على أنه قد تاب منها، والحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي أسامة.
قال: [وعن المعرور بن سويد قال: سمعت أبا ذر رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، رغم أنف أبي ذر)].
وقد أجمع العلماء على أن هذا الحديث محمول على من تاب من زناه ومن سرقته.
قال: [وعن الزهري قال: قال لي عبد الملك بن مروان هذا الحديث الذي جاء فيه: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة وإن زنى وإن سرق)، فقلت: أين تذهب يا أمير المؤمنين؟! هذا قبل الأمر والنهي وقبل الفرائض.
وعن المعرور بن سويد عن أبي ذر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى: من عمل حسنة فله عشر أمثالها، ومن عمل سيئة فجزاء مثلها وأغفر)]، والكبائر سيئة كما أن الصغائر سيئة.
والشاهد من الحديث: (وأغفر)، فمن عمل سيئة فهو في مشيئة الله، إن شاء عاقبه بها وإن شاء غفرها له.
قال: [(ومن عمل قراب الأرض خطيئة -أي: ما يوازي ويقارب ملء الأرض خطايا- ثم لقيني لا يُشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
والحديث عند مسلم.
وفي لفظ: (يقول ربكم عز وجل: ابن آدم! إنك إن تأتني بقراب الأرض خطيئة بعد ألا تشرك بي شيئاً جعلت قرابها مغفرة لك ولا أبالي)].
وعن جابر قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ما الموجبتان؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: من مات لا يُشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يُشرك بالله شيئاً دخل النار).
فالموجب لدخول الجنة هو التوحيد، والموجب لدخول النار هو الشرك، وما دون ذلك فهو في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، ودليل ذلك في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
ومن الأمور القطعية أن الشرك لا يُغفر قط، والكفر لا يُغفر قط، وكل شيء غيرهما داخل في مشيئة الله عز وجل، وبعض الناس يقول: إن الله قادر على أن يغفر للمشرك، وهو قادر على كل شيء سبحانه وتعالى، ومن قدرته وبقدرته قضى وأمر وأخبر أنه لا يغفر للمشرك، ولو أراد أن يغفر له لأخبرنا، ولكن الله أخبرنا خبراً يقينياً قطعياً أن المشرك أو الكافر لا يُغفر له قط، وأما ما دون الشرك من الكبائر والصغائر فإن الله تبارك وتعالى إذا شاء عذب بها وإذا شاء غفر؛ لأنه قال: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)).
فعلق مغفرة الذنوب التي هي دون الشرك بالله ابتداء على مشيئة الله، فإن شاء آخذ الناس بها وإن شاء عفا عنها.(54/5)
بيان أن من ستر في الدنيا من أصحاب الكبائر فهو في مشيئة الله تعالى يوم القيامة
قال: [عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف)].
فبايع الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام على هذا، فجمع بين الكبائر وبين الشرك في هذا، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن وفى منكم فأجره على الله)]، أي: فمن وفى منكم بأصل البيعة فأجره على الله عز وجل، أي: أنه يثيبه على ما أطاع فيه ولم يعصه.
قال: [(ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله في الدنيا فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له، قال: فبايعناه على ذلك)].
والشاهد من هذا الحديث قوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله في الدنيا).
فلو أن رجلاً زنى أو سرق أو قتل فستره الله فإن تاب من هذا تاب الله عز وجل عليه، وإن مات ولم يتب فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصاب في الدنيا ذنباً فعوقب به فالله عز وجل أعدل من أن يثني عقوبته في الآخرة)، أي إذا أُقيم عليه الحد في الدنيا فإنه لا يطالب قط بهذا الذنب يوم القيامة، أي: لا يُعاقب على ذنب واحد مرتين، وإذا عوقب بإقامة الحد عليه فقد برئت ساحته من هذا الذنب، والله تعالى لا يذكره ولا يطلعه على هذا الذنب؛ لأنه محي تماماً.
قال: (ومن أذنب ذنباً وعفا عنه فالله تعالى أعدل من أن يعود في شيء عفا عنه).
أي: إذا تاب المذنب من ذنبه فالله عز وجل يتوب عليه؛ لأنه وعد بذلك في قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] بشرط أن يكون صادقاً في توبته كما ذكرنا آنفاً.(54/6)
إشكال حول حديث جعل ذنوب ناس من هذه الأمة على اليهود والنصارى والجواب عليه
قال: [عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليجيئن ناس من أمتي بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى).
قال أبو بردة: فحدثت به عمر بن عبد العزيز -وهذا يقوله لـ غيلان بن جرير - فقال: آلله سمعته من أبيك يحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
فـ عمر يستوثق من أبي بردة أنه سمعه من أبي موسى الأشعري، أي: من أبيه؟ قال: نعم.
وقوله: (ليجيئن ناس من أمتي بذنوب أمثال الجبال، يغفرها الله عز وجل)، أي: يغفرها بسبب توبتهم، أو لعل لهم من الأعمال الصالحة ما يكافئ مغفرة ذنوبهم، ولهم من الأعمال والرصيد في الطاعة الشيء الكثير الذي يؤدي إلى مغفرة هذه الذنوب، ويبدو أن هذه الذنوب كثيرة جداً؛ لأنها أمثال الجبال، ولكن الله تعالى يغفرها لهم ويضع هذه الذنوب على اليهود والنصارى.
وهذا الحديث عند مسلم في صحيحه في كتاب التوبة.
وربما يقول قائل: قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فما بال هذا اليهودي والنصراني يتحمل ذنوب المسلم، والأصل أن يتحمل كل إنسان ذنبه الذي اقترفه؟ وأقول: هذا حق، وليس هذا معنى الحديث، وإن كان هذا باد في ظاهره إلا أنه ليس مراداً على الحقيقة، والمراد هو أن الله عز وجل جعل لكل مخلوق مكانه في النار ومكانه في الجنة، فإذا مات الكافر اطلع على مكانه في الجنة ثم قيل له: هذا مكانك لو أنك آمنت، ثم يطلع على مكانه في النار ويخلد فيها أبد الآبدين، فيبدل الله عز وجل المسلم مكان الكافر في الجنة مع مكانه الأصلي، فهذا المسلم إنما دخل الجنة رغم ذنوبه لكن الله تعالى غفرها، وأدخل هذا اليهودي أو النصراني المكان الذي أُعد للمسلم في النار بسبب كفره ويهوديته ونصرانيته، لا بسبب ذنوب المسلم التي وضعت على هذا الكافر.
فهو تبديل مكان في الجنة أو النار، فالمسلم يغفر الله تعالى له ويدخله الجنة، وأما الكافر فإن الله لا يغفر له ويدخله النار، وهذا معنى الحديث.(54/7)
فضل استمرار العبد في التوبة والاستغفار من الذنوب
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً أذنب ذنباً فقال: رب! أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله تعالى: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي)].
أي: بمجرد أن رجع العبد بعد أن أذنب إلى الله تعالى وتاب، وطلب منه العفو والمغفرة، ففرح الله تعالى بتوبة عبده إليه وقال: (قد غفرت لعبدي).
قال: [(ثم عاد هذا المذنب فعمل ذنباً آخر أو قال: أذنب ذنباً آخر فقال: رب! إني عملت ذنباً فاغفر لي، فقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)]، وهذا محمول على أنه إذا وقع في الذنب أحدث توبة، وإلا فالخطر كل الخطر أن يذنب العبد الذنب ولا يتوب منه ولا يستغفر الله تعالى عما بدر منه، فيكون في مشيئة الله تعالى.
ولا بد من الاحتياط والحرص ألا يكون الشخص تحت المشيئة، فربما يئول الأمر به إلى العذاب وإلى دخول النار لأول وهلة، فالأمر ليس هيناً؛ لأن بعض الناس قد يقول: ما دمت في مشيئة الله فرحمته واسعة.
وهذا صحيح، ولكن عذابه كذلك شديد أليم، والله تبارك وتعالى لم يعدك على الخصوص بالمغفرة، فأنت في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبك وإن شاء غفر لك.
قال: [عن عبد الله بن مسعود قال: (لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] فزع الصحابة واشتد ذلك عليهم وقالوا: أينا لم يتلبس بظلم؟ وفهموا هذه الآية على عموم الظلم الكبير منه والصغير، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؟)]، فبين لهم أن الظلم في هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] بمعنى الشرك، أي: ولم يشركوا بعد إيمانهم، فأولئك يغفر الله تعالى لهم، والحديث أخرجه الشيخان.
قال: [وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً مات فدخل الجنة، فقيل له: ما كنت تعمل؟ فإما ذكر وإما ذكر فقال: كنت أبايع الناس -أي: أبيع وأبتاع- وكنت أنظر المعسر وأتجوز في السكة أو النقد فغُفر له.
قال ابن مسعود: أنا سمعت من النبي عليه الصلاة والسلام).
وعن حميد بن عبد الرحمن الحميري أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره قال: سمعت رسول الله يقول: (أسرف رجل على نفسه، حتى إذا حضرته الوفاة قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الرياح، فوالله لئن قدر الله عز وجل علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، قال: ففعل ذلك به -أي: حينما مات أحرقوه ثم سحقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر- ثم قال الله عز وجل لكل شيء أخذ منه شيئاً: رد ما أخذت منه -فأتى البحر بما عنده، وأتى البر بما عنده- فإذا هو قائم بين يدي الله عز وجل، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ -أي: ما الذي جعلك توصي بهذه الوصية الجائرة؟ -قال: خشيتك)]، أي: الذي حملني على هذا خشيتك، والمعلوم أن الكافر لا يخشى الله تعالى وإنما يخشاه المؤمن، ولكن هذا الرجل كان جاهلاً.
والقدرة صفة من صفات الله تعالى، وأهل السنة مجمعون على أن من جهل صفة من صفات الله عز وجل فإنه لا يكفر بذلك، والإمام ابن الجوزي عليه رحمه الله تكلف تأويل هذا الحديث، فقال في قول هذا الرجل: (فوالله لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين): أي: لئن ضيق الله علي كما في قوله تعالى: ((وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ))، أي: ضيق عليه رزقه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16].
وليس الأمر كذلك، وأقوى الأقوال في هذا هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله وهو: الأمر الأول: أن هذا الرجل كان جاهلاً، فقد كان من أهل الإيمان ولكنه جهل صفة من الصفات، والدليل على أنه مؤمن قوله: (يا رب! خشيتك)، أي: هي التي حملتني على هذا.
والأمر الثاني: إيمان هذا الرجل بأن الله تعالى يبعث الخلائق، وتصور جهلاً منه أنه لو أُحرق وذُري هنا وهناك فإنه لن يُجمع ولن يُبعث بعد ذلك، وهذا لا ينفي أنه يؤمن بحقيقة البعث، ولكنه تصور أنه لو ذر في التراب والبحر فلن يبعث ولن يجمع، وهذا جهل.(54/8)
معنى الاستقامة في قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)
قال: [عن أبي بكر الصديق في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال لهم أبو بكر: ما تقولون في هذه الآية؟ فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا، فقال أبو بكر: حملتم الأمر على أشده، ثم قال: استقاموا فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان].
فلما قالوا: استقاموا فلم يذنبوا، قال: لقد شددتم على أنفسكم جداً، وأينا لا يذنب؟ وإنما تفسير هذه الآية وتأويلها: استقاموا فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان مرة أخرى، أي: لم يشركوا بالله.
والذنب لا يخلو أحد منه إما كبيراً وإما صغيراً.
فأما صغائر الذنوب فتغفرها الطاعات، وهذا أمر معلوم، فتغفرها الصلاة والصيام والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الكفارات.
وأما كبائر الذنوب فتحتاج إلى توبة أو إقامة حد أو عمل أعظم منها من الطاعات كالحج مثلاً، أو الجهاد في سبيل الله حتى يكفر كبائر الذنوب.
وأما الأوثان وعبادتها فإنها أمر لا يُغفر قط إذا مات صاحبه على ذلك.(54/9)
آيات الرجاء في سورة النساء
قال: [قال عبد الله بن مسعود: آيات في كتاب الله في سورة النساء خير للمسلمين من الدنيا وما فيها، وهي قول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]] والآية محل نزاع في تأويلها عند أهل العلم.
فقال بعض العلماء: شرط مغفرة الصغائر عدم الوقوع في الكبائر، فمثلاً قوله عليه الصلاة والسلام: (الوضوء إلى الوضوء، والجمعة إلى الجمعة، والصلاة إلى الصلاة)، وغير ذلك من المكفرات مثل (ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر)، أي: إذا اجتنبت الكبائر، فهذه الأعمال والطاعات وغيرها كفيلة بمغفرة الصغائر ومحوها إذا اجتنبت الكبائر، هذا تأويل.
أي: هذه الأعمال لا تكفر الصغائر إلا إذا اجتنبت الكبائر.
وبعضهم يقول وهو مذهب جماهير أهل العلم: هذه الأعمال -أي: الصغائر- تكفرها هذه الطاعات وقعت الكبائر أو لم تقع، أي: أنهم يقولون: هذه الطاعات تكفر الصغائر دون الكبائر.
قال: [وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110].
قال الحسين: وأنا أقول آية خامسة خير للمسلمين من الدنيا وما فيها هي في سورة النساء كذلك، وهي قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء:147].
وعن ابن عمر قال: ما زلنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: ({إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإني ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة).
وعن معبد الجهني قال: قلت لـ عبد الله بن عمر: رجل لم يدع شيئاً من الخير إلا عمله، إلا أنه كان شاكاً؟ قال: هلك ألبتة].
فلو أن رجلاً لم يعمل سوءاً قط، بل كانت كل أعماله خيراً وصلاحاً وبراً وتقوى؛ غير أنه كان يشك في الله عز وجل فقد هلك ألبتة، أي: لا ينفعه عمله قط.
قال: [قلت: رجل لم يدع من الشر شيئاً إلا عمله، غير أنه يشهد أن لا إله إلا الله، قال: عش ولا تغتر].
وهذا مثل سائر بين العرب: عش ولا تغتر.
وهذا المثل قيل لبدوي كان يريد أن يسافر بإبله ليلاً في الصحراء ويقطع المسافات، فظن أن الصحراء لا تخلو من طعام وشراب ليطعم وتطعم دابته ويشرب وتشرب دابته، وظن أن هذا من باب التوكل على الله، فلما سأل الناس عن ذلك، قالوا: عش ولا تغتر، أي: لا تركن إلا إلى أمر يقيني موثوق منه، وأما ظنك أن الصحراء بها طعام وشراب فهذا مجرد ظن وليس يقيناً، ولكن اليقين أن طعام الدبة وشرابها بين يديك الآن، فعشها وأطعمها وأسقها، ولا تغتر، أي: لا تقع في أمر مظنون، فإن وجدت في الصحراء طعاماً وشراباً فيكون ما قد فعلته في حضرك زيادة في الخير، وإذا انقطع بك السبيل في الصحراء فتكون قد عشيت ولم تغتر.
وهكذا قال عبد الله بن عمر وابن عباس وغير واحد لمن تكلم في هذه القضية، والمثل كان معلوم المعنى لدى السامع والمتكلم، أي: افعل الخير وتب من الذنب ولا تغتر برحمة الله تعالى، فإن رحمك كان بها، وكانت طاعتك زيادة في البر والتقوى، وإن حاسبك الله عز وجل كان عندك من الطاعة ما يؤهل لمغفرة الذنب.(54/10)
عدم تكفير الصحابة لأصحاب الكبائر
قال: [وعن أبي سفيان قال: قلت لـ جابر: كنتم تقولون لأهل القبلة أنتم كفار؟ قال: لا، قلت: فكنتم تقولون لأهل القبلة: أنتم مسلمون؟ قال: نعم].
وهذا بيان أنه لا يلزم من كون الرجل من أهل القبلة أن يكون من أهل السنة، فأهل السنة أهل الاستقامة وأهل الحسنى، وأهل القبلة كذلك، ومن خالف طريق السنة فلا يلزم منه أن يكون كافراً بل يكون من أهل القبلة فحسب.
وأتى رجل ابن مسعود فقال: إني ألممت بذنب، فأعرض عنه ابن مسعود، فأقبل على القوم يحدثهم، فأقبل المذنب على ابن مسعود قد نزف الدمع من عينيه، فقال ابن مسعود: ما جئت تسأل عنه؟ إن للجنة ثمانية أبواب تفتح وتغلق، غير باب التوبة عليه ملك موكل، فاعمل ولا تيئس.
والشاهد: لا تيئس، وأعظم منه قوله: اعمل؛ لأن بعض الناس يتكل تماماً على رحمة الله عز وجل، وكأن الله تعالى وعده أن يرحمه وأن يغفر له، فهو يترك العمل دائماً اتكالاً على رحمة الله، وأخشى أن يفاجأ يوم القيامة بأنه من أهل النار لأول وهلة، والمعلوم أنه إن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، والله تعالى يفعل ما يشاء، ولا يخاف عاقبة الأمور، ولذلك قال: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:15].
فهو يعذب من يشاء بعدله ويغفر لمن يشاء بفضله سبحانه وتعالى.
فإذا كنت في مشيئة الله عز وجل فلا بد أن تقدم بين يديك وبين يدي الله عز وجل عملاً صالحاً ترجو به ثواب الله تعالى ومغفرته، وأما اتكالك على مغفرته وأنت مستمر في المعاصي والذنوب فإن هذا ليس من عقيدة أهل السنة أبداً.(54/11)
الصلاة على أصحاب المعاصي
قال: [قال أبو العالية: قلت: يا أبا أمامة! الرجل يكون فينا رجل سوء فيشرب الشراب فيموت أنصلي عليه؟ قال: فإلى من تكلون جنائزكم؟ أي: إذا لم تصلوا على أصحاب الذنوب والمعاصي والكبائر فمن يصلي عليهم؟ وما يدريك لعله استلقى على فراشه فقال: لا إله إلا الله فغفر الله عز وجل له].
ونحن في الحقيقة نعامل أصحاب الصغائر معاملة فيها فظاظة وجلافة، مع أن الأصل أن نتلطف ونرحم أصحاب الكبائر، ونأخذ بنواصيهم إلى الله عز وجل.
قال: [وعن عقبة بن علقمة اليشكري قال: رأيت علياً وقد شهدت معه صفين، فأُتي بخمسة عشر أسيراً من أصحاب معاوية، فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه].
واليوم لو كان هناك خمسة إخوة فقتل أحدهم وبينه وبينهم عداء فإن الجميع سيمتنع من الصلاة عليه وعن تغسيله والدعاء له، مع أنه مجرد خلاف لم يصل إلى حد ما حدث في صفين أو الجمل أو غيرها.
قال: فأُتي بخمسة عشر أسيراً من أصحاب معاوية، فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه، أي: علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
قال: [وعن محمد بن المنكدر قال: كان رجل بالمدينة يقال له: عمران بقرة، وكان مسرفاً على نفسه، فحينما مات أُتي بجنازته فتفرق الناس عنه، أي: ما صلوا عليه، قال: وثبت مكاني -أي: صليت عليه- فكرهت أن يعلم الله عز وجل مني أني أيست له من رحمته].
وهذا موقف محمد بن المنكدر من أصحاب الكبائر.
قال: [وقال محمد بن القاسم: سمعت أعرابياً خرج من خيمته فوقف على بابها، ثم رفع يديه فقال: إلهي إن استغفاري لك مع إصراري للؤم، وإن تركي الاستغفار مع سعة رحمتك لعجز، إلهي كم تحببت إلي وأنت عني غني! وكم تبغضت إليك وأنا إليك فقير! فسبحان من إذا وعد وفى، وإذا توعد عفا.
قال: وخرج أعرابي فقال: اللهم إني أخافك لعدلك، وأرجوك لعفوك، خلصني ممن يخاصمني إليك، فإنه لا يخاصمني إليك إلا كل مظلوم، وأنت حكم عدل لا تجور، عوضهم بكرمك، وخلصني بعفوك يا كريم!].(54/12)
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحاب الكبائر
والنبي عليه الصلاة والسلام كان رحيماً جداً بأصحاب الكبائر إذا تابوا منها، ولو نظرنا إلى المرأة الغامدية مثلاً فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى عليها وهي زانية، ولكنها تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وفي رواية: لو تابها صاحب مكس لتاب الله عز وجل عليه.
وكذلك ماعز الأسلمي حينما أُقيم عليه الحد فمات سبه أحد ممن رجمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، فإني أراه الآن يسبح في أنهار الجنة).
وغير ذلك.
بل كان الأعرابي البدوي الجلف يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيأخذه من ثوبه ويجبذه إليه حتى يؤثر ذلك في رقبته ويقول: (يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك).
والمعلوم أن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام بالقول أو الفعل من عظائم الذنوب، ومع هذا ما كان يزيد على أن يبتسم ثم يأمر له بالعطاء.
فصاحب الكبيرة إما أن تقول هو كافر فلا تصلي عليه، وإما أن تقول هو من أهل القبلة فتصلي عليه، وهو من أهل القبلة، إلا أن يشرك بالله.
وأما أن نذكر كلاماً عاماً فهذا ينبغي أن نتوقف فيه، إلا أن تُبحث كل حالة معروضة على ذلك، فلا يصح أن تقول: ما حكم من فعل كذا وكذا؟ ثم تأخذ مني الجواب فتطبقه على فلان بعينه، ثم تقول: فلان أفتاني أو فلان قال كذا.
هذا كلام لا يصح.(54/13)
الأسئلة(54/14)
كفارة الكبيرة
السؤال
هل يكون السجن كفارة لمقترف الكبيرة؟
الجواب
السجن ليس كفارة؛ لأن السجن والحبس ليس من العقوبات الشرعية ابتداء، وإنما الحدود كفارات لأهلها كما جاء عن عمر وغيره من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام؛ وهذا الحديث مرفوع، وليس له سند يصح، والأمة مجمعة على أن من أُقيم عليه الحد فالحد كفارته، ويستندون إلى أقوال مأثورة عن الصحابة رضي الله عنهم بأن الحدود كفارات لأهلها.(54/15)
الدعاء للشخص باسمه في السجود
السؤال
هل يجوز الدعاء في السجود لأحد الإخوة بالاسم؟
الجواب
نعم يجوز، بل وفي القنوت كذلك يجوز.(54/16)
حكم مرتكب الكبيرة
السؤال
الذي يأتي كبيرة وهو عالم بها وبقبحها ما حكمه؟
الجواب
حكمه حكم مرتكب الكبيرة.(54/17)
حكم اختلاف العلماء، وحكم المضمضة والاستنشاق في الوضوء
السؤال
هناك اختلافات في بعض الأمور الفقهية بين الأئمة الأربعة، فهل يجوز أن نأخذ برأي إمام واحد دون الأئمة الآخرين، وهل هذا الاختلاف رحمة؟
الجواب
اختلاف العلماء اختلف فيه الناس إلى قسمين: قسم يرى أن الاختلاف منه خطأ وصواب.
وقسم يرى أن الاختلاف رحمة، وأنه يجوز للعامي الذي ليس له نظر في الأدلة أن يقلد أي المذهبين.
والأدلة التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام تشهد لهذين الرأيين، فمثلاً الاختلاف في العقائد وفي أصول الدين وكليات الشريعة عبارة عن خطأ وصواب، وقول بعض فرق الإباضية مثلاً بإنكار الصلوات الخمس، وأنها صلاتان، صلاة في أول النهار وصلاة في آخر النهار هذا الخلاف في الأصول، والخلاف فيه خطأ وصواب.
والشيعة ينكرون المسح على الخفين، وجماهير المسلمين يقولون بسنية وجواز المسح على الخفين.
فخلاف الشيعة لجماهير علماء المسلمين خلاف غير معتبر، وهو خطأ.
فالخلاف منه ما هو خطأ وصواب، ومنه ما هو رحمة وسعة.
ومثال اختلاف الرحمة: قوله قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)، فلما كادت الشمس أن تغرب قبل أن يصلوا العصر ولم يدخلوا بني قريظة انقسم الصحابة فريقين، فقال أحدهما: ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام ظاهر لفظه، ولكنه أراد أن يبشرنا بأننا سندخل في بني قريظة قبل غروب الشمس، فحملوا كلامه على أنه خبر بشارة بدخول بني قريظة قبل غروب الشمس، ولكن الواقع أننا لم ندخل، فلن نترك الصلاة وقد علمنا النبي عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة، والله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
وهذا وقت العصر، فكيف نتركه متعمدين حتى تغرب الشمس؟ والله لنصلين، فصلوا.
وقال الفريق الثاني: إنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام ظاهر نصه، وأننا لا نصلي العصر إلا في بني قريظة حتى وإن غربت الشمس.
فهؤلاء قالوا: النبي عليه الصلاة والسلام ما أراد منا ترك الصلاة، والفريق الثاني قالوا: نأخذ بظاهر كلامه عليه الصلاة والسلام وعليه المسئولية صلى الله عليه وسلم.
والحجة ليست في فعل هذين الفريقين، وإنما الحجة في أنهم لما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قصوا عليه الخبر فلم ينكر على أحد الفريقين، فلم يقل للذين صلوا: لِم صليتم وقد أمرتكم ألا تصلوا إلا في بني قريظة؟ ولا للذين لم يصلوا: أنا ما أردت ذلك، ولم لم تصلوا لما كادت الشمس أن تغرب وقد علمتكم مواقيت الصلاة؟ لم يثبت عنه ذلك.
بل الثابت أنه أقر هؤلاء وهؤلاء، مع اختلافهم في الاجتهاد؛ لأن الأصل واحد.
فأصل هؤلاء أنهم حرصوا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصل هؤلاء كذلك أنهم حرصوا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بخلاف من حرص على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا شيء آخر.
وغسل الوجه في الوضوء لم يختلف أحد من أهل العلم أنه واجب؛ لأن الأصل واحد، ومرده إلى الكتاب والسنة.
ولكن أهل العلم من أهل السنة اختلفوا في المضمضة والاستنشاق، فمنهم من قال بالوجوب، ومنهم من قال بالاستحباب، وترك الاستحباب لا يؤثر في صحة العمل، وخلافهم لم يقع عن هوى، والظن بعلمائنا أن مرد أمرهم كله إلى الله عز وجل ورسوله.
فقال الفريق الأول: إذا كان الله تعالى أمر بغسل الوجه فالفم والأنف من الوجه، فهما داخلان في الأمر، وقد بين ذلك بسنته العملية صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحافظ على المضمضة والاستنشاق، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبتان لعموم الأمر بغسل الوجه والسنة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا كلام وجيه.
وقال الفريق الثاني: نحن متفقون مع الفريق الأول على وجوب غسل الوجه، وهذا أصل لا نختلف فيه، وإنما نختلف معهم أن الفم والأنف من الوجه، فظاهر الأنف وظاهر الفم من الوجه، وأما باطن الأنف الذي هو محل الاستنشاق وباطن الفم الذي هو محل المضمضة فليسا من الوجه.
فلما سألهم الفريق الأول: لِم كان يتمضمض ويستنشق عليه الصلاة والسلام وعمل بهذا الخلفاء من بعده، وعملهم حجة؟ قالوا: إن فعلهم ومواظبتهم محمولة على الاستحباب والندب لا على الوجوب، ونحن لا نختلف معكم في جواز ومشروعية المضمضة والاستنشاق، وإنما نختلف معكم في حكم المضمضة والاستنشاق، فأنتم تقولون: واجب، ونحن نقول: مستحب، والفرق بيننا وبينكم أن ترك الواجب يأثم به التارك، وأما ترك المستحب فلا يأثم به التارك.
وهذا الخلاف مقبول ومعتبر.
فإن كنت ممن لا نظر لهم ولا فقه في أدلة أهل العلم والترجيح بينها فإمامك هو مفتيك، وأما إذا كنت من أهل العلم أو من طلاب العلم الذين لهم نظر وبصر في الأدلة، وتستطيع أن ترجح بين أقوال العلماء من واقع الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع فإن التقليد لا يسعك، ولا يسعك إلا أن ترجح في كل مسألة من مسائل دينك فتلتزمها.
والله تعالى أعلم.(54/18)
حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور
السؤال
هل الصلاة في المساجد التي فيها قبور صحيحة أم غير صحيحة؟
الجواب
الذي يترجح لدي أن الصلاة في المساجد التي فيها قبور غير صحيحة.(54/19)
حكم تعليق الصور
السؤال
هل يجوز تعليق الصور في المنزل، وهل يوجد خلاف في هذه المسألة؟
الجواب
لا أعلم بين أهل العلم خلافاً في حرمة تعليق التصاوير، وإنما الخلاف وقع في جواز التصوير، وأما التعليق فلم يختلف على حرمته أحد.(54/20)
حكم إقامة جماعتين في مسجد واحد في وقت واحد
السؤال
ما حكم إقامة جماعتين في مسجد واحد في آن واحد؟
الجواب
الجماعة الثانية باطلة؛ لأنها انعقدت في غير وقت الجواز، وبطلانها متوقف على بلوغها العلم بإقامة جماعة أولى، والجماعة الثانية جماعة باطلة، ويلزم أصحابها الإعادة إما جماعة أو فرادى؛ لأنهم علموا بقيام الجماعة الأولى، حتى وإن كانت هذه الجماعة الأولى جماعة أفسق الخلق، وكان إمامها لا يحسن البسملة، فتنتظر الجماعة الثانية حتى تفرغ الأولى من صلاتها، وإلا يجب عليهم أن يدخلوا معهم في الصلاة.
فلا تقام جماعتان مطلقاً سواء في فرض أو في فرضين أو أكثر في مسجد واحد، وإذا كان هناك جماعتان في آن واحد فالذي يدخل المسجد مع من يصلي وبمن يلتحق في الصلاة؟ فهذا لا يجوز، وهذه المسألة من مسائل الإجماع.
ويمكن أن يكون هناك سعة في الأمر إذا جهلنا، كأن يكون المسجد كبيراً جداً، فتكون الجماعة الأولى مثلاً في أول المسجد، وهم وإن صلوا بميكرفون أيضاً فالناس الذين في آخر المسجد لا يسمعونهم ولا يعلمون بقيام الجماعة الأولى، فلا بأس بتعدد الجماعات على هذا النحو، بشرط ألا تعلم الجماعة الثانية بقيام الجماعة الأولى، وإذا علموا في أثناء الصلاة وجب عليهم الانصراف، وإذا علموا في أثناء الصلاة ولم تعرف الأولى منها وجب على الجماعتين حينئذ الانصراف وإنشاء جماعة واحدة.
وإذا صلت الجماعتان ولا يعلم أحدهما بقيام الجماعة الأخرى، فصلاتهما صحيحة.(54/21)
حال طارق السويدان وأشرطته
السؤال
الأخ يسأل عن أشرطة طارق السويدان؟
الجواب
طارق السويدان فتنة في هذا الزمان، وهو له ميول شيعية، وليس شيعياً صريحاً، وقد أساء غاية الإساءة فيما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقد علق على الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بكلام يخالف تماماً عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذه مسألة ليست هينة، وإنما هي مسألة من أصول اعتقاد المسلمين، والدكتور طارق السويدان في الحقيقة جريء جداً في انتقاد أهل السنة، وجبان جداً في انتقاد الشيعة، وقد قلت له في الكويت في شهر (8) في العام الماضي: لقد أثنيت على الشيعة ولم نرك تثني على أهل السنة كما أثنيت على الشيعة، والشيعة في الكويت لهم نواب في مجلس الأمة وغير ذلك، فقال: وماذا أنقم على الشيعة، فلو جمعت أخطاء أهل السنة لفاقت أخطاء الشيعة؟ وهذا الكلام لا يقوله أحد قط عنده بصيرة ولا علم ونور في قلبه.
قلت: وما هي أخطاء أهل السنة الظاهرة أو الأخطاء الأصلية الكلية في الاعتقادات، والشيعة يخالفوننا فيما يتعلق بأصول الاعتقاد، وفي النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الإمامة، وفي اتخاذ التقية مذهباً لهم، وفي كلام الله عز وجل في القرآن الكريم، وفي أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهم يتقربون إلى الله بزعمهم بسبهم وتكفيرهم، ونحن نتقرب إليه بحبهم والترضي عنهم.
وهذه كلها أصول وغيرها كثير.
قال: دعنا من هذا، فإن أهل السنة عندهم أكثر مما عند الشيعة مما يُنقم عليهم.
والكلام هذا مسجل، وكنت أود ألا ينتشر أمره، فلما انتشر وجب التحذير منه، وخاصة الأشرطة قد انتشرت بين العامة، والعامة لا يعرفون أصول الاعتقاد ولا فروع الاعتقاد من باب أولى.
وأنا لا أرى غضاضة قط بسماع أشرطته دون أشرطة التاريخ الإسلامي، فله عشرة أشرطة في التاريخ الإسلامي جمع فيها البلاء، وتكلم عن الصحابة بكلام ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة، فإن شئت أن تسمع له غير هذه الأشرطة فبها ونعمت، وإن تركته كله فهو أحسن.
والله تعالى أعلم.(54/22)
صيغة إرجاع الزوجة المطلقة طلاقاً رجعياً
السؤال
حدثت مشادة بيني وبين زوجتي وأخطأت فضربتها، ثم أخطأت مرة أخرى فقلت لها: أنتِ طالق، وهذه المرة الأولى، فما الحكم في ردها، مع العلم بأنها لم تكن في المنزل؟
الجواب
إذا كانت الصيغة كما قلت تماماً: أنتِ طالق، فهذا لفظ صريح يقع به الطلاق، والطلاق يقع وإن كانت المرأة حائضاً مع الإثم، ويلزمك أن ترد هذه المرأة إذا أردت ردها بقولك أمام شاهدي عدل: أرجعت امرأتي فلانة إلى عصمتي.
وتحسب هذه طلقة أولى، ويبقى لك طلقتان، وربما تتلفظ بهما هذه الليلة، فلا تقل مثلاً: إن لي عشر سنين لم أطلق إلا مرة، فربما تغضب غضبة شديدة فينتهي الزواج كله في هذه الليلة.
وبإمكانك أن تعالج كل خطأ حتى إن أنت ضربتها، ومع أن هذا أمر بشع، إلا أنه يمكن علاجه بكلمة بسيطة جداً لها، أو هدية منك تقدمها لها، وبهذا ينتهي كل شيء.
فالضرب له علاج، ولكن الطلاق ليس له علاج، (وهل يكب الناس على مناخيرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم؟) فكما يقولون: لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن هنته هانك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(54/23)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الشفاعة لأهل الكبائر يوم القيامة
من ضرورات الإيمان: التصديق بالشفاعة الثابتة يوم القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، واختصاص الشفاعة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك حين يبعثه الله المقام المحمود، والشفاعة أنواع منها شفاعة المؤمنين لإخوانهم، وشفاعة الأطفال لآبائهم، وشفاعة الملائكة، وشفاعة رب العالمين، التي يعتق بها أقواماً برحمته ويخرجهم من النار.(55/1)
باب الشفاعة لأهل الكبائر
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [(باب الشفاعة لأهل الكبائر)].
أي: باب إثبات أن الشفاعة ينتفع بها أصحاب الكبائر.
هذا الباب معقود للرد على المعتزلة الذين يقولون بأن من دخل النار لا يخرج منها، ونحن نعلم أن صاحب الكبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذبه فمآله الخروج من النار ودخول الجنة.
والخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة كما عرفنا مراراً، والمعتزلة يقولون: لو دخل النار لا يخرج منها قط، ثم يأتون بالآيات والأحاديث التي تدل على دخول النار والأبدية والخلود فيها الواردة في حق الكفار فيحملونها على من دخل النار عموماً أو مطلقاً، وأنتم تعلمون أن أصحاب الكبائر أو أصحاب الذنوب والمعاصي إذا أراد الله عز وجل أن يعذبهم أدخلهم النار ثم يخرجون منها، والأدلة على ذلك كثيرة ومتواترة، وستأتي معنا بإذن الله تعالى.
قال: [سياق ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة لأمته، وأن أهل الكبائر إذا ماتوا عن غير توبة يدخلهم الله عز وجل إن شاء النار، ثم يخرجهم منها بفضل رحمته ويدخلهم الجنة، وقد مضى في حديث جابر وغيره في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) وذكر منها الشفاعة].
قال: (وأوتيت الشفاعة).(55/2)
رواية أبي هريرة في الشفاعة
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني أحب أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ولفظ الحديث لـ عبد الرزاق أخرجه مسلم].
قال ابن حزم: اختلف الناس في الشفاعة، فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج.
إذاً: الذي ينكر الشفاعة يركب مركب الخوارج ومركب المعتزلة، أما أهل السنة فيثبتون الشفاعة الواردة بقيودها، وشروطها في الكتاب والسنة، وذهب معهم الأشعرية والكرامية وبعض الرافضة.
واحتج المانعون بقول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].
ولعلكم تذكرون أن هذه الآيات كانت حجة ذلك الغبي الذي أنكر الشفاعة منذ أشهر قلائل، احتج بقول الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وبقوله عز وجل: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19].
قال الآجري: قال محمد بن الحسين رحمه الله اعلموا رحمكم الله أن المنكر للشفاعة يزعم أن من دخل النار فليس بخارج منها.
وهذا مذهب المعتزلة، يكذبون بها -أي: بالشفاعة- وبأشياء سنذكرها إن شاء الله مما لها أصل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وسنن الصحابة رضي الله عنهم، وقول فقهاء المسلمين.
ويعتقد أهل السنة والجماعة بأن عصاة الموحدين الذين استحقوا دخول النار -بسبب معاصيهم وجزاء ذنوبهم التي ارتكبوها- أنهم يخرجون منها ولا يخلدون فيها، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]، وقال تعالى: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]].
وقد تواترت الأحاديث بوقوع الشفاعة يوم القيامة، وسيذكر المؤلف معنا شيئاً منها، ومنها هذا الحديث [عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي دعوة مستجابة)].
أي: لا محالة؛ لأن هذا وعد من الله عز وجل، ووعده سبحانه لا يتخلف بخلاف الوعيد [(فتعجل كل نبي دعوته)].
يعني: كل نبي تعجل دعوته العظمى.
أنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دائماً في ليله ونهاره، ودعوته هذه ليست الدعوات المقصودة في هذه الروايات، فلكل نبي دعوة عظمى عامة تنفع الأمة بأسرها، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فإنه اختبأ دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة: [(وإني اختبأت دعوتي لأمتي يوم القيامة)].
[عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننت ألا يسألني عن ذلك أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث إن أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه)].
أي: من كان موحداً لله عز وجل، وذكر شرطاً من شروط (لا إله إلا الله) وهو الإخلاص.
قال: (مخلصاً من قلبه)؛ لأن لا إله إلا الله مجردة بغير شروطها ومقتضياتها لا تنفع صاحبها، فقول الإنسان: (لا إله إلا الله) وهو يبغض هذه الكلمة ولا يعلم حقيقتها وغير ذلك من شروطها لا تنفعه، فقال: (إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه).(55/3)
رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه في الشفاعة
قال: [عن سفيان بن عيينة قال: قلت لـ عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدخل قوماً النار ثم يخرجهم منها)].
يعني: هل سمعته يقول ذلك وينقله عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ [قال -أي: عمرو - نعم] والحديث في الصحيحين.
[عن حماد بن زيد قال: قلت لـ عمرو بن دينار: يا أبا محمد! سمعت جابر بن عبد الله يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة؟ فقال: نعم)].
(إن الله يخرج قوماً من النار) أي: بعد أن استحقوا دخول النار ودخلوها حقاً، فإنهم يخرجون بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
والحديث في الصحيحين.
[عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الله قوماً من النار بعدما امتحشوا فيدخلون الجنة)] أي: بعدما احترقوا في النار، فالله تعالى يخرجهم ويدخلهم الجنة.
[قال عمرو بن دينار: قال عبيد بن عمير.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة).
قال: فقال رجل: يا أبا عاصم! ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فقال عبيد بن عمير: إليك عني يا علج -أي: يا قبيح- فلولا سمعه من يتبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدثته.
قال سفيان: وقدم علينا عمرو بن عبيد ومعه رجل تابع له على هواه فدخل عمرو بن عبيد الحجر فصلى فيه وخرج صاحبه، وقام على عمرو بن دينار وهو يحدث هذا عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم].
يعني: هذا الذي أتى إلى مكة مع عمرو بن عبيد صاحب هوى من أهل الاعتزال، سمع عمرو بن دينار يحدث عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أن الله عز وجل يخرج قوماً من النار بعد ما امتحشوا فيدخلهم الجنة)، فلما سمع هذا من عمرو بن دينار قال: ما هذا الذي تحدث به يا عمرو؟! قال: سمعت جابر بن عبد الله يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان السند قوياً ما استطاع هذا المبتدع أن يرد هذا الكلام، قال: إن لهذا الكلام معنى آخر؛ لأنه لم يستطع أن يرد أصل الكلام، فتكلم في معناه.
قال: هذا الكلام ليس على ظاهره، بل له معنى آخر لا يعرفه كثير من الناس.
قال: فقال الرجل لـ عمرو بن عبيد: وأي معنى لهذا الكلام، وفك ثوبه من يديه وفارقه.
[عن يزيد الفقير قال: كان قد شغفني رأي الخوارج -ومعنى شغفني: شغلني- ودخلت فيه، وكنت أعتقد صحة ما عليه الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار.
قال: فكنت رجلاً شاباً، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إلى سارية وإذا هو يذكر الجهنميين].
قصة الجهنميين أنهم يدخلون جهنم ويخرجون منها بشفاعة الشفاعين، ويدخلون في نهر يقال له: نهر الحياة، ينبتهم الله عز وجل فيه، ثم يسكنهم الجنة، فأهل الجنة يدعون هؤلاء بالجهنميين، أي: لمن استحقوا العذاب في جهنم، وقد خرجوا منها بشفاعة الشافعين.
قال: [فلما سمعت جابراً يحدث عن الجهنميين فقلت له: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما هذا الذي تحدثون وقال الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192]؟] يعني: أنت تقول يا جابر! أن من دخل النار يخرج منها من أصحاب الكبائر، والله تعالى قد حكم عليه بالخلود في قوله: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192].
قال: [ولم يذكر بعد الخزي شيء آخر] أي: من النجاة.
[قال: فقال جابر: أي بني! أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم.
قال: فهل سمعت بالمقام المحمود الذي يخرج الله به من يخرج.
قال: ثم نعت وضع الصراط وممر الناس عليه.
قال: فأخاف ألا أكون حفظت، غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد إذ كانوا فيها.
قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهراً من أنهار الجنة، فيغتسلون فيه، ويخرجون كأنهم القراطيس البيض.
قال: فرجعنا، وما خرج منا غير واحد].
أي: رجعنا كلنا عن رأي الخوارج، لم يبق مع الخوارج منا إلا واحد فقط.
هذا هو الإشعاع النوراني الذي يصلح الله عز وجل به العباد على يد رجل واحد من أهل العلم، كما وقع من جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهذا الحديث [أخرجه مسلم].(55/4)
الخلود نوعان في كتاب الله أبدي ومؤقت
وقال طلق بن حبيب: [كنت أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله الأنصاري، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها فيها ذكر خلود أهل النار].
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها) حديث كهذا عند الخوارج يقولون: هاهو الحديث يقول: (خالداً مخلداً فيها)، ونحن نعلم أن من قتل نفسه ارتكب معصية، والمعصية ليست كفراً، فإن كان الذي قتل نفسه كافراً فإنه يحمل الخلود في هذا الحديث على الأبدية، وإن كان عاصياً صاحب كبيرة فلابد أن تصيبه الشفاعة، ويحمل الخلود هنا على المكث الطويل، وهذا معروف في كلام العرب، أن الخلود بمعنى: المكث الطويل.
قال: [فقرأت عليه كل آية أقدر عليها فيها ذكر الخلود في النار، فقال لي: أتراك يا طلق بن حبيب! أقرأ لكتاب الله، وأعلم بسنة نبيه مني؟] يعني: أنت يا طلق بن حبيب! ترى أنك أقرأ لكتاب الله مني، وأعلم بسنة الرسول مني؟ قال: [قلت: لا.
قال: فإن الذي قرأت إنما نزلت في المشركين].
وهذه بلية الخوارج في هذا الزمان التي يطلق عليها جماعة التكفير والهجرة، إذ يأتون بأحاديث الوعيد كلها التي وردت في حق الكفار والمشركين فينزلونها على أصحاب المعاصي من الموحدين، وهذا بلاء عظيم جداً.
قال: [ولكن هؤلاء -أي أصحاب الكبائر- أصابوا ذنباً فعذبوا ثم أخرجوا من النار، وأومأ بيده إلى أذنيه -يعني: أشار بيده إلى أذنيه- فقال: صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ الذي تقرأ].
يعني: ونحن نقرأ القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام كان يفسر لنا بأن الخلود الوارد في هذه الآيات إنما ذلك في حق المشركين والكفار، أما في حق عصاة الموحدين فلا؛ لأنهم إن دخلوا النار ولم يعصوا الله ابتداء فمآلهم الخروج من النار ودخول الجنة.(55/5)
رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة
قال: [عن أبي سعيد قال: (تخرج ضبارة من النار حتى كانوا فحماً -يعني: بعد أن كانوا فحماً يخرجون من النار- فيقال: بثوهم في الجنة -أي: أدخلوهم الجنة- وصبوا عليهم من الماء -أي: من نهر الحياة- فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل -أي: فيما يحمله السيل وما يتجمع على سطح الماء، لو أنك ألقيت حبة فيها نبتت- قال: قال رجل من القوم: كأنما كنت من أهل البادية يا رسول الله!)].
أي: رجلاً تفهم كأهل البوادي.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: [(إن للنار أهلاً لا يموتون فيها ولا يحيون)] لا يموتون فيها؛ لأنهم يعذبون فيها أبد الآبدين، ولا يحيون فيها يعني: حياة كريمة.
قال: [(فأما ناس يريد الله بهم الرحمة فإن النار تصيبهم، فتدخل عليهم الشفعاء، فتحمل الشفيع للشفعاء منهم الضبار، فيبثهم الله على نهر في الجنة، فينبتون نبات الحبة في حمالة السيل.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترون إلى الشجرة تكون خضراء تكون حمراء؟ فقال بعض الناس: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية)].
ثم قال عليه الصلاة والسلام: [(ثم يدخلون الجنة فيمكثون فيها فيسمون الجهنميين، ثم يطلبون إلى الرحمن، فيذهب ذلك الاسم عنهم فيلحقون بأهل الجنة) أي: يسمون عتقاء الرحمن، فالله عز وجل أعتقهم من النار بشفاعته.
[عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون من النار)] أي إذا خرج المؤمنون من النار.
والمعاصي لا تنفي اسم الإيمان؛ وذلك لأن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ليس كافراً بكبيرته، ولا يحمل فسقه على نفي الإيمان عنه، بل يبقى فيه شعب إيمان كما عنده شعب فسق.
[قال: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا نقوا وهذبوا أمر بهم إلى الجنة -نقوا وهذبوا، أي: أدخلوا نهراً على باب الجنة يسمى نهر الحياة- فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمنزله في الجنة أدل منه في الدنيا)].
يعني: هؤلاء إذا دخلوا الجنة كل واحد منهم ينطلق إلى مكانه في الجنة؛ لأنه أعرف به من منزله الذي كان يسكنه في الدنيا.(55/6)
رواية أنس بن مالك رضي الله عنه في الشفاعة
قال: [عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج قوم من النار بعد ما تصيبهم فيها -أي: بعدما تحرقهم النار- فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين)].
[عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة يلهمون لذلك)] أي: الله عز وجل يلهم أهل الإيمان أن يتعرف كل منهم على صاحبه، فيجتمعون ويقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا.
يعني: أن المؤمنين في هذا الموطن يعلمون أن لهم شفاعة عند الله عز وجل.
قال: [(فيأتون لآدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا.
فيقول: لست هناكم -يعني: لست أهلاً لهذه الشفاعة- وذكر لهم خطيئته التي أصاب -أي: أكله من الشجرة- ولكن ائتوا نوحاً.
فيقول: لست هناكم، وذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا خليل الرحمن إبراهيم.
فيأتون فيقول: لست هناكم، ويذكر خطايا أصابها، ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلمه تكليماً، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول لهم: لست هناكم، ويذكر لهم خطيئته التي أصاب، ولكن ائتوا عيسى رسول الله وكلمته وروحه، فيأتون عيسى عليه السلام فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال: فيأتوني، فأنطلق إلى ربي -يعني: المؤمنون لهم شفاعة، ورب العزة له شفاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث له شفاعة- فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني عز وجل ما شاء الله أن يدعني -يعني: يتركني ساجداً على هذه الحال، فألهم دعاء لم أدع به من قبل- ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع.
قال: فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة -الله عز وجل يجعل له قسماً ممن دخل النار، ويقول: هؤلاء نصيب شفاعتك خذهم وأدخلهم الجنة- ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً -للمرة الثالثة- قال ثم أرجع فإذا رأيت ربي -للمرة الرابعة- قال: ثم أشفع فيحد لي خمس مرات، قال: ثم أرجع فأقول: يا رب! ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن)].
أي: إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي في النار.
يعني: لم يبق في النار إلا الكفار.
وهذا الحديث [أخرجه البخاري ومسلم من حديث هشام].
[عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله)].
انظر إلى هذا الترتيب الذي نستفيد منه كذلك أن الإيمان يزيد وينقص.
قال: [(يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، ثم من كان في قلبه من الخير ما يزن برة -أي: من الإيمان والدين- ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ثم من كان في قلبه ما يزن ذرة)].
والمعلوم أن الذرة أقل من حبة القمح، فهذا يدل على أن الإيمان في القلب نفسه يتجزأ ويتبعض ويزيد وينقص.
[عن أنس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)].
وقال أنس مرفوعاً: [(يقول الله عز وجل: أخرجوا من النار من وحدني -أي: من كان موحداً، وأصحاب المعاصي موحدون- ومن خافني في مقامي)].
لأنه لا يخاف الله عز وجل إلا المؤمن وإن وقع في المعاصي.(55/7)
رواية ابن مسعود رضي الله عنه في الشفاعة
قال: [عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار)] يحكي لنا عن رجل هو آخر أهل النار خروجاً منها، فيكون آخر واحد يدخل الجنة.
قال: [(إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، رجل يخرج منها زحفاً يقال له: انطلق.
ادخل الجنة.
فيذهب يدخل فيجد الناس قد أخذوا المنازل -يعني: كل واحد جلس في مكان في الجنة- فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت؟ فيقول: نعم)].
فالرجل لما رأى كل واحد من الناس قد جلس في مكانه أيس أن يكون له مكان.
قال: كل واحد أخذ نصيبه، ولم يبق لي مكان في الجنة، فلما وجد الله عز وجل منه ذلك قال له: (أتذكر الزمن الذي كنت؟ فيقول: نعم.
فيقال له: تمن قال: فيتمنى.
فيقال له: إن لك الذي تمنيت.
وعشرة أضعاف الدنيا.
فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟! -أي: لك ما تمنيت في الزمان الذي كنت تعيش فيه وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول: يا رب أتسخر بي وأنت الملك- فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه)].
هذا الرجل أقل حظاً في الجنة، فالجنة بطولها وعرضها لا يمكن لأحد أن يتصورها.
هذا الحديث [أخرجه مسلم من حديث الأعمش والبخاري من حديث منصور].(55/8)
رواية أبي ذر الغفاري في الشفاعة
قال: [عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد علمت آخر الناس خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة، رجل يؤتى فتعرض عليه سيئاته وتخبأ عنه كبائره فيقال: أتذكر يوم عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم.
وهو يشفق من الكبائر أن تعرض عليه -يعني: يخاف من أن تعرض الكبائر فيستوجب النار- فإذا فرغ من عرض السيئات قيل له: اذهب.
فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: قد كانت لي ذنوباً لا أراها -سترها الله عليه في الدنيا وغفرها له في الآخرة- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر هذا الحديث ضحك حتى بدت نواجذه).
أخرجه مسلم].(55/9)
رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الشفاعة
قال: [وعن ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة.
قال: لأنها أعم وأكفى)].
فالشفاعة مضمونة؛ لأنها دعوة مستجابة قد خبأها النبي عليه الصلاة والسلام لأمته يوم القيامة.
[(أترونها للمؤمنين المتقين؟)]، يقول لهم: أنا خبأت دعوتي شفاعة لأمتي، ولما خيرت بين أن يدخل نصف الأمة الجنة والشفاعة اخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وسيدخل بها أكثر من نصف أهل الجنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا.
ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين)].(55/10)
رواية أبي موسى الأشعري في الشفاعة
قال: [عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة فإنها أعم وأكفى، أترونها للمتقين؟ لا ولكنها للمذنبين والخطائين والمتلوثين)].(55/11)
رواية عوف بن مالك في الشفاعة
الحديث كذلك جاء من رواية عوف بن مالك رضي الله عنه.
وفي رواية: أن عوف بن مالك سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعدما ذكر ما أعطاه الله من الشفاعة يوم القيامة: [قلت له: (ناشدتك الله يا رسول الله! لما سألت الله أن يجعلني من أهلها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عوف! إن شفاعتي يوم القيامة للكل)].(55/12)
رواية حذيفة بن اليمان في الشفاعة
[عن حذيفة بن اليمان قال: سمع رجلاً يقول: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد].
وقال حذيفة: [(إذا كان يوم القيامة جمع الناس في صعيد واحد، فيقال: يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك، والخير بين يديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، والمهدي من هديت، منك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحان رب البيت.
قال: عند ذلك يشفعني)].
أي: يشفعه بهذه الدعوات والمحامد التي يفتح عليه بها في ذلك الوقت.
قوله: (والشر ليس إليك).
أي: والشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل.(55/13)
حكم المكذب بالشفاعة
عن أيوب قال: [(من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها)].
وكذلك من قول أيوب بن أبي تميمة السختياني: [(من كذب الشفاعة فلا ينالها)].
أي: لا تصيبه، ولا يدخل تحتها.(55/14)
وجوب الإيمان بأحاديث الشفاعة وإمرارها كما جاءت
قال: [قال حنبل: قلت لـ أبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل -: ما يروى عن النبي عليه الصلاة والسلام في الشفاعة؟ قال أحمد بن حنبل: هذه أحاديث صحاح، نؤمن بها ونقر -لأنه إذا صح الحديث لابد من الإيمان به والعمل- قال: وكل ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام بأسانيد جيدة -يعني: حسنة- نؤمن بها ونقر -أي: ليس الشفاعة فحسب، بل كل ما ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام- قال حنبل: قلت له: وقوم يخرجون من النار؟ -يعني: حتى من دخل النار يخرج منها؟ - قال: نعم.
إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه -أي: ورددناه- رددنا على الله أمره، والله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
قلت: والشفاعة؟ قال: كم حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة والحوض -يريد أن يقول له: هذه أحاديث كثيرة ليست واردة في أسانيد جيدة فحسب، بل صحيحة قد بلغت حد التواتر والزيادة في الشفاعة والحوض- فهؤلاء يكذبون بها ويتكلون -أي: على رحمة الله عز وجل- وهي قول صنف من الخوارج، وإن الله تعالى لا يخرج أحداً من النار بعد إذ أدخله، والحمد لله الذي عدل عنا ما ابتلاهم به].
يعني: قول الخوارج: أن من دخل النار لا يخرج منها، أما قولنا نحن فإننا نقول: بأن من دخل النار من عصاة الموحدين لا محالة سيخرج منها، إما بتوحيده، وإما بإيمانه، وإما بشفاعة الملائكة، أو بشفاعة النبيين، أو بشفاعة المؤمنين أو بشفاعة الأطفال البرآء قبل البلوغ، وقبل أن يجري عليهم القلم ويبلغوا الحلم، فإذا انتهى هؤلاء من شفاعتهم لم يبق إلا شفاعة أرحم الراحمين، وهؤلاء الذين يسمون بعتقاء الرحمن أو بالجهنميين.
وشفاعة الله عز وجل تفضل على عباده الموحدين العصاة بأن يخرجهم من النار.
والشفاعة تستلزم مشفوعاً ومشفوعاً عنده ومشفوعاً فيه.
هذه أركان الشفاعة، فأما شفاعة الملائكة فالشافع هو الملك، والمشفوع عنده هو الله عز وجل، والمشفوع فيه هو المذنب.
أما شفاعة رب العالمين فهي من أفعال الله عز وجل، وليس لأفعال الله مثيل ولا شبيه، فهذا الذي تعودناه وعرفناه يقيناً من خلال توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله، فالله تعالى يشفع عند نفسه بأن يخرج من بقي من عباده الموحدين بشفاعته سبحانه وتعالى.
أي: يتمنن على عباده الموحدين بأنه يخرجهم من النار، فيقال: هؤلاء عتقاء الرحمن.
وقال علي بن المديني: [الإيمان والتصديق بالشفاعة وبأقوام يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً نقول به كما جاء الأثر والتصديق به والتسليم].(55/15)
سياق ما روي في أن المقام المحمود هو الشفاعة
قال: قال ابن عمر: [إن الناس يوم القيامة يصيرون جُثىً، كل أمة تتبع نبيها].
(جثىً) أي: يجثون على ركبهم، كل أمة تأتي إلى نبيها، فيخرون على أقدامهم وأيديهم، يجلسون كما يجلس الطفل الرضيع ويلهث خلف أمه، فهؤلاء يلهثون خلف أنبيائهم.
قال: [(يقولون: يا فلان! اشفع لنا حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود)].
إذاً: المقام المحمود: هو مقام الشفاعة، والحديث عند البخاري.
[عن كعب بن مالك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل -أي: على مكان مرتفع- ويكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن -أي: يؤذن لي- فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود)].
[عن حذيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي فيقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، تباركت وتعاليت.
قال: فهذا هو المقام المحمود)].
وقد ورد موقوفاً عن حذيفة: [يجمع الله الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر حفاة عراة سكوتاً كما خلقهم، لا تكلم نفس إلا بإذنه -أي: لا يشفع أحد إلا بإذن الله تعالى- قال: فينادى: يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والمهدي من هديت، عبدك بين يديك، ولك وإليك، لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت.
وذلك المقام المحمود الذي ذكر الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]].
و [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ({عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].
قال: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي)] والحديث ضعيف، لكن يشهد له ما قبله.
وعند البخاري وكذا مسلم من حديث عبد الله بن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(لا يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة من لحم)] لا يزال العبد يتسول ويسأل الناس في الشوارع والطرقات حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم.
أي: قطعة لحم.
وقال: [(إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن)].
وفي رواية: (قدر ميل).
قيل: هو ميل المسافة.
وقيل: هو المرود التي تكتحل به المرأة.
يسمى ميلاً.
قال: [(وإن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما كذلك -أي: بينما الناس كذلك- استغاثوا: يا نوح! فيقول: لست صاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم بمحمد عليه الصلاة والسلام فيشفع، يقفز بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً)].
وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص [: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم:36]، وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة:118]، فرفع يديه فقال: اللهم! أمتي، أمتي، أمتي وبكى عليه الصلاة والسلام، وقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك، فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال -وهو أعلم- فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)].
فمقام الشفاعة مقام عظيم جداً، وهذا الحديث [أخرجه مسلم].
وبعد أن عرفنا أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة، نتوقف عند الحوض؛ لأن الحوض فيه كلام كثير واختلاف لأهل العلم، فيفضل أن يكون له بإذن الله تعالى درس خاص.(55/16)
الأسئلة(55/17)
حكم صيام التسعة الأيام الأول من ذي الحجة
السؤال
هل صيام التسعة الأيام الأول من ذي الحجة سنة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
في الحقيقة هناك حديث في سنن أبي داود من طريق هنيدة بن خالد محل نزاع بين أهل العلم، والراجح أنه حديث ضعيف.
هذا الحديث يقضي باستحباب الصيام، لكن على أية حال لو صام المرء من باب مطلق الطاعة والعمل الصالح فلا ينكر عليه، وأفضل ألا يصوم التسع كلها، بل يصوم بعضها ويترك بعضها، ويترك صوم يوم السبت، وأفتى شيخنا الألباني عليه رحمة الله فيما يتعلق بحرمة يوم السبت إلا الفريضة وهو رمضان، وهذا المذهب خالف إجماع الأمة؛ لأن الحديث محمول على كراهة الإفراد كما أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن إفراد الجمعة، وأمرنا ألا نصومه إلا أن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده.
فأقول: لسنا مخيرين في رمضان أن نصوم الجمعة ونصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، ولم يرد في تخصيص هذه التسع بالصيام شيء صحيح، لكن إن صامها المرء من باب مطلق العمل الصالح فلا بأس، فالذي ورد في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر.
قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء) فإذا كنت تصوم من باب مطلق العمل الصالح في هذه الأيام فهو حسن، والذي أتحرج منه أن يداوم المرء على صيامها أو يصومها كلها، فلا بأس أن تصوم بعضها وتترك البعض الآخر، أو أن تصوم عاماً وتترك آخر؛ حتى لا يتصور الناظر أو من سمع هذا أن ذلك أمر مسنون على جهة الخصوص، ثم ليست الطاعة الوحيدة التي يتقرب بها المرء في هذه الأيام هي الصيام بل مطلق العمل الصالح، وتكثر من الذكر والاستغفار وقراءة القرآن وغير ذلك.(55/18)
كيفية صلاة الفجر لمن نام عنها
السؤال
شخص نام عن صلاة الفجر، فهل عندما يصليها ينوي صلاتها قضاء أم أداء، وهل يصلي لها سنة؟
الجواب
النية بالأداء والقضاء ليست مطلوبة منك، إنما أنت تصليها، فإذا كانت أداءً وقعت أداء، وإذا كانت قضاء وقعت قضاء، أما أنك تقول: نويت أصلي الصبح ركعتين خلف الإمام الفلاني جماعة في الساعة الفلانية في المسجد الفلاني يوم كذا قضاءً وأداءً على طهر مني مثلاً.
هذا كله ليس من السنة، بل هذا من البدع، والمطلوب قوله عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)، فذلك وقتها سواء كان أداء أو قضاء.(55/19)
منزلة الخوارج والمعتزلة في الدين واعتقادهم في عصاة الموحدين
السؤال
الخوارج والمعتزلة مسلمون، فما قولهم في كل هذه الأحاديث الصحيحة التي تثبت الشفاعة؟ وهل يفسرونها بطريقة أخرى؟
الجواب
هم في الحقيقة يفسرونها بطريقة أخرى، والآيات التي وردت في الخلود أو في الأبدية حملوها على عصاة المسلمين وليس هذا بصواب، أما قولك: الخوارج والمعتزلة مسلمون فهذا السؤال يحتاج إلى تفصيل طويل جداً، والراجح: أن غلاة الفرق كفار، بخلاف عامة الفرق جميعاً.(55/20)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار)
السؤال
قال عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).
هل معنى هذا الحديث: أنه إذا باع البائع سلعة ما فإن المشتري لا يردها، وإذا ردها المشتري ولم يأخذها البائع هل في ذلك شيء، نريد تبيين ذلك الحديث والمقصود منه؟
الجواب
قول عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا).
والحديث في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وغيره، وهذا الكلام يجرنا إلى عدة خيارات عند الفقهاء، فهناك شيء يسمى: خيار المجلس، وخيار المجلس هو أني دخلت عليك في متجرك، فاشتريت منك سلعة ما، وأعطيتك ثمنها، ولا زلت أصوب بصري إلى بقية أنواع السلع، ثم قبل أن أغادر المكان - أي: المتجر- رجعت عن هذه البيعة، فليس من حق البائع أن يمتنع عن أخذ هذه السلعة ورد الثمن إليه مرة أخرى؛ وذلك لتمام الحديث: (فإذا تفرقا فقد وجب البيع).
وجب بمعنى: تم.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -وأنتم تعلمون أنه من أفقه الصحابة- إذا اشترى شيئاً انصرف بعيداً ثم رجع، وانصرافه هذا لإتمام البيع، فإذا أراد البائع أن يرجع في بيعه اعتذر عبد الله بن عمر.
وهناك خيار الشرط: كأن أكون اشتريت منك كتاباً، وأنا رجل ليس لي خبرة في الكتب، ولا أعرف أن هذا الكتاب جيد أم لا، وهل هو كتاب سليم من جهة المعتقد أم غير سليم، فاشترطت أن آخذ هذا الكتاب وأعرضه على أهل الخبرة وفي خلال ثلاثة أيام أعطيك الخبر، فأنا سأحتفظ بهذا الكتاب، وإذا لم أرد الكتاب بعد ثلاثة أيام أعتبر البيع قد تم، ولو خرجت بالكتاب ووقفت بالشارع أنتظر سيارة مواصلات فإن البيع لم يتم، ولا يتم البيع إلا بتمام الشرط.
هذا اسمه خيار الشرط.
واختلفوا في الشرط، والراجح: أن ذلك راجع إلى البائع والمشتري حسبما اتفقا.
وهناك خيار العيب.
والعيب نوعان: عيب ظاهر، وعيب خفي، فلو أن واحداً ذهب يشتري طماطم من السوق، وهذه الطماطم يراها أمامه رديئة لا تخفى على أحد، لكنه ذهب بها إلى البيت، فطلبت منه زوجته إرجاعها، فعاد بها إلى السوق، ففي هذه الحالة ليس واجباً على البائع أن يرد البيعة؛ وذلك لأنه كان يرى العيب، وعيبها ظاهر للناس.
مثال آخر: شخص ذهب ليشتري سيارة منمقة وجميلة، فيها عيب خفي، وهذا العيب ربما يخفى في أول وهلة على أصحاب الفن، فاشتراها هذا الشخص، وبعد أن بدأ باستخدامها حصل لها أعطال داخلية، ولا يعرف الأعطال الداخلية إلا صاحب الميزان الذي يكشف بالكمبيوتر فيعرف عطلها الداخلي، فالبائع سكت وهذا اشترى، ولم يظهر البائع عيبها الخفي فمن حق المشتري بعد ما ركب السيارة ستة شهور أن يرجعها؛ لأن فيها عيباً يخفى على المشتري، ولو أنه عرف العيب لكن لم يذهب لمراجعة البائع واستمرت معه السيارة شهرين فليس من حقه أن يرجعها.
والعلماء حددوا ثلاثة أيام للرجوع؛ قياساً على حديث المصراة.
والمصراة: بقرة أو جاموس أو شاة أو أنثى الجمل، يجوعها صاحبها عدة أيام ويعطشها، وفي اليوم الذي يريد أن يبيعها فيه يطعمها، فيكون ضرع البقرة كبيراً، وبطنها منتفخ جداً، فالذي سيشتري هذه البقرة لابد أنه سيقع في نوع عظيم من أنواع الغرر، حيث يظن أنها سمينة بانتفاخ بطنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من اشترى مصراة فليمسكها ثلاثاً فإن رضي وإلا ردها ومعها صاع من تمر).
يعني: يجعلها عنده ثلاثة أيام ويحلبها، وينتفع بلبنها ويطعمها، فإن رضيها ولم يسخطها كانت له، وإن كرهها ردها ومعها صاع من تمر مقابل اللبن الذي أخذه.
فالعلماء قالوا: إن خيار العيب بعد معرفة العيب قياساً على المصراة تكون ثلاثة أيام، فلو رضي المشتري بهذا العيب، ومر على ذلك ثلاثة أيام فليس من حقه إرجاع الشيء المعيب.(55/21)
وجوب ستر المذنب على نفسه مع التوبة إلى الله
السؤال
شخص يريد أن يخبر عن نفسه أنه أذنب ذنوباً عظيمة، ويريد أن يتوب إلى الله عز وجل؟
الجواب
باب التوبة مفتوح، أما كونك تريد مقابلتي فنصيحتي لك أن تستر على نفسك وتتوب إلى الله عز وجل.(55/22)
حكم صلاة السنة القبلية للظهر أربعاً مجتمعة
السؤال
هل صلاة السنة القبلية في الظهر تصلى أربعاً مجتمعة؟
الجواب
هذا أو ذاك، تصلى اثنتين اثنتين أو تصلي أربعاً، ولا بأس في ذلك، والتشهد الأوسط يكون كاملاً إلى قوله: إنك حميد مجيد.(55/23)
حكم الإفرازات الخارجة من قبل المرأة
السؤال
هل الإفرازات التي تنزل من المرأة بصورة مستمرة توجب الوضوء لكل صلاة، أم أن هذا مستحب؟
الجواب
لا توجب الوضوء لكل صلاة.(55/24)
حكم صلاة التسبيح
السؤال
هل صلاة التسبيح سنة وما صحة حديث العباس الوارد فيها؟
الجواب
صلاة التسبيح سنة، والذي أعتقده أن هذا الحديث حديث حسن.(55/25)
حكم ذبح المعز مكان الخروف في الأضحية
السؤال
هل يجوز في العقيقة والأضحية ذبح المعز مكان الخروف؟
الجواب
نعم؛ لأن لفظ الشاة يطلق على المعز ويطلق على البقر كذلك.(55/26)
معنى (شرع من قبلنا هو شرع لنا)
السؤال
ما معنى (شرع من قبلنا هو شرع لنا)، وقد نال شرع من قبلنا التبديل والتحريف؟
الجواب
يقصد به الذي لم يبدل ولم يحرف، أو الذي يوافق في شرعهم ما عندنا، فهذا دليل على أنه غير محرف.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(55/27)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - الإيمان بعذاب القبر ونعيمه
عذاب القبر ونعيمه حق، وإثباته أصل أصيل في معتقد أهل السنة والجماعة، كما أنه معتقد أكثر أهل الإسلام حتى من المبتدعة، ولم ينكره غير الخوارج والمعتزلة، والإيمان بعذاب القبر ونعيمه يلزم منه الإيمان بأن العذاب شامل للروح والجسد، وكذلك النعيم، وسواء كان الجسد في بطون السباع أو أعماق البحر فإنه يلحقه ما قدر عليه من عذاب وما كتب له من نعيم.(56/1)
سياق ما روي في أن المسلمين إذا دلوا في القبر سألهم منكر ونكير وأن عذاب القبر حق
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم -أي: إذا أنزلوا في المقابر- يسألهم منكر ونكير، وأن عذاب القبر حق، والإيمان به واجب].
قوله: (سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم).
معنى ذلك: أنه يتناول عذاب القبر فيما ثبت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بسنده.
قوله: (في أن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير).
في الحقيقة أن منكراً ونكيراً إنما يسألان كل من أدخل القبر سواء كان مسلماً أو كافراً، وكأن المصنف رحمه الله قاس هنا قياساً أولوياً مع وجود النص أن المسلم إذا نزل في قبره يسأل سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية، فإذا كان قد تقرر في الأذهان أنه سيسأل في قبره عن عمله وعن إيمانه بالله وبالرسول وبالشريعة وغيرها، فمن باب أولى أن يسأل الكافر.
قوله: (وأن عذاب القبر حق، وأن الإيمان به واجب).
يعني: عذاب القبر حق بل هو أصل أصيل من معتقد أهل السنة والجماعة، ونقول: من معتقد أهل السنة والجماعة؛ لأن الخوارج والمعتزلة نازعوا في ذلك، كما قال أبو الحسن الأشعري: اختلفوا في عذاب القبر، فمنهم من نفاه وهم المعتزلة والخوارج.
أي: قالوا: ليس هناك شيء اسمه عذاب القبر.
ومنهم من أثبته، وهم أكثر أهل الإسلام.
أي: أهل السنة قاطبة يثبتون عذاب القبر، وبعض أهل البدع أثبت عذاب القبر، ومنهم من زعم أن عذاب القبر وإن كان حقاً إلا أنه ينزل على الروح دون البدن، كما قالت طائفة: إن المعراج إلى السماوات السبع كان بالروح دون الجسد، وهذا كلام في غاية البطلان والسقوط سواء من جهة النص الشرعي أو من جهة النص اللغوي، فالآيات والأحاديث التي وردت والوقائع والأحداث التي تمت في أثناء رحلته عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس ومنها إلى السماء السابعة ثم العودة، كل هذه لا يمكن أبداً أن تدل على أن المعراج كان رؤية منامية، أو كان بالروح فقط دون الجسد، فكما اختلفوا في هذه المسألة كذلك اختلفوا في عذاب القبر.
أما أهل السنة والجماعة فعلى مذهب واحد دون خلاف فيه: أن عذاب القبر حق، وأن الإيمان به واجب، وأن عذاب القبر إنما يكون على الروح والجسد.
وظن هؤلاء الذين يقولون بأن العذاب إنما هو على الروح فقط دون الجسد بما عندهم من شبه أنهم قادرون على أن يردوا على أهل السنة والجماعة قولهم، فقالوا: إذا كان العذاب يلحق الجسد فما بال المرء لو أنه غرق في بحر فأكله السمك؟ أو أن سيارة دهسته فمسح بالأرض تماماً وانتهت آثار بدنه؟ وما بالكم بمن يموت حرقاً؟ فكيف تقولون: إن العذاب يقع على جسده مع أن السمك أكله ومع أن النار أحرقته؟
الجواب
إن الله على كل شيء قدير، هذا لمن آمن بالله عز وجل؛ فالله تعالى قادر على أن يجري العذاب على البدن حتى وإن لم يوجد البدن.
والسبب في هذا الانحراف العقدي الذي جعل الخوارج والمعتزلة ينكرون عذاب القبر سواء الذين أنكروه منهم على الروح أو البدن، أو من قال بإثبات عذاب القبر على الروح فقط، فسبب هذا الانحراف أنهم حكموا عقولهم في الأمور الغيبية؛ لأن ما بعد حياة الإنسان غيب، كما أن ما قبل حياة الإنسان غيب، فحياة الجنين في بطن أمه لها قوانين تحكمها حيث لا طعام ولا شراب ولا نفس ولا هواء ولا غذاء ولا شيء من هذا، إلا ما قدره الله عز وجل والذي لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، فإذا كان القانون الذي يحكم حياة الجنين غيباً عن المرحلة التي تأتي بعد ذلك -أي: بعد الولادة- فكذلك الحياة التي تكون بعد الموت غيب، وتحكيم العقل في الغيب لابد أن يذهب بصاحبه إلى التيه والحيرة والضلال؛ لأن الإنسان لا يعرف من علمه ومن حياته إلا ما يعلمه من نفسه وممن يعيش معه على هذا الكون، ولا يمكن قياس الأمور الغيبية على الأمور المشاهدة، وإذا كان الله عز وجل إنما جعل الأمر أمران: غيب وشهادة؛ فالله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، فإنما سمى الغيب غيباً لأنه غيب عنا، أما الله عز وجل فهو عالم الغيب والشهادة، فإذا أخبر الله تعالى أنه يعذب بعد الموت في القبر وقبل الحساب وقبل البعث آمنا بذلك وسلمنا، ولو أن الله تعالى أخبرنا أنه يعذب الجنين في بطن أمه لصدقنا وآمنا؛ لأننا لا نعلم عن هذا الغيب شيء، فيجب أن نسلم وأن نؤمن بهذه النصوص ولا نرد شيئاً من ذلك.
قال شارح الطحاوية: قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه لا عهد(56/2)
حديث البراء في معنى قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا)
قال: [عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27])].
فثبات المرء حين يسأله الملكان في القبر عن شهادته بالله: أن الله إله واحد، وأن محمداً هو رسول الله.
وهذا أول سؤال يوجه للمرء في قبره أأنت مسلم أم لا؟ فإذا كان جوابه مصيباً وموافقاً للسؤال فهذا هو التثبيت الذي قص الله تعالى علينا في كتابه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27]، وهذا يعني أن الكفار لا يثبتون عند السؤال.
وهذا كذلك يشير إلى أن عذاب القبر وسؤال القبر يوجه للمسلم والكافر، وكل ما في الأمر: أن السؤال إذا وجه للمؤمن ثبته الله تعالى بالجواب الثابت حين توجيه السؤال إليه، وأن الكافر لا يثبت حين يوجه السؤال إليه، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] أي: بشهادة التوحيد والإقرار بها.
وهذا الحديث في الصحيحين.(56/3)
حديث عثمان: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل)
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: [(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه)] أي: وقف على القبر.
وفي هذا إشارة إلى استحباب الجلوس عند القبر، وقد وردت نصوص كثيرة جداً بأن من شيع جنازة جلس عندها قدر ما ينحر جزوراً ويوزع لحمه حتى لا ينصرف الناس بسرعة، وإنما هذا الوقت حق لهذا المقبور على من شيعه؛ أن يقفوا عنده مدة من الزمان تقرب ساعة يدعون له بالتثبيت، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ادعوا الله لأخيكم الآن فإنه الآن يسأل).
[(كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه -أي: وقف إليه.
أي: بقبالة قبره- وقال: استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل).
فقوله: (استغفروا لأخيكم) يعني: قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تجاوز عنه وغير ذلك مما يفتح الله عز وجل به على الواقف عليه.
قوله: (ثم سلوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل).
أي: بمجرد مواراته وإهالة التراب عليه يبدأ الملكان يسألانه.
نسأل الله السلامة لنا ولكم! أما الموعظة على القبر فإنها أمر مشروع، فقد وعظ النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على القبر وقال: (لمثل هذا فليعمل) يعني: فليعمل العاملون، من أراد أن يعمل وأن يستعد فلابد أن يستعد لمثل هذا اليوم فإنه لابد وارد، وهو آت إلى هذا المكان، وربما ذهبت تشيع ميتاً فلا ترجع بل تدفن بجواره في مقبرة واحدة، فالموت ليس منك ببعيد؛ سواء كنت شاباً أو هرماً أو عجوزاً أو حتى طفلاً رضيعاً فالموت يلحق الجميع ولا سن له، فليس هناك وعد بأن لا يموت المرء إلا في شيخوخته أو في كبره.(56/4)
حديث ابن عمر: (إن أحدكم يعرض على مقعده بالغداة والعشي)
قال: [عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يعرض على مقعده بالغداة والعشي -يعني: في الصباح وفي المساء- إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار يقال له: هذا مكانك إلى يوم القيامة)] وهذا الحديث مراده: أن الميت إنما يعرض في قبره على مقعده من الجنة ومقعده من النار، فإذا كان من أهل الجنة فتح له باب في قبره ينظر إلى مقعده في الجنة، أي: بعد مبعثه وحسابه وجزائه فإنه يدخل هذا المكان الذي يتنعم به في قبره.
وهذا الحديث فيه: إثبات العذاب والنعيم للمقبور، والله تعالى علم أن هذا العبد من أهل الجنة فقد أعد له مكاناً في الجنة، فيفتح له في كل يوم صباحاً ومساءً، وصاحب القبر لا يعرف الصباح والمساء، إنما الذي يعرفه هو الله عز وجل، (فيفتح له في كل غداة وعشي) أي: في كل صباح ومساء، باباً وهو في مقبرته ينظر منه إذا كان من أهل الجنة إلى مكانه في الجنة، وإذا كان من أهل النار ينظر وهو في قبره إلى النار، (ويقال: هذا مقعدك إلى قيام الساعة).
أي: هذا مقعدك إلى يوم القيامة.(56/5)
حديث ابن عمر: (ما من عبد يموت إلا وعرضت عليه روحه)
[عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يموت إلا وعرضت روحه، إن كان من أهل الجنة على الجنة، وإن كان من أهل النار على النار)] وهو بمعنى الحديث السابق.(56/6)
حديث ابن عباس: (ما من ميت يموت حتى يعرض عليه أهل مجلسه)
[عن مجاهد -تلميذ ابن عباس - قال: ما من ميت يموت حتى يعرض عليه أهل مجلسه -أي: أخلاؤه وأحبابه وأصحابه وغير ذلك- إن كانوا من أهل لهو فأهل لهو، وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر].
يعني: المرء يعذب بأصحابه، لكن هذا الخبر غير صحيح عن مجاهد، وإن صح ففي النفس منه شيء، على اعتبار أن مجاهداً إنما أخبر بشيء من أمور الغيب، وهل يعذب المرء بصحبته في قبره؟ أمر يحتاج إلى نص مرفوع لا إلى نص موقوف أو مقطوع كمثل نص مجاهد.(56/7)
حديث أبي أيوب: (هذه يهود يعذبون في قبورهم)
[عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوات يهود حين غربت الشمس، قال: هذه يهود يعذبون في قبورهم)] واليهود كفار كما أن النصارى كفار، فهذا الحديث أثبت أن عذاب القبر على غير المسلمين، وهذا ما يمكن أن يضاف إلى تصنيف هذا الباب في قوله: وأن المسلمين إذا دلوا في حفرتهم يسألهم منكر ونكير، بل كذلك يسألهم منكر ونكير إذا كانوا غير مسلمين.(56/8)
شرح حديث زيد: (إن هذه الآمة لتبتلى في قبورها)
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: [(بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له -الحائط هو البستان أو المزرعة أو الجنينة- فحادت به فكادت تقلبه)] حادت أي: ماجت به وأسرعت تعدو هنا وهناك بغير هدف كأنها نفرت نفرة عظيمة جداً كادت أن تقلب النبي صلى الله عليه وسلم من على ظهرها.
[(وإذا قبر ستة أو خمسة أو أربعة -يعني: كان في هذا البستان أو في هذا الحائط قبر فيه أربعة أو خمسة أو ستة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذه الأمة -أي: الأمة الإسلامية- لتبتلى في قبورها -والابتلاء هو الاختبار والامتحان.
يعني: هذه الأمة تبتلى وتختبر في قبرها- فلولا ألا تدافنوا دعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)].
يعني: يريد أن يقول: هذه القبور التي تنظرون إليها ملئت نعيماً وعذاباً، أما من تنعم فيها فإنه لا يصيح أو يبكي أو غير ذلك، وأما من يعذب فشأنه أن يصيح وأن يبكي وأن يندم ويتحسر على ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام يسمع هذه الأصوات بدليل: أنه سمع أصوات اليهود وهم يعذبون في قبورهم.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر في الصحيحين: (لما مر على قبرين قال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) وسيأتي الحديث معنا بإذن الله.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أعطاه الله تعالى من القدرة والثبات ما يمكن أن يسمع به العذاب في القبر، والنبي أخبر أن الخلق لا يقدرون على سماع هذا العذاب، ولو أنهم سمعوا العذاب لا يتدافنون قط، لو أن واحداً منهم مات ألقوه على المزابل لا يدفنونه، فلما كان الدفن حق واجب على الأحياء -وهو فرض كفاية وكذلك الصلاة على الميت وغير ذلك من أعمال الميت -حجب الله عز وجل عنهم عذاب المعذبين؛ لأنك لو دخلت قبراً أو مقبرة فسمعت العذاب والبكاء والصياح والعويل والصراخ فلا يمكن قط أن تذهب إلى المقابر ولو أن أباك هو الذي مات أو أمك أو ولدك؛ لأن الهول شديد والعذاب أليم، ولا يمكن للمرء أن يتحمل سماع هذا العذاب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [(فلولا ألا تدافنوا دعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمعه منه)] يعني: لولا مخافة النبي عليه الصلاة والسلام أننا نهمل في دفن الأموات مخافة أن نسمع أصوات المعذبين لدعا الله تعالى أن يسمعنا أصوات المعذبين.
[ثم قال: (تعوذوا بالله من عذاب القبر.
قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر.
قال: تعوذوا بالله من الفتن.
قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال: تعوذوا بالله من الدجال.
قلنا: نعوذ بالله من الدجال) أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة].
فحينئذ يجب على المرء أن يتعوذ بالله من كل شر خاصة عذاب القبر والفتن ما ظهر منها وما بطن، والمسيح الدجال، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ من هذه في دبر كل صلاة قبل أن يسلم، فإذا فرغ من التشهد قال: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) أو قال: (ومن شر فتنة المسيح الدجال).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا حذر أمته الدجال)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وما بين يدي الساعة فتنة شر من فتنة الدجال)، والدجال تكلمنا عنه مراراً.(56/9)
حديث أنس: (لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)
[عن أنس رضي الله عنه قال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتاً من قبر من حيطان بني النجار -أي: من بساتين بني النجار- فسأل عنه، فقيل له: دفن في الجاهلية، فأعجبه)].
لما سمع صوتاً يخرج من قبر في بعض حوائط بني النجار سأل عن المقبور من هو؟ قالوا: يا رسول الله! هذا دفن في الجاهلية، فأعجبه وإعجاب النبي بذلك أن المعذب لم يكن من أمته، بل كان من أهل الجاهلية الذين يستحقون كل عذاب.
وهذا يدل على مزيد شفقته على أمته عليه الصلاة والسلام.
ثم قال: [(لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)].(56/10)
حديث أنس في سماع الميت خفق النعال وسؤال منكر ونكير له
[عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه -يعني: ذهبوا عنه- حتى إنه ليسمع خفق نعالهم)] يعني: أصوات نعالهم وهم يمشون، فالميت في هذه اللحظة يسمع حركات وكلام الأحياء حتى يسمع خفق النعال الذي بمثابة الهمس، فإن الميت حينئذ يسمع، ولذلك لما وضعت الحرب في غزوة بدر أوزارها ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى قليب بدر -أي: الحفرة التي وضع فيها المشركون وهم قتلى- فوقف على رءوسهم وقال: (يا أهل القليب -وفي رواية- يا أهل بدر) أي: يا من قتلتم في بدر من صناديد الشرك والكفر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فقام إليه عمر وقال: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد ماتوا؟ فقال: والله ما أنتم بأسمع لما أقوله منهم)، يعني: هم يسمعونني كما أنكم تسمعونني تماماً بتمام وسواء بسواء.
والجمع بين حديث: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع خفق نعالهم) والحديث الآخر: (رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يلبس نعلين سبتيتين ويمشي بين القبور، فقال عليه الصلاة والسلام: يا صاحب السبتيتين ألق عنك سبتيتيك) قال العلماء: السنة ألا يدخل المسلم المقابر وهو منتعل.
وبعضهم قال: بل هذا خاص بصاحب النعلين.
ومنهم من قال: بل هذا خاص بالنعال السبتية دون غيرها.
والصواب: أن المرء يستحب له أن يدخل المقابر وهو حاف غير منتعل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (ألق عنك سبتيتيك).
وألق فعل أمر، والأمر للوجوب، لكننا لا نقول: إن الأمر هنا للوجوب، وإنما هو للاستحباب؛ لأن الحديث الثاني قال: (وإن الميت ليسمع خفق نعالهم) والمعلوم أن هذا كان في المقابر.
فنقول: هذا الحديث الذي جوز المشي بين المقابر بالنعال ينسخ الوجوب الوارد في قوله: (ألق عنك سبتيتيك)، والمعلوم أن نفي الوجوب لا ينفي الاستحباب.
هذه قاعدة أصولية، فإذا نفينا الوجوب في قوله: (ألق عنك سبتيتيك) يبقى استحباب ألا ينتعل الذي يمر بين المقابر.
قال: [(أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له)].
أول شيء يصنعونه: أنهما يقعدانه، مع أننا ندفن الميت ونهيل عليه التراب حتى نقول: ليس هناك مكان يجلس فيه؛ لأن التراب يحيط به من كل مكان، خاصة لو أننا التزمنا السنة في الدفن، قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا).
واللحد هو أن تشق شقاً في الأرض رأسياً ثم تشق جانبه الأيمن باتجاه القبلة شقاً يسيراً بحيث يسمح بأن ينام الميت على جنبه الأيمن متوجهاً إلى القبلة، ولا يلزم من ذلك أن يكون هذا الشق الثاني أو هذا اللحد عالياً بحيث يتمكن الملكان من إجلاس هذا الميت؛ لأننا نعتقد أن الله تبارك وتعالى إنما يهيئ لهذين الملكين مكاناً عظيماً جداً يجلسان فيه الميت، هذا أمر لا يعجز الله تعالى، ولذلك -يا إخواني- النصوص الشرعية ينبغي أن نتعامل معها بقلوب مؤمنة.
شخص يقول مثلاً: إذا كانت السنة أثبتت أن الأرض بالليل تطوى، وقال عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) فالذي يخاف على نفسه إنما يبدأ السير من أول الليل.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن الأرض تطوى) فكيف تطوى مع أن المسافة من القاهرة إلى المنصورة مائة وعشرين كيلو متر، هل ستصير مائة كيلو مثلاً؟ أو ثمانين؟ فالله أعلم، يمكن تكون أقل من ذلك، يمكن يكون الطي في البركة.
أنت الآن إذا نظرت إلى يومك هذا ويوم ابن تيمية أو الذهبي أو ابن حجر أو غيرهم من أهل العلم هو نفس اليوم، فالشمس تشرق في الصباح وتغرب في المساء، يدخل الليل فإذا انتهى الليل بدأ النهار وهكذا، لكن هل يومك كيوم ابن حجر أو ابن تيمية؟
الجواب
أن يومك ليس كيومهما أبداً ولا يمكن، وهذه مسألة ينبغي أن تقرر.
إذا نظرت إلى تراث ابن تيمية أو الحافظ ابن حجر تجده مذهلاً جداً، ومن حكم عقله لا يكاد يصدق أن هؤلاء الناس مع صغر سنهم قد ألفوا هذه المؤلفات الكثيرة، فالإمام الشافعي مات عن أربع وخمسين سنة، وعلمه أطبق الأرض شرقاً وغرباً، فمتى تعلم ثم متى صنف ومتى انتشر علمه؟ أمر عجيب جداً.
نحن الآن نبلغ من العمر خمسين سنة ولا نعرف ماذا كتب الشافعي فضلاً أن نكون قد تعلمنا علمه وصنفنا فوق علمه علماً آخر.
فإذا أخبر الله تعالى أو أخبر رسوله بأمر يتعلق بالغيب فإنه لا مجال للعقل فيه ألبتة، ويجب على العقل أن يقول: سلمنا وآمنا، سمعنا وأطعنا أما غير ذلك فلابد أن يئول أمره إلى الحيرة والتيه والضلال.
قال: [(أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له)] أول شيء: يرد إليه الروح التي نزعت منه وقت الغرغرة، فإنها ترد إليه مرة أخرى.
ثم يقعد فيقولان له: [(ما كنت تقول(56/11)
حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)
قال: [عن ابن عباس قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان -واللام هنا للتوكيد وليست للنفي- ما يعذبان في كبير) يعني: المسائل التي يعذب بسببها أصحاب هذه القبور ليس أمراً عسيراً ولا شاقاً، كان بإمكانهما أن يتحرزا منها وأن يجتنبا سبب هذا العذاب.
[(أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول) وفي رواية: (كان لا يستتر من البول).
أما قوله: (لا يستنزه من البول) أي: يتبول ولا يتطهر ثم ينطلق.
وآلاف من الناس تتنجس ملابسهم وأبدانهم بالبول، فكم من شخص يبول ثم ينصرف، وأعجب من ذلك -والله- أني رأيت منذ شهرين تقريباً أن واحداً بال واقفاً -وكنت في زيارة للإسكندرية- والبول قائماً مخالفة، ثم لم يستنج من بوله، وإنما مسح ذكره بكفه اليمنى -وهذه مخالفة أخرى- ثم مسح كفيه مع بعضهما البعض وأجراهما على وجهه.
فلم أدر من أين أبدأ معه.
ولابد أن تعلم أن الشرع لم يترك لأحد قط أن يتصرف في نفسه أدنى تصرف دون هداية وإرشاد حتى في البول كما في قول اليهود: (لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة).
أي علمنا كل شيء حتى علمنا إذا دخل الواحد منا الحمام ماذا يصنع وكيف يتطهر وبأي شيء يتطهر، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وبين لنا فيها أحسن بيان، فأي دين أعظم من هذا الدين؟ وأي رسول أعظم من هذا الرسول؟ لا أحد ولا شيء قط، فهذا دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده.
وبعض الناس يقول لك: يا أخي! أنا رجل مثلي مثل هذا، فلم أستر نفسي عنه؟ ولعلكم تذكرون أني قلت لكم مرة أني كنت في المدينة المنورة، فرآني أحد الناس في المسجد فألح علي أن أفطر عنده فذهبت تلبية للدعوة، فلما ذهبت لأغسل يدي وجدت أن الحوض خارج الحمام في الصالة، وقد سبقني إلى الحمام والحمام مفتوح على مصراعيه وهو جالس فيه يقضي حاجته، فلما وقع نظري على عورته قلت: أعوذ بالله، ما هذا يا أخي؟ وغضبت غضباً شديداً جداً، فخرج من الحمام وهو غضبان.
قال: ولم نغضب؟ قلت له: غضبان! وهل أنت محتاج أن أقول أنك مخطئ أو ماذا؟ فقال لي: هذا ليس خطأ.
قلت: بل إنك مخطئ.
فقال: ألست أنت رجل؟ قلت: أنا رجل ونصف.
قال: وأنا كذلك رجل فلم تضغب؟ فذهبت إلى الذي سينصرني فقلت له: انظر يا حاج فلان أو يا دكتور فلان، أرأيت فلاناً ماذا قال؟ وهو جالس ينظر إلي باستغراب ويقول: ومم تغضب؟! قلت له: سبحان الله! أهذه المسألة إجماع وأنا المخالف فيها أم ماذا؟! قلت: أهذا صحيح؟ قال: يا أخي! المعذرة وهل بيننا امرأة؟ قلت له: نعم هو امرأة، إنما أنا لا، ألم يكن من المفترض عليها أنها لا تكشف عورتها بهذا الشكل؟ فغضب مني جداً، كيف أنني أقول على الدكتور في الجامعة أنه امرأة! تصور إلى هذا الحد! فانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله) يعني: عند أن يأتي للبول يبول أمام الماشي والآتي.
قال: [(وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)] والمعلوم أن النميمة إنما هي النم والنقل على وجه الإفساد، وهي من الكبائر، فمن علامات الكبائر الوعيد الشديد؛ لأن الناس يتصورون أن الكبيرة معناها أنه لابد أن يقام عليها الحد، وهذا ليس بلازم، كما أن بعض الناس أن علامات الساعة كطلوع الشمس من مغربها من الأمور المحرمة، وهذه أمور كونية ليس لها علاقة بهذا، بل هذه علامات وأمارات للساعة لا يلزم أن تكون حراماً.
فهنا قال: (وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، يأتي ويقول لك: إن فلاناً قال عليك كذا، ويذهب إلى فلان ويقول: إن فلاناً قال عليك كذا، فتقع الشحناء والبغضاء بين المسلمين، ولا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الكبائر.
قال: [(ثم أخرج جريدة فشقها بنصفين فغرز في كل قبر واحدة.
فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)].
السؤال الذي أريد أن أطرحه: لو أن شخصاً وضع جريدة الآن أمام القبر أيخفف عن صاحب القبر من عذاب القبر؟
الجواب
لا.
لأنه ابتداء لا يدري أهو يعذب أم لا يعذب؟ ولكن الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه علم أن هذان يعذبان، بل علم سبب التعذيب، ثم أطلعه الله تعالى على بعض النجاة لمدة محدودة وهو إشفاق على أصحاب القبور أنه أخذ جريدة وشقها نصفين ثم وضع كل نصف في قبر وهي خضراء.
قال: (لعله أن يخفف عنهما -أي: من عذاب القبر بهذا السبب- ما لم ييبسا) أي: ما لم تيبس هاتان الجريدتان.
فهل لأحد الناس أن يضع جريدة نخل رطبة على القبر؟ لا.
ولكن للأسف نحن نراه اليوم على القبور، فعند أن تدخل القبور تجدها بساتين وعمارات وقصور وفلل! وهذا بلاء عظيم جداً.(56/12)
حديث عائشة في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم للعجوز اليهودية في إثبات عذاب القبر
[عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة)] يعني: امرأة يهودية كبيرة في السن دخلت على عائشة في المدينة.
[فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم)] هذا قول العجوز اليهودية، والعجيب أن اليهودية معتقدها في عذاب القبر أحسن من معتقد الخوارج والمعتزلة! فعقائد المعتزلة والخوارج أفسد من عقائد اليهود في هذا الباب [فقالت عائشة: كذبت، ولم أنعم أن أصدقها)] p=1000043> عائشة تقول لها: أنتِ كذابة، الذي يموت لا يعذب، ولكن عائشة كان عمرها صغيراً، فكان عمرها: تسع سنين، أو عشر سنين، أما بعد ذلك فهي من كبار المحدثات ومن المكثرات في الرواية، وعاشت حتى احتاجت الأمة إلى علمها وفقهها.
[قالت: (فخرجت -أي: خرجت هذه اليهودية من عندها- فلما خرجت دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عائشة، فقالت له: يا رسول الله إن عجوزاً من عجائز اليهود دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم؟ فقال: صدقت)].
فلم يقل لها: هذه يهودية بنت كلب، إياك أن تصدقيها! فلم يقل لها ذلك، انظر إلى الحق! وأعظم من هذه اليهودية: الشيطان، فإنه أعظم منها ضلالاً وشيطنة، قال عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (صدقك وهو كذوب) أرأيت إلى العدل! وقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75]، مع أنهم الكفار، لكن منهم الأمناء، ولا يصح أن يلف الكافر بخرقة ويلقى ولا ينتفع به، بل ينتفع به فيما يمكن الانتفاع به.
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75]، أي: إذا كنت واقفاً على رأسه: هات الدينار الذي عندك، وترفعه إلى المحاكم، ومن أهل الكتاب من لو وضعت عنده قنطار ذهب يؤده إليك.
والنبي عليه الصلاة والسلام صدَّق هذه اليهودية، وعائشة معذورة في تكذيبها لها، لأنها طفلة صغيرة في ذاك الوقت.
قالت: [(فقال لي: صدقت.
إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم كلها.
قالت: فما رأيته في صلاة قط إلا يتعوذ من عذاب القبر)].
يقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر) والحديث في الصحيحين.(56/13)
حديث عائشة في تعوذه صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر
[عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في دعائه، فيقول: اللهم أعوذ بك من فتنة النار، ومن فتنة القبر، ومن عذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى والفقر، ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم -الهرم: كبر السن- والمأثم)] والمأثم أي: الإثم.
والحديث كذلك في الصحيحين.(56/14)
حديث: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة)
[عن البراء بن عازب قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار -يعني: مسلم وهو من الأنصار- فانتهينا إلى القبر ولم يلحد له -يعني: ذهبنا به إلى المقبرة، ولم يوضع هذا الأنصاري في قبره بعد- فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير)] يعني: تشبيه بالحجارة أو بالشيء الثابت الذي لا يتحرك حتى ظن الطير أنهم ليسوا بشراً! أما اليوم تنظر وتجد الناس يمشون في الجنازة يغمز بعضهم البعض، ويضحكون مع بعض، ويحكون حكايات وروايات وقصصاً، ومنهم الذي يبكي من الضحك جبراً لخاطر أهل الميت فهذه مناظر مخزية كلها، لا يفكر صاحبها أنه يمكن أن يكون في آخر النهار في هذا النعش.
وسئل بعض الناس ممن يمشي مع الجنازة: هل الذي يمشي أمام الجنازة أفضل أم الذي يمشي وراءها؟ قال: يمشي وراءها أو يمشي أمامها لا مشكلة، المهم ألا يكون في النعش! ويمشي وهو يضحك وكأن الأمر يستحق الضحك! [(فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، في يده عود ينكت به في الأرض)]، وهذا تصرف الإنسان الذي امتلأ فكراً وعبرة، الذي يفكر في أمر عظيم وخطير [(فرفع رأسه عليه الصلاة والسلام فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً.
ثم قال: إن العبد المؤمن)] هو يعقد مقارنة بين مصير المؤمنين ومصير الكافرين، وماذا يقدم كل منهما؟ وكيف يقدم العبد على ربه؟ فبدأ بالمؤمن.
قال: [(إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا)] يعني: إذا انتهت حياته وبدأ حياة أخرى، والقبر هو أول منازل الآخرة، وآخر منازل الدنيا، ولذلك قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] أي: في القبر، كما مر بنا آنفاً.
قال: [(نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه)] فهو أمر يناسب العبد المؤمن، فالملائكة عند ذلك يأتونه في صورة حسنة بهية، في ثياب بيض.
[(كأن وجوههم الشمس -من البياض- معهم كفن من كفن الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه)] وهذا في لحظة الاحتضار، كما قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا) يعني: لحظة الاحتضار، التي يكره المرء فيها لقاء الله أو يحب لقاءه، إذا نظر إلى مكانه من النار كره لقاء الله، وإذا نظر إلى مكانه من الجنة أحب لقاء الله، فتأتي الملائكة بيض الوجوه يجلسون منه مد البصر.
أي: بعيداً عنه قليلاً.
[(ثم يأتي ملك الموت ويقف عند رأسه فينزع منه الروح نزعاً رفيقاً ليناً)] هذا النزع ربما يكون فيه بعض الإيلام، لكنه إذا قورن بنزع روح الكافر كان في منتهى اليسر والسهولة، وشيء هين لين.
قال: [(ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.
قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين)] قوله: لم يدعوها، الضمير عائد على الملائكة الذين جلسوا منه مد البصر، فالذي يتولى نزع الروح هو ملك الموت، ثم الذي يصعد بها: الملائكة الآخرون، والذي يتوفى الأنفس هو الله عز وجل.
إذاً: المميت على الحقيقة هو سبحانه وتعالى، والذي يتولى إخراج الروح هو ملك الموت، والذي يتولى الصعود بهذه الروح ملائكة آخرون.
قال: [(لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلونها في ذلك الكفن وذلك الحنوط -الذي هو من أكفان الجنة ومن حنوط الجنة- فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على ظهر الأرض -أي: لها رائحة طيبة جداً، وهي رائحة الإيمان والعمل الصالح- فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا -أي: هؤلاء الملائكة- ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه الذي كان يدعى بها في الدنيا -أي: في أثناء حياته- حتى ينتهون بها إلى سماء الدنيا -أي: السماء الأولى- فيستغفرون له -وفي رواية-: فيستفتحون له)] يعني: يستغفر للمؤمن أهل السماوات الدنيا، أو يستفتح الملائكة الذين معهم هذه الروح أهل السماء الدنيا من الملائكة فيفتحون لها ولهم.
قال: [(فيشيعه من كل سماء مقربوها -أي: الملائكة المقربون في كل سماء هم الذين يشيعون هذه الروح الطيبة- إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض)] أي: تذهب الروح إلى جسد صاحبها.
قال: [(فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فتعاد روحه في جسده)].
إذاً: عند أن قلنا: تعاد إلى الأرض في جسده لم يكن هذا اجتهاداً وإنما هو نص، كما في قوله: [(فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسل(56/15)
إثبات الصحابة والتابعين لعذاب القبر وإيمانهم بذلك
[عن ميمون بن أبي ميسرة قال: كان لـ أبي هريرة رضي الله عنه صيحتان في كل يوم، أول النهار فيقول: ذهب الليل وجاء النهار، وعرض آل فرعون على النار].
فيصيح أبو هريرة لهذا ويفزع.
[وإذا كان العشي قال: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار].
يعني: كان يستعيذ بالله من النار في كل صباح وعشي؛ لأنه يعلم ويوقن أن العذاب قائم وكائن لآل فرعون في هذا التوقيت، كما في قول الله تعالى: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46].
قد يقول قائل: هذا العذاب في حق الكافر؛ لأن فرعون وقومه كفار، وعذاب القبر لا يثبت إلا للكفار، ف
الجواب
أين حديث الجريد؟ وأين حديث صاحب الغيبة وصاحب البول والذي غل من الغنيمة وغير ذلك؟ وهناك من يقول: لا يوجد عذاب قبر بالمرة ولا حتى آل فرعون، فإن آل فرعون سيعذبون يوم القيامة.
و
الجواب
أن يوم القيامة شيء، وعذاب القبر شيء آخر، والدليل على ذلك قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46].
يعني: بعد الموت.
قول الله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] معناه: أن هناك عذاباً بعد البعث، وعذاباً قبل البعث، وهو أنهم يعرضون على النار وهم في قبورهم في الصباح وفي المساء، وأما يوم القيامة فشيء آخر، فعذابهم في الآخرة أشد من عذابهم في القبور، مع أنهم كانوا في قبورهم يعرضون صباحاً وعشياً على النار، لكن النار التي أعدت لهم في الآخرة أعظم، بل لا يقاس عليها عذاب القبر ولا عذاب الدنيا من باب أولى.
وقال عبد الله الداناج: [شهدت أنس بن مالك وقال له رجل: إن قوماً يكذبون بالشفاعة، قال: لا تجالسوهم، فسأله آخر فقال: إن قوماً يكذبون بعذاب القبر، قال: لا تجالسوهم] وهذا كلام عظيم لأهل العلم، فهم ينهون عامة الأمة عن مجالسة أهل البدع والزيغ والضلال.
[عن مجاهد قال: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] قال: يحرقون عليها ويعذبون].
وعن حوثرة بن محمد المنقري البصري قال: [رأيت يزيد بن هارون الواسطي في المنام بعد موته بأربع ليال، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: تقبل مني الحسنات، وتجاوز عن السيئات، ووهب لي التبعل، قلت: وما كان بعد ذلك؟ قال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم؟ غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة، قلت له: بم نلت الذي نلت -يعني: كيف أخذت هذا؟ - قال: بمجالس الذكر -أي: مجالس العلم- وتولي الحق، وصدقي في الحديث، وطول قيامي في الصلاة، وصبري على الفقر، قلت: ومنكر ونكير حق؟ -بمعنى: أنت فعلاً رأيت منكراً ونكيراً؟ - قال: إي والله الذي لا إله إلا هو، لقد أقعداني وقالا لي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب، فقلت: مثلي يسأل؟ أنا يزيد بن هارون الواسطي، وكنت في دار الدنيا ستين سنة أعلم الناس.
فقال أحدهما لصاحبه: صدق، هو يزيد بن هارون نم نومة العروس: فلا روعة عليك بعد اليوم]، يعني: لا حزن ولا هم عليك بعد اليوم، نم إلى نعيم ورغد لا منتهى له سواء كان في قبرك أو بعد مبعثك ودخولك الجنة.
وهذا المنام وغيره من المنامات إنما هي من البشارات لأهل الإيمان، وإن كان لا يتوقف عليها حسن اعتقاد ولا سوء اعتقاد ولا تحليل ولا تحريم ولا شيء من هذا، إنما هو عاجل بشرى المؤمن في الدنيا.(56/16)
سياق ما روي بما أرى الله أو أسمع من عذاب القبر في الصحابة والتابعين ومن بعدهم
قال حنبل: [سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: إذا صير العبد إلى لحده، وانصرف عنه أهله أعيد إليه روحه في جسده].
ولذلك فإن عقيدة أهل السنة سهلة، وأنا سأقول لك: هات أي كتاب من كتب المعتزلة أو الشيعة أو الخوارج أو أي فرقة من الفرق الضالة في المعتقد واقرأه أو اقرأ باباً منه ثم اقرأ ما يواجه هذا الباب في كتب أهل السنة والجماعة، فلن تحتاج أبداً إلى شخص يشرح لك، فعندما نقرأ في عقيدة أهل السنة فيما يتعلق بالقبر ستجد الكلام سلساً، وعند أن نأتي ونقرأ العقيدة الطحاوية مثلاً أو في كتاب السفاريني أو في كتاب اللالكائي أو ابن أبي عاصم أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من أهل العلم الذين صنفوا في المعتقد والسنة تجد أن الكلام سهلاً وحلواً ومقبولاً وجميلاً، ولا تحتاج أبداً أن أبا الأشبال يقول لك: هذه معناها كذا، وهذه معناها كذا، أو أن المحشي سيضع لك تحت هذه الكلمة الصعبة أن معناها كذا، فبمفردك ستفهم هذا الموضوع وتقول: سهل جداً، لكن عند أن تأتي إلى كتب المبتدعة؛ تجدها فلسفة وكلاماً معقداً ومنطقيات ومقدمات ومؤخرات ونتائج، شيء صعب إلى أقصى حد، وربما قرأت الموضوع وخرجت منه وأنت لم تفهم ما هو الموضوع الذي يتكلم فيه؛ لأنه طلاسم، والذي يترك كلام أهل السنة لابد أنه يقع في الحيرة والتيه والضلال، ويكون كلامه كله عبارة عن فلسفات كلامية ومقدمات ومؤخرات منطقية لا يمكن أبداً أن يستقيم في الأمور الغيبية مع كلام أهل السنة والجماعة أبداً، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) لم يقل الصحابة: من هؤلاء الفرق يا رسول الله؟ وإنما قالوا له: من هذه الفرقة الواحدة؟ قال: (هم من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
فهذه إشارة إلى وجوب تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة، ثم اعلم أن ما عدا هذه العقيدة عقائد فاسدة وباطلة، وأصحابها من أهل النار، أما أن يأتي شخص ويتفلسف ويقول لك: عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه فيقول: أنا قبل أن أدرس عقيدة أهل السنة لابد أن أدرس عقائد الفرق الثلاثة والسبعين أو الاثنتين والسبعين لا أعرف الفرق الباطلة؛ من أجل أن تحلو لي عقيدة أهل السنة والجماعة! إذا كنت تظل تدرس في عقيدة أهل السنة والجماعة سنوات وسنوات فكيف يتسنى لك أن تدرس عقيدة هذه الفرق كلها؟ أتضمن الحياة؟ وبعد ذلك أأنت مكلف بمعرفة هذه العقائد؟ هل سيقول الله عز وجل لك يوم القيامة: ماذا قالت المعتزلة في رؤية الله عز وجل؟ أم أنه سيسألك عن معتقدك أنت، فيما يتعلق بجواز أو استحالة رؤية المولى عز وجل، سيسألك عن عقيدتك، عقيدة أهل السنة، بل هو سيسأل سبحانه وتعالى هؤلاء الضلال الحيارى عن سر وسبب انحرافهم عن عقيدة أهل السنة والجماعة، وعملهم يأتي يوم القيامة كله هباء منثوراً؛ لأنه لا يستند إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما استند إلى فلسفات غربية، ولذلك فإنه كلما ازدادت رقعة الإسلام في الأرض ازداد الفساد في الأمة.
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند أن كان تفتح عليه البلدان كان يظل يبكي؛ لأنه عمر رضي الله عنه الرجل الثالث في الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام وبعد أبي بكر فليس هذا من فراغ أيها الإخوة! ولذلك قيل: إن أبا بكر لم يسبق الأمة بكثير صلاة ولا صيام، وإنما بإيمان استقر في قلبه، فنور الوحي استقر في قلبه فصارت الأمور بالنسبة له كما لو كان يشاهدها عياناً، وهذا نور الإيمان جزاءً وفاقاً للعمل الصالح، وهو فضل الله عز وجل أولاً وآخراً، بعث عمر الجيش، فلما سمع أن مصر فتحت وأن الأمر استقر لـ عمرو بن العاص بكى عمر بن الخطاب لأنه يذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أخشى عليكم الفقر، ولكني أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)، ونحن ننظر إلى الوجه الآخر للفتح، الفتح جيد، وشيء جميل، ودخول الناس في دين الله عز وجل أجمل ما يمكن، لكن الوجه الآخر لهذا الفتح هو الأمر العصيب جداً الذي كان يعصر قلب عمر، وأن كل زيادة في الأرض زيادة في فساد أبناء الأرض.
ولا شك أن عالم الترجمة أمر يسعد كل مسلم، فلما أمرت الدولة العباسية بترجمة كتب الفلاسفة والمتكلمين، كان هذا مبدأ وأساس الشر في الأمة، بأن تُرجمت كتب فلاسفة اليونان وأثينا للغة العربية، فدخل الشر منها.
وأنت عندما تجلس مع أستاذ أو طالب في كلية الآداب أو التربية قسم الفلسفة لا يمكن أن تقول: هذا الإنسان مسلم، أو هذا قلبه أو عقله يفكر في الإسلام، لأنه لا يتكلم أبداً بقال الله ولا قال الرسول، فكلامه كله ظلمة إلا من رحم الله عز وجل؛ لأن بضاعته هي قال أرسطو طاليس قال(56/17)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - أرواح المؤمنين أين تكون بعد الموت
مما يجب الإيمان به إيماناً جازماً أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر معلقة تأكل من ثمار الجنة حتى يردها الله عز وجل إلى أجسادهم، كما يجب الإيمان بأن أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة تتفاوت مراتبها ودرجاتها بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم في الإيمان.(57/1)
سياق ما روي في أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر تعلق في شجر الجنة، حتى يردها الله عز وجل إلى أجسادهم].
كأن الإمام اللالكائي رحمه الله يقطع أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة، وأن الله تعالى يردها إلى أجسادهم حين بعثهم، كأنه بهذا قد رجح هذا الرأي؛ لأن مسألة أين تكون الأرواح إذا ماتت الأجساد مسألة محل نزاع عظيم جداً بين أهل العلم، فاختياره لهذا التبويب إنما هو بمثابة الترجيح لهذا الرأي.
وحقيقة هو الرأي الراجح، فالمؤمن إذا مات كانت روحه في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وأشجارها، حتى يردها الله عز وجل إلى أجساد أصحابها.
والإمام هنا قد ذكر بعض النصوص التي تشهد لصحة قوله، وفاته كذلك أن يورد نصوصاً صحيحة بل هي أصح مما أورده في هذا الباب، وأظن أن النصوص الأخرى لم تقع إليه بسنده؛ ولذلك ما استطاع أن يوردها هنا.
قال: [عن عبد الرحمن بن كعب -وهو ابن كعب بن مالك - عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نسمة المؤمن -أي: روح المؤمن- طير)، وفي حديث مالك: (طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يُرجعه الله في جسده يوم يبعثه)، وفي حديث مالك: (إلى جسده).
قوله: (إنما نسمة المؤمن) أي: روح المؤمن كالطائر، أو هي نفسها الطائر، على خلاف بين أهل العلم في تأويل هذا الحديث.
قال: (طائر يعلق في شجر الجنة) ومعنى يعلق: يأكل، فقال: (طائر أو كالطائر) فإما أن تكون روح المؤمن هي الطائر أو أنها كالطائر الذي يحلق في السماء، ولكنها تحلق في الجنة، فتأكل من أشجارها حتى يردها الله عز وجل في جسد صاحبها يوم يبعثه.
ومن نفس الطريق قال كعب بن مالك: [لما حضرت كعباً الوفاة أتته أم مبشر بنت البراء بن معرور فقالت: يا أبا عبد الرحمن! إن لقيت ابني فلاناً فأقرئه مني السلام].
وهذا تفريع عن الأصل الذي نحن بصدده وهو: هل تتلاقى أرواح المؤمنين إذا ماتت أجسادهم؟ يعني: إذا مات المؤمن ثم مات المؤمن هل تلتقي أرواحهما؟ بلا شك أن كلام أم مبشر هنا يوحي بذلك.
[فقالت: يا أبا عبد الرحمن! إن لقيت ابني فلاناً فأقرئه مني السلام، فقال: غفر الله لك يا أم مبشر! نحن أشغل من ذلك].
أي: أنا في شغل عظيم وكرب كبير، لا يفيق أحدنا لصاحبه حتى يبلغه السلام من فلان أو فلانة.
[فقالت: يا أبا عبد الرحمن! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أرواح المؤمنين في طير خضر تعلق في شجر الجنة)؟ قال: بلى.
قالت: فهو ذاك].
أي: التقاء أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة.
[عن أبي موسى قال: (تخرج روح المؤمن وهي أطيب من المسك، فتعرج به الملائكة الذين يتوفونه، فتلقاهم ملائكة دون السماء -قبل السماء الأولى- فيقولون: من هذا الذي جئتم به؟ فتقول الملائكة: توجوه هذا فلان ابن فلان، كان يعمل كيت وكيت لأحسن عمل له.
قال: فيقولون: حياكم الله وحيا ما جئتم به.
فتقول الملائكة الذي يصعد فيه قوله وعمله، فيصعد به إلى ربه حتى يأتي ربه عز وجل وله برهان مثل الشمس)].
وهذه روح المؤمن.
[(وروح الكافر أنتن من الجيفة، وهو بوادي حضرموت)]، وهذا أحد الأقوال.
أين توجد أرواح الكفار؟ إذا اتفقنا أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر في الجنة تأكل من ثمارها وأشجارها حتى يبعث الله أجسادها، فأين أرواح الكافرين؟ أحد الآراء أنها بواد في حضرموت، [(ثم أسفل الثرى من سبع أرضين)]، وهذا رأي ثان.
أي: أن بعضهم قال: إن أرواح الكافرين في واد بحضرموت -أي: باليمن- والرأي الثاني يقول: أنها في أسفل سافلين، ويستشهد على ذلك بآيات وأحاديث ضعيفة.
وعن ابن عباس قال: [(إن أرواح الشهداء تجول في أجواف طير تعلق في ثمار الجنة)]، لكن بعض أهل العلم ينازع في أرواح الشهداء وفي أرواح عامة المؤمنين، فيقول: الشهداء لهم خاصية تزيد على خواص عامة المسلمين.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [(أرواح آل فرعون -أي: أرواح الكافرين- في أجواف طير سود يُعرضون على النار كل يوم مرتين، يقال لهم: هذه داركم.
وهذا قول الله عز وجل: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا(57/2)
أقوال العلماء في مسائل الروح
شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله صنف رسالة اسمها (الروح)، والكتاب مشهور جداً، ولكن هذا الكتاب فيه أغلاط وأخلاط كثيرة جداً؛ ولذلك يشكك كثير من أهل العلم في نسبة هذا الكتاب إلى شيخ الإسلام ابن القيم ويقولون: ليس من كلامه ولا بقلمه، ولا يتناسب مع علم المدقق المحقق شيخ الإسلام ابن القيم.
وبعضهم اعتذر اعتذاراً لطيفاً فقال: هو من كلامه وهو كتابه، وصحح نسبته إليه، لكن شيخ الإسلام إنما صنف هذا الكتاب في مقتبل عمره العلمي -أي: أيام كان صغيراً في السن- ولما كانت هذه المسألة من المسائل الدقيقة جداً التي يصعب على أهل العلم المبتدئين تحقيق مسائلها أخطأ فيها شيخ الإسلام ابن القيم.
لكن على أية حال هذا الكتاب وهو كتاب (الروح) نحن لا نحبه قط، ولا ننصح أن يقرأه طالب العلم المبتدئ، وإنما يقرأه أهل العلم الذين لهم دراية بمسائل الخلاف حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وهناك كتاب (الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات) للإمام الآلوسي، وحققه شيخنا العلامة الألباني رحم الله الجميع.
قال الإمام الآلوسي في الخاتمة: (الخاتمة -ونسأل الله تعالى حسنها إذا بلغت الروح المنتهى- في بيان الخلاف في مستقر الأرواح بعد مفارقتها البدن إلى يوم القيامة والبعث)، فأين تكون الروح إذا خرجت من المؤمن ومات البدن؟ قال ابن القيم في كتاب الروح: (هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس، واختلفوا فيها، وهي إنما تتلقى من السمع فقط).
أي: هذه المسألة لا يحل فيها الاجتهاد، وإنما الذي يجب فيها الوقوف عند حد السمع.
ويعني: بالسمع: القرآن والسنة، ولذلك لا يمكن أن تجد قولاً لأهل العمل يأمر بالوقوف عند حد السمع فحسب إلا إذا كانت المسألة من مسائل الغيب، ومسائل الغيب يجب وجوباً حتمياً ضرورياً أن يتوقف المسلم عند حد قال الله قال رسوله أبداً، ولا يحل له أن يتجاوز النص.
قال ابن القيم: (وإنما تتلقى من السمع -أي: لا يحل لأحد أن يخوض فيها- واختلف في ذلك).
فحينما أرادوا الخوض فيها قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي: لا علاقة لكم بها.(57/3)
أقوال العلماء في مستقر الأرواح إذا فارقت الأجساد
قال ابن القيم: (فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة)، ونحن من قبل رجحنا هذا الرأي وقلنا هو الرأي الراجح، فأرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة، شهداء كانوا أم غير شهداء.
أي: جميع المؤمنين.
(إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين).
وهذا يدل على أن المرتكب للكبيرة لا ينفى عنه الإيمان، كما أن صاحب الدين محبوس بدينه إلا أن يعفو الله عز وجل عنه، وأن يكافئ الدائن له، وأنتم تعلمون أن صاحب الكبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فكونه محبوساً حتى يشاء الله تعالى له العذاب أو المغفرة، يدل هذا على أن روحه كذلك في داخل هذه المشيئة.
قال: (ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم)، أي: صاحب الدين وصاحب الكبيرة (وهذا مذهب أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما).
قال الشيخ الألباني: وهو الصحيح من الأقوال -أي: أن هذا أصح الأقوال في المسألة؛ لأن غيره مما لا دليل عليه في السنة أو في أثر صحيح- قال: ومع ذلك ستتصل بالبدن متى شاء الله عز وجل.
أي: أن الروح ترجع إلى البدن، والأصل عدم رجوعها، لكن إذا شاء الله تعالى أن ترجع الروح إلى البدن رجعت، فالأصل عدم نزول الروح مرة أخرى في البدن، لكن إذا شاء الله تعالى إنزالها نزلت، وإذا شاء الله تعالى تركيب الروح في البدن ركبت، وذلك في اللحظة.
أي: في أقل من اللحظة؛ وذلك لأنه كان السائل يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسأله؟ فينزل جبريل بالخبر في أقل من لمح البصر، وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم، أي: أن المقصود: أن مسألة إتيان الروح من الجنة أو من السماء السابعة أو من السماء عموماً فتكون في بدن الميت ليست مسألة عسيرة ولا متأخرة، بل هي تتم كما لو كنت نائماً فانتبهت، وهي لحظة واحدة بين النوم واليقظة، فكذلك نزول الروح ودخولها في البدن.
الرأي الثاني: (وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها -يعني: هم على أبواب الجنة- يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.
وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها -أي: في الأفنية والشوارع والساحات التي أمام القبور معسكرة هناك- وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت -أي: تذهب في أي مكان، وكل هذا في أرواح المؤمنين- وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة).
وهذا الرأي يوافق المذهب الأول الذي رجحناه وصححناه.
(وقال أبو عبد الله ابن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند الله عز وجل ولم يزيدوا على ذلك.
قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين بالجابية -والجابية: اسم قرية بالشام- وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت.
وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟) عبر عن الروح هنا بالنفس، وهذه مسألة محل نزاع: هل النفس هي الروح أم أن النفس شيء والروح شيء آخر؟ محل نزاع، والراجح: أن النفس هي الروح.
قال: (هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟) يعني: هل لهم مكان يجتمعون فيه؟ (فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] قال: هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث).
أي: أنه قال: نعم.
هناك مكان في الأرض سيجتمع فيه أرواح المؤمنين، وهذا أحد المذاهب، والمسألة فيها أكثر من اثني عشر مذهباً.
مذهب منهم يقول: هي في بقعة من بقاع الأرض تجتمع أرواح المؤمنين فيها حتى يكون البعث.
(وقالوا: هي الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا.
وقال كعب الأحبار: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس).
على أية حال يغلب على الظن أن كعب الأحبار إنما أخذ الكلام من كتب بني إسرائيل؛ لأنه كان حبراً من أحبارهم، ويروي من كتب الإسرائيليين بعد إسلامه.
(وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت.
وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجين.
وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن -أي: روحه- تذهب في الأرض حيث شاءت.
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله).
وتأولوا في ذلك أحاديث ربما ذكرناها في هذا المكان من قبل، لكنها لا تشهد لهذا المعتقد.
(وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم -الإمام ابن حزم الظاهري أبو محمد - قال: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها).
يعني: لو قيل: أين كانت الروح قبل خلق الجسد؟
الجواب
لا أحد يعلم، فكذلك إذا مات البدن رجعت الروح إلى مكانها قبل أن توضع في هذا(57/4)
مسألة في تلاقي أرواح الموتى وتزاورها وتذاكرها
قال ابن القيم: (المسألة الثانية: وهي أن أرواح الموتى هل تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟) وهذه المسألة هي فرع عن هذا الأصل الذي نحن بصدده.
قال ابن القيم: (وجوابها أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة).
أما أرواح الكفار فهي معذبة، وأما أرواح المؤمنين فهي منعمة.
قال: (فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي).
أي: أنهم إذا التقوا التقوا على اللوم والتقريع والتوبيخ، كما جاءت بذلك النصوص.
والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان بينها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها).
فإن قيل: هل تتلاقى الأرواح؟
الجواب
نعم.
أرواح المؤمنين فقط، أما أرواح الكافرين فهي في شغل عما نزل بها من بلاء وعذاب وعقاب.(57/5)
مسألة في تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات
قال: (المسألة الثالثة: وهي هل تتلاقى أرواح الأحياء وأرواح الأموات أم لا؟) نحن قلنا في المسألة الأولى: إن أرواح الموتى تتلاقى وتتذاكر وتتزاور، ويذكرون ما كان من أمرهم في شأن الدنيا، بل ما كان من أهل الدنيا.
لكن المسألة الثانية: هل تلتقي روح الحي من المؤمنين مع روح الميت من المؤمنين؟
الجواب
نعم.
تلتقي، وما رؤيتك لميت ومحادثته وسؤاله أو سؤالك -أي: أنه يسألك عن حالك وحال أبنائك وحال دينك وغير ذلك- إلا مجرد لقاء بين روح الميت من أهل الإيمان وروح الكافر.
وفي الحديث قال: (وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين، فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض) أي: يسألونه عن أخبار المؤمنين من أهل الأرض الذين لم يموتوا بعد.
وهذا فيه جواب عن المسألة التي ذكرناها.
الحديث يقول: (وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين، فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض) فهي روح مع أرواح، لكنهم يذكرون أشخاص المؤمنين الذين لم يموتوا بعد، فهو قد مات، فلما صعد إلى السماء التقى بأرواح المؤمنين الذين ماتوا مثله، فهم يسألونه عن الأحياء.
فـ ابن القيم يقول: وأعظم دليل على التقاء روح الحي بروح الميت هو الرؤى والمنامات التي يراها.(57/6)
مسألة في كون الروح التي تموت أم البدن
قال: (المسألة الرابعة: وهي أن الروح هل تموت أم الموت للبدن وحده؟) جوابها: (اختلف الناس في هذا، فقالت طائفة: تموت الروح وتذوق الموت؛ لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت.
قالوا: وقد دلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله وحده، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
يعني: إذا كانت الروح هي النفس، فلا بد أن تذوق الموت بنص القرآن.
(قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت) لأن مسألة موت الملائكة مسألة بعيدة عن الأذهان، ولكن المستقر عند عقيدة المسلمين أن الملائكة تموت، وأن آخر الملائكة موتاً من أصحاب التكليف هو ملك الموت.
والمسألة هذه في الحقيقة لم يرد فيها نص، والكلام فيها أنا أكرهه جداً كما أكره الكلام في القدر، فإذا كان الشرع قد عافانا من الخوض في هذه القضية فالأولى بنا أننا نتوقف.
(وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان.
قالوا: وقد دل على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة).
وإذا كنا قد أيقنا أن روح المؤمن منعمة، وأن روح الكافر معذبة حتى يبعث الله المؤمن والكافر فيرد إليه روحه، إذاً: الروح لا تموت مع الجسد، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] هذا مع القطع بأن أرواحهم قد فارقت أجسادهم.
فمن مِن الناس يعتقد أن الشهيد بعد أن يموت تموت روحه معه؟ لا أحد يعتقد ذلك.
أما حياتهم فإنهم يرزقون النعيم الأبدي السرمدي في القبر وفي يوم القيامة وإذا دخلوا الجنة، فحياتهم في قبورهم حياة برزخية لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، كحياة الأنبياء تماماً بتمام، وشبهت هذا بذاك من جهة أنها علم غيب لا يعلمه إلا الله، لكن لا بد أن يكون هناك فارق؛ لأن الأنبياء أفضل من الشهداء بلا شك، وأنتم تعلمون أن أرواح المؤمنين متفاوتة، فإذا كان الأمر كذلك فأرواح المؤمنين في أعلى عليين.
كما أننا نعتقد اعتقاداً جازماً أن القبر حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، فإذا كنا نعتقد أن المؤمن إذا مات صعدت روحه إلى السماء، أو دخلت الجنة فتنعمت فيها فالذي يبقى في القبر الجسد، فنحن لا نعتقد أن القبر روضة من رياض الجنة إلا إذا كنا نعتقد أن الجسد يتنعم ويُعذب، وليس بلازم أن يكون الجسد باقياً، وإلا لقلنا: إن الذي تأكله الأسماك في البحار أو تأكله حوادث الدهر، أو يُحرق أو غير ذلك، وقد انتهى بدنه لا يقع على بدنه العذاب، أو لا يقع لبدنه النعيم! وهذا مخالف لعقيدة المسلمين، فالله عز وجل على كل شيء قدير.(57/7)
مسائل في حقيقة الروح
يقول الألوسي: (الخامسة: اختلف الناس في حقيقة الروح من سائر الطوائف، وكذا اختلفوا في أنها هل هي النفس أم غيرها؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل النفس الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم أنفس متعددة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل هي مخلوقة قبل الأجساد أم بعدها؟).
وهناك مسائل كثيرة جداً أجاب عنها العلماء، الأولى السكوت عنها.
قال: (وأما الكلام على بقية المسائل فقد قال: ابن القيم عليه رحمة الله: والذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة: أنه جسم حادث مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس).
يريد أن يقول: أن الروح جسم، لكن يحكمها قوانين أخرى، وهي القوانين التي تحكم المشاهد أو الأجسام المرئية.
قال: (وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء -يعني: يتخلل البدن- ويسري فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة، وخرجت عن قبول الآثار فارق الروح البدن وانفصل بأمر الله تعالى إلى عالم الأرواح، كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]).
ثم يحيلنا الإمام الآلوسي إلى كتاب الروح لمعرفة المزيد من هذه المعلومات.
وهذا الكلام كله هو خلاصة البحث: أنني أؤمن إيماناً جازماً أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر معلقة تأكل من ثمار الجنة حتى يردها الله عز وجل إلى أجسادها، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين إذا كانت تفاوتت مراتبهم في الإيمان فكذلك تتفاوت مراتبهم في النعيم، لكن كلها في الجنة تسرح حيث شاءت، تأكل وتلتذ بنعيم الجنة على درجات متفاوتة؛ ولذلك الجنة مراتب ودرجات، فكل مرتبة هي أفضل ممن هي دونها، وكل مرتبة دونية هي أقل في النعيم ممن هي فوقها وكذلك أرواح المؤمنين.(57/8)
سياق ما روي في استحباب الصدقة وقراءة القرآن والاستغفار والترحم والدعاء للميت
هذا عنوان عريض يحتاج إلى تقريب؛ لأن هذا التبويب يدل بظاهره على أن الميت ينتفع بكل شيء، ولكل أحد أن يقدم خدمة للميت من عبادة أو طاعة.
قال: [عن ابن عباس: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! توفيت أمي ولم توص، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم)] لكن السائل بالنسبة للمسئول عنه هو ابنها، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خير مال المرء من كسب يده، وولده من كسبه) فالولد امتداد لأبيه، وأثر من آثاره، وسواء نوى الولد نفع الوالدين بعمله أو لم ينو فهما منتفعان بعمله، لا ينقص ذلك من أجره شيء، كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
إن الذي يأخذ ولده إلى معلم القرآن أو معلم السنة حباً في الله وفي كلامه ودينه وشرعه، ويحرص كل الحرص على أن يتعلم ولده الأخلاق الفاضلة، وأن يتأسى بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وأن يتعلم كلام الله تلاوة وحفظاً وعلماً وعملاً وعبادة وغير ذلك، ويتمنى لو أن ولده بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً جداً، لا شك أن هذا الأب إذا مات فإن عمل ولده ينفعه، ويسري أجر الولد في عمله الصالح إلى الوالد، فإذا بدر من الولد عملاً سيئاً فلا حظ لأبيه فيه؛ لأنه كان معلوماً من حياته أنه يحرص على أن يعلمه الخير، بخلاف رجل كان يحض ولده على الشر، وعلى معاداة شرع الله، وعلى معاداة السنة واتهامها وانتهاك حرمتها وخدش حشمتها وغير ذلك فإن الولد إذا عمل بهذا الأصل التربوي السيء فإن الوالد يلحقه من كل عمل يعمله الولد حظ وكفل ونصيب؛ لأنه رباه على ذلك واستحبه، بل حمله على ذلك حتى صارت معاداة الشرع ديدناً لهذا الولد.
هب أن الولد تاب من ذلك.
هل ينفع الوالد توبة ولده؟ لا ينفعه؛ لأنه لو كان ينفعه لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه)، وقد قال العلماء وهو أرجح الأقوال في المسألة: هذا إذا كان معلوماً من حياته: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39].
إذاً: ينظر هل كتب وصية وقال: لو أني مت استأجروا فلانة وفلانة ينحن علي ثلاثة أيام أو سبعة أيام أو عشرة أيام فهذا من سعيه، أو أنه لم يفعل ذلك لكن كان أستاذاً كبيراً، فكان إذا مات أحد من الناس ذهب وأدى واجباً وظل يلطم ويشق الجيوب، فإذا عُلم من حياته أنه يحب ذلك ويفعله، حتى لو لم يوص به فإنه يُعذب ببكاء من ناح عليه؛ لأن هذا كان ديدنه في حياته، من خلال ذلك نقول: لو أن شخصاً قال: يا إخواني! لا يبكي علي أحد ولا ينوح، والذي يريد أن يبكي يبكي بالدمع فقط، أما بكاء وولولة ودعاء جاهلية فأنا بريء من ذلك، فلو أن الناس كلهم ناحوا عليه هل يلحقه شيء من ذلك؟
الجواب
لا يلحقه؛ لأنه قد تبرأ منهم، وأوصى بخلافه.
ومن ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث).
فـ عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين ابنه رجل صالح، فهل ينتفع الأب بعمل الولد الصالح؟
الجواب
لا.
فإذا كنا نحن نقطع الآن بغير رجوع إلى كلام أهل العلم أن الكافر لا ينتفع بعمل ولده المسلم الصالح، فلا بد أن تتفرع على هذا تفريعة أخرى، وهو أن الأب الفاسق العاصي الذي كان يكره الخير ويقبل على الشر لا ينتفع بالخير، وهذا كلام الإمام ابن أبي جمرة وكلام الحافظ ابن حجر والإمام النووي والإمام أحمد بن حنبل وغير واحد من السلف.
[عن ابن عباس: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! توفيت أمي ولم توص.
أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم)] الولد يسأل عن مدى انتفاع الأم بالصدقة، فالولد ينفع أمه في باب الصدقات، وسيأتي معنا خلاف في عبادات أخر؛ لأن الصدقة عبادة، فإذا فعلها المرء تقرباً عن أبيه أو عن أمه انتفع الأب والأم بذلك.
قال ابن عباس: [(إن رجلاً قال: يا رسول الله! توفيت أمي ولم توص.
أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم.
قال: فإن لي مخرفاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها)] والمخرف: هي الأرض المثمرة.
أي: أن لي بستاناً ونحن في وقت جني ثماره، فأشهدك يا رسول الله! أني قد تصدقت بثمار هذه الأرض عن روحها.
هذا الحديث أخرجه البخاري.
[عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت)] أي: ماتت فجأة، أي أنها لم تكن متوقعة أنها تموت، فإذا كان الشخص مريضاً بمرض خبيث وهو نائم على الفراش، وكل يوم يزداد سوءاً، فلا بد أنه سيتوقع في هذا المرض الموت، بخلاف شاب قوي، فهذا في الغالب لا يتوقع الموت في هذه اللحظات، ولا مانع أن يصح المريض وأن يموت الصحيح، لك(57/9)
كلام الألباني في تلقين الميت وتجهيزه وقضاء دينه
الشيخ الألباني رحمه الله في باب تلقين المحتضر من كتاب أحكام الجنائز.
يقول: إذا حضره الموت فعلى من عنده أمور، وذكر منها: أن من حضر محتضراً فعليه أن يدعو له، ولا يقول في حضوره إلا خيراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون).
وليس التلقين ذكر الشهادة بحضرة المحتضر؛ لأن الشخص يستحيي أن يقول له: قل: لا إله إلا الله أو تشهد أو غير ذلك فهذا من أعظم الواجبات عليك إذا حضرت، حتى يكون آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، وأما قراءة سورة يس عند الاحتضار أو عند الميت أو على القبر، أو شيء ورد في فضل يس فلم يكن شيء من ذلك صحيحاً قط في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أي: أنه لم يرد في فضل يس قط حديث صحيح يذكر فضلها، وليس معنى ذلك: أن يس ليس لها فضل، يكفي أنها كلام الله عز وجل، لكن الذي اعتاده الناس على أنها تقرأ (70) مرة و (75) مرة و (3000) مرة كل هذا غير صحيح، فإنه لم يصح في فضلها ولا في كيفيتها وعدد قراءتها شيء من السنة.
وكذلك توجيه الميت نحو القبلة لا يصح فيه حديث، بل كره سعيد بن المسيب توجيهه إليها، وقال: أليس الميت امرءاً مسلماً؟ أي: لماذا توجهوه؟ ما دام الميت مسلماً فيموت على أي جهة، فإنه لا يلزم أن توجهوه إلى القبلة.
وكذلك أن يبادر بعضهم لقضاء دينه ولو من ماله، وأنتم تعلمون أن الميت إذا مات فعليه حقوق لله عز وجل في ماله، وعليه حقوق في ماله لعباد الله، واختلف العلماء: هل يُقضى من ماله الدين أولاً أم تجهيزه؟ فهب أن الدين أكل المال كله ولم يجهز بعد.
قالوا: يجب تجهيزه على أوليائه، فإن عجز الأولياء ففي بيت المال، فهنا يجب عليهم أن يبادروا بقضاء دينه ولو أتى عليه كله، فإن لم يكن له مال فعلى الدولة أن تؤدي عنه إن كان جهد في قضائه، فإن لم تفعل الدولة وتطوع بذلك بعضهم جاز، وفي ذلك أحاديث كثيرة جداً.(57/10)
كلام الألباني فيما ينتفع به الميت
ويقول الشيخ الألباني رحمه الله في باب ما ينتفع به الميت: ينتفع الميت من عمل غيره بأمور، والأصل أن الميت لا ينتفع إلا بعمله هو: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] والاستثناء أنه ينتفع بعمل الغير، وهذا هو التخريج على هذا الأصل.
أولاً: دعاء المسلم له ينتفع به، ولا تزال الأمة تدعو لبعضها البعض، إذا توفر في هذا الدعاء شروط القبول؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، فنذكر منها شيئاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين.
ولك بمثل).
بل إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك؛ لأنها دعاء للميت واستغفار له.
ثانياً: ينتفع الميت من عمل الغير بقضاء ولي الميت صوم النذر عنه.
أي: أن الدعاء يُقبل من كل أحد للميت، أما الصوم فلا يُقبل إلا من الولي، فلا أقول في شأن شخص أجنبي مات ولا تربطني به علاقة نسب: أنا سأصوم عنه أيام نذره التي نذرها! فهذا كلام مرفوض، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه).
والولاية: اثنتا عشرة مرتبة، كل مرتبة يمكن أن يكون فيها خمسة أو عشرة أو خمسة عشر أو عشرين حسب توسع هذه الأسرة.
والعلماء يفرقون بين هذا والصيام: (من مات وعليه صيام).
فبعضهم قال: لا يصوم عنه قط؛ لأن الصوم عبادة خاصة.
والبعض قال: يصوم عنه جميع أنواع الصيام: صيام النفل، وصيام النذر، وصيام الواجب، وصيام الفرض.
والرأي الراجح: أنه لا يصوم عنه إلا صيام النذر؛ لأنه هو المتعلق بالذمة، أما صيام الفرض فيدور بين أمرين: أن يتركه صاحبه معذوراً أو غير معذور، فإن تركه وهو غير معذور في تركه يأثم بذلك ويستحق العقاب، وإن تركه بعذر فالكفارة فيه إطعام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً، والإطعام واجب على الأولياء.
ثبت عن ابن عباس: أن امرأة ركبت البحر فنذرت إذا أنجاها الله تبارك وتعالى أن تصوم شهراً، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: (أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى.
اقضِ عن أمكِ).
وهذا يدل على أن السائلة كانت بنتاً، وبين البنت وأمها ولاية، ولكن إن لم تستطع تكفر، فإن كانت فقيرة لا تستطيع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فانظر إلى رحمة الإسلام! وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه: أنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: اقضه عنها).
ثالثاً: قضاء الدين عنه من أي شخص ولياً كان أو غير ولي، وفيه أدلة كثيرة جداً.
رابعاً: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة، فإن لوالديه مثل أجره، دون أن ينقص من أجرهما شيء؛ لأن الولد من سعيهما وكسبهما، والله عز وجل يقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه) وهو على شرط الشيخين.
فالصلاة عبادة متعلقة بالشخص؛ ولذلك أرجح الأقوال في الصيام -أي: صيام الفرض- أنه لا يؤدى عنه.
أي: أن قوله: (من مات وعليه الصيام فليصم عنه وليه) هذا كلام عام، خصصه حديث سعد بن عبادة: أنه سأل عن نذر أمه التي توفيت، فالعلماء حملوا هذا على ذلك، وفرقوا بين صيام الفرض وصيام النذر.
والزكاة عبادة متعلقة بالمال، وما دام المال موجوداً يؤدى، وهذا من الحقوق التي هي محل اتفاق بين أهل العلم: إذا مات الميت ولم يخرج زكاة ماله وجب إخراج زكاة المال أولاً قبل توزيع الميراث، وإخراجها عنه تنفعه؛ لأنه كان معتاداً على إخراجها، لكنه إذا تأخر عن إخراجها فأرجح الأقوال عندي: أنه يعذب بذلك، وينتفع الأبناء بهذا الواجب.
الخامس: ما خلفه من بعده من آثار صالحة ينتفع بها وصدقات جارية؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] أي: وكل شيء تركوه خلفهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء) إلى آخر الحديث.
وعن أبي قتادة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعلم يُعمل به من بعده).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النب(57/11)
الأسئلة(57/12)
المدين يعذب حتى يؤدى عنه الدين
السؤال
ما الدليل على أن الميت الذي عليه دين يعذب بسبب دينه؟
الجواب
حديث أبي قتادة الذي تحمل الدين عن الأنصاري، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أقضيت عن صاحبك؟ قال: يا رسول الله! إنما مات بالأمس قال: اقض عنه، فقضى عنه إلا دينارين، فلما قضاهما قال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت عليه جلده) وهذا يدل على أن العذاب لا يرفع عن المدين حتى يؤدى عنه الدين لا بمجرد الحمالة.(57/13)
الفائدة من دراسة الروح ونزولها في البدن من عدمه
السؤال
ما الفائدة المترتبة من دراسة الروح ونزولها في البدن من عدمه؟
الجواب
نحن نهينا أن نخوض في كيفية الروح نفسها، يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85] والآية عن ذات الروح، وقلنا: إن الذي يعنينا: أين توجد الروح بعد مفارقتها البدن؟ وهذه من مسائل الاعتقاد، ولو كان الكلام في الروح وأين توجد إذا خرجت من البدن؟ لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر معلقة أو تعلق في ثمار الجنة حتى يردها الله إلى أجسادها) مجال للتكلم عنه، فالمنهي عنه: الكلام في كيفية الروح وفي أصل الروح فقط، ولذلك حينما تكلمت عن بقية المسائل المتعلقة بالروح قلت: إنما يعنينا الأول الذي ورد به النص، وبقية الفروع نتغاضى عنها؛ لأننا لسنا محاسبون عليها، كما أن المسألة التي اهتممنا بها في هذا المبحث إنما هي مسألة اعتقادية تماماً كما لو قلت: وماذا ينفعنا إذا كان القرآن كلام الله أو غير كلام الله؟ أو أحد يقول عن أي مسألة من مسائل الاعتقاد: ما قيمة الدراسة في هذه المسألة؟ ولو أنك ذهبت إلى ساحر ليخدعك فإنهم لا يتكلمون إلا في الأرواح، ولذلك إذا ذهبت إلى الساحر وليس عندك علم بهذه المحاضرة لاغتررت بكلامه فوقعت في شراكه وحباله، وهذا الكلام معلوم، وكثير من الناس يذهب إلى السحرة فيدجل عليه كلاماً يتعلق بالروح والنفس وغير ذلك فيصدقه، وهذه المسألة تكلم فيها علماء المسلمين، وفوق علماء المسلمين الصحابة والخلفاء الراشدون، وقبلهم النبي عليه الصلاة والسلام، والذي أوحى بهذا الحديث هو جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل، فلا يقال لمسألة فيها نص شرعي صحيح: ما قيمة دراستها؟ قيمة دراستها: أن تكون شخصيتك شخصية علمية اعتقادية، وهذا هو قيمتها.(57/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - سماع الموتى للأحياء
اختلف أهل العلم في مسألة سماع الموتى، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الموتى يسمعون، وذهبت طائفة أخرى إلى أنهم لا يسمعون، لصريح الأدلة من الكتاب والسنة، وقالوا بأن ما ورد من النصوص في سماع الموتى مخصص بمن ورد النص فيهم، في أوقات خاصة وأشخاص معينين، وحادثة معينة، وبينوا مخاطر القول بسماع الموتى على عقيدة المسلم، وأن ذلك ذريعة إلى الشرك بالله وعبادة غيره تعالى.(58/1)
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الموتى في قبورهم لا يعلمون ما عليه الأحياء
إن الحمد لله تعالى.
نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الموتى في قبورهم لا يعلمون ما عليه الأحياء إلا إذا رد الله عليهم الأرواح.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]].
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: [(وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول.
قال: فذكرت ذلك لـ عائشة فقالت: وهل أبو عبد الرحمن، إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال: إنهم الآن يعلمون)].
يعني: رواية ابن عمر فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنهم الآن يسمعون)، عائشة اعترضت على هذا الكلام وذكرت أنه قال: (إنهم الآن يعلمون)، لم يقل: يسمعون، أي: يعلمون أن ما كنت أقول لهم حقاً [(وإنهم لفي النار.
ثم قرأت: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80])].
قال: [عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر)] وقليب بدر: الحفرة العظيمة التي ألقي فيها صناديد الشرك بعد أن وضعت الحرب أوزارها.
قال: [(وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم يسمعون ما أقول، فذكرت ذلك)]، والذاكر هو عروة، فهو الراوي عن ابن عمر ذكر ذلك لـ عائشة [فقالت: (وهل ابن عمر)] وهل بمعنى نسي وأخطأ أن يأتي بالرواية على وجهها.
[(إنما قال صلى الله عليه وسلم: ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق)]، وهذا الحديث أخرجه البخاري.
هذه المسألة يا إخواني! من مسائل التوحيد العظيمة جداً، والبعض يذكرها في مسائل الفقه، لكن تعلقها بالاعتقاد والتوحيد أعظم بكثير جداً من تعلقها بالفقه، بل لا أرى لها وجه شبه أو تعلق بالفقه، إنما هذه المسألة من مسائل الاعتقاد، خاصة وأنها تتعلق بأمر من أمور الغيب، وأمور الغيب كلها أمور توقيفية، لا مكان للعقل ولا للاجتهاد فيها، فكونهم يسمعون أو لا يسمعون، ينعمون أو يعذبون، يردون السلام أو لا يردون السلام، يشعرون بالزائرين أو لا يشعرون بالزائرين كل هذا من مسائل الغيب، فلا يحل لأحد أن يثبت شيئاً من مسائل الغيب أو يأتيه إلا بنص؛ ولذلك العلماء -خاصة الأشاعرة- يسمون هذه المسائل مسائل السمعيات، سميت بهذا لأنها من مسائل الغيب التي لا يصح فيها الكلام بالاجتهاد؛ وإنما الكلام فيها متوقف على ثبوت السمع، ومعنى السمع: النقل كتاباً وسنة.
وهم يعنون بالسمعيات الغيبيات؛ لأنها لا تثبت إلا عن طريق السمع أي: عن طريق النقل، قال الله، قال رسوله، ولا مجال لاجتهاد العقل فيها ألبتة.
هذه المسألة مسألة سماع الأموات: هل الموتى يسمعون أو لا يسمعون؟ محل نزاع قديم جداً بين العلماء، ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية أن الموتى لا يسمعون، وذهب بعض أهل العلم إلى أنهم يسمعون ونافحوا عن رأيهم وأتوا بأدلة عظيمة جداً وكثيرة، ومعظمها لا يثبت من جهة النقل، والثابت منها فهموه على غير مراده.(58/2)
أدلة القائلين بعدم سماع الموتى
أدلة القائلين بعدم السماع وهم جمهور أهل السنة: قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وهذا القول موجه لنبينا عليه الصلاة والسلام، ومن باب أولى لعامة الأمة إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يسمع من في القبور، وقال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80]، فهاتان آيتان من كتاب الله عز وجل، وهناك تأويل لهاتين الآيتين بأنهما تعنيان بالكافرين وهم أحياء وتشبيههم بالموتى؛ لأن الحياة الحقيقية إنما هي حياة القلب وحياة الإيمان، لكن لا بأس بجريان هذا على الموتى من باب أولى.
والدليل الثاني: قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، وهذا هو الدليل الثاني.
أما من السنة: فحديث قليب بدر الذي نحن بصدده، وله روايات منها حديث ابن عمر الذي ذكرناه وأخرجه البخاري ومسلم، والطريق الثاني: حديث أبي طلحة: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي) وهو القليب، يعني: أمر بأربعة وعشرين رجلاً فألقوا كما تلقى الزبالات على المزابل.
قال: (فقذفوا في طوي من أطواء بدر) أي: في قليب من أحفارها (خبيث مخبث)، يعني: منتن جداً، وهذا الذي يليق بأمثال هؤلاء.
قال: (وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث بعد أن وضعت الحرب أوزارها أمر النبي عليه الصلاة والسلام براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى النبي عليه الصلاة والسلام واتبعه أصحابه)، ومن أصحابه الذين اتبعوه: عبد الله بن عمر الذي روى هذا الحديث، إذ إن البعض يقول: هذا الحديث مطعون فيه؛ لأن عبد الله بن عمر لم يشهد غزوة بدر، فالنبي عليه الصلاة والسلام أرجعه من غزوة بدر.
نقول: نعم.
هذه حقيقة، ولكن عبد الله بن عمر شهد الواقعة في ثالث أيام بدر، وذلك لما وضعت الحرب أوزارها رجع المشركون إلى بلادهم إلى مكة، ورجع النبي بأصحابه بعد أن وضعت الحرب أوزارها إلى المدينة، وكان منهم ابن عمر، فهذا لا علاقة له بالحرب، وإنما هذا كان بعد الحرب بثلاثة أيام.
قال: (واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم -يعني: يقول:- يا فلان ابن فلان! ويا فلان ابن فلان! ثم يقول: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟)، يعني: أما ندمتم وتحسرتم على هذه المعاصي وعلى عنادكم وكفركم، وأنكم متم وقتلتم على الكفر والإلحاد.
قال: (فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاًّ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاًّ؟) الله تعالى وعد الطائعين الجنة ووعد العصاة النار، (فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال -أي: وائل بن عبد الله - يا رسول الله! ما تكلم من أجساداً لا أرواح فيها؟) يعني: ما قيمة هذا الكلام وما قيمة هذا النداء، وأنت يا رسول الله! تعلم أنهم أموات لا يسمعون؟ (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، يعني: هم يسمعونني كما تسمعونني أنتم الآن وزيادة، وانظروا إلى لفظة (الآن) التي وردت في حديث عبد الله بن عمر: (وقف النبي عليه الصلاة والسلام على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول) ولفظة (الآن) لها اهتمام عظيم جداً في هذه الرواية.
قال: (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم).
قال قتادة وهو ابن دعامة السدوسي من كبار التابعين: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً.
انظروا إلى فهم هذا الراوي قتادة، يقول: (أحياهم الله) أي: في لحظة نداء النبي عليه الصلاة والسلام لهم الله تعالى أحياهم حياة برزخية؛ ليسمعوا تقريع وتصغير النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛ لما فاتهم من الإيمان به.
ووجه الاستدلال بحديث أبي طلحة وحديث عبد الله بن عمر ما في الرواية الأولى منه من تقييده صلى الله عليه وسلم سماع موتى القليب بقوله: (إنهم الآن يسمعونني)، وهذا يدل على تخصيص السماع بوقت النداء، وأن الأصل أنهم لا يسمعون، ولكنهم يسمعون الآن؛ مع(58/3)
أدلة القائلين بأن الموتى يسمعون
من أدلة القائلين بالسماع: حديث القليب -نفس الحديث الذي معنا- لكن جمهور أهل السنة فهموا منه كما فهم عمر وغيره أن هذا ربما يكون وهماً للنبي عليه الصلاة والسلام، حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا خصوصية، وأن هذا الكلام يخصص الآية في حق أصحاب القليب، وبين لهم أن هذه حادثة عين لا يجوز القياس عليها.
أما القائلون بسماع الموتى وأنهم يسمعون مطلقاً دون تقييد بوقت معين أو بأشخاص معينين فقالوا: حديث القليب يدل على سماع الموتى في القبر.
وقد عرفنا فيما سبق أنه خاص بأهل القليب من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقاً للعادة، ولا داعي للإعادة.
هذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: حديث: (إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا) وفي رواية: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: من ربك) إلى آخر الحديث.
الشاهد: أن الميت يسمع قرع نعال من شيعه، وهذا الحديث -كما طرأ- خاص بوقت وضع الميت في القبر، ومجيء الملكين إليه بسؤاله، فلا عموم فيه، كذلك هذا الحديث حادثة عين لا يقاس عليه، وعلى ذلك حمله العلماء ك ابن الهمام وغيره، وسيأتي معنا بإذن الله تعالى.
وخلاصة البحث كما قال شيخنا الشيخ الألباني رحمه الله، يقول: إن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الحنفية وغيرهم على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلاً فيقال: إن الموتى يسمعون كما قال بعضهم.
واستدلوا بقضايا جزئية لا تشكل قاعدة سنية يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه.
يعني: هذه الأحوال التي وردت أن الموتى فيها يسمعون إنما هي بمثابة استثناء من الأصل، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر أو الخاص من العام كما هو المقرر في علم أصول الفقه.
ولذلك قال العلامة الألوسي في روح المعاني بعد بحث مستفيض في هذه المسألة: والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه.
انظر الكلام الجميل! والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، يعني: الأصل العام أن الموتى لا يسمعون، فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه، ما ورد السمع -أي: القرآن والسنة- بسماعه على أهل القليب، وأن الميت إذا وضع في قبره سمع خفق نعال من شيعوه.
هذه حوادث عين لا يقاس عليها.(58/4)
مسألة في سماع الموتى للسلام
مسألة: السلام على الموتى: هل يسمعونه أو لا يسمعونه؟ الراجح: أنهم لا يسمعونه، والدليل على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف النبي عليه الصلاة والسلام، والمعلوم أن المصلي يقول في تشهده أو في صلاته: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وكانوا يقولون: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله، كان يقول هذا القريب منه عليه الصلاة والسلام والبعيد عنه عليه الصلاة والسلام، فهل كان النبي عليه الصلاة والسلام يسمع كلام من يسلم عليه ويصلي عليه في صلاته وهو خلفه أو وهو بعيد عنه، هل كان يسمعه؟ إنما هذا عبادة مجردة.
النبي عليه الصلاة والسلام كان يزور المقابر فيسلم عليهم ويأمر بذلك، لكن لم يثبت لنا في الشرع أن الموتى إذا سلمنا عليهم سمعوا كلامنا وردوا عليهم، ولو كان الرد واجباً عليهم لكان من رحمة الله عز وجل أن نسمع ردودهم على سلامنا، فلما لم نكن نسمع دل هذا كذلك على أنهم لا يسمعون كلامنا، ولو سمعوا ما استجابوا لنا؛ لأن ذلك في غير مقدورهم وغير ذلك من الأدلة.
وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت في الحج) ركز على كلمة (يزور)، وأنه كان -وهو في المدينة- يزور قباء راكباً وماشياً، ومن المعلوم تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة، فهل من أحد يقول: بأن البيت وقباء يشعر كل منهما بزيارة الزائر أو أنه يعلم بزيارته، فهذه زيارة كذلك، وهذه حجة عقلية للرد على من يزعم أن زائر القبور إذا سلم عليهم سمعوا سلامه وردوه، وليس بذلك، بل لا يسمعه ولا يدركه ولا يستمع له؛ لأنه في عالم الموتى.
ولذلك الحجة العقلية: أن اللازم من الزيارة: السلام، لكن لا يلزم من إلقاء السلام سماعه والرد عليه؛ بدليل أن زيارة البيت تسمى زيارة، وزيارة قباء تسمى زيارة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من زار مسجد قباء وصلى فيه ركعتين كان كمن اعتمر).
يعني: صلاة ركعتين في مسجد قباء كعمرة، وهذا ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهل من زار مسجد قباء وصلى ركعتين فيه يشعر به المسجد؟ وكذلك زيارة البقيع، فهل يشعر أهل البقيع بزائريهم؟
الجواب
أنهم لا يشعرون ولا يسمعون السلام فضلاً عن أن يردوا عليه.(58/5)
مسألة في سماع الميت للأحياء عند الدفن
مسألة: هل يسمع الميت عند دفنه؟ لا.
والثابت عند الدفن أننا إذا أدخلناه القبر قلنا: (بسم الله وعلى ملة رسول الله) هذا هو الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أما أن تأمره بالتوحيد فهذا عند الاحتضار، وهذا ما يسمى بالتلقين، أما التلقين الذي بعد الموت فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة آراء: منهم من قال به مطلقاً، ومنهم من منعه مطلقاً، والثالث: قالوا: يلقن حين النزول لا بعد النزول، والراجح: عدم تلقين الشهادتين وغير ذلك، والصواب في هذه القضية: أن التلقين حين نزول الميت القبر لا يكون إلا بقولك: (بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أما الدعاء له بالتثبيت فهو الدعاء الذي ينفعه، لكن ليس فيه أنه يسمعه، إنما الذي فيه أنه يستفيد من ذلك، وبعض أهل العلم افترى على الإمام أبي حنيفة وأصحاب المذهب أنهم قالوا بسماع الأموات مطلقاً، فالإمام الألوسي صنف كتاباً عظيماً جداً في الرد على من قال ذلك وسماه: الآيات البينات في إثبات عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات، وحققه شيخنا العلامة الألباني رحمه الله.
فقال بعد أن ذكر كلام الأحناف بعدم سماع الأموات قال: وممن قال بقولهم -أي: بقول الحنفية- أصحاب المذاهب الأخرى.
وقال الإمام النووي -وهو شافعي- في شرح مسلم في باب عرض مقعد الميت من الجنة في الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام في قتلى بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال المازري: قال بعض الناس: الميت يسمع؛ عملاً بظاهر هذا الحديث.
هكذا قال المازري.
ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء.
يعني: المازري أول من خالف فقال بأن الموتى يسمعون، ثم أنكرها وأثبت أن هذا خاص بأهل القليب خاصة، وأنت تعلم أن المازري من أجل العلماء المالكية المتقدمين.
أما إنكار عائشة رضي الله عنها سماع الموتى وقالت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليسمعون، إنما قال: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم أنه حق، ثم قرأت: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، وقرأت: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]).
قال الحافظ ابن رجب: وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء، ورجح القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا في كتابه الجامع الكبير، واحتج بما احتجت به، وأجابوا عن حديث قليب بدر يما أجابت فيه عائشة رضي الله تعالى عنها، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهو سماع الموتى لكلامه.
وفي صحيح البخاري قال قتادة: أحياهم الله تعالى -يعني: أهل القليب- حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً.(58/6)
الرد على من قال بسماع الموتى للأحياء
ذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة، فبين منه أن طائفة من العلماء وافقوا عائشة رضي الله عنها على عدم السماع وأن منهم القاضي أبو يعلى الذي هو من أكابر علماء الحنبلية، كما هو مذهب أئمتنا الحنفية رحمهم الله.
وفي كتاب روح المعاني احتج من أجاز السماع بالجملة بما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال: أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى، فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم أحد عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة)، هذا يدل في ظاهره أن الموتى يسمعون إلى يوم القيامة، ولكن هذا الحديث حديث باطل منكر.
كما في الحديث الآخر: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه) هذا الحديث يحفظه عامة الناس، وهو حديث أشد نكارة من الذي قبله.
وقال البخاري في بابه: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش، وهلاكهم يوم بدر، ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله) فقالت: (ذهل ابن عمر، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن).
قال: وذلك مثل قولها: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فما قال لهم: إنهم ليسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون) ولم يقل: يسمعون.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: قال السهيلي: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول الصحابة له: (أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟) يعني: صاروا جيفاً فأجابهم.
قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذانهم في رءوسهم على القول الأكثر، أو بآذان قلوبهم.
قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن، ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط؛ لأن الأسماع يحتمل أن يكون بأذن الرأس، ويحتمل أن يكون بأذن الرأس وبأذن القلب، فلم يبق فيه حجة.
وإذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي عليه الصلاة والسلام لم يحسن التمسك به في مسألة سؤاله أصلاً.(58/7)
أوجه خطورة القول بأن الموتى يسمعون(58/8)
الوجه الأول: أن القول بأن الموتى يسمعون يؤدي إلى الشرك
الوجه الأول: أن القول بأن الموتى يسمعون كلام في غاية الخطورة؛ لأنه يؤدي إلى الشرك، وهو ذريعة إلى الشرك، فهذه مسألة متعلقة كما قلنا بتوحيد الله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده، ودعائه سبحانه وتعالى دون سواه، ومن المعلوم أن اعتقاد سماع الموتى هو الدافع والسبب الأقوى في وقوع كثير من المسلمين اليوم في الشرك الأصغر وهو دعاء الأولياء والصالحين، وعبادتهم من دون الله عز وجل، واعتقاد أنهم يسمعون فيستجيبون لهم، بل ويدفعون عنهم الضر ويجلبون لهم النفع.
وهناك الآن من ينادي الحسين أو البدوي أو غير ولي من هؤلاء الأولياء، ولولا أن الداعي لهذا الوثن يعتقد أن المقبور يسمعه ويستجيب له ما دعاه، ويقع في الفلاحين الطوام من هذه الأحوال، وإذا خرج صاحب الاعتقاد السليم ينكر على أهل القرية كل منهم تنصل وتبرأ منه، حتى الوالد يتبرأ من ولده مخافة أن يؤذيه ذلك الميت، ولا يكون ذلك المعتقد إلا لإثبات أنه يعتقد أنه يسمع، وأنه بيده الضر والنفع، ويشاركهم في ذلك كثير ممن ينتسبون إلى العلم قولاً وعملاً، فالطرابيش الحمراء معظمها أصحاب منفعة، فهم صناديق النذور، فلو أن أصحاب الطرابيش تركوا تقديم البراهين وقرابين الطاعة لأهل القبور واعترفوا اعترافاً جازماً بأن هؤلاء لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون وغير ذلك فإنه لا حظ لهم في صندوق النذر.
وهكذا كل إنسان على قدر منزلته، وعلى قدر مكانه، وإن شئت فقل: على ضعف الإيمان في القلب، مع أن الله تعالى جعل على لسان كل نبي ورسول أرسله: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
فإذا تبين أن الموتى لا يسمعون لم يبق حينئذ معنى لدعاء الموتى من دون الله عز وجل، إذ لا يدعى ولا يستغاث بغير الحي سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الذي بيده النفع والضر.
قال بعض القائلين: نظرة من الشيخ تقلب الشقي سعيداً، فيصرخ: نظرة يا بدوي! نظرة يا حسين! نقول: النظرة هذه ماذا ستجلب؟ يقول: هذه النظرة تجعل الشقي سعيداً، تجعل من إذا كان قد كتب من أهل الشقاء وأهل النار من أهل السعادة ومن أهل الجنة، ومعلوم أن هذا الشيء لا يجوز إلا لله عز وجل، وهل هناك أحد يملك الشقاء والسعادة إلا الله عز وجل، فالذي يملك ذلك هو الله، وصرف ذلك إلى غير الله شرك أكبر، وإنهم ليعتقدون أن الكون إنما يتصرف فيه المشائخ والأقطاب والأوتاد والمدرسون وغيرهم، والله تعالى يقول لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] ومعنى (إلا) هنا: لكن.
أي: لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً لكن الله يملك ذلك، فمعنى الآية: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً لكن ما شاء الله أن ينفعني نفعني وما شاء أن يضرني ضرني، فـ (إلا) هنا بمعنى: لكن.
وهناك كتاب باطل جداً، كله خرافات وخزعبلات اسمه: (شواهد الحق بالاستغاثة بسيد الخلق) لـ يوسف النبهاني، ويوسف النبهاني رجل قديم ومعروف بسلوكه وتصوفه وغير ذلك، وفي هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله تعالى، وكذلك من صار يطلب من الرسول ما لا يقدر على تحصيله إلا الله، فإن هذا مقام رب العالمين، الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم وهو الذي يميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه بنفسه؟ يعني: كيف أطلب أنا من ميت لا يملك -وهو حي- النفع والضر بنفسه، فضلاً أن أطلبه أنا منه وهو ميت؟ هذا أمر محال! كيف يفعل ذلك ويترك الطلب من رب الأرباب القادر على كل شيء، الخالق الرزاق، المعطي المانع؟ وحسبك ما في الآية من موعظة، فإن سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده: {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [يونس:49] فكيف يملكه لغيره؟ أو كيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلته لا تبلغ منزلته فضلاً أن يملكه غيره؟ فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ولمعنى: قل هو الله أحد؟ وأعجب من هذا: اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء دون النكير عليهم، بل وأعجب من ذلك وأشد إعجاباً: أن يشارك أهل العلم في هذا البلاء وهذا الشرك، وأنهم يدعون إلى ذلك، وهؤلاء الذين وقعوا في هذا الشرك الأكبر البين إنما تضم صحائفهم إلى صحائف سيئات هؤلاء أصحاب العمائم الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يقول الله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِ(58/9)
الوجه الثاني: أن ذلك يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في العبادة
الوجه الثاني: أن اعتقاد أن الموتى يسمعون يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في دعائه وعبادته وحده، وفي ذلك آيات كثيرة صريحة في النهي عن دعاء غير الله تعالى من الأولياء والصالحين، ومنها قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23].
قال ابن تيمية عليه رحمة الله: ومثل هذا في القرآن كثير، ينهى أن يدعى غير الله، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة، فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك، بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك.
وابن تيمية يقصد أن هناك فارقاً كبيراً جداً، فمن الناس من يطلب الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام، أو يطلب الشفاعة أو الوساطة في قضاء مصلحة ما من النبي عليه الصلاة والسلام، كمن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! استغفر لي)، فهذا ليس شركاً، لكن لو أن واحداً أتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! استغفر لي فإن هذا شرك.
إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يشفع للأمة، والأنبياء يشفعون، والصالحون يشفعون، والملائكة يشفعون بغير أن يطلب أحد منهم الشفاعة، فهل هذه الشفاعة شرك؟
الجواب
لا؛ لأنهم إما أن يشفعوا في حياتهم الدنيا، أو يشفعوا في حياتهم الأخروية، المهم أنهم يشفعون في حال الحياة.
فلا شك أن هناك فارقاً كبيراً جداً بين من يدعو الميت ويطلب منه جلب النفع ودفع الضر وبين من يطلب شفاعة الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين.
ثم هو يحتج كذلك بأن الصحابة إنما كانوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، ولم يثبت أن واحداً من أصحابه سأله بعد موته، فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: ادع لي، لم يفض ذلك إلى الشرك، بخلاف من دعاه في مغيبه فإن ذلك يفضي إلى الشرك؛ فالغائب والميت لا ينهيان من يشرك، فإذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك، فدعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون، ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين.
ومعلوم أن الملائكة تدعو للمسلمين وتستغفر لهم، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] فالذين آمنوا لم يطلبوا من الملائكة أن يستغفروا لهم، وإنما استغفروا لهم ابتداءً: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد.
وكذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام -أو غيره من الأنبياء والصالحين- يدعو ويشفع للأخيار من أمته، وهذا من جنس العمل، فهم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد من الناس.
وقال ابن تيمية: وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بالله وعبادتهم من دون الله تعالى، بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يُفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون هو بالأمر الكوني لا بالأمر الشرعي، فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل، وأما بعد الموت فقد انقطع التكليف عنهم.
فالخلاصة: أن طلب الدعاء والشفاعة ونحو ذلك من الأنبياء والصالحين بعد موتهم لا يجوز؛ لأنه شرك أو ذريعة إلى الشرك.
وهذا هو الوجه الثاني.(58/10)
الوجه الثالث: أن ذلك يقتضي الاعتقاد بأن الموتى قادرون على إجابة مسائلهم وقضاء حوائجهم
الوجه الثالث في خطورة اعتقاد أن الموتى يسمعون: اعتقاد أن الأنبياء والصالحين قادرون على إجابتهم وإلا كان دعاؤهم ومناداتهم بذلك سخفاً جلياً، وضلالاً بيناً، وهذا مما يترفع عنه العاقل، بل المؤمن؛ لأنه باطل بداءة وفطرة؛ ولذلك احتج الله على المشركين في مواطن كثيرة من القرآن، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ} [الأعراف:194]، فهذا ليس فعل أمر يدل على الوجوب، بل توبيخ وتقريع.
قال: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:194 - 195] إنكار؛ ولذلك كانت حجة إبراهيم على أبيه وقومه كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42].
فإن قيل إن أبا إبراهيم كان يعبد صنماً وهذه الآية في الأصنام لا في الأموات.
نقول: لا فارق بين الميت والصنم بجامع أن كلاً منهما لا يسمع، وأنه لا يجوز دعاء أحد إلا من يسمع.
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:195]، وقول إبراهيم: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73]، هذا يدل على أن هذه مؤهلات من يجوز دعاؤه.
يعني: لا بد أنه يسمع ويبصر ويرى ويملك النفع والضر وغير ذلك، أما كون هؤلاء الموتى أو هؤلاء الأصنام لا يملكون شيئاً من ذلك فهذا يدل على تحريم دعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم وغير ذلك من سائر العبادات.
إذا عرفت هذا فتنبه أيها المسلم المبتلى بدعاء الأولياء والصالحين من دون الله تعالى، هل أنت تعتقد أنهم حين تناديهم لا يسمعونك؟ إذاً: فأنت مع مخالفتك للعقل والفطرة مثل أولئك المشركين من قوم إبراهيم وغيرهم ولا فرق، فلا ينفعك والحالة هذه ما تدعيه من إسلام أو إيمان؛ لأنك حينئذ مشرك؛ لأنك قد صرفت ما يجب لله إلى غير الله؛ ولأن الله تعالى يقول في القرآن: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وإن كنت تزعم أنهم يسمعونك ولذلك تناديهم وتستغيث بهم وتطلب منهم فهي ضلالة أخرى فقت بها المشركين، وإني لأعيذك بالله أن تكون منهم في شيء.
فاعلم أخي المسلم! أن كل ما أعطاه الله تعالى للبشر وفيهم الأنبياء والأولياء من قدرات وصفات يذهب بالموت، كالسمع والبصر والبطش والمشي ونحو ذلك، فما يبقى منها شيء كما هو مشاهد، اللهم إلا الروح باتفاق المسلمين.
فالذي أريد أن أجمله في هذه اللحظات أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون إلا ما ورد الدليل أنهم يسمعون في لحظات وأوقات معينة وأشخاص معينين، أما الأشخاص فهم أهل القليب من باب إثبات المعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، والتقريع والتصغير لهؤلاء على جهة الخصوص، وفي هذا التوقيت بالذات.
أما ما دون هؤلاء فإنهم يسمعون خفق النعال فقط، ولا بد أن تعتقد أن الميت إنما ينتفع بعمل الحي من الدعاء له والاستغفار والسلام والصدقة والحج والصيام عنه وغير ذلك، ينتفعون بذلك انتفاعاً لا يستلزم سماعهم له، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك ينتفع بسلام الناس عليه وصلاتهم عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يسمعهم، أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام) فهذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(58/11)
الأسئلة(58/12)
حكم من لم يصل الظهر ودخل المسجد والإمام يصلي بالناس العصر
السؤال
أنا لم أصل الظهر، ودخلت المسجد والإمام يصلي بالناس صلاة العصر، فماذا علي؟
الجواب
هذه المسألة تنازع فيها أهل العلم نزاعاً كبيراً، فمنهم من قال: تخالف الإمام في النية فتصلي الظهر خلف الإمام الذي يصلي العصر، ثم تصلي العصر وحدك.
ومنهم من قال: بل تصلي مع الإمام وتوافقه في النية -تصلي العصر معهم- ثم ترجع فتصلي الظهر، ثم ترجع فتصلي العصر حفاظاً على الترتيب.
والمذهب الثالث: أن الترتيب ليس بلازم، أي: تصلي معه العصر، ثم تصلي الظهر ولا إعادة عليك، هذا هو المذهب الثالث في القضية.
والذي يترجح لدي أنه إذا اتفقت عدد الركعات جاز مخالفة الإمام بالنية، يعني: لو أنك صليت معه الظهر وهو يصلي العصر فلا بأس أن تفارقه في النية، فتنوي الظهر ثم تنوي بعد ذلك العصر في صلاتك وحدك.
أما إذا اختلفت عدد الركعات كمن فاته المغرب ودخل والإمام يصلي العشاء، فالذي يترجح لدي موافقة الإمام في النية وصلاة العشاء معه، ثم يصلي المغرب بدون إعادة العشاء؛ لأن الفرض لا يصلى في يوم مرتين، والله أعلم.(58/13)
حكم دفن أكثر من ميت في قبر واحد
السؤال
هل يجوز دفن أكثر من ميت في قبر واحد؟
الجواب
نعم.
كما هو واقع في قتلى أحد، فالنبي عليه الصلاة والسلام دفن الجماعة في قبر واحد، ومسألة أن كل ميت له قبر مسألة مستقرة، لكن إذا تعذر الأمر وكثر الموتى وقلت القبور جاز للضرورة دفن أكثر من واحد في قبر واحد، ويقدم أكثرهم قرآناً أو علماً بالسنة.
والإمام الشافعي عليه رحمة الله قال: وإن ضاقت المسألة ولا بد من دفن الرجل مع المرأة أو المرأة مع الرجل فلا بأس بذلك للضرورة على أن يكون بينهما ساتر، ساتر من رمال أو تراب أو غير ذلك، مع أنه لا يخاف الفتنة والحالة هذه، لكن هذا والله يا إخواني! من تمام رحمة الإسلام بالمرأة، فقد اهتم الإسلام بصيانة المرأة وعفتها حتى في نعشها وفي قبرها، فالمرأة في النعش تستر خلافاً للرجل.(58/14)
حكم من ترك صلوات وأراد قضاءها وتعويضها
السؤال
إذا أراد أحد قضاء ما ترك من صلوات كأن يصلي الظهر مثلاً مرتين أو ثلاثاً هل هذا يصح؟
الجواب
هذا مذهب الجمهور، لكن ليس عليه دليل، والذي يترجح لدي أن تارك الصلاة بالكلية كافر خارج عن الملة، وإنما يكفيه إذا صلى أن يتوب إلى الله عز وجل مما بدر منه ومما كان منه من أمر الكفر أو الشرك، ويكثر من النوافل والصدقات وغير ذلك.(58/15)
حكم العمل في كوافير النساء وكوافير الرجال، وحكم الاختلاط في الوظائف
السؤال
هناك أشرطة للشيخ وجدي غنيم حرم فيه عمل الكوافير للحريم؛ لأنه يساعد على خروج النساء متبرجات، فما حكم الإسلام في كوافير الرجال الذي يحلق الذقن، وحكم الاختلاط في الوظائف؟
الجواب
كوافير الحريم الذي يستقر عندي أنه حرام إلا أن تفعل المرأة ذلك تزيناً لزوجها، أو يكون ذلك في بيتها أو في بيت آمن، فلا بأس أن تأتي امرأتك عند امرأتي أو امرأتي عند امرأتك في غيبة الرجال عن البيت، وتساعد كل أخت أختها في حسن زينتها، أو أن هذه المرأة التي تسأل إذا كانت تعمل في الكوافير فلا بأس أن تتفق مع مجموعة من الأخوات على أن تذهب إلى بيوتهن لأجل التزين وغير ذلك مما تصنعه النساء لأزواجهن في البيوت.
أما حلق اللحية للرجال فهو حرام بالإجماع، كذلك حكم الاختلاط في الوظائف حرام بالإجماع، إلا إذا اضطرت امرأة إلى العمل، والضرورة تقدر بقدرها، ولا تعرف حالة الاضطرار إلا من قبل الشرع، فإذا اضطرت امرأة لظروف ما أن تعمل فعملها حلال بشرط أن يكون قصد العمل حلالاً لا حراماً، وأن تخرج ملتزمة الصيانة والأدب، وألا تخالط الرجال إلا على قدر المصلحة، بغير هذا فالعمل حرام، والله تعالى أعلم.(58/16)
حكم قول العامي لأحد من المشايخ يا مولانا!
السؤال
ما رأيكم في قول أحد العوام لأحد المشايخ: يا مولانا؟!
الجواب
الله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، فلا بأس بذلك، يا مولانا! وشيخنا! وسيدنا! لا بأس بذلك.(58/17)
حكم اللحوم المستوردة
السؤال
هل أكل سندوتشات الكبدة المستوردة وبيعها وشراؤها حرام، وما حكم العمل في اللحوم المستوردة عموماً؟
الجواب
نعم.
الذي لا أتوقف فيه حرمة اللحوم المستوردة، سواء الأكل منها أو الاتجار فيها أو العمل، فكل هذا حرام، وهؤلاء القوم وإن كانوا أهل كتاب إلا أنهم لا يذبحون، ولا يحل أكلهم وهم أهل كتاب إلا إذا ذبحوا، وفي الغالب أنهم يصعقون ويقتلون ويميتون، فاللحوم المستوردة قامت وحامت حولها شبهات عظيمة جداً، أما اللحوم البلدية التي تذبح في بلادنا فأنا لا أحرمها على الناس وإن كنت أتحرى ذلك في نفسي وأهل بيتي، فاللحوم التي تذبح في بلاد المسلمين الأصل فيها الحل، لكن يعكر على هذا الحل ويجعل الأمر محل اشتباه عظيم أن معظم من يقومون بالذبح في المجازر يتركون الصلاة ويسبون الدين، بل يسبون الله سبحانه، وهذه كلها أعمال ردة وكفر وخروج عن ملة الإسلام؛ ولذلك لما عكر على الأصل فعل القائمين على الأمر احتطت لنفسي، لكني لا أحرم ذلك على الناس.(58/18)
وجوب غض البصر عن المرأة في مكان العمل
السؤال
يقول: هل يجوز غض البصر عن الحريم حتى ولو كانت في العمل؟
الجواب
لا.
هذا يجب، والله تعالى يقول: {وقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30].(58/19)
اهتمام الإسلام بحسن الجوار
السؤال
جيراني يؤذونني بالأفعال السيئة والألفاظ القبيحة، ويسكبون على شقتي الماء، وأفتح الشقة فأجدها مليئة بالماء، وتقول صاحبة البيت: اخرج من المنزل إن كنت لا تحبه! فما حكم هذا، وكيف أتصرف معهم؟ أرجو الإفادة.
الجواب
حسن الجوار شعبة من شعب الإيمان، ومن لم يقم بهذه الشعبة نقص إيمانه على قدر نقصان هذه الشعبة، وجبريل عليه الصلاة والسلام وصى بالجار حتى ظن النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيجعل الجار وارثاً لجاره من كثرة ما أوصى جبريل عليه الصلاة والسلام نبينا صلى الله عليه وسلم بحسن الجوار.
وحسن الجوار قد وردت فيه آيات وأحاديث لا حصر لها، وسلفنا رضي الله عنهم كان من أحوالهم أنهم يتحملون أذى الجار مخافة أن يردوا عليهم الأذى بأذى، فكانوا يحتملون أذى الجار في سبيل الله عز وجل، فهذا يخسر إيمانه بسبب إساءته للجار وذاك يزداد إيمانه بسبب احتماله لهذا الجار.
وفي الحقيقة سوء الجوار هذا سمة عامة على المجتمع، فلا تكاد تدخل في مكان إلا وتفكر في الرحيل عنه إلى مكان آخر، وذلك بسبب الكلمات القبيحة جداً التي لا يمكن أن تصلح لتربية الأبناء، وبسبب الأفعال والاتهامات، والنبي عليه الصلاة والسلام أقام الحد على امرأة مخزومية؛ لأنها سرقت، لكن ورد عند مسلم أنها كانت تستعير العارية وتجحده وكانت جارة، ووقع الخلاف عند أهل العلم: هل جاحد العارية سارق تقطع يده لجحد العارية أم ليست سرقة؟ والراجح: أن جحد العارية ليس بسرقة؛ لأن السرقة لها شروط، منها أن يسرق من حرز مغلق، وجحد العارية ليس حرزاً، لكن الرواية ذكرت أن هذه المرأة كانت تجحد العارية من باب ذكر صفتها، وقد كان بنو مخزوم يستحيون من هذه المرأة؛ لأنها قد جلبت لهم العار وهم من أشراف القوم.
وأتى رجل النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أخرج متاعك على الطريق، فأخرج الرجل متاعه على الطريق ومكث بجواره، وكلما مر عليه أحد قال: ما شأنك؟ قال: يؤذيني جاري ويأمرني النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج متاعي، فكان كلما مر عليه أحد وسمع بهذا قال: لعنة الله على جار السوء).(58/20)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث
الإيمان بيوم القيامة واجب، لا يتم إيمان المؤمن إلا به، فإن الله سبحانه قدر المعاد ليحاسب كل إنسان على ما عمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإثبات أوصاف يوم القيامة، وما فيه من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وجنة ونار.(59/1)
باب جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث بعد الموت والميزان والحساب والصراط
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، والميزان، والحساب والصراط يوم القيامة].
ذكر الإمام اللالكائي في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أحد طرقه، قال: [(بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، إذ جاء رجل ليس عليه عناء سفر -يعني: لا يبدو عليه مشقة السفر- وليس من أهل البلد -أي: ليس من أهل المدينة- يتخطى حتى برك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدنا للصلاة -أي: على هيئة التشهد- ووضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
وهذا فيه بيان لما أبهم في الرواية الأخرى، قال: (حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه) فقوله: إلى ركبتيه الضمير يعود على من؟ اختلف بعض أهل العلم فقالوا: إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام.
والبعض يقول: بل وضع يديه على ركبتي نفسه.
وقالوا: لأن وضع التلميذ يده على ركبتي أستاذه يتنافى مع الأدب.
لكن في حقيقة الأمر يعلم أنه جبريل، ويعلم أنه ليس تلميذاً لمحمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك ليس من حرج أن يضع جبريل عليه السلام يده على ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: [(ثم وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان -هذا هو الإسلام- قال: فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: نعم.
قال: صدقت.
قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار، والميزان، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال: فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: نعم.
قال: صدقت)].
الشاهد من هذا الحديث كله: قوله: (ما الإيمان يا محمد؟! قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالبعث بعد الموت، وأن تؤمن بالجنة والنار) وغير ذلك مما ذكر، فهذا جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث بعد الموت، والميزان والحساب والصراط.(59/2)
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصور والحشر والنشر
قال: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصور، والحشر، والنشر].
عن أبي هريرة وأبي سعيد: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور)] وفي رواية: (كيف أنتم؟) أي: ما حالكم لو أن صاحب الصور -وهو إسرافيل عليه السلام- قد التقم الصور بفيه، أي: قد وضع فمه على البوق لينفخ فيه.
قال: [(وأصغى سمعه، وأحنى جبهته ينتظر متى يؤمر أن ينفخ)] أي: ينتظر الأمر الموجه إليه.
(وأحنى جبهته).
أي: لينظر إلى جهة العلو متى يؤمر أن ينفخ، ينتظر الأمر الموجه إليه، فإذا كان هذا قد أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرناً وزيادة فهذا يدل على تمام قرب الساعة.
قال: [(قالوا: يا رسول الله! كيف نقول -أي: والحالة هذه؟ - قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)].
[عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الصور؟ -أي: ما كنه الصور وما حقيقته؟ - قال: قرن ينفخ فيه)].
والقرن كالبوق ينفخ فيه، لكنه بوق عظيم لا مثيل له في حياة الناس.
وقد جاء من حديث ابن عباس: (ما طرف صاحب الصور مذ وكل، مستعداً ينظر حول العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان)].
أي: ما غمضت عين إسرافيل وهو صاحب الصور منذ أن أوكله الله عز وجل بالنفخ في الصور، مستعداً لهذه المهمة التي أوكل بها.
قال: (ينظر حول العرش) وبين النبي عليه الصلاة والسلام علة أنه أحنى جبهته تحت العرش ونظر إلى جهته.
قال: (مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه) يعني: هو لم يطرف مخافة أن يصدر إليه الأمر في وقت طرفة عينه، يقول: (كأن عينيه كوكبان دريان).
[عن عبد الله بن عمرو قال: إن الملكين النافخين في السماء الدنيا مستعدان ينظران متى يؤمران ينفخان في الصور.
قال: ورأس أحدهما بالمشرق ورجلاه في المغرب، ورأس الآخر بالمغرب ورجلاه بالمشرق].
وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص، وأغلب الظن أنه أخذه من كتب الإسرائيليات، فهذا النص في غاية النكارة خاصة وأن النصوص أثبتت أن النافخ في الصور واحد لا اثنان.
[عن ابن عباس في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]]، وهذه نفخة الصعق.
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في عدد النفخ، والصواب الذي عليه جماهير أهل السنة: أن النفخ ثلاث نفخات: النفخة الأولى: تسمى نفخة الفزع.
والنفخة الثانية: تسمى نفخة الصعق.
والثالثة: تسمى نفخة البعث.
لما سئل ابن عباس في قول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] قال: [نفخ فيه أول مرة فصاروا عظاماً ورفاتاً، ثم نفخ فيه الثانية فإذا هم قيام ينظرون].
وفي حقيقة الأمر: أن هذه هي النفخة الثانية والثالثة، وليست الأولى والثانية، وابن عباس لم يتكلم عن نفخة الفزع.
وعن أبي هريرة مرفوعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ما بين النفختين أربعون.
قالوا: يا أبا هريرة! أربعون سنة؟ قال: أبيت.
قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت.
قالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت)] يعني: أبيت أن أجزم بشيء من ذلك، وليس عندي فيه نص، وهذا من أمور الغيب، هذا فيما يتعلق بـ أبي هريرة، وقد ورد في غير الصحيح بإسناد صحيح من غير طريق أبي هريرة أن هذه الأربعين إنما هي أربعون سنة، فما بين النفختين -نفخة الصعق ونفخة البعث- أربعون سنة.
قال: [(ثم ينزل الله تبارك وتعالى ماءً)]، أي: في خلال هذه الأربعون سنة، أو في نهاية هذه الأربعين.
قال: [(فينبتون كما ينبت البقل)] يعني: ينبت الخلق من هذا الماء كما ينبت البقل، منه ما هو أحمر، ومنه ما هو أبيض، ومنه ما هو أصفر.
قال: [(وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظماً واحداً -كل شيء في الإنسان يبلى إلا عظمة واحدة وهي عجب الذنب- ومنه يركب الخلق يوم القيامة)] يعني: من عجب الذنب تبدأ إعادة الإنسان في الحياة والبعث مرة أخرى، فنقطة الانطلاق والتكوين والبعث والإعادة والإحياء تبدأ من عجب الذنب، وعجب الذنب: هو العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب وهي كحبة الذرة في نهاية العمود الفقري، وهي التي يسميها العامة: رأس العصعص، وهو أول ما يخلق من الآدمي، كما أنه هو الذي يبقى منه؛ ليعاد تركيب الخلق عليه مرة أخرى.
يعني: هذه القطعة الصغيرة جداً هي التي تتكون ابتداءً في رحم الأم، فإذا مات الإنسان أكل منه كل شيء وبلي من(59/3)
تحريم الله لأجساد الأنبياء على الأرض
هذه الأحاديث بلا شك يستثنى منها أجساد الأنبياء، فهذه الأحاديث عامة في كل إنسان دون الأنبياء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر مناقب موسى عليه السلام، قال: (مررت ليلة أسري بي إلى بيت المقدس بقبر موسى عليه السلام، فرأيته قائماً في قبره يصلي عند الكثيب الأحمر، ولو أني وإياكم ثم لأريتكم قبره هناك) يعني: لو أنا وأنتم هناك في هذا الموطن الآن لأريتكم قبر موسى.
فأخبر عليه الصلاة والسلام أن موسى قائماً في قبره يصلي، بمعنى: يدعو، أو صلاة لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، فهذه الأحاديث تبين عقيدة الإعادة والبعث بعد الموت.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق).
وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) هذا في نفخة البعث، فأول من يبعث هو النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي رواية: (فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري: أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل).
وفي رواية: (أم أنه لم يصعق اكتفاءً بصعقة الطور)؛ لقول الله تعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143] يعني: هل جعل الله عز وجل صعقة الطور فيها كفاية وغنية لموسى عليه السلام، فاستثناه من صعقة يوم القيامة، فكان في الأحياء قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، أو أنه أفاق قبل نبينا عليه الصلاة والسلام؟(59/4)
النفخ في الصور من أهوال يوم القيامة
قول الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] فيه استثناء.
يعني: هناك من الخلق من يستثنى من هذا الصعق، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
والنفخة الأولى في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] وهي نفخة الإماتة.
قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] هي نفخة البعث، {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ} [الزمر:69] أي: حينئذ {بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:69 - 70].
قال الله تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68]، وهذه هي النفخة الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت فيها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، كما هو مصرح به، مفسر في حديث الصور المشهور الطويل، وسيأتي معنا بإذن الله، ثم يقبض الله أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم -الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً- بالديمومة والبقاء، فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ثلاث مرات، فلما لم يجبه أحد يجيب المولى عليه الصلاة والسلام وجل نفسه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
أي: واحدٌ قهر كل شيء، وحكم بالفناء على كل شيء، ثم يحيي الله عز وجل أول من يحيي إسرافيل.
إذاً: إسرافيل لا يدخل تحت الصعقة الثالثة؛ لأن الله تعالى يحييه لينفخ في الصور، فالله عز وجل يحييه ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي النفخة الثالثة نفخة البعث.
إذاً: النفخة الثالثة: هي نفخة البعث.
والثانية: نفخة الصعق.
والأولى: نفخة الفزع.
قال الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أي: أحياء بعد أن كانوا عظاماً ورفاتاً ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14].
والساهرة: هي الأرض المنبسطة التي لا نتوء فيها ولا جبال ولا مرتفعات ولا منخفضات، أرض غير الأرض التي يعرفها الناس، كما قال العلماء: أرض لم يقع بها خطيئة ولم يرق فيها دم، أرض بغير خطيئة وبغير معصية، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13 - 14].
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25]، وهذه هي دعوة البعث.(59/5)
حديث عبد الله بن عمرو في أمارات الساعة
روى الإمام أحمد بسنده: عن عبد الله بن عمرو.
قيل له: إنك تقول: الساعة تقوم إلى كذا وكذا.
كأنه يريد أن يحدد قيام الساعة؛ ولذلك عبد الله بن عمرو تبرأ من هذا وقال: لقد هممت ألا أحدثكم شيئاً، لأنني ما حدثتكم بهذا فكيف تفترون علي، إنما حدثتكم عن قيام الساعة بعلاماتها وأماراتها.
قال: لقد هممت ألا أحدثكم شيئاً، إنما قلت: سترون بعد قليل أمراً عظيماً، ومهما طال الليل والنهار فإن الساعة قريب.
ثم قال عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال في أمته فيمكث فيهم أربعين -لا أدري أربعين يوماً أو عاماً أو شهراً أو ليلة- فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنه عروة بن مسعود الثقفي، فيظهر فيهلكه الله عز وجل، ثم يلبث الناس بعده سنين سبعاً ليس بين اثنين عداوة) هذه السنوات السبع بعد هلاك المسيح الدجال يكون الناس على الود والتحاب والإخاء والألفة، ليس بين اثنين عداوة.
قال: (ثم يرسل الله تعالى ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته) هذا الريح الباردة من علامات الساعة الكبرى، وأنها تقبض روح كل عبد مؤمن فقط، (حتى لو أن أحدهم -أي من المؤمنين- كان في كبد جبل لدخلت عليه).
هذه الريح تدخل عليه وإن كان في جبل لتأخذ روحه.
قال: (سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً) يبين علامات القوم الأشرار الذين تقوم عليهم الساعة.
بلا شك أن هذه الريح الشامية إذا جاءت وقبضت روح كل عبد مؤمن لا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (فيتمثل لهم الشيطان -أي: لهؤلاء الأشرار- فيقول: ألا تستجيبون؟ -أي: ألا تستجيبون لي إذا أمرتكم؟ - فيأمرهم بالأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارة أرزاقهم، حسن عيشهم).
ولذلك اغتر شرار الخلق بما هم عليه من شر، يظنون أنهم على شيء وليسوا على شيء، يقولون: علامة ذلك أن الله تعالى وسع علينا في أرزاقنا، ومتعنا في عيشنا، تماماً كما يقول الكفار اليوم، وبعض المسلمين يظن أن السعة في الرزق هي علامة رضا الرب، وليس الأمر كذلك.
قال: (وإذ هم على ذلك إذ ينفخ في الصور) وبينما هم يتنعمون في أرزاقهم ومعاشهم ينفخ إسرافيل في الصور (فلا يسمعه أحد إلا أصغى له) أي: لا يسمع هذه النفخة أحد إلا أصغى لهذا الصوت.
وهذه نفخة الفزع النفخة الأولى.
قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى له، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق).
نفخة الصعق، أول من يسمعه رجل يلوط حوضه.
يعني: يصلح شأن دابته، وهو كذلك إذ تأتيه الصعقة فيموت، ثم لا يبقى أحد إلا صعق؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه النفخة (يسمعها الرجل وهو يلوط حوضه فلا يلوطه حتى يموت) يعني: يموت قبل أن يلوط الحوض.
قال: (وإن المتبايعين يتبايعان الثوب فيسمعان الصعقة فلا يتمان بيعهما).
يموتان.
(وإن الرجل ليحلب اللقحة فيسمع الصعقة فلا يدرك لقحته) يعني: لا يتم حلب شاة أو حلب ناقة.
قال: (ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم ينزل الله عز وجل مطراً كأنه الطل أو الظل فتنبت منه أجساد الناس، فهذا قول الله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم) ينادي مناد: أيها الناس! -بعد الصعقة الثالثة- هلموا إلى ربكم، فهذا قول الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24].
قال: (ثم يقال: أخرجوا بعث النار) إذا اجتمعوا في موقف الحشر والنشر والحساب قال: (فيقال: يا رب! كم بعث النار؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) يعني: لا ينجو إلا واحد من الألف، و (999) كلهم هلكى في النار.
قال: (فيومئذ تبعث الولدان شيباً) أي: من هول يوم القيامة تبعث الولدان الصغار شيباً.
قال: (ويومئذ يكشف عن ساق).
أي: هذا يوم يكشف الله تعالى للخلائق عن ساقه.
وهذا الحديث أخرجه مسلم.
أما قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69].
أي: أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق تبارك وتعالى للخلائق لفصل القضاء، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:69] أي: يوضع الكتاب، كتاب الأعمال {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} [الزمر:69] ليشهدوا على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله تعالى، وجيء بالشهداء كذلك -أي: من الملائكة الحفظة- على أعمال العباد من خير وشر، وقضي بينهم بالحق والعدل، وهم لا يظلمون، كما قال الله تعالى، {(59/6)
تفسير آيات سورة النازعات التي تتحدث عن يوم القيامة
قال سبحانه وتعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:1 - 10] أي: في القبر، {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات:11] أي: في هذا القبر عظاماً بالية، {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات:12] يعني: يا ويلها! لو أننا عدنا بعد هذه الموتة إلى البعث مرة أخرى، فإنما هذا عود وكرة خاسرة، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات:13].
قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق وابن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسدي: النازعات غرقاً.
أي: الملائكة، حين تنزع أرواح بني آدم، فمنها من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهوله وكأنما حلته من نشاط، وهي قوله تعالى: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:2].
قال ابن عباس في النازعات: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشر ثم تغرق في النار.
وأما قوله: والسابحات سبحاً قال ابن مسعود: هم الملائكة.
وقيل غير ذلك.
وعن مجاهد قال: السابحات: هي الموت.
وقال قتادة: هي النجوم.
وقال عطاء: هي السفن.
{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} روي عن غير واحد: أنهم قالوا: هي الملائكة.
وقال الحسن: لأنها سبقت إلى الإيمان والتصديق به، وعن مجاهد قال: هي الموت، وعن عطاء قال: هي الخيل التي تسبق في سبيل الله عز وجل في الجهاد.
أما (المدبرات أمراً) فقال غير واحد: هي الملائكة.
زاد الحسن: سميت بذلك؛ لأنها تدبر الأمر من السماء إلى الأرض، يعني: بأمر ربها عز وجل، ولم يختلفوا في هذا، ولم يقطع ابن جرير بالمراد من ذلك، إلا أنه حكى أن المدبرات هي الملائكة.
أما قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:6 - 7] قال: هما النفختان: الأولى والثانية.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات:6] هي نفخة الفزع، {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات:7] هي نفخة الصعق.
وهذا قول ابن عباس.
وقال مجاهد والحسن وقتادة والنحاس وغير واحد: هما النفختان الأوليان.
وعن مجاهد قال: أما الأولى فهي قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات:6]، فكقوله جلت عظمته: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14].
مجرد إرجاف، مثل الزلزال، وهو فزع شديد جداً.
ولذلك إذا حصل زلزال تجد أن كل الناس في غاية الذعر والرعب، فهذا هو الفزع؛ ولذلك سميت النفخة الأولى بنفخة الفزع؛ لما يصيب الناس من ذعر ورعب وفزع.
قال: أما الثانية: وهي الرادفة التي تتبعها، فهي كقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14].
هذه نفخة الصعق.
وعند الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جاءت الراجفة) أي: النفخة الأولى.
(تتبعها الرادفة) أي: النفخة الثانية (جاء الموت بما فيه) أي: من أهوال، (فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟) أي: أهذا أمر ينجيني من هول هذا الموقف؟ قال: (إذاً: يكفيك الله ما أهمك من شأن دينك ودنياك).
لو كنت صادقاً مخلصاً في أنك وجهت كل دعائك للنبي عليه الصلاة والسلام فإن الله يكفيك هول هذا الموقف.
اللهم صل على نبينا محمد! وعند الترمذي: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه).
والصلاة هنا بمعناها اللغوي: الدعاء؛ لأنه لا يجوز صرف الصلاة الشرعية للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا شرك بالله؛ ولذلك كثير من العوام يعتقد أن الفرض حق الله، وأن السنة للنبي صلى الله عليه وسلم.
يعني: يصلي الفرائض لله، ويصلي السنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وه(59/7)
تقسيم القيامة إلى قيامتين وبيان عودة الأرواح إلى أجسادها(59/8)
إعادة الأرواح إلى الأجساد في القيامة الكبرى
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن القيامة قيامتان، وتكلم عن القيامة الكبرى فقال: الأمر الأول في هذه القيامة إعادة الأرواح إلى الأجساد.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ويكون -أي: إعادة الأرواح إلى الأجساد- بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذا غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الملكين للميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه مرة أخرى، فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها وتحل بها.
يعني: أن الأرواح في الصور لا تتعداه ولا تتخطاه، فإذا نفخ في الصور ذهبت الأرواح إلى الأجساد فتركبت فيها.
وفي الحديث القدسي: يقول الله عز وجل: (ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15 - 16]، وقال تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
يسوق رحمه الله هذه الآيات وهذا الحديث لإثبات أن هذه الإعادة ليست من باب تجديد الأجساد، وإنما هي من باب إعادتها وخلقها خلقاً جديداً كما خلقها الله عز وجل أول مرة؛ ولذلك جاء في الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الناس يحشرون فيها حفاةً عراة غرلاً) فالناس هم الذين يحشرون وليس سواهم.
قال ابن تيمية: وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون.
يعني: مبدأ البعث بعد الموت قد جاءت أدلته في الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون، وهذا يدل على أن من أنكر البعث فقد نقض إيمانه وإسلامه من الأساس.
قال: فأما كتاب الله تعالى فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيم، وذكرها بأوصاف عظيمة توجب الخوف والاستعداد لها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3]-اسم من أسماء القيامة- وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:1 - 5].
والأوصاف ليوم القيامة في القرآن كثيرة جداً، كلها مروعة ومخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها فلن نعمل لها، إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به، وحتى يذكر له أوصاف هذا اليوم التي توجب العمل لهذا اليوم.
وأما السنة: فالأحاديث فيها كثيرة جداً في إثبات الحوض والصراط والثواب والعقاب والجنة والنار، وقد انعقد إجماع المسلمين إجماعاً قطعياً على الإيمان بيوم القيامة؛ ولهذا كان من أنكره كافراً بالله عز وجل، إلا إذا كان غريباً عن الإسلام أو جاهلاً فإنه يعلم، فإن أصر على موقفه من إنكار البعث بعد الموت فهو كافر.
كما أثبتت الكتب السماوية هذا الأمر، فما من نبي إلا حذر أمته البعث والقيامة، والعقل يوجب ذلك كذلك، إذ لا يتصور عاقل أن يستوي الناس أو أن يستوي الطيبون والأشرار، الصالحون والطالحون، العاملون صالحاً والعاملون سوءاً، لا يستويان قط، بل لا بد أن يجازى هذا وأن يعاقب ذاك؛ ولهذا قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، وإن كان الخطاب لشخص النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه عام لجميع الخلائق.(59/9)
قيام الناس لرب العالمين في القيامة الكبرى
الأمر الثاني مما يكون يوم القيامة: يوم يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً.
حفاة أي: لا يلبسون في أقدامهم شيئاً.
عراة: لا يلبسون على أجسادهم شيئاً.
غرلاً: وهي القلفة التي أخذت من المرأة والرجل في أثناء الختان.
هذه القطعة التي أخذت من ذكرك وأنت صغير ترد إليك وتبعث بها، ويعيدك الله تعالى كما بدأك، فإذا كنت تؤمن بالله عز وجل فلابد أن تعلم أن هذه القلفة منذ ستين أو أربعين أو خمسين أو عشرين سنة أو أكثر من ذلك أو أقل قد دفنت أو ألقيت على المزابل، فذابت وانتهى أمرها منذ عشرات السنين، وبعد ذلك تموت ثم تبعث وتبعث معك هذه القطعة من اللحم، أفلا يدل هذا على أن الله تعالى قادر على الإحياء بعد الإماتة؟ بلى.
فإذا كان الله تعالى قادراً على إنشائك من العدم فإعادتك أهون عليه! أما قوله: (فيقوم الناس من قبورهم) إن مات إنسان ولكنه لم يدفن في القبر، كأن مات في البحر وأكلته الأسماك والحيتان، أو مات وأكلته الوحوش في البرية، أو سقط عليهم سقف البيت فماتوا تحت السقف ولم يقبروا، أليس الله تعالى قادراً على أن يعيد هذه الأبدان ويحييها ويحاسبها، فيقذف الكافر في النار، ويدخل المؤمن الجنة؟ بلى، سبحان الله! {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، لأن الله عز وجل يناديهم، كما قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42]، والصيحة هذه صيحة البعث، فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].
قال: أما قوله: (حفاة عراة غرلاً) فقد ذكرناها، كما قال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، فيعاد كاملاً لا ينقص منه شيء.
يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالاً ونساءً، (حفاة عراة غرلاً).
ولذلك استغربت عائشة رضي الله عنها هذا فقالت: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! يا ابنة الصديق! الأمر أشد من ذلك) وفي رواية: (الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) يعني: من أن ينظر بعضهم إلى بعض، فكل إنسان له شأن يغنيه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، لا رجل ينظر إلى امرأة، ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه خوفاً من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل ولا الرجل إلى المرأة، فالأمر أشد وأعظم من ذلك بكثير.
ومع هذا فإن الناس يكسون بعد ذلك، وأول من يكسى بعد عري هو إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
أما دليل القيامة الصغرى فهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لما سألوه عن الساعة فنظر إلى أصغر طفل معهم وقال: إن يعش هذا حتى يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم)، أي: قامت عليكم قيامتكم الصغرى، والحديث أخرجه الإمام مسلم.
قال شاعرهم: خرجت من الدنيا وقامت قيامتي غداة أقل الحاملون جنازتي وعجل أهلي حفر قبري وصيروا خروجي وتعجيلي إليه كرامتي كأنهم لم يعرفوا قط صورتي غداة أتى يومي علي وليلتي وأما القيامة الكبرى فتعاد فيها الأرواح إلى الأجساد التي كانت تعمرها في الدنيا، وهذه القيامة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه، وأخبر بها رسوله في سنته، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] إلى قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] وقال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]، وقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].(59/10)
كلام ابن أبي العز في الإيمان بالمعاد
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: والإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين في غالب سور القرآن، وذلك أن الأنبياء كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم.
يعني: توحيد الربوبية هذا أمر كان المشركون يقرون به، أما الإلهية فلا، فكلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وأشار إلى السبابة والوسطى لقربهما، وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي ولا رسول، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام:130].
يعني: هل ما جاء أحد من الرسل والأنبياء وحذروكم من هذا اليوم وأخبروكم بيوم القيامة؟ فماذا قالوا حينئذ؟ قالوا: بلى.
الرسل أخبرونا وأنذرونا، قامت علينا الحجج والبراهين ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وأمر الله تعالى نبيه أن يقسم على المعاد، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3].
يعني: اقسم لهم يا محمد! أنها آتية لا ريب فيها.
وقال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:53]؟ يستخبرونك يا محمد! هذا المعاد وهذا البعث حق كما تزعم؟ {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53].
جاء أبي بن خلف إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يده عظم قد أرم وقال: (يا محمد! أتزعم أن الله تعالى يحيي هذه العظام بعد أن رمت وبليت؟) ثم فت العظام بيده فصارت رماداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده يحييها الله عز وجل، ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار).
وقال الله عز وجل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، وأخبر الله تعالى عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1 - 2] إلى قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7].
وذم الله تعالى المكذبين بالمعاد فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [الشورى:18]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل:38] أنه يبعث من يموت.
إلى أن قال الله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل:39]، وقال الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر:59]، وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:97 - 99].
{وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49].
{قُلْ كُونُوا حِجَا(59/11)
الأسئلة(59/12)
نصائح للمبتلى بالعادة السرية
السؤال
لقد من الله عز وجل علي بالهداية منذ حوالي (10) سنوات، ولكن منذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع أن أتوب عن العادة السرية، فما العلاج؟
الجواب
العلاج يا أخي الكريم! أن تستحضر مراقبة الله عز وجل، وأنك حين تفعل هذه المعصية أو غيرها من المعاصي توقن أن الله تعالى ينظر إليك وأنت تفعل هذا، فأول علاج لجميع المعاصي هو استحضار عظمة الله عز وجل وجلاله، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في معنى الحديث: (وإن أحدكم لو خاف من ربه كما يخاف من رجلين عظيمين في قومه) يعني: لو أن واحداً من البشر ينظر إليك وأنت تصنع بنفسك هذا فهل تتم هذا الفعل؟
الجواب
لا.
فستنصرف عنك فوراً بمجرد أن تظن أو تتيقن أن أحداً من الخلق ينظر إليك، فنظر الله تبارك وتعالى أسرع وأعظم، فلا تجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك.
الأمر الثاني: أن تعتقد أن هذا حرام، وأما من رخص في الاستمناء فرخص فيه في وقت الضرورة الملحة جداً، وذكروا لذلك أمثلة: الأول: الغزو والبعد عن الأهل والنسوة وغير ذلك، وأن ذلك يوقعه في مشقة وعنت شديدين جداً.
الثاني: أن يخير العبد بين الوقوع في الزنا الذي يقام به الحد وبين الاستمناء.
يعني: أن تعرض عليك الفتنة عرضاً فلا يكون أمامك إلا واحد من اثنين: إما أن تهرب من هذه الفتنة فتستمني فتنطفئ شهوتك، فمهما عرضت عليك الفتنة فأنت لا تقبلها؛ لأن الشهوة قد انطفأت وزالت.
فهذه أمثلة ذكرها بعض أهل العلم لجواز الاستمناء.
أما حرمته فدليل ذلك: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].
أي: الظالمون المتعدون لحدود الله عز وجل، والذي يبتغي كما قال عبد الله بن عمر جلد عميرة فهو معتد؛ لأن الصحابة كانوا يسمون الاستمناء: جلد عميرة، والجلد نوع من أنواع العقوبات والتعزيرات، فتسمية السلف للاستمناء بالجلد فيه نوع عقوبة، وأنا أنصح السائل وغيره ممن ابتلي بهذا أن يحافظ على الأذكار، وأن يداوم على قراءة القرآن الكريم، والنظر في سنة النبي الأمين، والانشغال ببحث المسائل العلمية في ليل ونهار وفي وقت فراغه، وألا يصاحب إلا الأخيار، وأن يهجر مجلات الجنس -وما أكثرها في هذه البلاد وغيرها- كمجلات الكواكب وغيرها، وأن يهجر الصحف القومية؛ لأنها صارت مجلات جنسية وصحفاً جنسية بالدرجة الأولى، فضلاً عن أنها صحف نفاق وصحف عري وفجور ودعوة إلى الانحلال والوقوع في الجنس المحرم.
ثم أنصح هذا السائل وإخوانه ممن ابتلي بهذا ألا ينفرد بنفسه، لا في نومه ولا في يقظته؛ لأنه إذا انفرد بنفسه لعب الشيطان برأسه، وليكن معه من يعينه من إخوانه وأصدقائه على تقوى الله عز وجل ويبتعد عن صحبة السوء؛ فإنهم يعينونه على طاعة الله، ويذكرونه دائماً بالله عز وجل، وهكذا علاج كل معصية.(59/13)
الأموات لا يحسون بنفخة الفزع
السؤال
هل الميتون في القبور يحسون بالنفخة الأولى وهي نفخة الفزع وأيضاً نفخة الصعق؟ الشيخ: الذي ينقدح في ذهني -والله تعالى أعلم- أنهم لا يشعرون بشيء من ذلك؛ لأن النفخة الأولى متعلقة بالأحياء لا بالأموات، وأما النفخة الثالثة فإنها ستكون لجميع الخلق؛ لأنهم يكونون في عداد الموتى، وإذا ثبت أن هذا الكلام غير صحيح فأنا أرجع عنه.(59/14)
استغفار الملائكة يكون للمؤمنين دون الكافرين
السؤال
يقول الله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5].
هل استغفار الملائكة هنا للمؤمنين والعاصين وللكافرين سواء؟
الجواب
للكافرين لا.(59/15)
حكم كون الأذان من شخص وإقامة الصلاة من شخص آخر
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يؤذن لصلاة ولا يصليها مع الجماعة الأولى، ويقوم بإقامة الصلاة رجل آخر؟
الجواب
نعم.
ليس بلازم أن من أذن هو الذي يقيم، ولكن عمل أهل العلم جرى على ذلك، فقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (من أذن فهو يقيم)، وهذا حديث ضعيف باتفاق.
يقول الإمام الترمذي: ولكن عليه العمل، عمل به الشافعية ومالك وابن حنبل وسفيان والليث.
فإن قيل: كيف يكون الدليل ضعيفاً وعليه العمل؟
الجواب
يعني: يقول لك: لك أن تفترض أن هذا الدليل لم يأت أصلاً، ولم يرد إلينا حديث بهذا المعنى ولا بهذا اللفظ، لكن ورد إلينا مشروعية الأذان، فإننا سنقول: إن الذي يؤذن هو الذي يقيم.
ولذلك هذا الحديث من باب الضعيف، ولكن الأمة عملت بمقتضاه، وهذا العمل ليس بواجب في كل الأحايين، بدليل أنه يجوز أن يجتمع عدة مؤذنين في مسجد واحد، كما هو حاصل في مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد القدس الكبير، ومسجد الشام، ومسجد عمرو بن العاص قبل أن يوجد مكبرات للصوت، تجد كل مؤذن في ركن من الأركان أو في ناحية من النواحي، لكن الذي يقيم واحد منهم فقط، ولو أن واحداً من غير المؤذنين أقام الصلاة صح ذلك منه.(59/16)
حكم من لم يدرك صلاة الجماعة بسبب النوم
السؤال
يقول: أخذتني نومة بعد الأذان بخمسة وأربعين دقيقة، فأيقنت أن الناس قد انصرفوا من الصلاة في المسجد فصليت في البيت فهل علي من حرج؟
الجواب
لا حرج عليك، بل أنت مأجور أجر الجماعة.(59/17)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما روي أن الجنة والنار مخلوقتان الآن
لقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الصراط حق يمر عليه المؤمنون والكافرون، وهو مضروب على متن جهنم، وعلى أن رؤية الله تعالى يوم القيامة حق، كما أثبتت الأدلة أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، والجنة رحمة الله يرحم بها من يشاء، والنار عذابه يعذب بها من يشاء، فيجب الإيمان بذلك، ومن اعتقد خلافه فهو على شفا هلكة والعياذ بالله.(60/1)
ما روي في أن الإيمان بالصراط واجب
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في أن الإيمان بالصراط واجب].
ذكرنا من قبل: أن بعض علماء الأزهر للأسف الشديد قال: الصراط شيء معنوي لا حقيقة له، وإنما خوف الله عز وجل بذكره عباده حتى يستقيموا على الطاعة.
وهذا كلام في غاية الفساد، فالصراط حق والإيمان به واجب، والصراط كما ذكر سلفنا رضي الله عنهم من أمور الغيب التي لا يمكن أن يقع لآحاد الناس الإخبار بها إلا الصادق المصدوق.
فنقول: إن هذه النصوص التي وردت عن سلفنا رضي الله عنهم وإن كانت موقوفة إلا أن لها حكم الرفع، لأن هذا من أمور الغيب التي لا يعلم خبرها إلا الله عز وجل وأخبر بذلك أنبياءه ورسله.(60/2)
شرح حديث: (يضرب الصراط بين ظهري جهنم)
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يضرب الصراط بين ظهري جهنم -أي: ينصب ويقام- فأكون أنا وأمتي في أول من يجوز -أي: من يتعداه ويعبره- ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعاؤهم يومئذ: اللهم سلم سلم -أي: دعاء الرسل من الوجل والخوف والشفقة على أممهم أنهم يقولون: اللهم سلم سلم- وفي جهنم كلاليب - والكلاليب: هي كالخطاطيف، أي: كالعصا المعكوفة إما من خشب أو حديد- كشوك السعدان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتم شوك السعدان؟ -والسعدان ينبت في بلاد نجد، وشوكة السعدان معكوفة من أعلاها- قالوا: نعم.
قال: فإنه مثل شوك السعدان، غير أنه ما يدري ما قدر عظمها إلا الله تعالى، تخطف الناس بأعمالهم)].
إذاً: وقوع الناس في جهنم وهم يعبرون الصراط على قدر أعمالهم تخطفهم هذه الكلاليب، والحديث في الصحيحين.(60/3)
شرح حديث أبي سعيد في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وإثبات ضرب الصراط على متن جهنم
قال: [وعن أبي سعيد الخدري -وهو سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه- قال: (قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)]؛ لأنهم يوقنون أنهم لا يرونه في حياتهم الدنيا لا يقظة ولا مناماً، ولم ير الله تبارك وتعالى مناماً إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون الحديث الطويل حديث أنس المعروف باختصام الملأ الأعلى، قال: (بينما أنا نائم إذ رأيت ربي في أحسن صورة) والحديث عند أحمد بسند طويل وقد شرحناه.
قال: [(قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعلموا أنكم لن تروا ربكم إلا أن تموتوا فتبعثوا)]، وهذا للتحذير من اتباع الدجال الذي إذا ظهر زعم أنه الله، أو أنه الرب.
قال: [(اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا فتبعثوا، فلما سألوه عليه الصلاة والسلام: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب -أي: هل يحصل لكم ضير أو ضيم أو شك؟ - وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قال: قلنا: لا يا رسول الله! قال: ما تضارون في رؤيته يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)]، أي: في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب.
النبي عليه الصلاة والسلام لم يمثل الله تعالى بمخلوقاته الشمس والقمر، وإنما مثل الرؤية بالرؤية، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فكما أنكم ترون الشمس في رابعة النهار صحواً ليس دونها سحاب لا تضامون ولا تشكون أن هذه هي الشمس؛ فإنكم سترون الله عز وجل يوم القيامة لا تشكون أن هذا هو الله عز وجل، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي.
قال: [(إذا كان يوم القيامة نادى مناد: لتلحق كل أمة بما كانت تعبد -أي: لتذهب كل أمة إلى معبودها فتكون تبعاً له- فلا يبقى أحد كان يعبد صنماً ولا وثناً ولا صورة إلا ذهبوا -أي: ذهبوا إلى متبوعيهم- فأخذوهم بأيديهم ثم يتساقطون في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر)]، أي: ما دام موحداً، وبعضهم قال: الفاجر هو المنافق، فلما كان في مجموع المؤمنين في الدنيا فيكون في مجموعهم في الآخرة، لكنهم إذا كانوا في وسط الصراط ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويذهب عنهم نور المؤمنين فيكونون في ظلمة ثم يسقطون في جهنم.
قال: [(ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات أهل الكتاب)]، أي: القلة من أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى والذين آمنوا بعيسى قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن من آمن بموسى ولم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر، وكذلك من آمن بعيسى.
قال: [(ثم تعرض جهنم -أي: تنصب- كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، ثم يضرب الجسر -أي: الصراط- قلنا: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: دحض مزلة، له كلاليب وخطاطيف وحسك كشوك السعدان، فيمر المؤمنون كلمح البرق وكالطرف وكالريح وكالطير وكأجود الخيل والراكب -أي: المسرع- فناج مسلم -أي: هؤلاء المؤمنون في عبورهم على الجسر منهم من ينجو ويسلم من العذاب- ومخدوش مرسل -أي: مخدوش منهوش في بدنه بكلاليب السعدان، ولكنه في نهاية أمره يعبر هذا الجسر- ومنهم المكدوس أو المكردس في نار جهنم، فوالذي نفسي بيده! ما أحد بأشد مناشدة في الحق من المؤمنين إخوانهم)]، يعني: حينئذ تكون شفاعة المؤمنين في إخوانهم الذين سقطوا في النار من الموحدين.
والشاهد من هذا الحديث: (ثم يضرب الجسر) والجسر هو الصراط، وهذا فيه إثبات أن الصراط أو الجسر شيء حقيقي لا معنوي، ولا أنه من آيات الله التي يخوف بها عباده.(60/4)
شرح حديث أبي هريرة في إيقاف الموت على الصراط
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت فيوقف على الصراط)،فلا يوقف الموت على شيء معنوي لا حقيقة له.
قال: [(فيقال: يا أهل الجنة! فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه)]، أي: خائفون أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه؛ لأنه لا يأمن أحد مكر الله عز وجل، مع أن العقيدة قد استقرت في قلوبهم أن من دخل الجنة لا يخرج منها أبداً، بخلاف النار فإن من دخلها من الموحدين فلا بد ولا محالة أنه خارج منها يوماً ما.
قال: [(فيشار إلى الموت ويقال لأهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم ربنا، هو الموت -أي: نعم يا ربنا نعرفه، إنه الموت- فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقول للفريقين: خلوداً خلوداً)]، فهذا النداء وجه مرة لأهل الجنة ومرة لأهل النار.
ومعنى (خلوداً خلوداً) أي: فيها تخلدون فلا موت في النار ولا موت في الجنة.
والموت الذي يلحق الناس في النار إنما يعادون من بعده ليذوقوا العذاب.
وقال الإمام أحمد: نؤمن بالصراط والميزان والجنة والنار والحساب لا ندفع ذلك ولا نرتاب.
أي: ولا نشك فيه.(60/5)
ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة القيامة
وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة القيامة فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(يقول الله عز وجل لآدم عليه السلام يوم القيامة: يا آدم! قم ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ قال: فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فعند ذلك يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذب الله شديد.
قال: فشق ذلك على الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج، ثم رجع، فقال: أبشروا؛ فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم واحد)]، ويأجوج ومأجوج هم من ولد يافث بن نوح.
وقيل: هم جيل من الترك.
ولعل هذه الآراء مقبولة، ولكن الذي ليس مقبولاً هو الرأي القائل بأن بعث النار هم من أثر احتلام لآدم عليه السلام خالط منيه التراب فنبتت الذرية من هذا الخليط بين المني وبين التراب.
وهذا كلام بعيد جداً، خاصة أن هؤلاء لا يسمون ولا حتى في اللغة أبناء، والحديث يقول: (يا آدم! قم فابعث من ذريتك بعثاً إلى النار) وهؤلاء لا يمكن أن يصدق عليهم أنهم ذرية.
قال: [(والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبروا وحمدوا -أي: فرح الصحابة بذلك- ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبروا وحمدوا.
ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبروا وحمدوا الله، قال: ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)]، يعني: ما أنتم في الأمم قبلكم إلا شيئاً يسيراً نزراً، كأنه يبشرهم أنهم أكثر أهل الجنة، كما ثبت أيضاً في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أنتم منهم ثمانون) أي: أن هذه الأمة المحمدية ثلث أهل الجنة.
قال: [وقال ابن عمر: (قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] قال: يقومون في رشحهم -أي: في عرقهم- إلى أنصاف آذانهم)]، والحديث في الصحيحين.
قال: [وقال المقداد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد قدر ميل.
قال الراوي: لا أدري هذا الميل أهو ميل الأرض -يعني: المساحة المعروفة بالميل- أو أنه ذاك المرود الذي تكتحل به المرأة؟)]، فالعرب تسميه ميلاً، فتصور أن الشمس تدنو من رأسك قدر ميل، ولنعتبره على أحسن الأقوال ميل مساحة الأرض، وانظر إلى هذه الملايين من الأميال بين الشمس وبين رءوس العباد ومع هذا إذا اقتربنا من خط الاستواء قتل الناس حراً وزهقاً من شدة الحر، فما بالك والشمس فوق رأسك مباشرة؟ نسأل الله السلامة والعافية.
قال: [(فتصهرهم الشمس -يعني: تذيبهم أو تكاد- فيكون العرق على قدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبه، ومنهم من يأخذه إلى ركبته، ومنهم من يأخذه إلى حقوه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)].
بعض الملاحدة لا يعجبه هذا الحديث، ويقول: الناس في موقف واحد ومحشر واحد وأرض واحدة فكيف يختلفون في عرقهم على قدر أعمالهم مع أن الماء سيال؟ والرد عليه: أن الله تعالى على كل شيء قدير، كما أن الله تعالى قادر على أن يبعث هذا الملحد ويلجمه إلجاماً، أو يلقيه في النار ولا يبالي، فكما أننا نؤمن بهذا نؤمن بذاك، وليس هذا ببعيد، فإننا نعتقد أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مع أن القبر الواحد يدفن فيه البر والفاجر، الصالح والطالح، ومثال ذلك في حياة الناس: الرجل مع امرأته ينامان في موضع واحد وفي سرير واحد، فهذا يرى رؤيا طيبة وذاك يحلم حلماً سيئاً مفجعاً، فهذا يعذب بما رأى في حلمه، وذاك ينعم بما رأى في رؤياه، وكلاهما في موطن واحد.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان ينزل عليه الوحي في الليلة الباردة حتى يتصبب عرقاً وبجواره أصحابه لا يشعرون بشيء من ذلك، لا يشعرون بآلام الوحي وشدته التي كانت تنزل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو معهم في موطن واحد، فإذا كان هذا في حياة الناس فكيف لا نؤمن به في يوم القيامة؟ فالله تعالى على كل شيء قدير.
قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)]، أي: التي نطحتها.(60/6)
ما روي عن النبي في أن الجنة والنار مخلوقتان الآن
قال: [باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الجنة والنار مخلوقتان الآن]، وهما موجودتان مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان, وهذا معتقد أهل السنة والجماعة لا خلاف في ذلك، خلافاً لما ذهبت إليه المعتزلة والجهمية وبعض المرجئة، من أن الجنة والنار غير مخلوقتين الآن.
والأدلة متظاهرة متضافرة على أنهما مخلوقتان الآن، وقد دخل النبي عليه الصلاة والسلام الجنة فرأى فيها بعض النعيم، كما أنه اطلع على النار ورأى فيها بعض أهلها.
أما مكان وجود الجنة والنار فقد كثرت فيه الأقوال، وأعظم الأقوال هو الإيمان به والسكوت وعدم الخوض.
ومنهم من يقول: هي في الأرضين السبع، ومنهم من يقول: هي مكة وما حولها، ومنهم من يقول: بل هي في السماوات.
وهذه أقوال تحتاج إلى أدلة خاصة وأن هذا من أمور الغيب، وليس عندنا نص صريح في أن بقعة من الأرض هي من بقاع الجنة إلا ما بين بيت النبي عليه الصلاة والسلام ومنبره؛ لحديث: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة).(60/7)
شرح الأحاديث في إثبات وجود الجنة والنار الآن
قال: [وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)]، يعني: لا يدخل الجنة من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه إلا أن يعمل بمقتضى هذا الإيمان، وإلا كان لزاماً علينا أن نقول: إن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل، وهذا مذهب المرجئة كما هو مذهب الجهمية من باب أولى؛ لأن المرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق بالقول.
أما الجهمية فيقولون: الإيمان هو المعرفة القلبية بغير قول، وعلى مذهبهم ففرعون وإبليس مؤمنان، وإذا كان إبليس مؤمناً عند الجهمية فما بالك بمن دونه؟ فليس عندهم أحد يكفر بالله إلا من أنكر الله تعالى بقلبه ولم يعرفه.
أما أهل السنة والجماعة فإن الإيمان عندهم قول باللسان وعمل بالقلب والجوارح، ومن الأعمال ما هو شرط في صحة الإيمان، وهو الإيمان الواجب كما سماه ابن تيمية كما في الجزء السابع من مجموع الفتاوى فقال: الإيمان الواجب المتعلق بالواجبات والحلال والحرام، ومنه الإيمان المستحب، وهذا الذي ينفى في كثير من النصوص، نحو: (لا يؤمن أحدكم)، (ليس منا)، (أنا بريء)، (غضب الله)، (لعن الله) وكل هذه النصوص ظاهرها تدل على ترك الملة، ولكن معنى هذه النصوص -إن لم يستحل صاحبها مع قيام الحجة عليه- أنه نفي الإيمان المستحب الذي هو الإيمان الكامل.
فالنفي في هذه النصوص كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، والخوارج يحملون هذا النص على ظاهره وكذلك المعتزلة أن الزاني حين يزني كافر؛ لأن الأمر عندهم إيمان وكفر، وهذا الكلام قد شرحناه مراراً.
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أي: أدخله من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء.
قال: [وعن ابن عباس قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء)]، عندما تسمع هذا الحديث وأنت فقير لا تملك ما تتبلغ به إلى درس العلم فإنك لا تحزن حينئذ، لو أنك أتيت على قدميك إلى هذه المجالس المباركة الطيبة التي تتنزل فيها الرحمات، وتنزل فيها السكينة، وتغشاكم الرحمة من كل جانب، وتحضرها الملائكة، إذا كنت فقيراً لا تملك شيئاً وتعلم أن أكثر أهل الجنة الفقراء، وأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم أي: بخمسائة عام، فلن تحزن أبداً.
قال: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)، والحديث في الصحيحين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب)]، والقصب: الأمعاء، أي: يجر أمعاءه في النار، وهو أول من أشار على أهل مكة بعبادة الأصنام، فهو السبب الأول في عبادة الأصنام في مكة.
قال: [وعن ابن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي)].
فقوله: إذا مات، أي: سواء دخل القبر أو لم يدخله.
(إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده من الجنة والنار) ومن قبل ذكرنا حديث: (ما من آدمي مؤمن أو كافر إلا جعل الله تعالى له مقعداً في الجنة ومقعداً في النار، فيفتح له أولاً باب في قبره إلى مقعده من النار، فإذا فزع قيل له: هذا مقعدك من النار لولا أنك آمنت بالله ورسوله، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويفرش قبره بفرش من فرش الجنة) كما في حديث البراء رضي الله عنه.
قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) الغداة أي: الصبح.
والعشي أي: المساء.
قال: [(إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، حتى يبعثه الله يوم القيامة، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة).
وعن ابن عمر أيضاً قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي)]، وهذا فيه إثبات عذاب القبر ونعيمه.
قال: [(إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)،(60/8)
شرح الأحاديث في وصف الجنة والنار واختصامهما إلى ربهما
قال: [وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اختصمت الجنة والنار -أي: تحاجت الجنة والنار- فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال الله عز وجل للنار: أنتِ عذابي أصيب بكِ من أشاء، وقال للجنة: أنتِ رحمتي أصيب بكِ من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها -يعني: علي أن أملأ كل واحدة منكما- فإذا كان يوم القيامة لم يظلم الله عز وجل أحداً من خلقه شيئاً، ويلقي في النار فتقول: هل من مزيد، حتى يضع الله عز وجل قدمه فهناك تملأ وينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط)] أي: كفى، كفى.
وفي هذا إثبات أن لله تبارك وتعالى قدماً، وقد بينا قبل ذلك إثبات الساق لله عز وجل، وأن الساق أو القدم لله عز وجل ثابتة حقيقة بغير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، فهي ثابتة لله عز وجل كصفة من صفات ذاته، ولا تنفك عنه على المعنى اللائق بالله عز وجل، ليست كأقدام المخلوقين ولا كسوق المخلوقين.
قال: [وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم.
قال: فقضى بينهما، إنكِ الجنة رحمتي أرحم بكِ من أشاء، وإنكِ النار عذابي أعذب بكِ من أشاء، ولكليكما علي ملؤها).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، وهو أشد ما تجدون من الزمهرير)]، يعني: إذا رأينا حراً شديداً جداً لا يطاق فلنعرف أن هذا هو نفس النار في الصيف، وإذا رأينا برداً شديداً لا يكاد يحتمل فلنعلم أن هذا هو النفس الثاني للنار في الشتاء.
قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبردوا بالصلاة -أي: انتظروا بصلاة الظهر حتى يبرد الجو- فإن شدة الحر من فيح جهنم)] أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإبراد بالصلاة في شدة الحر؛ لأن شدة الحر من فيح جهنم، فلا يخرج أحدنا للصلاة فيصيبه لفح فيح جهنم ونارها وحرها وسمومها، فمن رحمة الله عز وجل ومن إشفاق النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الأمة أن أذن لنا في الإبراد.
وفي كتاب الطب النبوي: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء).
قال: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوها بالماء)].
والشاهد من هذه الأحاديث كلها: إثبات أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما موجودتان الآن، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوها بالماء) لا يمكن أن يكون هذا الحر الشديد من فيح جهنم وهي لم تخلق بعد.(60/9)
شرح حديث كسوف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان دلالته على أن الجنة والنار مخلوقتان
قال: [وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كسفت الشمس على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قياماً طويلاً فقرأ نحواً من سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً ثم رفع، فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول يقرأ فيه أيضاً، ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الركوع الأول، ثم سجد)]، أي: أن الركعة الأولى من صلاة كسوف الشمس عبارة عن قيامين وركوعين، وهي ركعتان، كل ركعة بقيامين يقرأ فيهما الفاتحة وما تيسر له من القرآن، والتطويل مستحب، ثم يركع ثم يقوم فيفعل في القيام الثاني كما فعل في القيام الأول أو أقل قليلاً، يقرأ بعد الفاتحة أربع مرات، وتكون القراءة جهراً، لأن صلاة الكسوف تؤدى نهاراً.
قال: [(ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً -يعني الركعة الثانية- ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس -يعني: ذهب كسوفها- ثم سألهم النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا تعدون هذا فيكم؟ -أي: ماذا تعدون كسوف الشمس في الجاهلية؟ - قالوا: يا رسول الله! لا يكون ذلك إلا لموت عظيم أو ميلاد عظيم -أي: الشمس لا تنكسف والقمر لا ينخسف إلا لميلاد عظيم أو لوفاة عظيم، وكانوا يتطيرون بذلك في الجاهلية- فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله.
قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت -أي: رجعت- قال: إني رأيت الجنة -أي: المخلوقة- أو أريت الجنة فتناولت منها عنقوداً، لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء.
قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: يكفرن.
قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير)] يعني: تكفر المرأة عشرة زوجها، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام كيفية هذا الكفر فقال: (يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً -أي: ولو يسيراً- لقالت: ما رأيت منك خيراً قط) فهذا هو كفران العشير، وهو كبيرة من الكبائر، لا يخلد صاحبه في النار، وصاحب الكبيرة لا يكفر إلا عند الخوارج، وهو عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين، أما عند أهل السنة والجماعة فإنه إن أقيم عليه الحد فالحد يدرأ عنه العذاب في الآخرة، والحدود كفارات لأهلها.
وإذا تاب إلى الله عز وجل من ذلك حتى قبل قيام الحد فالتوبة كفارة لأصحابها، وإذا مات مصراً على كبيرته فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
فهذه هي التي تكفر الإحسان، وما أكثرهن في هذا الباب وهذا الضرب! قال: [وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قياماً يصلون، فإذا هي قائمة -أي: تصلي- فقلت: ما للناس؟].
أسماء تسأل عائشة رضي الله عنها وهي في داخل الصلاة، تقول: لماذا يصلي الناس؟ لأن هذه صلاة ليست في العادة، لأن أسماء دخلت في غير وقت صلاة الفرض فرأت الناس يصلون، وأيضاً لأنها صلاة نهارية جهرية، فسألت عائشة تقول لها: ما للناس؟ ماذا يعمل الناس؟ وهذا كما حدث من معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، حين كان الكلام في داخل الصلاة في أول الأمر مباحاً، لما جاء من السفر ونظر إلى الناس سأل من بجواره، قال: (فضرب الناس أفخاذهم بأيديهم كأنهم يصمتونني).
وفي الرواية الأخرى أنه عطس فحمد الله، قال: (فنظر الناس إلي أو رماني الناس بأبصارهم، فقلت: ما لكم؟ كأنهم يسكتونني فسكت، فلما فرغت من الصلاة دعاني النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا معاوية! إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس -يعني: الكلام الذي ليس في مصلحة الصلاة- إنما هي لذكر الله ولقراءة القرآن).
قالت أسماء: [(أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قياماً يصلون فإذا هي قائمة، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء، وقالت: سبحان الله)] يعني: انظري للشمس وستعرفين السبب.
وقول عائشة رضي الله عنها: سبحان الله، هذا نوع من أنواع الذكر.
قالت: (فقلت: آية؟) أسماء لا تزال تجادل عائشة، وعائشة تستجيب لها، مرة تشير بيدها ومرة تسبح الله.
قالت: [(فقلت: آية؟ فأشارت إلي أن نعم -أي: آية من آيات الله- قالت: فقمت حتى تجلاني الغشي -أي: فقمت حتى علاني الإرهاق الشديد حتى كاد يغشى علي من طول ما قام النبي عليه الصلاة والسلام- فجعلت أصب فوق رأسي الماء -أي: وهي في الصلاة- فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار)]، وهذا الشاهد، أنه عليه الصلاة والسلام رأى ال(60/10)
ما روي في أن الرحمة مخلوقة وكذلك الموت والحياة
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الرحمة التي يتراحم بها الخلق فيما بينهم وإن كانت شيئاً معنوياً إلا أنها مخلوقة، والموت كذلك شيء معنوي وهو مخلوق، والحياة شيء معنوي وهي مخلوقة، فالله تبارك وتعالى خلق الأعراض والأجسام وخلق المعنويات وخلق كل شيء.
قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)]، هذا الحديث هو من أعظم أحاديث الرجاء، والتي تدل على سعة رحمة رب العالمين تبارك وتعالى، وأنه اختزن تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها الخلائق في عرصات القيامة، فإذا كانت هذه الرحمات التي يراها المرء على هذه البسيطة من جراء رحمة واحدة من رحمة الله عز وجل فما بالك بتسع وتسعين رحمة؟! وقد ذكرنا من قبل في الموازنة بين الخوف والرجاء: أن الخوف والرجاء هما بمثابة جناحي الطائر، ولا يمكن لأحد أن ينجو قط بين يدي الله عز وجل يوم القيامة إلا إذا حقق الخوف والرجاء، ولا بأس في حال الصحة أن يغلب شيئاً يسيراً من الخوف ليدفعه إلى العمل الصالح، وإذا كان في مرض أو كبر سن أو غير ذلك فليغلب جانب الرجاء حتى لا يقنط من رحمة ربه، وأن يحسن الظن بربه قبل أن يغادر هذه الحياة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء).
وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).
وهذا لا يكون إلا بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف، فإذا قرأت آية في الخوف فاقرأ مقابلاً لها في الرجاء، والعكس بالعكس.
وكذلك أحاديث الرجاء لا بد أن تضمها إلى أحاديث الخوف والعكس بالعكس، لأن الأمة -الآن- فرطت اتكالاً على رحمة الله عز وجل، ولو أنها علمت عذاب الله كما علمه السلف رضي الله عنهم لقل كلامهم وكثر عملهم، ولكن الأمة فرطت فكثر كلامها وقل عملها، فهذا نهج مخالف لما كان عليه من سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وبهذا الدرس ينتهي هذا المجلد وهو المجلد السادس من كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي، وموعدنا إن شاء الله تعالى مع المجلد السابع.(60/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - السحر، الكرامة، المعجزة، الحسد
السحر من الأمور المحرمة التي قد تؤدي بصاحبها إلى الكفر؛ لأنه يشتمل على ممارسة بعض الأمور الكفرية كالسجود للشيطان ونحو ذلك، والسحر له حقيقة وله تأثير على المسحور، وهو يختلف عن المعجزة والكرامة، فالسحر من لدن الشيطان، والمعجزة والكرامة من لدن الرحمن، مع وجود فوارق أخرى بين المعجزة والكرامة.(61/1)
تعريف السحر لغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الكلام عن السحر في باب واحد موجود في أصول الاعتقاد، وقد فرغنا منه، وإن كنت قد وعدت بشيء من التعريج على بعض المسائل المتعلقة بالسحر، وعلقت هناك على الواقع المر الأليم الذي تمر به الصحوة من تصدي كثير من الجهال لما يتعلق بهذا العالم الغيبي، كنت قد وعدت من قبل الكلام عن ذلك، فلما تكلمت كأني خرجت من وعدي في الكلام، ولكني فوجئت برجل يسلم لي في مسجد العزيز بالله ورقة فيها إعلان عن السحر، قال فيه: الشيخ أبو الأشبال أرسل إلي بهذه الورقة لتعلن عنها.
قلت: أنت تعرف أبو الأشبال؟ قال: نعم.
أنا أعرفه وهو الذي سلمني هذه الورقة، وهو يرجوك أن تعلن عنها.
قلت له: يا أخي أنا أبو الأشبال.
وأنا والله! لأول مرة آخذ خبراً بهذه الورقة، فضلاً أني سلمتك إياها.
وسأذكر لك قصة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، فإنه يروى عن أحد الوضاعين -أي: الكذابين في الحديث- أنه ظل يحدث الناس ليلة كاملة، وهو يقول في حديثه: حدثني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وكان أحمد ويحيى في المسجد، فلما فرغ الرجل القاص من قصصه، استدعاه أحمد ويحيى فقالا له: أتعرف أحمد ويحيى؟ قال: نعم.
أعرفهما، ومن لا يعرفهما؟! قال ابن معين: أما أنا فـ يحيى بن معين وأما هذا فـ أحمد بن حنبل، وأما أنا فلم أحدثك بهذا، أحدثته بهذا يا أحمد؟ قال: لا.
فقال الرجل متعجباً ومندهشاً من كلامهما: ما رأيت أحمق منكما، أتظنان أنه ليس في الدنيا إلا أنتما أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؟! لقد حدثت عن مائة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين.
فهذا يزعم أني سلمته الورقة، فاستوثقت منه، وهو الذي سلمني الورقة، وأنا لم أسلمه الورقة، لكني أجد نفسي مضطراً للرجوع إلى وعدي الأول للتعليق على بعض المسائل المتعلقة بالسحر: فنبدأ بتعريف السحر لغة، واللغة إنما وضعت تعريفاً محدداً، إما في لغة العرب، وإما معنى لمعنى السحر، هذا التعريف يدور حول أن السحر في لغة العرب يطلق على كل شيء خفي سببه، ولطف، ودق.
يعني: شيء خفي، غامض، لكنه قائم على السبب، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر، وتصف ملاحة العينين بالسحر، يقال: فلان عيناه كالسحر، أو لما نظر إلي سحرني، أبهرني ببريق عينيه، أو بنظرته إلي؛ لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء، كما يوصف البيان بالسحر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً)، وإنما كان بعض البيان سحراً؛ لأنه يروق للسامعين، ويحلو لهم، ويستميل قلوبهم، ويغلب على نفوسهم، ويحول الشيء عن حقيقته، ويصرفه عن وجهته.
والسحور وهو الطعام آخر الليل، سمي سحوراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، بعيداً عن أعين الناس.
والرئة وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن.
وتطلق العرب السحر على الخديعة، والمكر، والتمويه؛ لأنه يخفى سببها ويدق، ومنه قول لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير في هذا الأنام المسحر فمعنى السحر في لغة العرب: هو الشيء الذي دق سببه وخفي ولطف، بحيث لا يدرك.
امرأة نظرت إليك فسحرتك، بحيث إن قلبك يكاد أن ينخلع من مكانه؛ لمجرد أنها نظرت إليك.
فتقول: هذه المرأة سحرتني، في حين أنها ليست ساحرة ولكن نظرتها إليك فيها معان خفية جعلت قلبك ينخلع من مكانه، فأنت تعبر عن هذا الشيء الخفي بالسحر في حين أنها ليست ساحرة على الحقيقة.
وكذلك الأداء أو البيان، البيان في أصل الكلمة، أو في كيفية إخراج الألفاظ والجمل، فالذي يسمع الشيخ محمد صديق المنشاوي ليس كالذي يسمع غيره، وأظن أن من ألف وأدمن سماع الشيخ المنشاوي لا يمكن أبداً أن يستغني عنه، ولا يمكن كذلك أن يشبع منه، فالقرآن كذلك له سحر في القلوب، ولذلك الأمر يختلف تماماً بين أن تسمع آية من كلام الله وأن تسمع معنى هذه الآية، فمعنى الآية ربما يمر عليك بغير تأثير، بخلاف أن تسمع كلام الله عز وجل فله تأثير خفي في القلب ربما جاز لك أن تعبر عن هذا المعنى بالسحر، وليس سحراً لكنك لا تملك إلا أن تعبر أن القرآن له تأثير عظيم في القلب، هذا التأثير تعبر عنه مرة بالتأثير، ومرة بالسحر (إن من البيان لسحراً)، وكلام الله عز وجل في قمة البيان وا(61/2)
تعريف السحر اصطلاحاً
أما تعريف السحر في اصطلاح العلماء: فقد عرفنا من قبل أن لكل مصطلح تعريفاً لغوياً، وتعريفاً اصطلاحياً، فإذا أردنا مثلاً أن نعرف السنة قلنا: السنة في اللغة هي الطريقة سواء كانت هذه الطريقة محمودة أو مذمومة، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، فالسنة في اللغة تختلف عن السنة في الاصطلاح؛ لأن السنة عند الأصوليين لها معنى، وعند الفقهاء لها معنى، وعند المحدثين لها معنى، وغير ذلك.
فإذا قلنا: السحر في لغة العرب: هو كل شيء خفي سببه، ودق، ولطف، فلا بد أن يشترك المعنى اللغوي مع المعنى الاصطلاحي الذي وضعه العلماء، وهو الذي يعرف عند أهل الاصطلاح بالحد، والحد هو التعريف، وربما يكون بين كلمة الحد والتعريف فروق لكن اصطلح أهل العلم على أن حد الشيء هو تعريفه، والعلماء يشترطون في كل حد شرطين: الأول: أن يكون جامعاً، والشرط الثاني: أن يكون مانعاً، أما الجامع فهو: الجامع لأوصاف، وأركان، وشروط التعريف، وسمي جامعاً لأنه جمع جميع الأوصاف والشروط والأركان المتعلقة بهذا المصطلح، واشترط أن يكون مانعاً حتى لا يدخل غير المعرف أو المحدود في هذا الحد، فمثلاً: الصاحب في اللغة: هو من طالت ملازمته لصاحبه، وفلان صاحبي يختلف عن فلان رفيقي، والرفيق يطلق على رفيق الطريق، أما الصاحب ففيه معنى الملازمة وطول الصحبة، لكن لشرف النبي صلى الله عليه وسلم فإن من نظر إليه ورآه ولو للحظة تثبت له الصحبة، هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك إثبات الصحبة لـ أبي بكر كإثباتها لرجل أتى من البادية فنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى وإن لم يكلمه، أو لرجل عمي أو كان أعمى فحضر مجلس النبي عليه الصلاة والسلام، ثم انطلق أو مات عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فتثبت له الصحبة.
فحينئذ إذا أردت أن أضع تعريفاً جامعاً مانعاً -أي: جامعاً للأوصاف، مانعاً من دخول الغير فيه- لمعنى كلمة صاحب، فأقول: الصاحب هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وهذا لا يصح أن يكون هو معنى الصاحب، لأنني قلت: الصاحب هو من رأى، وهذا مصطلح لا يطلق إلا على من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أننا سنخرج من الصحبة من كان أعمى؛ لأننا قلنا: الصاحب هو من رأى، والأعمى لا يرى، ولو أني قلت: الصاحب هو من لقي فاللقاء يثبت للأعمى والمبصر، فحينئذ يكون هذا التعريف من التعاريف الجامعة المانعة.
ولذلك إذا نظرنا إلى أقوال أهل العلم في تحديد معنى دقيق للسحر نجد أنهم يختلفون اختلافاً بيناً في تحديد معنى السحر، وكل تعريف لا يخلو من نقص؛ إما أنه جامع غير مانع، أو مانع غير جامع، ولن يستقر الأمر على تعريف محدد دقيق مانع جامع لأوصاف السحر وأركانه وشروطه، ومرد ذلك إلى خفاء السحر، وتعلقه بالغيب، وقوة التأثير النفسية له، فلما كان هذا من الأمور الغيبية الدقيقة اختلفت أقوال أهل العلم في وضع تعريف جامع مانع لمعنى السحر، لكنهم على أية حال ذكروا أوصافاً وشروطاً، هذه الأوصاف والشروط، وتلك العلامات والأمارات لو عرفناها لكان ذلك مغنياً لنا عن هذه الطاحونة في التعاريف التي ذكرها العلماء.
فمثلاً: الجصاص رحمه الله يقول: السحر اسم لكل أمر خفي سببه، وتخيل على غير حقيقته، وجرى مجرى التمويه والخداع.
وبلا شك أن هذا التعريف يحتاج إلى نقد؛ لأننا لو أنزلنا هذا التعريف على قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً) فلن يستقيم هذا، وغير ذلك من التعاريف، كـ الفخر الرازي، وكذلك ابن خلدون، وغير واحد ممن عرف السحر.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: سحر الأدوية والتدخين ونحوه ليس بسحر، إن سمي سحراً فعلى سبيل المجاز، كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً، ولكنه حرام لمضرته، يعزر من يفعله تعزيراً بليغاً.
وهذا أيضاً لا يستقيم أن يكون تعريفاً لمعنى السحر.
وكذلك يقول سيد قطب رحمه الله في تعريفه للسحر: إن السحر خداع الحواس، قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، أي: لما نظر موسى عليه السلام إلى عصي السحرة لما ألقوها فخيل إليه أنها حيات تسعى، وهذا بلا شك تخيل، وتمويه، وخداع للعين، والعين حاسة، فقال: إن السحر خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والمشاعر، وهو لا يغير من طبيعة الأشياء، وقد قلنا في الدرس الماضي: من السحر ما يغير طبيعة الأشياء، ومنه ما لا يغير طبيعة الأشياء.
قال: ولا ينشأ حقيقة جديدة لها، ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر.
أما الذين ذهبوا إلى أن للسحر حقيقة فقد عرفوه بمثل ما عرفه به ابن خلدون، فقال: السحر علوم بكيفية(61/3)
الفروق بين السحر والمعجزة والكرامة(61/4)
السحر مكتسب والمعجزة والكرامة هبة ومنحة من الله لأوليائه
ومن الفروق الدقيقة بين السحر، والمعجزة، والكرامة: أن السحر علم مكتسب يحصل بالتعلم والصناعة، والعلوم منها ما هو مكتسب، ومنها ما هو جبلي، كما أن من الحسد ما يكون جبلياً ومن الحسد ما يكون علماً، شخص يعرف أصول الحسد، ويحرص عليه، ويتابع أخبار الحساد أولاً بأول، وآخر ما وصل إليه الحاسد أو الحسود، ولذلك سنتعرض للحسد عند الكلام عن السحر، وسنذكر التفريق بينه وبين السحر لما بينهما من مفارقات واشتراكات، فالسحر علم مكتسب تماماً، كما أنك تتعلم العلم الشرعي، تجلس لتتعلم العلم الشرعي هذا اكتساب، فالعلم الشرعي لم يأتك من السماء وإنما أنت سعيت له لتتعلمه فهذا كسب منك في طلب العلم، وكذلك السحر، والدليل على ذلك حديث صهيب عند الإمام مسلم في كتاب الفتن أو كتاب القدر: (أنه كان ملك ممن كان قبلكم له ساحر يسحر له، فلما كبر الساحر قال للملك: لقد رق عظمي، وحضر أجلي، وكبر سني، فأرسل إلي بغلام أعلمه السحر) أي: حتى يكون خليفة له، والشاهد من الحديث: (أعلمه السحر)، فالسحر علم مكتسب.
وقال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، يعني: يتعلمون من هاروت وماروت علم السحر الذي به يستطيعون أن يفرقوا بين المرء وزوجه.
وقال تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه:69]، وقال موسى لسحرة فرعون: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، فهذه الآيات وهذا الحديث تدل دلالة واضحة على أن السحر علم ويأتي عن طريق التعلم، وهو يتم بمعاناة أقوال وأفعال، وتعلم السحر حرام، وسيأتي معنا هذا الحكم بأدلته، لكن لا بد لمن تعلم السحر أن يتعلمه عن طريق القول والفعل.
أما الكرامة فلا تحتاج إلى شيء من المعاناة؛ لأنها هبة ومنحة من الله تعالى لولي من أوليائه، وعبد من عباده الصالحين، كالغلام الذي جاءت قصته في حديث صهيب: (لما كان يذهب إلى الساحر كان يمر براهب في الطريق فيقعد إليه ويسمع منه حتى إن كلامه أعجبه، فذات يوم وهو ذاهب إلى الساحر وجد دابة عظيمة قد حبست الناس، ومنعتهم من السير، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم ألقى بالحجر فقتله).
قال العلماء في شرح هذا الحديث: وفي هذا إثبات كرامات الأولياء، كما أنه في نهاية الأمر قال للملك الجبار الطاغية: (إنك لا تستطيع أن تقتلني إلا إذا فعلت ما آمرك به، قال: وما هو؟ -أي: وماذا تأمرني به؟ - قال: أن تأخذ سهماً من كنانتي، فتضعه في كبد القوس، وتصلبني على جذع نخلة وتجمع الناس في صعيد واحد ثم تقول: باسم الله رب الغلام، فإذا فعلت قتلتني وإلا فلا، فلما فعل الملك قتله، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام).
والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله لما كان يقال له: فلان مصروع أو فيه مس أو شيء من هذا، كان يرسل نعله، وكان أحمد بن حنبل يرسل نعله، فإذا رأى الجن نعل أحمد قال: والله لو أمرني أحمد بن حنبل أن أخرج من بغداد لخرجت، وليس من بدن المصروع فحسب، فهذه المسألة متعلقة بتقوى الله عز وجل، وبقوة الإيمان، ورسوخ اليقين في قلب العبد، فما بالنا نجد الشاب في هذه الأيام لا يحفظ شيئاً من القرآن، ولا يحسن الصلاة ولا الصيام، ولا شيئاً من العبادة ثم هو يذهب بنفسه إلى المصروع فيضربه، ويحرقه بالنار أحياناً، ويشتمه، ويبصق في وجهه ويفعل الأفاعيل، ولا زال الجني يتلاعب به، وهذه المسألة ليست صناعة بل هي من كرامات الأولياء، وهبة من هبات الله عز وجل، ومنحة من منحه لعباده الصالحين.
وهذا بخلاف المعجزة، فالمعجزة تعطى لأنبياء الله ورسله، كما أن الكرامة لعباد الله الصالحين من أوليائه دون الأنبياء والمرسلين، أما المعجزة فهي للأنبياء والمرسلين، فلا يقال لأمر خارق للعادة على يد ولي من أولياء الله: هذه معجزة؛ لأن المعجزة لا تكون إلا مع نبي خلافاً للكرامة فإنها مع الولي.
يقول ابن خلدون: المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير، فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك، والساحر إنما يفعل ذلك من عند نفسه، وبقوته النفسانية الشريرة، وبإمداد من الشياطين في بعض الأحيان.
إذاً: السحر علم مكتسب، والكرامة هبة ومنحة من الله تعالى، وكذلك المعجزة، لكن المعجزة تكون على يد أنبياء الله ورسله، هذا هو الفارق الأول بين السحر والكرامة والمعجزة.(61/5)
المعجزة والكرامة من خصائص الأنبياء الصالحين
الفارق الثاني: المعجزة والكرامة لا تظهر على فاسق قط، والفسق هو الخروج، وسمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خارج عن طاعة الله عز وجل، منتهك لحرمات الله تعالى، غير منقاد للأمر، مرتكب للنهي، والكرامة والمعجزة لا يمكن أن تكونا على يد فاسق، وأعدل الخلق هم الأنبياء والمرسلون، ولذلك خصهم الله تعالى بالمعجزات التي هي كرامات وزيادة، فالمعجزة والكرامة يستحيل أن تظهر على يد فاسق، والسحر لا يظهر إلا من فاسق، هذا فارق جوهري بين الكرامة والمعجزة من ناحية وبين السحر من ناحية، فالسحر لا يتعاطاه إلا الفساق، وربما الكفار، أما المعجزة والكرامة فيختلفان عن ذلك تماماً، فلا يظهران على فاسق، فالنبي الذي تظهر المعجزات على يديه أفضل الناس نشأةً، ومولداً، ومزية، وخلقاً، وخلقاً، وصدقاً، وأدباً، وأمانة، وإشفاقاً، ورفقاً، وبعداً عن الدناءات، والكذب، والتمويه، أما الساحر فعلى العكس من ذلك كله لا تجده في موضع إلا ممقوتاً، حقيراً بين الناس، وأصحابه وأتباعه ومن كانوا على شاكلته لا تجدهم أبداً إلا مبطلين، ملعونين، مشتومين على ألسنة الخلق، ولذلك فإن الحافظ ابن حجر يبين كما بين شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله أنه هناك أمارات وعلامات يعرف بها الأمر الخارق للعادة؛ لأنه يلتبس على العامة، فإذا مشى رجل على الماء قلنا لأول وهله: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، هذا رجل من أولياء الله الصالحين، وإذا طار رجل في الهواء قلنا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله هذا رجل من الأولياء، ولا يلزم من ذلك أن يكون من أولياء الله، بل ربما يكون الذي طار في الهواء من أفسق الناس وأكفرهم، وربما يكون الذي مشى على الماء من أفجر الناس وأفسقهم، إذاً فما هو الضابط الذي يعرف به ما إذا كان هذا الأمر الخارق للعادة كرامة أو سحراً؟ يقول ابن تيمية عليه رحمة الله: إذا رأيت الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تغتر بذلك حتى تنظر إلى موقعه من الشرع، فإذا كان من أهل الطاعة والانقياد والاستسلام لله رب العالمين فإن الذي يجري على يديه كرامة، وإذا كان غير ذلك فاعلم أنه من أعمال السحر.
فالأول من أولياء الرحمن والثاني من أولياء الشيطان، وإن كان الفعل واحداً، ولا يزال أهل ريف مصر وبالذات في هذه القرى والنجوع البعيدة عن حضارة العلم، وعن انتشار العلم وذيوعه، وانتشار عقيدة التوحيد إذا دفنوا ماجناً، أو فاسقاً، ممن يسمى بشيخ التصوف، أو القطبي، أو الغوثي، نجد في جنائزهم صيحات وويلات، وتهليلات، كما أننا لا نسمع شيئاً، وإنما هي حكايات يلبسون بها، ويفسدون بها عقائد العامة، يقولون: القطب الفلاني أثر في حامليه حتى دكهم في الأرض دكاً، ونسمع أنه طار بنعشه في الهواء وما رأينا شيئاً من ذلك، وهذا كله كذب، هب أنه صدق وهب أن هذا حدث بالفعل لا يلزم منه أن الفاعل لذلك ولي، ولمَ لا نقول: إن الشيطان هو الذي فعل ذلك، حمل النعش وطار به في الهواء؟ كذلك يمتنع إساءة الظن حتى ننظر في عمل هذا الميت، أو في عمل الحي، فإذا كان صالحاً من أهل الصلاح والتقوى والالتزام الشرعي فهذه كرامة أجريت له بعد موته على يد ملائكة صالحين، وإذا كان عكس ذلك فهذه خارقة من خوارق العادة ومن باب السحر والشعوذة جرت على يد إبليس وأعوانه، فلا يجوز لنا أن نحكم لفلان أو على فلان حتى ننظر أين موقعه من الشرع، هذا ما نبه عليه الحافظ ابن حجر وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال ابن حجر رحمه الله: ينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه؛ فإن كان متمسكاً بالشريعة متجنباً للموبقات المهلكات، والمعاصي الكبائر، فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر؛ لأنه ينشأ عن أحد أعوان الشياطين.
ويقول ابن تيمية عليه رحمة الله في السحرة والعرافين والكهان والمجتهدين في العلم والزهد والعبادة، أنهم لا علاقة لهم بالعلم، ولذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يدخل صوامع العباد ويضربهم على ذلك حتى يتعلموا كيف يعبدون الله تعالى، أما أن يدخل رجل لا علاقة له بالعلم الشرعي، ولا يدري متى تصح الصلاة ومتى لا تصح؟ متى يصح الصيام ومتى يفسد؟ وإذا سها في الصلاة ماذا يفعل؟ وهو لا يعرف شيئاً من ذلك، كان علي بن أبي طالب يضربه ويقول: تعلم أولاً ثم تزهد، ولذلك كثير من الزهاد والعباد بينهم وبين العلم بون شاسع.
وقد ذكر ابن الجوزي عليه رحمة الله في كتاب تلبيس إبليس في باب التلبيس على العباد والزهاد مخازي وفضائح، أذكر منها: أن عالماً زار عابداً وفي حين زيارته أتى العابد سائل -ولا علم للسائل بهذا العالم، فالناس اعتادوا أن يتوجهوا في قضاياهم إلى ذاك العابد- فقال: أيها العابد! إن الدجاجة وقعت في البئر، فماذا أصنع؟ هل هو باق على طهوريته أم قد تنجس؟ فقال العابد: ولم وقعت؟ قال: لأن البئر لم يكن مغطى.
قال: هلا غطيته، وقام العابد إلى السائل يضربه.
تصور أن يكون هذا جو(61/6)
المعجزات حقيقية وليست تخيلية
الفارق الثالث: أن معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على حقائقها، يعني: لا يمكن أن يقال في المعجزة أنها من باب التخيل والتمويه والخداع، فلا يقول أحد: إن هذا القرآن ليس قرآناً حقيقياً، وليس كلام الله تعالى حقيقة، بل هو تمويه وخداع، ولو قال ذلك أحد لكفر.
إذاً: المعجزات حقيقية وليست من باب التخيل ولا الأوهام، وبواطنها كظواهرها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، والذي يقرأ كلام الله تبارك وتعالى مرة يستفيد فائدة، فإذا أعاد قراءة نفس الآيات ازداد فائدة ثانية، وثالثة، ورابعة، ولا يزال هذا القرآن كنوزه وفوائده دائمة إلى قيام الساعة، حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وكلما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها، ولو جهد الخلق كلهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها ظهر عجزهم عنها.
والمعجزة فيها نوع التحدي، ولذلك فإن الله تعالى تحدى العرب وهم أبلغ الخلق على الإطلاق أن يأتوا بعشر سور، أو بسورة، أو بعشر آيات، فعجزوا مع بلاغتهم وفصاحتهم، والنبي صاحب معجزات كثيرة لكن أعظم معجزة أتى بها النبي عليه الصلاة والسلام هي معجزة القرآن الكريم، الذي هو كلام الله تعالى، ومخاريق السحرة وتخيلاتهم إنما هي ضرب من الحيل والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، يلقي العصا على الأرض فيراها الناظر إليها حية تسعى، فهذا تخيل وأوهام.(61/7)
السحر ليس فيه شيء خارق للعادة
وما يظهر منها على غير حقيقتها يعرف ذلك بالتأمل والبحث ومتى شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ولذلك قال الراهب للغلام لما قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتلها، فلما رماها بحجر قتلها، ولما ذهب إلى الراهب وقص عليه ما كان منه قال الراهب: إنك اليوم أفضل مني، أي: بلغت مبلغي وزيادة، ولو أن شخصاً لا علاقة له بالسحر يذهب ليتعلم السحر على يد فلان من الناس قد يتفوق عليه، أما الكرامة فلا يمكن أن نتعلمها؛ لأن الكرامة والمعجزة منحة من الله، الأولى على يد ولي، والثانية على يد نبي أو رسول، بخلاف السحر فإنه علم يتعلمه صاحبه، ومصدره الشيطان، وإذا أراد أحد أن يتعلم السحر ربما فاق المعلم، أو ضاهاه، أو قاربه، حتى ولو بذكائه، لكن المعجزة ليست من هذا الباب، لا تخضع لتعليم، وكذا الكرامة لا تخضع لتعليم.
وقد تناول الإمام القرافي هذا المعنى في الفرق بين السحر والمعجزة، حيث قال: الفرق بينهما أن السحر والطلسمات والسيمياء ليس فيها شيء خارق للعادة؛ بل هي عادة جرت من الله بترتيب مسبباتها على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس بل للقليل، ولذلك ليس كل الناس سحرة، وهناك بقاع من الأرض يغلب عليها السحر، فمثلاً: بلاد المغرب العربي وبالذات دولة المغرب فإن السحر فيها مثل (السلام عليكم)، وضع طبيعي جداً، وأنا يحزنني جداً أن أقول: إن العلماء السلفيين وطلاب العلم السلفيين متأثرون بالسحر، وهم منتشرون في أمريكا بالذات؛ لأن بلاد المغرب أقرب البلاد العربية لأمريكا، فبينهما المحيط، ومع هذا لا يزال عندهم لوث السحر، وإذا راجعتهم غضبوا غضباً شديداً جداً، مع صحة اعتقادهم في العموم، فهذا الباب كأنهم مسحورون فيه أيضاً، حتى إن أحد الإخوة الطيارين من بلاد السعودية كان استنصحني ذات مرة أن يغير طريقه من القاهرة جدة إلى جدة المغرب، فقلت له: احذر السحر، وما سمع الكلام حتى ذهب إلى هناك فسحرته امرأة في مطار المغرب؛ لأن السحر عندهم في وضع طبيعي جداً، حتى إن الساحر يسحر الساحر، فالسحر في المغرب أعظم انتشاراً من أمريكا وأوروبا، مع اشتهار السحر في تلك البلاد، لكنه في المغرب أكثر من ذلك بكثير.
قال: بل هي عادة جرت من الله بترتيب مسبباتها على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس، بل للقليل منهم كالعقاقير التي تعمل منها الكيمياء، والحشائش التي يعمل منها النفط الذي يحرق الحصون والصخور، والدهن الذي من ادهن به لم يقطع فيه الحديد.
وقد جرت مناظرة بين ابن تيمية وبين الرفاعية، فقالوا له: ندخل النار وأنت معنا؛ والذي يحرق منا دليل على فساده، والذي لا يحرق دليل على صلاحه، فوافق ابن تيمية على ذلك نصراً للدين، وتوكلاً على الله، ويقيناً في الله، وقال: ولكن لي شرط، أن يغتسل الجميع قبل دخول النار، لأنه يعرف أنهم سوف يتدهنون بنوع من الدهن لا يتأثر بالنار، ولا تؤثر فيه النار، فرفضوا على الفور، فعلم أنه صاحب الحق.
وكذلك إذا وجدت أسباب السحر الذي أجرى الله به العادة حصل، فالسحر مترتب على درجات وأسباب، إذا أتى الساحر بهذه الدرجات وتلك الأسباب حصل السحر، وكذلك السيمياء، وغيرها.
فالمعجزة في نهاية الأمر لا يمكن مضاهاتها، ولا يعلم البشر لها سبباً، أما السحر فله أسباب خفية، هذا فارق بين المعجزة وبين السحر، لا يمكن لشخص أن يأتي بمعجزة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أتى بهذه المعجزة تحداه بلغاء العرب الذين لم يؤمنوا بالله، وقالوا: نحن باستطاعتنا أن نأتي بقرآن مثل قرآنك وأحسن منه، فأتوا بفضائح ومخازي حتى إن بعضهم قال لبعض: إنكم لتعلمون أننا نعلم أنكم كاذبون، يعني: نحن كتبناه مع بعض وفهمنا أن هذا سحر، ودجل، وشعوذة، وكلام فارغ، لا يصلح أن يكون من عند العقلاء فضلاً أن يكون من رب العالمين.
وقد استطاع البشر في هذا العصر أن يصلوا إلى هذا الذي وصل إليه الجن، فقد دار الحوار بين سليمان عليه السلام وبين الطير والدواب والهوام والحشرات وغير ذلك، قال تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38]، فقال له أحدهم: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]، فالعالم كله مسخر لسليمان عليه السلام، وهذا ملك خاص به عليه الصلاة والسلام، هذا ليس معجزة للطير، ولا للهدهد، وإنما معجزة لسليمان عليه السلام؛ لأنه صاحب السلطان في هذا البلد، ولا أدل على حصول ذلك للأنبياء ما قد وقع وتم في هذا الزمان من الاتصالات الهاتفية، واللاسلكية، وسرعة الضوء، وسرعة الكهرباء، فإن ملايين الأميال في الثانية الواحدة لسريان التيار الكهربائي في الأسلاك.
فكذلك الشياطين يضلون بهذا العباد ولا يمكنون العباد من الاستفادة منها إلا إذا عبدوهم من دون الله، والانتقال من مكان إلى مكان بسرعة فائقة أصبح اليوم يتم في وقت قصير، والمسافر من المدينة إلى الشام أو من المدينة إلى مصر كان يستغرق عشرين يوماً وأحياناً ش(61/8)
المعجزة لا يمكن إبطالها ولا يجوز
الفارق الرابع: أن المعجزة لا يمكن إبطالها، ويحرم تعرضها للبطلان، أي: يحرم علينا أن نقول: نحن جربنا القانون الفرنسي، والإيطالي، والإنجليزي، والأمريكي، ولم تنفع هذه القوانين، ما رأيك في أن نجرب الشرع؟ الشرع لا يخضع للتجربة؛ لأن الذي يخضع للتجربة إما أن تثبت صحته أو بطلانه، أما الشرع فصحيح كله، لا يرد منه شيء، ولا يتبدل ولا يتغير، هذه قوانين أرضية لا يمر عليك عام إلا وتسمع أن القول الفلاني تغير، وتبدل، وزودوا فيه، ونقصوا منه، وثبت فشله، أما القرآن الكريم والسنة النبوية فهما وحي الله، كلام اللطيف الخبير، الذي خلق الخلق وهو أعلم بما ينفعهم ويضرهم، فشرع لهم أمراً ما ينفعهم، وشرع لهم نهياً ما يضرهم، وأمرهم بائتمار الأمر واجتناب النهي، وهذا هو دين الله، فالمعجزة لا يمكن إبطالها.
ولذلك تكلم بعض أهل العلم من المعاصرين فقالوا: هذه النظريات العلمية الحديثة التي يأتي بها علماء الطبيعة والفيزياء أو الكيمياء أو علماء الأرض والبيولوجيا والسيلوجيا، هذه نظريات صحيحة لتعلقها بالآية الفلانية، أو الآية الفلانية تشهد لها، ثم يأتي من بعدهم أقوام يثبتون بطلان النظرية، فاللازم لبطلان النظرية يستلزم بطلان الآية؛ لأنه لما أثبت صحة النظرية ربطها بالآية، فهذا باب خطير جداً ومزلق شر عظيم، هذه النظريات العلمية كثر الله خيرهم الذين بذلوا جهدهم المضني المشكور في إثبات ما قد اعتقدوا أنه صحيح، لكن لا يلزم من ذلك ربطه بالكتاب والسنة؛ لأنه يلزم في بطلان النظرية عند هؤلاء بطلان الدليل.
فالمعجزة لا يمكن إبطالها، أما السحر فإنه يمكن إبطاله، ولذلك من الطبيعي جداً فك السحر، وإبطال مفعوله، وتأثيره، لكن لم نسمع شخصاً يقول: نريد إبطال هذا القرآن، فهذا مستحيل! المعجزة لا يمكن إبطالها بينما السحر يمكن إبطاله، إما أن يبطله ساحر مثله أو أعلم منه، ولذلك تقوم صراعات وحروب بين السحرة وشياطينهم، وإما أن يبطله أهل التقى والإيمان بما أعطاهم الله من اليقين، وبما يتلونه من آيات الكتاب، والأدعية، والأذكار، وقد حدث أن حضر بعض الأتقياء عند بعض هؤلاء المنحرفين فقرأ آية الكرسي في أثناء إتيانه بأسباب السحر، وهذا يتم كثيراً وكثيراً بين إخواننا أصحاب العقيدة السليمة وبين السحرة بالذات في القرى، وهذا قد حدث من قبل، وأذكر أن حداداً في قريتي ما ترك عريساً في عرسه إلا وربطه، كان بالنهار يعمل حداداً وفي الليل يسحر، فلما تقابلنا في الشارع قال: يا شيخ حسن أنت لا تريد أن تتزوج أم ماذا؟ قلت: والله ما دامت الكلمة أتت منك فأنا إن شاء الله زواجي في الخميس القادم، قال: إن شاء الله في الصبيحة تأتي إلينا ومعك المعلوم، قلت: لن يكون بإذن الله، وأتحداك، والله لن تقدر على ذلك، وأعطاني الله تعالى في ذلك الوقت من اليقين ما تحديت به هذا الأفاك الفاسق، مع كبر سنه فإنه قد بلغ من العمر ثمانين عاماً، وفي الحديث: (شر الناس من طال عمره وساء عمله)، فلما أتيت بزوجتي من بلدها والله ما قدر أن يفعل شيئاً، وهذا من فضل الله عز وجل، ونعمته، وهبته، ولست ولياً من أوليائه، فعندي من المعاصي أكثر من الطاعات، لكن الله تعالى نصرني في هذا الموقف تثبيتاً لإيمان الموحدين في هذه القرية، حتى يعلم هذا المبطل أنه لا يصدر إلا عن أمر الشيطان، وأنه والشيطان في قبضة الله عز وجل، فما استطاع أن يفعل شيئاً، وما كنت أريد أن أذكر ذلك لكني ذكرته لتثبيت اليقين والإيمان في قلوب كثير من السامعين.
قال: وقد حدث أن حضر بعض الأتقياء عند بعض هؤلاء المنحرفين فقرأ آية الكرسي فلم يستطع أن يفعل الساحر شيئاً، وطار بعض هؤلاء في الهواء فلما هلل الموحدون سقط المحمول ووقع، أي: فر الشيطان وتركه، وهذا في الحقيقة حاصل في قرى كثيرة جداً، وهناك أخ وصديق من قريتي ذهب إلى ساحر في القرية المجاورة، فلما استدعاه المسحور وقال له: أنا ذاهب إلى فلان، قال: هو لا ينفعك، والذهاب إليه معصية وكبيرة من الكبائر، ورد للأعمال الصالحة وغير ذلك، فقال له: لقد كشف الضر عن فلان، وفلان، وفلان، وشيء من هذا، قال: فإنه إن شاء الله لا يكشف عنك شيئاً إنما يكشفه الله، وذهب معه إلى الساحر، ووضع رأسه بين يديه عند الساحر وظل يتلو كتاب الله عز وجل حتى جن جنون الساحر وغضب واحمر وجهه ثم اسود، وقال: أخرجوا هذا من عندي، أنت ماذا تصنع؟ قال: أنا لا أصنع شيئاً غير أني أقرأ الإخلاص والمعوذتين، فهذا القرآن أبطل سحره.
ولذلك العصمة دائماً في كتاب الله، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أما اعتقاد أن هذا الساحر ينفع ويضر فهذا ضرب عظيم من ضروب الشرك بالله عز وجل، وكثير من الناس العامة وبعض الإخوة الذين لم ترسخ العقيدة في قلوبهم إذا أصيب بمس، أو صرع، أو جن، أو شيء من هذا، أو سحر، ذهب فوراً إلى الساحر، وربما ذهب إلى الكنيسة ليعالجه ويدفع عنه الضر قسيس مجرم من المجرمين، هو يعتقد أن العلاج في الكنيسة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا باب عظيم جداً من أبواب الشر.
ويذكر(61/9)
السحر يحصل من الساحر وغيره بخلاف المعجزة
الفارق الخامس: السحر يوجد من الساحر وغيره، أخت من أخواتنا تريد أن تتعلم إخراج السحر من البدن، وتعالج المصروع، فحدث أنها ذهبت إلى أخت لتعالجها من الصرع، فشعرت بشيء يدخل في دبرها ولم تتمكن من طرده، فخرجت وهي امرأة منتقبة عارية الرأس حافية القدمين تبكي وتولول في الشارع، ثم أصابها من الذعر والخوف ما الله به عليم، حتى إن زوجها إذا أتى من صلاة الفجر كانت تنتظره خلف باب العمارة من جهة الشارع، تنزل من شقتها وتنتظر خلف باب العمارة في الشارع، فقد أصابها من الرعب والذعر الشيء العظيم؛ لأنها دخلت في باب لا تحسنه، فالسحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يوجد جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد، والمعجزة لا يمكن أن يأتي أحد بمثلها، أي: السحر قد يأتي به واحد أو اثنان، أو جماعة، لكن المعجزة لا يأتي بها إلا واحد.(61/10)
المعجزة فيها تحد بخلاف الكرامة
الفارق السادس: أن المعجزة فيها شيء من التحدي، خلافاً للكرامة، فالولي لا يتحدى لأنه لا يزكي نفسه، والنبي تحدى قومه بالمعجزة دلالة على صدق نبوته ورسالته، وهذا للمصلحة العامة، ولمصلحة الخلق، كما أنه مأمور بأن يتحدى ولم يصدر عن نفسه أو هواه؛ لأن الأنبياء أبعد الناس عن الهوى، وألزم الناس للشرع، خلافاً للكرامة فإنه لا ينفع فيها التحدي، لأنها هبة من الله، قد يسلبها منك، ومنحة قد يأخذها، فهي حقه سبحانه وتعالى، فالمعجزة فيها نوع تحدي وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه الرسول، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال للأعرابي لما كذبه في نبوته ورسالته: (أرأيت لو أني قلت لهذه الشجرة وأمرتها أن تأتي أمامي هنا، ثم أمرتها أن تذهب إلى مكانها أكنت تؤمن أني نبي؟ قال: نعم) ففعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك.
ومرة قال لأصحابه: (أجمعوا خبزكم وطعامكم) وهو يسير وقليل لو جمعوه ربما لا يكفي واحداً منهم أو اثنين، (فلما جمعوه برك عليه النبي عليه الصلاة والسلام -أي: دعا فيه بالبركة- فأكلوا جميعاً، وشبعوا وملئوا مزاداتهم).
(ولما جيء بإناء فيه ماء، وضع النبي يده في الماء فصار الماء يفور من بين أصابعه) فلا أحد يستطيع أن يعملها، ولو تحدى بها النبي لكان محقاً في تحديه؛ لأنها معجزة مادية أتى بها عليه الصلاة والسلام، والمعجزات المادية للنبي عليه الصلاة والسلام لا نهاية لها، فقد جمعها بعض العلماء في مجلدات، ولا تزال هذه المجلدات تفتقر إلى بعض المعجزات.
هذه بعض الفروق بين السحر، والكرامة، والمعجزة.(61/11)
الفروق بين السحر والحسد
وهناك فروق يسيرة بين السحر والحسد: فالحاسد تتكيف نفسه بالخبث؛ أي: تتصف نفسه بالخبث فتصبح نفساً غضبية خبيثة حاسدة تؤثر في المحسود بطريقين: الطريقة الأولى: قوة النفس الذاتية، بحيث يتمكن الخبث من النفس، فلا تكاد تجد في نفس الحاسد طيباً، وهي في هذه الحال تؤثر في المحسود غاب أم حضر، يعني: هو جالس في مصر يحسد واحداً في قطر، فهي نفس خبيثة امتلأت شراً.
أما الطريقة الثانية: فهي طريقة العائن، والعائن هو الذي ينظر بعينه، لا يستطيع أن يحسد شخصاً بعيداً عنه، لا بد أن يراه، وقد كان في بلادي رجل عائن يحسد، وكان ساكناً في آخر الشارع، وكان يحسد رجلاً، فذهب المحسود وأتى بشخص حاسد آخر من أجل أن يحسد له الحاسد، فلما رأى الحاسد قد خرج من البيت قال له: هذا هو في آخر الشارع فاحسده إذاً، فقال له: أنا لا أرى شيئاً وأنت تراه؟ قال له: نعم، قال له: أنت نظرك حاد، وغير ذلك من هذه البلايا، فوقع المحسود في الحسد، فالعائن لا يستطيع أن يحسد من غاب عنه، فإن نفسه خبيثة لكن لم تبلغ في الخبث مبلغ الأول، والعائن الذي يمرض ويؤذي غيره بسبب تلك النظرة الخبيثة المنبعثة من أعماق نفسه يضر غيره لأمرين: أولاً: لشدة العداوة والحسد، فإذا قابل العائن عدوه ورآه بعينه وتوجهت نفسه الخبيثة إلى المنظور إليه أضر به، وكل ذلك لا يقع إلا بإذن الله وقدره.
الثاني: الإعجاب، فهو يضره عن طريق الإعجاب، كأن يقول: يا سلام! أنت تراه وأنا لا أراه، فهذا إعجاب بحدة النظر، ولذلك فإن الحسد يقع من الحاسد قصده أو لم يقصده، والصحابة الذين هم أشرف مني ومنك وقع بينهم الحسد ولم يقصدوه، وهذا اسمه حسد الإعجاب، ففي السنة: (أن رجلاً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كان يغتسل، وكان بدنه أبيض، فلما نظر إليه صاحبه سر ببدنه فقال: ما أبيض بدنه! وأجمل لحمه! -أو شيء من هذا- فأصابته هذه العين فوراً، فاحمر بدنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الحاسد أن يغتسل من الماء ويؤتى بهذا الماء ليغتسل منه المحسود، فشفى الله تعالى المحسود).
فالحسد يقع من الرجل بالإعجاب قصده أو لم يقصده، فإذا قصد الحسد فهو خبيث النفس، وإذا لم يقصده فهو ما يسمى عند العلماء بحسد الإعجاب، وحسد الإعجاب هو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في ذلك المتعجب منه.
والشياطين تعين الحاسد والساحر، ولكن الحاسد تعينه بلا استدعاء منه لهم، وهذا فارق بين الحسد والسحر، والساحر يستدعي الشياطين، ويطلب منهم أن يعينوه، وربما طلب الشيطان من الساحر أن يعبده أولاً قبل أن يقضي له حاجته، وينفذ الساحر للشيطان طلبته، وقد قرن الحق تبارك وتعالى في سورة الفلق بين الاستعاذة من شر الحسد وشر الساحر في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5]، والاستعاذة من هذين الشرين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن، فالحسد يكون من شياطين الإنس والجن وكذلك السحر.
وقد دل قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، على أن للحاسد شراً يؤذي المحسود، فلا يجوز أن يدعي مدع أن الحاسد لا يؤثر في المحسود ولا يضره، وقد رأينا في هذا العصر حيوانات برية وبحرية تقتل غيرها عن طريق أشعة تنبعث من عينها أو جسدها، فلم لا يكون في بعض الناس قوة خاصة تؤذي الآخرين وتضر بهم؟(61/12)
حكم الشرع في السحر والسحرة
والشرع له موقف ثابت لا يتزعزع من السحر والسحرة، ومن الحسد والحاسدين، وقد جاء الإسلام وشن حرباً لا هوادة فيها على السحرة، والكهان، والعرافين، وعد الرسول صلى الله عليه وسلم السحر واحداً من الجرائم المهلكات، وفي حديث آخر قال عن مصدق الكهان: (فقد كفر بما أنزل على محمد) وعد الذي يقتبس شعبة من النجوم أنه قد اقتبس شعبة من السحر، وذهب كثير من العلماء إلى وجوب قتل الساحر، وعدم صحة توبته، وصح عن عمر بن الخطاب أنه أمر ولاته في شتى أنحاء الدولة الإسلامية بقتل كل ساحر وساحرة، وفعلاً نفذ بعض الولاة أوامر الخليفة الراشد، ولذا فإن السحرة لم توجد لهم سوق رائجة في ديار الإسلام، وكان المسلمون المستقيمون ينظرون إلى السحرة نظرة ازدراء واحتقار، ومع ذلك فإن ديار الإسلام لم تخل على مر التاريخ من السحر والسحرة، ولكن المسلمين كانوا ينظرون إليهم نظرة مقت، وكانت سيوف الحكام تلاحقهم بالقتل، والطرد، والإيذاء، وألسنة العلماء تبين خبثهم ودجلهم، وضلالهم.
يذكر ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة أربع وثمانين ومائتين: أن الخليفة المعتضد أمر بأن ينادى في جميع أنحاء البلاد بألا يجتمع العامة على قاص، ولا منجم، ولا جدلي، والقاص هو الذي يقص الإسرائيليات والخرافات وغير ذلك، والمنجم هو ساحر عن طريق استعمال النجوم، والجدلي هو الذي يجادل في الدين بغير علم.
وقد تحدث ابن خلدون عن تاريخ السحر عند المسلمين فقال: علوم السحر والطلسمات مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر، ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من الكواكب والنجوم وغير ذلك، ولذلك فإن كتبها -أي: الكتب المؤلفة في السحر- كالمفقودة بين الناس، إلا ما وجد من كتب الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السلام، ولم يترجم لنا من كتبهم إلا القليل، مثل كتاب الفلاحة النبطية لـ ابن وحشية من أوضاع أهل بابل، فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه، ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة، وكتاب طمطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرها.
ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة، فتصفح كتب القوم، واستخرج الصناعة، وغاص في زبدتها، واستخرجها ووضع فيها عدة من التآليف، وأكثر من الكلام فيها، وفي صناعة السيمياء؛ لأنها من توابعها؛ ولأن إحالة الأجسام النوعية وتبدلها من صورة إلى صورة ومن هيئة إلى هيئة، إنما تكون بالقوة النفسية الخبيثة لا بالصناعة العملية، فهو من قبيل السحر، وسيأتي معنا ذلك بإذن الله تعالى.
وغير ذلك من الكتب المصنفة في هذا ككتاب غاية الحكيم الذي صنفه مسلمة بن محمد المجريطي إمام أهل الأندلس في السحر، وكتاب آخر اسمه: الغاية لنفس المؤلف، وهو مدونة وموسوعة في هذه الصناعة، وكتاب لـ صخر بن الخطيب اسمه: السر المكتوم، وذكر ابن خلدون أن بالمغرب صنفاً من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين، يشير الواحد منهم إلى الكساء أو الجلد فيتخرق، ويشير بإصبعه إلى الجدار فينخرم الجدار، ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج -يعني: بالخرم- فتنخرم بطن النعجة، ويسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج؛ لأن أكثر من ينتحله من السحر متخصصون في البهائم، ويرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها، خوفاً على أنفسهم من الحكام، فإن الحكام في المغرب كانوا يتعلمون السحر ويعانونه كذلك.
وقال ابن خلدون: سألت بعضهم فأخبرني فقال: وأما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفت على الكثير منها، وعاينتها من غير ريبة في ذلك.(61/13)