شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مقدمة الكتاب [1]
يعتبر كتاب الإمام اللالكائي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من أهم الكتب المصنفة في العقيدة؛ لما حوى من المسائل المهمة، وقلَّ أن تجد مصنفاً بعده لا يستفيد منه، وقد كان سبب تأليفه كما يقول مؤلفه هو طلب بعض أهل العلم له أن يؤلف كتاباً في شرح اعتقاد أهل السنة، وكذلك انصراف علماء زمانه عن مذهب أهل السنة وانشغالهم عنه بما أحدثوه من العلوم الأخرى.(1/1)
التعريف بكتاب أصول الاعتقاد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: فمع كتاب (أصول الاعتقاد) للإمام أبي القاسم اللالكائي، وقد تناولنا في الدرس الماضي حياة الإمام من حيث اسمه ونسبه وطلبه للعلم ورحلته وثناء العلماء عليه وغير ذلك.
وسنتكلم عن الكتاب -وهو محل الدراسة- فنقول: التعريف للكتاب يشتمل على عدة موضوعات: اسم الكتاب، موضوع الكتاب، سبب التأليف، أجزاء الكتاب، تاريخ تأليفه، توثيق الكتاب، منهج المؤلف في هذا الكتاب، قيمة الكتاب العلمية، المآخذ التي أخذها أهل العلم على الكتاب.(1/2)
اسم الكتاب
أولاً: اختلف أهل العلم في اسم الكتاب، فمنهم من قال: هو (السنة)، ومنهم من قال: هو (شرح السنة)، ومنهم من قال: (شرح اعتقاد أهل السنة)، ومنهم من قال: (أصول السنة)، ومنهم من قال: (شرح حجج أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، ومنهم من قال: (حجج أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، أي: بغير كلمة (شرح)، ومنهم من قال: (السنن)، ومنهم من قال: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وهذا هو الموجود على غلاف الكتاب الذي بين أيدينا، وهو الموجود كذلك في النسختين المخطوطتين اللتي اعتمد عليهما محقق الكتاب.
وهو الاسم الذي ترجح لنا أنه اسم الكتاب؛ لوجوده على غلاف النسختين الموجودتين: الظاهرية والهندية.
وأما بقية الأسماء الأخرى التي اختلف فيها أهل العلم فإنها تصلح أن تكون أسماء لكتب المعتقد، وهي مذكورة في الفهارس أو في كلام العلماء، وهذا الخلاف إنما نشأ لأن المؤلف صنف كتاباً في العقيدة على منهج أهل الحديث، ولم يختر لكتابه اسماً، فاختلف أهل العلم في تسمية الكتاب على النحو الذي ذكرناه.
يقول هنا: وأما مؤلف الكتاب فلم يجعل له عنواناً، وإنما ذكر في المقدمة موضوع الكتاب فقال: [وقد كان تكررت مسألة أهل العلم إياي عوداً وبدءاً في شرح اعتقاد مذاهب أهل الحديث].
أي: أنه يريد أن يقول: إنهم طلبوا مني أن أصنف كتاباً في العقيدة على مذهب أهل الحديث ففعلت، وهذا هو الكتاب.
أما هو فلم يضع عنواناً بعينه لهذا الكتاب، وإنما ذكر أنه صنفه على سبيل أهل السنة والجماعة.
أي: على طريق ومنهج أهل السنة والجماعة.(1/3)
موضوع الكتاب
أما موضوع الكتاب فهو يبحث في المسائل الاعتقادية على منهج أهل الحديث ومذهبهم، وهو ما عرف (بأهل السنة والجماعة).
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: [ولم آل جهداً في تصنيف هذا الكتاب ونظمه على سبيل أهل السنة والجماعة]، فمرة يسميه: (سبيل أهل الحديث) ومرة يسميه: (طريق أهل السنة والجماعة) وكلاهما واحد.
وقد جعل المؤلف لكتابه مقدمة اشتملت على عدة أمور منها: أولاً: بيان ما كان عليه السلف من اتباع للأثر واجتناب للبدع والنهي عن مناظرة أهلها.
أي: أن أول مسألة تكلم فيها الإمام في مقدمة الكتاب هي: بيان ما كان عليه السلف من اتباعهم للأثر، وهذا بلا شك يختلف مع أهل البدع والضلال، فإنهم ليسوا متبعين للأثر، وإنما هم يقدمون العقل على النقل كما ذكرنا ذلك في الدرس الماضي، ولذلك تجد أن من أعظم الفروق بين أهل السنة والجماعة وبين أصحاب الاعتقاد الفاسد أو الفكر المنحرف: أن هؤلاء يقدمون العقل على النقل.
ثانياً: التعريض بالمنهج العقلي -أي: ذمة ولو من طرف خفي- وذم رواده من المعتزلة، وذكر جهلهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي يتكلم عن فضل التمسك بالأثر واتباع منهج السلف في ذلك لابد وأنه ولو لم يتكلم عن المواقف فإنه يشتمل ذلك ضمناً على ذم ما خالف ذلك.
أي: من خالف ذلك من المعتزلة، ومن أتى بعدهم في تقديمهم العقل على النقل.
ثالثاً: الإشارة إلى بداية ظهور البدع وموقف العلماء والحكام من المبتدعة.
رابعاً: ذكر فضل أهل الحديث ووجه تسميتهم بهذا الاسم.
خامساً: ذكر سبب تأليفه لهذا الكتاب.
سادساً: بيان منهجه وشرطه في تصنيف هذا الكتاب.
وهذا ما يتعلق بموضوعات المقدمة، إذ إن كل موضوع منها، وكل جزئية منها تصلح أن تكون موضوعاً طويلاً عظيماً؛ لأنها تعد معالم في أصول أهل السنة والجماعة، وفي منهج أهل السنة والجماعة.
بل إن كل مسألة من هذه المسائل التي معنا جديرة بالدراسة والتوسع فيها، ولذلك لو لم يكن في الكتاب إلا هذه المسائل لكفى، فضلاً عن أنه جعل ذلك مقدمات لأصل الكتاب.
أما أصل وموضوعات الكتاب فقد جعلها المؤلف في مجلدين: المجلد الأول: تكلم فيه على موضوعات معينة.
الأول: ذكر أسماء علماء أهل السنة والجماعة.
أي: الذين تكلموا في مسائل الاعتقاد.
الثاني: الحث على التمسك بالسنة واجتناب البدعة؛ لأن هذا أصل من الأصول، ولذلك كرره المؤلف، فمرة يذكره في المقدمة، ومرة يذكره في آخر كتابه.
فيسوق نصوصاً في آخر الكتاب للدلالة على ذلك تختلف عن النصوص التي ساقها في مقدمة الكتاب.
الثالث: التوحيد وأسماء الله وصفاته.
الرابع: ذكر اعتقاد أهل السنة والجماعة في القرآن.
الخامس: النهي عن التفكير في ذات الله عز وجل.
السادس: مبحث القدر.
السابع: البعثة النبوية والمعجزات.
الثامن: جزء من مبحث الإيمان.
وأما المجلد الثاني: فإنه يحتوي على الموضوعات الآتية: الأول: تكملة لمبحث الإيمان.
الثاني: المرجئة.
الثالث: أبواب في المعاصي والتوبة.
الرابع: القبر وما فيه.
الخامس: الأمور الواقعة يوم القيامة.
السادس: المخلوقات غير المرئية كالملائكة والجن.
السابع: علامات الساعة الكبرى والصغرى.
الثامن: الفضائل، وهو ما سماه بكتاب: (الكرامات)، وبين معتقد أهل السنة والجماعة في الكرامات.(1/4)
سبب التأليف
أما سبب تأليفه لهذا الكتاب فيقول: ما دفعنا إلى تأليف هذا الكتاب إلا سؤال بعض أهل العلم له أن يؤلف كتاباً في: (شرح اعتقاد أهل الحديث)، وهذا هو السبب الأول.
الثاني: انصراف علماء زمانه عن مذهب أهل السنة والانشغال عنه بما أحدثوه من العلوم الأخرى مما أدى إلى ضياع الأصول القديمة التي أسست عليها الشريعة.
أي: عندما رأى أن معالم الشريعة كادت أن تطمس في زمانه، ورأى انصراف أهل السنة عن بيان ذلك والتأليف والتصنيف فيه، تصدى لذلك بناء على طلب بعض أهل العلم له أن يؤلف في هذا الموضوع.(1/5)
أجزاء الكتاب
وأما أجزاء الكتاب فقد جعله في مقدمة وجزأين، وقد ذكرنا النقاط والموضوعات التي تكلم فيها في المقدمة وفي الجزأين.(1/6)
تاريخ التأليف
أما تاريخ تأليف هذا الكتاب فإنه كان قبل موته ببضع سنوات.
ونحن قلنا: إن الرجل قد درس المذهب الشافعي ببغداد، وكان من أكابر الفقهاء والمحدثين، ولم يظهر ذلك إلا في آخر أيام حياته.
وقد أورد في هذا الكتاب جملة مستكثرة من الأحاديث والآثار والموقوفات والمقطوعات على التابعين وغيرهم، مما يدل على أن هذا الجهد العظيم لابد وأن يسبقه رحلة طويلة وزمن بعيد جداً في تحصيل هذه الأقوال.
فهذه علامات وقرائن تدل على أن هذا الرجل قد صنف هذا الكتاب في آخر حياته، فضلاً أن بعض النقول تدل على ذلك، ولذلك يقول رحمه الله وهو يذكر كتاب القدر الذي أمر بقراءته على المنابر: [وجرى ذلك على يدي الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد رحمه الله في جمادي الآخرة سنة 413هـ]، والرجل مات سنة 418.
ثم يقول: الطريثيثي في سند رواية الكتاب: (حدثكم الشيخ أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الحافظ في ربيع الأول سنة 416) والرجل مات سنة (418)، وغيرها من النقول التي تدل على أن هذا الكتاب ألف في آخر حياة الإمام.(1/7)
توثيق الكتاب
في الحقيقة هناك نقولات كثيرة جداً عن الإمام الكبير ابن الجوزي -وهو تلميذ الإمام- وعبد الغني المقدسي رحمه الله، وعن أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـ أبي شامة صاحب كتاب البدع، وعن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعن ابن أبي العز الحنفي، وعن الإمام الذهبي، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وغيرهم من أهل العلم الذين وثقوا نسبة الكتاب إلى المؤلف.(1/8)
منهج المؤلف
ذكر المؤلف رحمه الله منهجه في مقدمته، وبين الطريقة التي سيتبعها في التأليف وهي: أولاً: أنه لم يبدأ في تأليف هذا الكتاب حتى تصفح عامة كتب الأئمة الماضين، وعرف مذاهبهم ومناهجهم، ولم يأل جهداً في تصنيفه.
لذا فمن أراد أن يصنف وأن يكتب وأن يضع السواد على البياض فينبغي إن كان سلفياً حقاً، ومتبعاً لا مبتدعاً، ومتأنياً لا متسرعاً، أن يعلم أن مذهب أهل العلم أنهم ما وضعوا السواد في البياض -أي: ما وضعوا قلماً في ورقة- إلا على هذا النحو.
فهو رحمه الله تعالى لم يبدأ في تأليف هذا الكتاب حتى قرأ في هذا الباب كتب من سبقه، وعرف مذاهبهم ومناهجهم، ولم يأل جهداً في تصنيفه.
أي: لم يتعجل في تصنيف هذا الكتاب، وإنما بذل فيه جهداً مشكوراً، والمتصفح لهذا الكتاب يعلم ذلك جيداً.
ثانياً: أنه فصل المسائل الخلافية.
ومعلوم أنه تكلم في المسائل الخلافية بكلام مفصل، وبين المحدث لكل مسألة.
أي: المبتدع لكل مسألة ثلاثية.
ومعلوم أنه لا يتكلم عن الخلافيات في الفقه، وإنما يتكلم عن خلاف أهل العلم في مسائل الاعتقاد، فهو يذكر المسألة التي خالف فيها الخلف مذهب السلف، ويبين من أحدث هذه البدعة أولاً، ثم من تبعه إلى زمانه.
وكذلك تكلم عن الفترة الزمنية التي أحدثت فيها تلك البدعة.
ثالثاً: الاستدلال على صحة مذهب أهل السنة والجماعة بالقرآن الكريم.
رابعاً: فإن لم يجد فمن السنة.
خامساً: فإن لم يجد فيهما ولا في أحدهما استشهد بقول الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا يدل على حجية كلام الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله تعالى: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول سفيه سادساً: فإن لم يجد عنهم فعن التابعين لهم بإحسان.
سابعاً: ثم أخبر أنه لم يسلك فيه طريق التعصب على أحد من الناس.
فهذه كلها مناهج سلفية، وكلها مذاهب لأهل السنة والجماعة، ولذلك لأهل السنة والجماعة معالم إذا توفرت في المرء عد منهم، وإذا لم يتصف بها المرء لم يكن منهم، أو كان بعيداً منهم على قدر بعده من منهجهم ومعالمهم.
قال: [هذا هو المنهج المكتوب].
وهناك جانب آخر منه اتبعه المؤلف ولم يذكره وهو: أولاً: أن المؤلف اهتم بالجمع فقط من غير تمحيص للأحاديث والآثار التي أوردها، وإن كان قد أوردها بأسانيدها فإنه لابد من ذكر درجتها من الصحة أو الضعف، وخاصة وهو محدث حافظ؛ لأنها تمس أهم جوانب الدين، وهو جانب الاعتقاد.
وكان هذا مأخذاً أخذه المحقق على المؤلف، وهو في الحقيقة عند عرض هذا الكلام على أصول أهل السنة لا يكون انتقاصاً، فهو يريد أن يقول: إن المؤلف هنا اهتم بقاعدة التقميش التي يقول بها المحدثون، وقاعدة التقميش إذا كنت في موطن أو في محل الكتابة فينبغي أن تأخذ عن كل أحد، وأن تكتب عن كل من هب ودب، وأما إذا كنت في موطن التصنيف، وفي موطن التعليم لغيرك فإنه ينبغي أن تفتش في هذه المجموعات، ولا تحدث إلا بأحسنها وأفضلها.
والمؤلف رحمه الله تعالى كتب في كتابه كل ما وقع إليه في الباب أو في المسألة، سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً.
وفي الحقيقة هذا لا يعد كبير عيب؛ لأن قاعدة أهل الحديث أن من أسند نصاً فقد برئ من عهدته، فهو يروي هذه النصوص مسندة، وإذا كان هذا الصنيع في هذا الكتاب فما الحرج عليه بعد ذلك؟ وكأنه أحالك إلى البحث في أحوال الرواة الذين رووا مثل هذا الحديث أو هذا الأثر، وهذا صنيع كثير من الأئمة قبل هذا الإمام وبعده، ولم يعب عليهم ذلك أحد.
ثانياً: أن المؤلف يعرض الاعتقاد ثم يذكر أدلته سرداً من غير تعليق أو شرح.
أي: أنه يتكلم في أصل المسألة التي يريد أن يتكلم فيها، ثم يتكلم بعد ذلك في الأدلة، فيسرد أدلة هذه المسألة، مثل الإمام الطبري في تفسيره، حيث يأتي على الآية ويقول: هذه الآية اختلف في تأويلها على نحو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أقوال.
ثم يقول: والقول الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، وأدلة القول الأول كذا وكذا، وهكذا ويذكر بعد ذلك أقوال الصحابة والتابعين وأتباع التابعين مسندة إلى زمانه، منها الضعيف ومنها الصحيح، بل ومنها الموضوع، ولا يعد هذا عيباً في الكتاب، ولعل المؤلف رحمه الله معذور في ذلك لكثرة النصوص الواردة، إذ لو اتبع هذا المنهج لتضخم الكتاب جداً.
وعلى أي حال لا يعد هذا عذراً للمؤلف إذا ألزمناه بالشرح والبيان، فكم من كتاب ضخم لم يمل منه أهل العلم.
ثالثاً: أن المؤلف لم يذكر المذاهب المخالفة في المسألة التي يوردها إلا في أماكن قليلة جداً كما في مسألة: (الاسم والمسمى).
أي: الاسم والمسمى لله عز وجل، هل هو واحد أو أن الاسم هو المسمى؟ ستأتي هذه المسألة بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
والمؤلف رحمه الله تعالى إذا أراد أن يتكلم في المسألة لا يذكر المناهج المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وهذا أيضاً لا يلزمه، وقد تكلم أهل العلم في حديث افتراق الأمة: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافت(1/9)
قيمة الكتاب العلمية
يعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب المصنفة في العقيدة عند أهل السنة والجماعة، وخاصة في مذهب أهل الحديث أو أهل السنة والجماعة، وقل أن نجد مصنفاً بعده لا يستفيد منه أو يشير إليه، كما رأينا ذلك من قبل في توثيق الكتاب ونسبته إلى مؤلفه.
ومن المميزات التي اشتمل عليها المجلد الأول من هذا الكتاب: أولاً: أنه أورد وسرد كثيراً من الآثار على ما يقارب (1300) نص ما بين حديث وأثر كلها تتحدث عن مسائل اعتقادية.
ثانياً: أن هذا المجلد يعد موسوعة لأسماء علماء أهل السنة، حيث يشتمل على ما يقارب (600) من أسماء علماء أهل السنة والجماعة، وهذا يؤكد لنا إجماع الأمة على عقيدة أهل السنة قبل وبعد ظهور الانحرافات في الاعتقاد.
ثالثاً: أن هذا المجلد حفظ لنا عقيدة أحد عشر إماماً من علماء أهل السنة ذكر في أكثرها مواقفهم من المسائل العقدية التي اختلف فيها أهل العلم.
رابعاً: يعتبر الكتاب من المستخرجات، حيث أن المؤلف رحمه الله سلك في إيراده للآثار مسلك المحدثين، إذ يورد الحديث أو الأثر بسنده إلى قائله، أي: أنه يريد أن يقول: إن هذا الكتاب فيه فائدة حديثية عظيمة جداً، وهو أنه سلك في إيراده للآثار طريقة المحدثين، وهو ما يسمى في مصطلح الحديث بـ (المستخرج)، والمستخرج هو: أن يعمد المستخرج -بكسر الراء- إلى نص بعينه، كأن يكون في سنن أبي داود، فيورد هذا النص بسنده هو من غير طريق أبي داود.
وهذا بخلاف المستدرك، فإنه بعكس ذلك، ولذلك معظم المستخرجات فيها زيادات، وهذه الزيادات تأتي في الغالب بزيادة المعنى، فإذا أورد النص الموجود عند أبي داود من غير طريق أبي داود فلا يخلو هذا من فائدة في مزيد الأسانيد أو في مزيد النصوص.
قال: فإذا كان الحديث مخرجاً في أحد الكتب الستة فإنه لا يورده من طريقه، بل من طريق آخر، ولا يكاد يوجد ضمن هذا الكتاب ما يخالف هذه القاعدة.
أي: كأن هذا الكتاب في باب العقيدة مستخرج على كل النصوص الموجودة في كتب السنة.
قال: ولا شك أن وروده من تلك الطريق سيؤدي إلى زيادة أو موافقة لها فائدتها الحديثية.
هذه هي بعض المميزات التي يتميز بها هذا الكتاب عن ما سبقه من مؤلفات أهل السنة في العقيدة إلى جانب مميزات أخرى لم تذكر.(1/10)
المآخذ على الكتاب
لا يخلو كتاب من الكتب البشرية من صفات النقص والخطأ إذ العصمة لم يجعلها الله تعالى إلا لأنبيائه ورسله، وهذا الكتاب قد أخذ عليه بعض المآخذ منها: أولاً: ركاكة خاصة في المقدمة، إذ إنه بعد المقدمة أورد نصوصاً محكمة، بينما المقدمة يغلب عليها السجع المتكلف الذي لا يتضح معه المعنى في بعض الأحيان.
ثانياً: عدم تنظيم وترتيب الأبواب؛ فإن المسألة تفهم بترتيب مباحثها ومسائلها، وأن تبنى الثانية على الأولى والثالثة على الثانية، والمؤلف لم يهتم بهذا الترتيب، فربما قدم ما حقه التأخير أو أخر ما حقه التقديم، ولا شك أن هذا عيب كذلك.
يقول: ولم يهتم المؤلف بالعناوين التي تنظم الأبواب والنصوص، فربما يتكلم في عدة مسائل تحت مسمى واحد أو تحت كلمة واحدة، مع أن كل مسألة من هذه المسائل ينبغي أن تفرد بعنوان أو بباب أو فصل أو مبحث؛ لأنه قد يرغب القارئ في قراءة مبحث في القدر، فتجده يتكلم فيه على القرآن، أو تجده يتكلم فيه عن الإيمان بالملائكة، وربما يكون هناك فوائد تظهر لنا عند دراسة الكتاب، لكن على أي حال يعد هذا عيباً في الكتاب من جهة التأليف.
ثالثاً: عدم صحة بعض الأحاديث والآثار الواردة فيه.(1/11)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - مقدمة الكتاب [2]
أعظم الأدلة والبراهين التي يجب على كل مسلم تعلم عقيدته من خلالها كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة، ثم إجماع السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، ومن كان معه هذا المنهج فإنه لا يحتاج إلى أن يبتدع في دين الله عز وجل؛ لأن عنده الأصل الأصيل في التشريع، أما من كان شاكاً في أمره، فإنه يترك اليقين للشك، ويذر الهداية للعمى، وهذا هو حال أهل البدع في كل وقت وحين.(2/1)
مقدمة المصنف رحمه الله تعالى لكتابه شرح أصول الاعتقاد
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: ففي الدرس الماضي انتهينا من الكلام عن الكتاب وعن المؤلف كذلك، ووعدنا بأن ندخل في الموضوع مباشرة، والمقدمة التي كتبها الإمام مقدمة طويلة جداً، وفيها فوائد عظيمة، خاصة أنه بين فيها بعض معالم أهل السنة والجماعة، وبعض معالم أهل البدعة والضلالة، وهذه المسألة في غاية الأهمية، إذ إن العلم بها لابد وأن يحفظ صاحبه في مسيره إلى الله عز وجل.
قال الكاتب في المقدمة بعد أن ذكر راوي هذه النسخة وسند الكتاب: قال هبة الله أبو القاسم: [الحمد لله الذي أظهر الحق وأوضحه، وكشف عن سبيله وبينه، وهدى من شاء من خلقه إلى طريقه، وشرح به صدره، وأنجاه من الضلالة حين أشفا عليها -أي: حين أقدم عليها وكاد أن يهلك- فحفظه وعصمه من الفتنة في دينه، فأنقذه من مهاوي الهلكة، وأقامه على سنن الهدى وثبته، وآتاه اليقين في اتباع رسوله وصحابته ووفقه، وحرس قلبه من وساوس البدعة وأيده، وأضل من أراد منهم وأبعده، وجعل على قلبه غشاوة وأهمله، في غمرته ساهياًَ، وفي ضلالته لاهياً، ونزع من صدره الإيمان، وابتز منه الإسلام، وتيهه في أودية الحيرة، وختم على سمعه وبصره، ليبلغ الكتاب فيه أجله، ويتحقق القول عليه بما سبق من علمه فيه من قبل خلقه له وتكوينه إياه، ليعلم عباده أنه إليه الدفع والمنع، وبيده الضر والنفع، من غير غرض له ولا حاجة به إليه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، إذ لم يطلع على غيبه أحداً، ولا جعل السبيل إلى علمه في خلقه أبداً، لا المحسن استحق الجزاء منه بوسيلة سبقت منه إليه، ولا الكافر كان له جرم أو جريرة حين قضى وقدر النار عليه].
هذا كلام جميل جداً في القدر، فهو يريد أن يقول: إن المحسن لما استحق الجنة لم يستحقها بإحسانه، وإنما بفضل الله عز وجل، وكذلك الكافر استحق عذاب الله بعدله.
قال: [فمن أراد أن يجعله لإحدى المنزلتين -الجنة أو النار- ألهمه إياها، وجعل موارده ومصادره نحوها -أي: يسره لما خلق له، إما الجنة وإما النار- ومتقلبه ومنقلبه ومتصرفاته فيها، وكده وجهده ونصبه عليها؛ ليتحقق وعده المحتوم، وكتابه المختوم، وغيبه المكتوم -كما قال تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى:18]، -وقال-: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257].
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده الذي لا شريك له، يحيي ويميت وينشئ ويقيت، ويبدئ ويعيد، شهادة مقر بعبوديته، ومذعن بألوهيته، ومتبرئ عن الحول والقوة إلا به.
ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه إلى الخلق كافة، وأمره أن يدعو الناس عامة؛ لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين].(2/2)
بيان أن أول واجب على المرء هو معرفة الله وتوحيده
قال: [أما بعد: فإن أوجب ما على المرء: معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله به عباده من فهم توحيده وصفاته وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها والاستدلال عليها بالحجج والبراهين].
أي: أن أول واجب يجب على المسلم أن يتعلمه هو: أن يتعلم عقيدته، وهذا هو منهج الصحابة كما ثبت عن جرير البجلي رضي الله عنه أنه قال: كنا نتعلم الإيمان أولاً، فإذا نزل القرآن ازددنا به إيماناً.
وقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنا نؤتى الإيمان أولاً، ثم نؤتى القرآن، فإذا قرأناه علمنا حلاله وحرامه، وزواجره وأوامره ونواهيه، ووقفنا عند ما يجب علينا أن نقف عنده منه، ولقد أدركنا أقواماً قد أوتوا القرآن قبل الإيمان، فإذا قرءوه فإنهم لا يعلمون حلاله ولا حرامه، ولا يعلمون زواجره ولا أوامره ولا نواهيه، ينثرونه نثر الدقل.
أي: يقرءونه دون أن يخرجوا منه بفائدة إيمانية.
لذا فإن المرء لو تعلم الإيمان أولاً فلا بد وأن يقف عند كل نص في دين الله عز وجل، سواء كان هذا النص من كتاب أو من سنة أو إجماع أو قياس صحيح سليم.
ولذلك ترى الرجل الذي تربى على الإيمان سرعان ما يبادر إذا وصل إلى سمعه أمر من أوامر الله، أو نهي من نواهي الله عز وجل، فيسارع ويبادر إلى اعتقاد هذا الأمر وتعظيمه؛ لأنه من حرمات الله عز وجل، ويبادر إلى تنفيذه إن كان أمراً، أو ينتهي عنه إن كان نهياً، بخلاف الذي أوتي العلم قبل الإيمان.
أي: أن هناك أناساً عندهم علم كثير جداً، لكن ليس عندهم إيمان، فهذا يجعلهم في حيرة وتردد وشك باستمرار كلما ألقي على أسماعهم وقلوبهم أمر من أوامر الله أو نهي من نواهي الله عز وجل، ولذلك إذا لم تؤت الإيمان أولاً فاعلم أنك تحتاج مع كل أمر ونهي إلى من يذكرك بتعظيم أمر الله وحرماته وشعائره، حتى تتهيئ نفسيتك لقبول هذا الأمر والانتهاء عن هذا النهي، أما لو أن هذه القواعد الإيمانية موجودة من الأصل فأنت لا تحتاج مع كل أمر لمن يذكرك بوجوب تعظيم حرمة الله عز وجل عليك؛ لأن وجوب تعظيم حرمة الله من أعظم شعب الإيمان، فأنت إذا كنت تعلمت القرآن، وقد أوتيت الإيمان أولاً، فلا تلبث أن تسمع بالأمر أو النهي فتبادر إلى التنفيذ دون الحاجة إلى من يذكرك.
أي: تشعر أن عندك خشية لله عز وجل، فإذا سمعت أنه أمر بأمر تقول: سمعاً وطاعة لله، ولا تجادل ولا تناظر ولا تلاجج ولا تجادل ولا تحاجج؛ لأن الأصول عندك ثابتة، وهي: السمع والطاعة لله عز وجل، وهما ثمرتا الإيمان بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولذلك هناك فرق كبير جداً بين رجل عالم يشار إليه بالبنان لا إيمان عنده؛ فإنه يحتاج مع كل نص إلى مقدمة ومؤخرة، ومن يروضه على قبول هذا الأمر، ثم هو في النهاية يصرف هذا النص عن ظاهره ليهرب من العمل، ليهرب من مقتضيات هذا النص.
وأخ صغير يبلغ من العمر عشرين سنة أو أقل من ذلك، لكنه تربى على الإيمان، فسرعان ما يسمع بالآية أو سرعان ما يسمع بالحديث فيقول: والله دون هذا النص دمي، ولابد من تطبيقه والعمل به.
فما الذي دفع الشيخ أن يرد هذا الأمر؟ وما الذي دفع هذا الشاب الصغير لقبول هذا الأمر والقتال دون تنفيذه؟ إنه إيمان هذا الشاب بالله عز وجل الذي نتج عنه تعظيم شعائر الله وحرماته، وضعف إيمان ذلك العالم النحرير.(2/3)
مصادر الاستدلال عند أهل السنة والجماعة
قال: [وكان من أعظم مقول -أي: من أعظم الأدلة والنصوص- وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار المتقين].
فتأمل هذا المنهج لأهل السنة في الاستدلال، بينما منهج المبتدعة غير منهج أهل السنة، فهو يريد أن يقول: إن من أعظم الأدلة والبراهين التي يجب على المسلم أن يتعلم عقيدته من خلالها هي: كتاب الله، سنة الرسول، أقوال الصحابة.
لكن لا يوجد أحد أو جماعة أو فرقة أو طائفة من أهل البدع من تعتمد على أقوال الصحابة، وإنما هم يقولون: يكفي كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع هذا يقولون: الأصل عندنا في الاستدلال: العقل، ثم القرآن من بعده والسنة، وما وافق العقل من القرآن والسنة أخذناه، وما لم يوافق العقل من القرآن والسنة أولناه وأخرجناه عن ظاهره حتى يوافق العقل، فجعلوا العقل هو الميزان الأعظم الذي تقاس عليه الأمور، والذي يجب أن تنضبط عليه نصوص الكتاب والسنة.
ونحن نقول: إذا خالف العقل النقل أخذنا بالنقل، والعيب والقصور في العقل، بينما أهل البدع يقولون -خاصة المعتزلة-: الأصل في الاستدلال العقل.
فإذا خالفه النقل فيكون العيب في النقل! لكنهم لا يستطيعون أن يقولوا هذه الكلمة؛ لأنهم يعرفون أنها مكفرة، لكنهم يقولون: إذا تعارض النقل مع العقل فلابد من تأويل النقل حتى يوافق العقل.
إذاً: الميزان الأعظم عندهم: العقل.
والميزان الأعظم عند أهل السنة: هو النقل.
وهذه أول فائدة.
الفائدة الثانية: أنهم لا يحتجون بأقوال الصحابة قط، بل قاموا على الصحابة وكفروهم وبدعوهم، وشهروا السيوف في وجوههم، وقد حصل هذا من الشيعة والخوارج وغيرهم، بينما موقف أهل السنة والجماعة معلوم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وما جرى بينهم من فتنة.
فهذه لا ينبغي أبداً ذكرها على سبيل التنقص بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
فهذا النص بظاهره وبغير شرح يلجم المرء إلجاماً، فلا يتكلم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلمة سوء واحدة، والذي يتكلم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة على سبيل التنقص، إنما يدل على مرض ونفاق ودخن في قلبه أبداه الله على فلتات لسانه.
وهنا نقول: إن منهج الاستدلال عند أهل السنة: كتاب الله المبين، ثم قول الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قول الصحابة الأخيار المتقين.
قال: [ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون].
سواء كان إجماع الصحابة، أو إجماع من أتى بعدهم.
[ثم التمسك بمجموعها].
أي: التمسك بهذه الأدلة التي هي الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وما أجمع عليه السلف الصالحون.
[والمقام عليها إلى يوم الدين].
أي: لا يبرح المرء ولا ينفك أن يحتج وأن يلجأ إلى هذه الأدلة.
قال: [ثم الاجتناب عن البدع].
أي: أن الذي معه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس الصحيح لا يحتاج إلى أن يبتدع في دين الله عز وجل، فهذه الأدلة كلها قد شملت أمور المسلم الحياتية والمعادية، فلماذا يبتدع في دين الله عز وجل؟ ولذلك البدعة مناقضة ومناهضة ومجهضة للسنة، فما أحدثت بدعة إلا وأميتت وطمست سنة، ولذلك أحسن الإمام هنا عندما قال: أدلة احتجاج أهل السنة هي كذا وكذا وكذا.
ثم قال: [والاستماع إليها مما أحدثها المضلون] أي: اجتناب الاستماع إلى ما أحدثه المبتدعة؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل مبتدع ضال.
أي: منحرف عن الطريق السوي.
قال: [فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة، والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة التي عملت عليها الصحابة والتابعون].
لم نسمع قط أن هناك صحابياً عقلانياً، وهم الذين خوطبوا بهذا الكتاب العظيم! فلم يقل منهم أحد: عقلي مقدم على كلام الله عز وجل.
قال: [ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين، واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين، ثم من اقتدى بهم من أئمة المهتدين، واقتفى آثارهم من المتبعين].
أي: أن هناك أئمة كثيرين جداً خاصة في أبواب الاعتقاد، فنحن عندما نحتج لمنهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال نقول كلام مالك خاصة في الأسماء والصفات، فقد سئل مالك عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنده بدعة.
فهذا القول كلنا نحفظه أنه من قول مالك، في حين أنه ليس من قول مالك أصلاً، وإنما هو قول شيخه ربيعة الرأي.
أي: أن ربيعة الرأي هو الذي علم مالكاً هذا الأصل وهذا المنهج وهذا الإجمال في الاعتقاد.
وكذلك لم يكن هذا من كلام ربيعة، وإنما هو كلام أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: معناه: أن مالكاً قد أخذ هذا العلم عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قال: [ثم من اقتدى بهم من(2/4)
نتائج تحكيم العقل في أمور الشريعة
قال: [ومن أعرض عنها وابتغى في غيرها مما يهواه -أي: يحب أن يميل إليه بهواه- أو يروم سواها مما تعداه؛ أخطأ في اختيار بغيته وأغواه -أي: وقع في الغواية والضلال- فسلكه سبيل الضلالة، وأرداه في مهاوي الهلكة فيما يعترض على كتاب الله وسنة رسوله بضرب الأمثال، ودفعهما بأنواع المحال، والحيدة عنهما بالقيل القال مما لم ينزل الله به من سلطان، ولا عرفه أهل التفسير واللسان، ولا خطر على قلب عاقل بما يقتضيه من برهان، ولا انشرح له صدر موحد عن فكر أو عيان، فقد استحوذ عليه الشيطان، وأحاط به الخذلان، وأغواه بعصيان الرحمن حتى كابر نفسه بالزور والبهتان.
فهو دائب الفكر في تدبير مملكة الله بعقله المغلوب].
أي: أن أحدنا لو تفكر في الكون، فمرد ذلك كله إلى قدرة الله وعظمة الله وقوة الله، لكن هذا المسكين إنما يفكر في ذلك بعقله هو، فهو إذا سلك هذا المسلك فهو في النهاية لابد وأن يقبح القبيح؛ لأنه يعتمد على عقله، فيجعل الحسن والقبح مداره على العقل، فما كان عنده قبيحاً قبحه، وما كان عنده حسناً حسنه، وإن كان القبيح عنده عند الله حسن، وإن كان الحسن عنده عند الله قبيح.
قال: [فهو دائب الفكر في تدبير مملكة الله بعقله المغلوب وفهمه المقلوب بتقبيح القبيح من حيث وهمه، أو بتحسين الحسن بظنه، أو بانتساب الظلم والسفه من غير بصيرة إليه، أو بتعديله تارة]، فهو يقول: هذا سفه، ولا يمكن أن يكون الله قد فعل هذا.
واعلم أن قوله: (ولا يمكن أن يكون الله فعل هذا به).
هذا ذر للرماد في العيون، وإلا فهو يريد أن ينكر وأن يعترض على الله عز وجل في مملكته وفي تدبيره وخلقه، ولذلك هو يعترض ثم يقول: لا يمكن أن يفعل الله هذا.
لكن ماذا تقول أنت؟ أنت أولاً استبعدت قدرة الله عز وجل، ثم تريد بهذا الاستبعاد -بزعمك- أن تنزه الله عنه، وفي الحقيقة أن الله هو الذي خلق ذلك.
كما قالت المعتزلة: القرآن مخلوق؛ لأن القرآن شيء.
فلما قام أهل السنة ونزهوا الله تبارك وتعالى ونزهوا صفاته أن تكون مخلوقة، قام عليهم المبتدعة من باب الذب عن الله وعن خلقه؛ لأن القرآن عندهم مخلوق.
فلما قال أهل السنة بغير مقالة المعتزلة حرشوا بأهل السنة عند السلاطين.
وهذا معلم ثان من معالم أهل البدع، فضلاً عن بعدهم وتحكيمهم لعقولهم في دين الله وفي شرع الله، فإنهم كذلك يحرشون بأهل السنة والجماعة عند السلاطين.
أما المعلم الثالث فهو: عداؤهم المستمر وبغضهم الدفين لأهل السنة والجماعة، وتحريشهم بأهل السنة عند السلاطين، وانحرافهم عن المنهج القويم.
قال: [وفهمه المقلوب: بتقبيح القبيح من حيث وهمه، أو بتحسين الحسن يظنه، أو بانتساب الظلم والسفه -إليه سبحانه- من غير بصيرة أو بتعديله تارة]، كلمة (أو بتعديله) هي قولهم: (من العدل كذا).
وأنتم تعرفون أن العدل هو أحد أصول المعتزلة، والمعتزلة لهم خمسة أصول منها: العدل، والتوحيد، -انظروا هذا الكلام الجميل- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذه من أصول المعتزلة، فأنت لما تسمع هذا تقول: هؤلاء المعتزلة أهل توحيد! وأهل عدل! وأهل أمر بمعروف ونهي عن منكر! فلماذا هم مختلفون مع أهل السنة والجماعة؟
الجواب
لا.
العدل عندهم غير العدل عند أهل السنة، والتوحيد عندهم غير التوحيد عند أهل السنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابط عندهم غير ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أهل السنة، وسنتعرض لهذا كله عند الكلام عن طائفة المعتزلة.
ومن أصولهم أيضاً: قولهم بالمنزلة بين المنزلتين في شأن مرتكب الكبيرة.
قال: [أو بتعديله تارة كما يخطر بباله، أو بتجويره كما يوسوسه شيطانه، أو بتعجيزه عن خلق أفعال عباده فهو راكض ليله ونهاره -أي: المبتدع- في الرد على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن عليهما].(2/5)
تأويل المبتدعة للنصوص وصرفها عن ظاهرها لتوافق بدعتهم
إذاً: المعلم الرابع لأهل البدع: تأويل النصوص.
بمعنى: صرفها عن ظاهرها لتوافق بدعتهم، بينما أهل السنة والجماعة يأخذون النص على ظاهره وعلى مراد الله عز وجل، ويأخذون أقوال النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أهل البدع يقولون: لابد من تأويل هذه النصوص حتى توافق أصولهم! فمثلاً: المعتزلة جعلوا لهم أصولاً تميزوا بها عن الحسن البصري وغيره، وجعلوا كل الأدلة الشرعية تعرض على هذه الأصول، فإذا وافقت هذه الأصول سمي عندهم ديناً, وما خالف هذه الأصول وجب ليه وتطويعه ليوافق عقولهم.(2/6)
مجادلة أهل البدع بالباطل
قال: [فهو راكض ليله ونهاره في الرد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن عليهما، أو مخاصماً -لهذه الأدلة- بالتأويلات البعيدة فيهما]، أي: الذي هو صرف النص عن ظاهره.
قال: [أو مسلطاً رأيه على ما لا يوافق مذهبه بالشبهات المخترعة الركيكة؛ حتى يتفق الكتاب والسنة على مذهبه، وهيهات أن يتفق].
لأن هذا كلام اللطيف الخبير، وهذا كلام المخبول الضال، فكيف نطوع كلام الله عز وجل بكلام عبد قصير النظر وقصير العقل؟! قال: [ولو أخذ سبيل المؤمنين وسلك مسلك المتبعين لبنى مذهبه عليهما واقتدى بهما، ولكنه مصدود عن الخير مصروف].
أي: لما علم الله تبارك وتعالى سلفاً وأزلاً أن هذا العبد بعينه سيختار الضلال على الهدى، وسيعمى بعد بصيرة، هيأه ويسره لما خلق له.
قال: [فهذه حالته إذا نشط للمحاورة في الكتاب والسنة].
أي: أنه يخاصم ويجادل، ولن يحتج أبداً بأقوال أهل السنة، ولذلك عندما تناقش شخصاً من المبتدعة سيقول لك: قال الله وقال الرسول، لكن عندما تقول له: ما قول ابن كثير في هذه الآية؟ يقول لك: من ابن كثير هذا؟! وهذا منهج أهل البدع، لكن نحن لو ناقشناهم وحاورناهم فسنقول: هذه الآية قال فيها ابن كثير كذا، والطبري قال فيها كذا، والقرطبي قال فيها كذا، وابن تيمية قال كذا.
إذاً: نحن متبعون، وهؤلاء سلفنا، فنحن نحتج بأقوال الله عز وجل بفهم سلفنا رضي الله عنهم، أما هم فيأخذون فقط من الكتاب والسنة، فإذا وافق الكتاب عقولهم ابتداءً أخذوا به، أما لو خالف الكتاب عقولهم ردوه، وفي الغالب يخالف؛ لأنه لا يتفق كلام الله عز وجل مع كلام شخص مجنون مهبول؟! إذاً: فنحن نريد أن نقول: إن أقوال المبتدعة هي التي تخالف أصولهم.
وهم يقولون: كلام الله مخالف لأصولنا.
فهم جعلوا أصولهم هي الأصل، وكلام الله هو الذي يجب أن يقاس لا أن يقاس عليه، فلما استصعبوا موافقتهم للكتاب والسنة لجئوا إلى التأويل والتحريف لكلام الله وكلام رسوله حتى يوافق أصول مذهبهم.
قال: [فأما إذا رجع إلى أصله وما بنى بدعته عليه اعترض عليهما بالجحود والإنكار].
ومعلوم أن هؤلاء المعتزلة ردوا نصف السنة وزيادة؛ لأنها ضعيفة، ولأنها لا تثبت من جهة أنهم زادوا شرطاً في قبولهم للسنة لا يعرفه أهل السنة، ألا وهو: موافقة السنة للعقل إما تصريحاً أو تأويلاً، فإذا لم توافق السنة عقولهم لا تصريحاً ولا تأويلاً -أي: بعد ليها- فهي مردودة عندئذ، ولذلك هم يقولون دائماً: ليس معقولاً أن النبي قال كذا.
لكنهم اجتهدوا على الكتاب فأولوه.
أي: أولوا فيه كل ما خالفهم أو خالف أصولهم.
أي: ليس معقولاً أن يقولوا لنا: ليس معقولاً قال ربنا كذا؛ لأن الله قد قال، وهذا المصحف بين أيدينا، فهم على استحياء شديد، فلا يستطيعون أن يردوا القرآن الكريم، لكن السنة عليها مطاعن كثيرة جداً، وقد جعلوا أصلاً لا يعرفه أهل السنة وهو موافقة السنة للعقل، فلما خالفت السنة عقولهم الحقيرة ردوا معظمها، ولذلك يقول: [فأما إذا رجع إلى أصله وما بنى بدعته عليه اعترض عليهما -أي: على الكتاب والسنة- بالجحود والإنكار، وضرب بعضها ببعض من غير استبصار].
يأتون بالأحاديث التي ظاهرها التعارض فيضربوا بعضها ببعض، ومعلوم أن من أصول أهل السنة والجماعة في تأويل هذه النصوص التي ظاهرها التعارض: الصيرورة إلى النسخ إذا لم يكن الجمع ممكناً، بينما هذا المبتدع يأتي لك بحديث يأمر بشيء، وحديث ينهى عن نفس الشيء، فيقول: أيعقل -ودائماً تسمع بهذه الكلمة من أهل البدع- أن النبي قال في الأمر الواحد بالأمر والنهي، أو في الشيء الواحد بالأمر والنهي؟! لا.
ليس معقولاً.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا ولا قال ذاك.
وإن كان أحدهما يوافق العقل قالوا به ويبطلون الثاني.
قال: [واستقبل أصلهما ببهت الجدل والنظر من غير افتكار، وأخذ في الهزو -أي: في الاستهزاء- والتعجب من غير اعتبار، استهزاءً بآيات الله وحكمته].
وهذه قصة تبين ذلك: فقد ركبت مع شخص أعرفه منذ زمن، ثم قال لي: أتذكر تلك القضية القديمة التي كانت في سنة تسعة وثمانين أو في سنة تسعين؟ فقلت: نعم، أذكرها، وهي قضية أختك عندما قال لها زوجها: لا يحل لكِ أن تتصرفي في مالكِ إلا بإذني.
ثم قال: أتذكر الموضوع؟ فقلت له: أذكره.
وقلت له: وأذكر يومها أنني أحلتك على سنن ابن ماجه وشرح السنة للبغوي، فقال لي: حصل ذلك.
ثم قال لي: تصور أن فلاناً قال كذا وكذا.
فقلت له: وأنا أقول بهذا القول الآن كما قلت به سلفاً، أن المرأة لا يحل لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها وإن كان الإسلام حفظ الذمة المالية لكلا الزوجين -أي: أن هذا المال مال المرأة، وهذا المال مال الزوج- لكن للقوامة التي هي للرجل على المرأة، ولضعف المرأة في عقلها وسفهها، واكتمال الرجل في ذلك، وجب على المرأة دواماً للعشرة أن تلجأ إلى زوجها، وألا تنفق من مالها -لا أقول: من ماله، وإنما من مالها-(2/7)
تقديم المبتدعة لأقوال الرجال على النصوص الشرعية
قال: [وضرب بعضها ببعض من غير استبصار، واستقبل أصلهما ببهت الجدل والنظر من غير افتكار، وأخذ في الهزو والتعجب من غير اعتبار بآيات الله وحكمته، واجتراء على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وقابلها برأي النظام والعلاف والجبائي وابنه الذين هم قلدة دينه].
أي: أساتذة المذهب العقلي.
فيرد على النصوص بأقوال الفلاسفة، بأن يقول: كيف يقول ربنا ذلك؟! إن النظام قال كذا! وعلي الجبائي قال كذا.
ويرد على الأصول الأصيلة عندنا بأقوال الرجال، ومعلوم أن الأصل عند أهل السنة هو أننا لا نعرف الحق بالرجال، وإنما نعرف الرجال بالحق.
وهذا منهج أصيل، بينما أهل البدع يقولون: يعرف الحق من خلال الرجال، فإذا وافق الحق أقوال الرجال فهو حق، وإذا خالف فأقوال الرجال هي الحق، وهذا منهج الفلاسفة.
وما جهل المعتزلة بالكتاب والسنة وغيرهم من أهل البدع والانحراف والضلال جميعاً، وانحرافهم وفساد قلوبهم إلا لأنهم تنكبوا طريق السلف في منهج الاستدلال.
قال: [قوم لم يتدينوا بمعرفة آية من كتاب الله في تلاوة أو دراية، ولم يتفكروا في معنى آية ففسروها أو تأولوها على معنى اتباع من سلف من صالح علماء الأمة إلا على ما أحدثوا من آرائهم الحديثة، ولا اغبرت أقدامهم في طلب سنة أو عرفوا من شرائع الإسلام مسألة، فيعد رأي هؤلاء حكمة وعلماً وحججاً وبراهين].
أي: أن رأي الرجال عندهم هو الحكمة وهو الدليل وهو البرهان.
قال: [ويعد كتاب الله وسنة رسوله حشواً وتقليداً وحملتها -أي: حملة الكتاب والسنة- جهالاً وبلهاً، ذلك ظلماً وعدواناً وتحكماً وطغياناً].(2/8)
موقف المبتدعة من أهل السنة خصوصاً وأهل الإسلام عموماً(2/9)
تكفير المبتدعة لجملة أهل الإسلام
قال: [ثم تكفيرهم للمسلمين بقول هؤلاء إذ لا حجة عندهم بتكفير الأمة إلا مخالفتهم قولهم من غير أن يتبين لهم خطأهم في كتاب أو سنة].
أي: أنهم يكفرون بالجملة، ويقولون: المجتمع كله كافر، بينما أهل السنة والجماعة لا يكفرون الناس ولا الطوائف ولا الفئات ولا الجماعات ولا غيرهم، بل إنهم يتحرزون كل التحرز من تكفير الفرق التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لذا عندما تقرأ كتاب: (الفرقان بين الحق والباطل) لشيخ الإسلام ابن تيمية يدخل في نفسك أن شيخ الإسلام ابن تيمية متسامح جداً، ومبالغ مع هؤلاء الناس؛ لأننا لم نترب تربيته، ولو تربينا تربية فستكون أصولنا هي أصوله، لكن عندما يسأله رجل في هذا الكتاب فيقول: كافر دخل الإسلام على مذهب الخوارج، فما حكم ذلك؟ فيجيب شيخ الإسلام قائلاً: الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على رسوله الذي اصطفى.
وبعد: فإن بعض الشر أهون من بعضه.
فإن هذه الكلمة منهج عند ابن تيمية.
والآن الشيعة انتشروا انتشاراً رهيباً في بلاد أوروبا وأمريكا، ولهم تأثير ملحوظ هناك من خلال نشاطهم وعملهم هناك، فإن هم أتوا بشخص كافر كفراً أصلياً وقالوا له: لابد أن تسلم من أجل دخول الجنة والنجاة من النار، ومن أجل كيت وكيت، فأسلم الرجل، وهو لا يعرف سنة ولا بدعة ولا دليلاً ولا شيئاً من هذا القبيل بالمرة، وإنما أقنعوه بحب النبي، وحب آل البيت، وحب القرآن وحب ربنا، ومن أجل أن يدخل الجنة، ومن أجل كيت وكيت، وقالوا له: لا يطلب منك أكثر من ذلك، فتصلي وتصوم رمضان وتتبع الإمام وتنتظر المهدي المنتظر، وتتزوج بما شئت من النساء، فيقول: والله إن هذا الإسلام جميل جداً، وسهل وحلو، وعلى الأقل الواحد يعيش بالهناء، وفي النهاية سيكون شيئاً ينتظره اسمها: الجنة.
فـ ابن تيمية سئل عن مثل هذا فقال: خير للمرء أن يموت على بدعة من أن يموت على الكفر البواح.
فبالله عليك لو سئلت هذا السؤال أيكون جوابك نفس جواب ابن تيمية؟! أبداً، وإنما ستقول: الاثنين سواء، فدعه يبقى على كفره أحسن.
بل لو سئلت أنه على مذهب التصوف الذي هو الزهادة، وليس التصوف الذي هو التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها، لقلت مثل ذلك.
إذاً: من معالم أهل البدع: أنهم يقومون قومة رجل واحد على المجتمع المسلم فيكفرونه، وأنتم تعرفون جماعة التكفير والهجرة عندما ظهرت سنة (1974م)، وقبل ذلك بقليل لما ظهرت هذه الجماعة كان أعظم شعار لها هو تكفير المجتمعات كلها، وفي سنة (1983م) جاء شخص منهم إلى الأردن، وقد كنت في مصر سنة (1984م)، جئت من أجل أن أستقر، ولم أجلس عشرين يوماً حتى علمت أن الاستقرار مستحيل، فعدت مرة أخرى، فدخل علي البيت يوم أن كنت في الأردن، وكان عندي أخي، وهو شديد جداً.
والمهم أنه قال له: هذا بيت أبي الأشبال، فقال له: نعم.
ودخل ولم يلق السلام بالمرة.
ثم قال له: أأنت أبو الأشبال؟ قال له: لا.
أبو الأشبال في مصر ولعله يأتي بعد عدة أيام.
ثم قال له: إذاً أنت أخوه؟ قال له: نعم.
قال له: نسمع أنك سفيه ولا يمكن التفاهم معك، فأنا سأنصرف حتى يأتي أبو الأشبال من مصر.
والمهم أنه قال له: كنت أريد معرفة رأيك في المجتمع الأردني، فقال له: مجتمع مسلم ونظيف ومحترم جداً.
فقال له: لكن أنا على غير ذلك.
فقال له: أنت على ماذا؟ قال: على تكفيره.
قال: ومن أنت حتى يكون لك رأي؟ فقال: وأنت من؟ قال: على الأقل من أهل السنة.
قال له: لا.
فنحن أهل السنة.
ثم قال له: وإن عندي أدلة تثبت أن هذا المجتمع كافر.
أي: أن النبي تكلم عن الأردنيين، وأتى له بحديث مكذوب، فقال له أخي: أين هذا الحديث؟ فقال له: في مسلم.
قال له: صحيح مسلم لم يطبع في الدنيا إلا أربع طبعات وهن عندي، فأخرج لي الحديث منهن، وأخي شديد وعنيف، فقد أحضر سكينة وغرزها في الطاولة وقال له: رأسك أو الحديث، وظل يبحث ويقلب في صحيح مسلم، ويمسك هذه الطبعة ويترك هذه، ولم يحصل على الحديث حتى أذن الظهر، ثم قال له أخي: اخرج وصل، ثم عد مرة أخرى لتبحث عن الحديث، وكان باب المسجد أمام باب البيت، ولم يكن بينهما إلا الشارع، فقال الرجل: أنا لا أصلي مع الكفار.
فقال له: ومن الكفار؟ فنظر وقال له: هؤلاء الناس الراكعون! إنها جرأة وأي جرأة، ومنهج خرب لأهل البدع.
ثم قال له: اجعلني أبحث على الحديث حتى تأتي من الصلاة، فقال له أخي: لا، فأنت لا تؤتمن على دينك، ولا آمنك على هذه المجموعة من الكتب، اخرج إلى الخارج مثل الكلب إلى أن أذهب وأصلي ثم آتي.
هكذا قال له.
ولما خرجوا من الصلاة لا أعرف ما الذي حصل بالضبط، المهم أنه حصل ضرب شديد، فاجتمعوا عليه وأمسكوا به إخوة المسجد أصحاب السنة، ومسحوا به الأرض، وأنا جئت من مصر بعد هذا الحادث بحوالي أسبوع، فنزلت على أحد أصدقائي في الميدان العام في عمان؛ لأنه كان يسكن معي، فأردت أ(2/10)
طعن المبتدعة في منهج أهل السنة والجماعة وأدلتهم
قال: [ثم ما قذفوا به المسلمين من التقليد والحشو] المعتزلة سموا أدلتنا حشواً وتقليداً، وسموا أهل السنة بالحشوية والمقلدة، وعليه فعندما تحتج بآية أو حديث فأنت قد أتيت بكلام ليس له أي داع، وإنما تحشو فقط، وتجمع الكلام الذي لا قيمة له ولا فائدة ولا طائل من ورائه، ومهما قلت: قال الله قال رسوله، فأنت تحشو الكلام حشواً دون فائدة؛ لأن الفائدة كل الفائدة عندهم -أي: المعتزلة- في الاتباع لأدلتهم.
قال: [ولو كشف لهم -أي: السني- عن حقيقة مذاهبهم، كانت أصولهم المظلمة، وآراؤهم المحدثة، وأقاويلهم المنكرة، كانت بالتقليد أليق، وبما انتحلوها من الحشو أخلق، إذ لا إسناد له في تمذهبه إلى شرع سابق، ولا استناد لما يزعمه إلى قول سلف الأمة باتفاق موافق أو مخالف، إذ فخره على مخالفيه بحذقه، واستخراج مذاهبه بعقله وفكره من الدقائق، وأنه لم يسبقه إلى بدعته إلا منافق مارق، أو معاند للشريعة مشاقق؛ فليس بحقيق من هذه أصوله أن يعيب على من تقلد كتاب الله وسنة رسوله واقتدى بهما، وأذعن لهما، واستسلم لأحكامهما، ولم يعترض عليهما بظن أو تخرص واستحالة أن يطعن عليه؛ لأن بإجماع المسلمين أنه على طريق الحق أقوم، وإلى سبل الرشاد أهدى وأعلم، وبنور الاتباع أسعد، ومن ظلمة الابتداع وتكلف الاختراع أبعد، وأسلم من الذي لا يمكنه التمسك بكتاب الله إلا متأولاً، ولا الاعتصام بسنة رسوله إلا منكراً أو متعجباً، ولا الانتساب إلى الصحابة والتابعين والسلف الصالحين إلا متمسخراً مستهزئاً] فهذا هو الفرق بيننا وبين أهل البدع.
قال: [لا شيء عنده إلا مضغ الباطل، والتكذب على الله ورسوله والصالحين من عباده].
ولذلك لما سئل أيوب بن أبي تميمة السختياني عن أن ينظر في شيء من الرأي -والرأي ظلمة والحديث نهار- قال: لا أنظر فيه قط؟ قيل: ولم؟ قال: لأنني أكره أن أجتر كالحمار.
أي: أكره أن أكون كالحمير، فأتشدق بكلام لا قيمة له.
وفي رواية أخرى قال: لأنني أكره مضغ الباطل؛ لأن الرأي بخلاف الدليل، فالدليل نص والرأي رأي.
قال: [وإنما دينه -أي: صاحب البدعة- الضجاج والنفاق، والصياح واللقلاق، قد نبذ قناع الحياء وراءه].
أي: يخلع قناع الأدب والحياء، ولذلك لا تجد واحداً من أهل البدع يناقش أهل السنة في كل زمن وفي كل مكان إلا ويجهل عليهم، ويسب ويشتم ويصيح ويجادل ويخاصم ويضجر، ويقول كلاماً يحرم قوله؛ لأن هذا من مبادئهم.
أما أهل السنة فإن مبدأهم: قال الله وقال رسوله.
هذه الكلمة عندما يسمعها المبتدع يتمنى أن تذبحه بسكين ولا تقول له: قال الله وقال رسوله.
لأنه بعيد جداً عن هذا المنهج.
لذا ما إن يسمع قال الله حتى يأتي بالغث وبالسمين، ولا يوجد عنده سمين حتى يأتي به، بل يأتي بكل الغث والنفاق والصياح وقلة الأدب.
وهؤلاء المبتدعة لهم منهج في النقاش والجدل الذي لا ينتبه له يخذل دين الله عز وجل، ولذلك أهل البدع يحب أن يناقش في الظلام، وهذه أيضاً علامة من علاماتهم، فلا يحب أن يناقش على ملأ أبداً، فتقول له: أتريد مناقشتي؟ فيقول: نعم، وذلك في مكان لا يرانا فيه أحد، فتقول الذي عندك وأقول الذي عندي، فيحب أن يعرف ما الذي عندك حتى يرد عليك بعد ذلك، وحتى يرتب أموره ويخرج البلاء المتراكم الذي في قلبه وفي عقله، ويسجلها على أشرطة، وبعد ذلك يرد بها عليك، أو يأخذ حجتك من غير سماع أهل الحق لها، ثم يبطلها ويأتي بأدلته العقلية والنقلية الملوية ويلفقها وينمقها، ثم يدفع بها، ولذلك فإنه يحب أن يبدأ هو بالكلام وبعد ذلك لا يسمح لك بالكلام، فيظل يتكلم لمدة ساعتين حتى يمل المستمعون، ولا تبقى معه ذاكرة تستوعب كلام أهل الحق، وفي الأخير يختم كلامه فيقول: بعد الذي سمعته مني أتريد الكلام يا أخي؟ اذهب الله يسهل لك.
فيقوم من ذلك المجلس ويمشي، فيكون المهزوم في هذه الجولة السني، لذا على السني أن يكون ذكياً، فيحدد وقتاً للسؤال والجواب، ومثال ذلك: مناظرات رجل اسمه أحمد ديدات، فقد كان المناظر نفسه يقطع الإجابة من النصف؛ لأن الوقت قد انتهى، ثم يحول الدفة إلى الثاني، أما أنك تترك الشخص يتكلم بالساعتين والثلاث ويخرج كل أصوله ويحشد بها القلوب والأذهان والأسماع، ثم في الأخير يضحك عليك ويتركك ويمشي، ويكون المستمع بعد ذلك ليس عنده أدنى استعداد أن يسمع.
بذلك يكون قد غلبك!!(2/11)
اتهام المبتدعة لأهل السنة بالجهل وعدم فقه الواقع
قال: [وإنما دينه الضجاج والنفاق والصياح واللقلاق، قد نبذ قناع الحيا وراءه، وادرع سربال السفه -أي: لبس درع السفه- فاجتابه، وكشف بالخلاعة رأسه، وتحمل أوزاره وأوزار من أضله بغير علم ألا ساء ما يزرون، فهو كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13].
فهو في كيد الإسلام وصد أهله عن سبيله، ونبز أهل الحق بالألقاب: أنهم مجبرة، ورمي أولي الفضل من أهل السنة بقلة بصيرة، والتشنيع عند الجهال بالباطل، والتعدي على القوام بحقوق الله والذابين عن سنته ودينه.
فهم كلما أوقدوا ناراً للحرب -أي: لحرب أوليائه- أطفأها الله، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين].
أيضاً: من علامات ومعالم أهل البدع: أنهم يتهمون أهل السنة والجماعة بالجهل والغياب عن الواقع، فأنت عندما تناقش شخصاً ممن سلك مسلكاً مغايراً لما عليه سلف الأمة وخاصة في الخروج على الإمام، والمسألة بينة وواضحة، وإن كانوا معنا على عقيدتنا، ولا خلاف بيننا وبينهم إلا في مسألة الخروج، ولذا لابد أن نميز ونفرق بين مسألة مبدأ التكفير ومبدأ الخروج، فالتكفير لا يستلزم الخروج، لكنهم ربطوا بين التكفير وبين الخروج، وقالوا: إذا كان فلان كافراً وجب الخروج عليه.
وإننا نسأل الآن: ماذا جر الخروج على الأمة هنا وهناك؟ إنه لم يجر عليها إلا شراً، ولذلك نقول: إن الخروج ليس مذهبنا ولا مسلكنا ولا من أخلاقنا أبداً، وإن كانت مسألة التكفير تختلف فيها الأنظار، لكن الخروج لا يجوز قولاً واحداً؛ وذلك درءاً للمفسدة، وجلباً للمصلحة، وحقناً لدماء المسلمين، فضلاً عن تكافؤ القوى، وهو كلام قلناه ونقوله في كل مناسبة.
لذا عندما تناقش أحد هؤلاء، وتقول له: الشيخ الفلاني أو العلامة الفلاني أو المحدث الفلاني يقول بعدم الخروج.
سيقول لك: هذا رجل لا يعرف عن الواقع شيئاً! مع أنه رجل قضى حياته في واقع الأمة، وعلم تاريخ الأمة سلفاً وخلفاً، ومع ذلك يرمى من قبل أناس لم يبلغوا سن التكليف، ويقولون مثلاً: الشيخ ابن باز أو الشيخ ابن عثيمين أو الشيخ الألباني هؤلاء علماء دفاتر، وعلماء أقلام، وعلماء تحقيق، وليس عندهم معرفة بالواقع! وهذا بلا شك انحراف عن المنهج القويم لأهل السنة والجماعة.
إن عقيدة أهل السنة والجماعة عقيدة واحدة وليست عقائد متعددة، وهذه العقيدة ثابتة وليست متغيرة، وبالتالي فكل متغير إلى زوال، ويبقى هذا الأصل الثابت ثابت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ثم إن كل العقائد التي أحدثت واخترعت وابتدعت قد فشلت في مواجهة عقيدة أهل السنة والجماعة، بدليل قول النبي عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
أي: أنهم ثابتون مستقرون على عقيدتهم التي تركهم عليها النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين، وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة -وهؤلاء هم أصحاب العقيدة الأولى- قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، رضي الله عنهم أجمعين.(2/12)
فشل العقائد المبتدعة أمام عقيدة أهل السنة والجماعة
قال: [ثم إنه من حين حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام، وظهرت هذه البدع من قديم الأيام، وفشت في خاصة الناس والعوام، وأشربت قلوبهم حبها، حتى خاصموا فيها بزعمهم تديناً أو تحرجاً من الآثار، لم تر دعوتهم انتشرت في عشرة من منابر الإسلام متوالية].
أي: أن هؤلاء الشيعة جماعة مبتدعة ليسوا على الحق، ولم نر لدعوتهم انتشاراً في مصر وغيرها، بينما أهل السنة لهم انتشار في كل مكان وزمان؛ لأن هذا دين ربنا سبحانه وتعالى، فهو الذي ينشره وينصره ويؤازره بعباده الصالحين، فأنت عندما تنظر إلى أهل الحق في كل زمان ومكان تجدهم كثير، وأما أهل البدع فقلة لا يكتب لهم ولمنهجهم الانتشار والذيوع، ونحن في بعض الأحيان نهول الأمر جداً مخافة الانتشار، ولذا ليس هناك ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة خاطفة للجهال، والجهال في مصر كثير جداً، فقد يأتي إليك شخص ويجلس معك ويقول لك كلمتين فتقتنع بها، ثم بعد ذلك في المجلس الثاني يكلفك بأن تدعو بهذا الكلام غيرك، وهكذا البدعة تنتشر، لذا أول ما تظهر البدعة لابد أن تأخذ على رأسها بالنعال من أجل أن تردها إلى أصلها، ولذلك نحن في المنصورة أحد المحافظات فيها قرية أو قريتين انتشر فيها التشيع، والمنصورة هذه بلدي، وفيها الكثير من أصحابي أيام الجامعة، وقد ذهبت إليهم ووجدتهم متشيعين، فقالوا لي: والله يا أبا الأشبال! لقد خالفتنا.
فقلت لهم: أنا لم أخالفكم، فأنتم الذين خالفتموني، فقد كنا معاً في المعتقد والمنهج.
ثم قالوا لي: مع هذا نحن نحبك وأنت غير الناس.
فقلت لهم: لا بأس، فهم يريدون أن يثبتوا أنه ليس هناك فرق بيننا وبينهم، وأنهم أناس مؤدبون ويحترمون المخالف، فقلت لهم: سأخطب الجمعة في المسجد الفلاني، وأريد أن أراكم هناك، فهم أحبوا أن يدللوا أنهم أحسن مني، وأنني لا أصلي وراءهم، لكنهم يصلون ورائي، فأتوا، فذكرت الشيعة من أجل الكلام الذي قلناه قبل سنتين، واختصرناه وأجملناه ووقفنا ساعتين إلا ثلث في الخطبة، وهم جلوس، فوجدت أن الناس لم يعجبهم الكلام على التشيع، بينما هؤلاء يعرفون القضية كاملة، بل عامة الناس الفلاحين الجالسين يقولون: كيف تقول يا رجل! على الخميني هذا الكلام؟ إن الخميني هو المخلص، وانظر ماذا عمل مع سلمان رشدي؟ ليس هناك أحد من بني آدم تكلم بكلمة واحدة، ولا وضع مليوني دولار لمن يأتي برأس سلمان رشدي إلا الخميني! وهذا ابن عباس رضي الله عنه عندما سأله الخوارج فقالوا له: هل رأيت أعبد منا يا ابن عباس؟ قال: نعم.
النصارى أعبد منكم، فقد جلسوا في صوامعهم وانقطعوا للعبادة وتركوا الدنيا، ومع هذا كانوا كفاراً، فهل الأمر صحة وضعفاً، قبولاً ورداً يقاس بالعبادة أو يقاس بالعلم؟ الكلام في هذا كثير جداً.
قال: [لم تر دعوتهم انتشرت في عشرة من منابر الإسلام متوالية، ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية، أو مقالتهم في الإسلام ظاهرة، بل كانت داحضة وضيعة مهجورة، وكلمة أهل السنة ظاهرة، ومذاهبهم كالشمس نائرة، ونصب الحق زاهرة، وأعلامها بالنصر مشهورة، وأعداؤها بالقمع مقهورة، ينطق بمفاخرها على أعواد المنابر، وتدون مناقبها في الكتب والدفاتر، وتستفتح بها الخطب وتختم، ويفصل بها بين الحق والباطل ويحكم، وتعقد عليها المجالس وتبرم، وتظهر على الكراسي وتدرس وتعلم، ومقالة أهل البدع لم تظهر إلا بسلطان قاهر].
لذا فإن من أعظم معالم أهل البدع: التقرب من الوالي حتى يصلوا إلى البلاط الملكي، وبالتالي تكون البلد كلها معهم، ولذلك أهل البدع دائماً متصفون بالنفاق، إذ البدعة والنفاق عندهم متلازمان، فتجد أهل البدع في أول النهار يقبل يد ورأس الوالي، ويقولون: أنت المخلص وأنت الزعيم وأنت كذا وكذا، ثم بعد ذلك يجلس بجوار الوالي أو السلطان، ويضع الحاكم نعله على رأسه، ويرفعه على كل من خالفه من أهل السنة؛ لأن الغالب في الطرفين الفجور وترك السنن، وأهل السنة يقفون في وجه السلاطين والحكام والملوك والأمراء الذين ابتعدوا عن كتاب الله وعن سنة رسوله.
ثم يقول لك: إن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بأهل السنة أعدائي، بينما هؤلاء أحبائي، ولسان حال السلطان: أتريد أن تجعل الرجل الذي يشتمني على المنبر مثل رجل كل يوم يقبل رأسي ويقبل حذائي؟ لابد أن يكون رجلاً محترماً مثل هذا الذي يقبل الرأس.
ويقول: وهذا السني لم يعرف قيمتي، مع أنه لا يعمل ذلك حباً في الحاكم، وإنما يعمل ذلك حباً في نفع بدعته.
فيأتي إليه ويقول: يا سعادة الباشا! والله نحن عندنا مسألة ونريد من حضرتك أن تتبناها؛ لأنك خير من يتبناها.
فيقول الحاكم: وما هذه المسألة؟ فيقولون: القول بخلق القرآن، فالقرآن شيء، وربنا خالق كل شيء، فيقول الحاكم: ومن يخالفك في ذلك؟ فيقولون: المبتدع فلان وفلان، مثل: أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
فيقول الحاكم: ائتوا به.
فيسأله الحاكم: ماذا تقول في القرآن؟ فيقول الإمام: أنا أقول: إن(2/13)
الأسئلة(2/14)
الحكم على حديث (اللهم إني لا أسألك رد القضاء)
السؤال
( اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه) هل هذا حديث أم لا؟
الجواب
ليس حديثاً وليس من دعاء السلف، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو بغير ذلك، فقد كان يطلب من الله أن يرفع عنه البلاء، والبلاء من قدر الله عز وجل، ولما كان يدعو برفعه فهو يدعو الله عز وجل أن يرفعه وأن يمن عليه برفع قضائه الذي قدره عليه.(2/15)
بيان أن إلقاء السلام على المدخنين لا يعتبر إقراراً لهم على المنكر
السؤال
هل إلقاء السلام على المدخنين يعتبر إقراراً للمنكر؟
الجواب
لا يعتبر إقراراً للمنكر.
لكن ما الذي يمنعك أن تلقي عليه السلام وأن تنصحه في الله عز وجل؟(2/16)
حكم أذان الفرد إذا كان قد تخلف عن أداء الصلاة في وقتها
السؤال
هل يجوز أذان الفرد إذا كان قد تخلف عن أداء الصلاة في وقتها أم يقيم فقط؟
الجواب
لا شك أن أرجح المذاهب في ذلك مذهب الشافعي، وهو وجوب الأذان والإقامة لمن تخلف عن جماعة الإمام.(2/17)
رأي الشيخ في قراءة كتب الداعية (أحمد ديدات)
السؤال
ما رأيك في قراءة كتب الشيخ أحمد ديدات؟
الجواب
أنا أذهب مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه القضية، والشيخ أحمد ديدات في وسط هذه البلاد يعتبر من فضل الله ورحمته بهذه الأمة، فقد قام بإظهار حجة الله عز وجل في هذه البلاد، ومع ذلك فعنده بعض الأخطاء، فأحياناً يوافق الكفار أو يوافق الرهبان على بعض المسائل المخالفة للعقيدة، وهو لو يعرف أن هذه مخالفة للعقيدة وللنبي عليه الصلاة والسلام ما قالها، وهذا ظننا فيه، مثال ذلك: قوله تعالى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فيثبت أنه ليس لله ولد من خلال التوحيد، ثم يهدم ذلك كله فيقول: وأما إذا كان من باب أننا من خلقه، وأننا من فضله ورحمته، وأننا نتنعم بنعمه، فحينئذ لا بأس أن نقول: نحن أبناء الله وأحباؤه! وإذا كان الأمر كذلك فنحن أولى بأن نكون أبناء الله وأحباؤه، وبذلك هدم السابق كله، وهدم التوحيد الذي قاله بأكمله، وعلى أية حال ربما هو تجوز في هذه المقولة، لكن ليست هذه هي المقولة الوحيدة التي تنكر على الشيخ، بل له مقولات كثيرة جداً تنكر عليه في الاعتقاد، ومنها أيضاً في الأحكام الشرعية.
وظننا به أنه يجهل هذا كله، خاصة وأن الشيخ قد قضى حياته في بحث مسألة معينة، فهو ليس رجلاً عالماً كبيراً من علماء المسلمين مثل الأئمة الذين ضربوا بسهم في كل واد، وإنما ضرب بسهم عظيم في باب الاعتقاد، والرد على الملاحدة، والرد على اليهود والنصارى؛ ليبطل زعمهم ويرد على مفترياتهم، فهو يخطئ من حيث لا يدري، والرجل نحبه في الله، ونتمنى أن يسدد، وأن يتقبل الله تبارك وتعالى منه هذا الجهد الجهيد.
أما أخطاؤه فبلا شك أنه لو تكلم في بلاد مسلمين بهذه الكلمة لوجد في المجلس الواحد ألف واحد يرد عليه، فإذا قال مثلاً في هذا المسجد: نحن أبناء الله وأحباؤه، فستجد من يرد عليه ذلك.(2/18)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - بداية ظهور البدع
البدعة في الدين أمر عظيم، يجر على الأمة من المفاسد والبلايا ما الله به عليم، وحيثما يكون اتباع الكتاب والسنة يحفظ للأمة دينها وشريعتها، وحيثما تظهر الأهواء والأغراض البشرية تنتشر البدعة ويتفشى الانحراف، ولم تزل الكلمة مجتمعة والقلوب مؤتلفة في الأمة حتى نبتت نابتة القدر والخوارج، وهكذا تتابعت فرق البدعة والضلالة في الظهور، وإفساد عقائد العباد، ومع ذلك فإن الله يقيض من عباده الصالحين في كل مكان وزمان من يدفع عن العقيدة، ويذود عن الملة.(3/1)
ظهور البدع
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
توقفنا في الدرس الماضي عند بداية ظهور البدع، وإذا كان للبدع بداية ظهرت فيها فإن الأصل كان على السلامة والأمانة والصدق، وهذا يعني أن الحقبة الزمنية الأولى من عمر الرسالة لم يكن فيها هذه البدع، خاصة زمن حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان بعض أصحابه قد مال إلى مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لا أقول: هم الأصحاب، وإنما هم أصحاب الأهواء والضلال والنفاق، ولذلك: (لما دخل رجل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم الغنائم فقال: اعدل يا محمد! فإن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.
فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل؟ فلما ولى الرجل مدبراً قال النبي عليه الصلاة والسلام: سيخرج من ضئضئي هذا من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
يعني: أن هذا الرجل كان هو رأس الخروج على النبي عليه الصلاة والسلام فلما قال هذه المقولة، وحكم عليه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحكم، كان هذا الرجل هو أصل الخروج على النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك الخوارج ينتسبون إليه، وكلهم يقولون بمقالته.
وأناس آخرون هم من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ومن المحبين المخلصين له، لكن دخل عليهم الشيطان من باب المتشابهات في القرآن الكريم، وقد سمعهم النبي عليه الصلاة والسلام يحتجون على بعضهم البعض بهذه الآيات المتشابهات، فخرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (أبهذا أمرتم؟ ألهذا وكلتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، وغضب غضباً شديداً، كأنما فقئ في وجهه حب الرمان).
فانطلق الصحابة راشدين ولم يعودوا لمثلها قط، وكانت هذه الحادثة في الاحتجاج بالقدر، لكن ما إن تظهر نار الفتنة في زمانه عليه الصلاة والسلام إلا وسرعان ما تنطفئ وتخبو تماماً، وعليه فلم تكن للبدع ظهور في زمانه عليه الصلاة والسلام.
وفي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ظهرت بدعة من يفرق بين الصلاة والزكاة، وهذه أعظم بدعة، وأعظم فتنة تعرض لها الإسلام بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وقد تصدى لها رجل واحد من الأمة وخالفته الأمة بأسرها، وقد نور الله تعالى بصيرته ليدل الأمة على الحق والصواب، هذا الرجل هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كيف لا وقد قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر).
إنه العلم النوراني الذي قذفه الله عز وجل في قلب وفي صدر وعقل أبي بكر، الذي ميز به أن هذا الذي فعله المرتدون أمر يخالف دين الله عز وجل.
وهذه الشبهة دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى راجع في ذلك أبا بكر، فلما وجد من إصرار أبي بكر على مقاتلة هؤلاء وقتلهم.
قال: فعلمت أنه الحق.
أي: لإصرار أبي بكر على ذلك، وما كان ليصر إلا على أمر هو دين الله عز وجل، فتبعه على ذلك وتبعته الأمة، وحاربوا هؤلاء الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة.
وفي عهد عمر بن الخطاب لم يكن هناك فتن قط؛ لأن عمر شديد الشكيمة، والكل يهابه، بينما أبو بكر كان يتصف بالحلم، لكنه كان عند المخالفة أقوى من عمر كما كان ذلك في حروب الردة، وعمر كان بطبيعته وسجيته شديداً، والعرب يعرفونه قبل الإسلام وبعده، فكانوا يهابونه جداً، وما يجرؤ واحد منهم أن يتكلم بما عنده من نفاق أو زندقة أو إلحاد إلا في جحره، وإلا بين امرأته وأولاده وخاصته، ومع هذا هو يخاف أن يتسرب الخبر إلى عمر.
ولما تكلم صبيغ بن عسل بما عنده من متشابه القرآن علم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا هذا الرجل إلى بيته، وكان قد أحضر له العصا والجريد والنعال ليضربه، فقال: يا صبيغ! بلغنا أنك تتكلم في متشابه القرآن، وهذا أمر لم يكن عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أفهذا خير سبقت إليه -أي: سبقت النبي وأصحابه إليه- أم هو أمر جديد من عندك؟ فإن كان جديداً ليس عليه سلف الأمة فلابد وأن تنتهي، وإن كان هذا أمراً قد فتح به عليك، وأغلق دون غيرك، فهذا شر الابتداع في دين الله، فتناول الجريد وظل يضربه على رأسه حتى سال الدم على وجهه، فقال صبيغ: يا أمير المؤمنين! قد ذهب الذي كنت أجد في رأ(3/2)
ظهور بدعة القدر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلم تزل الكلمة مجتمعة والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ومن بعدهم من السلف الصالحين، حتى نبغت نابغة بصوت غير معروف، وكلام غير مألوف في أول إمارة المروانية -أي: في عهد عبد الملك بن مروان - تنازع في القدر وتتكلم فيه، حتى سئل -أي: عنهم- عنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما].
وذلك لما أتاه يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن من البصرة، فأتوه وهو يطوف حول الكعبة، فقالوا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنسأله عما ظهر عندنا بالبصرة.
والذي ظهر عندهم هو: أن معبداً الجهني تلميذ سوسن النصراني الذي أسلم ثم ارتد، ثم أسلم ثم ارتد.
هذا سوسن الذي هو رأس الفتنة في البصرة، ولك أن تتصور تلميذ هذا الرجل: معبد الجهني فهل ينتظر منه خير؟
الجواب
لا.
فـ معبد ظهر ببدعة لم يكن لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولا للتابعين بها عهد منذ حياة النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا.
هذه البدعة: أنه ينكر أصل القدر ويقول: لا قدر وأن الأمر أنف.
أي: مستأنف.
بمعنى: أن الله تعالى لا يعلم حقيقة الأشياء إلا بعد وقوعها، فهو بذلك قد سوى الخالق بالمخلوق، فأنت كمخلوق لا تدري ما الذي سيكون بعد لحظة، فسوى بك الخالق سبحانه وتعالى، وقال: وكذلك الخالق لا يعلم وقوع الأشياء إلا بعد وقوعها، وقال بأن الله تعالى ليس هو الخالق لأفعالنا وإنما أفعالنا بإرادتنا ونحن الذين نخلقها ولا دخل لله عز وجل فيها.
ولا شك أن هذا كفر بواح؛ لأنه نفى العلم السابق لله تعالى، مع أن الله تعالى علم كل شيء، علم ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ولم يخف عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فهذا الرجل إنما أتى ليضرب المسلمين في صميم عقيدتهم بنفي علم الله عز وجل الثابت له في الكتاب والسنة.
ولذلك لما دخل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا: لعلنا نوفق إلى واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنسأله عما ظهر عندنا بالبصرة.
قال -أي: يحيى بن يعمر -: فوفق لنا عبد الله بن عمر، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره.
قال: فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -أي: سيدعني أتكلم معه- فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون، أي: يتتبعون دقائق وعويص المسائل- ويقرءون القرآن، يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف.
فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء.
أي: لا هم مني ولا أنا منهم.
والإمام النووي وغيره ينقلون هذا اللفظ من قول عبد الله بن عمر.
يعني تكفيرهم وإخراجهم من ملة الإسلام؛ لأنهم أنكروا معلوماً من دين الله بالضرورة، فأنكروا صفات الله عز وجل وأسمائه، ولذا فالذي ينفي عن الله صفات أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، أو ينفي عن الله اسماً أثبته لنفسه، أو أثبته له الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لابد وأنه يستحق هذا الحكم، خاصة وإن كان من أهل العلم؛ لأنه قال: (يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم).
يعني: أنه ليس بجاهل، فهو لم يقل هذا عن جهل، وإنما قاله عن خبث طوية وسوء نية مع توفر العلم لديه.
فمن ذا الذي يقيم الحجة على معبد الجهني؟ لا أحد؛ لأنه من أكابر أهل العلم، لكنه تلقى علمه من مشكاة غير مشكاة النبي عليه الصلاة والسلام، تلقى العلم من مشكاة سوسن، مشكاة أهل الكتاب، فكان جديراً وخليقاً بأن يستحق الطرد من رحمة الله، ولذا طرده عبد الله بن عمر فقال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني براء.
وهذا يعني الكفر والخروج من ملة الإسلام.
عند هذه الحادثة لا أقول: كانت بداية ظهور البدع على جهة العموم، وإنما أقول: هي أول نقطة في ظهور بدعة القدر.(3/3)
ظهور الخوارج
قبل بدعة القدر هناك بدع أخرى في زمن علي بن أبي طالب، وعلى جهة الخصوص سنة (37هـ)، وذلك لما وقع الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فانبرى لـ علي أناس، وانبرى لـ معاوية أناس آخرون، فتمزق شمل المسلمين إلى فريقين: فريق مع علي بن أبي طالب، وفريق مع معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية كان مجتهداً متأولاً له الأجر من الله عز وجل، وعلي كان مجتهداً وافق اجتهاده منهاج النبوة، فهو مأجور أجرين من الله عز وجل، لكن كان لابد من وقوع هذه الفتنة؛ لأن لها جذوراً وأصولاً.
ولذا لما قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالتحكيم تحت ضغط شيعته -أي: تحت ضغط أتباعه- وهو يعلم أن هذا التحكيم ما هو إلا لعبة فقط، قالوا له: يا علي! ما بالك لا تقبل التحكيم إلى كتاب الله؟ وقالوا: إما أن تقبل وإما أن ننصرف عنك، فقبل التحكيم تحت ضغط شيعته، ورفعوا المصاحف على أسنة الرماح، وعلي بن أبي طالب يعلم أن هذا حق أريد به باطل، لكن أشياعه لم يقبلوا ذلك منه حتى رضخ إلى رأيهم، فلما كانت النكبة والنكاية بعد ذلك أنكروا على علي بن أبي طالب قبوله للتحكيم، رغم أنهم هم الذين ضغطوا عليه، فقالوا: كيف تقبل حكم الرجال؟ وخرجوا عليه، وقالوا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فأنت لم تحكم بما أنزل الله، ولم تحتكم إلى ما أنزل الله، وإنما احتكمت إلى الرجال، فخرجوا على علي بن أبي طالب وانشقوا عنه بعد أن كانوا معه، فسموا حينئذ بالخوارج.
ولذا فبدعة الشيعة وبدعة الخوارج كانت في الترتيب الزمني أسبق من بدعة القدر، والشاهد من هذا: أنه كلما كانت شوكة الإسلام قوية، وكان ذو منعة، كلما انطمست وخمدت الفتن، خاصة إذا كان السلطان صاحب دين، وصاحب شوكة وقوة ومنعة يستطيع بها أن يضرب المبتدع على أم رأسه، عند ذلك يكون الإسلام حينئذ في عافية وستر، وأمان وسلامة.
أما إذا كان السلطان في واد والإسلام في واد آخر، ولا علاقة بينهما، وإنما هو يدور مع نفسه حيث دار -أي: حيث دار هو- خلافاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن القرآن والسلطان سيفترقان، فدوروا مع القرآن حيث دار).
فإذا كان السلطان يدور مع نفسه، والقرآن في واد آخر، فلابد وأن يأتي الضعف؛ لأن الناس لا يصلحهم إلا أمير يتأمر عليهم، ووال يترأس عليهم ويوجههم ويرشدهم حتى وإن كان فاجراً، ولم يكن هناك أفجر من الحجاج بن يوسف الثقفي، حتى قال عنه عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهم: لو أتت كل أمة بخبيثها وأتينا بـ الحجاج لغلبناهم.
وهذا يدل على أنه كان أخبث الخلق ممن انتسب إلى أهل القبلة، ومع هذا فإن الأمر الآن لا يصلح إلا بمثل الحجاج يا ليت! يوماً من أيام الحجاج رغم تجاوزاته، إلا أنه كان من أهل القرآن، ومن أهل البلاغة والفصاحة والبيان، وكان محباً للقرآن والسنة، لكنه كان في العقاب يتجاوز إلى أقصى حد، وقد أنكرت عليه أمه ذات يوم صنيعه، فأخذها إلى السوق وحمل معه سيفه ودخل، فكان يدخل على البقال، وعلى صاحب القماش، وعلى الجزار، وعلى فلان وعلان، فيقلب البضاعة إذا رآها معيبة من الداخل جميلة من الظاهر، وينظر إلى أمه فيقول: أهذا دين محمد؟! فتقول: لا، فيخرج سيفه ويضرب رقبته، فيقول لها: هذا الذي دعاني إلى تأديب الناس، وإن كان ذلك بالقتل.
ولا شك بأن الذي يغش المسلمين لا يستحق القتل، بل يستحق التأديب والتعزير والتوبيخ، لكنه تجاوز في العقاب ولم يكن فقيهاً، وإنما كان محباً للفقه وأهل العلم خاصة حملة القرآن الكريم، ومع هذا لم ينج منه لا حملة القرآن ولا حملة السنة، وهذا ليس دفاعاً عن الحجاج، فإنني أبغضه ولا أحبه، وأبعده ولا أقربه، لكن كما ورد في ترجمته حتى من الشانئين المبغضين له أنه ما كان يفعل ذلك إلا حرصاً على دين الله عز وجل.
ولذا فهذه الأمة لا يصلحها إلا مثل عمر ليردها مرة أخرى، وليثبت لها العز في هذا الزمان بعد أن باتت في الذل وفي وحل الهوان تحت أقدام اليهود والنصارى.(3/4)
ما تعرضت له القدرية من العلماء والحكام
قال: [وأن ابن عمر ممن تكلم بهذا أو اعتقده بريء منهم وهم براء منه.
وكذلك عرض -أي: أمر القدرية- على ابن عباس وأبي سعيد الخدري وغيرهما فقالا مثل مقالته -أي: عبد الله بن عمر - وسنذكر هذه الأقاويل بأسانيدها وألفاظها في المواضع التي تقتضيه إن شاء الله].
قال: [ثم انطمرت هذه المقالة، وانجحر من أظهرها في جحره -يعني: انطمست هذه المقالة، ولم يكن لها أتباع ولا دعاة- وصار من اعتقدها جليس منزله، وخبأ نفسه في السرداب كالميت في قبره خوفاً من القتل والصلب والنكال والسلب من طلب الأئمة لهم لإقامة حدود الله عز وجل فيهم، وقد أقاموا في كثير منهم، ونذكر في مواضعه أساميهم، وحث العلماء على طلبهم، وأمروا المسلمين بمجانبتهم، ونهوهم عن مكالمتهم، والاستماع إليهم، والاختلاط بهم لسلامة أديانهم].
ولذلك أهل العلم في كل زمان هم أحرص الناس وأشفق الناس على الأمة، فهم من باب النصيحة يوجهون الكلام إلى عامة المسلمين ويقولون لهم: لا تجالسوا أهل البدع، ولا تحدثوهم، ولا تأخذوا عنهم، فإن ذلك هو الذي يسبب السلامة لدينكم.
أما إذا جلستم معهم، وخالطتموهم وتحدثتم إليهم، وأخذتم عنهم، وتحملتم العلم عنهم، فإنه لا يؤمن عليكم أن تقعوا في فتنتهم، ولكثر أتباع أهل البدع.
يعني: عندما يظهر شخص مثل معبد الجهني في البصرة، ويكون له أتباع عظام جداً، لم لم يتبعه أهل العلم في ذلك الزمان؟ بل أنكروا عليه بدعته، وحذروا العامة منه.
لكن لما تنكب العامة نصيحة أهل العلم لهم بألا يقتربوا من هؤلاء وقعوا في شراكهم وحبالهم؛ لأنه ليس عندهم من العلم والعقيدة السليمة ما يؤهلهم لبيان هذه المفتريات والرد عليها، ولكنهم لما اقتربوا منهم وقعوا في بدعتهم؛ لأن كلام أهل البدع في الغالب حلو جميل خاصة إذا لم يفضح أمرهم على الملأ.
وفي هذا الزمان كثير جداً من أهل البدع، فعندما نأتي وننهى الناس عن الاقتراب منهم والجلوس إليهم والأخذ عنهم يقول لك: لا.
فهذا كلامه منطقي ومعقول جداً، ولو لم يعجبك ممكن أنسق لك معه لقاء تناقشه.
أنت يا صعلوك! الذي ستنسق لقاء؟! ما علاقتك بهذا اللقاء؟ ثم بعد ذلك هو الذي يدير اللقاء! واحد جاهل لا يستطيع أن يقرأ فاتحة الكتاب في صلاته هو الذي يدبر ويسير الأمور بين أهل العلم.
يعني: هو المتحكم في أهل العلم، وعندما تأتي تكلمه تقول: أنا خائف عليك.
يقول لك: لا.
لا تخف عليَّ، أنا منتبه.
منتبه من ماذا؟! أنت جاهل، أنت لا تعرف شيئاً.
يقول لك: النقاب حرام، فتقول له: من الذي قال ذلك؟ يقول لك: إسماعيل منصور.
مع أن هذا قول مخترع جديد لم يقل به أحد من أهل العلم قاطبة، لا قديماً ولا حديثاً، حتى المخالفين للنقاب يقولون: النقاب فضيلة، النقاب مستحب.
والذين لا يقولون بوجوبه يقولون باستحبابه وبفضله.
أما القول بحرمته فلم يقل به أحد، حتى الأبالسة لم يقولوا بهذا، لكن قد يقول لك: هذا عنده حجة قوية! أأنت أيها الجاهل! الذي ستحكم عن الحجة بأنها قوية أو ليست بقوية؟! فيقول لك: لو لم يعجبك ممكن أنسق لك لقاء تتناقش معه، وبعد ذلك هو الذي يرتب ويدير المجلس! ومن هنا يدخل الشيطان على عامة الناس، والمطلوب هنا ألا نقترب من أهل البدع قط.
وهذا منهج السلف إن قبلته كنت على الهدي والصراط المستقيم، وإن رددته كنت على طريق أهل البدع.
لكن لماذا العلماء يناقشون أهل الابتداع؟ لأنهم لا خوف عليهم، وهذا دورهم الذي كلفهم الله تعالى به، ولذلك نحن نرى أن أهل العلم في كل زمان ومكان يحذرون من الاقتراب من أهل البدع وهم يقتربون؛ لأن دورهم مزدوج، يأمرك أنت ألا تذهب إليه ويذهب هو إليهم ليدحض حجتهم، ويبين فسادها ويكشف عوارها لعامة الناس حتى يحذروهم.
والخلاصة: أن أهل العلم إنما حثوا على عدم الاختلاط بالمبتدعة، وأمروا المسلمين بمجانبتهم، ونهوهم عن مكالمتهم والاستماع إليهم حتى يستقيم لهم أمر دينهم.
قال: [وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة].
لأن المبتدع إذا لم يجد له أعواناً فكيف سينشر بدعته؟ وكيف سيشتهر؟ ثم ائتوني ببدعة فيها علماء مشهود لهم بالاستقامة والصلاح.
لا يمكن أن تجد هذا أبداً.
والمبتدعة إنما هم رعاع الناس وسفلة القوم.
فمثلاً بدعة التصوف هل فيهم أهل علم مشهود لهم بالصلاح والاستقامة على الكتاب والسنة؟ أبداً.
بل إن أهل العلم هم الطبقة الكبيرة، وعندما تأتي وتنظر في رعاع الجماعة وعامة الجماعة تجد أن سفلة القوم لا عقول لهم من الأصل.
قال رحمه الله: [وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة، ومذاهبهم الخبيثة، خوفاً من مكرهم أن يضلوا مسلماً عن دينه بشبهة وامتحان، أو بريق قول من لسان، وكانت حياتهم كوفاتهم].
أي: هم أحياء، لكن كأنهم ميتين؛ لأنهم لا قيمة لهم، ولا خير فيهم، ولا نفع من ورائهم.
قال: [وأحياؤهم عند الناس كالأموات، المسلمون منهم في راحة، وأديانهم في سلامة، وقلوبهم ساكنة، وجوارحهم هادية، وهذا حين كان الإسلام في نضارة، وأمور المس(3/5)
ظهور الاتجاه العقلي
قال: [فمضت على هذه القرون سنون كثيرة ينصح فيها الأولون الآخرين، حتى ضرب الدهر ضرباته، وأبدى من نفسه حدثانه، وظهر قوم أجلاف زعموا أنهم لمن قبلهم أخلاف -هؤلاء أصحاب الاتجاه العقلي الذين يقولون: نحن خلف للسلف- وادعوا أنهم أكثر منهم في المحصول].
أي: أن التلاميذ الذين هم باختصار شديد: المعتزلة، لما أتوا بعد ظهور هذه البدع قالوا: صحيح أننا نتبنى الآراء التي قال بها أسلافنا، إلا أننا قد حصلنا من العلم ما لم يحصلوه، وإن كانوا هم قد خافوا أن يجادلوا الحكام، وأن يجادلوا أهل العلم، فنحن الآن على أتم الاستعداد لمجادلتهم؛ لأن عندنا من العقل والعلم والتحصيل والذكاء والفطنة ما ليس عندهم، وأيضاً عندنا الجرأة على النقاش.
هذه الجرأة سببها ضعف الحكام، ولو كان مع الحاكم مجموعة من أهل العلم كمجلس الحل والعقد مثلاً، أو مجلس الشورى الذين يبتون في أقوال كل مبتدع، ثم يأمرون الحاكم بأن هذا مخالف، أو هذا موافق، أو هذا متأول ولكل جزاؤه، لاندحر كل مبتدع ودخل في جحره.
قال: [وادعوا أنهم أكبر منهم في المحصول، وفي حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق -أي: أنهم أكثر وصولاً وتحصيلاً لدقائق المسائل من أسلافهم- وأحسن نظراً منهم في التدقيق، وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم].
أي: أن المتقدمين لم يكن لهم بصيرة نافذة؛ لأنهم كانوا أعجز من أن يفكروا في كل أمر، وينظروا في كل مسألة.
قال: [ورغبوا عن مكالمتهم لقلة فهمهم].
أي: أنهم يسبون أسلافهم، وهذا للعلم أنه معلم من معالم أهل البدع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم لبعض، وأعدل لأهل البدع من بعضهم لبعض؛ لأن أهل البدع يقومون بعضهم بعضاً بالتكفير والتفسيق والتبديع والسباب والشتائم.
وهو الآن يقول: [وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم].
أي: لم يكونوا يستطيعون النظر في دقائق المسائل مثلهم.
كما رغبوا عن مكالمتهم، أي: أن أسلافهم لم يستطيعوا مواجهة أهل السنة لقلة فهمهم، فيقال لمن يتبعهم: أنت متأكد أن سلفك في هذه القضية لم يكن عنده فهم ولا عقل ولا بصيرة ولا شيء؟ سيرد عليك قائلاً: نعم.
إذاً: هو لا يصلح، وأنت قد حصلت ما لم يحصل.
قال: [وأن نصرة مذهبهم في الجدال معهم حتى أبدلوا من الطيب خبيثاً، ومن القديم حديثاً، وعدلوا عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه الله عليه، وأوجب عليه دعوة الخلق إليه، وامتن على عباده إتمام نعمته عليهم بالهداية إلى سبيله، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]، فوعظ الله عز وجل عباده بكتابه، وحثهم على اتباع سنة رسوله] الكريم صلى الله عليه وسلم.
عجز المبتدعة أن يتخذوا من هذه الآية وأمثالها منهجاً ونبراساً يقتدون به.
قال: [وقال في آية أخرى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، لا بالجدال والخصومة، فرغبوا عنهما -أي: فرغب أهل البدع عن هذين- وعولوا على غيرهما، وسلكوا بأنفسهم مسلك المضلين، وخاضوا مع الخائضين، ودخلوا في ميدان المتحيرين، وابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسنة].
أي: جعلوا لهم أصولاً تخالف الكتاب والسنة، فبعد أن كان الأمر أننا نعرض كل شيء على الكتاب والسنة، صار الآن عند أهل البدع أن الكتاب والسنة مطلوب أن يعرضا على أصولهم التي اخترعوها وابتدعوها.
قال: [رغبة للغلبة، وقهر المخالفين للمقالة.
ثم اتخذوها -أي: هذه الأصول التي ابتدعوها- ديناً واعتقاداً بعدما كانت دلايل الخصومات والمعارضات].
أي: أنه منهج اتخذوه من أجل أن يغلبوا به الخصم، وهذا المنهج سرعان ما صار أصلاً ودليلاً، ثم اعتقاداً، ثم ديناً.
قال: [وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين] أي: أنهم حكموا على غيرهم ممن يخالفهم في هذه الأصول من أهل السنة بأنهم من أهل الضلال.
قال: [وتسموا بالسنة والجماعة].
أي: أن أصولهم لا علاقة لها بالكتاب والسنة، ومع ذلك يضللون المخالف لهم ويسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة.
قال: [وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين، وتسموا بالسنة والجماعة، ومن خالفهم وسموه بالجهل والغباوة -أي: وصفوه بأنه من أجهل الناس وأغبى الناس- فأجابهم إلى ذلك من لم يكن له قدم في معرفة السنة -أي: من الجهلة- ولم يسع في طلبها -أي: لم يسع في طلب السنة- لما يلحقه فيها من المشقة، وطلب لنفسه الدعة والراحة] ولذلك معظم أتباع أهل البدع جهال؛ لأنهم لم يطلبوا العلم، ولم يعهد عليهم قط طلب للعلم.
قال: [واقتصر على اسمه دون رسمه لاستعجال الرياسة] أي: أنه يتزيا بزي أهل العلم، لكنه في حقيقة الأمر لم يطلب العلم استعجالاً للرياسة.
قال: [ومحبة اشتهار الذكر عند العامة، والتقلب بإمامة أهل السنة، وجعل دأبه الاستخفاف بنقلة الأخبار].
كما حدث لـ أبي علي الأبار عندما ذهب إلى الأهواز، قال: فدخلت مسجد(3/6)
نتائج مناظرة المبتدعة
قال: [فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة].
أي: أن أسوأ شيء يضر بدينك أن يناظر أهل العلم مبتدعاً في حضورك؛ لأن كلامه جميل ولسانه حلو، لكن السم الذي يحمله هذا الكلام الحلو لا يعرفه إلا أهل العلم، ولذلك يقول القائل: إن هذه الجماعة الفلانية أو الطائفة الفلانية أو الفرقة الفلانية تقول: كيت وكيت، وهذا الكلام جميل ومعقول.
لا يا مسلم! لا يوجد شيء اسمه معقول، إما أن يكون هذا الكلام موافق لكتاب الله وسنة رسوله، أو لا، وإما أن يكون هذا الكلام له أصل عند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أو لا، لذا فأنت لا تعرف هذه المعاني، إنما الذي يعرفها هم أهل العلم، فلا تغتر بحلاوة كلام أهل البدع، فربما يكون كلامهم أحلى من كلام أهل السنة؛ لأن الباطل له بريق، وإلا فلم وقع فيه الناس؟ أما في الداخل فالسم الزعاف، لكن هذا الداخل لا يعرفه حتى قبل الدخول فيه إلا أهل العلم، ولذلك ما ابتلي المسلمون قط بلاءً أعظم من ظهور هذه البدع على عامة الناس، ومناظرة أهل البدع.
قال: [ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك].
أي: أن أكثر شيء تغيظ به المبتدع أنك تهمله وتتركه، لكن هذا مشروط بأن تكون بدعته في طي الكتمان، أما لو ظهر ببدعته وصار له أتباع وشوكة، وصولة وجولة فلا، بل لابد من فضحه حتى يرجع إلى الحق، أو حتى يتضح أمره عند عامة الناس.
أما لو كانت بدعته غير معروفة ولا منشورة فاتركه ولا ترد عليه؛ لأنك بذلك تكون قد قتلته قتلاً، يقول المتنبي: أرى كل يوم تحت ضبني شويعر قصير يطاولني ضعيف يقاويني لساني بنطقي صامت منه عاذل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل فأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل أي: عندما يناديك شخص وأنت لا ترد عليه فإنك تغيظه غيظاً لا غيظ بعده.
ومثل ذلك: شخص يريد التحرش بك، فيظل يشد في ثيابك وذراعك، وربما يناديك بأقبح شيء، ومع هذا فأنت تهمله، فيكون بذلك قد قتلته وأغظته غيظاً مابعده غيظ، أما إذا كان الأمر يستوجب الضرب على الرأس، فهذا أمر لابد منه.
قال: [ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً].
لأنه أحياناً تجد شخصاً من أهل البدع يأتي إليك ويراك بأنك رجل سني بلحية تلبس طاقية أو عمامة بيضاء صغيرة، فيقول لك أمام الناس: ألست من أهل السنة والجماعة؟ فتقول له: نعم.
فيقول لك: وأنا مبتدع، فتعال وناقشني.
فيحضر حاشيته بالكامل، والذي يهمه أن هؤلاء الناس يعتقدون فيه هو، فيقول لك: تعال، أنا أقول كيت وكيت، فهل ممكن أن ترد هذا الكلام؟ أنت لست طالب علم، ولم تكن تحضر المجالس، ولا تحفظ شيئاً من العلم، وإنما كنت تكتفي بسماع الخير فقط، فكيف سترد عليه؟ هل تقول له: والله أنا لا أعرف كيف أرد عليك؟! أو تقوله له: اذهب إلى الشيخ فلان، أو يا فلان اذهب إلى الشيخ فلان وائت به، فيأتي الشيخ فلان، ثم يقول المبتدع: أنا أقول كيت وكيت، وهي في الحقيقة شبهة جديدة غير الأولى التي طرحها؛ لأن هذا الشيء هو ديدنه، فلن يطرح على الشيخ المبجل ما يطرحه على الجاهل قبله.
وما إن يأتي فإن الشيخ يجهز رده على الشبهة التي ألقاها فلما يحضر الشيخ يقول المبتدع: اترك هذه المسألة، فقد علمت خطئي فيها.
وأنا أقول كيت وكيت، فيلقي شبهة جديدة لا يعرف الشيخ الرد عليها، ويظل يصرخ ويشتم فيه؛ لأن هذه هي حجة الضعيف.
وهذا ينزل من قدر الشيخ عند المستمع ويرفع من قدر المبتدع.
أما هو فيدعي الوقار وسمت أهل العلم، وفي هذه الحالة سيرتفع هذا المبتدع في أعين ونظر أتباعه ويسقط الشيخ، وكل ذلك لقلة العلم.
قال: [حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة -أي: ظهرت دعوة أهل البدع بالمناظرة- وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه بالحجج- فباتت الشبهة حجة والحجة شبهة- وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقراناً وأخداناً، وعلى المداهنة خلاناً وإخواناً بعد أن كانوا في الله أعداء وأضداداً، وفي الهجرة في الله أعواناً، يكفرونهم في وجوههم عياناً، ويلعنونهم جهاراً، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين.
نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا وأن يمسكنا بالإسلام والسنة، ويعصمنا بهما بفضله ورحمته].(3/7)
منهج السلف الصالح في التعامل مع أهل البدع
قال: [فهلم الآن إلى تدين المتبعين وسيرة المتمسكين وسبيل المتقدمين بكتاب الله وسنة رسوله، والمنادين بشرائعه وحكمته، الذين قالوا: {آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]].
أي: يا رب! آمنا بكتابك وصدقناه، واتبعنا في ذلك الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، فاكتبنا ممن شهد ذلك.
قال: [وتنكبوا سبيل المكذبين -أي: خالفوا سبيل أهل البدع- بصفات الله وتوحيد رب العالمين، فاتخذوا كتاب الله إماماً، وآياته فرقاناً، ونصبوا الحق بين أعينهم عياناً، وسنن رسول الله عليه الصلاة والسلام جنة وسلاحاً، واتخذوها طريقاً ومنهاجاً، وجعلوها برهاناً فلقوا الحكمة، ووقوا من شر الهوى والبدعة، لامتثالهم أمر الله في اتباع الرسول، وتركهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق].(3/8)
الحث على الاتباع والاقتداء
قال: [يقول الله عز وجل فيما يحث به على اتباع دينه، والاعتصام بحبله، والاقتداء برسوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103]].
فانظر إلى قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}! ولذلك تجد أهل السنة طائفة واحدة، وأهل البدع طوائف متعددة؛ لأنهم اتخذوا دينهم فرقاناً، واتخذوا شرعهم أشتاتاً وأشلاءً، ولذلك تجد في حديث افتراق الأمة أن هذه الأمة ستتمزق، وستبتعد كل الابتعاد عن كتاب الله وعن سنة رسوله، إلا طائفة واحدة تتمسك بما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.
قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
أي: أن أهل السنة والجماعة هم الذين يتمسكون بالأمر العتيق.
ولذلك يقول عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وكأن المبتدع يقول لله عز وجل: أنت لم تكمل شرعك، وأنت لم تتم النعمة علينا، ورسولك لم يبلغ هذا الدين إلينا، فهو يتهم الله تبارك وتعالى في أنه قصر في هذا الدين، وفي إتمامه وكماله، ويتهم الرسول كذلك فيما بلغ عن رب العزة تبارك وتعالى.
مع أن الله تبارك وتعالى قد أتم لنا هذا الدين، وأكمله ورضيه لنا، فقال آمراً إياناً: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)).
ولا شك أن حبل الله هو كتابه، وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.
قوله: ((وَلا تَفَرَّقُوا)).
هذا نهي عن التفرق والتشرذم والابتعاد عن الاعتصام بالكتاب والسنة.
قال: [وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55].
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]].
فجعل طريقه واحداً، فقال: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي)) ولم يقل: صرطي وطرقي، وإنما هو طريق واحد، وصراط واحد، وسبيل واحد.
قال: [وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]-أي: أن اتباع النبي عليه الصلاة والسلام يؤدي إلى- {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] أي: على علم.
{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
ثم أوجب الله طاعته وطاعة رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20].
وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
وقال: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].
وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، قيل في تفسيرها: إلى الكتاب والسنة -فردوه إلى كتاب الله وإلى رسول الله في حياته، وبعد مماته إلى سنته- ثم حذر من خلافه والاعتراض عليه.
فقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]-أي: نفى عنهم الإيمان- {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]-يا محمد- {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]-أي: يرضوا بهذا الحكم كامل الرضا- وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِ(3/9)
أصحاب الحديث أولى الناس بالاتباع
قال: [فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع، وذم التكلف والاختراع، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين، وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخصهم بهذا الرسم -وهم أصحاب الحديث- لاختصاصهم برسول الله عليه الصلاة والسلام، واتباعهم لقوله وطول ملازمتهم له، وتحملهم علمه، وحفظهم أنفاسه وأفعاله، فأخذوا الإسلام عنه مباشرة، وشرائعه مشاهدة، وأحكامه معاينة من غير واسطة ولا سفير بينهم وبينه، وحفظوا عنه شفاهاً، وتلقفوه من فيه رطباً، وتلقنوه من لسانه عذباً، واعتقدوا جميع ذلك حقاً، وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقيناً، فهذا دين أخذ أوله عن رسول الله عليه الصلاة والسلام مشافهة لم يشبه لبس ولا شبهة، ثم نقلها العدول عن العدول من غير تحامل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، والصافة عن الصافة، والجماعة عن الجماعة، أخذ كف بكف، وتمسك خلف بسلف كالحروف يتلو بعضها بعضاً، ويتسق أخراها على أولاها رصفاً ونظماً].(3/10)
فضل أصحاب الحديث على الأمة وانتسابهم إلى رسول الله
قال: [فهؤلاء الذين تعهدت بنقلهم الشريعة، وانحفظت بهم أصول السنة، فوجبت لهم بذلك المنة على جميع الأمة، والدعوة لهم من الله بالمغفرة، فهم حملة علمه، ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته، وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه، فحري أن يكونوا أولى الناس به -صلى الله عليه وسلم- في حياته ووفاته.
وكل طائفة من الأمم مرجعها إليهم في صحة حديثه وسقيمه، ومعولها عليهم فيما يختلف فيه من أموره].
قال: [ثم كل من اعتقد مذهباً فإلى صاحب مقالته التي أحدثها ينتسب، وإلى رأيه يستند، إلا أصحاب الحديث] أي: أن كل صاحب بدعة ينتسب إلى بدعته، وكل صاحب بدعة ينتسب إلى مؤسس هذه البدعة، إلا أصحاب الحديث فإنهم ينتسبون إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [فإن صاحب مقالتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون، وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون، وعلى أعداء سنته بقربهم منه يصولون، فمن يوازيهم في شرف الذكر؟! ويباهيهم في ساحة الفخر وعلو الاسم؟!].(3/11)
وجه تسميتهم بأهل الحديث وحفظ عقيدتهم
وأما وجه تسميتهم بأصحاب الحديث وأهل الحديث: تمسكهم بالكتاب والسنة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حث وأمر المسلمين بالتمسك بالكتاب، فلما كانوا هم أعلم الناس، وأخبر الناس بحديث النبي عليه الصلاة والسلام كانوا أكثر الناس تمسكاً بالكتاب والسنة.
قال: [واغتاظ بهم الجاحدون، فإنهم وهم حماة السواد الأعظم والجمهور الأضخم، فيهم العلم والحكم، والعقل والحلم، والخلافة والسيادة، والملك والسياسة، وهم أصحاب الجمعات والمشاهد، والجماعات والمساجد، والمناسك والأعياد، والحج والجهاد، وباذلي المعروف للصادر والوارد، وهم حماة الثغور والقناطر، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واتبعوا رسوله على منهاجه، الذين أذكارهم في الزهد مشهورة، وأنفاسهم على الأوقات محفوظة، وآثارهم على الزمان متبوعة، ومواعظهم للخلق زاجرة، وإلى طرق الآخرة داعية، فحياتهم للخلق منبهة، ومسيرهم إلى مصيرهم لمن بعدهم عبرة، وقبورهم مزارة، ورسومهم على الدهر غير دارسة -أي: ظاهرة غير منطمسة- وعلى تطاول الأيام غير منسية، يعرف الله إلى القلوب محبتهم -أي: يسوق الله تبارك وتعالى حبهم ويغرسه في قلوب الخلق- ويبعثهم على حفظ مودتهم، يزارون في قبورهم كأنهم أحياء في بيوتهم لينشر الله لهم بعد موتهم الأعلام حتى لا تندرس أذكارهم على الأعوام، ولا تبلى أساميهم على مر الأيام، فرحمة الله عليهم ورضوانه، وجمعنا وإياهم في دار السلام].
عقيدة أهل الحديث لا تزال محفوظة، والله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها على عقيدة أهل الحديث، وهي عقيدة النبي عليه السلام وأصحابه الكرام.
والمؤلف جزاه الله خيراً قد بذل جهده في تأليف هذا الكتاب، وهو ما سعى فيه إلا لإظهار عقيدة أهل السنة والجماعة على منهج أصحاب الحديث.
قال: [ثم إنه لم يزل في كل عصر من الأعصار إمام من سلف، أو عالم من خلف قائم لله بحقه وناصح لدينه فيها].
نكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(3/12)
الأسئلة(3/13)
عموم حديث (ماء زمزم لما شرب له)
السؤال
حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) هل هو خاص بالحاج أو المعتمر، أم لأي شخص يشرب الماء في أي مكان ويدعو فيستجاب له؟
الجواب
في الحقيقة الحديث ليس مخصص، وما علمت أحداً من أهل العلم يقول بتخصيصه في مكة بالذات للحاج والمعتمر، إلا شيخنا الشيخ الألباني حفظه الله، وأما أهل العلم فهم على أن ماء زمزم ينفع بإذن الله تعالى في موطنه وفي غير موطنه.
بمعنى: أنه إذا انتقل من مكانه -أي: من مكة- لانتفع به وأدى الغرض المقصود منه، ولا أدل على ذلك من أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن ينقلوا له الماء من مكة إلى المدينة، ولو كان نقله ليس فيه فائدة لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بنقله، لكن شيخنا يخالف في ذلك جماهير أهل العلم.(3/14)
حكم العمل في أعمال الصيانة في البنوك الربوية
السؤال
هل العمل في البنوك في أعمال الصيانة مثل النجارة والسباكة والدهان ونحو ذلك حرام، مع ترك أصحابها بعد الانتهاء من هذه الأعمال؟
الجواب
الأولى ترك ذلك.(3/15)
حكم وعظ النساء بدون ساتر
السؤال
ماذا تقول لهذا الخطيب الذي يعطي درساً للنساء بدون ساتر، وهو خريج جامعة الأزهر، ومعين من قبل الأوقاف، والعجيب أنه شاب، وقال: هذا من الشرع؟
الجواب
لا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الفتن، خاصة مع هذا الشاب، ولابد أن يكون هناك حاجز بين الرجال والنساء حتى تؤمن الفتنة.(3/16)
التحذير من مناقشة أهل البدع
السؤال
إذا حاورت صوفياً واستشهدت له بأحاديث مروية في البخاري ومسلم، ولم يقتنع بهما وعاب فيهما، فكيف أقنعه بأنهما من الصالحين وأفاضل أهل العلم؟
الجواب
لا تقنعه؛ لأن الذي لا يرى الضوء في عز النهار لا يحتاج إلى برهان ودليل.(3/17)
بيان الفرق بين البدع الدينية والدنيوية
السؤال
أريد أن أعرف هل يكون اتباع السنة اتباعاً مطلقاً أم أن الأولى بما هو مستحسن في عصرنا، مثل: استخدام أدوات المائدة في الطعام، هل هو بدعة أم لا؟
الجواب
يا أخي! عندما نقول: إن البدع التي هي المحدثات المنكرة، إنما نقصد البدع في الدين، أما هذه البدع التي استحدثها الناس في حياتهم ومعاشهم فليست بدعاً مذمومة، مثل: صناعة السيارات والطائرات وغير ذلك من مظاهر المدنية والحضارة، فهذه ليست مذمومة، بل هي ضريبة العقل التي افترضها الله عز وجل على عباده، وهي من البدع المستحسنة والمستحبة؛ لأنها ليست في الدين، وإنما هي في دنيا الناس وحياة الناس، ولا بأس بذلك.(3/18)
الحكم على حديث (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)
السؤال
ما مدى صحة حديث: (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق).
وما معنى أبغض الحلال؟
الجواب
هذا الحديث ضعيف، بل منكر، وقد رواه الحاكم وغيره.
ونكارة هذا الحديث: أن الله تعالى ما كان ليحل شيئاً ثم يبغضه، فالحلال ما أحله الله وأحبه، والحرام ما حرمه وأبغضه، فإذا أحب الله الطلاق فهو حلال وليس بغيضاً عند الله عز وجل، كما أن الإسناد في رواية هذا الحديث فيه ضعف كثير.(3/19)
معنى حديث: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)
السؤال
ما معنى حديث: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)؟
الجواب
أي: أوحي إلي بالكتاب، وبمثل الكتاب، وهو السنة.(3/20)
الحكم على حديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)
السؤال
ما مدى صحة حديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)؟
الجواب
اختلف أهل العلم في صحته، والراجح أنه حديث حسن.(3/21)
الحكم على حديث لعن مروان بن الحكم
السؤال
ما صحة الحديث في لعن مروان بن الحكم؟
الجواب
أنا لم أعرفه، ولم أسمعه قبل هذا.(3/22)
الجمع بين فضل الأعمال في العشر الأول من ذي الحجة وحديث (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)
السؤال
كيف نجمع بين حديث: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب الله إلى من هذه الأيام)، أي: أيام العشر، وحديث: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)؟
الجواب
لا يوجد اختلاف أصلاً حتى نحتاج إلى الجمع، فالحديث الأول يتكلم عن عموم العمل الصالح، ومحل هذا العمل أيام العشر، والحديث الثاني يتكلم عن نوع معين من العمل الصالح وهو الصيام.(3/23)
حكم أداء ركعتي الفجر في وقت الفجر الكاذب
السؤال
هل يجوز صلاة سنة الفجر في وقت الفجر الكاذب.
أي: بعد الأذان الأول وقبل الفجر الصادق؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن السنن الراتبة مرتبطة مع الفرض ابتداءً وانتهاءً، فإذا لم يكن الفجر قد دخل عند الأذان فلا يجوز تعجيل السنة في هذا الوقت؛ لأنها في غير وقتها.(3/24)
معنى حديث (من سمع النداء فلم يأته)
السؤال
( من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر) ما معنى هذا الحديث؟
الجواب
هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجة بسند صحيح، وهو حث على إتيان صلاة الجماعة، وقد حمله أهل العلم على استحباب وتأكيد الإتيان لصلاة الجماعة.(3/25)
حكم استخدام وسائل تنظيم الأسرة
السؤال
هل يجوز استخدام وسائل تنظيم الأسرة؟
الجواب
إذا كان لغير علة وسبب فلا يجوز، كأن يكون لأجل الفقر، أو لأجل الدلع، أو واحدة تريد الحفاظ على جمالها، فهذا لا يجوز قط، أما إذا كان لعلة أو سبب فجائز، كأن تكون الأم مريضة، أو اتفقت مع زوجها على إتمام إرضاع المولود، فلها عند ذلك أن تنظم لوقت يسمح بإتمام هذه الرضاعة، ثم تخلع هذه الوسيلة للاستعداد لإنجاب آخر.
ولا شك أن خير وسيلة في ذلك هو اللولب؛ لأن اللولب أقل الوسائل خطراً، بخلاف الحبوب التي تورث السرطان وغيره من الأمراض.(3/26)
الحكم على حديث (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)
السؤال
حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)، نريد أن نعرف صحته وفقهه؟
الجواب
هو على أي حال حديث ضعيف، فهو عند أبي داود بسند ضعيف.(3/27)
حكم إعطاء الجوائز على حفظ القرآن الكريم أو المسابقات الثقافية
السؤال
المسابقة في حفظ القرآن الكريم فيها جوائز توزع على الفائزين، هل هي محرمة أم مكروهة؟ وكذلك المسابقة على معرفة صحابي أو صحابية؟
الجواب
لا بأس بذلك، وهو من الأمور المباحة.(3/28)
حكم خروج المرأة من بيتها في عدة الوفاة لطلب العلم
السؤال
امرأة مات زوجها، فهل يجوز لها أن تخرج من بيتها قبل الأربعة أشهر وعشرة أيام، وذلك لطلب العلم؟
الجواب
لا يجوز، والنبي عليه الصلاة والسلام لما نهى المرأة المعتدة من وفاة زوجها عن الخروج إنما نهى أصحابه، مع أن طلب العلم واجب، والخروج من البيت وحضور مجلس النبي عليه الصلاة والسلام من أوجب الواجبات، ومع هذا فإن هذا الخطاب موجه لنساء الصحابة في الدرجة الأولى، ولم يستثن من ذلك طالبة العلم.(3/29)
حكم من حلف على يقين صادق ثم فوجئ بخلافه
السؤال
تقول المرأة: قد حلفت بالله على شيء أنه لم يكن في هذا المكان، ولكني وجدته فيه، فهل عليَّ صيام ثلاثة أيام؟
الجواب
لا يجب الصوم؛ لأن ظاهر السؤال أنها حلفت على يقين، أن هذا الشيء ليس موجوداً هنا، ثم فوجئت بعكس ذلك، فهي حلفت على يقين صادقة ولم تحلف كاذبة.(3/30)
حكم الرسم بالحناء على اليدين
السؤال
هل يعتبر الرسم بالحناء على اليدين وشم؟
الجواب
إذا كان رسماً على ظاهر اليدين أو الرجلين فإنه ليس وشماً، وإنما الوشم هو تخريم الجلد وتغذيته بالحناء أو الكحل، بحيث يصير أمراً لازماً في اليد طول حياة الموشوم، فإذا كان الحناء في الظاهر فإنه لا يحرم، وإذا كان على الوجه الآخر فإنه حرام.(3/31)
حكم التنفل بالصلاة في أوقات الكراهة من باب التصدق على من لم يدرك الجماعة
السؤال
هل يجوز التصدق على المصلي المتأخر عن الصلاة في أوقات الكراهة، مثل بعد الفجر أو بعد العصر؟
الجواب
لا يجوز؛ لأنه معذور في إتيان الصلاة، وأنت لا تجبر على ذلك، ولست معذوراً في دخولك معه في هذه الأوقات المنهي عنها.(3/32)
كيفية الاستفادة من حضور مجالس العلم
السؤال
أحضر مجالس العلم، لكن أريد الاستفادة منها، فكيف ذلك؟
الجواب
إن بركة العلم تكون بالعمل به، وأن تأتي ومعك الكراس وتسجل رءوس الموضوعات، وإذا كان هناك أدلة تحت كل رأس موضوع فلا بأس أن تكتبها حتى تحصل على المسألة بدليلها، ثم تراجع مكتوبك هذا كل فترة معينة من الزمن حتى لا تنسى العلم.(3/33)
الحكم على حديث (يس لما قرئت له)
السؤال
ما صحة حديث: (يس لما قرئت له)؟
الجواب
ضعيف.(3/34)
حكم قراءة سورة يس في الأمور الصعبة
السؤال
رأيت بعض زملائي يقرءون سورة يس وهم في طريقهم للامتحان، كما قد يقرؤها الواحد منهم للآخر عندما يقوم بأمر صعب، فما صحة هذا العمل؟
الجواب
لم يصح في يس حديث واحد.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(3/35)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ذكر من اشتهر بالإمامة في السنة
أهل السنة والجماعة هم الذين رفع الله ذكرهم، وأعلى مقامهم، وخلد آثارهم، لرفعهم وإعلائهم وتخليدهم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، واعتنائهم بها، وحفظهم لها، وذودهم عنها، وقد دون التاريخ عدداً لا يكاد يحصى من أئمة الدين، وأهل الرياسة في السنة، الذين كان لهم قدم صدق في ذلك.(4/1)
باب سياق ذكر من رسم بالإمامة في السنة والدعوة والهداية إلى طريق الاستقامة بعد رسول الله إمام الأئمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
بعد أن تكلمنا عن أهمية اتباع آثار السلف وعدم الخروج عنها، وذم البدعة واتباع الأهواء، واتباع العقل وتقديمه على النقل، ذكر الإمام اللالكائي باب خص فيه سرد أسماء من رسم بالإمامة في السنة، أي: من اشتهر بالدعوة إلى السنة والدعوة إلى الهداية وإلى طريق الاستقامة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو إمام الأئمة.(4/2)
المشهورون بالإمامة من الصحابة رضوان الله عليهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فمن الصحابة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت وأبو موسى الأشعري وعمران بن حصين وعمار بن ياسر وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان وعقبة بن عامر الجهني وسلمان وجابر وأبو سعيد الخدري وحذيفة بن أسيد الغفاري وأبو أمامة صدي بن عجلان وجندب بن عبد الله البجلي وأبو مسعود عقبة بن عمرو وعمير بن حبيب بن خماشة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم أجمعين].
يعني: كأنه أراد أن يقول: أشهر الصحابة الذين دعوا إلى سلوك سبيل السنة هم هؤلاء، وهذا لا ينافي أن الصحابة رضي الله عنهم جميعاً دعوا إلى السنة، ولكن من رسم بالإمامة في الدعوة إلى السنة والدعوة إلى طريق الهداية على منهاج النبوة هم هؤلاء، ولا ينفي أن غيرهم قام بهذا الدور، ولكن أدوارهم كانت أقل في الازدهار والاشتهار من هؤلاء.(4/3)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل المدينة
قال: [ومن التابعين من أهل المدينة: سعيد بن المسيب] ولذلك أنت لا تسمع اسماً من هذه الأسماء إلا وهو مشهور، لأن الله تبارك وتعالى كتب له الذكر والثناء الجميل في قلوب الناس بسبب دعوته إلى السنة [وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وسليمان بن يسار ومحمد بن الحنفية وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي بن حسين وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وكعب الأحبار وزيد بن أسلم ومحمد بن مسلم الزهري وربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بـ ربيعة الرأي -لأنه إمام أهل المدينة في زمانه وكان شيخاً لـ مالك - وعبد الله بن يزيد بن هرمز وزيد بن علي بن الحسين وعبد الله بن حسن وجعفر بن محمد الصادق.
ومن الطبقة الثالثة: أبو عبد الله مالك بن أنس الفقيه وعبد العزيز بن أبي سلمة المعروف بـ الماجشون.
ومن بعدهم: ابنه عبد الملك -يعني: عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون - وإسماعيل بن أبي أويس وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ويحيى بن أبي كثير اليماني.(4/4)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل مكة
قال: [ومن أهل مكة: عطاء -الذي هو ابن أبي رباح - وطاوس بن كيسان المدني ومجاهد بن جبر وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وعبد الله بن طاوس، ثم ابن جريج ونافع بن عمر الجمحي وسفيان بن عيينة وفضيل بن عياض ومحمد بن مسلم الطائفي ويحيى بن سليم الطائفي، ثم أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الفقيه الإمام العلم، ثم عبد الله بن يزيد المقرئ وعبد الله بن الزبير الحميدي رضي الله عنهم أجمعين].(4/5)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الشام والجزيرة
قال: [ومن أهل الشام والجزيرة أو من يُعد فيهما من التابعين: عبد الله بن محيريز ورجاء بن حيوة وعبادة بن نسي وميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك الجزري.
ثم من بعدهم: إمام أهل الشام الإمام الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو ومحمد بن الوليد الزبيدي، وسعيد بن عبد العزيز التنوخي وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وعبد الله بن شوذب وأبو إسحاق الفزاري]، وهو إمام جبل لو أنك قرأت ترجمته لعلمت أنه لا يقل أبداً في الجلالة والفضل عن أحمد بن حنبل.
قال: [ثم من بعدهم: أبو مسهر -وهو عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي - وهشام بن عمار شيخ البخاري ومحمد بن سليمان المصيصي المعروف بـ لوين، وهذا إمام كبير من أئمة النقد.(4/6)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل مصر
قال: [ومن أهل مصر: حيوة بن شريح والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة].
كانوا دعاة إلى السنة.
قال: [ومن بعدهم في مصر: عبد الله بن وهب وأشهب بن عبد العزيز]، وهو إمام جبل كبير يقول فيه الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه.
فكان سريع الغضب وكان إذا غضب طاش وصاح في الذي أمامه، فهذه العصبية وهذا الغضب أثر على قبول كثير من علمه؛ ولذلك قال فيه الإمام الشافعي هذه الكلمة.
قال: [وعبد الرحمن بن القاسم وأبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني -الذي هو تلميذ الإمام الشافعي وكاتبه- وأبو يعقوب البويطي -تلميذ الشافعي كذلك- والربيع بن سليمان المرادي -تلميذ الشافعي - ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم] تلميذ الشافعي أيضاً.
واعلم أن الشافعي رحمه الله كان إمام مدرسة الدعوة للسنة، ولذلك خرَّج تلاميذاً كلهم يدعون إلى السنة، فالتلميذ يرضع من شيخه منهجه، ويرضع منه سمته ودله وهديه ومنهجه حتى في حياته، لا أقول في دعوته فحسب وإنما في حياته؛ لأن الإنسان يؤثر ويتأثر، فإذا كان الأمر كذلك فإن كل إمام أخرج أئمة من بعده.(4/7)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الكوفة
قال: [ومن أهل الكوفة: الإمام الشعبي وعلقمة بن قيس وأبو البختري بن فيروز وإبراهيم النخعي وطلحة بن مصرف وزبيد بن الحارث والحكم بن عتيبة وابن مغول وأبو حيان التيمي وعبد الملك بن أبجر وحمزة الزيات ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والثوري وشريك القاضي وزائدة بن قدامة وغيرهم من أهل العلم].(4/8)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل البصرة
قال: [ومن أهل البصرة: أبو العالية الرياحي والحسن بن أبي الحسن البصري -الإمام الكبير الذي دعا إلى السنة، حتى خرج عليه واصل بن عطاء واعتزله- ومحمد بن سيرين وأبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي -هؤلاء أئمة كبار- ومن بعدهم: أيوب السختياني -الذي هو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة ويونس بن عبيد وعبد الله بن عون وسليمان التيمي وأبو عمرو بن العلاء، ثم حماد بن سلمة وحماد بن زيد ويحيى القطان ومعاذ بن معاذ العنبري وعبد الرحمن بن مهدي ووهب بن جرير وأبو الحسن المديني وعباس بن عبد العظيم العنبري ومحمد بن بشار وسهيل بن عبد الله التستري].(4/9)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل واسط وبغداد والموصل
قال: [ومن أهل واسط: هشيم بن بشير الواسطي وعمرو بن عون وشاذ بن يحيى ووهب بن بقية وأحمد بن سنان.
ومن أهل بغداد أحمد بن حنبل -وإن لم يكن في بغداد إلا أحمد بن حنبل لكفى، فهو إمام الدنيا بأسرها؛ ليس إمام السنة في بغداد فحسب، بل هو إمام أهل السنة في زمانه- وأبو زكريا يحيى بن معين -الإمام الكبير، إمام الجرح والتعديل- وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو ثور وأبو خيثمة زهير بن حرب والحسن بن الصباح البزار وأحمد بن إبراهيم الدورقي ومحمد بن جرير الطبري -صاحب التفسير- وأحمد بن سلمان النجاد -الفقيه- وأبو بكر النقاش المقرئ.
ومن أهل الموصل: المعافى بن عمران الموصلي].(4/10)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل خراسان
قال: [ومن أهل خراسان: عبد الله بن المبارك -الإمام الكبير- والفضل بن موسى السيناني والنضر بن محمد المروزي والنضر بن شميل المازني ونعيم بن حماد -الإمام الكبير العلم- وإسحاق -المعروف بـ ابن راهويه - وأحمد بن سيار المروزي ومحمد بن نصر المروزي -له كتاب اسمه (تعظيم قدر الصلاة) في مجلدين، ظل أهل العلم ينتظرونه دهراً طويلاً حتى طُبع منذ خمس سنوات فقط -ويحيى بن يحيى النيسابوري - شيخ مسلم وتلميذ مالك -ومحمد بن يحيى الذهلي - قرين البخاري، بل هو أعلى منه- ومحمد بن أسلم الطوسي وحميد بن زنجويه النسوي وأبو قدامة السرخسي وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري -الإمام الكبير صاحب الصحيح- ويعقوب بن سفيان الفسوي -صاحب كتاب المعرفة والتاريخ- وأبو داود سليمان بن الأشعث -صاحب السنن- وأبو عبد الرحمن النسوي وأبو عيسى الترمذي -صاحب السنن- ومحمد بن إسحاق بن خزيمة -صاحب الصحيح- ومحمد بن عقيل البلخي].(4/11)
المشهورون بالإمامة في السنة من أهل الري وطبرستان
قال: [ومن أهل الري: أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي وأبو عبيد الله الإمام الكبير محمد بن مسلم بن واره الذي انفرد في زمانه بالدعوة إلى منهاج النبوة، وأبو مسعود بن الفرات نزيل أصبهان.
ومن بعدهم: عبد الرحمن بن أبي حاتم -يعني: عبد الرحمن ابن الإمام الكبير- ومن أهل طبرستان: إسماعيل بن سعيد الشالنجي والحسين بن علي الطبري وأبو نعيم الاستراباذي وعلي بن إبراهيم بن سلمة القطان القزويني].
يعني: الله تعالى سخر لدينه من يدعو إليه على منهاج النبوة في كل زمان ومكان حتى في البلاد التي لا تتكلم اللسان العربي، وهذا بلا شك من عظيم عناية الله عز وجل بهذا الدين العظيم، أن يسخر في بلاد العجم من يدعو بدعوة محمد عليه الصلاة والسلام، فصدق في هذه الأمة قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق -أي: داعين إليه- لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
فلابد في كل زمان ومكان من قائم لله بحجة، ومبلغ دعوة الحق إلى الخلق إلى قيام الساعة.
ومن سوء الاعتقاد بالله عز وجل: أن تعتقد أن الله تعالى يُخلي بلداً من داع إليه، أو يُخلي زماناً من داع إليه.
هذا من سوء الظن بالله عز وجل.
ثم يتكلم الإمام بعد ذلك ويسرد ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في ثواب من حفظ السنة ومن أحياها ودعا إليها، ويعقبه بباب آخر أجمل منه وهو شروح أهل العلم لبعض الآيات التي حثت على التزام السنة والعمل بالحكمة.(4/12)
ثواب من حفظ السنة ومن أحياها ودعا إليها
قال: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ثواب من حفظ السنة ومن أحياها ودعا إليها].(4/13)
من سن في الإسلام سنة حسنة عمل بها بعده
فقال: [عن جرير بن عبد الله البجلي: (كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة عُمل بها من بعده كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة عُمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم)]، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي في الصحيح.
والسنة لها معان كثيرة، فالسنة هي الطريقة المسلوكة، فإما أن تكون هذه الطريقة المسلوكة حسنة أو سيئة، ولذلك تقول: فلان يسير سيراً حسناً، أو يسير سيراً سيئاً، أو يسير على طريقة حسنة، أو على طريقة سيئة.
فقولك: على طريقة.
أي: على سنة سواء كانت سنة سيئة أو سنة حسنة، والسنة كذلك إنما تعني أقوال النبي عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريراته.
والسنة إما أن تكون خيراً وإما أن تكون شراً.
وعند الفقهاء السنة ما دون الفرض.
تقول: هذا فرض، وهذا سنة.
الظهر فرض، له سنن قبلية وبعدية.
فالسنة عند الفقهاء غير السنة عند أهل اللغة، وكذا هي غير السنة عند الأصوليين والمحدثين.
ولذلك السنة عند قوم: هي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
فيتحدد المقصود والمراد من لفظ السنة إذا وردت في دليل أو في نص من السياق، أو من سبب ورود هذا النص، فحديث جرير هنا: (من سن في الإسلام سنة حسنة ومن سن في الإسلام سنة سيئة).
هل الإسلام فيه سنة حسنة وسنة سيئة مع قوله عليه الصلاة والسلام: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)؟ لا.
إذاً: البدعة في دين الله كلها ضلالة؛ لأنها محدثة لم تكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف تكون هذه المحدثة سنة حسنة أحياناً وسنة سيئة أحياناً أخرى؟ لا.
لابد -ظاهر حديث البدع والنهي عنها- أن تكون كل محدثة في دين الله سيئة، ولكن بالنظر إلى سبب ورود هذا الحديث على جهة الخصوص -أي: حديث جرير - يرتفع الإشكال.
فانظر إلى السنة إذا كانت مندرجة تحت أصل شرعي ستكون سنة حسنة، فقوله هنا: (أن قوماً من مضر جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم حفاة عراة فتمعر وجه النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى ما نزل بهم من الفاقة -أي: من الفقر- فخطب الناس وحثهم على الصدقة، فجاء رجل من الأنصار بصرة عجزت يداه عن حملها، ثم تتابع الصحابة بجمع الصدقة، حتى سُر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فعرض للرجل الأول الذي لمح مراد النبي عليه الصلاة والسلام من هذا التوجيه وهذا الخطاب.
لما أمرهم وحثهم على الصدقة فطن هذا الرجل أن هذا الحث إنما هو لأجل هؤلاء القوم الذين أتوا حفاة عراة من مضر، وقد ظهرت على أبدانهم وثيابهم آثار الفقر، فذهب وأتى بما عنده فوضعه بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى الصحابة صنيع ذلك الرجل ذهبوا جميعاً إلى بيوتهم؛ فهذا أتى بفضل ماله، وهذا أتى بفضل زاده، وهذا أتى بفضل ملبسه ومشربه وغير ذلك فوضعوه في نطع، وحملوا ذلك النطع.
قال الراوي: فكادت أيديهم أن تكل.
يعني: أن تتعب من حمل هذا النطع الكبير أو هذا الجلد الكبير الذي وضع فيه تلك الصدقات.
قال: بل قد كلت).
وهذا دليل على أنهم إنما أتوا بما عندهم من خير.
(فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سن في الإسلام سنة حسنة) والذي سن هذا الصنيع إنما هو ذلك الرجل الأول الذي ذهب وأتى بما عنده ففعل بفعله وصنع صنيعه بقية الصحابة، ولكن الرجل هذا لما ذهب إلى بيته ليأتي بما عنده هل اخترع في دين الله أمراً جديداً أم أنه اندرج فعله وصنيعه تحت أصل عام وهو مشروعية الصدقة؟ الصدقة مشروعة من الأصل، ولكنه أحيا هذه السنة في قلوب الصحابة بفعله، فاستحق أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام عنه: (من سن في الإسلام).
يعني: من ذكر الناس وأحيا سنة كاد الناس أن يغفلوا عنها.
(فله أجرها) أي: أجر إحيائها وأجر عملها، وكذلك له أجر من عمل بهذه السنة من بعده إلى يوم القيامة شريطة ألا يُنقص ذلك من أجور من عمل بها من بعده شيئاً.
وفي المقابل: (من سن سنة سيئة).
وقال جرير: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن يُنقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً) أخرجه مسلم.(4/14)
من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)].(4/15)
عليكم بالسبيل والسنة
قال: [وعن أبي بن كعب قال: عليكم بالسبيل والسنة]، أي: أحثكم وأحضكم على التمسك بالسبيل أي: الطريق، وهذا الطريق هو السنة.
قال: [فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة وذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل فيعذبه الله]، يعني: ما من عبد على وجه الأرض على السبيل والسنة يذكر الله تعالى ويخافه حق خوفه إلا فاضت عيناه، فإذا كان كذلك فإن الله لا يعذبه.
قال: [وما على الأرض عبد على السبيل والسنة يذكر الرحمن تعالى في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله، إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها، فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها -أي: سقط عنها ورقها- إلا حط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها.
وإن اقتصاداً في سنة وسبيل خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة].
أي: اقتصاد في اتباع خير من اجتهاد في ابتداع.
لو أن المرء أخذ من السنة ما كان في وسعه وفي طاقته خير له من أن يجتهد في إحداث بدعة، فالبدعة في دين الله إما أن تكون بالنقصان وإما أن تكون بالزيادة، والشر في دين الله إما بالنقصان وإما بالزيادة.
فقال هنا: [وإن اقتصاداً في سنة وسبيل خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً؛ أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم].
هذه دعوة إمام كبير وعلم من أعلام الصحابة وهو أبي بن كعب.(4/16)
النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة عبادة
قال: [ثنا أبو إسحاق إسماعيل الأقرع: سمعت الحسن بن أبي جعفر يذكر عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة].
وهذا أثر صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالنظر في وجه الرجل من أهل السنة عبادة.
يعني: يتقرب بها الناظر إلى الله عز وجل، يتملى من وجوه أهل السنة والجماعة الداعين إلى الله على منهاج النبوة، فلا شك أن هذه النظرة يؤجر عليها صاحبها إن نوى بذلك وجه الله.(4/17)
قمع البدعة بالسنة
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحداً أحب إلى الشيطان هلاكاً مني].
ابن عباس يتكلم عن نفسه ويقول: أنا أوقن أنه ليس على وجه الأرض أحد أحب هلاكاً إلى الشيطان مني، قيل له: وكيف؟ فقال: والله إنه لتحدث البدعة في مشرق أو في مغرب فيحملها الرجل إلي فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه] أي: على الشيطان؛ لأن الداعي إلى سلوك سبيل الضلالة أو سبل الضلال والانحراف إنما هو الشيطان بالدرجة الأولى على أيدي أعوانه من البشر، فإذا وقعت البدعة على مسامع رجل يدعو إلى السنة ويميز بينها وبين البدعة، ويمقت البدعة ويحب السنة فلا شك أنه سيدحض تلك البدعة ويردها ويثبت عوارها وفسادها، وبذلك لا يفلح الشيطان في استقرار وثبات تلك البدعة في قلوب شيعته، وبذلك يندحر وترد عليه بدعته، فحينئذ يغضب الشيطان من ذلك العالم الذي يدعو إلى السنة، ويتمنى هلاكه؛ لأن الشيطان إنما يجتهد أكثر ما يجتهد على الجُهال والعُباد، كما ورد في ذلك حديث وإن كان ضعيفاً جداً: أن شيطاناً قال لإبليس: أيهما أشد علينا العالم أو العابد؟ قال: العالم.
فقال: وما دليل ذلك؟ -حتى الشيطان يسأل عن الدليل- قال: اذهبوا إلى فلان العابد وقولوا له: هل يستطيع ربك أن يجمع الدنيا في بيضة؟ فذهبوا إليه وتمثلوا بشراً وقالوا: يا فلان هل يستطيع ربك أن يجمع الدنيا في بيضة؟ قال: أعوذ بالله إنه لا يقدر على ذلك، فنفى عن الله عز وجل القدرة -نسي أنه القدير وأنه يفعل ما يريد- فرجعوا إليه -أي: إلى شيخهم وأستاذهم إبليس الكبير- فقالوا: إنا سألناه فقال: أعوذ بالله، إنه لا يقدر على ذلك.
فقال: كفر من حيث لا يدري.
قال: اذهبوا إلى فلان العالم فاسألوه نفس السؤال، فذهبوا إليه فسألوه نفس السؤال؟ فضحك العالم وقال: نعم يقدر على ذلك؛ لأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قالوا: وكيف؟ قال: إما أن يكبر حجم البيضة فيدخل الدنيا فيها، وإما أن يصغر الدنيا ويدخلها في البيضة.
وهذا الحديث ضعيف جداً، يذكره الوعاظ على أنه من الأحاديث الثابتة أو من القصص الثابتة، ولكن الحافظ ابن عبد البر رواه بغير إسناد، وإن شئت فقل: بإسناد ضعيف واه جداً.(4/18)
الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة
قال: [عن عبد الله: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة].
ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم -اقتصاد في سنة- وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).
لم يستثن ولم يجعل الانتهاء عن المعاصي في مقدورك، وإنما نهاك عنه كله، ابتعد عن كل ما حرم الله، أما ما أمرك الله تعالى به فأت منه ما استطعت.
أرأيت إلى هذه الرحمة عظيمة؟! إذا أمرك الله بأمر فإن كان في مقدورك فاعمله، وإن كان غير ذلك فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما المناهي كلها فداخلة في مقدور العبد وقدرته؛ لأنه قال: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
ومن هنا تبعيضية.
أي: فأتوا منه بعض الذي في وسعكم؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، والتحلي بالفضائل لا يكون إلا بعد التخلي عن الرذائل.
إذا أراد المرء أن يتحلى بخصلة جميلة فلابد أن يتخلص من ضدها الذميم قبل أن يتحلى بها.
يعني: ينظف قلبه أولاً من أدرانه ثم ينقيه بعد ذلك ويجعله مهيأً لقبول مكارم الأخلاق.(4/19)
الاعتصام بالسنة نجاة
قال: [عن الزهري قال: الاعتصام بالسنة نجاة].
يعني: نجاة من كل هلكة وانحراف وضلال وزيغ.
قال: [ثنا أبو المليح قال: كتب عمر بن عبد العزيز بإحياء السنة وإماتة البدعة].
أي: لما كان والياً كتب إلى عُماله في الأمصار أن أظهروا السنة وادعوا إليها وأميتوا البدعة.
فهل رأيتم والياً في عصرنا هذا ينصح عماله بأن يحيوا السنة ويميتوا البدعة؟!(4/20)
إياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء
قال: عن عاصم: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تُحرفوا الإسلام يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تُلقي بين الناس العداوة والبغضاء.
قال: فحدثت الحسن بهذا فقال: صدق أبو العالية ونصح].
الحسن البصري رجل يعرف الكلام ويعرف وزنه ومقداره، فلما سمع هذا الكلام قال: صدق أبو العالية ونصح لهذه الأمة.
[قال: فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي -أي: هو عاصم - أأنت حدثت محمداً بهذا؟ -يعني: أنت حدثت محمد بن سيرين الذي هو أخوها- فقال: لا.
قالت: فحدثه إذاً].
هذا كلام جميل جداً، وقد حاز إعجاب الحسن البصري وعاصم الباهلي ومحمد بن سيرين وحفصة بنت سيرين.
يعني: أن الأهواء من شأنها أنها تلقي بين الناس العداوة والبغضاء.
ويرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: إن أهل السنة أرحم لأهل البدع من بعضهم لبعض.
أي: رجل من أهل السنة هو أرحم وأعدل في أهل البدع من أهل البدع بعضهم مع بعض.(4/21)
لا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة
قال: [ثنا أبو حيان البصري قال: سمعت الحسن: لا يصح القول إلا بعمل].
يعني: مهما قلت إذا كنت لا تعمل فإنه لا نجاة، ولا يصح هذا القول، بل لابد أن يكون القول مع العمل.
ولذلك يقول علي بن أبي طالب: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
فالعلم ينادي: اعمل بي وإلا تركتك.
ولذلك خير سبيل للمحافظة على العلم أن تعمل به، كما قال بشر الحافي عليه رحمة الله: يا أهل الحديث! أدوا زكاة الحديث، اعملوا من كل مائتين بخمسة.
فشبه العلم بالمال.
فلو أن العلم كالمال فاعمل بهذا العلم على قدر ما تخرج من زكاة المال؛ من كل مائة اثنين ونصف، فلما لم يمكن تجزئة الحديث قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث.
[قال الحسن: لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية؛ لأن الأعمال بالنيات، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة].
فكم من إنسان يعمل بنية صالحة خالصة ولكن عمله غير مستقيم فلا يقبل منه! وكم من إنسان عمله مستقيم -يعني: صحيح- ولكنه غير مخلص فيه، فكذلك لا يُقبل منه، فإذا صلى المرء رياءً لا تُقبل تلك الصلاة منه، ولكنها تصح إذا استوفت أركانها وشروطها.
فلو أن شخصاً صلى فقام قياماً صحيحاً، ركع واطمأن، قام فاعتدل، سجد فاطمأن، جلس بين السجدتين فعل ذلك في كل ركعة، وكان من قبل متوضئاً وضوءاً صحيحاً، فإن هذه الصلاة قد استكملت أركانها وشروطها، فهي صحيحة، ولكن إن راءى بها صاحبها فإنها لا تُقبل عند الله، ولا أجر له فيها، ولكن لأهميتها أنها تُسقط عن العبد أن يطالب بإعادة الصلاة مرة أخرى، ولكن لا ثواب له فيها؛ لأن هذا العمل خلا من نية صالحة.
ولو أن العبد صلى لله عز وجل لا يبتغي شهرة ولا رياء ولا سمعة؛ لأن من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به.
ولو أن العبد صلى لله عز وجل لا يريد بذلك مدح الناس ولا ثناءهم، ولكنه صلى على غير هدى، نقر الصلاة نقر الغراب أو نقر الديك، أو التفت فيها التفات الثعلب، أو أنه لم يتقنها ولم يحسنها، أو لم يأت بركن فيها، أو أخل بشرط في صحتها، فلا شك أن هذه الصلاة على غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان مخلصاً فيها؛ لأنها ليست مستقيمة، ولذلك يقول الفضيل بن عياض في قول الله عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7].
قال: لا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً وصواباً.
أي: حتى يكون خالصاً لله، وصواباً على منهج النبي عليه الصلاة والسلام.
ولذلك تواطأت أقوال أهل السنة في كل زمان ومكان، قول الحسن وقول ابن سيرين وقول حفصة وقول الدراوردي وقول ابن المبارك وقول أحمد؛ تشابهت أقوالهم لأن اعتقادهم واحد، ومنهجهم واحد في العلم والعمل فتشابهت أقوالهم؛ لأن المعين الذي يستقون منه جميعاً كذلك واحد، فلابد أن يكون كلامهم واحد.
قال: لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا باتباع السنة.(4/22)
يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله
قال: [عن الحسن قال: يا أهل السنة! ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس.
ولا شك أن أهل السنة كثرة، ولكن الحسن إنما ينصح أئمة السنة لا عامة أهل السنة، والله تعالى أبى أن يعيش في زمان أهل السنة أقلية، ولكن أهل السنة بالمقارنة لأهل البدع كثرة كاثرة، فالقدرية أين هم؟ والخوارج أين هم؟ والشيعة أين هم؟ والإباضية أين هم؟ والإسماعيلية أين هم؟ والمرجئة أين هم؟ فحينما تذكر أصحاب بدعة بالمقارنة لأهل السنة في مجموع الأمة تجد أن مجموع أهل السنة أعظم من أهل البدعة، فقول الحسن موجه لأئمة السنة لا لعامة أهل السنة].(4/23)
لا يقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة
قال: [عن سعيد بن جبير قال: لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يُقبل عمل إلا بقول، ولا يُقبل عمل وقول إلا بنية، ولا يُقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة].
وكأنه كلام الحسن البصري لأم؛ لأن المعين واحد.
هذا الكلام نُقل عن عشرات ومئات من أئمة أهل السنة، ولكن ما ذُكر يكفي.
وعن حماد بن زيد قال: كان أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني إمام أهل البصرة وهو شيخ حماد بن زيد - عندي أفضل من جالسته، وأشده اتباعاً للسنة.
أما واصل بن عطاء، فلا أحد يتكلم عنه، وإذا تكلموا عنه لن يتكلموا عنه إلا بكل شر، فاعلم أن أهل السنة الله تعالى يكتب لهم الذكر الجميل والثناء الحسن إلى يوم القيامة، إذا ذُكر واصل بن عطاء والحسن البصري فإننا نميل إلى الحسن ونحبه؛ لأن الحسن كان إمام أهل البصرة في زمن التابعين وهو الداعي إلى السنة، وأما واصل بن عطاء فقد كان تلميذاً من تلامذة الحسن البصري، سأل أحدهم الحسن البصري وقال: ماذا تقول في مرتكب الكبيرة؟ والسؤال هذا موجه للحسن، فيقوم واصل ويسبق عليه الكتاب ويقف في المجلس ويقول: مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، وهو مخلد في النار.
فالسؤال أولاً لم يوجه له، وهذا مناف لأدب مجلس العلم؛ لأن الشيخ هو الذي يتكلم فقط وهو الذي يجيب فقط، وإنما أنت عليك أن تسمع، فلما رأى الحسن تغير وجهه وتمعر وغضب فقام في ناحية المسجد، في آخر المسجد، وأهل البدع في كل زمان ومكان متأخرون وليسوا هم الأفضل، هو لم يجلس في مكان الحسن البصري، بل ذهب إلى ركن المسجد والذي في قلبه مرض ذهب معه، فبمجرد ما إن رأوا رايته منحرفة رفعوا راية الانحراف وذهبوا وجلسوا مع واصل بن عطاء.
فهذا الذي حدث أراح الحسن البصري جداً؛ لأنه كان لابد من التمييز؛ تمييز الطيب من الخبيث، لابد من تمييز الصف حتى يكون الجالس في هذا المجلس في أمان وستر وعافية وفهم نقي لمنهاج النبوة.(4/24)
كراهة السلف للمشي خلفهم وأن توطأ أعقابهم
قال: [وقال سليمان بن المغيرة: كنت عند حميد بن هلال فلما قام من مجلسه تبعه أيوب ويونس بن عبيد فدخلوا عليه فرأيت في وجهه المساءة -أي: مغضب- قلت: مالك؟ قال: كنت أحسب أن هذين الشيخين الحسن وابن سيرين إن هلكا خلفاهما أيوب ويونس.
قلت: وإنا لنأمل ذلك فيهما.
قال: أما رأيت اتباعهما إياي؟ وذكر فعلهما].
يعني: المشي وراء العالم ليس من السنة، وكان الصحابة رضي الله عنهم يكرهون أن توطأ أعقابهم، ويقولون: إنما ذلك ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
والشخص أحياناً لما ينظر في مساجد السلفيين ويرى ما لا يراه في مسجد الحسين والسيدة زينب، ولقد رأيت أحد الدعاة كان يحاضر في مسجد، وهو على سفر فصلى بهم العشاء فقصر وسلم من ركعتين، فحصل الشجار على الصف الأول خلف الشيخ، والذي حصل أيضاً أن شخصاً بعد أن وقف وكبر، قام آخر وأبعده من مكانه، فالإمام حينما سلم من ركعتين، والذين كانوا وراءه مباشرة، وهم راكعون كانوا يمدون أيديهم لكي يسلموا عليه وهم في الصلاة، فلما أدرك الشيخ جزاه الله خيراً خطورة المسألة أجاز لنفسه أن يتحول عن هذا المكان قبل تسليم المأمومين، فقام بعض الناس بعد أن فرغوا من الصلاة، وأراه كالمرأة الثكلى التي فقدت ولدها، والذي يغمى عليه، والذي يقع على الأرض ما هذا! فهل يمكن أن تسمى هذه المساجد مساجد سلفية؟ ومع هذا لن تضروا الشيخ شيئاً، فالشيخ موقفه من الله عز وجل معروف وظاهر من الدعوة إلى السنة واتباعها، ولا ذنب له فيما يحدث حوله، والذنب كل الذنب في أن كلامه لم يُسمع لدى هؤلاء العوام.
فعند أن نقول: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.
يقال: الشيخ حاقد على الشيخ، أو عنده غيرة منه، أو شيء من هذا! أبداً والله ما هو إلا حب اتباع السنة.
وإذا كنت أدعو إلى اتباع السنة فإن الشيخ الذي يصنع معه هذا إنما يدعو بنفس دعوتي ويكره الذي أكرهه، ويمقته أشد المقت كما أمقته أنا، فلماذا أكون أنا حاسداً هذا الشيخ أو حاقداً عليه؟ والنبي عليه الصلاة والسلام كان يكره أن يوطأ عقبه.
وعبد الله بن مسعود الإمام الكبير العلم في الصحابة كان إذا فرغ من درسه يوم الخميس وانصرف فرأى أناساً قد تبعوه يتوقف، فيقول لهم: ما حاجتكم؟ فيقضيها، فيفتي في مسألتهم.
فأيهما أولى بالاتباع عبد الله بن مسعود أم من أتى بعد عبد الله بن مسعود؟ هذا الكلام هو منهج السلف.
وقد رأينا في هذا المسجد تقريباً في سنة (1988م) أو (1989م) على الأكثر أن شيخاً من الشيوخ وداعية من الدعاة المستقيمين على منهج النبي عليه الصلاة والسلام نحسبه كذلك، لما علم بغلو الناس فيه بعد أن فرغ من درسه قال وهو في منبره: أقسمت عليكم بالله العظيم ألا يقوم أحد من مكانه حتى أنصرف خارج المسجد.
قال هذا وجزاه الله خيراً، فقد أقام الحجة على الجميع، ومع هذا كأن هذا اليمين لم يُسمع، فلما ترك الشيخ الميكرفون انكب الناس عليه حتى ملكوا ذراعه.
وهل هذه سنة أم طفولية؟ فنحن لا تزال فينا جاهلية، ولا يزال فينا انحراف، ونحن نحتاج إلى تقويم وتوجيه.(4/25)
الاعتناء بأهل السنة والحث على ملازمتهم
قال: [وقال أبو سليمان: رأيت سالم بن عبد الله بن عمر يسأل عن منازل البصريين: هل قدم أيوب؟].
يعني: سالم بن عبد الله بن عمر جالس في المدينة ويسأل عن أهل السنة الذين يأتون من أماكن بعيدة فيسأل عن أيوب بن أبي تميمة السختياني.
قال: [فلما رآه أيوب جمح إليه فعانقه].
وهذه من محبة أهل السنة بعضهم لبعض وإن اختلفت ديارهم.
عانقه أيوب.
قال: [وجعل يضمه إليه.
قال: وإذا رجل خشن عليه ثياب خشنة فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
وعن حماد بن زيد قال: قال أيوب: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي].
يعني: وكأن أحد أعضائي هو الذي مات وليس هذا الرجل؛ لأن أهل السنة بعضهم مع بعض كالجسد الواحد.
قال: [وعن أيوب قال: إن من سعادة الحدث -أي: من سعادة الغلام الصغير- والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة].
يعني: من أعظم نعمة عليك أن توفق إلى رجل من أهل السنة يعلمك السنة ويجنبك البدعة.
وهذه النعمة لو أنك ظللت تذكر الله تعالى عليها في الليل والنهار ما وفيته حقه، وإلا فأنت ترى أصحاب الأهواء وأهل الضلال هنا وهناك لا يعرفون شيئاً، وليس عندهم استعداد مطلقاً أن يسمعوا لأهل السنة كلمة واحدة، فالشيطان أغلق على قلوبهم.
والمساجد التي فيها الأضرحة والقبور وغيرها، تجد فيها الضباط وأساتذة الجامعات بل إن إمام الصوفية رئيس جامعة الأزهر لو سألته وقلت له: هل الصوفية كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقال لك: لم تكن موجودة.
قال: [وعن ابن شوذب قال: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك -أي: إذا تعبد- أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها].
يعني: أن يلازم صاحب سنة يعلمه إياها ويدله عليها.
قال: [وقال يوسف بن أسباط: كان أبي قدرياً].
يعني: ممن ينفي القدر ويقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف.
أي: أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فينفون عن الله علمه السابق.
[قال: وإن أخوالي روافض].
يعني: يسبون أبا بكر وعمر قال: [فأنقذني الله بـ سفيان].
يعني: أنقذه من قدرية والده، ومن رفض أخواله، وهؤلاء هم أهله وعشيرته.
ولو أتيت إلى بلد كفارس إيران أو العراق أو سوريا التي انتشرت فيها وطغت مذاهب الضلال، فالنصيرية في سوريا كفر محض، وتجد عندهم الرفض والسب والشتم العلني لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
رفسنجاني زعيم إيران أتى ومعه وفده فدخل المسجد النبوي، وصلى فيه ركعتين، ثم ذهب ليزور النبي عليه الصلاة والسلام فصلى عليه، ثم انحرف هو ووفده إلى قبر أبي بكر وعمر ورفعوا أيديهم وظلوا يسبون ويلعنون ويشتمون أبا بكر وعمر! فانزعج الناس، فذهبوا إلى إمام المسجد الإمام الحذيفي.
هذا الإمام الذي ما عُرف عنه إلا الالتزام والحفاظ على السنة والأدب والتواضع والإخبات والخوف من الله، حتى أتى إلى جانبه وسمع منه بأذنه هذا السب وهذا اللعن، ولكنه لم يستطع أن يقيم الموقف في حينه ووقته، فذهب فبات في بيته بشر ليلة، فأتاه النبي عليه الصلاة والسلام في النوم وقال له: يا علي! اصعد المنبر فقل: كذا وكذا وكذا أي: رد على هؤلاء افتراءهم وبين لهم فضل عمر وفضل أبي بكر.
قال الحذيفي: فجبنت عن ذلك، ثم نمت مرة أخرى فأتاني النبي عليه الصلاة والسلام فجبنت عن ذلك، فأتاني الثالثة بمثل ذلك.
فصعد المنبر في يوم الجمعة في خطبة الجمعة، وتكلم بكلام عظيم جداً وحكى الذي قصصته على المنبر، ثم بين فساد الشيعة وعوار مذهبهم ومخالفتهم في الأصول لأهل السنة والجماعة، ثم رفض العلمانية التي أتت من قبل مصطفى أتاتورك في تركيا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمره في الرؤيا المنامية بثلاث: بالرد على العلمانية التي أتت من تركيا، والرفض والسب الذي أتى من فارس، والأمريكان الذين أتوا محتلين لبلاد العرب.
فتكلم الإمام الحذيفي حفظه الله في هذه المسائل الثلاث على منبر مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وما كان من الحكومة المباركة إلا أن استدعت الحذيفي وهو عميد كلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية فعزلته عن العمادة وعزلته عن إمامة المسجد النبوي، ولكن هذا لا يضر الحذيفي لأنه عمل لله بسنة وإن كان واحداً، فإن هذا الموقف سيُحمد له على ألسنة أهل السنة إلى قيام الساعة، وإن من خالف ذلك سيُذكر بالسوء إلى قيام الساعة.
قال: [وقال عمارة بن زاذان: قال لي أيوب: يا عمارة(4/26)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما جاء من الآيات في الحث على الاتباع
لقد أكمل الله تعالى للناس الدين، وأمر الناس باتباعه، ووعد من التزم به جزيل الثواب، وتوعد من خالفه بشديد العقاب، ولأجل هذا وردت كثير من النصوص تحذر من الابتداع في الدين؛ لأن المبتدع مدع على الله ورسوله بنقصان الدين، وأنه من سيكمله، وأنه قد حصل له من الهدى ما لم يحصل للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(5/1)
سياق ما فسر من كتاب الله عز وجل من الآيات في الحث على الاتباع وأن سبيل الحق هو السنة والجماعة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما فسر من كتاب الله عز وجل من الآيات في الحث على الاتباع؛ وأن سبيل الحق إنما هو اتباع منهج أهل السنة والجماعة] أي: الأدلة من كتاب الله عز وجل على أن الطريق المستقيم هو طريق أهل السنة والجماعة: جاء ذلك [عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] قال: سبيلاً وسنة].
يعني: طريقاً واحداً وسنة واحدة.
قال: [وعن الحسن البصري رحمه الله في قول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] قال: الشريعة هي السنة].
قال: [عن عطاء في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121] قال: يتبعونه حق اتباعه، ويعملون به حق عمله].
قال: [عن الحسن في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] قال: وكانت علامة حبه إياهم -أي: علامة حب الله تعالى لهم- اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم].
قال: [عن سفيان بن عيينة: أنه سئل عن قوله عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب)] والحديث في الصحيحين.
سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الرجل يحب القوم ولما يعمل بعمله، يعني: يحب أبا بكر وعمر وعثمان كما ورد من حديث أنس بن مالك، ولكنه في العمل لم يلحق بهم، ولم يعمل مثل عملهم: (أين هو يا رسول الله! قال: النبي عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب).
أما سفيان بن عيينة فقال: ألم تسمع قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
قال: يقربكم الحب من الرب تبارك وتعالى.
وقال في قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].
قال: لا يقرب الظالمين.
إذاً: الله تبارك وتعالى يقرب المحبين، يقرب المتبعين، ويبعد الظالمين.
قال: [وعن الحسن في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، قال: الكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة].
وغير واحد من السلف فسروا الحكمة في القرآن بأنها السنة.
قال: [وعن قتادة وعن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال: ثم استقام -الهدى هي الاستقامة- وقال: والاستقامة هي لزوم السنة والجماعة].
لم سمي أهل السنة بأهل السنة والجماعة؟ أولاً: سموا بأهل السنة؛ لأنهم يتبعون السنة ويلتزمونها.
وسموا بالجماعة؛ لأنهم اجتمعوا على ذلك، اعتقاداً وعلماً وعملاً، وسموا أهل السنة بالتزامهم السنة، وعدم خروجهم عنها، وسموا الجماعة؛ لأنهم اجتمعوا على هذا المعتقد، واجتمعوا على هذا العلم وهذا العمل.
قال: [وعن شمر بن عطية في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
قال: لمن تاب من الشرك وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأدى الفرائض ثم اهتدى للسنة.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].
قال: فأما الذين ابيضت وجوههم فهم أهل السنة والجماعة وأهل العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالات.
وعن عطاء في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
قال: هم أولو العلم] ومن طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة؛ لأن بعض الناس يتصور أن طاعة الرسول هي اتباع السنة فقط، كما أن بعض الناس وهم القرآنيون اعتبروا أن طاعة الله هي اتباع القرآن فقط، مع أن القرآن أمر بطاعة الرسول فكيف نطيع الرسول هنا؟ فالقرآن والسنة متلازمان من جهة التشريع لا يمكن أبداً فك أحدهما عن الآخر.
لو أنك قلت: أنا أثري وأنا ألتزم الأثر فقط دون القرآن لكفرت قولاً واحداً.
وإذا قلت: أنا قرآني فقط، ولا أعتبر إلا القرآن، فقد تجد في السنة التحذيرات الكثيرة والتهديدات والتوعيدات الكثيرة في الرد إلى كتاب الله، وإلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ف(5/2)
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على التمسك بالكتاب والسنة وعن الصحابة والتابعين ومن بعدهم
قال: [سياق ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الحث على التمسك بالكتاب والسنة، وعن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والخالفين لهم -أي: الذين أتوا من بعدهم- من علماء الأمة رضي الله عنهم أجمعين].
معناه: أنه يلزمك أن تتمسك بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين، وبقية الصحابة أجمعين رضي الله عنهم، والتابعين وتابعيهم، والأئمة المتبوعين وكل عالم إلى يوم القيامة.
والقيد في ذلك: ما دام قوله يوافق فهم سلف الأمة.(5/3)
ما روي عن النبي في الحث على التمسك بالكتاب والسنة
أورد الإمام هنا حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: [(وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة دمعت منها الأعين، ووجلت منها القلوب.
قلنا: يا رسول الله! إن هذه موعظة مودع فبم تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء)] شبه الشريعة بقطعة القماش البيضاء، أو بالنهار الذي لا خفاء فيه؛ وأن الحق أبلج واضح، كلما أردت أن تصل إلى الحق تصل إليه بإذن الله؛ لأنه بين وواضح.
وقال: [(تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها)] لا يخفى الحق فيها أحياناً ويظهر أحياناً وإنما هو واضح وظاهر في كل وحين.
قال: [(قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يرجع عنها بعدي إلا هالك)] وهذا وعيد وتحذير.
أي: لا يضل عنها بعدي إلا هالك.
[(ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فتناً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن كان عبداً حبشياً، وإن المؤمن كالجمل الآنف حيث ما قيد انقاد).
وقال عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية: وكان ممن أنزل الله فيهم قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة:92]]؛ لأنهم كانوا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يجهزهم للقتال، فقال لهم: أنا ليس عندي ما أملك تجهيزكم به، فتولوا وذهبوا إلى بيوتهم وهم في غاية الهم والحزن، فنزل فيهم وفي صدقهم قوله تبارك وتعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة:92] أي: لتجهزهم للقتال {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92]، ورجعوا {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92].
[قال: فدخلنا فسلمنا عليه وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين].
كأنه مرض (ومقتبسين) أي: وطالبين للعلم.
الاقتباس هو الأخذ، ولكن لفظ (اقتبس) أبلغ في المعنى وفي شدة النزع من لفظ (نطلب أن نتعلم) أو غير ذلك.
فقال: قال صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عاصم: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح يوماً فأقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب.
قال: قلنا: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا - قال أبو عاصم في حديثه: فأوصنا- قال: أوصيكم عباد الله! بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى بعدي اختلافاً كثيراً، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)].
الحديث السابق شرحناه في خطبة جمعة، (وإنما المؤمن كالجمل الآنف حيثما قيد انقاد) هذه المسألة فيها نزاع.
قال: [عن جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أما بعد: فأحسن الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) أخرجه مسلم].
قال: [عن ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما هما اثنان: الكلام والهدى، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، وإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة بدعة، ألا لا يطول عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم)].
يعني: أنا أخوفكم من طول الأمد فتتحولون عن التمسك بالسنة إلى الابتداع في الدين فتهلكوا.
قال: [قال عبد الله: إن أحسن الهدى هدى محمد عليه الصلاة والسلام، وإن أحسن الكلام كلام الله، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم -أي: ستبتدعون ويبتدع لكم- فكل محدث ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وأتى بصحيفة فيها حديث -أي: فيها حديثه هو، فقد كان يكتب حديثه في صحائف- قال: فأمر بها فمحيت، ثم غسلت تلك الصحيفة، ثم أحرقت في النار، ثم قال: بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أنشدت الله رجلاً يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أني أعلم أنها بديرهم لتبلغت إليها].
اختلف أهل العلم من السلف والخلف في جواز كتابة الحديث من عدمه، فمنهم من قال بعدم الجواز، ومنهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان يأمر تلاميذه أن يأتوا بما عندهم من صحف، وكان إذا علم أن فلاناً عنده الصحيفة ولم يأت بها لم يجلسه في مجلسه، فإذا جيء بالصحيفة من عند أي طالب أو تلميذ لذلك الإمام أمر بطست فيه ماء، فوضع الصحيفة فيها، ثم غسلها غسلاً، ثم عرضها للشمس حتى تجف، ثم يحرقها بعد ذلك، ويقول: خذوا من حيث أخذنا، واحفظوا كما حفظنا، فإنما العلم في الصدور لا في السطور.
ولا شك أن هذه وجهة نظر عظيمة جداً؛ لأن المرء لو(5/4)
ما روي عن الصحابة والتابعين في الحث على التمسك بالكتاب والسنة
قال: [عن هلال الوزان قال: حدثنا شيخنا القديم عبد الله بن عكيم -وكان قد أدرك الجاهلية- قال: أرسل إليه الحجاج].
الطاغية الكبير، يقول عنه الحسن البصري: لو أتت كل أمة بخبيثها وأتينا بـ الحجاج لغلبناهم.
وقد كفره بعض أهل العلم لما أعمل من القتل في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وفي التابعين.
[قال: أرسل إليه الحجاج يدعوه، فلما أتاه قال: كيف كان عمر يقول؟ -يعني: ماذا كان عمر يقول؟ - قال: كان عمر يقول: إن أصدق القيل قيل الله عز وجل -يعني: إن أصدق القول قول الله عز وجل- ألا وإن أحسن الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة، ألا وإن الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، ولم يقم الصغير على الكبير، فإذا قام الصغير على الكبير فقد هلكوا].
لأن الأصل أن يأخذ الصغار العلم عن الأكابر، فإذا انعكس الأمر فلا شك أن هذا دليل هلاكنا، بل هو علامة من علامات الساعة.
قال: [وقال عبد الله: لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم هلكوا].
قال: [عن أبي أمية الجمحي: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر)] أي: أن يطلب العلم من عند الأصاغر.
[قال موسى بن أيوب النصيبي قال ابن المبارك: الأصاغر من أهل البدع].
قال: [قال إبراهيم الحربي: في قوله: (لا يزالون بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم).
قال: معناه: أن الصغير إذا أخذ بقول رسول الله عليه الصلاة والسلام والصحابة والتابعين فهو كبير].
يعني: لو كان الطفل الغلام متبعاً للأثر فهو كبير مهما كان سنه، وإن الشيخ الكبير إن أخذ بقول أبي حنيفة وترك السنن فهو صغير.
دائماً يضرب أهل العلم بـ أبي حنيفة مثلاً للخروج عن الأثر، والولوج في الرأي، مع أنه إمام من الأئمة، بل إمام معظم ومبجل، لكنه كان أول من خاض في الرأي، وترك السنن، ولا أقول: تركها متعمداً، بل هو معذور في تركها، فإن أبا حنيفة رحمه الله كان يسكن الكوفة، ولم تكن السنة في وقته منتشرة الانتشار الذي يسمح له بالتحصيل.
نعم قد سبقه في الكوفة عبد الله بن مسعود وتلاميذه جميعاً، وكان يعيش في زمن أبي حنيفة وفي الكوفة سفيان بن سعيد الثوري وكفى به إماماً للأثر، ولكنه قد غلب على أبي حنيفة إعمال النظر في الأدلة، فانشغل بالنظر واستنباط الأحكام أكثر من انشغاله بحفظ ومدارسة وتحصيل الأثر، فقال في دين الله برأيه كثيراً، وله أعذار غير ما ذكرت، فلا يتبع أبا حنيفة على ما خالف فيه الأثر، ولا ينكر عليه ما وافق فيه الأثر، فهو مضرب المثل؛ لأنه اشتهر عنه أنه إمام مدرسة الرأي، فإذا أرادوا أن يذموا الرأي وأن يمدحوا الأثر ذكروا المحدثين من جهة المدح، وذكروا أبا حنيفة من جهة سب الرأي لا سب أبي حنيفة؛ لأن بعض طلاب العلم يفهم من هذا أن أبا حنيفة مبتدع وينبغي ذمه في شخصه، والقدح فيه، وهذا بلا شك لم يقصده أحد من أهل العلم، والحق يؤخذ من كل من أتى به، وما خالف الحق يرد على كل من أتى به، يستوي في ذلك أبي حنيفة وغيره من أهل العلم.
قال: [قال عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم].
عبد الله بن مسعود أدرك أن الله تبارك وتعالى ما ترك شاذة ولا فاذة ولا شاردة ولا واردة إلا وبينها في كتابه وبينها رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، ولم يدع فيه مجالاً للرأي والاجتهاد، وقد حصل ذلك لأصحابه وأتباع أصحابه، والأئمة المتبوعين، فلم الابتداع والله تبارك وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]؟ فالدين كامل وليس بناقص.
والمبتدع كأنه يقول لله عز وجل: أنت لم تكمل الدين، فيتهم المولى تبارك وتعالى.
وأنت لم ترضه لنا، ولم تتم علينا النعمة؛ ولذلك اضطررنا إلى أن نبتدع للناس في أمور دينهم ما كان خللاً في كتابك أو في سنة نبيك.
ولا شك أن من قال هذا معتقداً له فهو كافر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته) وإن كان الحديث محل نظر عند المحدثين، إلا أن الراجح أنه حديث حسن.
قال: [قال عبد الله بن مسعود: إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولا نضل ما تمسكنا بالأثر].
قال: [عن عاتكة بنت جزء قالت: أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه عن الدجال، فقال لنا: لغير الدجال] أخوف عليكم من الدجال.
يعني: أنا أخاف عل(5/5)
الأسئلة(5/6)
معنى حديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)
السؤال
ما معنى: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)؟
الجواب
هذا من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينفع ذا الجد) أي: صاحب الجاه والسلطان.
(منك الجد) أي: لا ينفعه عندك جاهه.
عندما تسأل أحدهم: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: أبي شيخ في الأزهر، أبي عالم كبير.
وأنت لماذا لا تصلي يا فلان؟ يقول لك: أنا رئيس مجلس إدارة شركة الحديد والصلب، الكل يعتمد على جاهه وسلطانه.
هذا الجاه وهذا السلطان إن لم يرتبط بتقوى الله تبارك وتعالى والعمل بما أمر والانتهاء عما نهى فلا ينفع هذا الجاه ولا هذا السلطان، ولا هذا المنصب ولا هذا الكرسي بين يدي الله عز وجل.
ومعنى (لا ينفع ذا الجد) أي: لا ينفع صاحب الجاه والسلطان عندك جاهه ولا سلطانه.
هذا هو المعنى.
وما معنى (المغرم) الذي كان يستعيذ منه النبي عليه الصلاة والسلام؟ المغرم هو الخسارة العظيمة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم.
أي: أن يقع في الإثم أو أن يخسر خسارة عظيمة.(5/7)
حكم دفع الزكاة مقسمة على مدار العام
السؤال
هل يجوز دفع زكاة الأموال مقسمة على مدار العام، أم يجب أن تدفع مرة واحدة؟
الجواب
يجوز دفع الزكاة على التقسيط العامي أو السنوي، ولكن مقدمة لا مؤخرة.
فلذلك أنت تجد في كتب الفقه: (باب جواز تعجيل الزكاة)، وليس تأخيرها، لو أخرها لعله مات، وحق الله وحق الناس في ذمته.
والنبي عليه الصلاة والسلام أخذ من العباس بن عبد المطلب زكاة ماله قبل استحقاقها بعامين، فأخذها وأنفقها على تجهيز الجيش.
وهذا هو الدليل في جواز تعجيل الزكاة على مدار العام أو العامين أو الثلاثة، ولكن تأخيرها لا يجوز.(5/8)
حكم من صامت يوم عاشوراء فجاءها الحيض قبل المغرب
السؤال
امرأة صامت يوم عاشوراء ثم حاضت قبل المغرب بدقائق، فهل لها نفس ثواب الصيام وهو تكفير ذنوب السنة الماضية؟
الجواب
إن شاء الله تعالى تأخذه؛ لأنها شرعت في العبادة ولكن لم تتم تلك العبادة لأمر خارج عن إرادتها، وهذا أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، فإنها نوت ذلك من الليل، ثم نامت وقامت لصلاة الفجر فوجدت نفسها حائضاً؛ فإنها -بإذن الله تعالى- تأخذ الأجر وإن لم تشرع في الصوم، (فإنما الأعمال بالنيات).(5/9)
حكم الهدايا للدائن
السؤال
رجل يقرض رجلاً آخر مبلغاً من المال، ويقوم المقترض بإعطاء المقرض بعض السلع كهدية أو كشكر على القرض، ثم يسد ذلك القرض بعد ذلك بكامله، فهل هذا من الربا؟
الجواب
يعني: أنا رجل صاحب محل، أخذت منك ألف جنيه قرضاً حسناً، وكلما مررت من عندي أعطيك بضاعة وأرخص لك أكثر من غيرك، أو أعطيك سلعة بلا ثمن كهدية، أو شكراً لما منحتني، وأنت لم تشرط علي ربا، ولم تستشرف نفسك لذلك، ولم يكن بيننا اتفاق على أنني أرد المال بالزائد، فهل هذا الذي أنا أعطيك إياه يعد ربا؟
الجواب
لا، وقد أخرج مسلم من حديث أبي رافع قال: (استسلف النبي عليه الصلاة والسلام بكراً) بكراً هذا هو الفتى من الإبل، كالغلام في بني آدم، (فجاءته إبل من الصدقة.
قال أبو رافع: فأمرني النبي عليه الصلاة والسلام أن أقضي الرجل بكره -يعني: أرجع له بكرته- فقلت: يا رسول الله! لم أجد في الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً).
يعني: قد بلغ السنة السادسة ودخل في السابعة حتى ظهرت رباعيته.
يعني: نحن نريد نقضي الرجل، وقد أعطانا جملاً صغيراً ما أكمل سنة، فكيف نعطيه جملاً عمره ست إلى سبع سنين؟ هذا زائد عما أعطاه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعطه إياه؛ فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً).
فرد بالزيادة، وهذه الزيادة ليست ربا، ولم يحصل فيها اتفاق، ولم تستشرف نفس المقرض إلى ذلك، كما أن هذا من حسن القضاء لا من الربا.
وعن جابر قال: (كان لي على النبي عليه الصلاة والسلام دين فقضاني وزادني).
فهذا من حسن القضاء لا من الربا؛ لأن بعض الناس يخلط بين البابين.(5/10)
حكم حديث صلاة التسابيح
السؤال
يقول: هل حديث صلاة التسابيح صحيح؟
الجواب
نعم، الراجح أنه صحيح.(5/11)
الحكم على حديث: (إن الله ينهاكم عن التعري) وبعض أحاديث فضائل الأعمال
السؤال
ما صحة حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط والجنابة والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بحائط أو ببعيره).
الجواب
هذه كلها بلا شك أخلاق إسلامية قد وردت وصحت في أدلة أخرى، لكن هذا الحديث بعينه أخرجه البزار بسند ضعيف جداً.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من حافظين يرفعان إلى الله عز وجل ما حفظا في يوم، فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفاراً إلا قال تعالى: قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة).
هذا الحديث كذلك أخرجه عبد الرزاق بسند ضعيف عن أنس.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة يعرفون بني آدم، ويعرفون أعمالهم، فإذا نزلوا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه، وقالوا: أفلح الليلة فلان، نجا الليلة فلان، وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا: هلك الليلة فلان).
وحديث: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب)، كلاهما ضعيف.
وحديث في أذكار الصباح والمساء: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) حديث صحيح.
وحديث دخول القرية كذلك هو صحيح، (اللهم إني أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها ومن فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن فيها).(5/12)
حكم حقوق الطبع
السؤال
يقول: هل تصوير الكتب الجامعية حرام؟ مع بيان الدليل.
الجواب
الكتب الجامعية عند إطلاق هذا القول يقصد بها كتاب الدكتور.
افترض أن الدكتور ما كان يدرس، والدكتور هذا في الغالب يتكلف لطباعة الكتاب، نعم، الدكاترة فيهم جشع، وربما كانوا معذورين في هذا الجشع، يعني: الكتاب الذي هو معمول من ورق اللحمة، طبعاً كلكم فلاحين وتعرفون ورق اللحمة، عندما تشتري كيلو لحمة يعطيك نصف كيلو لحمة ونصف كيلو من الورق، تحط الورق على الكفة فيرجح الميزان مباشرة.
الأصل في الكتاب لو كان مائة صفحة يكون بجنيهين، والدكتور يبيعه بعشرة جنيهات، من أجل أن يعيش نفس الحياة ولو في أول السنة، ثم سيعيش معك على الفول والطعمية، وسيقف معك عند محطة الباصات، لكن القضية أن في الطلاب فعلاً من هو أفقر فلا يستطيع أن يشتري الكتب، مثلاً (20) كتاباً × (5) جنيهات كم تساوي مائة جنيه.
فالطالب هذا لو صور الكتاب فسيصوره بـ (50) قرش، ففي الحالة هذه يجوز التصوير للطالب المعدم الذي لا يقوى ولا يقدر على شراء الكتاب، لكن لا يكون هذا منهجاً عاماً، نحن نقول: الطالب الفقير المعدم الذي لا يمكنه الحصول على الكتاب إلا من هذا الطريق؛ لأن كثيراً من الناس يصور الكتب، فأنت وغيرك وغيرك وغيرك والدفعة كلها لما مثلاً عشرة من الدفعة، يشترون عشر نسخ ويشتركون في ثمنها والبقية يصورون منهم، وبقية الكتب (300) أو (500) نسخة من الذي سيأخذها، طبعاً صاحبها لن يأخذها، مما يضر به ضرراً بالغاً قد رفعه الشرع، فإذا كنت أنت معذوراً بين يدي الله عز وجل لأنه لا يمكن لك الحصول على الكتاب إلا من هذا الطريق فأنت معذور، وإلا فأنت مسئول أمام الله عز وجل يوم القيامة.
هذه الصورة الأولى.
الصورة الثانية التي نعتقد تحريمها على طول الخط: صورة الناشرين، الناشر في الغالب لا مصلحة له في تعليم الناس العلم الشرعي، فكل مصلحته مرتبطة بالمكسب المادي، إلا من رحم الله، يحرصون على تبليغ العلم إلى الناس، لكن جل الناشرين ومعظمهم لا دين لهم ولا أخلاق، أي كتاب في السوق يأخذه ويصوره وينزله، الكتاب بـ (20) جنيه في الأصل، وهو ينزله بـ (5) جنيهات.
لماذا عملت هكذا؟ لو كان قلبك يؤلمك لماذا لا تطبع الكتاب طبعة وقف وتوزعها على طلاب العلم؟ لكن أن تصور الكتاب تصويراً رديئاً ونقول: الذي يريد العلم لا تهمه الطبعة الفخمة.
ثم تدعي مراعاة طلبة العلم! هذا لا يجوز.
ففي هذه الحالة لا شك أن عمل الناشرين لا يصح شرعاً، لا من قريب ولا من بعيد، ولذلك أي كتاب مسروق وغير مسروق يجب الانصراف عنه وعدم شرائه إذا بلغك أنه مسروق وليس للناشر، بل أنت شريك له في الإثم إذا اشتريته.(5/13)
القضايا العقدية المختلف فيها بين أهل السنة والأشاعرة
السؤال
هل اختلاف الأشاعرة مع أهل السنة والجماعة في فروع العقيدة أم في أصول العقيدة؟
الجواب
نعم، الأشاعرة يختلفون مع أهل السنة والجماعة في أصول العقيدة؛ لأن خلاف الأشاعرة مع أهل السنة مرتبط بالأسماء والصفات لله عز وجل، فهم قد أولوا الأسماء والصفات وصرفوها عن ظاهرها صرفاً لا يتفق مع مراد الله عز وجل، وخالفوا في ذلك أهل السنة والجماعة.(5/14)
صحة حديث: (لا نكاح إلا بولي)
ما صحة حديث: (لا نكاح إلا بولي).
الجواب
حديث: (لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل) حديث صحيح.(5/15)
درجة حديث: (سلمان منا آل البيت)
السؤال
ما صحة حديث: (سلمان منا آل البيت)؟
الجواب
لم يصح من قول النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه صحيح من قول علي بن أبي طالب وموقوف عليه.(5/16)
الحكم على مقولة: (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)
السؤال
ما صحة حديث: (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)؟
الجواب
هذا ليس حديثاً، وإنما هو كلام درج على ألسنة الناس.(5/17)
درجة حديث الكساء
السؤال
ما درجة حديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام ألقى عباءته على فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم وقال: هؤلاء هم أهل بيتي) هل هو صحيح؟
الجواب
نعم صحيح، أخرجه الترمذي وغيره بسند صحيح.(5/18)
حكم تغطية المرأة لشعرها عند قراءة القرآن
السؤال
هل يجب على المرأة تغطية رأسها عند قراءة القرآن؟
الجواب
لا يجب أبداً، بل يستحب لها ذلك، تأدباً مع كلام الله.(5/19)
أحكام السترة للمنفرد
السؤال
هل يجب على المصلي المنفرد اتخاذ سترة؟ وإن لم يتخذها هل يجوز المرور أمامه دون إذن؟
الجواب
اختلف أهل العلم في مدى وجوب سترة المصلي من عدمه، فبعض أهل العلم ذهب إلى الوجوب كـ الشوكاني ومن بعده الألباني.
وأما جمهور أهل العلم فعلى أن سترة المصلي مستحبة وليست واجبة، ولمن قال بالوجوب أدلة، ولمن قال بالإستحباب أدلة أخرى صرفت هذا الوجوب إلى الاستحباب، وليس هذا مقام التفصيلات.
ثم يقول: وإن لم يتخذ؟ طبعاً بلا شك لو أن المصلي اتخذ سترة يحرم المرور بين يديه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لوقف أربعين) قال الراوي: لا أدري أربعين سنة أو شهراً أو أسبوعاً أو يوماً.
فلا شك أن هذا التحذير شديد، إذا صليت إلى سترة فهذا صارف للوجوب، (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة) أمر، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى سترة) يصرف الوجوب.
وحديث: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فأراد أحد أن يمر بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان).
هذا يصرف الوجوب، كما أنه يثبت تحريم المرور بين يدي المصلي.
لكن فرضاً لو أن شخصاً صلى بنا إلى غير سترة، هل يجوز لي أن أمر من أمامه مباشرة؟
الجواب
لا، ولكنك تقدر له ثلاثة أذرع ثم تمر من بعد هذه الثلاثة أذرع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: (كم بين الرجل وبين سترته؟ قال: ثلاثة أذرع) والذراع قدره من المرفق إلى الرسغ، فالمرء يسجد بقدميه ذراع، وببطنه أو ظهره ذراع، ويبقى بينه وبين موطن السترة مقدار مرور شاة، وهذا هو الذراع الثالث، فأنت تقدر الثلاثة أذرع ثم تمر من بعده ولا حرج عليك.
وبعض أهل العلم قالوا: يحرم المرور بين يدي المصلي، وإن لم يتخذ سترة، ولو كان هو في مؤخرة المسجد والمار في مقدم المسجد.(5/20)
حكم الصلاة خلف من ينقر الصلاة
السؤال
أصلي في مسجد الأوقاف بحكم تواجدي في عملي، ولا أستطيع أن أقرأ بتدبر أو أطمئن في الركوع والسجود، وعندما أخرج من الصلاة أشعر أني لم أصل.
الجواب
أنت لست محتاجاً لأن تدافع عن نفسك، والذين يصلون في مسجد الأوقاف هل كفروا؟ صل في مسجد الأوقاف.
وإذا كان هذا شعورك من الأوقاف بلغ إلى هذا الحد فالأمر متعلق بشخصك أنت، وإذا كان لأجل نقر الإمام الصلاة نقراً لا تصح معه الصلاة فصل مع الإمام ثم صل وحدك مرة أخرى؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل المسجد فوجد رجلاً ينقر صلاته فأمره أن يعيد الصلاة، وهذا الحديث معروف عند الناس بحديث المسيء في صلاته.
لما فرغ منها أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (السلام عليك يا رسول الله! قال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل).
فلو لم تكن صلاته باطلة لهذا النقر لما أمره بإعادة الصلاة.
وقوله: (فإنك لم تصل) لا يحمل على التمام والكمال، وإنما يحمل على أصل الصحة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(5/21)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما جاء عن النبي في الحث على الاتباع
لقد حث الإسلام على اتباع الكتاب والسنة والاستمساك بهما، وبين أن المتبعين للكتاب والسنة هم الجماعة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على ملازمتها وعدم الخروج عنها، وبين صلى الله عليه وسلم صفات هذه الجماعة وأنها الطائفة المنصورة، وأنها السواد الأعظم من بين الفرق الأخرى، ومن تركها فهو على شفير الهلكة، وإنما يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فبئست البضاعة بضاعته.(6/1)
سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فمع باب جديد من أبواب أصول الاعتقاد: وهو فيما يخص ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم، وذم تكلف الرأي والرغبة عن السنة، والوعيد في مفارقة الجماعة.
وهو باب عظيم جداً يحث على اتباع الجماعة، وأثبت أنهم هم السواد الأعظم، ولعلنا قد تطرقنا إلى بيان ذلك في دروس قد مضت، وهو إثبات أن المسلمين قد تفرقوا إلى شيع وأحزاب وفرق وجماعات، وقلنا في شرح حديث افتراق الأمة: أن أهل السنة والجماعة هم أعظم فرقة، وإلا فمن فرق المسلمين: الخوارج، فلو أردنا الآن أن نقول: أي الفرقتين أعظم وأكثر سواداً: أهل السنة أو الخوارج في مصر؟ لقلنا: أهل السنة.
ولو أردنا أن نطبق هذا على كل بلد من بلدان المسلمين لكان أهل السنة والجماعة أكثر وأعظم من غيرهم في أي بلد من البلدان.
فأهل السنة والجماعة بفضل من الله تعالى ورحمة هم السواد الأعظم في كل بقعة من بقاع الأرض التي نطقت بتوحيد الله عز وجل.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يحث على اتباع الجماعة والتمسك بها، والاعتصام بحبلها المتين، وهم السواد الأعظم.
وقد وردت أحاديث، بل قد وردت آيات فيها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد لمن ترك السواد الأعظم وترك الجماعة، وأثبتت هذه الأدلة: أن من ترك الجماعة قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية، وإليك هذه النصوص:(6/2)
النهي عن التبتل والاختصاء والغلو في الدين
قال: [أخبرنا حميد أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم لله، فمن رغب عن سنتي فليس مني)]، فهذه سمة من سمات السواد الأعظم وهم أهل السنة والجماعة، أنهم معتدلون في التمسك بالسنة فلا يغالون فيها ولا يجافون عنها.
وهذا الحديث له مناسبة: لما ذهب ثلاثة نفر إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام فسألوا عن عبادته، فلما أخبرتهم عائشة رضي الله عنها بعبادة النبي عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، قالوا: هذه عبادة قليلة، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس مثلنا، فهو رجل قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيعبد أو لا يعبد، قد أخذ الوعد من الله عز وجل ألا يعذبه بل يدخله الجنة، وأما نحن فإننا نحتاج إلى عبادة بل وإلى مشقة في العبادة حتى نحظى بشيء مما حظي به النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: لابد أن نكلف أنفسنا أعظم من ذلك من الأعمال والعبادة والصلاح والتقوى والطاعة وغير ذلك، فأما أحدهما فقال: (إني لا أتزوج النساء قط.
وأما الثاني فقال: فإني لا أنام على فراش قط.
والثالث قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر) وظل كل واحد منهم يتزهد زهداً لم يؤمر به، حتى ذهب بعضهم واستأذن من النبي عليه الصلاة والسلام وهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه في الاختصاء، حتى لا يكون له رغبة في النساء، وينقطع للتبتل؛ أي: ينقطع للعبادة.
قال: [قال: أنس رضي الله عنه: (استأذن عثمان بن مظعون النبي عليه الصلاة والسلام في الاختصاء ولو أذن له لاختصينا)]، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يأذن.
لماذا طلب عثمان بن مظعون هذا؟ لأجل أن ينقطع للعبادة فلا يكون له رغبة في النساء، فالمرأة التي تسل مبايضها لا ترغب في الرجال، والرجل الذي يختصي لا يرغب في النساء قط، وإنما حمل عثمان بن مظعون على مثل هذا الطلب أنه أراد أن ينقطع للتبتل، والتبتل هو الانقطاع للعبادة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن له بذلك؛ لأن الدين الإسلامي وسط بين الروحانية وبين المادية، فلابد للبدن من حاجة ولابد للروح والقلب من حاجة، ولذلك رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون هذا الطلب.
فهؤلاء القوم لما أتوا إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام وطلبوا منه ذلك الطلب أو سألوا عن عبادته فتقالوها، خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (ألستم القوم الذين قلتم: كيت وكيت.
قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).
ومن الذي يشك أن أفضل الخلق على الإطلاق هو النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما حاز على هذه الأفضلية إلا بتقواه وطاعته لله عز وجل.
(أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله وأعلمكم بالله).
وفي رواية البخاري، ومسلم: (أما إني أتقاكم لله وأعلمكم بالله) أي: من جهة العلم والعمل، فهو من حيث العلم بالله فهو أعلم الخلق، ومن حيث التقوى هو أتقى الناس علماً وعملاً.
قال: (ولكني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وأنام وأصلي؛ فمن رغب عن سنتي) أي: زهداً فيها حباً في غيرها (فليس مني).
أي: قد اتخذ سنة غير سنتي، واهتدى بهدي غير هدي، ولاشك أن هذا ضلال وانحراف.
فلابد من التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام على المراد الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله عز وجل، وليس على مراد أحد، وليس على مراد عالم من العلماء فضلاً عن عامي من عامة الناس، فلابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله، ومن التمسك بالسنة على مراد صاحبها عليه الصلاة والسلام، فلا يجتهد أحد اجتهاداً مخلاً بالآداب والأخلاق والسلوكيات التي أمرنا بها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث أيضاً ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.(6/3)
النهي عن الخروج على ولي الأمر وشق عصا الطاعة
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية)].
ولاشك أن هذا الحديث له قصة طويلة جداً، خاصة لمن قرأ كتاب إمام الحرمين الإمام الجويني، (غياث الأمم) فسيجد أن هذا الحديث في هذا الزمان له مشكلة عظيمة جداً.
الحديث يقول: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة) أي جماعة هي؟ المقصود بها: جماعة المسلمين التي تقع تحت راية الخليفة والسلطان.
والخليفة الشرعي أين هو؟ لابد من خلافة راشدة على منهاج النبوة حتى نقول: إن من خرج عن هذا فمات مات ميتة جاهلية.
بعض الجماعات الموجودة على الساحة كل يدعي أن هذا الحديث يخصها، وأحياناً يعلنون ذلك، وأحياناً بطرف خفي على استحياء، وأحياناً يتبجحون به، ولا شك أن هذا التصريح تصريح خاطئ، فكل جماعة من الجماعات العاملة على الساحة ما هي إلا وحدة من وحدات المسلمين التي تهتم بجانب أو بجانبين أو بمسألة أو بمسألتين من المسائل التي أمر الله تعالى بها ورسوله، ومنهم من يخطئ ومنهم من يصيب، ومنهم من يطرأ إليه الخطأ ومنهم من يطرأ إليه الصواب، لكن هل هي الجماعة التي يجب على كل واحد منا أن يتبعها وإلا لو مات من غير بيعة لفلان أو علان مات ميتة جاهلية؟
الجواب
لا.
أنت لا يلزمك قط أن تبايع، وإني أعتقد أن من بايع أي إمام أو أي عالم أو أي جماعة في هذا العصر من هذه الجماعات فإن بيعته بدعية وليست شرعية.
لماذا؟ أولاً: البيعة لا تكون إلا للخليفة العام الذي اجتمع المسلمون عليه، متمثلاً في مجلس الحل والعقد الشرعي الذي حكم البلاد شرقاً وغرباً بأن يعينوا أميراً للمسلمين عامة كما حدث في سقيفة بني ساعدة في تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان هو الخليفة المعتمد والخليفة الشرعي الرسمي الذي بعد ذلك ولى الولاة، ونصب الأمراء، ثم أطلقهم في الأمصار والولايات، وكل واحد من هؤلاء تحت إمرته هو رضي الله عنه، فإن البيعة لا تكون إلا على هذا النحو.
أما هذه البيعات فإنها كلها بيعات لا يقرها الله تعالى ولا يقرها الرسول ولا أحد من أهل العلم الذين لهم بصر نافذ وحافظة قوية، فإن الحديث من خرج من طاعة الخليفة أو طاعة الوالي والأمير والسلطان الذي ولاه وأمره وسلطه الخليفة الأعظم وهو خليفة المسلمين، فلو كان الأمر كذلك وحدث خروج على هذا الرجل فإن من مات على هذا النحو فميتته جاهلية، وأما من خالف ذلك فليس موته بجاهلية قط، فقوله: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة) التي يترأسها الخليفة الشرعي كما قلنا فميتته جاهلية.
قال: [قال: (ومن خرج على أمتي -وهي الجماعة أيضاً- يضرب برها وفاجرها -يقتل فيها البر والفاجر- لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني)].
أي: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]، إذا رفع المؤمن لواء الإيمان والتوحيد قاتله لأجل إيمانه كرهاً في الإيمان وحباً في النفاق والكفر.
فإنه لو كان كذلك لكان جاهلياً خارجاً عن ملة الإسلام.
ثم يقول: [(ولا يفي لذي عهدها)].
انظر إلى عظمة الإيمان، فإن الله تبارك وتعالى يلزمنا أن نفي بالعهود حتى وإن كانت مع غير المسلمين، ولا يلزم الوفاء بالعهد إذا نكث وخان أصحاب العهد عهدهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد أمهل اليهود في المدينة وأقرهم في سكن المدينة على شروط: ألا يؤذوا مؤمناً وألا يخونوا وألا يغدروا وغير ذلك من الشروط.
ولكنهم سرعان ما خانوا وتكشفوا على عورات نساء المؤمنين، فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن أخرجهم وأجلاهم عنها؛ لأن الذي خان أولاً هم اليهود، فإنهم إذا خانوا العهد فلا عهد لهم، وهنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى مؤمنها -أي: لا يرقب فيه إلاً ولا ذمة- ولا يفي بعهدها فليس مني، ومن مات تحت راية عمية يغضب للعصبية أو يقاتل للعصبية فميتته جاهلية)].
ولذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (الرجل منا يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل) كيت وكيت وكيت وصاروا يعددون له أمور العصبية الجاهلية.
قالوا: أي ذلك في سبيل الله يا رسول الله؟! فلم يذكر أن واحدة من هذه في سبيل الله، وإنما قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
هذه الوحيدة التي تجعلك على الجادة والاستقامة، أما إذا قاتلت لأجل أبيك أو لأجل أمك عصبية أو حمية جاهلية، أو قاتلت لأجل عشيرتك، أو لشيء غير مأذون فيه من جهة الشرع أو غير ذلك فإن هذا ليس أبداً من دين الله عز وجل، ومن مات في قتال على هذا النحو فميتته جاهلية.
وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من جاء إلى أمتي وهم جميع -أي: وهم مجتمعون- يريد أن يفرق بينهم فاقتلوه كائناً من كان).
يعني: إذا كان للمسلمين خليفة وإماماً يقتدى به محل رضا، وظهر خليفة آخر وطلب البيع(6/4)
حكم قتل المسلم
السؤال الثاني: هل يجوز قتل المسلم؟ نعم.
يجوز إذا أتى من الأعمال ما يستوجب قتله؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).
فالأصل في دم المسلم أنه حرام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في البخاري: (لا يزال الرجل في فسحة من دينه -يعني: في سعة من دينه- ما لم يصب دماً حراماً).
أي: ما لم يقتل نفساً بغير حقها.
وهذا يدل على أن المسلم إذا قتل نفساً بغير حقها ضاقت عليه الحلقة جداً، فلعله لا تقبل له توبة، ومذهب ابن عباس: أن من قتل مؤمناً متعمداً لا تقبل توبته قط.
هذا قول الله تعالى، ولكن قد ورد في الحديث أن: (دم المسلم لا يحل إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
فلو أن شخصاً خرج على الإمام بالشروط المذكورة آنفاً يقول: والله إمامتك هذه لا تعجبني وأنا خارج من طاعتك، ولن أتبعك.
فلا شك أن هذا الرجل لو قال هذه الكلمة له أحكام عظيمة جداً، فإن كان كلامه هذا لا صدى له عند عامة الأمة ولا خطورة في ذلك على كلمة المسلمين؛ وجلس هذا الخارج في بيته؛ فإنه لا شيء عليه، ولكن لو مات على هذا النحو فميتته جاهلية.
أما لو قال للإمام: والله أنا خارج عليك وما لي علاقة بك، وأنت إمامتك غير شرعية، وتبعه في ذلك أقوام وتحيزوا وتميزوا، وصاروا في مكان والأمة في مكان، وجب على الإمام أن يقاتلهم قتال من خرج عن الجماعة.
وأنت إذا نظرت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتاله لمن خرج عليه لعرفت ذلك، فإنه لما تميزوا وصاروا في مكان وعلي في مكان قاتلهم؛ لأنهم خرجوا عن الإمرة الشرعية لـ علي بن أبي طالب، فوجب عليه قتالهم؛ فقاتلهم، وفي الوقت نفسه لما سئل عنهم: هل هم كفار؟ قال: لا.
إنما هم من الكفر قد فروا، فقالوا له: فماذا هم إذاً؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم.
فسماهم بغاة ولم يسميهم كفاراً، ومع هذا قاتلهم فقتل منهم وقتلوا منه، والله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات:9].
أي: هناك بغي وظلم وعدوان، ومع هذا لم يسلب المولى عز وجل عنها اسم الإيمان أو صفة الإيمان، فالطائفة قد تخرج على الإمام فتكون باغية مع إيمانها، ويجوز للإمام أن يقاتلهم وأن يريق دماءهم مع أنهم مؤمنون، فليس بلازم أن يقاتل الرجل لخروجه عن الملة، بل يقاتل وهو في داخل الملة إذا استوجب ذلك.(6/5)
الأمر بلزوم الجماعة وبيان خطر الشذوذ عنها
قال: [عن أسامة بن شريك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يد الله على الجماعة، فإذا شذ الشاذ منهم اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم)].
وفي الحديث: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية).
يعني: البعيدة، والغنم مجتمعة عادة وراعيها معها لا يمكن للذئب أبداً أن يخترق هذا القطيع، أما إذا كانت الشاة شاردة شاذة وابتعدت عن أخواتها من الغنم فلابد أن يهجم عليها الذئب، فكذلك الرجل إذا كان مع الجماعة فإنه محفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى لهذه الجماعة؛ لأن هذه الجماعة ما اجتمعت إلا اجتماعاً شرعياً حقيقياً على كتاب الله وعلى سنة رسوله؛ لأن معنى أهل السنة والجماعة: أنهم متمسكون بالأثر، وقد اجتمعوا على ذلك، فلا تطلق الجماعة إلا الجماعة الشرعية، على قوم اجتمعوا على كتاب الله وعلى سنة رسوله، والنبي عليه الصلاة والسلام قد وعد وعداً أكيداً أنه قد ترك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل أبداً: كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان الأمر كذلك وتمسك المسلمون بكتاب ربهم وسنة نبيهم واجتمعوا على ذلك فأنى للشيطان أن يخترق هذه الجماعة فضلاً عن غير الشيطان من شياطين الإنس؟ فقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (يد الله على الجماعة).
بعض الناس وللأسف الشديد في هذا الزمان من أهل السنة ومن الداعين إلى التمسك بالأثر زلت قدمه في هذا الحديث، وقال: اليد هنا بمعنى: القوة.
وقال: أنا لا أستطيع أبداً في هذه الصفة على جهة الخصوص أن أعقل أن اليد يراد بها اليد، ثم ذكر نفس التأويل ونفس التفكير في قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، فقال: أنا لا أعتبر أبداً اليد هنا بمعنى اليد الحقيقية الثابتة لله عز وجل، وإنما اليد هنا بمعنى: القوة، فلما حدثناه في ذلك -لأنه إمام من أئمة السنة- قال: كيف لي بأن أفهم أن اليد هنا بمعنى اليد الثابتة لله عز وجل؟ وكيف تكون يد الله على الجماعة، وإذا كانت هي اليد الثابتة لله فكيف تكون يد الله فوق أيديهم؟ قال: إن ذلك يلزم منه المماسة ولله المثل الأعلى، فقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، يعني: هكذا.
فوضع اليسرى على اليمنى أو العكس.
قال: واللغة تخص بالفوقية أن تستلزم المماسة.
قلت: لا.
يد الله فوق أيديهم ويد الله على الجماعة لا تستلزم المماسة.
ثم سألته أين السماء؟ قال: فوق.
أين الأرض؟ قال: نحن عليها.
قلت: ألست تقول: إن السماء فوق الأرض؟ قال: بلى.
قلت: هل يلزم من ذلك أن تمس السماء الأرض؟ قال: لا.
قلت: إذاً: هكذا.
السماء فوق الأرض لا يلزم منها مماسة السماء للأرض.
فكذلك يد الله تبارك وتعالى فوق أيدينا، وهذا يدل على علو المولى تبارك وتعالى وفوقيته، فعلى أية حال هو وعد أن ينظر في الأمر وأظن أن عنده الوقت الكافي؛ لأن هذا الأمر مر عليه عامان وزيادة.
وقوله: (يد الله على الجماعة) هي إثبات ليد الله تبارك وتعالى الحقيقية، ولا ينفي ذلك: أن نفهم منها ما يلزم من ذلك وهو حفظ الله تبارك وتعالى لهذه الجماعة وعنايته بها ونصره وتأييده وغير ذلك، ومع ذلك لا ننفي المعنى الأصلي وهو أن يد الله تبارك وتعالى فوق الجماعة.
قال: (فإذا شذ الشاذ) أي: فإذا انحرف عن هذه الجماعة وتركها ونحا نحواً غير نحوها وذهب مذهباً غير مذهبها اختطفته الشياطين كما يختطف الذئب الشاة من الغنم.(6/6)
التحذير من اتباع سنن اليهود والنصارى
وفي حديث عبد الله بن عمر وغيره: [(ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك)].
ولاشك أن بني إسرائيل كان فيهم ذلك، كان الرجل يأتي أمه ويأتي ابنته، وإن هذه الأمة قد ظهر فيها ذلك حقيقة، ففي هذه البلاد وغيرها من الناس من يأتي أمه ويأتي ابنته ويأتي جميع المحارم من باب أولى.
إن الذي يجرؤ على أن يأتي أمه يجرؤ على أن يأتي عمته وخالته وبقية المحارم، فإن هذه الأمة قد تبعت بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: [(لتتبعن سنن من كان قبلكم -أي: هديهم- حذو القذة بالقذة، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟! قال: فمن؟)] يعني: إن لم أكن أعني وأقصد هؤلاء فمن أعني؟ يعني: أنتم تتبعون اليهود والنصارى في كل شيء في أخلاقهم وسلوكياتهم، بل وفي بعض عقائدهم.
ولا شك أن هذا قد حدث في الأمة ووقع فيها أيضاً، أنا أقول: إن الأمة الآن على غير المنهاج الصحيح، وربما أنا أبالغ -لأنه لا نبي بعد النبي عليه الصلاة والسلام- إن قلت: إن الأمة تحتاج إلى أنبياء يبعثون من جديد؛ حتى ترد إلى دينها الأصلي وإلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، إن الأمة الآن تحتاج في كل حي إلى عشرات ومئات من الدعاة في الوقت الذي تكمم فيه أفواه الدعاة، وكأن الأمة أريد بها أن تنسلخ من دينها انسلاخاً كلياً؛ فتكون كاليهود والنصارى، في الوقت الذي نرى فيه القساوسة والرهبان يمرحون ويلعبون ويسرحون ويقولون ما يشاءون، أليس هذا الوضع جدير بأن يقف كل منا وقفة مع نفسه ويتقي الله تبارك وتعالى ربه، ويرجع إلى دينه، ويرد نفسه إليه رداً جميلاً، ويدعو إلى الله تبارك وتعالى بالليل والنهار، وإذا كان صاحب درس أو صاحب خطبة لا يكتفي أبداً بهذا، فإن الكلام كثير، والوعظ منتشر في هذه الأيام، ولكنه لا يثمر ثمرته المستمرة، فإنه بعد أن يخرج الموعوظ من المسجد كأنه لم يسمع وعظاً ولم ينتفع به قط، وكأنه أراد أن يقول للواعظ: هذه بضاعتكم ردت إليكم، لا حاجة لنا فيها لا نحن منكم ولا أنتم منا.
إن الأمة بينها وبين دعاتها هوة عظيمة؛ لأن الأمة قد رضيت بغير أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام فكيف ترجع؟!(6/7)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة إلى فرق وأحزاب
قال: [(إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ويزيدون عليها ملة)].
وفي حديث آخر: (وأمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة.
فقالوا: يا رسول الله! وما هي؟ قال: الذي أنا عليه وأصحابي).
بعض الناس يتصور أن هذه الفرق كافرة، وأن هذه الفرق مخلدة في النار، وهذا فهم خاطئ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحكم عليها بالكفر والخروج من الملة، ولذلك أثبت في أول الحديث أن هذه الفرق من الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل أمتي).
وقال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار).
فكيف تكون هذه الفرقة من الأمة وهي في النار؟
الجواب
صاحب المعصية وصاحب الكبيرة يدخل النار، ومع هذا لا يخلد فيها، وإنما إذا استحق جزاءه عذب في النار ثم خرج منها فدخل الجنة.
ولا سبيل إلى ضبط نصوص الوعد والوعيد إلا على هذا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وصام وصلى وزكى وحج وأمر بالمعروف ونهى عن منكر ليس كمن يشهد أن لا إله إلا الله ولكنه لا يعرف المعروف ولا يعرف المنكر فيقع في المنكر وينهى عن المعروف.
بل من الفرق الإسلامية أو من الفرق التي انتمت وانتسبت إلى الإسلام فرق كثيرة جداً تفرعت عن الفرق الأصلية، ذكرها ابن الجوزي في كتاب (فرق الأمة)، وذكرها ابن تيمية في كتاب (الفتاوى) وغيرها من الكتب التي تكلمت عن الفرق، قال: ومن الفرق الإسلامية فرق تفرعت عن الفرق الرئيسية.
هي ثلاث وسبعون، تفرقت عنها فرق خارجة عن ملة الإسلام لم تسلم قط، فهذه الفرق لا تعد من الفرق الإسلامية؛ لأن الفرق الإسلامية لم يحكم عليها النبي عليه الصلاة والسلام بالكفر، وإنما حكم عليها بالضلال والانحراف الذي استحق الوعيد، فكلها في النار، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: كلها في النار خالدة مخلدة فيها أبداً، وإنما قال: (كلها في النار إلا واحدة)، فلا يلزم من دخول المرء النار الخلود فيها أبداً، وإنما دخول النار والخلود فيها بمعنى: المكث الطويل لا الأبدية.
ولذلك أنت لو راجعت نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة المطهرة لوجدت أن لفظ: (خالداً مخلداً فيها أبداً) لم يرد إلا في حق الكفار الأصليين، أما المسلم المنحرف العاصي الذي أتى الكبائر وانحرف عن المنهج فلا تجد إلا خالداً مخلداً، ومعنى (خالد) أي: ماكث مكثاً طويلاً، لكنه في نهاية الأمر لابد أن يخرج من النار ويدخل الجنة؛ لأنه قال في يوم: لا إله إلا الله.
ولابد من هذا التأويل حتى تستقيم النصوص ولا يحصل فيها تعارض ولا تناقض.
قال: [قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.
فقيل: يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ -ما هذه الفرقة؟ - فقبض يده وقال: الجماعة.
فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)].
قال: [عن عوف بن مالك قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار)] يعني: واحدة في الجنة: وهم الذين تبعوا موسى عليه السلام وعملوا بشرعه واهتدوا بهديه واستنوا بسنته قبل مجيء عيسى عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون في النار، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار.
قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: الجماعة)].
قال: [عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية فلما قدمنا مكة صلينا صلاة الظهر في مكة، قام فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة ستفترق ثلاثاً وسبعين ملة -يعني: الأهواء والنحل- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)]، ثم قال: [(إنه سيخرج في أمتي قوم يتجارى بهم كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)].
قوله: (وإن هذه الأمة يتجارى بها) أي: يتمادى بها كما يتمادى الكلب بصاحبه، والكلِب بكسر اللام: داء يصيب الكلب، نقول: هذا الكلب مسعور.
أو نقول: هذا الكلب غير مسعور.
يعني: كلب طبيعي يألف ويؤلف.
وهناك كلب لا يستطيع حتى صاحبه أن يقترب منه؛ لأن كل من اقترب منه عضه.
ومعنى (الكلب المسعور): أنه أصيب بداء في بدنه هذا الداء يسمى الكِلب؛ ولذلك من الأخطاء الشائعة أن يقال: مستشفى الكلب، يعني: يستشفى فيها من عض الكلاب.
والصحيح: مستشفى الكلِب.
أي: المستشفى الذي يعالج به مرض الكلِب، وليس مستشفى الكلْب.
فالكلِب داء يصيب الكلب، هذا الداء إذا أصاب الكلب في أي مكان يسري في بدنه سريان الشيطا(6/8)
بيان أن الأمة لا تجتمع على ضلالة والحث على ملازمة السواد الأعظم
قال: [قال أنس بن مالك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي لا تجتمع على الضلالة)]، والأمة هنا المقصود بها: الجماعة.
قال: [(فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم)].
هذا الحديث قد صح من حديث عبد الله بن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً.
قال: يد الله على الجماعة، واتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار).(6/9)
بيان استمرار طائفة من الأمة على الحق
نحن نسمع كثيراً من الشباب يقول: أين الحق؟ نحن لا ندري من نتبع، ولا نعرف الحق أين هو.
فنقول: هذا لتفريطك أنت وتقصيرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
انظروا إلى هذا الحديث العظيم جداً.
قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (لا تزال) فاللفظ مضارع يفيد الاستمرار في الحاضر والمستقبل؛ ولذلك من أعظم سمات أهل السنة والجماعة أنها أصيلة وحاضرة ومستمرة.
أي: أنهم أصحاب جذور أصيلة، وفي كل واقع هم السواد الأعظم، كما أن الله قد ضمن لهم البقاء إلى قيام الساعة.
وجماعة أهل السنة جماعة صاحبة أصول ثابتة، وكم جماعات لم تدم إلا سنوات، فقد تسأل عن جماعة: متى أنشئت؟ فيقال لك: قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة، ثم ما تلبث هذه الجماعة حتى تنتهي، وهذا يدل على أنها كانت خاوية وخربة، ولا قيمة لمنهجها؛ لأن قيمة المنهج أن يبدأ قبل الهجرة النبوية، فهذا منهج جذوره ثابتة نزلت من السماء، لم تكن هذه الجذور استنتاجاً عقلياً لواحد من أصحاب القرن الماضي.
إذاً: منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الأصيل الذي أرسى قواعده النبي صلى الله عليه وسلم، وأي منهج بعده لا عبرة له ولا قيمة.
إن هذا المنهج الرباني في كل عصر وزمن ومصر له رجال، وهو السواد الأعظم، ولابد أن يكون كذلك، ومن قال بغير ذلك فقد اعتقد بغير ما أمره النبي عليه الصلاة والسلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله -أي: الساعة- وهم على ذلك).
و (ذلك) اسم إشارة للظهور.
يعني: هم ظاهرون في كل عصر ومصر على نفس النهج الأول الذي أرسى قواعده النبي عليه الصلاة والسلام حتى قيام الساعة.
أعطوني منهجاً من المناهج الموجودة الآن أو قبل الآن ستستمر في الأيام المقبلة، ويشهد لها واحد من أهل السنة والجماعة.
من خلال ذلك نعلم أن كل هذه المناهج هي نتائج عقلية واجتهادات، منها المقبول ومنها المردود، لكن المقبول الذي يجب قبوله ويحرم رده هو المنهج الأول الذي أسسه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً -فالأمة المقصود بها: الجماعة- فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم).(6/10)
تجديد دين أمة محمد على رأس كل مائة عام وتكليف هذه الأمة بالدعوة إلى الله
إن أبا الحسن الأشعري عليه رحمة الله لما تاب من أشعريته ورجع عنها وصعد المنبر قال: إني أختلع من معتقدي كما يختلع هذا السيف من غمده وأنا على مذهب أحمد بن حنبل.
فلماذا لم يقل: على مذهب النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لأن مذهب أحمد بن حنبل كان أظهر المذاهب في ذلك الوقت، ومذهب أحمد بن حنبل من الألف إلى الياء مستقى من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما وقعت الفتنة العظيمة لـ أحمد بن حنبل وثبته الله فيها كتب الله له الظهور والذيوع والنصر والتأييد، فقال كل من يريد أن يظهر دينه وعقيدته: أنا مع أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه، فهنا الأمة لا تجتمع على ضلالة قط في العقيدة، إذ لابد أن تكون الحجة ظاهرة لله عز وجل، فخفاء حجة الله تبارك وتعالى في وقت أو في بلد من البلدان مشكلة كبيرة، وبلية عظيمة جداً، ومصادم لجميع النصوص.
فلابد أن تعتقد أن حجة الله تبارك وتعالى ظاهرة، وما من وقت وما من مكان إلا ويسخر المولى عز وجل عبداً من عباده لإظهار السنة وإحياء الدين ولو على رأس كل مائة عام، فهذا وعد من النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تبارك وتعالى يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) فالأمة لن تستمر في الضلالة، ولن تبقى في الجهل يغيب عنها الدين ويغيب عنها العقيدة والسلوك والأخلاق ومنهج النبي عليه الصلاة والسلام.
فعلى رأس كل مائة عام يبعث الله تبارك وتعالى رجلاً يحيي هذا الدين بجميع أوصافه وأركانه وشمائله ومناقبه في قلوب العامة والخاصة، فإذا كادت الأمة تنسى بعث الله تبارك وتعالى على رأس كل مائة عام من يذكرها ومن يعيدها، بالإضافة إلى أن الله تبارك وتعالى كلف هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على خلاف الأمم السابقة، فكان كل نبي يبعث لقومه خاصة ولا يكلف واحداً من أمته بالدعوة إلى دينه وشريعته، لكن ذلك واجب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك وتعالى كلفنا بأن نحمل دعوة نبينا عليه الصلاة والسلام حملاً صحيحاً، فقال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
يعني: أنت أيضاً مخرج للناس مبعوث، ومهمتك مثل مهمة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وليس هناك أي أمة سبقت في هذا سواء يهودية أو نصرانية، ولم يكلف واحد من أمة من الأمم السابقة بأن يدعو بدعوة نبيها، وأما نحن فإننا مكلفون جميعاً بأن ندعو الناس إلى الله تبارك وتعالى، وأن نخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والعماية والجهالة والعصبية وغير ذلك إلى الله تبارك وتعالى إلى النور، لكن لابد أن يكون ذلك بعلم، أما بغير علم فلا فإن من دعا بغير علم كان ضرره أكثر من نفعه، وكان فساده أكثر من صلاحه، ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى على لسان نبيه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] على علم وعلى فقه وورع وعمل بما تعلمت.(6/11)
حرص الصحابة رضي الله عنهم على التمسك بالجماعة ونبذ الفرقة والاختلاف(6/12)
وصية عبد الله بن مسعود للناس بالطاعة والجماعة
قال: [قال ابن مسعود رضي الله عنه وهو يخطب: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة والجماعة -أي: تمسكوا بالطاعة وتمسكوا بالجماعة- فإنهما السبيل الأصيل إلى حبل الله الذي أمر به، وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة، وأن ما تكرهون في اجتماعكم أحب إلى الله تعالى من تفرقكم].
هؤلاء أناس رباهم النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يفهمون الأمر كله؛ ولذلك نحن نتعبد بهذا الكلام الله تبارك وتعالى إلى أن نموت، فهذا دين رغم أنه من كلام عبد الله بن مسعود.
يقول: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة.
يحث على طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله.
ثم يقول: وعليكم بالجماعة -أي: تمسكوا بها.
قال: فإنهما السبيل- يعني: هما الطريق وكل طريق غير هذا فإنه ليس بطريق- فإنهما السبيل الأصيل إلى حبل الله الذي أمر به.
قال: وأن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة.
يعني: أحياناً الواحد مع إخوانه الدعاة يخالفهم في الرأي، فإذا كان هذا الاختلاف عن دليل واضح ظاهر فلا ينبغي مخالفته، فإنه على الحق المبين، والآخرين على غير ذلك؛ لأنه معه الدليل، أما إذا كان الاختلاف في الاجتهاد والفهم فيكون الحق مع الجماعة.
وأنتم تعلمون أن قصر الصلاة في منى وفي مكة في موسم الحج مسنون لكل من كان حاجاً سواء كان من أهل مكة أو من غيرها، ولا تزال الأمة سلفاً وخلفاً يقصرون الصلاة في موسم الحج، ولما جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه أتم الصلاة في منى وخالفه عبد الله بن مسعود، وكان عبد الله بن مسعود في ذلك الوقت إمام الكوفة، فأتى حاجاً في زمن عثمان، فصلى خلفه في مسجد الخيف الظهر أربعاً والعصر أربعاً، فلما استفتي في ذلك: يا أبا عبد الرحمن.
أليس من السنة أن نصلي قصراً؟ قال: بلى.
السنة أنك تصلي قصراً.
فقيل له: فلم صليت خلف عثمان أربعاً؟ قال: الاختلاف شر.
فلو كنت أنا مكان عبد الله بن مسعود سأقف في زاوية من زوايا مسجد الخيف وأحضر كرسياً وأجلس عليه وأقول: أيها الناس! هلموا إلي أنتم تعملون أن الأمر كيت وكيت وكيت، والنبي صلى الله عليه وسلم قصر، وأبو بكر قصر، وعمر قصر، وإن الرجل الذي قصرتم وراءه مبتدع، وأرجو ألا يصلي أحد خلفه! فلو كان عبد الله بن مسعود عمل ذلك، فإنها ستكون فتنة عظيمة جداً في موسم الحج، وربما انشغل الناس بها وتركوا الفريضة.
فانظروا إلى حكمة ابن مسعود رضي الله عنه.
إن عبد الله بن مسعود ترك النصوص الصريحة الصحيحة وتابع عثمان بن عفان؛ وذلك لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومن أعظم أغراض الشريعة أنها أتت للحفاظ على المال والحفاظ على العرض والحفاظ على البدن، فلو أننا لم نأخذ برأي عثمان بن عفان في هذا الظرف فإنه سيحصل إهلاك وإفساد لكل ما أتت به الشريعة من المال والعيال والدماء والأرواح.
وبينما كان ابن مسعود في المدينة مع عثمان بن عفان؛ رجع عثمان إلى رأيه وسارت الأمور على ما يرام.
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام سن لنا أربع ركعات أو سن لنا ركعتين فما المشكلة في ذلك؟ خاصة أن مذهب جماهير أهل العلم أن قصر الصلاة ليس بواجب بل هو مسنون إلا ما كان من أبي حنيفة فإنه قال: القصر واجب، فلما نأخذ بمذهب الجمهور فإنه والله العصمة والنجاة، فوالله ما رأينا في مذهب الجمهور قط إلا العصمة حتى في الفروع، والحمد لله تبارك وتعالى.
جميع أئمة الدين مجمعون على العقيدة إلا ما كان من البعض في بعض مسائل الخلاف، وهي مسائل معلومة معدودة نتعرض لها بإذن الله تبارك وتعالى، والخلاف فيها لا يبدع به المخالف.
مثال ذلك: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لله عز وجل في ليلة الإسراء والمعراج، فالسلف أنفسهم اختلفوا فيها، فمنهم من قال: رأى محمد ربه، ومنهم من قال: إنه رأى نوره سبحانه وتعالى.
فلو قلت: إن محمداً رأى ربه، أو قلت: إنه لم ير ربه فإن لك فيها سلفاً من الصحابة رضي الله عنهم كـ ابن عباس رضي الله عنهما، وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، فلو اعتقدت أنه قد رآه أو اعتقدت أنه لم يره فإنك لا تبدع بذلك.
إذاً: المسألة التي اختلف فيها أهل العلم لا يبدع فيها المخالف، ولكن تنجو يا أخي المسلم! باتباع السواد الأعظم، باتباع جماهير علماء الأمة في الاعتقاد وفي الفروع؛ فإن اتباعهم عصمة ونجاة.(6/13)
وصية حذيفة وأبي مسعود البدري بلزوم الجماعة
قال: [عن سعد بن حذيفة قال: سمعت أبا عبد الله -أباه حذيفة بن اليمان - يقول: والله ما فارق رجل الجماعة شبراً وكان يشير بإصبعيه عند فخذه إلا فارق الجماعة].
أي: إلا فارق الأمة وخالفها.
قال: [قال المسيب بن رافع: سمعت أبا مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية فقلنا: اعهد إلينا.
فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ -أي: لعلك تموت في هذه الواقعة- فقال: اتقوا الله واصبروا].
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120].
فهذا هو السلاح الذي يقهر العدو.
إن أعظم ما يريح العدو أن ترد عليه، وإن أكثر ما يجعله يستشيط غضباً وحنقاً وبغضاً ألا ترد عليه، فأعظم إهانة لعدوك ألا ترد عليه، وهو من الصبر الذي تعبد به الله تبارك وتعالى.
[قالوا: اعهد إلينا! فإن الناس قد وقعوا في الفتنة، فإنا لا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ فقال: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر].
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه.
قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا وتعبها ونصبها، وإن العبد الفاجر إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب) حتى الأرض التي يمشي عليها تستريح منه.
إن الناس لما يتعرضون للفتنة من الفتن لا يصبرون، فتراهم يشكون وكأنهم يتسخطون على الله عز وجل وعلى أقداره، ويتمنون أن لو يتمكنون فينتقمون ممن أساء إليهم، ألا تعلم يا عبد الله! أن ما عند الله خير وأبقى، وأن عذاب الله تبارك وتعالى أعظم من عذابك؟ فسلط لسانك في الثلث الأخير من الليل، اجعل بينك وبين عدوك الثلث الأخير من الليل، وكِّل ربك في هذه الحرب الضروس أن ينتقم لأهل الإيمان ولأهل التوحيد، أما أن تجعل الانتقام إليك أنت فإنك قد أوكلت الأمر إلى نفسك، وأنت ضعيف وهزيل لا تملك نفعاً ولا ضراً.
قال: [(اتقوا الله واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر، وعليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة)].
إن العبد ينسلخ من دينه واحدة بواحدة ويظن أن الذي ينسلخ منه هو شيء يسير -وقد يكون كذلك في أول الأمر- ولكن مآله إلى أن ينسلخ من أصل اعتقاده، فتراه يتعرض لضرر أو لمكروه فيبدأ يحلق لحيته، فيجره حلق اللحية إلى معاص كثيرة، ثم يبدأ ينسلخ من الجماعة، وربما -قبل هذا- ينتقل من مسجد السنة إلى مسجد البدعة؛ فيفقد طعم الصلاة وحلاوتها ومذاقها ويفقد فيها الخشوع، ثم يشعر بالضجر والضيق ويقول: صلاتي في بيتي خير من صلاتي في هذا المكان، فيصلي في بيته عند كل أذان، ثم يبدأ يتأخر قليلاً قليلاً حتى يصلي الظهر مع العصر، والعصر مع المغرب، ثم ينام عن الفرض فيصلي الفرضين والثلاثة فروض والأربعة فروض بعد نومه واحدة تلو واحدة، ثم يترك السنن، ثم يترك قيام الليل، وهكذا يبدأ ينسلخ واحدة فواحدة؛ لأنه سلم زمام أمره إلى الشيطان من أول الأمر، فإنه لا يدل على خير وإنما يدل على كل شر.
ولكن الأفضل لو اتقى الله وصبر ووضع يده في يد إخوانه فإن الله تبارك وتعالى يثبته؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن رأى من المرء صدقاً وإخلاصاً وصبراً ثبته وأيده، وإن رأى منه إعراضاً أوكله إلى نفسه، ومن أوكل إلى نفسه هلك.
قال: [قال أبو وائل: عن أبي مسعود البدري قال: خرج معه أصحابه يشيعونه حتى بلغ القادسية، فلما ذهبوا يفارقونه قالوا: رحمك الله! إنك قد رأيت خيراً وشهدت خيراً -يعني: أنت أدركت الخير كله مع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام الكبار- حدثنا بحديث عسى الله أن ينفعنا به.
قال: أجل].
يعني: سأحدثكم وأنتم قد طلبتم مطلباً عظيماً.
[قال: رأيت خيراً وشهدت خيراً، وقد خشيت أن أكون أخرت لهذا الزمان لشر يراد بي، فاتقوا الله وعليكم بالجماعة فإن الله لن يجمع أمة محمد على ضلالة، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر].
قال: [قال حذيفة عند الموت: رب أيام أتاني فيها الموت وأنا كاره له، فأما اليوم فقد خالطت أشياء لا أدري على ما أنا منها.
قال: وأوصى أبا مسعود فقال: عليك بما تعرف ولا تتلون في دين الله عز وجل].
أي: لا تتقلب كل يوم تكون في مكان، كل يوم تكون في معصية؛ لأن من شأن الطاعة أنها تسلم إلى طاعة أخرى، ومن شأن المعصية أنها تفضي إلى معصية أخرى، وكلما تفرط في شيء صغير يجرك هذا التفريط إلى شيء آخر، فإذا كنت في صلاة سلمتك هذه الصلاة إلى صيام، والصيام إلى زكاة، والزكاة إلى أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف إلى العمل به، والعمل به إلى النهي عن المنكر، والنهي إلى الانتهاء عنه، فأنت في صراع مع نفسك، فكلما كنت في طاعة فكرت في غيرها فأسلمتك إليها، وإذا كنت في معصية أسلمتك إلى ما بعدها، فكما(6/14)
ذكر بعض صفات الطائفة المنصورة
قال: [عن عمير بن هانىء: أن معاوية بن أبي سفيان خطبهم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال من أمتي أمة قائمة)].
و (من) تفيد التبعيض.
يعني: لا يزال بعض هذه الأمة.
(قائمة بأمر الله، لا يضرهم خلاف من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله فهم على ذلك).
وإذا كنت على حق فلا بد أن يكون في اعتقادك أن المخالف لك لا يضرك ولا يؤثر فيك، فكونك تعتقد أن الحق معك ولكن هذا الحق متأثر بالمناوئين والمخالفين فهذه بلية عظيمة، إذ إن الله تبارك وتعالى جعل لك ألف سبيل لتبليغ دينه.
إن الدعوة إلى الله لا تكون في المسجد فقط، فمن الممكن أن هذه الدروس التي تلقى أمام المئات لا يستفيد واحد بكلمة منها، ومن الممكن بحديث واحد لرجل في بيته ينتفع به انتفاعاً عظيماً، وهناك من يأتي إلى المسجد مائة عام ولا ينفعه هذا المسجد.
أي: لا يتعلم منه، فإن الدعوة الفردية أحياناً تكون أبلغ وأكثر تأثيراً وأعمق في قلب المدعو من الدعوة الجماعية، وشخص منا يكون جالساً في وسط الناس أول شيء يضعه في ذهنه أن هذا الرجل الذي يتكلم يكلم هؤلاء الناس، وينسى أنه يكلمه هو، لكن لما أكون أنا وأنت في بيت ما يصير الكلام مباشراً لك أنت، وأنا لا أعني به أحداً غيرك؛ والله تبارك وتعالى ينفع بالدعوة في كل زمان ومكان، في الشارع في المقاهي في الأسواق في الخمارات والحانات، ينفع الله تبارك وتعالى بها أقواماً.
قال: [قال المغيرة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال ناس من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) هذا الحديث عن البخاري ومسلم].
وكذلك ورد من حديث عمران بن الحصين: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال).
وفي حديث يزيد: (ظاهرين على من ناوأهم).
يعني: من حاربهم وخالفهم، (حتى يأتي أمر الله وينزل عيسى بن مريم).
يعني: هذه الجماعة جماعة مباركة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قال: [عن سعد بن أبي وقاص قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الدين عزيزة إلى يوم القيامة)].
وهذه زيادة تدل على أن أهل السنة هم الذين في عزة؛ لأنهم قد استمدوا عزتهم من العزيز تبارك وتعالى.
فبتمسكك بالكتاب والسنة تستمد عزتك من عزة العزيز تبارك وتعالى، وغيرك الذي ناوأك وخالفك لا عزة له، فإنه ذليل وإن كان في الظاهر أنه عزيز، فهو في الحقيقة من أذل القوم وأحقرهم، ولا خلاق له ولا نصيب لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه لا عزيز له يستمد منه العزة، وأما أنت فإنك تستمد عزتك من عزة الله، وقوتك من قوة الله، ونصرك بتأييد الله، أما هو فإنه لا ناصر له ولا مؤيد له ولا عز له.
قال: [عن معاوية بن قرة قال: سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال ناس من أمتي منصورين)] وهذه أيضاً إحدى السمات أنهم المنصورون حتى وإن كانوا يداسون بالأقدام والنعال، حتى وإن كانت بيوتهم اصطبلات، فهم المنصورون وهم الأعزة.
قال: [(لا يزال ناس من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)].
وجابر بن عبد الله يقول: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) هذا الحديث ثبت من غير طريق جاء في رواية أبي هريرة وغيره (فطوبى للغرباء) قيل: هي شجرة في الجنة عظيمة لا يأكل منها إلا الغرباء.
وهذا الحديث له فقه طويل وقصة عظيمة جداً ينبغي طرحها في محاضرة خاصة ولعل ذلك يكون في درس الجمعة القادم بإذن الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(6/15)
الأسئلة(6/16)
بيان أن المعاصي والكبائر لا تخرج أصحابها عن اعتقاد أهل السنة
السؤال
يسأل البعض عن العصاة من أهل الفسق والفجور، هل هم من عصاة أهل السنة؛ لأنهم لا يختلفون معهم في العقيدة، أم هم خارجون عن هذه الفرقة؟
الجواب
إن أصحاب الكبائر إذا لم يخالفوا أهل السنة في أصول معتقدهم فإنهم من أهل السنة مع ارتكابهم لهذه الكبائر والمعاصي؛ لأن الكبائر لا تخرج الرجل عن حد اعتقاده إلا إذا صرح بأنه يعتقد بغير معتقد أهل السنة والجماعة.
فلو أن رجلاً من أهل السنة والجماعة وقع في كبيرة من الكبائر هل يخرج من الفرقة الناجية؟
الجواب
لا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أقام الحد على أناس قد زنوا وسرقوا ومع هذا لم يحكم عليهم بأنهم قد خرجوا من هذه الفرقة، بل صلى عليهم لما ماتوا ودفنهم ودعا لهم، وقال عن ماعز الأسلمي: (إني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة) مع أنه زان.
وقال عن الغامدية: (قد تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم) أو (لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه).
فإن أصحاب الكبائر لا يكفرون بها ولا يخرجون بكبائرهم عن معتقد أهل السنة والجماعة.(6/17)
حكم صلاة الجمعة على المسافر
السؤال
ما الدليل على أن المسافر ليس عليه جمعة؟
الجواب
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسافر جمعة).(6/18)
حكم الغسل على المرأة إذا أرادت أن تصلي الجمعة
السؤال
هل يسن للمرأة الغسل إذا ذهبت إلى الجمعة؟
الجواب
نعم.
يسن للمرأة إذا ذهبت إلى الجمعة أن تغتسل إلا ما كان من ابن حزم رحمه الله تعالى، إذ إنه حمل أحاديث غسل الجمعة على من أدرك اليوم لا من أدرك الصلاة، وقد انفرد الإمام بهذا الفهم دون بقية فهم الأمة، فقهاء الملة قالوا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) يعني: على كل من بلغ سن الحلم.
قالوا: هذا الغسل يسن في حق من وجبت في حقه صلاة الجمعة وأتى إلى المسجد.
ابن حزم قال: الحديث لا يقصد به إتيان المسجد والصلاة، ولكن كل من أتى عليه يوم الجمعة وهو حي وجب في حقه الغسل؛ لأن الغسل عنده واجب وليس مسنوناً، ولاشك أنه قد خالف في ذلك جماهير العلماء: أن المقصود بالغسل: إتيان الصلاة، وأنه مسنون وليس واجباً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن لم يغتسل فلا حرج عليه)، وفي رواية: (ومن لم يغتسل فيجزئه الوضوء) يعني: يكفيه الوضوء.(6/19)
حكم أخذ مصحف موقوف على المسجد إلى البيت للقراءة فيه
السؤال
هل يجوز لي أن آخذ مصحفاً من المسجد وهو وقف لله تعالى إلى البيت لأقرأ فيه؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن الوقف على شرط الواقف، فتصور لو أن كل واحد أجاز لنفسه أن يأخذ مصحفاً من المسجد إلى البيت ليقرأ فيه لما بقي في المسجد مصحف واحد، ولما وجد الذي يدخل المسجد مصحفاً يقرأ فيه؛ فلا يجوز صرف الوقف لغير الباب الذي أوقفه عليه صاحبه إلا بشرطين: الشرط الأول: إذن الواقف الأصلي.
والشرط الثاني: إذا استغني عن هذا الوقف تحت أي ظرف من ظروف الاستغناء.
مثال ذلك: مسجد كل ما فيه موقوف عليه: إذاعة وفرش وكتب ومصاحف وغيرها، لكن المسجد هذا نحن نريد أن نهدمه، فالأشياء الموقوفة عليه لا يحق لنا أن نبيعها ونضع نقودها في جيوبنا؛ لأنها ليست من حقنا؛ لأن هذا المال وقف لله عز وجل.
إذاً: ينتقل إلى مسجد آخر، فإنه ليس هناك مانع عند الواقف أن ينتقل هذا الشيء إلى مسجد آخر، إذ إن هذا الشيء الموقوف على هذا المسجد لا حاجة للمسجد فيه في الوقت الذي يحتاج إليه المسجد المجاور، فيجوز نقله إليه.(6/20)
الحكم على بعض الأحاديث المشهورة عند الناس
حديث: (سلمان منا أهل البيت) موقوف على علي بن أبي طالب، ضعيف مرفوع.
وحديث: (رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه)، هو كلام الناس وليس حديثاً.
وحديث: (ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، حديث صحيح.
وحديث (أن النبي عليه الصلاة والسلام ألقى عباءته على فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم وقال: هؤلاء هم أهل بيتي) حديث صحيح.
والأمر يحتاج إلى ضبط وليس هذا وقته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(6/21)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ذم الفرقة والاختلاف
لقد حرصت الشريعة الإسلامية من أول أيام التشريع على الوحدة والأخوة، ونبذ التفرق والاختلاف، ولهذا فقد نفرت من التفرق، وأخبرت أنه سبب الفشل والضعف والهوان.(7/1)
باب ذكر افتراق الأمم في دينهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ذكرنا في الدرس الماضي ما يدل على افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة من كتاب الله عز وجل، ثم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وآثار الصحابة، ووقفنا على قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة كلها في الهاوية -أي: في النار- وواحدة في الجنة.(7/2)
أثر علي رضي الله عنه في تفرق الأمة وأن شرها الداعية إليه
وفي رواية عنه عن عبد الله بن قيس قال: [اجتمع عند علي رضي الله عنه جاثليتو النصارى ورأس الجالوت، فقال الرأس: أتجادلون؟ -أي: هل أنتم مستعدون للمجادلة؟ - على كم افترقت اليهود؟ قال: على إحدى وسبعين فرقة.
فقال علي رضي الله عنه: لتفترقن هذه الأمة على مثل ذلك، وأضلها فرقة وشرها الداعية إلينا].
وهذه شهادة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبين أن شر الفرق الشيعة.
قال: شرها الداعية إلينا أهل البيت، وآية ذلك -أي: وعلامة شرهم وأنهم أسوأ الخلق وأضلهم- أنهم يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وهذه غصة في حلوق الشيعة عليهم من الله ما يستحقون، والشيعة يحملون هذه النصوص التي يثني فيها علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر وعثمان على التقية، حتى حملوا نكاح عمر رضي الله عنه من ابنة علي رضي الله عنه على التقية كذلك، والتقية باختصار شديد هي الكذب؛ لأن الشيعة اعتقدت الكذب ديناً لها، بخلاف الخوارج فقد كانوا يكفرون بالمعصية؛ ولذلك احتمل النقاد رواية علماء الخوارج؛ لأنهم يعلمون أنهم لا يكذبون؛ لأن من كذب عندهم فقد ارتكب كبيرة وأصبح كافراً عندهم.
فالتقية هي: الكذب والحيلة والخداع والغش والتزوير والتمويه، وهذا هو دين الشيعة، فقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقدم أبا بكر وعمر على نفسه، بل ويقدم عثمان رضي الله عنهم أجمعين على نفسه.
وقال: من أتاني قد سب أبا بكر وعمر أقمت عليه حد المفتري، أو: من أتاني قد سب أبا بكر وعمر جلدته حد المفتري.
وهذه النصوص يقول عنها الشيعة: إن علياً ما قال ذلك إلا تقية، أي: مداراة ومماراة حتى يفلت من عقاب الطرف الآخر ومن عقاب الخصوم، يعني: يقولون: إن علياً قال ذلك نفاقاً، وهذا النفاق محمود وممدوح عندهم، وهو الخروج من الموقف بلباقة إذا أردنا أن نعبر بأسلوب العصر.
وعلي رضي الله عنه كان أفضل وأجل من ذلك بكثير، فقد كان رضي الله عنه يعلم قدر أبي بكر وعمر وعثمان وأنه بعدهم، ولذلك لما قيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أي الصحابة أفضل؟ قال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، قيل له: ثم من؟ قال: لا أدري، قيل له: ثم علي؟ فتبسم وقال: وما علي إلا رجل من المسلمين.
وهذا أدب عظيم جداً من علي بن أبي طالب.
ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الأفضلية في الخلفاء الراشدين على نسقهم وترتيبهم في الخلافة، فـ أبو بكر رضي الله عنه هو أول الخلفاء الراشدين خلافة وفضلاً، ثم من بعده عمر، ثم من بعده عثمان، ثم من بعده علي رضي الله عنه، هذا معتقدنا في الخلفاء الراشدين من جهة الفضل والخلافة.
قال ابن بطة: [فقد ذكرت من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخبر به من تفرق هذه الأمة ومضاهاتها في تفرقها اليهود والنصارى -يعني: أن هذه الأمة في تفرقها تشابه ما وقع من التفرق والاختلاف في أمة اليهود والنصارى- والأمم السالفة ما في بعضه كفاية لأهل الحق والرعاية]، يعني: أن الذي ذكرته يكفي في قيام الحجة وثبات المحجة لأهل الحق والرعاية.
قال: [فإن قال قائل: قد صح عندنا من كتاب ربنا ومن قول نبينا صلى الله عليه وسلم: إن الأمم الماضية من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا وكفر بعضهم بعضاً، ومثل ذلك قد حل بهذه الأمة حتى قد كثرت فيهم الأهواء -يعني: البدع- وأصحاب الآراء والمذاهب، وكل ذلك قد رأيناه وشاهدناه، فنريد أن نعرف هذه الفرقة المذمومة لنجتنبها، ونسأل مولانا الكريم أن يعصمنا منها، ويعيذنا مما حل بأهلها الذين استهوتهم الشياطين، فأصبحوا حيارى عن طريق الحق صادفين.
[قلت: فاعلم -رحمك الله- أن لهذه الفرق والمذاهب كلها أصولاً أربعة]، يعني: أنه يجيب على السؤال ويبين هذه الفرق الضالة؛ حتى نحذرها ولا نقع في براثينها، ويقول: لن أعرف لك كل فرقة بفروعها وأصولها، وإنما أذكر لك أصول البدع، وأن هذه البدع الأصلية تتفرع وتتشعب، فأينما وقفت على بدعة أصلية أو فرعية فاحذرها.
قال: [فاعلم رحمك الله أن لهذه الفرق -أي: الثنتين والسبعين فرقة والمذاهب كلها- أصولاً أربعة، فكلها عن الحق حائدة، والإسلام وأهله معاندة، وعن أربعة أصول يتفرقون، ومنها يتشعبون، وإليها يرجعون، ثم تتشعب بهم الطرق، فتأخذهم الأهواء وقبيح الآراء حتى يكونوا في التفرق إلى ما لا يحصى].(7/3)
أصول البدع
قال: [فأما الأربعة الأصول التي بها يعرفون وإليها يرجعون فهو ما حدثنا المسيب بن واضح قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: أصل البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة].
هذه هي أصول البدع، ثم كل فرقة من هذه الفرق تشعبت إلى عشرين فرقة أو أقل أو أكثر، حتى أصبح في نهاية الأمر مجموع هذه الأصول والفروع اثنين وسبعين.
وهذا العدد ليس متفقاً عليه، فمنهم من يجعل أصل الفرق أربع فرق، وهم جماهير السلف، وربما يكون اختلاف العد نظراً لاختلاف العصر، فهذه الفرق التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن تفرقها عن أمة الإسلام إنما أخبر بها في زمن النبوة، ولم تكن في زمن النبوة مفترقة، ولكن ظهرت أصول بعض البدع في زمن النبوة، ثم ازدادت هذه الأصول بعد ذلك، ثم في كل قرن تزداد ظهوراً ووضوحاً وتفرقاً، فربما يكون سبب اختلاف العد في الأصول والفروع هو بسبب اختلاف الظهور من عدمه في كل عصر من العصور.
قال: [ثم تتشعب كل فرقة ثمانية عشرة طائفة، فتلك اثنتان وسبعون فرقة، والثالث والسبعون هم الجماعة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها الناجية].
قال: [قال المسيب: أتيت يوسف بن أسباط فسلمت عليه وانتسبت إليه -يعني: قلت له: أنا قريب منك- وقلت له: يا أبا محمد! إنك بقية أسلاف العلم الماضين -يعني: أنت من بقية السلف الصالحين- وإنك إمام سنة، وأنت على من لقيك حجة -يعني: أنت حجة على من لقيك- ولم آتك لأسمع الأحاديث، ولكن لأسألك عن تفسيرها، وقد جاء هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة)، فأخبرني من هذه الفرق حتى أتوقاها؟ فقال لي: أصلها أربعة، يعني: لم يخبره بالاثنين والسبعين فرقة، وإنما أخبره عن أصول هذه الفرق، قال: القدرية والمرجئة والشيعة -وهم الروافض- والخوارج، فثماني عشرة فرقة في القدرية، وثماني عشرة في المرجئة، وثماني عشرة في الخوارج، وثماني عشرة في الشيعة، ثم قال: ألا أحدثك بحديث لعل الله أن ينفعك به؟ قلت: بلى يرحمك الله، قال: أسلم رجل على عهد عمرو بن مرة فدخل مسجد الكوفة، فجعلت أجلس إلى قوم أصحاب أهواء، فكل يدعو إلى هواه، وقد اختلفوا علي، فما أدري بأيها أتمسك، فقال له عمرو بن مرة: اختلفوا عليك في الله عز وجل أنه ربهم؟] يعني: هذا الذي أسلم في زمن عمرو بن مرة ودخل المسجد، كان كلما جلس إلى قوم وجدهم يدعون إلى أهواء، ولا يدعون إلى كتاب وسنة، فرجع مرة ثانية إلى عمرو بن مرة يسأله: [إني جلست إلى أناس أصحاب أهواء، يدعون إلى أهوائهم، فقال له: اختلفوا عليك في الله عز وجل أنه ربهم؟ يعني: هل يشككونك في أن الله تعالى ربهم؟ قال: لا، قال: اختلفوا عليك في محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الكعبة أنها قبلتهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في شهر رمضان أنه صومهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الصلوات الخمس والزكاة والغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانظر هذا الذي اجتمعوا عليه فهو دينك ودينهم فتمسك به].
ومعنى هذا الكلام: أن الخلاف في الفروع جائز، وأن هذه الفرق قد اختلفت في أصول الدين.
وقد ذكرنا كيفية معرفة ما إذا كانت هذه فرقه أو لا، وذلك إذا خالفت في أصل عام من أصول الشرع أو قاعدة كلية من قواعده لا يسع أحداً أن يعذر به، يعني: لو قلنا الآن لأجهل الجاهلين: هل الصلاة إلى القبلة أم إلى غيرها؟ فإنه يقول: إلى القبلة، لكنه لو قال: ولكني لا أدري أهي القبلة التي في مكة أو غيرها؟ فإنه لا يقبل منه هذا ولا يعذر به؛ لأنه لا يوجد أحد لا يعرف مكان القبلة، ولو قال: أنا مؤمن أن الله تعالى افترض علي خمس صلوات في اليوم والليلة، ولكني لا أدري كيفية هذه الصلوات ولا كيفية أدائها ولا أوقاتها لم يقبل هذا منه كذلك.
ولو قال: إن الله تبارك وتعالى افترض علي صيام رمضان، ولكني لا أدري متى يكون رمضان، هل هو قبل ربيع أو بعده؟ أو قبل رجب أو بعده؟ أو قبل شعبان أو بعده؟ لم يقبل منه هذا؛ لأن هذه أصول الديانة.
فهو هنا يقول له: اختلفوا عليك في الله أنه ربهم؟ قال له: لا لم يختلفوا في هذه القضية، يعني: أنهم متمسكون بأصل التوحيد، قال: اختلفوا عليك في محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبيهم وأن الله أرسله إليهم؟ قال: لا، يعني: لم يختلفوا في هذه القضية، فمسألة الرسالة والنبوة من مسائل الأصول لا الفروع، ولا يوجد شخص يقول: أنا أعلم أن الله أرسل الأنبياء والرسل، ولا أدري من آخرهم رسالة، أو يقول: أنا أعلم أن الله تعالى أرسل إلى خلقه الأنبياء والمرسلين، ولكني لا أدري أمحمد رسول أم غير رسول؟ والقائل بهذا يكفر فوراً.
فسأله: هل اختلفوا عليك في الصلوات؟ قال: لا، قال: في الصيام؟ قال: لا، قال: في الزكاة؟ قال: لا.
وهذا يدل على أن الفرقة لا تكون فرقة إلا إذا خالفت في(7/4)
أثر ابن عباس في تفرق الأمة
قال: [عن ابن عباس قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين، والنصارى على اثنتين وسبعين، وأنتم على ثلاث وسبعين، وإن من أضلها وشرها وأخبثها: الشيعة الذين يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما].
ونص ابن عباس هذا صحيح عنه، وهو يشهد لنص علي بن أبي طالب، وابن عباس وعلي بن أبي طالب من آل البيت رضي الله عنهما.(7/5)
أصول الفرق عند ابن المبارك
قال: [قال: حفص بن حميد: قلت لـ عبد الله بن المبارك: على كم افترقت هذه الأمة -أي: الأمة المحمدية؟ - قال: الأصل أربع فرق.
يعني: ستفترق إلى ثلاث وسبعين، ولكن مرد هذا الاختلاف إلى أربع فرق.
قال: هم الشيعة والحرورية -والحرورية هم الخوارج، وسموا بالحرورية لنزولهم مكان يسمى حروراء، وفيه تكتلوا وتحيزوا وتميزوا- والقدرية والمرجئة، فافترقت الشيعة على ثنتين وعشرين فرقة، وافترقت الحرورية على إحدى وعشرين فرقة، وافترقت القدرية على ست عشرة فرقة، وافترقت المرجئة على ثلاث عشرة فرقة.
قلت: يا أبا عبد الرحمن! لم أسمعك تذكر الجهمية -يعني: لم تذكر إلا الشيعة والقدرية والخوارج والمرجئة، ولكنك ما ذكرت الجهمية- فقال عبد الله بن المبارك: إنما سألتني عن فرق المسلمين -يعني: أن هؤلاء عند عبد الله بن المبارك غير معدودين في فرق المسلمين- ولم تسألني عن الكفار].(7/6)
أصول الفرق عند أبي حاتم
قال: [قال أبو حاتم: وأخبرت عن بعض أهل العلم: أول ما افترق من هذه الأمة الزنادقة، وهم: القدرية والمرجئة والرافضة والحرورية، فهذا جماع الفرق وأصولها، ثم تشعبت كل فرقة من هذه الفرق على فرق، وكان جماعها الأصل، واختلفوا في الفروع، فكفر بعضهم بعضاً، وهذا شأن أهل البدع دائماً، إذا اختلفوا في شيء يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً.
وأما أهل السنة فإن اختلفوا خطأ بعضهم بعضاً].
ولم يكفر أو يلعن بعضهم بعضاً، فإصدار الأحكام القاسية الشديدة التي في غير محلها إنما هو من شأن أهل البدع، والتخطئة والنصح سراً وعلناً هو سبيل ونهج أهل السنة والجماعة.
ولذلك قال ابن تيمية عليه رحمة الله: أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم ببعض؛ لأن أهل السنة يتحرجون جداً من إطلاق ألفاظ التكفير إلا إذا اقتضى الأمر ذلك، وأما أهل البدع فإنهم يبادرون ويسارعون بتكفير بعضهم بعضاً، وبلعن وسب بعضهم بعضاً.
قال: وجهل بعضهم بعضاً، فافترقت الزنادقة على إحدى عشرة فرقة، وكان منها المعطلة، ومنها المنانية، وإنما سموا المنانية برجل كان يقال له: ماني، كان يدعو إلى الاثنين -أي: إله الظلمة وإله النور- فزعموا أنه نبيهم في زمن الأكاسرة، فقتله بعضهم.
ومنهم المزدكية؛ لأن رجلاً ظهر في زمن الأكاسرة يقال له: مزدك.
ومنهم العبدكية، وإنما سموا العبدكية؛ لأن عبدك هو الذي أحدث لهم هذا الرأي، ودعاهم إليه.
ومنهم الروحانية، وسموا الفكرية.
ومنهم الجهمية، وهم صنف من المعطلة، وهم أصناف -يعني: المعطلة أصناف- وإنما سموا الجهمية لأن جهم بن صفوان كان أول من اشتق هذا الكلام من كلام السمنية، وهم صنف من العجم كانوا بناحية خراسان، وكانوا قد شككوه في دينه وفي ربه حتى ترك الصلاة أربعين يوماً لا يصلي، فقال: لا أصلي لمن لا أعرف، ثم اشتق هذا الكلام.
ومنهم السبئية، وهم صنف من العجم يكونون بناحية خراسان، وذكر فرقاً أخر بصفات مقالاتهم.
ومنهم الحرورية، وافترقوا على ثماني عشرة فرقة، وإنما سموا الحرورية لأنهم خرجوا بحروراء أول ما خرجوا.
وصنف منهم يقال لهم: الأزارقة، وإنما سموا الأزارقة بـ نافع بن الأزرق، ومنهم النجدية، وإنما سموا النجدية بـ نجدة، ومنهم الأباضية، وإنما سموا الأباضية بـ عبد الله بن إباض، ومنهم الصفرية، وإنما سموا الصفرية بـ عبيدة الأصفر، ومنهم الشمراخية وإنما سموا الشمراخية بـ أبي شمراخ رأسهم، ومنهم السرية، وذكر منهم، ومنهم ومنهم، حتى عد اثنتين وسبعين فرقة.(7/7)
مخالفة الفرق لمذهب أهل السنة في الأصول
إن من الفائدة: ذكر هذه الفرق الثنتين والسبعين ولو بشيء من الإيجاز؛ حتى نعلم أنهم ما استحقوا اسم الفرقة إلا لمخالفتهم في أصل من الأصول، وعندما تأتي وتذكر هذه الفرق ببعض علاماتها لابد أن تجد في هذه العلامات ولو علامة واحدة من القواعد الكلية والأصول العامة في الشريعة الإسلامية، فلما كان هذا ديدنهم ونهجهم ودينهم استحقوا بمخالفتهم لهذه القاعدة الكلية والأصل العام أن يكونوا فرقة من الفرق، والكتاب لم يذكر هذا بشيء من التفصيل إلا على نحو مما ذكره عبد الله بن المبارك الإمام المبجل المعظم.
وهناك كتاب مختصر جداً ابن الجوزي اسمه: (كيد الشيطان لنفسه قبل خلق آدم عليه السلام) ذكر فيه الفرق الضالة، ونحن سنقرأ منه الجزء المتعلق بالفرق الضالة حتى نعلم أصول المخالفات عند كل فرقة من الفرق؛ لنتبين أن المخالفة كانت في أصول.
قال الشيخ ابن بطة: [فهذا يا أخي! رحمك الله ما ذكره هذا العالم رحمه الله عبد الله بن المبارك من أسماء أهل الأهواء وافتراق مذاهبهم وعداد فرقتهم، وإنما ذكر من ذلك ما بلغه ووسعه ما انتهى إليه علمه، لا من طريق الاستقصاء والاستيفاء؛ وذلك لأن الإحاطة بهم لا يقدر عليها أحد، والتقصي للعلم بهم لا يدرك، وذلك أن كل من خالف الجادة وعدل عن المحجة واعتمد من دينه على ما يستحسنه فيراه، ومن مذهبه على ما يختاره ويهواه عدم الاتفاق والائتلاف، وكثر عليه أهلها لمباينة الاختلاف؛ لأن الذي خالف بين الناس في مناظرهم وهيئاتهم وأجسامهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وحظوظهم كذلك خالف بينهم في عقولهم وآرائهم وأهوائهم وإراداتهم واختياراتهم وشهواتهم، فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين اجتمعا جميعاً في الاختيار والإرادة حتى يختار أحدهما ما يختاره الآخر ويرذل ما يرذله إلا من كان على طريق الاتباع، واقتفى الأثر والانقياد للأحكام الشرعية والطاعة الديانية].
يعني: يريد أن يقول: لا يمكن أن تجد اثنين متفقين على شيء إلا إذا كان طريقهما الاتباع والانقياد، فمثلاً عندما أصلي المغرب أنت تصلي كما أصلي تماماً؛ لأن طريقنا واحد، ومصدر علمنا واحد.
وأما أهل الأهواء فلا يمكن أن تصلي القدرية كالشيعة، ولا الشيعة كالمرجئة، ولا المرجئة كالخوارج.
قال: [فإن أولئك من عين واحدة شربوا -الذي هم أهل السنة- فعليها يردون وعنها يصدرون، قد وافق الخلف الغابر للسلف الصالح].
وقال الشيخ: [أعاذنا الله وإياكم من الآراء المخترعة والأهواء المتبعة، والمذاهب المبتدعة، فإن أهلها خرجوا عن اجتماع إلى شتات، وعن نظام إلى تفرق، وعن أُنس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغضة، وعن نصيحة وموالاة إلى غش ومعاداة، وعصمنا وإياكم من الانتماء إلى كل اسم خالف الإسلام والسنة].
وعن ابن عباس قال: من أقر باسم من هذه الأسماء المحدثة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
وقال ميمون بن مهران: إياكم وكل هوى مسمى بغير الإسلام.
قال الشيخ: [ورحم الله عبداًَ اتهم نفسه وهواه وانتصح كتاب الله بدينه ودنياه].
وكان الحسن يقول: اتهموا أهواءكم وآراءكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم.(7/8)
كلام ابن الجوزي حول الفرق(7/9)
كلام ابن الجوزي عن افتراق اليهود
ذكر ابن الجوزي عليه رحمة الله اختلاف فرقة اليهود، فذكر أن الناس كانوا على التوحيد، ثم استمر الأمر في عهد نبوة موسى عليه السلام -يعني: على التوحيد- أي: في وجود موسى عليه السلام بين أمة اليهود، وإثبات الصفات الكمالية لله عز وجل، إلى أن توفي موسى عليه السلام ودخل الدغل على بني إسرائيل -أي: دخلت عليهم الأهواء والابتداع- ورفع التعطيل رأسه بينهم -أي: عطلوا الباري تبارك وتعالى عن صفاته- وأقبلوا على علوم المعطلة، وهم أعداء موسى عليه السلام، وقدموها على نصوص التوراة، واعلم أن سنة الله عز وجل في الخلق واحدة، فالابتداع والشر ما دخل في دين الله عز وجل بخيله ورجله إلا لما ترجمت كتب اليونان في زمن الدولة العباسية، واتخذ الناس كلام الفلاسفة والمتكلمين ديناً لهم، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم ظهرياً.
ولذلك لما مات موسى عليه السلام اتخذ الناس الذين أتوا بعده كلام المعطلة والمتكلمين ديناً، وتركوا نصوص التوراة، وقدموها على التوراة، فسلط الله عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم، وسبى ذراريهم، كما هي عادته تبارك وتعالى وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة المعطلة من الفلاسفة وغيرهم.
والحاصل: أن هذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزال ملكهم.(7/10)
كلام ابن الجوزي عن افتراق النصارى
قال: أما أمة النصارى فإن الله تعالى بعث عبده ورسوله المسيح ابن مريم عليه السلام فجدد لهم الدين -أي: دين بني إسرائيل الذي كانوا عليه في زمن موسى عليه السلام- وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وإلى التبري من تلك الأحداث والآراء الباطلة، فعادوه وكذبوه.
وما من نبي أرسله ربه إلا وكُذب، وراموا قتله -أي: قصدوا إلى قتل عيسى عليه السلام- فطهره الله تعالى منهم، ورفعه إليه، ولم يصلوا إليه بسوء ولا شر، وأقاموا له أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته حتى صار دينه قائماً على من خالفهم، فدخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، أي: دعوة عيسى عليه السلام، واستقام الأمر على السلام بعده نحو ثلاثمائة سنة، يعني: أن الناس كانوا على دين عيسى عليه السلام ثلاثمائة سنة، ثم دخل بعد ذلك الفساد والانحراف والأهواء والابتداع، ثم أخذ دينه في التبدل والتغيير حتى تناسخ واضمحل، أي: لم يبق منه شيء، ولم يبق في أيدي النصارى منه شيء، بل ركبوا ديناً بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام، يعني: أي كتاب كان يعجبهم كانوا يكتبونه بأيديهم، ثم ينسبون هذا إلى عيسى عليه السلام، وأن هذا دينه الذي أتى به، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوا في دين النصرانية، وهذه مصيبة، فـ (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، يعني: أنهم أحبوا أن يدخلوا الوجهاء وأصحاب الملك وغير ذلك في دين عيسى، فأخذوا معتقدات هؤلاء الملوك وكتبهم ونسبوها لعيسى عليه السلام؛ ليدخلوا السرور على هؤلاء الملوك بأنهم موافقون لدين عيسى عليه السلام حتى يدخلوا في دين عيسى.
قال: فنقلوهم من عبادة الأصنام المجمدة إلى الصور التي لا ظل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ومع ذلك فيهم بقايا من دين المسيح كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم الميت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم الإنجيل من ذلك.
يعني: أن الختان كان من دين عيسى عليه السلام، وهو بقية من دين عيسى، وهذا بعد مرور ثلاثمائة سنة من رفع عيسى عليه السلام، فظل الناس ثلاثمائة سنة على شريعة عيسى عليه السلام، ثم دخل التغيير، وبعد دخول التغيير وتحريف نصوص الإنجيل بقيت عندهم بقية مما أمرهم به عيسى عليه السلام، وهذه البقية: الختان والاغتسال من الجنابة، وتعظيم الميت، وتحريم الخنزير، والخنزير الآن علامة على النصرانية، والصليب علامة على النصرانية، وهذا الصليب لا يعرف عنه عيسى عليه السلام شيئاً؛ لأن الصليب ما اتخذ إلهاً إلا بعد رفع عيسى، ولو كان النصارى أذكياء لكان الصليب بالنسبة لهم معرة؛ لأنه هو الذي صلب عليه عيسى كما يزعمون، فهم يزعمون أن عيسى صلب على الصليب وقتل، وأنا لو عرفت أن نبياً صلب على هذا الجدار فسأهد الجدار؛ من أجل أن أمسح هذا العار، لا أنني أتخذه إلهاً، إذ كيف أتخذ هذا الجدار إلهاً وقد صلب عليه نبي؟ فعيسى عليه السلام لا يعرف عن الصليب شيئاً؛ لأنه اتخذ بعد رفعه عليه السلام.
وأما الخنزير فإن عيسى عليه السلام حرم الخنزير على أمة النصارى، وهم اتخذوه طعاماً لهم.
قال: وتحريم ما حرمته التوراة؛ لأنكم تعلمون أن الإنجيل ودين عيسى عليه السلام متمم لدين موسى عليه السلام.
ثم تناسخ شرعه -أي: ثم تناسخ شرع عيسى- حتى استحلوا الخنزير وأحلوا السبت وعوضوا عنه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة، وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس وهم صلوا إلى المشرق، ولم يعرف المسيح الصليب قط، وهم عظموا الصليب، بل عبدوه ولم يصم المسيح صومهم هذا أبداً، ولم يشرعه لهم، ولم يأخذ به البتة، بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الربيع، وجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضاً عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومانية أو الرومية، وكان المسيح في غاية الطهارة ونهاية النظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، وهم تعبدوا بالنجاسة.
وتصور أن النصارى يتخذون النجاسة قربة تقربهم إلى الله، والله لم يأمرهم بهذا، ولا أمرهم أحد من الأنبياء بهذا، فهم لا يغتسلون من الجنابة، مثل الفنانين والفنانات وأصحاب الفكر المنحرف، يقول الواحد منهم: أنا أغتسل في كل شهر مرة، وأما المسلمين فحتى الذي ليست له زوجة، أو التي ليس لها زوج إذا بلغت لا يحل لها أن يمر عليها سبعة أيام دون أن تغتسل مرة.
يعني: أقل الغسل أن يكون مرة في كل أسبوع لمن لم يكن به جنابة وهذا أقل شيء، وأما هؤلاء الذين يبدون في غاية الجمال والرونق من الممثلين والممثلات فحظهم من الجمال الصور فقط، وإذا جلست مع الواحد أو الواحدة منهم فلا بد أن تشم منه رائحة النتن والعفن، فهم في صورهم ومناظرهم يبدو منهم الجمال، وهم في حقيقة أمرهم في غاية النتن، ويكفي أن الواحد منهم أو الواحدة منهن لا تعرف أو لا يعرف عن دينه شيئاً لا من قريب ولا من بعيد، وهذا نتن في الفكر والاعتقاد.
وهم يحيون في بيوتهم حياة دون حياة الحيوان في جميع ضروبها، وقد تجد أحداً ينظر إلى امرأة جميلة منهم فإذا سألت(7/11)
كلام ابن الجوزي عن افتراق أمة الإسلام
قال: أما أمة الإسلام أمة محمد عليه الصلاة والسلام فقد كانوا عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة واحدة، كما كان أتباع موسى على عقيدة واحدة ثم أتى بعد ذلك تفرق، وفي زمن عيسى على ذلك، ثم أتى بعد تفرق، فكذلك أمة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا على التوحيد الخالص حتى مات محمد عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا على عقيدة وطريقة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق، ثم نشأ الخلاف فيما بينهم في أمور جارية لا توجب كفراً ولا إيماناً.
وهذا كلام جميل فهو يقول: إن الفرقة لا تستحق أن تكون فرقة إلا إذا خالفت في أصل أو قاعدة بينة.
قال: والصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل اعتقادية كرؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج، وقد أتت نصوص تبين أنه لم يره، وهذه النصوص صحيحة وصريحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (نور أنى أراه)، كما في حديث أبي ذر، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية).
وجاء أيضاً عن ابن عباس وابن مسعود ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه، ولكن لم يثبت في رواية من رواياتهم أنه رأى ربه بعيني رأسه، ووقع التصريح في روايتهما أنه رآه بفؤاده، وهذا لا يمنع إطلاق الرؤية المعنوية كما في الرواية التي تنكر أنه رآه بعيني رأسه.
وإذا اعتبرنا صحة الخلاف في هذه القضية فإن هذا الخلاف خلاف فرعي.
قال: ثم نشأ الخلاف فيما بينهم في أمور اجتهادية لا توجب كفراً ولا إيماناً.
يعني: لا يبدع فيها المخالف.
فلا تقل: أنا قرأت المسألة بأدلتها واطلعت على أقوال العلماء فيها وترجح لدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فمن قال بأنه رأى ربه فهو مبتدع وفاسق وضال؛ لأن القاعدة تقول: إن البدع لا تكون إلا في مخالفة الأصول، والقاعدة الأخرى: ما وسع السلف من خلاف يسع من جاء بعدهم، ونحن لم نسمع أن ابن عباس وابن مسعود بدعا وضللا عائشة وأبو بكر، أو العكس، وهذا يدل على أن هذه المسألة ليست من مسائل الأصول، وإنما من مسائل الفروع، فلما لم يبدع أحدهما الآخر دل على أنها من مسائل الاجتهاد لا من مسائل الأصول المجمع عليها.
قال: وكان غرضه من ذلك إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم، وكان هذا الخلاف يتدرج ويترقى شيئاً فشيئاً إلى آخر أيام الصحابة.
ثم ظهر بعد ذلك معبد الجهني، وبئس المعبد هو.
وهو معبد بن عبد الله بن عكيم الجهني نزيل البصرة، وهو أول من تكلم في القدر في أواخر زمن الصحابة رضي الله عنهم.
قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر هو سوسن النصراني، ثم أخذ الكلام في القدر عن سوسن معبد الجهني، ثم عن معبد الجهم بن صفوان.
واعلم أن أصول البدع عندنا أخذت عن أهل الكتاب، وقد قال السلف: ما من بدعة ظهرت في الإسلام إلا ولها شبه في الأمم السابقة.
وقال الحسن البصري: إياكم ومعبد فإنه ضال مضل.
وقال الذهبي: كان من علماء الوقت على بدعته، هلك قبل التسعين.
ثم في نفس الوقت الذي ظهر فيه معبد الجهني ظهر غيلان بن أبي غيلان الدمشقي، وقد تكلم كذلك في القدر، وقتل بسبب كلامه في القدر، وهو ضال مسكين، وكان من بلغاء الكتاب.
وفي نفس التوقيت يونس الأسواري، وقد خالف هؤلاء الثلاثة في القدر وإسناد جميع الأشياء إلى تقدير الله تعالى، ولم يزل هذا الخلاف يتشعب والآراء تتفرق حتى تفرق أهل الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما روي عنه عليه الصلاة والسلام.(7/12)
أصول الفرق عند ابن الجوزي
قال: إذا عرفت هذا فاعلم أن كبار الفرق الإسلامية على ما ذكر في الكتب الكلامية ثمانية.
فـ ابن الجوزي يقول: إن الفرق أصولها ثمانية، وتجد عند أبي الحسن الأشعري من المتكلمين أن أصولهم خمسة عشر، وعند غيره ثمانية عشر، وعند غيره أربعة أصول كما ذكرنا بعض هذا، وهذا أمر يرجع إلى اجتهاد كل عالم بما وصل إليه التفرق والاختلاف في زمنه، فالأوائل على أن أصول البدع أربعة أصول، ومن أتى بعدهم لما ظهرت بدع أخرى عدوها خمسة، ثم سبعة، ثم عشرة، ثم اثنا عشر، ثم خمسة عشر، ثم أكثر من ذلك.
وليست العبرة في تحديد العدد وأي هذه الأعداد أصح، فكلها صحيحة، وإنما كان بعضهم يعد ما تشعب من فرقة فرعاً، والبعض يعدها أصلاً، فمثلاً: القدرية تشعبت من الجهمية أو العكس، فبعضهم يعد القدرية نوعاً من الجهمية، والبعض يقول: لا، بل هم فرقة مستقلة، ولذلك اختلف العدد.
وتعداد هذه الفرق بأصولها وفروعها لم يكن محل خلاف بين أهل العلم، سواء منهم من عدها أصلاً أو فرعاً.
وابن الجوزي عليه رحمة الله ذكر أن أصول الفرق ثمانية، مع أنه ذكر هذا إجمالاً، وفي حين التعداد لم يذكر إلا سبع، والفرقة الثامنة وهي الناجية هم أهل السنة والجماعة.(7/13)
من فرق الضلال الشيعة
أول فرقة من فرق الضلال عند ابن الجوزي -عليه رحمة الله- هم الشيعة.
وقال في تعريفهم: وهم الذين شايعوا علياً -أي: بايعوه وناصروه، وشرفوه كتشريف النصارى لعيسى عليه السلام- وقالوا: إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنص جلي أو خفي، وأن النص ثابت في تعيين علي بعد النبي عليه الصلاة والسلام، إما ثبوتاً جلياً أو ثبوتاً خفياً.
يعني: بالإشارة والإيماء، ويقولون: إن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علي من بعده، ومن خالف هذا النص وصده عن الإمامة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام فقد ظلم وسلب علي بن أبي طالب حقه المنصوص عليه إما جلياً أو خفياً.
واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده، وإن خرجت فإما بظلم يكون من غيره أو تقية منه، أي: إما بظلم ظاهر ممن سلب منه الإمامة، أو أن علي بن أبي طالب أذن له بالإمامة من باب التقية لا من باب إيمان علي أن هذا حق أبي بكر، أو أن هذا حق عمر، أو حق عثمان؛ لأن أهل السنة يسألون الشيعة: ما معنى أن علي بن أبي طالب بايع أبا بكر وعمر وعثمان؟ فقالوا: إن علياً يعتقد أن له الحق في الإمامة، ولكنه بايع من باب إثبات التقية، يعني: بايعهم تقية وخوفاً منهم؛ لأن الدولة دولتهم والسلطان سلطانهم، وبهذا يكون قد فرط في ابنته عند أن زوجها عمر بن الخطاب، وقولهم: تقية معناه: أنه ليس مقتنعاً بـ عمر، بل إنه كان ينظر إلى عمر على أنه إنسان ظالم ومفتر وسالب لحقه، ومعاند لله ورسوله، وأن النص كان جلياً في نظر عمر، ومع هذا استحل عمر مخالفة النص بإثبات الإمارة له، ومع هذا زوجه علي بن أبي طالب بابنته من باب التقية، هكذا يقول الشيعة عليهم من الله ما يستحقون.
قال: ومن أولادهم اثنان وعشرون فرقة، يعني: من أولاد علي اثنان وعشرون شخصاً افترقوا على اثنين وعشرين فرقة، يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، ولكن أصول الشيعة ثلاث فرق: غلاة وزيدية وإمامية، ولا يوجد في الشيعة فرق إلا وتدخل تحت هذه الأصول، وهم عندهم أكثر من اثنين وعشرين فرقة، ولكنها إما أن تكون من الغلاة أو زيدية أو إمامية، ولا يوجد غير ذلك؛ لأن هذه أصول التفرق والاتباع عند الشيعة.
فأما الغلاة فثمانية عشر فرقة، أولهم السبئية؛ وسموا بذلك لأن منشئ هذه الفرقة هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام نفاقاً وعاداه باطناً، وهو الذي زعم أن علياً إله من دون الله عز وجل، وهو الذي قال لـ علي: أنت الإله حقاً.
فنفاه علي إلى المدائن -والمدائن هذه في بلاد فارس- وهو أول من أظهر القول بوجوب إمامة علي، وقال: إنه لم يمت، وإنما قتل ابن ملجم شيطاناً تصور في صورة علي -وهذا نفس كلام النصارى- وأنه في السحاب.
أي: أن علياً في السحاب الآن.
قال: والرعد صوته والبرق سوطه، وبعد هذا ينزل إلى الأرض ويملأها عدلاً بعد أن ملئت جوراً.
ومن هذه الفرقة تشعبت أصناف الغلاة، وهم يقولون عند سماع الرعد: عليك السلام يا أمير المؤمنين! والذي يسافر إلى العراق يسمع هذا، فما أن ترعد السماء ويكون الجو بارداً والمطر ينزل يقولون: عليك السلام يا أمير المؤمنين! ويقولون: هذا صوت علي بن أبي طالب، يعني: هذا الرعد الذي تسمعه هو صوت علي بن أبي طالب في السماء.
وهذه المخالفات التي ذكرناها عند السبئية مخالفات في الأصول، ولو لم يكن فيها إلا اعتقادهم أن علياً إله من دون الله لكفاهم ذلك، فاستحقوا بذلك أن يكونوا فرقة.(7/14)
من فرق الضلال الكاهلية
الثانية: الكاملية، وهم أصحاب أبي كامل، وهو الذي قال: كفر الصحابة بترك بيعة علي، وكفر علي بترك طلب الحق.
فلم يترك أحداً! فالصحابة كفروا لأنهم صدوا علياً عن حقه، وكفر علي مع أنه مظلوم لأنه وقف موقفاً سلبياً، ولم يطالب بحقه، فهم كفار، وهو أكفر منهم في نظر أبي كامل، وقال: بالتناسخ في الأرواح عند الموت، وقال: إن الإمامة نور ينتقل من شخص إلى آخر، وقد يكون في شخص النبوة بعدما كان من شخص آخر إلى آخره، يعني: أنه يمكن للإمام أن يترقى في هذا النور ويزداد في قلبه وفي بدنه حتى يصير نبياً.
وإذا انتقل من شخص عادل إمام إلى نبي فمن الطبيعي أنه سينتقل إلى إله.(7/15)
من فرق الضلال البيانية
ومنها البيانية: وهم أصحاب بيان بن سمعان، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى على صورة إنسان، ويهلك كله إلا وجهه، وروح الله تعالى حلت في أبي علي، ثم في ابنه أبي هاشم، ثم في بيان صاحب الفرقة، يعني: يريد أن يقول: أنه إله.(7/16)
من فرق الضلال المغيرية
ومنها المغيرية: وهم أصحاب المغيرة بن سعيد، وهو الذي قال: إن الله تعالى جسم على صورة إنسان، بل هو رجل من نور على رأسه تاج النور، وقلبه منبع الحكمة، فإنه لما أراد أن يخلق الخلق تكلم بالاسم الأعظم، فطار فوقع تاجاً على رأسه، وذلك تفسير قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:1 - 2]، ثم كتب على كفه -أي: هذا الجسم وهو الإله- أعمال العباد، فغضب من المعاصي فعرق، يعني: لما رأى المعاصي على كفه عرق من شدة الغضب، فحصل من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والآخر حلو نير، ثم اطلع في البحر النير فأبصر فيه ظله، فأنزع بعضاً من ظله فخلق منه الشمس والقمر، وأفنى الباقي من الظل نفياً للشريك، وقال: لا ينبغي أن يكون معه إله آخر، ثم خلق الخلق من البحرين الكفار من المظلم وأهل الإسلام من النير، ثم أرسل محمداً والناس في ضلال، وعرض الأمانة -وهذه الأمانة هي منع علي من الإمامة- على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، وهو أبو بكر حملها بأمر عمر حين ضمن له أن يعينه على ذلك، بشرط أن يجعل الخلافة من بعده له، يعني: أن عمر قال له: أنا مستعد يا أبا بكر! لإعانتك عليها، وهو قوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فـ أبو بكر بعد أن أشفقت الجبال والسماوات والأرض من حمل الأمانة -وهي إثبات إمامة علي - حملها بعد إذن عمر وضمانه له أنه سيعينه على هذه المهمة الصعبة، بشرط أنه عندما يكون إماماً يكتب له وصية بأن يخلفه في هذه الأمانة والمهمة.
وقال في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ} [الحشر:16] نزلت في أبي بكر، وهؤلاء يقولون: الإمام المنتظر هو زكريا بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو حي مقيم في جبل حاجز إلى أن يؤمر بالخروج.
وهذا الخلاف الذي فات هو خلاف في الأصول.(7/17)
من فرق الضلال الجناحية
ومنها الجناحية: وهم أصحاب عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، وهؤلاء يقولون: الأرواح تتناسخ، فكان روح الله في آدم.
والقول بتناسخ الأرواح في ذاته كفر، وهو يعني: أن الله تبارك وتعالى تحل روحه في الآدمي، وهذا هو دين الصوفية، كـ ابن عربي وابن سبعين والفارابي وغيرهم، فهم يقولون: بتناسخ الأرواح، أي: أن روح الإله تحل في المخلوق حتى يكون الخالق والمخلوق سواء، وهذا الذي يسمونه بالحلول والاتحاد.
قال: فكان روح الله في آدم، ثم في شيث، ثم في الأنبياء، ثم في الأئمة، حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة، ثم إلى عبد الله هذا، وهو حي مقيم بجبل بأصفهان، وسيخرج، وهؤلاء أنكروا القيامة.
وخلافهم هذا في الأصول.
وقد استحلوا المحرمات من الخمر والميتة والزنا وغيرها من المحارم، وكان الواحد منهم يقع على أمه وأخته وعمته وخالته، لا من باب أنه يعتقد أن ذلك حرام وما يفعله معصية، وإنما من باب أنهن حلال، فجعلوا الحرام حلالاً والحلال حراماً.
وهذه أصول.(7/18)
من فرق الضلال المنصورية
ومنها المنصورية: وهم أصحاب أبي منصور العجلي، وقد انتسب إلى أبي جعفر محمد الباقر، فلما تبرأ منه وطرده ادعى الإمامة لنفسه، وهؤلاء -أي: المنصورية- يقولون: إن الإمامة صارت لـ محمد بن علي بن الحسين، ثم انتقلت منه إلى أبي منصور.
واعلم أن كل واحد من أصحاب هذه الفرق أو مؤسسوها ساروا على هذه الطريقة، فكان الواحد منهم يدعي أن روح الله تعالى انتقلت إليه بعدما انتقلت إلى آدم، ثم شيث، ثم الأنبياء، ثم الأئمة، ثم إليه.
وهذا الكلام موجود في أئمة الصوفية، فتجد الواحد منهم جالساً مثل العجل، لا صلاة ولا صوم ولا حتى اغتسال من الجنابة، ويدعي أن روح الله حلت فيه.
ونحن نعلم أن السيد البدوي سمي السطوحي لأنه مكث على سطح بيته أربعين يوماً لا يغتسل ولا يتوضأ، ولا يصلي ولا يغتسل من الجنابة، فقيل لـ عبد العال الذي هو الذراع اليمين للسيد البدوي: فكيف كان يقضي حاجته؟ قال: كان يقضي حاجته بكيت وكيت، وإذا احتاج لحك ظهره حكه بمزراة يدخلها من ياقته، وهذه المزراة معروفة عند الفلاحين، ولها خمس أصابع، يقلبون بها الرز والقمح وغير ذلك وقت درسه، وذلك مما على ظهره من نتن ووسخ، ومع هذا النتن كان يزعم أن روح الإله قد حلت فيه، وأنه يعلم الغيب، وأنه الوتد الوحيد، والصوفية يقولون: العالم محفوظ في كل زمان بأربعة أوتاد، ولما علم السيد البدوي بهذا الأمر قال: لا، أنا الوتد الوحيد في زماني، وليس هناك أوتاد أخرى، ومعنى وتد: أي: أنه يحفظ الكون، فأين الحافظ سبحانه وتعالى؟ وما كانت يا ترى مهمته في زمن السيد البدوي؟ وزعمت المنصورية أن منصور هذا عرج إلى السماء، مثل النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الله على رأسه بيده، وعلى ذلك فهو أحسن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا لم يثبت للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني: أبا منصور العجلي عرج إلى السماء مثل النبي عليه الصلاة والسلام، فعلى ذلك وازى أبو منصور وضاهى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم زاد على نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الله تعالى مسح على رأسه بيده، وكذلك كلمه الله وقال له: يا بني! اذهب فبلغ عني، ولا ندرى هل كان أبو منصور هذا الابن البكر أم الوسط أم الأصغر، والله تعالى لم يلد ولم يولد، فكيف يقول الرب تبارك وتعالى لأحد خلقه: يا بني! اذهب فبلغ عني؟ وسورة الإخلاص ماذا نعمل بها؟ وآيات التوحيد ماذا نعمل بها؟ قال: ثم أنزله إلى الأرض -فمن المعراج نزل على رقبته إلى الأرض- وهو الكسف المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44].
ويقولون: الرسالة لا تنقطع أبداً، يعني: إذا هلك محمد أتى بعده رسول، ثم إذا هلك أتى بعده رسول، حتى يكون الرسول هو أبو منصور العجلي.
ويقولون: والجنة رجل أمرنا أن نواليه ولا نعاديه، وهو الإمام أبو منصور، والنار رجل أمرنا بمعاداته وهو ضد الإمام وخصمه كـ أبي بكر وعمر، وكذا الفرائض والمحرمات، فإن الفرائض أسماء رجال أمرنا بموالاتهم، والمحرمات أسماء رجال أمرنا بمعاداتهم.
ومقصودهم بذلك: أن من ظفر برجل منهم فقد ارتفع عنه التكليف والخطاب؛ لوصوله إلى الجنة.(7/19)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - التزام السنة ونبذ البدعة
المؤمن يلتزم بما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ويترك ما خالفهما وينبذه وراء ظهره، والمبتدع يتبع الأهواء والآراء الضالة المضلة المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه وما أجمع عليه الصحابة وسلف هذه الأمة.(8/1)
الأمر باتباع الكتاب والسنة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فمازال الكلام موصولاً عن التزام السنة ونبذ البدعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن الكوفي رحمه الله ورضي عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم].
وفي الدرس الماضي قلنا: كاد أن يكون كلام الصحابة وحياً نزل من السماء؛ لأنهم عاينوا الوحي كتاباً وسنة، فألفوا كلام الله عز وجل، وألفوا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فكان كلامهم يشبه كلام الله وكلام النبي عليه الصلاة والسلام.
فلم يتكلم صاحب من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام بقول إلا وله شاهد من كتاب الله أو من سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أما قوله رضي الله عنه: (اتبعوا).
أي: اتبعوا الكتاب والسنة.
(ولا تبتدعوا) في دين الله عز وجل (فقد كفيتم) أي: فقد كفاكم الله تعالى في كتابه، وكفاكم رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته أن تبتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، وتجد مصداق ذلك في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فهذا التمام والكمال في شريعة الرحمن تبارك وتعالى إنما تحذر كل الحذر ممن سولت له نفسه أن يشرع للناس من عند نفسه ثم يستحسن ذلك ويأمر الناس باتباع ما ابتدعه.
وفي رواية بزيادة: (وكل بدعة ضلالة).
أي: كل بدعة في الدين ضلالة، وصاحبها ظالم.
قال: [قال ابن مسعود: إنها ستكون أمور مشتبهات -أي: ستظهر فيكم ولكم أمور مشتبهات- فعليكم بالتؤدة].
أي: عليكم أن تسيروا معها سيراً حثيثاً بالتؤدة والاطمئنان وعرض هذه الأمور المستحدثة والمشتبهة على فهم السلف لكلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: [فإنك أن تكون تابعاً -يعني: فلأن تكون تابعاً- في الخير خيراً من أن تكون رأساً في الشر].
يعني: إياكم والمحدثات، سواء كانت هذه المحدثات في الاعتقاد أو في العبادات أو في الأخلاق أو في السلوك، ولم يأت لها دليل في كتاب الله ولا في سنة الرسول ولا في فعل أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، لم يكن فيها شاهد ولا نص.
قال: فاحذر من اتباع هذه البدعة فإنها محدثة، وكل محدثة في الدين بدعة وضلالة.
وقال أيضاً: [إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة أو أمراً مبتدعاً في الدين تنكرونه، فعليكم بالهدي الأول].
كما في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة: (سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون).
لأن الحق له صور وعلامات كعلامات القرين، فالأمراء أحياناً يأتون بالمعروف وأحياناً يأتون بما ينكر عليهم.
قال: (فمن كره فقد برئ)، أي: من كره بقلبه فقد برئ بيده من الإثم.
(ومن أنكر فقد سلم).
أي: ومن تعرض لهذا المنكر بالإنكار والتغيير فقد سلم، ولكن الحرج كل الحرج والإثم كل الإثم على من رضي بهذا المنكر وتابع الأمراء عليه.
قال: [إنكم أصبحتم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم].
يعني: ربما تأتي البدعة منكم أو تأتيكم من غيركم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول.
أي: فعليكم بكتاب الله وسنة رسوله وهدي الصحابة رضي الله عنهم.
فكل هذه النصوص إنما تحث المسلم أن يتمسك بما كان عليه سلف الأمة، وبما كان عليه أهل القرون الخيرية الأولى؛ لأنهم أدرى بكتاب الله وهم كذلك أعلم بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا ظهر في دين الله عز وجل غير ما تعرفون من كتاب الله وسنة رسوله وفهم الصحابة والسلف الصالح على جهة الخصوص من هذه النصوص فعليكم أن تتمسكوا بالهدي الأول أي: بالأمر العتيق.
قال: [قال ابن مسعود كذلك: ما كان أهل الكتاب إلا كان أول ما يدعون السنة، وآخر ما يدعون الصلاة.
وقال: يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا -يعني: مفصل أنملة- أو يقول: يأتي من بعدكم أقوام يدعون من السنة -أي: من العقيدة- مثل هذه.
وأشار إلى بعض الأنملة.
كأنها تلك القطعة من اللحم التي تحت الظفر، وهو شيء يسير جداً.
يقول: فإن تركتموهم وما أحدثوا لكم في الدين جاءوا بالطامة الكبرى، وإن لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول ما يتركون السنة وآخر ما يتركون الصلاة، ولولا أنهم أهل كتاب لتركوا الصلاة].
الذي يلزمنا وهو أوضح في المراد: أننا لو تركنا أهل الباطل بباطلهم وأهل الفساد بفسادهم لعم العقاب، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أ(8/2)
قبض العلم
قال: [عن أبي قلابة أن ابن مسعود قال: عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يقبض، أو متى يفتقر إليه].
فقوله: عليكم بالعلم يعني: تعلموا فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه؛ ولذلك تجد في بعض التراجم مصطلحاً عجيباً جداً، وهو قولهم: صدوق يهم، اضطر الناس إليه أخيراً.
يعني: هو لم يكن أهلاً للرواية عنه، ولكن عنده من العلم والرواية ما ليس عند غيره، فاضطر الناس إلى حمل العلم عنه في آخر أيامه؛ لأنه لم يبق أحد عنده من العلم ما عند هذا الرجل، فاضطروا إليه، وهذا معه هدي السلف، حتى وإن كان من أفسق الناس يحملون عنه، ويا حبذا لو حمل عنه أهل الفهم والذكاء والعقل الراجح الذين يميزون بين الحق والباطل، لا عامة الناس الذين يفتنون بباطل هؤلاء؛ ولذلك تجد في بعض التراجم أن كثيراً من علماء السلف إنما حملوا علماً معيناً عن أصحاب البدعة، بل وعن أصحاب المعاصي، حتى ورد عن أحدهم أنه كان تاركاً للصلاة، فقال طلابه: نختبر ذلك فيه، إذا نام لطخنا مؤخرة قدمه بالمداد فنظرنا هل يذهب هذا المداد بماء الوضوء أم لا؟ فظل المداد في قدمه أسبوعاً كاملاً.
هل هناك أحد يصلي ويخفى على أحد، فالإنسان الذي يصلي لا يخفى على عامة الناس من جيرانه وإخوانه وطلابه أنه يصلي.
فتصور أن يكون شيخاً محل اختبار الطلاب، هل هو يصلي أو لا يصلي؟ ومع هذا كانت الرحلة إليه في زمانه، لأجل علم أصول الفقه ما لا يحمله أحد على وجه الأرض، فذهب الناس إليه العالم وغير العالم لحمل العلم عنه، ولم ينظروا إلى معصيته في هذه الحالة.
أما أهل البدع فكم تقرأ في كتب الرجال، بل وفي رواة الصحيحين: فلان قدري، فلان معتزلي، فلان شيعي، فلان خارجي، فلان محترق بالتشيع، وغير هذه الكلمات، وتجدهم من رواة الصحيحين.
أما قول ابن مسعود هنا: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله، فإن أحدكم لا يدري متى يطلب أو متى يفتقر إليه.
يعني: فإن أحدكم لا يدري متى يحتاج الناس إليه.
عندما تنزل قرية وهذه القرية في شوارع القاهرة، الناس يرونك ملتحياً واللحية طويلة، وشكلك شيخ، وأنت لا تعرف شيئاً بالمرة، فيجيء إليك شخص ويقول لك: يا شيخ! أنا طلقت امرأتي، أو قلت لامرأتي كذا، وقلت لأبي وقلت لأمي، ولشريكي في العمل.
فأنت واحد من اثنين: إما أن تكون موفقاً وتقول: لا أدري، وإما أن يحملك الحياء المزور الباطل أن تقول في دين الله ما لم ينزل الله به سلطان، وهذا الذي يحصل.
فموقف مثل هذا يستحثك على طلب العلم، لو الناس احتاجوا إليك وأنت مؤتمن على دينك، فإذا كان الأمر كذلك فلا أقل من أن تعض بالنواجذ على كل لحظة وثانية تمر من وقتك، فإنه كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
وكان السلف رضي الله عنهم من أحرص الناس على الانتفاع بأوقاتهم، وعدم التفريط في لحظة واحدة، ولهم في ذلك حكايات وروايات تطول ولا داعي للبدء في هذا الأمر.
قال: [كان عروة بن الزبير يأتي بأبنائه وأبناء أخيه عبد الله بن الزبير ويقول: يا بني! تعلموا العلم فإنكم صغار قوم اليوم، وربما تكونوا كبار قوم غداً.
وما سئل أحد مسألة فأصيب بخيبة من عالم يسأل في مسألة لا جواب عنده فيها].
فيحثهم على طلب العلم.
قال: [قال عمر رضي الله عنه: تعلموا قبل أن تسودوا].
يعني: تعلموا قبل أن تصيروا سادة كبار عظماء في نظر الناس.
قال: [قال مالك: لا أحب أن يتولى الرجل القضاء إلا أن يتعلم.
قيل: ولم؟ قال: لأنه إن عزل من القضاء أنف أن يرجع في طلب العلم].
يعني: أنف أن يكون طالباً بعد أن كان قاضياً.
فهذه بعض النصوص في معنى قول ابن مسعود: فإن أحدكم لا يدري متى يقبض أو متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق.
ويقول: وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نبذوه وراء ظهورهم.
يعني: لا علاقة لهم البتة بكتاب الله عز وجل ولا بسنة رسوله، وإن كانوا في ظاهر أمرهم يدعونكم إلى كتاب الله، مثل جماعة التكفير والهجرة، الظاهر أنهم يدعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء قد نبذوا القرآن والسنة وراء ظهورهم، ولا توجد علاقة مهما دقت وجلت تربطهم بكتاب الله ولا بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنهم خوارج هذا العصر حقاً، وهم أبناء الخوارج السابقين الذين ظهر سيدهم وأبوهم الفكري في زمن النبي عليه الصلاة والسلام.
حدثني رجل وقال: لقد ذهبت لشراء بعض قطع الذهب لبناتي من شارع فيصل، وأنتم تعرفون أن التكفير والهجرة مقرها في شارع فيصل، فمستنقع التكفير والهجرة فيه، وهم يتمركزون هناك وينادون على بعضهم البعض من أقطار المحافظات للسكنى في هذا المكان، ولا أدري ما علة ذلك! ربما تكون في المستقبل دولة مستقلة مثلاً! أو ينوون(8/3)
من آوى محدثاً في الدين
قال: [عن أبي العالية في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال: أخلصوا دينهم وعملهم ودعوتهم لله عز وجل].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
فقوله: (من أحدث حدثاً).
أي: ابتدع في دين الله عز وجل بدعة أو واقع جرماً استحق عليه الحد أو التعزير أو طلبه السلطان ليعاقبه، ثم خبأه آحاد الناس، فالذي خبأه والذي فعل الفعل وأحدث الحدث في الإثم سواء.
(قيل: يا رسول الله! وما الحدث؟ قال: بدعة تغير سنة) يعني: بدعة تضيع سنة وتفوت ظهورها.
قال: (أو مثلة تغير قوداً، أو نهبة تغير حقاً) والقود هو القصاص، فذكر مظالم الدماء، ومظالم الأموال وقس على هذه النهبة غيرها بما يماثلها من جرائم الأموال والأعراض والجنايات على الأملاك وغيرها، فمن أحدث حدثاً في دين الله بالابتداع أو بالقتل أو نهب الأموال أو غير ذلك ثم خبأه أحد الناس، وكم تسمعون من هذه المواقف، قد يأتي إليك شخص ويقول لك: أنقذني وخبئني عندك، إنني عملت عملاً وخائف منهم أن يأتوا فيقتلونني، وهذا كان موجوداً في الصعيد غالباً، وربما يكون شيء من ذلك في المدن البحرية، لكنه مشهور غالباً في الصعيد.
فيحرم على أحد أن يحدث في دين الله شيئاً، أو يعتدي على أموال الناس وأعراضهم وأبدانهم، كما يحرم على الغير أن يؤويه إذا كان يعلم ذلك أنه يحرم عليه، وإلا فكلاهما يتعرض للعنة الله عز وجل والملائكة والناس أجمعين.
قال: [عن عاصم الأحول قال: دخلنا على أبي العالية الرياحي فقال: تعلموا الإسلام ما هو.
قال: فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه -أي: فلا تبتعدوا عنه- وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم الإسلام، -أي: هو الإسلام- ولا تنحرفوا عن الصراط المستقيم -أي: عن الإسلام يميناً ولا شمالاً- وعليكم بسنة نبيكم، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء].
فالناظر في وصايا السلف يجد منهم الأمر العجب! في هذا الزمان لو أن شخصاً قال لأخيه: أوصني، ربما يعجز أن يوصيه بأي وصية، ولا يخطر على باله كلاماً يقوله له، وهذا حادث، لكن انظر إلى السلف، ما كان أحدهم يفوت موقفاً إلا وينصح إخوانه ويذكرهم بالله عز وجل وبدينه والتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام وترك الابتداع في الدين.
قال: [عن ابن عمر قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة]، لأن هذا هو شأن البدعة، ما من بدعة قط إلا والناظر إليها لأول وهلة من الجهال يستحسنها ويستجملها ويقول: نعم والله هذا أمر جميل.
وهذا شأن البدعة دائماً.
وهذا شأن الأحاديث الموضوعة المفتراة المكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام، تجد أن واحداًَ يتكلم بكلام لا يمكن أن يقبله العقل، أما من جهة النقل فكلام ليس له سند أبداً.
مثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام الذي يروى عنه: (إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج)، هذا الحديث لا أقول: إنه مكذوب، بل ليس حديثاً أصلاً.
صعد دكتور كبير في علم الشريعة الإسلامية منبراً من منابر الدعوة، ولا أجد حرجاً بأن أقول: منبر مسجد الاستقامة في مدائن الجيزة، وهو أستاذ جامعي كبير، وليس عيباً عليه أن يقول هذا الكلام السخيف، ولكن العجيب أن واحداً في المسجد لم ينكر عليه قط.
قال: إن رجلاً تزوج، وبعد بنائه حملت امرأته، فلما سمع بهذا الحمل وكان ذلك في المساء نادى منادي الجهاد، وقال: اللهم إني أستودع ما في بطن امرأتي عندك، وذهب، ثم رجع بعد عام، وكانت الأم قد ماتت، فقيل له -أي: فقال له أهل قريته-: منذ أن دفنا امرأتك وإننا نرى نوراً يخرج من القبر بالليل والنهار، فذهب هذا المجاهد وفتح القبر ووجد الأم عظاماً رميماً إلا ثديها، وقد التقمه الطفل، والطفل جالس في كفنه، وهذه المرأة قد ماتت قبل أن تلد، ولكنها ولدت في القبر.
هذا الكلام أقوله باشمئزاز شديد جداً، وهو يقصها للناس والناس تقول: الله الله، وضج المسجد مائة مرة في الخطبة، تصور أن خطبة تقوم على هذا السفه من أولها إلى آخرها! والله سبحانه يحيى العظام وهي رميم! فمن أجل أن يعبر الناس عن فرحتهم بمقدرة الله عز وجل يقفون على أرجلهم ويتحدثون بالخطبة، ألا يوجد في هذه الآلاف المؤلفة عاقل؟ {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]؟ رجل فقط يقوم ويقول: ما هذا؟ ويأخذه من قفاه فينزله، ويقول له: أنت لا تصلح لمثل هذا المكان.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً للعلم أو محباً له، ولا تكن الخامسة فتهلك.
قيل: وما الخامسة؟ قال: المبتدع.
ولذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما سمع هذا الكلام قال: سبحان الله! لقد جعل للعبد مسالك.
يعني: إما أن تكون عالماً أو متعلماً أو مستمعاً للعلم أو محباً له، فلا أقل من ذلك؛ لأنه شي(8/4)
جزاء من سن في الإسلام سنة سيئة
قال: [عن عبد الله بن أبي قتادة قال: من دعا إلى سنة فأجيب إليها أعطاه الله أجر من أجاب إليها، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة فأجابه إليها أحد حمله الله مثل أوزارهم ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، ثم تلا هذه الآية: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25]].
ألم أقل: إن السلف كاد أن يكون كلامهم وحياً؟ وهذا الكلام شبيه بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها).
فلو أتينا بهذا النص وقلت لك: استنبط منه كلاماً آخر يفيد المعنى، ربما نعجز إلا أن يكون أديباً لغوياً فصيحاً كهذا الراوي عبد الله بن أبي قتادة من كبار التابعين، أبوه هو أبو قتادة الأنصاري الصحابي المعروف الكبير، إنما نسج قولاً على منوال قوله عليه الصلاة والسلام.
ثم بين أنه استفاد ذلك من قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25].(8/5)
المراد بالكتاب والسنة والفرق بينهما
قال: [عن قتادة في قول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:48]-والضمير يعود على النبي عليه الصلاة والسلام- فقال: الكتاب كلام الله عز وجل، والحكمة هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام].
وفي قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:34]، وهذا الخطاب موجه لنساء النبي خاصة، ولنساء الأمة عامة: {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] آيات الله هي القرآن، والحكمة هي السنة.
وهذا بإجماع أهل السنة والجماعة.
قال: [عن حسان بن عطية رحمه الله قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله من السنة] يعني: ينزل عليه بالقرآن وينزل عليه بالسنة.
إذاً: السنة وحي من السماء، لكن الفرق بين الوحيين: أن الوحي الأول كتاب الله عز وجل، هو كلام الله تعالى، الذي روي إلينا بالتواتر من أوله إلى آخره، والسنة ليست كذلك، بل بعضها اليسير تحقق فيه شرط التواتر والبقية وهي الغالبية العظمى من الروايات إنما جاءت من طريق الآحاد.
والقرآن متعبد بتلاوته، والسنة ليست كذلك، القرآن كلام الله عز وجل بنصه وحرفه، والسنة كلام الله عز وجل بالمعنى وهي من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فأصل السنة وحي السماء، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عبر عنها بألفاظ من عند نفسه، وألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام ليست كألفاظ غيره من البشر؛ لأنه أبلغ ما خلق الله عز وجل، وأفصح خلق الله عز وجل وغير ذلك من الفروق بين الوحيين.
قال: [عن مجاهد في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] قال: سبيلاً وسنة].(8/6)
عاقبة البدعة
قال: [عن مجاهد وهو مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما قال: أفضل العبادة حسن الرأي].
يعني: أفضل العبادة: أن تعبد ربك على منهاج النبوة، لا تجتهد في عبادتك لله، إلا أن يأتيك الخبر عن الله عز وجل وعن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
أما غير ذلك فبدع كلها لا عبرة بها، بل ترد على العبد في وجهه، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة الذي أخرجه مسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
أي: من ابتدع في دين الله ما ليس منه فهو مردود عليه في وجهه غير مأجور فيه، بل هو مأزور عليه.
يعني: يناله الوزر ولا يؤجر على ذلك، فأفضل العبادة التزام السنة.
وعن ابن عباس قال: لا يأتي على الناس زمان إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة.
وهذا أمر لابد أن يتم تلقائياً، إذا ظهرت البدعة فلابد أن يكون في مقابل البدعة في دين الله سنة، فإذا ظهرت البدعة واستقرت وعمل بها الناس فالناس لا يعلمون بالسنة والبدعة، فهم يعملون بأحدهما؛ فإن عملوا بالسنة أماتوا البدعة، وإن عملوا بالبدعة أماتوا السنة، ولذلك جاء في رواية مرفوعة: (ما عمل الناس ببدعة إلا وقد أماتوا سنة).
والصواب أن هذا الكلام موقوف من كلام كثير من السلف رضي الله عنهم: لا يأتي على الناس زمان إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن.
قال: [عن عبد الله بن الديلمي قال: إن أول الدين تركاً السنة، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة.
يعني: اعتقاداً تنقضه شيئاً فشيئاً، عروة عروة، خصلة خصلة حتى تفقد الدين كله].
قال: [قال ابن الديلمي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ما ابتدعت بدعة إلا ازدادت مضياً ولا نزعت سنة إلا ازدادت هرباً].
قال: [عن حسان بن عطية قال: ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله من سنتهم مثلها، لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة، عقوبة لهم؛ وأعظمها للمبتدع أن الله احتجز التوبة عنه].
كما في حديث عند ابن ماجة وغيره: (إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).
حتى تعلموا أهمية الالتزام والاستمساك بالسنة وخطورة البدعة.
قال: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن ناساً يجادلونكم بمتشابه القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل].
وهذا هو المنهج لمخاطبة أهل البدعة، فأهل البدع لا يمكن أن يجادلوك في محكم القرآن؛ لأن القرآن فيه محكم ومتشابه، كما بين الله تعالى ذلك في صدر سورة آل عمران: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، لكن أهل الإيمان وبالذات أقوى أهل العلم.
فديدن أهل البدع باستمرار حول متشابه القرآن؛ ولذلك يقول واحد من المبتدعة من جماعة التكفير عند أن قيل له: كيف ذاك؟ قال له: أنت شيء من اثنين: أنت ممكن أم مستضعف؟ قال له: ممكن في أشياء وأشياء، ومستضعف في أشياء وأشياء أخرى.
قال له: أريد كلمة واحدة، أنت ممكن أو مستضعف؟ قال له: لو قلت أنك ممكن فإثم هذه المرأة المتبرجة في رقبتك.
فقال له: لابد أن يغير.
ولو قلت أنك مستضعف سقطت عنك الجمعة والجماعات.
فتحس أنك عند أناس عربجية؛ لا علم ولا طلاب علم ولا علماء ولا مجموعة من الناس وضعوا أصول من حثالة عقولهم فيا ليت حتى صارت من عقول المعتزلة فيضلل صاحبها، المعتزلة هم على ضلال، لكنهم أناس محترمون، عندهم شيء اسمه شبهة علم، ولهم أصول، لكن هؤلاء لا أصول ولا فروع، ولا حتى مسكة ولا رائحة من رائحة العلم، يريد أن يجعل الدين عبارة عن معادلة كيت أو كيت، مخير أو ليس بمخير أو شيء من هذا القبيل، وفي الأخير تجد شاباً يذهب إلى الهجرة والتكفير ولا ينفع معهم.
أقسم بالله لو تمكنت منهم ما ضربتهم إلا بجريد النخل ثم ثنيت بالضرب مرة أخرى.
لو كان النقاش يجدي مع كل أحد سنناقش كل منحرف، لكن ثبت أن عمر أتى برجل تكلم في القدر، فعلقه من رجليه في سقف المسجد وضربه بالنعال والجريد حتى سال دمه، وقال المضروب: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب الذي كان برأسي.
فهناك أناس لا يذهب ما في رأسه من الشبه إلا بذلك.
أحياناً امرأتك إذا ضربتها تخضع لك، فإنك إذا نظرت إليها بعينيك تخاف، لو نظرت إليها تعرف أأنت غضبان، أم مرتاح وفرحان، فهي لا تسمع الكلام إلا بالتقريع والتوبيخ.
لو أنك نمت في فراشها وأدرت لها ظهرك قتلتها، وأخرى تقول: الحمد لله أنها جاءت منه! فهن درجات، وأخرى لا ينفع معها إلا الضرب، والله العظيم أنني أعرف أخاً صديقاً له امرأة ودائماً في شجار معها، وعندما تتشاجر معه ويحمى الوطيس تذهب إلى المطبخ وتأتي بالسكين وتعطيه من أجل يضربها، وهذا بلاء عظيم جداً.
فكذلك أصحاب الأف(8/7)
منهج وفكر جماعة التكفير
جماعة التكفير ما جلسوا يوماً واحداً لطلب العلم، وشيخهم إنسان لا علاقة له بالعلم البتة؛ واسمه شكري مصطفى، بل إنه لا يعرف عنه أي اتصال بالعلم، والذي كان يعرف عنه: الهجوم والتكفير لعلماء الأمة، سلفاً وخلفاً، حتى كفر النبي صلى الله عليه وسلم.
أقسم بالله العظيم! أن هذا حدث منه، والذي ينقل ذلك عديل شكري مصطفى وهو ثقة، وكان معه في جماعته، وهو يحبه إلى الآن.
وقد سمعته أنا بأذني رأسي، وإذا أردتم أن تعرفوا اسم هذا فهو الشيخ محمود شاكر، والذي يريد أن يسأله يذهب فيسأله.
حدثني مشافهة في حضرة أخي وشقيقي سمير الزهيري وفي حضرة الدكتور أحمد حطيبة، علم من أعلام الدعوة في الإسكندرية، وفي حضرة غير واحد، حتى قال محمود شاكر لـ شكري في السجن لما نودي عليه ليشنق، وكان محمود قد بدرت منه بادرة التوبة، فقال شكري لـ محمود: يا محمود! أنا سأعيش ثلاث سنوات وسأربيك؛ لأنه بدرت منه بادرة توبة، تكلم بكلام يهز المنهج، فلما جيء إلى حبل المشنقة قالوا له: ما تقول في النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: كافر، قيل: وما كفره؟ قال: الله تعالى هو الذي كفره ولست أنا فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1]! قال: فهذا محمد إرضاء لزوجاته حرم ما أحل الله، والمعلوم يقيناً عند المسلمين أن من حرم حلالاً أو أحل حراماً متعمداً فهو كافر.
أيمكن أن يكون هذا من بني آدم يقال أنه طالب؟! ولذلك أنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن شكري مصطفى مات على الكفر البواح، والذي لا يكفر شكري لابد أن يراجع إيمانه مرة أخرى مع الله.(8/8)
منهج السلف في الأخذ بالسنة وترك البدعة
قال: [قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمالاً لفرائض الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله تعالى ما تولى].
قال: [قال أبو الدرداء: لن تضل ما أخذت بالأثر].
يعني: كلما أخذت بالأثر فأنت بعيد كل البعد عن الضلال.
قال: [يقول أبو الأسود: إن استطعت ألا تحك قفاك -وفي رواية: جلدك- إلا بأثر فافعل].
يريد أن يخبرك بأن حركاتك وسكناتك كلها لابد أن تكون منضبطة على كتاب الله وعلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يشهد له قوله عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً: كتاب الله وسنتي).
قال: [قال ابن عباس: من أقر باسم من هذه الأسماء المحدثة -أي: المبتدعة- فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه].
قال: [قال معاوية لـ ابن عباس: أأنت على ملة علي؟ قال ابن عباس: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة محمد عليه الصلاة والسلام.
أرأيتم إلى هذا الكلام الجميل.
يعني: معاوية يريد أن يقول له: أنت معي أم مع علي؟ فقال له: أنت على ملة علي؟ فرد عليه فقال: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة محمد عليه الصلاة والسلام].
قال: [قال رجل لـ ابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم -يريد أن يلبس على ابن عباس - فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة، إنما هو الأثر].
قال: [قال مالك بن أنس: قيل لرجل عند الموت: على أي دين تموت؟ فقال: أموت على دين أبي عمارة، وعلى ملة أبي عمارة -كأنه رجل كان مبتدعاً، وكان من أهل الأهواء- قال مالك: يدع المشئوم دين أبي القاسم ويموت على دين أبي عمارة؟!].
قال: [عن ابن سيرين قال: الرجل ما كان مع الأثر فهو على الطريق].
يعني: مادمت متمسكاً بالأثر فاعلم أنك على الصراط المستقيم، فإذا حدت عن الأثر لقول فلان وعلان ومذهب فلان أو فلتان فاعلم أنك ضللت ضلالاً بعيداً.
قال: [عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها، فهي كذلك حتى أصابتها ريح شديدة فتحات ورقها -أي: فسقط ورقها- إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات تلك الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة].
يعني: إن كان اجتهاد واقتصاد فليكن على منهاج الأنبياء وسنتهم.
قال: [كان أبو الأحوص يقول لنفسه: يا سلام! نم على سنة خير من أن تقوم على بدعة].
يعني: كن متبعاً للسنة خير لك من أن تكون رأساً في الشر ورأساً في البدعة.
وعن شريح أنه كان يقول: إنما أقتفي الأثر -يعني: أبتدع الأثر- فما وجدت قد سبقني به -يعني: الصدر الأول- حدثتكم به.
فهذا شريح ما كان يتكلم بكلمة إلا ولابد أن يكون له فيها سلف، حتى إذا قيل له: من أين لك هذا؟ قال: قال به فلان، أو سمعته من فلان، أو حدثني به فلان.
وعن إبراهيم النخعي قال: لو أن أصحاب محمد مسحوا على ظفر لما غسلته التماساً الفضل في اتباعهم، وإبراهيم النخعي إمام الكوفة وكان مجتهد الزمان في زمانه.
يعني: الأمر قد ورد في القرآن والسنة بغسل اليد، ولو أن السلف مسحوا على أظفارهم لما تجاوزت المسح؛ لأنهم أفهم لكلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، بل مسحت كما مسحوا اتباعاً، أو يقول: التماساً للفضل في اتباع سلف الأمة، وهذا كلام جميل جداً.
قال: [يقول الشعبي: نزل المسح من السماء].
يعني: نزل المسح على النعلين والخفين والجوربين من السماء.
قال: [عن الشعبي قال: المسح على الخفين أفضل من الغسل؛ لأن المسح سنة والسنة أفضل].
وأنتم تعلمون أن مسألة المسح على الخفين من مسائل الأحكام، وقد وردت في كتب الاعتقاد؛ لأنها أنكرت عند بعض فرق الضلال، وهم الشيعة الرافضة، فلما كانت هذه علامة على دين الرافضة وأنهم ينكرون المسح على النعلين والخفين والجوربين قام أهل السنة بإظهار هذه السنة، فكانت من مسائل الأحكام العملية من جهة، ومن مسائل الاعتقاد من جهة أخرى.
ولذلك يخطئ من يظن أن الكتب المصنفة في العقيدة إنما تحوي مسائل الاعتقاد كلها، وإنما غالب هذه المسائل التي جاءت في كتب الاعتقاد ما اعتنى بها من صنف فيها إلا لمخالفة غير أهل السنة والجماعة لأهل السنة والجماعة في هذه المسائل.
وبعبارة أخرى: عندما تقرأ العقيدة ا(8/9)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - النهي عن مناظرة أهل البدع
لقد حذر الله تعالى في كتابه والنبي الكريم في سنته من مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع؛ لما في ذلك من إفساد دين المسلم، والناظر يجد أن كثيراً من الناس من طلبة العلم وغيرهم قد استهانوا بذلك، فتعرضوا لأهل البدع بالجدال والخصومة والمناقشة، فولجوا بمذاهبهم واقتنعوا بآرائهم.(9/1)
سياق ما روي في النهي عن مناظرة أهل البدع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فموضوع درسنا هو امتداد لدرسنا في كتاب أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي، وهو يتعلق بحكم المعاملة والتعامل مع أهل البدع، فهل يجوز لأهل السنة أن يختلطوا بأهل البدع؟ وما هي حدود هذا الاختلاط، سواءً كانوا علماء أو من دهماء الناس؟ إن هذا الموضوع في غاية الخطورة، مع أن كثيراً من الشباب وخاصة شباب الصحوة يستهينون بهذا الأمر، وما وقع كثير من الناس فيما وقعوا فيه من الشر إلا لأنهم تعرضوا لأهل البدع بالجدال والخصومة والمناقشة، واقتنعوا بمذهبهم وآرائهم، ولعلي أذكر أنه في عام (1975) لما ظهرت جماعة التكفير كنت آنذاك في الثانوية العامة، فلما عرضوا علي فكرهم، قلت: ما الذي يمنعني أن أجلس معهم، وأن أسمع منهم، فإن أعجبني وكان موافقاً لديني أخذته، وإن لم يعجبني رددته.
وهذا القول بلا شك فيه مجازفة فضلاً عن تزكية النفس، وفي تلك السنة أين أنا من ديني أولاً؟ هل تعلمته؟ وعن أي من أهل العلم أخذت ديني في ذلك الوقت؟ فلما جالستهم اقتنعت جداً بما طرحوه علي، لكني خشيت من النظام الإداري العام والإطار العام للجماعة، فقلت: دعوني حتى أنظر في رأيي، فلما تركوني ما فررت منهم إلا خوفاً منهم، أما الكلام الذي طرحوه علي فالكلام مقنع جداً، فإنهم قد حملوا نصوص الوعيد على ظاهرها كما حملها الخوارج تماماً.
وفي ذلك الوقت قالوا لي: كل عاصٍ لله تعالى كافر، أليس الأمر كذلك؟ قلت: بلى.
ووافقتهم على أن كل عاص كافر، فصاروا يعددون لي المعاصي وسائر الذنوب، وأنا أوافق على أن مرتكبها كافر.
كما قالوا لي: إن الذي يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغير الله وأسمائه وصفاته كافر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
فلو أنك قلت: إنه ليس بكافر، فلابد وأن تكفر، وإما أن تقول بظاهر الحديث؛ لأنك لو لم تقل بظاهره لكنت معطلاً للنصوص، فخشيت أن أكون معطلاً للنصوص، فوافقتهم على ذلك الفكر.
وما هي إلا أيام بفضل الله تبارك وتعالى وقيض الله لنا رجلاً من أهل العلم، فسألناه فهدانا إلى الطريق الحق، فتركناهم وتركونا.
ولكني أسأل نفسي: ما الذي حملني على خصومتهم وجدالهم؟ إنه الجهل، إنه الهوى، وعدم اتباع أهل العلم.
وهذا رجل منذ ستة أشهر يسكن في منزله في أمريكا قابلته ينادي بتجديد الشريعة والدين، فقالوا: إنها فرصة لتجلس معه.
فقلت: بل ليست فرصة، فإن أصحاب البدع متخصصون في بدعتهم، وأنا غير متخصص فيها، وصاحب البدعة لا ينظر ولا يبحث في دين الله إلا عما يؤيد بدعته، وأنت إذا لم تكن عالماً في أصل كلامه ومخرجه والرد عليه سرعان ما يهزمك.
فقلت: بل هي ليست بفرصة، وإنما الفرصة كل الفرصة أن تبتعدوا أنتم عني.
فهذه نصيحتي لكم أنقلها لكم عن أهل العلم فلان وفلان وفلان، واعتبروا أن الذي أقوله هو هزيمة نفسية مني، واقتربوا منه وحملوا عنه، ولما رأوا أن ذهابهم إليه في بيته أمر يشق عليهم جعلوه شريكاً لهم في سكنهم.
وفي الزيارة الثانية وجدت أن القوم أجمعين قد اقتنعوا بمذهبه، فلما رأيت الخطر عظيماً، والتقينا على مائدة إفطار في رمضان.
قال لي: ماذا تقول في التجديد؟ قلت: هي دعوى قال بها قاسم أمين وصاحبه.
قال: وما رأيك فيها؟ قلت: نحن لا ننظر برأينا، وإنما نحتاج إلى كلام قاله نبينا صلى الله عليه وسلم، فهل قال بالتجديد عليه الصلاة والسلام؟ فقال: وهل قال النبي عليه الصلاة والسلام بكيت وكيت وكيت؟ ثم أليس هذا الكلام كله قد حدث بعده؟ قلت: وعليه إجماع.
لأنه ذكر لي: وهل جمع القرآن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهل نص على خلافة فلان وفلان؟ قلت: قد أجمع عليها أهل العلم.
قال: بل خالفهم الشيعة.
قلت: الشيعة لا عبرة بخلافهم؛ لأنهم أهل البدع.
فقال: بل الشيعة أهل حق.
وانتبه إلى هذا، فقد نصب أهل البدعة وجعلهم أصحاب الحق.
قلت: إذا كان الشيعة أهل حق فماذا تقول في معاوية؟ فقال فيه قولاً عظيماً لا أجرؤ أن أنقله لكم.
قلت: أنت بهذا قد رفعت الشيعة، وسببت صحابياً من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شأن أهل البدع، إذ إنهم يقعون في الأخيار ويرفعون الأشرار، فلابد أن تعلم أن هذه سمة أهل البدع وأنت واقع فيها.
قال: أنت تتهمني بأني من أهل البدع؟ قلت: أنا لا أتهمك، ولكني أقرر أنك من أهل البدع.
ثم قلت له: فماذا يعني التجديد في نظرك؟ قال: النظر إلى النصوص بوجهة نظر عصرية.
قلت: اضرب لي مثلاً على ذلك، فقال: لابد أن يخرج فينا من يسب القرآن ويطعن فيه حتى يعظم القرآن في قلوب أهل السنة.
قلت: قد ظهر هذا عن بعض الناس، فوجد من يشكك في القرآن ويطعن فيه، مثل: قاسم أمين ونصر أبو زيد، هل تريد شيئاً آخر، وهل لا يعظم عندك الأمر إلا إذا طعن في القرآن؟ قال: نعم.
قلت: إن أهل السنة غير ذلك، فهم يعظمون ويبجلون أوامر الله تبارك وتعالى لأول وهلة، {(9/2)
النصوص النبوية في النهي عن مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم)]، أي: لا تسألوني عن شيء ما دمت أني قد تركته.
ثم قال: [(فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
والحديث أخرجه البخاري].
قوله: (فما نهيتكم عنه فاجتنبوه)؛ لأن كل نهي ورد في الشرع في مقدور جميع المكلفين، بخلاف الأمر فإنه مشروط بالاستطاعة.
فمثلاً: الحج مأمور به وهو مشروط بالاستطاعة، والقيام في الصلاة واجب وهو أمر، ومع هذا من لم يستطع أن يصلي قائماً صلى قاعداً حسب استطاعته.
وأما النهي فإن النبي عليه الصلاة والسلام أطلق فيه القول، وقال: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ ليدل على أن النهي داخل في مقدور كل إنسان، بخلاف الأمر فإنه مشروط بالاستطاعة كما ذكرنا.
قال: [عن أبي أمامة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)].
إذاً لابد عليك أن تعلم أن أحد العلامات التي يتميز بها أهل البدع وأهل الزيغ: أنهم يجادلون في دين الله عز وجل، فيأخذون النصوص ويضربون بعضها ببعض.
قوله: (إلا أوتوا الجدل) أي: رزقوا، ثم قرأ النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58].
قال: [عن قتادة في قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] قال: صاحب بدعة يدعو إلى بدعته].
فهو الذي يجادل في الله بغير علم أتاه.
قال: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال الآخرون: ألم يقل الله كذا وكذا)]، أي: أن هذا يأتي بنص من كتاب الله، والآخر يأتي بنص في ظاهره يناقض النص الأول.
[(فخرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن سمعهم وكأنما فقئ في وجهه حب الرمان -أي: من شدة الغضب- فقال: أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم أن تضربوا القرآن بعضه ببعض، إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتكم عنه فانتهوا عنه)].
أي: لا تضربوا كتاب الله تعالى بعضه ببعض؛ لأن هذا من شأن أهل البدع والزيغ والضلال.
قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله عز وجل أمركم.
ويكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)]، وهذا لم يكن نهج الصحابة ولا السلف.
قال: [عن عائشة قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] حتى بلغ: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم)].
والذين سماهم الله عز وجل هم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
وصفهم الله تبارك وتعالى في صدر الآية فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7].
إذاً: الذي يتبع متشابه القرآن ومتشابه السنة هو الذي في قلبه زيغ، وقد حذر الله تبارك وتعالى منه.
قال: [قال علي رضي الله عنه في خطبته: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً)].
أي: أن المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو أتى بقول جديد مخترع لا دليل عليه من كتاب أو سنة فعليه لعنة الله، أو أوى من أتى بهذه المحدثة وهذه البدعة أو هذا الجرم، أو أحدث حدثاً استوجب عليه حداً كالردة وغيرها، أو آوى من فعل ذلك؛ لأجل ألا يقام عليه الحد، فإن من فعل ذلك إنما استجلب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال: [عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)]، أي: فهو مردود عليه.
ولاشك أ(9/3)
أقوال السلف في النهي عن مجالسة ومناظرة أهل الأهواء والبدع
قال: [قال عبد الله بن مسعود: إياكم وما يحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم عز وجل، فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب.
قيل: يا أبا عبد الرحمن: فإلى أين؟ قال: إلى لا أين -يعني: يمكث في مكانه- يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحداً من أهل البدع].
وهذا هو الهروب الحقيقي أي: أن يهرب بقلبه ودينه؛ لأن كل مكان فيه بدع وشر، فليهرب بقلبه ودينه، والطريق إلى ذلك: ألا يجالس أهل البدع.
قال: [عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان فقدمهم إلى عبدة الأوثان].
وفي رواية: [إلى عبادة الأوثان].
أي: أن مآله في النهاية أن يعبد الأوثان كغيره.
قال: [قال الحسن البصري عن معاذ بن جبل: إنما أخشى عليكم ثلاثة من بعدي - معاذ ينصح الحسن البصري -: زلة عالم، وجدال منافق في القرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوه، ومن لم يكن غنياً من الدنيا فلا دين له.
قال عبد المؤمن: فسألت أبي ما يعني بهذا؟ قال: سألناه، فقال: من لم يكن له من الدنيا عمل صالح فلا دين له].
قال: [عن مجاهد قال: قيل لـ ابن عمر: إن نجدة الحروري - وهو على رأس أهل البدع - يقول كذا وكذا، فجعل لا يسمع منه؛ كراهية أن يقع في قلبه منه شيء].
وعبد الله بن عمر إمام، ومع هذا كره أن يسمع مقولة نجدة الحروري.
قال: [عن أبي أمامة الباهلي قال: ما كان شرك قط إلا كان بدوه تكذيب بالقدر -أي: أن أول خطوة من خطوات الشرك بالله: التكذيب بالقدر- ولا أشركت أمة قط إلا بدوه تكذيب بالقدر، وإنكم ستبلون بهم أيتها الأمة، فإن لقيتموهم فلا تمكنوهم من المسألة -يعني: إذا قابلوكم فلا تسمحوا لهم أبداً بأن يسألوكم، ولا تسألوهم أنتم عن شيء- ثم قال: فيدخلوا عليكم الشبهات.
وعن عمر قال: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا].
أي: إياكم وأصحاب البدع، فإنه قد أعيتهم وأنهكتهم الأحاديث أن يحفظوها، وأن يفهموها ويعملوا بها، فانحرفوا عنها إلى الرأي، فقالوا في دين الله بآرائهم؛ فضلوا وأضلوا.
قال: [عن عمر قال: سيأتي أناس سيجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله].
قال: [قال علي: سيأتي قوم يجادلونكم فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله].
وعمر، وابن مسعود، ومعاذ، وعلي بن أبي طالب أعلم كبار الصحابة يحذرون من الاختلاط بين أهل البدع، ومناظرتهم ومجادلتهم، فما بالكم تقحمون مجادلتهم ومناظرتهم؟! قال: [قال أبو واقد الليثي: (إن رسول الله عليه الصلاة والسلام حين أتى حنيناً مروا بشجرة يعلق المشركون عليها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط -رأيت من أين يدخل البلاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لقد قلتم كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)].
فالذي يقول: اجعل لنا شجرة كما لهم شجرة، لابد وأن يئول به الأمر في النهاية إلى أن يقول: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، مع أن الأمر بدأ بشجرة يعلقون عليها الأسلحة، فالصحابة رأوا الأمر سهلاً لا علاقة له بالشرك، لكن مجرد المشابهة في أقوالهم وأفعالهم الخاصة بهم يؤدي في النهاية إلى الشرك بالله عز وجل، فحذرهم من ذلك فقال: (الله أكبر).
أي: أن الأمر عظيم وخطره كبير؛ لأنكم ستقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) أي: هديهم.
وقوله: (حذو القذة بالقذة)، أي: الصغيرة بالصغيرة.
ثم قال: (حتى ولو دخلوا جحر ضب).
ومن الذي يدخل جحر ضب؟! إن هذا واقع، وقد رأينا بعض المسلمين يقلدون اليهود والنصارى في كل شيء، قال: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟).
أي: هؤلاء الذين قصدتهم بقولي أنكم ستتبعونهم، ولا يعني به الصحابة فقط، وإنما عنى الأمة بأسرها، والصحابة وقعوا في شيء من ذلك بجهل؛ لأنه لم يسبق لهم علم حتى نهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
قال: [عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخل(9/4)
أقوال السلف في ذم الخصومة والجدال في الدين
قال: [عن علي قال: إياكم والخصومة، فإنها تمحق الدين].
أي: تحلقه.
فتجد الواحد كل حياته خصومة وجدال ومراء! قال: [عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم بما أهلك من كان قبلهم].
أي: السبب الذي به هلك من كان قبلهم، وهو بالمراء والخصومات.
وعن ابن الحنفية قال: لا تنقضي الدنيا -أي: لا تقوم الساعة- حتى تكون خصومات الناس في ربهم.
أي: حتى تكون الخصومة ليس في المسائل الفقهية، بل في الذات العلية.
وهذا علامة من علامات الساعة، إذ إن الدنيا لا تنقضي حتى يختلف الناس في ربهم وفي ذاته وفي أسمائه وصفاته، وقد وقع الخلاف، والفرق كلها على خلاف في العقيدة، بل وفي الله عز وجل.
قال أبو العالية: إياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء.
أي: أن من شأن هذه الأهواء والبدع أنها تلقي بين قلوب الناس العداوة والبغضاء.
فإذا اختلفت مع أخيك في قضية ما، فهل يكون قلبك بعد الخصومة وقبلها سواء؟
الجواب
لا، لكن ما اختلفوا رضي الله تعالى عنهم فيه من خلاف في فروع المسائل فيسعنا.
وسلف هذه الأمة لم يختلفوا في أصل اعتقادهم.
قال: [قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم؛ فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء.
فحدثت الحسن فقال: صدق ونصح، قال: فحدثت به حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي، أنت حدثت بهذا محمداً؟ قلت: لا.
قالت: فحدثه إذاً].
أي: فحدث بهذا الكلام الجميل محمد بن سيرين.
قال: [عن الحسن أن رجلاً أتاه فقال: يا أبا سعيد! إني أريد أن أخاصمك، فقال الحسن: إليك عني، فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه].
أي: أن الذي عنده شك وريبة في دينه هو من يسلك طريق الخصومة والجدال، أما أنا فالحمد لله فمفتخر بديني، وعاقد قلبي عليه، وليس عندي شك، فلم أخاصمك وأداهنك؟ قال: [قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه -وهذا الكلام مهم- غرضاً للخصومات أكثر التحول].
فهو اليوم في حل، وغداً في حل ثاني، وبعد بكرة في حل ثالث، وكلما أتى له واحد ألسن وأعظم بحجته وأكثر بياناً تحول من رأيه الماضي إلى رأي آخر، لذا فالذي يجعل دينه غرضاً للخصومات كلما لاقى خصومة أقوى من سابقتها ترك الخصومة الأولى وتحول إلى الثانية، ثم قد يجد خصومة ثالثة أقوى من سابقتها، فيتركها ويتحول إلى خصومه أخرى، وكل يوم هو في حال؛ لأنه لا استقرار عنده في أمر دينه وعقيدته.
قال: [قال الخليل بن أحمد: ما كان جدلاً إلا أتى بعده جدل يبطله].
لأن الجدل منه قوي ومنه أقوى، فالجدل يوصل إلى جدل، والمرء إذا سلم أمر دينه للجدل فإنما يسلمه إلى أعظم جدال، وكلما ظهر له جدل عظيم تحول إليه، لكن ينبغي على المرء أن يعلم دينه أولاً، ولذلك لا يعجبني قول من يقول بلزوم معرفة أهل السنة والجماعة لعقائد أهل البدع والضلال، إنما الذي يعجبني أن تتعلم أنت عقيدة أهل السنة والجماعة بأصلها، وأن توقن أنما عدا ذلك انحراف، وأياً كان هذه الانحراف فلا يضرني من يقوله، فالذي يلزمني أن هذا القول ليس قول أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، فينبغي ويجب عليَّ أولاً أن أتعلم عقيدتي، وأن أعلم أن ما دون هذه العقيدة إنما هي عقائد باطلة منحرفة، وألا أتعلم عقائد أهل البدع والانحراف في أول الأمر، فأقضي عمري كله في دراسة عقائد اثنين وسبعين فرقة، ثم في الأخير بعد انقضاء العمر أقوم بدراسة عقيدة أهل السنة والجماعة! حتى أعلم أن ما دون هذه العقائد هو الحق، وهو الصواب، بل لابد من دراسة عقيدة أهل السنة والجماعة أولاً، ثم أعلم أن ما دون هذه العقيدة لا يلزمني.
قال: [قال عمرو بن قيس: قلت للحسن بن عتيبة: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟] أي: ما الذي جعلهم يكثرون من الدخول فيها؟ قال: [الخصومات].
أي: لما فتحوا باب الخصومات على أنفسهم كان لزاماً عليهم أن يدخلوا في هذه العقائد الباطلة.
قال: [عن عنبسة الخثعمي - وكان من الأخيار - قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: إياكم والخصومات في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق].
قال: [قال الأحنف بن قيس: كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب].
قال: [قال معاوية بن قرة: إياكم وهذه الخصومات؛ فإنها تحبط الأعمال].
قال: [عن الفضيل بن عياض: لا تجادلوا أهل الخصومات؛ فإنهم يخوضون في آيات الله].
قال: [عن(9/5)
أقوال السلف في ذم البدعة في الدين
قال: [قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية].
فتصور وقوعك أنت في البدعة أحب إلى إبليس من الزنا والقتل وشرب الخمر، لذا فالواحد لما يقع في معصية أو في كبيرة من الكبائر يعرف أنه آثم ومذنب، ويحتاج إلى توبة وتطهير، لكن صاحب البدعة يتقرب بها إلى الله، وصاحب المعصية لا يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل، بل قد يقول صاحب المعصية: أنا أستحق الحد، بينما صاحب البدعة يعتبر أنها الحق الذي يقربه إلى ربه.
إذاً: صاحب البدعة في نظره أنه لا يحتاج إلى توبة، بينما صاحب المعصية يعلم أنه في أمس الحاجة إلى التوبة، وأنه على معصية، بخلاف صاحب البدعة، ومن هنا: كانت البدعة أحب إلى الشيطان وإلى إبليس من المعصية.
قال: [قال ثابت بن العزان: أدركت أنس بن مالك وابن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، ومجاهد، وابن أبي مليكة، والزهري ومكحول، والقاسم وعد ناساً كثيراً فقال: كلهم يأمرونني بالجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء.
قال بقية: ثم بكى، وقال: أي بني! ما من عمل أرجأ ولا أوثق من مشي إلى هذا المسجد.
يعني: مسجد الباب].
قال: [كان الحسن البصري يقول: لا تجالسوا أهل الهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم].
وقد [دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث واحد؟ فقال لا.
قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: ولا آية].
أي: أن ابن سيرين يخاف على أصحابه من أهل البدع، وإلا فكلام أهل البدع مع ابن سيرين ليس بمشكلة، وإنما المشكلة في موقف أصحاب ابن سيرين، هل سينكرون عليه أم لا؟ وإذا أنكروا فهل هم محقون في هذا الإنكار أم لا؟ قالا: فماذا نصنع معك؟ قال: تقومان عني ويلكم! أي: إما أن تنصرفوا عني وإما تركتكم وانصرفت أنا، فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم من أصحاب ابن سيرين: ما كان عليك أن يقرأ عليك آية؟ أي: ما هو الذي يضرك إذا قرأ عليك آية من آيات الله عز وجل؟ قال: إني كرهت أن يقرآ آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي.
فتأمل ابن سيرين وخوفه على نفسه وقلبه! قال: [عن أبي قلابة البصري قال: لا تجالسوهم ولا تخالطوهم؛ فإني لا آمن عليكم أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم كثيراً مما تعرفون فتهلكوا].
قال: [عن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب، احفظ عني أربع وصايا: لا تقولن في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد فأمسك -أي: لا تتكلم في واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالخير، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك].
أي: لا تسمع لهم ولا كلمة؛ لأنك لو سمعت هلكت.
قال: [عن أبي قلابة قال: ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف].
فهم بين نقمتين: النقمة الأولى: الانحراف عن المنهج العقائدي.
النقمة الثانية: أنهم يتصورون أن عقيدتهم هي الحق، فتحملهم هذه العقيدة الباطلة على الخروج بالسيف، والذين خرجوا على علي بن أبي طالب قد خالفوا الطريق، فخرجوا أولاً في أصل معتقدهم بتكفير المسلم بالكبيرة، ثم شهروا السيف في وجهه.
إذاً: فكل صاحب بدعة لابد وأن تؤدي به بدعته في نهاية الأمر إلى الخروج على الأمراء وأهل العلم بالسيف.
فهذا ابن طاوس مر على رجل من المعتزلة يتكلم [فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أي بني أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد حتى لا تسمع من كلامه شيئاً].
لأن القلب ضعيف، مع أن هؤلاء أئمة، ومع هذا خافوا على أنفسهم وعلى أبنائهم، وعلى عامة المسلمين، ونحن أولى بذلك منهم.
قال: [عن جعفر بن برقان أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل وقد سأله عن الأهواء: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب، والأعرابي، واله عما سواهما].
أي: دعك من الأشياء الأخرى، وعليك بدين الصبي الصغير الذي خلقه ربنا على الفطرة والإسلام والتوحيد الخالص قبل التلوث، وقبل الوسخ والدخن، وعليك بدين الأعرابي الذي رضع في البادية ولم يتلوث بلوث المدينة.
قال: [قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة].
أي: إذا رأيت قوماً يقولون كلاماً غريباً ليس بمفهوم ولا معقول، فاعرف أن هؤلاء في أول بدعتهم وضلالتهم.
أي: أن مآلهم أن يظهروا.
قال: [عن محمد بن النضر الحارثي قال: من أصغى سمعه إلى صاحب بدع(9/6)
تحذير السلف من الجدل ومصاحبة أصحاب الكلام
قال: [عن الأوزاعي قال: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل].
قال: [قال يونس بن عبد الأعلى: قلت للشافعي: تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا؟ أي: يونس بن سعد، فقد كان يقول: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق ولا تعبأ به ولا تكلمه.
قال الشافعي: فإنه والله قد قصر].
لذا فقد يرى المسلم أحوالاً تظهر على أيدي أهل الأهواء في الظاهر أنها كرامات، فاحذرها، فلو رأيت صاحب الهوى يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تركن إليه حتى تنظر إلى عمله، فإن كان موافقاً لكتاب الله ولسنة رسوله، فاعلم أن هذه كرامة من الله تعالى، وإن كان غير ذلك فاعلم أنه كذب من الشيطان.
وهذا الكلام عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قرره في كتاب الفتاوى، فلا تحكمن على الرجل بصلاح أو فساد حتى تنظر إلى عقيدته وعمله، فإن كانت مستقيمة، وظهر منه شيء خارق للعادة فاعلم أن هذه كرامة، وإن كان غير ذلك فاعلم أنه استدراج من الشيطان.
قال: [قال الربيع: سمعت الشافعي يقول، وقد ناظره رجل من أهل العراق، فخرج إلى شيء من الكلام، هذا من الكلام، دعه].
أي: هذا من الرأي فدعه؛ لأنه لا يتقنه.
قال: [قال الشافعي: لأن يبتلي الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه عدا الشرك خير له من الكلام].
وخير له من الهوى والضلال والانحراف.
قال: [قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: تعلم يا أبا موسى! -لأن العلم نجاة- لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقول بذلك].
يعني: أن أصحاب الأهواء قالوا كلاماً ما كان الشافعي يتصور أن واحداً من الأمة يقول هذا الكلام، ولا ينجي من هذا الضلال إلا طلبك للعلم، ولذا نصح الشافعي أبا موسى أن يتعلم.
قال: [كان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول أحدهم إذا خالفه صاحبه: كفرت.
والعلم فيه: إنما يقال: أخطأت].
لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن أهل السنة مع أهل البدع أرحم من أهل البدع بعضهم ببعض.
لأنك تأتي وتناظر وتجادل واحداً من أهل البدع، وتقول له: أنت أخطأت، لكنهم عندما يتناقشون مع بعض يقول أحدهم للآخر: أنت كفرت، فيرمون بعضهم بالكفر، مع أن أهل السنة يتوقفون في ذلك أشد التوقف.
قال: [قال الشافعي: ما تردى أحد بالكلام فأفلح].
قال: [قال الربيع: رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة، وقوم في المسجد يتكلمون بشيء من الكلام، فصاح وقال: إما أن تجاورونا بخير، وإما أن تقوموا وتنصرفوا عنا].
قال: [قال أبو يوسف: من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق].
قال: [قال عبد الرحمن بن حمدان: كان معي رفيق بطرسوس، وهو أبو علي بن خالويه، وكان معي في البيت، وكان قد أقبل على كتب الصوري والأنطاكي وأصحاب الكلام في الرقة، وكنت أنهاه فلا ينتهي، حتى كان ذات يوم جاءني فقال: أنا تائب، فقلت: أحدث شيء؟ قال: نعم، إني رأيت في هذه الليلة كأني دخلت البيت الذي نحن فيه، فوجدت رائحة المسك، فجعلت أتتبع الرائحة حتى وجدتها تفوح من المحبرة فقلت: إن الخير في الحديث].
قال: [قال مصعب: رأيت أهل بلدنا -أهل المدينة- ينهون عن الكلام في الدين].
قال: [قال مصعب: بلغني عن مالك بن أنس أنه كان يقول: الكلام في الدين كله أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهون القدر ورأي جهم، وكلما أشبه، ولا أحب الكلام إلا فيما كان تحته عمل، فأما الكلام في الله فالسكوت عنه؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا ما كان تحته عمل].
قال: [قال سفيان بن عيينة: قال ابن شبرمة: إذا قلت جدوا في العبادة واصبروا أصروا وقالوا: لا الخصومة أفضل خلافاً لأصحاب النبي وبدعة وهم لسبيل الحق أعمى وأجهلُ] قال: [ذكر أن فتى من أصحاب الحديث أنشد في مجلس أبو زرعة الرازي رضي الله عنه هذه الأبيات فاستحسنه وكتبت عنه: دين النبي محمد أخباره نعم المطية للفتى آثار لاتعدلن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار ولربما غلط الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(9/7)
الأسئلة(9/8)
الحكم على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
السؤال
ما صحة حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)؟ وإن كان صحيحاً أفلا يعارض قول ابن عباس: الهوى كله شر؟
الجواب
الحديث ضعيف، وهو موجود في الأربعين النووية وجامع العلوم والحكم، والحمد لله ليس هناك تعارض.(9/9)
خزعبلات صاحب كتاب (الإسلام في الخندق)
السؤال
يقول السائل: قال الدكتور مصطفى محمود في كتابه: (الإسلام في الخندق): إن تطبيق الشريعة لا يكون في كل زمان، وذلك لأن عمر بن الخطاب لم يطبق حد السرقة في حكمه يوم جاع الناس.
أيضاً أن الذي يسرق خمسة جنيهات تقطع يده، وأما الراشي في مائة ألف جنيه فلا تقطع يده! وبالتالي في عصر البلوى وانتشار الفساد، والناس في عصيان وعدم وجود ما يمنعهم من ذلك، فكيف ذلك؟
الجواب
يا أخي الكريم! مصطفى محمود في أمس الحاجة إلى من يصلح له عقيدته، وهو والله عدو السنن، ووالله أن أثقل شيء على قلبه أن تسمعه آيات من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وأبغض الوجوه إليه وجه صاحب سمت السنة، وهو لا يألو جهداً في صدهم وطردهم من مسجده، ويبغضهم بغضاً شديداً، ناهيك عن هذا كله.
هذا الرجل إذا أردت أن تأخذ عنه فخذ عنه علم الأعضاء وعلم التشريح وغير ذلك.(9/10)
حكم التخلف عن صلاة الجماعة في جميع الصلوات
السؤال
ما حكم الذي يصلي جميع الأوقات في البيت، أو في مكان العمل دون عذر؟ وهل هناك حديث: (من سمع النداء ولم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)؟
الجواب
الحديث عند أبي داود بسند صحيح، وهو محمول على نفي كمال الثواب؛ لأن مذهب الجمهور أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة.
ويترجح لدى الحنابلة: أن صلاة الجماعة واجبة، والأمر محل خلاف بين أهل العلم، مع أن أهل العلم الذين اختلفوا في حكم الجماعة لم يتخلفوا عن حضور الجماعة، فهم اختلفوا من حيث الحكم الفقهي أو تقرير الحكم، لكن هل تخلف أحد منهم عن الجماعة؟ لم يبلغنا أن أحداً منهم، أو أحداً ممن قال: بأن الجماعة سنة مؤكدة، تخلف عن صلاة الجماعة.(9/11)
واجب المسلم تجاه تبجح العلمانيين
السؤال
أنا طالب في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة نجد بعض المحاضرين يتكلمون في أمور علمانية، مثل: التجديد، والاستهزاء بذوي اللحى، والمنتقبات، فما واجبنا نحن الطلاب؟ هل نرد عليهم أم نلتزم الصمت؟
الجواب
يجب الرد على هؤلاء الناس، ولا يصلح السكوت عن أصحاب الأهواء والبدع والإلحاد، وأمثال هؤلاء لابد أن تقف لهم موقفاً شديداً، وأن تحرجهم أمام الحاضرين، وأن تبين لهم أنهم أصحاب انحراف وزيغ عن دين الله عز وجل، لا أقول: عن المنهج فقط، بل المسألة واضحة، فهم خارجون من الدين.
يعني: أنهم ينادون باللادينية، لكن لا يبوحون بذلك خشية المجتمع من حولهم.(9/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - عقيدة الإمام سفيان الثوري
الإمام سفيان الثوري رحمه الله أحد الأئمة الذين حفظ الله عز وجل بهم الدين، لما نشروا من السنن وشيدوا، وهدموا من البدع وأبادوا، فقوله في القرآن بأنه كلام الله، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأنه قول وعمل، وتقديم أبي بكر وعمر في الخلافة والفضل، وألا يقطع لأحد بالجنة إلا بنص، وأن الله تعالى خالق كل شيء من خير وشر، والصلاة خلف أمراء الجور ما لم يكفروا كل ذلك هو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، وعليه إجماعهم من قبل سفيان الثوري ومن بعده.(10/1)
عقيدة سفيان الثوري في القرآن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مواصلة لما بدأناه من شرح كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي رحمه الله، نقول: إن الباب الذي وقفنا عليه باب في غاية الأهمية، وإن كان الكتاب كله في غاية الأهمية، لكن هذا الباب قد ذكر فيه الإمام جملاً من عقائد بعض أئمة أهل السنة، فلا أقول: إن ما ورد في عقيدة كل إمام هو مسند اعتقاد أهل السنة، وإنما مجموع ما ورد من اعتقاد في تراجم جميع الأئمة يمثل العقيدة الإسلامية لأهل السنة والجماعة، فقد ذكر الإمام هنا عقيدة الثوري، وفيها: أن شعيب بن حرب التقى بـ سفيان الثوري فقال له: [(حدثني بحديث من السنة ينفعني الله به، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى وسألني عنه، فقال لي: من أين أخذت هذا؟ قلت: يا رب! حدثني بهذا الحديث سفيان بن سعيد الثوري وأخذته عنه، فأنجو أنا وتؤاخذ أنت)].
يعني: يحاسبك الله تعالى عليها.
[فقال] أي: سفيان الثوري وهو إمام أهل الكوفة، وكان معروفاً بأمير المؤمنين في الحديث، وهو ناصر السنة وقامع البدعة في منطقة الكوفة وما حولها، وكان صاحب مدرسة الأثر، وكان الإمام أبو حنيفة على رأس مدرسة الرأي، رحم الله الجميع.
فـ سفيان كان معروفاً بالأثر، وكان معروفاً بالتمسك بالسنة في كل كبيرة وصغيرة، فلما سأله شعيب بن حرب قال له: [(يا شعيب!) هذا توكيد وأي توكيد! اكتب] أي: اكتب ما سأمليه عليك، فإنه اعتقاد أهل السنة، ونحن الآن لو قلنا لطالب من طلاب العلم الموجودين: قم فأمل علينا عقيدتك، فنحن نريد أن نتعلم العقيدة الصحيحة قم وأخبرنا بعقيدتك التي أخذتها عن أهل السنة والجماعة، فربما يتكلم المرء بمسألة أو مسألتين ثم يتوقف؛ لأنه لم يخطر على باله أن يأخذ عقيدته مسألة مسألة، أما حينما يسأل إمام من أئمة الهدى عن هذه العقيدة فيختلف الأمر.(10/2)
سبب ابتداء الثوري عقيدته بمسألة القرآن
قال: [(بسم الله الرحمن الرحيم.
القرآن كلام الله غير مخلوق].
لماذا بدأ سفيان بهذه القضية؟ أولاً: لأنها قضية تتعلق بذات الرب تبارك وتعالى، وأعظم العلم هو علم الاعتقاد خاصة اعتقادك في الله عز وجل؛ لأن أعظم ما يمكن أن يتعلمه المرء، وأوجب الواجبات التي أوجبها الله تبارك وتعالى على المرء: أن يحسن اعتقاده في الله عز وجل، ولذلك يقول أهل العلم: إن أعظم العلوم وأشرفها علم العقيدة؛ لتعلقها بذات الإله، وثاني العلوم علوم القرآن؛ لتعلقه بصفة من صفات الله عز وجل، ثم علم السنة لتعلقه بكلام النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: أول ما يجب عليك أن تطلبه هو العقيدة الصحيحة التي كان عليها سلف هذه الأمة وعلماؤها.
لذا قال: [اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم القرآن كلام غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، من قال بغير هذا فهو كفر].
هذا أولاً.
ثانياً: أن هذه الفتنة -أي: فتنة القول بخلق القرآن من عدمه- نشأت في أرض الفتن العراق، وكل عالم ينزل فيها لابد وأن يبتلى وأن يختبر بها، وأنتم تعلمون أن أهل العراق هم في الغالب أهل فتن، والنفاق إليهم أسرع من غيرهم، وقلة احترامهم لأهل العلم مشهورة عنهم، ولا أدل على ذلك من أنهم شايعوا علياً والحسن والحسين، وكانوا أول الناس نكثاً للعهد معهم، فهم أهل غدر ونفاق إلا من رحم الله عز وجل.
ولذلك لما رأى سفيان الثوري أن هذه المسألة في غاية الأهمية لتعلقها بذات الإله، وهي من جهة ثانية هي التي تدور على ألسنة العامة والخاصة في بلاده، أراد أن يعالجها ابتداءً.
وكلام الله تبارك وتعالى صفة من صفاته، والله تبارك وتعالى يتصف بصفات الذات وصفات الفعل، والكلام من صفات الفعل، فالله تبارك وتعالى يتكلم بما شاء بأي كلام يريده متى شاء، ويسكت عنه متى شاء؛ لأنه من صفات فعله؛ فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، والله تبارك وتعالى متكلم منذ الأزل وإلى الأبد، لا ابتداء لكلامه ولا نهاية له، كما أن الله تبارك وتعالى هو الأول وهو الآخر، فكذلك كلامه يحمل هذه الصفتين؛ فإنه لا أولية له ولا يفنى هذا الكلام، فإن الله تبارك وتعالى متكلم دائماً وأبداً وأزلاً، فلم يكن ساكتاً ثم تكلم، وإذا تكلم لا يفنى كلامه ولا يبيد سبحانه وتعالى، ولذلك قال: (غير مخلوق) هذه الصفة بل وجميع الصفات غير مخلوقة.(10/3)
خطورة القول بخلق القرآن
ما هي خطورة القول بخلق صفة من صفات المولى عز وجل؟ ولم نشأت الفتنة في ذلك؟ الأمر الأول: خطورة هذا الكلام أنه يلزمك أن تقول: إن كل مخلوق حادث.
يعني: لم يكن ثم كان، فهل الله تبارك وتعالى لم يكن متكلماً ثم تكلم؟ هذه صفة عجز وصفة نقص.
أن يقال: إن الله عز وجل لم يكن يتكلم، وبعد ذلك تكلم، فمن الذي علمه الكلام؟! أليست هذه صفة نقص؟ بلى.
إذاً: الصواب: أن هذه الصفة -وهي صفة الكلام- لازمة لله عز وجل لم يخلقها أحد.
ولازمة بمعنى: أنها ملازمة لله عز وجل لا تنفك عنه، لا أول لها ولا نهاية.
فإذا قلت: إنه مخلوق، إذاً: أثبت أولاً أن الله تبارك وتعالى كان عاجزاً ثم صار قادراً على الكلام، والعجز صفة نقص لا تجوز على الله عز وجل، بل صفات العجز لازمة للمخلوق وليس للخالق، هذا أمر.
الأمر الثاني: لو أني قلت: إن كلام الله مخلوق لابد وأن يفنى؛ لأن كل مخلوق حادث، وكل حادث إلى زوال، كما قال الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص:88].
فهنا نقول: إن القول بخلق القرآن يستلزم القول بفناء هذا القرآن، وبانتهاء هذا القرآن، ولا قائل بذلك من أهل السنة.
إذاً: الذي يقول: إن القرآن كلام الله مخلوق، لابد وأنه مبتدع في أسماء الله وفي صفاته ما لم يكن عليه سلف هذه الأمة، كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين رضي الله عنهم أجمعين.(10/4)
سبب زيادة (غير مخلوق) في وصف كلام الله
لم يقل أحد من السلف (إن القرآن كلام الله مخلوق).
بل ولم يقولوا: (غير مخلوق)؛ لأن السلف لما وقفوا عند ألفاظ معينة ومصطلحات محددة ما تجرأ من أتى بعدهم على أن يخترع لفظة لم يقل بها السلف خاصة في باب العقيدة، فما الداعي لقول مخلوق أو غير مخلوق؟ ولكن لما أتى من قال بخلق القرآن، قام أحمد بن حنبل ومن معه من أهل السنة وردوا عليهم فزادوا: غير مخلوق، وإلا فالأصل أن يقولوا: القرآن كلام الله، وهذه عقيدة السلف، لم يقل أبو بكر ولا عمر ولا غيرهم (غير مخلوق)، ولكن اضطر أحمد بن حنبل أن يرد على من قال: بأنه مخلوق أن يقول له: لا، هو غير مخلوق، ولذلك ينهى أهل العلم جميعاً عن تعلم الفلسفة والمنطق، ولكن لما ازدهر ذلك وانتشر بترجمة كتب اليونانيين في زمن الدولة العباسية قام الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله يرد عليهم، وهو ينهى الأمة عن تعلم الفلسفة والمنطق؛ فهو الذي قال: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق.
ومع هذا نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية إماماً في الفلسفة والمنطق، بل هو الذي رفع عن الأمة حد الواجب الكفائي في الرد على الفلاسفة والمنطقيين؛ لأن ابن تيمية عليه رحمة الله إمام علم متبحر في علوم السنة والهدي فلا خوف عليه ولا لوم عليه أن يسد الثغرة التي ربما يؤتى الإسلام من خلالها في تعلم الفلسفة في ذلك الزمان، مخافة أن يتكلم الفلاسفة مع عامة المسلمين فيضلونهم عن دينهم، فأيد الله عز وجل دينه بهذا الإمام العلم المبجل، فرد عليهم تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ فسد هذه الثغرة على أهل الإسلام جميعاً؛ على علمائهم وعامتهم، ونصح لله عز وجل أيما نصيحة.
ولذلك أهل السنة لما كانت تظهر مسألة من المسائل التي يخشى على العامة منها كانوا يتعرضون لها بأي سبيل مشروع؛ حتى يحققوا الواجب الكفائي لنصح هذه الأمة في كل زمان ومكان.(10/5)
حكم من اعتقد خلق القرآن
قال: [اكتب: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومن قال بغير هذا فهو كفر].
ولم يقل: (فهو كافر).
وهذه جزئية مهمة جداً في الاعتقاد، فالقائل يكفر إن كان عالماً بما يقول مصراً على قوله واعتقاده، ولكن في الغالب أن المرء ربما تكلم بكلام هو كفر، ولكنه لا يدري أنه كفر.
فنقول: إن قول الكفر لا يكفر به صاحبه إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه، تحضره أمامك وتقرره: أنت قلت: إن القرآن كلام الله مخلوق؟ أتعلم خطورة هذا القول؟ فيقول لك: والله لا أعرف.
فتقول: لا.
هذا القول خطورته كيت وكيت وكيت، وهو في الجملة مخالف لاعتقاد أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يعتقدون غير ما تعتقد، والأدلة من كتاب الله كيت، ومن سنة الرسول كيت، ومن أقوال أهل العلم كيت.
والإمام والعالم والسلطان هو الذي يقيم الحجة على من خرج على النهج القويم، فإن أصر صاحب القول المخترع المبتدع على قوله حبس ثلاثاً يستتاب وإلا أقيم عليه الحد الشرعي.(10/6)
عقيدة الثوري في الإيمان
قال أي سفيان: [والإيمان قول وعمل ونية].
الذي يدخل الإسلام لابد أن ينطق بالشهادتين: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)، فمن شهد بالشهادتين ونطق بهما، ولكن قلبه مبغض لهاتين الشهادتين غير محب لهما وغير معتقد لصحة هذه الشهادة فيأخذ حكم المسلم في الدنيا، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ولكنه عند الله منافق؛ لأن هذه الكلمة التي نطق بها لم تستقر في قلبه، بل الذي استقر في قلبه هو بغض هذه الشهادة، وبغض الرسالة وعدم اعتقادها.
ولذلك نقول: إن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان ومنها القلب؛ لأن القلب له أعمال فحبه وبغضه وصدقه وإخلاصه وإيمانه هي أعمال القلب، فعندما نقول: الإيمان قول وعمل.
أي: عمل الجوارح والأركان، وكذلك عمل القلب؛ لأن القلب له عمل، ومن أعظم أعمال القلب: أن يُعقد على حب الله ورسوله، وعلى اتباع كتاب الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أنك إذا نطقت بهذه الكلمة فلابد أن تنوي بها أن تؤدي ما ألزمك الله تبارك وتعالى من خلالها، فلا يصح أن ينطق شخص بالشهادتين ثم هو تارك للصلاة وللصيام وللزكاة وللحج مع القدرة وغير ذلك من فرائض وأركان ومستحبات الإسلام.
فالإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص؛ لأنه لا يستوي الذي يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويقوم على طاعة الله في كل كبيرة وصغيرة، لا يستوي مع من فرط في ذلك كله، فلا شك أن من أتى طاعة الله، وائتمر بأوامره، وانتهى بنواهيه، لا شك أن هذا أعلى إيماناً من الذي فرط في ذلك أو في شيء منه.
قال: [والإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا يجوز القول إلا بالعمل، ولا يجوز القول والعمل إلا بالنية، ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة].
فانظر إلى هذا النصح، وهذا النصح ليس لـ شعيب بن حرب فقط، وإنما هو للأمة بأسرها.
الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بمتابعة النبي عليه الصلاة والسلام، واعتقاد ما كان يعتقده عليه الصلاة والسلام، هو وأصحابه الكرام والأئمة المتبوعين.(10/7)
عقيدة الثوري في أبي بكر وعمر
[قال شعيب: فقلت له: يا أبا عبد الله! وما موافقة السنة؟].
شعيب بن حرب مع أنه إمام علم من أئمة السنة إلا أنه أراد أن يستوثق ما معنى: (إلا بمتابعة السنة) أو (موافقة السنة).
فقال سفيان: [تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما].
هل هذا موافقة السنة فقط؟ لا.
ليست هذه فحسب، لكن سفيان الثوري أراد أن يعالج قضية مطروحة على الساحة خالفت فيها الأمة ما كان عليه سلفها، فاختار قضية واقعية تحتاج إلى إظهار عقيدة أهل السنة في مثلها، فـ شعيب قال له: ما معنى موافقة السنة؟ قال له: أن تقدم أبا بكر وعمر على غيرهما من الأمة.
لماذا؟ لأننا هنا في الكوفة، والكوفة تقدم علياً على أبي بكر وعمر، فإن وافقتهم يا شعيب فأنت على غير السنة، وإن خالفتهم فأنت سني.
نحن الآن عندما ندرس عقيدة أهل السنة والجماعة نذكر القضايا التي يموج بها المجتمع موجاً، وخالف فيها المجتمع اعتقاد سلفهم، ولذلك نحن سيمر بنا الآن قضايا فقهية ليست عقدية، مثل المسح على الخفين أهي من مسائل الفقه أو من مسائل الاعتقاد؟ من مسائل الفقه، ومع هذا نرى أن سلف الأمة الذين صنفوا في مسائل الاعتقاد ذكروا المسح على الخفين في كتب الاعتقاد؛ لأن الشيعة قالوا بغير ذلك، ولم يجيزوا المسح، حتى صار عدم جواز المسح على الخفين من أصل عقيدة الشيعة، أما نحن فاعتقادنا في المسح على الخفين الجواز، خالفت في ذلك فرقة من فرق المسلمين، فصارت من هذه الحيثية في ضمن ما يذكر من عقيدة أهل السنة.
ما معنى تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر على غيرهما؟ يعني: أنا المطلوب مني أن أقدم أبا بكر ثم عمر على الأمة بأسرها في الفضل والخلافة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نص على أن أبا بكر هو الخليفة من بعده، وهو أفضل الأمة، ولو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر، والأمة التي ستوزن أعمالها ويوزن إيمانها الذي يغلب عليها إيمان أبي بكر فيها عمر، وعمر نفسه عجز عن أن يناهض أبا بكر في عمل الطاعة، فكلما أراد أن يسبقه كان السبق لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى اعترف بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
فهنا نقول: إن أبا بكر مقدم في الفضل والخلافة على الأمة بأسرها بما فيها عمر، وعمر مقدم في الفضل والخلافة على الأمة بأسرها بما فيها عثمان وعلي.
ووقع خلاف بين أهل السنة أنفسهم في الفضل -لا في الخلافة- بين عثمان وبين علي.
فمنهم من قال: عثمان أفضل من علي.
وهؤلاء هم جمهور أهل السنة.
ومنهم من قال: بل علي أفضل من عثمان، بما فيهم سفيان بن سعيد الثوري الذي نحن بصدد سرد عقيدته.
قال: إن علياً أفضل من عثمان، وقيل إنه رجع عن هذا الاعتقاد إلى اعتقاد جمهور أهل السنة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: اختلاف أهل العلم في المفاضلة -أي: التفاضل بين علي وعثمان - مسألة قال بها بعض السلف، ولذلك لا يبدع فيها المخالف.
يعني: لا يصير مبتدعاً من قال: إن علياً أفضل من عثمان، ولكن يبدع من قال: إن علياً أولى بالخلافة من عثمان، كما قالت الشيعة: إن أبا بكر وعمر وعثمان اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب.
وهذا يخالف اعتقاد أهل السنة قاطبة؛ لأن هذا كلام في الخلافة، أما الأفضلية فهي مسألة لا يبدع فيها المخالف، ولكن الذي يرجح من اعتقاد أهل السنة وهو كلام جمهورهم: أن عثمان أفضل من علي بن أبي طالب، وهم في الخلافة على نفس الترتيب في الأفضلية.
إذاً: الترتيب في الخلافة والأفضلية: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
ولذلك انظر إلى سفيان الثوري عندما قال له شعيب: ما معنى متابعة السنة؟ قال: تقدمة أبي بكر وعمر.
وسكت؛ لأنه قائل بأفضلية علي على عثمان، فلم يرد الثوري أن يذكر هذه المسألة؛ لأنه يعلم أن الخلاف فيها لا يبدع به قائله، وذكر القول المجمع عليه وهو تقدمة أبي بكر وعم(10/8)
عقيدة الثوري في القطع بالشهادة لأحد بأنه من أهل الجنة أو النار
قال: [(يا شعيب بن حرب! لا ينفعك ما كتبت لك حتى لا تشهد لأحد بجنة ولا نار إلا للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم من قريش)].
ومنهم الخلفاء الأربعة، وهذا شيء من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: أنهم لا يقطعون لأحد بجنة ولا نار، ولا يقطعون لأحد بأن الله سيرحمه، كما لا يقطعون لأحد بأن الله سيعذبه في النار وإن كان عاصياً، ولا يقطعون بالجنة لأحد حتى وإن كان طائعاً؛ لأن الأعمال بالخواتيم، والله تبارك وتعالى قد علم أهل الجنة وعلم أهل النار، ثم لم يطلع أحداً من خلقه على قسم أهل النار، وعلى قسم أهل الجنة.
أما القطع لأحد من الأمة من غير أن يقطع له رسول الله بأنه من أهل الجنة، فهذا تألٍ وافتراء على الله عز وجل، ولذلك قال رجل في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام: (والله إن الله سيغفر لفلان ويعذب فلاناً، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام أيما غضب، وقال: من ذا الذي يتألى على الله؟).
لماذا تفترون على الله؟ أتعرفون أهل الجنة من أهل النار؟ (أشهدكم أن الله تبارك وتعالى غفر لفلان وآخذ فلاناً -أو وعذب فلاناً- الذي قال: إن الله غفر لفلان وعذب فلان).
فأنت إذا شهدت لأحد بأنه شهيد، فقلت: فلان الشهيد.
هذا قطع بالشهادة لواحد أنت لا تدري أهو شهيد حقاً أو لا؟ أنت عند أن تقول: محمد شهيد، إبراهيم شهيد، زيد شهيد، هذا قطع له بأنه من أهل الجنة؛ لأن الشهداء يقيناً في الجنة، وأنت تضمن له الجنة بطريق إثبات الشهادة، وهذا تأل على الله عز وجل، ولكنك تقول: أرجو أن يكون فلاناً عند الله شهيداً.
لذلك من اعتقاد أهل السنة: أنهم يرجون للطائع المغفرة والجنة، ويخافون على العاصي، ويتمنون ألا يؤاخذه الله، وأن يمنَّ عليه بالتوبة قبل الموت.
هذه عقيدة أهل السنة.
عقيدة أهل السنة: أنهم لا يقطعون لواحد بالشهادة، وبالتالي لا يقطعون له بالجنة، إلا ما جاء الشرع بالقطع لهم بأنهم من أهل الجنة، والذين شهد الشرع لهم بأنهم من أهل الجنة، وهم ليسوا عشرة فحسب، بل هم أكثر من ذلك، فالعشرة مذكورون في الحديث، وأنتم تعلمون أن عكاشة ليس من العشرة، كما في الحديث لما قام إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (ادع الله يا رسول الله أن أكون من أهل الجنة؟ فقال: أنت من أهل الجنة.
فقام آخر وقال: ادع الله لي أن أكون من أهل الجنة.
قال: سبقك بها عكاشة).
أي: الأول الذي أسرع وبادر وقام فطلب هذا الطلب، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة، وغير ذلك ممن شهد لهم النبي عليه الصلاة والسلام وهم كثرة.
الشاهد هنا: أننا لا نقول عن واحد بعينه: إنه شهيد، ولكن نرجو له أن يكون شهيداً، ولذلك جاء في الصحيح: أن رجلاً حارب مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة من الغزوات فبذل بذلاً عظيماً، وجاهد جهاداً عظيماً حتى افتتن به بعض الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! والله إننا نرى أن فلاناً من أهل الجنة.
قال: والله إنه من أهل النار، فانزعج الصحابة أيما انزعاج، ولكنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، وكان قد تبعه أحدهم حتى أصيب بسهم فلم يصبر على جرحه فوضع ذبابة سيفه في صدره، واتكأ عليها فخرج السيف من ظهره فمات، فلما رأى الرجل ذلك ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله! أرأيت الذي قلنا عنه كذا، وقلت عنه: إنه من أهل النار، قد فعل بنفسه كيت وكيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر)، فسماه فاجراً مع أنه مجاهد، بل عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كان يجاهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلو تصورنا أن عبد الله بن أبي قتل في غزوة هل يكون شهيداً؟
الجواب
لا.
لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (الرجل يجاهد شجاعة، ويجاهد حمية، ويجاهد ليرى مكانه).
فكل هذه نيات، صحيح أنك تقف في صف الجهاد، تجاهد العدو تبتغي بذلك مرضاة الله وتبتغي بذلك رفع لواء راية التوحيد، والذي بجانبك من هذه الناحية يجاهد من أجل أهله، من أجل أن يقولوا: أرسلنا من قبلنا فلاناً يجاهد، ويقولوا: الشهيد فلان، ومسجد الشهيد فلان، وشارع الشهيد فلان، ويقول: لو أني قتلت سموا الشارع باسمي والمدرسة باسمي والمستشفى.
هذه وصيتي لكم.
والذي بجانبه يجاهد حمية، هو تارك للصلاة والصوم والزكاة، لكن يعز عليه أن اليهود ماكثين في سيناء، أليست هذه بلدنا؟ نعم.
المطلوب أن العدو يخرج منها، فأنا أجاهد اليهود حتى آخر نفس لأخرجهم من أرضي، ليس من أجل الإسلام، وليس من أجل راية التوحيد وليس من أجل الله، في اعتقاده أن هذه أرضنا ولابد أن يخرج اليهود منها.
إذاً: أليس هذا حمية؟ فالذي لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يعرف أي شيء عن دينه، فلو مات في المعركة أتقول عنه شهيداً؟ (الرجل يجاهد حمية، ويجاهد رياء، ويجاهد ليرى مكانه)، من أجل أن(10/9)
عقيدة الثوري في مسائل من فقه الفروع
قال: [يا شعيب بن حرب لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين].
نحن قلنا قبل ذلك بأن هذه القضية من مسائل فقه الفروع، وليست من مسائل الاعتقاد، لكنها لما دخلت في عقيدة فرقة خالفت أهل السنة كان لابد للرد عليهم من إثبات أن هذا من اعتقاد أهل السنة والجماعة.
قال: [حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قدميك].
قال: [يا شعيب بن حرب ولا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بهما].
وهذه كذلك من مسائل الفروع، واعلم أن هذه القضية عند أهل السنة والجماعة من مسائل الخلاف في الفروع لا في الاعتقاد، ولا ندري ما الذي حمل سفيان على أن تكون هذه المسألة عنده من مسائل الاعتقاد.
يعني: المالكية والأحناف وهو المذهب الظاهر في العراق في ذلك الوقت على يد أبي حنيفة: أن الجهر بالبسملة في الصلاة سنة، وقراءتها واجبة في الفرض والنفل في كل ركعة، في الصلاة السرية والصلاة الجهرية، ولكن الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية محل خلاف بين أهل العلم، وقال باستحباب الجهر الأحناف، وقال: بوجوب الجهر بالبسملة المالكية، وجمهور أهل العلم يقولون: باستحباب الإسرار بها.
وهذه من مسائل الفقه وهي محل خلاف حتى عند أهل السنة والجماعة، وأنا لا أدري ولم أسمع جواباً مرضياً في بيان سبب إدراج هذه المسألة ضمن مسائل الاعتقاد عند سفيان يرحمه الله.(10/10)
عقيدة الثوري في القدر
قال: يا [شعيب بن حرب لا ينفعك الذي كتبت حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، كل من عند الله عز وجل].
إبليس الذي هو رأس الشر على الإطلاق خلقه الله عز وجل، فلو أنك قلت: إن الخير خلقه الله ولم يخلق الشر مع وجود الشر؛ فلابد أن تقول بخالق ثان غير الله عز وجل، ولكن الخير والشر مخلوق لله عز وجل.
بمعنى: أن الله تعالى خلق الخير وخلق الشر، ولكن الله خلق الخير وأراده إرادة شرعية وكونية، وخلق الشر وأراده كوناً ولم يرده شرعاً.
مثلاً: نهى الله تبارك وتعالى عن القتل في كتابه، ونهى عنه رسوله في سنته، ولكن هل يمكن للقاتل أن يتحرك من بيته، وأن يسل سيفه، وأن يرفع يده، وأن يضرب بها المقتول حتى يقتله بغير إذن الله، وبغير إرادة الله؟ لا.
إذاً! نقول: إن كل ما يقع في الكون بإرادة الله عز وجل، ولكن منه ما يريده الله شرعاً، ومنه ما يريده الله كوناً ونهى عنه شرعاً وهو الشر، فالخير والشر مخلوق لله، بمعنى: أن الله تعالى هو الخالق للخير والخالق للشر، فأنت لابد وأن تؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن ذلك كله من عند الله عز وجل.
أيضاً ليس لك حجة في أن تحتج بالقدر على معصية الله.
يعني: لا تقل: أنا قتلت فلاناً بقدر الله.
المعلوم أن كل ما يقع في الكون هو بقدر الله ومنه القتل، ولكن الذي قدر عليك القتل قدر عليك الحد، ولذلك أتى رجل قد سرق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: لم سرقت؟ قال: أتحاسبني يا أمير المؤمنين على أمر قدره الله علي؟ قال: نعم.
إن الذي قدر عليك السرقة هو الذي قدر عليك الحد.
وأقام عليه الحد، فلا يجوز لأحد أن يحتج بقدر الله على معصية الله.
قال: [يا شعيب بن حرب والله ما قالت القدرية ما قال الله ولا قال الرسول، ولا قالت الملائكة، ولا قال أهل الجنة، ولا قال أهل النار، ولا قال أخوهم إبليس عليه لعنة الله].
يعني: القدرية قالوا شيئاً لم يقل به كل هؤلاء! وتصور أن فرقة من الفرق تخترع قولاً لم يقل به إبليس فضلاً أن الله لم يقله ولا قاله الرسل والأنبياء، ولا الملائكة ولا أهل الجنة ولا أهل النار، كذلك إبليس عليه لعنة الله لم يقل هذا القول؛ لأن إبليس لا يجرؤ على ذلك؛ أما القدرية فقد قالوا: إن الله لا يعلم أي شيء عن أي عمل أو فعل إلا إذا وقع الفعل على الحقيقة.
يعني: نحن الآن بعد خمس دقائق بالضبط ماذا سيكون وضعنا وحالنا؟ أنعرف هذا الشيء؟ لا.
ولا نستطيع معرفة أننا سنغمض أعيننا أو نفتحها، وإذا تنفسنا هل نخرج النفس؟ وإذا أخرجناه هل نستنشقه مرة أخرى؟ نحن لا نعلم ذلك؟ لكن القدرية يقولون: إن الله لا يعلم أي شيء عن أي عمل ولا قول إلا إذا قيل وعمل! وهم بهذا ينفون علم الله السابق له تبارك وتعالى، إن الله تبارك وتعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون، وعلم كل شيء، فينفون صفة من ألزم الصفات الإلهية.
إذاً: الزعم بأن الله لا يعلم شيئاً بلوى عظيمة جداً لم يقل بها إبليس.
قال: [قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]].
يعني: بعد أن أوتي العلم ضل به ولم يعمل بهذا العلم، واستخدمه في معصية الله؛ لأنه ليس بلازم أن يكون صاحب العلم صاحب هداية، فالهداية شيء والعلم شيء.
نعم.
العلم يدل على الهداية وهو الطريق إليها، لكن من كان يريد ألا يهتدي، ولا يريد أن يسلك طريق الهداية فلا ينفعه علمه، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
يعني: الذين اختاروا لأنفسهم طريق الهداية، فالله تبارك وتعالى وفقهم لطريق الهداية والتقوى وزادهم تقوى وهدى: ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ))، يعني: الإنسان منا لابد وأن يختار طريق الهداية، ثم يوفقه الله سبحانه وتعالى للثبات والهداية والنور والاستقامة على الطريق المستقيم سبحانه وتعالى.
قال: [قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]].
من ممكن أنه يهديه؟ لا أحد؛ لأن الهداية بيد الله، والضلال بيد الله عز وجل.
يعني: الله عز وجل أثبت لنفسه أنه بيده الهداية وبيده الإضلال.
[وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
وقالت الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]].
يعني: صاحب العلم، والعليم الخبير هو الله عز وجل، وهو الذي علم الملائكة، ولا شك أن الذي يعلم غيره هو العالم وهو العليم تبارك وتعالى، فإذا كان الله تبارك وتعالى علم خلقه العل(10/11)
عقيدة الثوري في الصلاة خلف أمراء الجور
قال: [يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر] أي: ترى جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر.
يعني: لو أن هناك صاحب بدعة، وآخر ظالم وطاغية، ولكن ظلمه وطغيانه وفجوره لم يؤد به إلى الكفر فتجوز الصلاة خلفه.
ولكن هل الصلاة تجوز خلف الكافر؟ لا تصح، فإذا فعل ما فعل، ولكن فعله لا يؤدي به إلى الكفر، فإن الصلاة تجوز خلفه، واعلم أنني أقول: تجوز، ولم أقل واجبة، ولا مستحبة، وإنما أقول: جائزة، هذا في عموم الصلوات، أما في صلاة الجمعة والعيدين والاستسقاء الذي لا يكون إلا بالإمام، فإذا كان الإمام ظالماً وطاغية، ولكن ظلم هذا الإمام وطغيانه لم يبلغ به حد الكفر، وأتى وصلى بنا العيد، فإننا نصلي خلفه.
السؤال
هذه الأفعال هل يكفر بها الساب والشاتم والظالم والباغي؟ أنت نفسك ستقول: لا.
ولو قلت: يكفر وكنت من أهل الاجتهاد سأقول لك: لا يلزمك الصلاة خلقه، ولا تصح صلاتك؛ لأن الصلاة لا تصح خلف الكافر؛ لأن كل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، والكافر لا تصح صلاته لنفسه، وبالتالي لا تصح لغيره، أما الفاجر الذي لم يبلغ فجوره حد الكفر، فإن الصلاة خلفه في الجمعة والعيدين وفي محافل الناس ومجامعهم لابد وأنها واجبة درءاً للفتنة.
الحجاج بن يوسف الثقفي تعلمون أنه كان ظالماً، ولكن ظلمه في مذهب جماهير أهل العلم لا يكفر به، بل لا أعلم أن أحداً من أهل العلم كفره إلا الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام.
أليس كان الأولى أن يصدر الحكم بكفره من عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس؟ لأن هؤلاء كانوا يجلسون في المسجد الذي يخطب فيه الحجاج، وكان الحجاج من أفصح الناس وأكثرهم بياناً، وكان يصعد المنبر فيخطب الجمعة حتى يدخل وقت العصر، ولم يكن أحد من الصحابة ولا من غيرهم يجرؤ أنه يقول للحجاج: إن وقت العصر دخل؛ لأنه كان سينزل ويقطع رقبته.
إن الحجاج بلغ من فجوره أنه صعد المنبر في يوم الجمعة والصحابة في المسجد، ثم يقول: ما لي أرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها! أرأيتم مثل هذا الإجرام؟! يعني: رءوساً استوت مثل الثمرة عندما تنضج وتغري الناظر ويحين قطافها، وكان عنده ختم حديد يضعه في النار حتى يحمر ويختم به الصحابة بين أكتافهم.
لماذا تعمل ذلك يا حجاج؟ قال: من أجل أن أميزكم عن بقية الناس.
أرأيت ماذا كان يعمل بالصحابة؟ ولذلك أنس بن مالك عندما جاء عليه الدور في الختم، قال: والله إن النصارى ليفعلون هذا برهبانهم، وأنت تفعله بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيظهر في ثقيف -أي: في قبيلة ثقيف- كذاب ومبير) مبير يعني ظالم، فلما لقيت أسماء بنت أبي بكر الحجاج بن يوسف الثقفي وكلمها بغلظة، قالت: لقد بشرنا بك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنه سيظهر في ثقيف كذاب ومبير).
وأما الكذاب فهو المختار بن عبيد الثقفي الذي ادعى النبوة، وأما المبير فأنت يا حجاج، أنت الظالم الذي خرج في قبيلة ثقيف.
والصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلفه مع هذا الفجور والظلم؛ لأنهم يرون أن ظلمه لم يبلغ به حد الكفر، أما لو بلغ فلا ينبغي أبداً أن يتولى عليهم؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].
فلا أحد من الكفار يتولى إمرة المؤمنين ولا حكم بلاد المسلمين؛ لأنه ليس للكافر ولاية على المسلم.
قال: [(يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى أن الصلاة جائزة خلف كل بر وفاجر، وأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة مع كل بر وفاجر، وأن الصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل)].
جار.
يعني: ظلم وطغى وبغى أم عدل، فالصبر على إيذائهم أمر واجب.
[قال شعيب: (فقلت لـ سفيان: يا أبا عبد الله: الصلاة كلها؟)] يعني: نصلي خلف كل بر وفاجر جميع الصلوات؟ قال: [لا.
ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صل خلف من أدركت].
وهنا لم يقل صلاة العيدين والجمعة على سبيل التنصيص والتحديد، بل مراده كل الصلوات التي يحتفل بها الناس ويجتمعون لها، وصلاة الاستسقاء كذلك، والخسوف أو الكسوف، فإن إمام البلد يصعد ويدعو جميع أهل القرية إلى مكان يسع أهل القرية ويصلي بهم ركعتين ويدعو.
إذاً: مادام السلطان فجوره وظلمه لم يبلغ حد الكفر وجب الصبر عليه، ولذلك قال: [وأن ترى الصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل ما لم يبلغ الكفر.
قال شعيب: (قلت لـ سفيان: يا أبا عبد الله: الصلاة كلها؟ قال: صلاة الجمعة والعيدين خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير، لا تصل إلا خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة].
لأن الأمة بأسرها -أي: أهل الس(10/12)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - عقيدة الإمام الأوزاعي وابن عيينة وابن حنبل
تناول الإمام اللالكائي رحمه الله تعالى في كتابه العظيم: (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اعتقاد عدد من أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ومن هؤلاء الأئمة: الإمام الأوزاعي، والإمام ابن عيينة، والإمام أحمد بن حنبل، فبين اعتقادهم في كثير من مسائل العقيدة، خاصة المسائل التي لا يسع المسلم الجهل بها.(11/1)
اعتقاد الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: ففي الدرس الماضي تكلمنا عن عقيدة الإمام العظيم سفيان الثوري، وتكلمنا عن ذلك في سبع مسائل: القرآن كلام الله غير مخلوق، تكلمنا عن الإيمان، قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم تكلمنا عن اتباع السنن، ومعنى السنن في مسائل العقيدة: هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ثم تكلمنا عن عدم القطع لأحد بالشهادة، وبينا أن هذا يستلزم القطع له بدخول الجنة، وهذا لا يجوز لأحد إلا ما ورد بالنصوص، ثم تكلمنا عن جواز المسح على الخفين مخالفة للشيعة، وتكلمنا عن الإيمان بالقدر، وتكلمنا عن جواز الصلاة خلف كل بر وفاجر، وعلى كل بر وفاجر، فهذه هي النقاط الأساسية التي وردت في عقيدة الإمام العظيم سفيان الثوري.
وسنشرع الآن في عقيدة الإمام أبي عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الشامي، وهو إمام أهل الشام بلا منازع.
قال أبو إسحاق: [سألت الأوزاعي فقال: اصبر نفسك على السنة].
أي: وطن نفسك على التزام السنة، وإن وجدت في ذلك المشاق.
قال: [وقف حيث وقف القوم].
أي: كل ما وقف فيه السلف ينبغي علينا أن نقف عنده، وكل ما تكلموا فيه لنا أن نتكلم فيه، وما تورعوا عنه فإن الورع يلزمنا أكثر مما يلزمهم.
[وقل بما قالوا].
وخاصة في باب العقائد، وفي أسماء الله وصفاته، فإنهم آمنوا بها كما جاءت، وأمروها من غير خوض فيها.
[وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم].
قال: [وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة].
أي: بدعة خلق القرآن.
هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ وهذا الكلام إنما نشأ في العراق كما قلنا، وقوله: (وقد كان أهل الشام) باعتباره إماماً لهم.
قال: [حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق]، كما أخذ عمرو بن لحي الأصنام من الشام وأدخلها مكة وقال: اعبدوها؛ لأنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، وكذلك ما من بدعة -وإن كانت كفراً- إلا ولها رواد وأنصار وأتباع.
قال: [حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما ردها عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم].
أي: بعد ما رد فقهاء وعلماء العراق هذه البدعة، ولم يكن لها رواج، وفضح أمر المعتزلة في بلاد العراق، ولما فضحوا وظهر عوارهم، وفساد منهجهم وفكرهم في أسماء الله وصفاته أخذ بعض شياطين الإنس هذه البدعة المفتراة الضالة من العراق وأدخلوها إلى بلاد الشام، فلا بد وأن تجد لها في بلاد الشام أنصاراً وأعواناً.
قال: [فأشربها قلوب طوائف من أهل الشام، واستحلتها ألسنتهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف فيه].
أي: أن نفس الفتنة التي وجدت في العراق قد انتقلت إلى الشام، ونفس الضلال الذي وقع فيه عامة أهل العراق هو نفس الضلال الذي انتقل إلى بلاد الشام.
قال الإمام الأوزاعي: [ولست بايس أن يرفع الله شر هذه البدعة حتى يصيروا إخواناً] متوادين كما كانوا قبل أن تدخل عليهم تلك البدعة.
قال: [ولو كان هذا خيراً -كأنه ينصح أهل الشام- ما خصصتهم به دون أسلافكم].
أي: ليس معقولاً أن هذا الخير العظيم يخزنه الله سبحانه وتعالى عن نبيه وعن صحابة رسوله ثم أنا أطلعكم عليه! إن هذا لا يعقل.
قال: [فإنه لم يدخر عنهم خيراً خبئ لكم دونهم لفضل عندكم -أي: أنتم لستم بأفضل منهم حتى يخصكم بنعمه حرمهم منها سبحانه وتعالى- وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم وبعثه فيهم، ووصفه بما وصفهم به فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]].
فهذا ملخص عقيدة الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى، وقد تكلم في قضايا معينة، ولذا ليس بلازم إذا سئل الإمام عن عقيدته أن يسرد جميع مسائل العقيدة، بل يذكر المسائل التي ينبني عليها العمل، أو التي تموج بها البلاد، أو التي ظهرت بها الفتنة، كالمسائل التي كانت غائبة عن أهل الشام ودخلت إليهم من قبل أهل العراق، فبين لهم الأوزاعي أنهم على الجادة في كل شيء، إلا في هذه المسألة، فإنهم قد خرجوا عن الهدى وعن الصراط المستقيم.(11/2)
اعتقاد الإمام ابن عيينة رحمه الله تعالى
سفيان بن عيينة الإمام الكبير، مولده كوفي، لكنه تحول بعد ذلك واستقر في مكة، وهو وسفيان الثوري فرسي رهان، وعليهما مدار السنة، وهما من شيوخ الإسلام والأئمة العظام، فإذا كان في إسناد أحد السفيانين والإسناد إليه ثقة أو ثقات فدونك هو.
قال: [قال بكر بن الفرج أبو العلاء: سمعت سفيان بن عيينة يقول: السنة عشر مراتب فمن كن فيه فقد استكمل السنة، ومن ترك شيئاً منها فقد ترك السنة: إثبات القدر].
وأنتم تعلمون أن فرقة بأسرها خرجت عن حد الاعتدال والسنة بسبب قولها في القدر، فأنكرت القدر، وأنكرت علم الله تبارك وتعالى، وأنكرت الكتابة.
قال: [وتقديم أبي بكر وعمر].
أي: على سائر الأمة بمن فيهم عثمان وعلي رضي الله عنهما، بينما الشيعة قدموا علياً على أبي بكر وعمر، وقالوا: بأنه أولى بالخلافة منهما، ولذلك فالشيعة ليسوا من أهل السنة، فمنهم من هو من أهل القبلة، ومنهم من هو خارج لا له في القبلة ولا في غيرها.
وقد قلنا في الدرس الماضي: إن الخلاف وقع بين بعض علماء السنة في التفاضل بين عثمان وعلي.
وأقول: في التفاضل لا في الخلافة؛ لأن أهل السنة قاطبة مجمعون على أن الخلافة على الترتيب المعهود لدينا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، لكن وقع التفاضل بين الإمامين عثمان وعلي، فمنهم من قال: علي أفضل من عثمان، وجمهور أهل السنة: على أن عثمان أفضل من علي، كما استقر رأي جمهور أهل السنة على أن المفاضلة بين الأئمة الأربعة هي على نفس ترتيب الخلافة.
قال: [والحوض]، وللنبي عليه الصلاة والسلام حوضاً طوله كعرضه، ومسيرته مسيرة شهر، وكأن ابن عيينة رحمه الله تعالى أراد أن يؤكد على مسائل الغيب.
ثم قال: [والشفاعة].
أي الشفاعة بجميع أنواعها؛ لأن الله تبارك وتعالى يأمر بإخراج من كان في قلبه مثقال ذرة من خير من النار.
وقيل: من إيمان.
فيأمر الله تبارك وتعالى بهم أن يخرجوا من النار بعد أن امتحشوا فيها.
أي: بعد أن حرقوا فيها بالنار فصاروا حمماً وفحماً، فيؤمر بهم فيلقون في نهر الحياة على باب الجنة، فينبتون في هذا النهر كما تنبت الحبة في حميل السيل، وذلك كما إذا ألقى شخص حبة في ذلك الزبد الذي يطوف على سطح الماء، لكن بجوار الشط، فإنها تنبت صفراء ملتوية، وهؤلاء من أهل المعاصي، أما الكافر فإنه مخلد في النار أبد الآبدين، ولا يخرج منها قط، والنار لا تفنى ولا تبيد.
وهناك شفاعات أخرى غير شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها: شفاعة أهل الإيمان، وشفاعة الملائكة، وشفاعة الولدان الذين لم يبلغوا الحلم ولم يجر عليهم القلم، وغير ذلك من أنواع الشفاعات، فـ سفيان بن عيينة جعل الإيمان بإثبات الشفاعة، وأنها حاصلة يوم القيامة، وهي من علامات استقامتك على السنة.
قال: [والميزان، والصراط، وأن الإيمان قول وعمل، والقرآن كلام الله، وعذاب القبر، والبعث يوم القيامة، ولا تقطعوا بالشهادة لأحد من المسلمين].(11/3)
اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى(11/4)
أصول السنة عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى
أصول اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل طويلة وعظيمة، ولا تخرج عن أصول من ذكرنا، لكنها تطول، فقد سأل عبدوس بن مالك العطار -وهو من تلاميذ أحمد المقربين- الإمام أحمد عن السنة فقال كلاماً عظيماً جداً، ألا وهو: [أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]، فهو رحمه الله تعالى لم يذكر فرعيات العقيدة، وإنما ذكر كليات وأصول في العقيدة.
قال: [أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم -لأنهم الأسوة والقدوة- وترك البدع وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات].
أي: ترك الخصومات والجدال في الدين؛ لأن هذا ليس من علامات أهل السنة، وإنما هو من خصال ومزايا وصفات أهل البدع.
قال: (والجلوس -أي: وترك الجلوس- مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال، والخصومات في الدين)].(11/5)
عقيدة أحمد بن حنبل في السنة
قال: [والسنة عندنا: آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم]، أي: إذا كانت أصول السنة عند الإمام أحمد هي التمسك بما كان عليه النبي وأصحابه، فما هو الذي كان عليه النبي وأصحابه؟ إنها الآثار التي وردت إلينا بالأسانيد الصحيحة.(11/6)
عقيدة ابن حنبل في تفسير القرآن
قال: [والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن].
ولذلك أعظم التفاسير: أن يفسر القرآن بالقرآن والسنة، ومن الأخطاء الشائعة: أن يقول بعض الناس: أعظم التفسير: أن يفسر القرآن بالقرآن، ثم يقول: أو يفسر القرآن بالسنة، فيجعل السنة في مرتبة متأخرة عن القرآن، وهذا خطأ، ولذلك حكم أهل العلم من المحدثين كـ البخاري رحمه الله على حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن بأنه حديث منكر من جهة المتن، أما سنده فإنه ضعيف؛ لأن أصحاب معاذ الذين رووا عنه هذا الحديث ضعفاء، ونكارته من جهة أنه جعل ترتيبة للاجتهاد: القرآن، فإن لم يجد الحكم في القرآن انتقل إلى السنة، وكأنه يريد أن يقول: إنه لا حاجة لنا إلى السنة ما دامت بغيتنا موجودة في القرآن، وهذا كلام خطأ بلا شك.
والصحيح: أن تعتقد أن السنة لزيمة للقرآن، وقرينة له في الاحتجاج والإيمان، فلا يجوز أبداً أن نؤخر السنة عن القرآن.
نعم يجوز لنا أن نؤخر الرأي، بل يجب علينا أن نؤخر الرأي إذا كان مع السنة، ولذلك المقطع الثاني من الحديث ربما يكون منضبطاً، قال: (فإن لم تجد في السنة؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو).
فالسنة مقدمة على الرأي بلا شك، لكن هل القرآن يقدم عليها؟
الجواب
لا.
لأنهما متلازمان، فلا يجوز تقديم أحدهما على الآخر، وإلا لو قدم القرآن لزم أن نرد السنة، ولو قدمنا السنة لزمنا أن نرد القرآن.
إذاً: أعظم التفسير وأحسنه: أن يفسر القرآن بالقرآن والسنة في وقت واحد.(11/7)
عقيدة ابن حنبل في ضرب الأمثال بالسنة
قال: [وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال].
أي: إذا أخبرتك بحديث فلا تقل لي: لكن المثل يقول كذا! طيب ما هو رأيك لو عملنا كذا! طيب العقل يقول كذا! والكتاب يقول كذا! أبداً هذا كلام لا يجوز أبداً لمسلم أن يتفوه به في مقابل السنة الصحيحة، وهي لا تدرك بالعقول ولا الأهواء، ولكن بالاتباع وترك الهوى.
فلو أننا -مثلاً- نظرنا إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر).
وعرضنا هذا النص على العقل فإنه لا يقبله.
والحوض الذي طوله مثل عرضه، ومسيرته مسيرة شهر، لا يقبله العقل كذلك، ومسائل كثيرة جداً من أمور الغيب، لو عرضناها على العقل فإنه لا يقبلها، كعذاب القبر، ومشاهد يوم القيامة، والجنة والنار، وغيرها من المغيبات، ولذلك لو كان الدين بالعقل لرددناها، والعرض على العقول ليس منهجاً لأهل السنة، وإنما هو منهج المعتزلة، ولذلك جعلوا العقل هو الميزان الأعظم الذي توزن به الأعمال، بل أقول: الذي توزن به النصوص، فإذا وافق النص بعد عرضه على العقل العقل أخذوا به وقالوا به؛ لأنه يدخل في حد عقولهم، وإذا خالف النص العقل ردوه، أو أولوه تأويلاً يتناسب مع العقل، أما أهل السنة فإن ظهرت لهم الحكمة من كلام الله ومن كلام رسوله فخير ونعمة، وإن لم تظهر لهم آمنوا به وسلموا دون نزاع وجدال وخصومات.(11/8)
عقيدة ابن حنبل في الإيمان بالقدر
قال: [ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه]، أي: التصديق بالأحاديث التي وردت إلينا بالسند الصحيح في إثبات القدر لله عز وجل، قال: [والإيمان بها لا يقال: لم؟ ولا كيف؟] أي: لم قال الله كذا؟ وكيف قال الله كذا؟ ولذا لابد أن تؤمن بالقدر، وأن تسلم لله عز وجل بأقداره المؤلمة وغيرها دون أن تقول: لم كذا؟ وكيف كذا؟ قال: [إنما هو التصديق بها والإيمان بها].
قال: [ومن لم يعرف تفسير الحديث ويبلغه عقله فقد كفي ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصادق المصدوق]، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق؛ لأن الأمر أكبر من عقل ابن مسعود، فأراد أن يقول لك ابن مسعود: أنا صدقت النبي عليه الصلاة والسلام في هذا وإن كان فوق حد عقلي، فقدم أنه مصدق بهذا الكلام؛ لأنه صادر عن الصادق صلى الله عليه وسلم، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفه)، إلى آخر الحديث.
ثم قال: [وما كان مثله في القدر].(11/9)
عقيدة ابن حنبل في الرؤية
قال: [ومثل أحاديث الرؤية كلها، وإن نبت عن الأسماع، واستوحش منها المستمع].
أي: أنه حين يعرض هذه المسائل على العقل فيقول: أنا أنظر إلى الله! كيف ذلك؟! وأين ربنا؟ وما أوصافه؟ فإنه ربما قد ينحرف ويضل، لذا يجب أن يؤمن بأنه سوف يرى الله عز وجل بعيني رأسه، أما كيفية الرؤيا فلا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنك لو رأيت الله تبارك وتعالى وأنت على حالتك البشرية الآن لخررت ميتاً، لذا فالله تبارك وتعالى يعطيك يوم القيامة مؤهلات معينة تؤذن وتسمح لك بالنظر إلى وجه الله الكريم، وهذه المؤهلات لا نعرفها أبداً، لكننا نؤمن بها ونسلم بها، وعليه فالمسألة إذا أتت في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام أكبر من العقل فليس للمسلم غير التسليم والتصديق، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، وهذا شعار ومبدأ ينبغي أن يكون منهجنا ومسلكنا في ديننا على جهة الخصوص.
قال: [ومثل أحاديث الرؤية كلها، وإن نبت عن الأسماع، واستوحش منها المستمع -أي: استنكرها واستغربها- فإنما عليه الإيمان بها، وألا يرد منها جزءاً واحداً ولا حرفاً واحداً، وغيرها من الأحاديث المأثورات عن الثقات].(11/10)
عقيدة ابن حنبل في الجدل والخصومة
قال: [لا يخاصم أحداً ولا يناظره، ولا يتعلم الجدل، فإن الكلام في القدر والقرآن وغيرها من السنن مكروه منهي عنه، ولا يكون صاحبه -وإن أصاب بكلامه السنة- من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم].
قد قلنا سابقاً: إن من الخطورة بمكان أن تخاصم وأن تجادل في دين الله عز وجل، وخاصة إذا لم تكن من أهل العلم، وأن أصحاب الخصومات هم أصحاب الأهواء، وكلما أتى واحد بهوى هو أعظم من هواهم تركوا هواهم لهواه، وكلما أتى بحجة هي أعظم من حجتهم تركوا ما كانوا عليه لحجته القوية، فهم كل يوم في تقلب، وكل يوم في بدعة جديدة، وكل يوم في هوى جديد؛ لأنهم لا يسيرون على الأصول الثابتة التي جاءت من عند الله عز وجل، ومن عند رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد أتى رجل من الخوارج وقال لـ ابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم.
وكأنه يريد أن يوقع بـ ابن عباس، لكن هذا الحبر والبحر قال: كل هوى ضلالة.
أي: أن المسألة ليست بالهوى، بل بالاتباع والاقتداء.(11/11)
عقيدة ابن حنبل في القرآن الكريم
قال: [ويؤمن بالآثار، والقرآن، وأنه كلام الله وليس بمخلوق، ولا تضعف أن تقول: ليس بمخلوق]؛ لأن الوقوع فيها كفر، وذلك إذا وقعت فيها عالماً بخطورتها، غير مكره ولا مجبر عليها، أما إذا كان الأمر غير ذلك فإنك إن شاء الله تعالى معذور.
ومن العجيب أن مسألة خلق القرآن هذه لا يوجد له ظل، والأمراء والسلاطين والحكام في وادي آخر ليس لهم علاقة بالقرآن ولا بالسنة، والقضية لا تعنيهم، بل لا يعرفها كثير من أهل العلم والدعاة والمشايخ، فلا يعرفون ما معنى القرآن كلام الله غير مخلوق، ولو سألت أحدهم فقلت له: القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ لقال لك: القرآن مخلوق؛ لأنه إذا لم يكن مخلوقاً فماذا سيكون؟ على الرغم أنه شيخ كبير جداً.
ونحن نرى بعض الناس إذا حلف على شيء وضع يده على القرآن وقال: ورب هذا القرآن -ثلاث مرات- فإذا كان الله تبارك وتعالى هو رب هذا القرآن فيلزم من ذلك أن يكون القرآن مربوباً -أي: مخلوقاً- ومن هنا فكأنه يقول: إن القرآن مخلوق؛ لأنه لا يعرف شيئاً، فهو حلف على المصحف ولم يدر ما تبعة ذلك.
قال: [ولا تضعف أن تقول: ليس بمخلوق، فإن كلام الله منه -أي: منه بدأ- وليس منه شيء مخلوق، وإياك ومناظرة من أحدث فيه].
أي: من قال: بأنه مخلوق، فلا تجادله ولا تخاصمه، والعجيب أنك قد تجد نصرانياً في الشارع فتسأله: هل عيسى ابن الله؟ فيرد عليك مغضباً: يا شيخ! إن أردت أن تسأل عن شيء في الدين فاذهب إلى الكنيسة واسأل الأسقف، أما أنا فلا تسألني عن شيء من الدين، ويهرب منك، بينما الواحد منا لا يعرف أي شيء، بل لا يعرف أن يتوضأ وأن يصلي، ويقول: أعرضوا علي ما عندكم، فو الله ما تسألوني عن شيء من أمر الدنيا والدين إلى قيام الساعة إلا وسأفتيكم فيه قبل أن أقوم من مقامي هذا! قال: [وإياك ومناظرة من أحدث في القرآن، ومن قال باللفظ وغيره].
هذه مسألة فرعية، وقد ظهرت في العراق كما ظهر أصل الاعتزال في بلاد العراق، وذلك لما تعرضوا لمسألة القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق؟ فماجت البلاد بهذه الفتنة، واختبر بها العباد وخاصة أهل العلم، كالإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى، وذلك لما خرج من بخارى ودخل العراق، فقال أهلها: سوف نختبر البخاري: هل القرآن مخلوق أم لا؟ فسألوه ذلك بدل أن يستفيدوا منه، ولو أجاب عليهم: بأن القرآن مخلوق، فإنه سيكون له أتباع وأعداء، ولو قال: إنه غير مخلوق، فإنه سيكون له أيضاً أتباع وأعداء، ففي كل الأحوال لا بد وأن تقوم الفتنة، فأجاب فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم أتوا مرة أخرى للبخاري بعد أن سلموا له في الأولى، وقالوا له: ماذا تقول يا إمام في اللفظ؟ هذه بلوى جديدة، وما دام أنه نجح في الأولى فلا بد أن يقع في الثانية.
فقال رحمه الله: لفظي بالقرآن مخلوق.
فأحدثوا ضجة عظيمة، وانصرفوا في الشعاب والأودية يقولون: يقول البخاري: القرآن مخلوق، مع أنهم سألوه عن اللفظ ولم يسألوه عن القرآن، حتى طردوه من العراق، ثم دخل نيسابور، وكان أول ما دخل نيسابور قال محمد بن يحيى الذهلي: عليكم بهذا الرجل، فإنه لن يدخل في بلدكم أفضل منه، وليس هناك أعلى منه إسناداً، فخرجت نيسابور عن بكرة أبيها تستقبل البخاري حتى أدخلوه المدينة، ثم أخذ الناس في حضور مجلسه وترك مجلس إمامهم محمد بن يحيى الذهلي، وقد كان من أعظم تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي الإمام مسلم، فقد أخذ يحضر عند الإمام البخاري، وترك مجلس شيخه الذهلي، ثم بعد مرور فترة من الزمن جاء الحسد والغيرة عند الذهلي، فأخذ يفكر في إخراج البخاري من نيسابور، فكتب الذهلي رسالة وأرسلها إلى السلطان قال فيها: إن فلاناً قد فتن القوم، وإنه يقول: إن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً؛ لأن الاعتزال كان ظاهراً، وكان هو دين السلطة في ذلك الوقت، فلما وشى به عند السلطان أمر البخاري أن يترك البلاد، فجهز متاعه وأدلج ليلاً، وفي اليوم الثاني حضر مسلم مجلس الذهلي، وامتلأ المجلس إلى آخره، لكن الإمام الذهلي أراد أنه يصفي حساباته مع البلد كلها خاصة الإمام مسلم، فقال: من قال بقول البخاري في القرآن فليعتزل مجلسنا.
فعرف الإمام مسلم أنه هو المقصود، والإمام مسلم في الحقيقة كان سريع الغضب حاد المزاج، فكان أول ما سمع هذه الكلمة من الذهلي وقف قائماً في وسط الطلاب، ووضع عمامته على كتفه وخرج من المجلس، ولما رجع إلى البيت برك بعيراً وحمله وقره مما كتبه عن الذهلي.
ولك أن تتصور أن الإمام مسلم قد أخذ عن الذهلي ما يملي دفاتر تبلغ حمل بعير، وأمر الجمال أن يدفع هذه الكتب إلى الذهلي(11/12)
عقيدة ابن حنبل في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج
قال: [ومن وقف فيه فقال: لا أدري أمخلوق أو ليس بمخلوق؟ فإنما هو كلام الله وليس بمخلوق].
قال: [والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام من الأحاديث الصحاح وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه، وأنه مأثور عن رسول الله عليه الصلاة والسلام صحيح].
لا شك أن رؤية الله تبارك وتعالى محالة في الدنيا على العموم والإطلاق، أما رؤية النبي خاصة لربه فالمقطوع به: أنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه في المنام، وقد روي ذلك في مسند أحمد من حديث اختصام الملأ الأعلى، أما رؤيته لربه في الدنيا بعيني رأسه فهي محل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الخلاف لا يبدع به المخالف؛ لأننا لم ندر من المخالف، فمنهم من يقول: إنه رآه بفؤاده.
ومنهم من يقول: إنه رآه بعيني رأسه، وعائشة رضي الله عنها تقول: من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية.
والنبي عليه الصلاة والسلام لما سئل هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنى أراه؟).
أي: نوراً كيف أراه؟ كما وردت آثار بإثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث ابن عباس - لربه في ليلة المعراج، فمن الصحابة من أجرى هذا النص على ظاهره وقال: إن النبي قد رأى ربه عياناً.
أي: رآه بعيني رأسه.
وجمهور أهل السنة ينفون هذه الرؤية بعين الرأس، ويثبتونها بالفؤاد والقلب، ويؤولون رؤيته عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج بأنها رؤية الفؤاد لا رؤية العين.
وأما الرؤية لله عز وجل يوم القيامة وفي الجنة فإنها تكون بعين الرأس، وذلك لكل من دخل الجنة، ولأهل الإيمان في الموقف وفي المحشر، ويحجب عن ذلك الكفار، فلا يرون الله عز وجل.
قال: [رواه قتادة عن عكرمة عن ابن عباس.
ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس.
والحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره، ولا تناظر فيه أحداً].(11/13)
عقيدة ابن حنبل في الميزان
قال: [والإيمان بالميزان، كما جاء: (يوزن العبد يوم القيامة)].
والرواية الصحيحة: (يزن الله تبارك وتعالى العبد يوم القيامة فلا يوزن عنده جناح بعوضة).
ولا شك أن هذه الأعمال التي توزن من الأمور المعنوية، مع أن الأمور المعنوية لا وزن لها في الأصل، بل الذي يوزن الأمور المحسوسة؛ لأنه لا يتصور أن تأتي بهواء وتضعه في كفة الميزان! فالأعمال هذه شيء معنوي ليس محسوساً، لكن كيف توزن؟! سلمها لله عز وجل؛ لأن الله تبارك وتعالى قادر على ذلك، فهو قادر على أن يجعل للأعمال وزناً، فيكون لها ثقلاً وخفة، ولا نعرف كيفية ذلك، بل لا يلزمنا ذلك؛ لأن من أصول السنة عندنا: التسليم والتصديق، وكما أخبرنا الله تعالى بأنه يزن الأعمال فأيضاً يزن العبد بعمله، هذا العبد بلحمه ودمه وعظمه شيء محسوس يوضع في الميزان، فيزن أو يطيش، وهذه بالنسبة لنا ليس فيها إشكال، لكن العبد طاش أول ما وضع في الميزان؛ لأنه لا يزن عند الله جناح بعوضة، لأن الرجل يوزن بعمله وإيمانه، أو بإيمانه وعمله؛ لأن العمل يأتي بعد الإيمان، أليس كذلك؟ بلى.
أولاً: أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يزن الأعمال وإن كانت شيئاً غير مادي؛ لأن هذا له، وهو سبحانه إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون.
ثانياً: أن العبد يأتي يوم القيامة - طول وعرض - لا يزن عند الله جناح بعوضة، فلو وضعت جناح بعوضة في كفة ووضعت هذا العبد البغل في كفة أخرى، لرجحت كفه جناح البعوضة، والله تبارك وتعالى يزن العبد ومعه العمل.
ثالثاً: أن الله تبارك وتعالى يأمر الأعمال أن تتجسد -أي: تأتي في صورة محسوسة- فتوضع في الميزان فيكون لها وزناً, لكن المسألة الإيمانية التي نريد أن نؤكد عليها في وزن الأعمال: أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يزن هذه الأعمال فإنه قادر على ذلك، وعلى النحو التي كانت عليه، سواء كانت محسوسة أو غير محسوسة.(11/14)
اعتقاد ابن حنبل بتكليم الله لعباده يوم القيامة دون ترجمان
قال: [والإيمان به، والتصديق به، والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته].
قال: [وأن الله تبارك وتعالى يكلم العباد يوم القيامة ليس بينهم وبينه ترجمان، والإيمان به، والتصديق به]، وهذا الأمر إن عرضته على العقل فإنه لا يتصوره، لكنه إخبار الذي لا ينطق عن الهوى، فقد جاء في حديث ابن عمر في الصحيحين أنه قال: (وإن العبد المؤمن يؤتى به يوم القيامة بين يدي ربه، حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، يا عبدي! فعلت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! ويسأله مرة ثانية وثالثة، والعبد يقول: نعم يا رب! حتى يظن العبد أنه قد هلك؛ لأن صحيفته كلها منشورة، ولا يستطيع أن ينكر منها شيئاً، وإلا ختم الله على فيه فتتكلم أعضاؤه وجوارحه، ثم يقول المولى عز وجل: قد سترتها عليك في الدنيا واليوم أغفرها لك).
فهذا كلام مباشر بين العبد وربه؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: (ليس بينهما ترجمان).
أي: ليس هناك أحد يترجم بين العبد وربه، وكل الناس إما أن يتكلموا بلغة واحدة لغة القرآن، وإما أن يخاطب الله تبارك وتعالى كل شخص كل على قدر فهمه وعقله.(11/15)
عقيدة ابن حنبل في الحوض
قال: [والإيمان بالحوض، وأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً يوم القيامة ترد عليه أمته، عرضه مثل طوله مسيرة شهر]، قوله: (مسيرة شهر) هل هو للراكب المسرع، أو البطيء، أو الذي يمشي على رجليه، أو الذي يركب دابة، أو غير ذلك؟ الله أعلم، وإنما نؤمن بأن هذا الحوض طوله مثل عرضه.
قال: [آنيته عدد نجوم السماء].
أي: أن أوانيه عدد نجوم السماء، وماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربة واحدة لا يظمأ بعدها أبداً.
أي: لا يحتاج أن يشرب بعدها أبداً حتى في الجنة.(11/16)
عقيدة ابن حنبل في عذاب القبر وفتنته
قال: [والإيمان بعذاب القبر -أي: الإيمان بإثبات عذاب القبر- وأن هذه الأمة تفتن في قبورها، وتسأل عن الإيمان، وعن الإسلام، ومن ربه؟ ومن نبيه؟ ويأتيه منكر ونكير، كيف شاء الله عز وجل وكيف أراد.
والإيمان به والتصديق به].
وهذا الأمر أيضاً لو عرضته على العقل فإنه لا يتصوره، ولربما حار في ذلك، لذا يلزم العبد المسلم الإيمان والتسليم، وإلا ضل والعياذ بالله، والمعتزلة ما وقعوا في هذا الضلال إلا بسبب أنهم قالوا: لم؟ وكيف؟ وكذلك عندما نعرف قول النبي عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا).
أي: أن الأصل أنك لا تدفن في قصر وغيرك أيضاً في العالية الواسعة، ووقتها ممكن نقول: إن منكراً ونكيراً سيأتون؛ لأن المكان سيسعهم، بينما اللحد صغير لا يمكن أن يسعهم! ثم لو أتى منكر ونكير فأين سيجلسون؟ وكيف سيكلمونه؟ وكيف يجلسون هذا الميت حتى يسألوه؟ إن كلمة (كيف) لا بد وأن تؤدي بك إلى الشك والاعتراض على كتاب الله وعلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لذا يجب على المسلم تجاه هذه الأمور وأمثالها أن يؤمن ويسلم، فهذا جبريل عليه السلام له ستمائة جناح، والجناح الواحد يسد الأفق ما بين السماء والأرض، فلو أنه ظهر على حالته هذه وأخذت تنظر في السماء فلن ترى شمساً ولا قمراً ولا نجوماً ولا أي شيء؛ لأنه قد سد الأفق، وحجب الرؤية عن السماء، فهل أيضاً ستقول: كيف ذلك؟ وكيف أن جبريل يأتي في صورة رجل؟ فيسأله النبي الكريم عن الإيمان والإحسان، والصحابة ينظرون إليه.
إذاً: كلمة (كيف) تصدر من جاهل ضارب في أعماق الجهل وأطناب الجهل، وإما من إنسان شاك ومعترض على كل شيء، مثل: طه حسين، يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) فيشك فيها، ويقول: لماذا بسم الله؟ لماذا لا تكون: باسمك اللهم؟ ومع ذلك لو كانت: باسمك اللهم يشك فيها أيضاً، ولقال: لماذا لم يكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم؟ ولذلك لم يثبت أن أحداً ممن ينسب للدين والعلم أهان كتاب الله وشك فيه كما شك فيه طه حسين، وقد كتبوا في جريدة الشعب قبل سبع أو ثمان سنوات أنه لما هلك هذا الأديب أخذت زوجته الفرنسية أولادها منه وانصرفت إلى بلدها، وبعد ذلك أتوا بخبر أن ابن طه حسين ذهب إلى الكنيسة وأعلن نصرانيته وارتد عن دين الإسلام، وغضبت الناس! مع أن أباه كان نفس الشيء، والولد أخذ ذلك من أبيه وأمه.(11/17)
عقيدة ابن حنبل في خروج الدجال وقتل عيسى عليه السلام له
قال: [والإيمان أن المسيح الدجال خارج ومكتوب بين عينيه: كافر].
أو (ك ف ر)، والمسيح الدجال أعظم فتنة منذ أن بعث الله تعالى نبيه إلى قيام الساعة، إن لم يكن هناك أعظم منها.
قال: [والأحاديث التي جاءت فيه، والإيمان بأن ذلك كائن -أي: لا بد وأن يكون- وأن عيسى بن مريم عليه السلام ينزل فيقتله بباب لد].
فيكون التزامن والتعاصر حاصل بين خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام.(11/18)
عقيدة ابن حنبل في الإيمان
قال: [والإيمان قول وعمل يزيد وينقص كما جاء في الخبر (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)]، فمن كان خلقه حسناً فإيمانه أعلى من إيمان رجل ليس بحسن الخلق.(11/19)
عقيدة ابن حنبل في حكم تارك الصلاة
قال: [من ترك الصلاة فقد كفر].
ولا شك أنه كافر، وقد اختلف أهل العلم في نوع كفره، والجميع -أي: الأمة بأسرها- أثبتوا أن تارك الصلاة كافر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث جرير: (من ترك الصلاة فقد كفر وأشرك).
واختلافهم واقع في نوع الكفر: هل هو كفر عمل أو كفر اعتقاد؟ كفر يخرج به صاحبه من الملة أم لا يخرج؟ فقال الحنابلة وبعض أهل العلم: بأنه كافر خارج عن ملة الإسلام.
وقال جمهور علماء الأمة: أن كفره كفر عملي لا يخرج به صاحبه، وأنا أقول: يكفي تارك الصلاة عاراً أن أهل العلم اختلفوا فيه: هل هو مسلم أو كافر؟ قال: [ومن ترك الصلاة فقد كفر، وليس من الأعمال شيء تركه كفر إلا الصلاة، من تركها فهو كافر وقد أحل الله قتله].(11/20)
خير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام
قال: [وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان] كما ورد ذلك عند البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر: كنا نخير بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنختار أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم يأتي من بعدهم علي بن أبي طالب.
قال: [نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في ذلك.
ثم من بعد هؤلاء الثلاثة: أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص كلهم يصلح للخلافة، وكلهم إمام.
ونذهب إلى حديث ابن عمر -في التفاضل-: كنا نعد -ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأصحابه متوافرون- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت.
ثم من بعد أصحاب الشورى: أهل بدر من المهاجرين، ثم أهل بدر من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، على قدر الهجرة والسابقة، أولاً فأولا.
ثم أفضل الناس بعد هؤلاء: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم.
كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، وكانت سابقته معه، وسمع منه، ونظر إليه نظرة.
فأدنهم صحبة -أي: أدنى الصحابة، ولو بمجرد النظر فقط إلى وجه النبي عليه الصلاة والسلام تثبت به الصحبة- هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال].
لأن صحابياً واحداً أفضل من القرن الذي يأتي من بعده، مع أن هناك فرقاً بين الأفضلية وبين العلم، فالصحابة أفضل من غيرهم من سائر الأمة، وهذا بالاتفاق، لكن فيهم من لم يطلب العلم، وغير الصحابة بلغوا ذروة العلم.
إذاً هناك في الأمة من هو أعلم من كثير من الصحابة، لكن من ثبتت له الصحبة فهو أفضل من هذا العالم وغيره ممن لم تثبت له الصحبة، ولا أقول: أعلم من كل الصحابة؛ لأن الصحابة كان فيهم أوتاد في العلم، إذ الواحد فيهم يربي أمة بأسرها، ولو كان ذلك بلحظه دون لفظه، وخير مثال على ذلك: القضايا العظيمة التي كانت تطرح على أبي بكر وعمر، فكان يحلها أحدهم بكلمتين أو ثلاث كلمات، بينما نحن قد نجلس نأخذ ونعطي فيها إلى يوم القيامة ولا نجد لها حلاً، فمثلاً: لو كانت قضية فلسطين هذه موجودة في زمن أبي بكر أو في زمن عمر لكانت حلت في وقتها، ولم يكن لها ظل، ونحن نعرف كيف فتحها عمر، لا سلام ولا أمان، ولا صحبة، ولا صداقة، ولا ديمقراطية، كل هذا الكلام كذب وخداع لهذه الأمم والشعوب الإسلامية، وهذا الكلام لن ينطوي أبداً على أبي بكر وعمر؛ لأن القرآن أخبره أن اليهود والنصارى لن ترضى عنه وعن المسلمين، فقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
أي: لا بد أن تكون يهودياً مثلهم، ولا بد أن تكون نصرانياً مثلهم، حتى يرضوا عنك.(11/21)
عقيدة ابن حنبل في السمع والطاعة لكل أمير بر أو فاجر
قال: [والسمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين البر والفاجر].
أما البر فلبره وطاعته لربه، وأنه لا يأمر إلا بطاعة الله ورسوله، وإلا فلماذا وصف بالبر؟ لأنه ما من عمل يبر به كتاب الله وسنة رسوله إلا وهو مقبل عليه، فيأمر أمته وينصح لهم، وأما الفاجر فالطاعة له لازمة، والفجور هنا متوقف عند حد الفسق، أما الكفر فلا بد وأن تجتمع الأمة على خلعه، وتعيين إمام آخر وإن كان فاجراً، وتأثم الأمة بأسرها إذا لم تجتمع على خلعه؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فلا يجوز لأحد من الكفار أن يتولى إمرة أهل الإيمان قط، فإن كان الإمام براً طائعاً عاملاً بالكتاب والسنة، آمر بهما، ناهياً عن غير ذلك، فإن الطاعة له واجبة، والطاعة واجبة للإمام الفاجر ما لم يبلغ فجوره حد الكفر؛ وذلك حقناً لدماء المسلمين، وجلباً للمصالح ودرءاً للمفاسد.
قال: [والسمع والطاعة للأئمة، وأمير المؤمنين البر منهم والفاجر، ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به.
ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين].
أي: أن الأصل أن مجلس الشورى يجتمع فيختار الخليفة، لكن في واقعنا اليوم: أن الرجل يدفع الرشاوى، ويسرق من هنا، ويؤلب من هناك، من أجل أن ينجح في الانتخابات، وهو شخص صعلوك، أو شخص هلفوت، لذا فالأصل أن يحمل الخليفة حملاً على تولي هذه المهمة والرسالة، ومن طلبها لا بد وأن يحرمها؛ لقول النبي الكريم: (إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه).
لكن: شخص خرج بشلة وعصابة، وبين يوم وليلة جلس على الكرسي، وأصبحت السلطة بين يديه، والعدة والعتاد، ومن تكلم فيه بكلمة واحدة دمر البلد كله فوق رأسه، لذا نحن نسمع ونطيع حقناً لدماء الأمة كلها.
وتولية الخليفة إما عن طريق الاختيار والبيعة، وإما أن عن طريق القهر والغلبة، وفي الحالتين يجب السمع والطاعة، في الأولى؛ لأنه طائع، وفي الثانية؛ لأنه يملك إراقة دماء المسلمين.
قال: [والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر، لا يترك.
وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة]، أي: لا يصح إقامة الحدود من قبل عامة الناس، فلو أنك دخلت على زوجتك ووجدت عندها رجلاً، فأنت مباشرة سوف تقيم عليه حد الزنا، لكن هو لم يزن، وكذلك حد القذف، هو لم يقذف، وحد السرقة، وهو لم يسرق ولم تتوفر شروط السرقة في هذا الحادث، وحد القتل، هو لم يقتل، لكنه ساعد أو أشار بالقتل، لذا فلكل حد ظروفه وأركانه وشروطه، لا بد من توفرها، وأدنى شبة تدرأ هذا الحد، ولو أن هذا الأمر أوكل إلى عامة الناس لاجتهدوا جميعاً في إثبات الحد وإقامته، وخاصة مسائل التكفير ومسائل الردة، فلو أن شخصاً قال كلمة هي في نظرك ردة، وعليه فيقتل، لكن لو هو في نظرك مرتد فأنت أيضاً في نظره مرتد، وتصبح نصف الأمة في نظرها أن النصف الثاني مرتد، والنصف الثاني في نظرها أن الأول أيضاً مرتد، فهل يتصور أن الأمة تقوم كلها على بعضها، فتدمر نفسها ويحطم بعضها بعضاً؟ نعم يتصور ذلك إذا أسند إقامة الحد إلى عامة الناس، لكن إن أسند إقامة الحد إلى الوالي أو السلطان فلا، بينما التعزير قد يقوم به السلطان أو غير السلطان، ومن الخطورة بمكان أن ترى رجلاً يقيم الحد على ولده أو امرأته أو غيرهما.
قال: [وقسمة الفيء -أي: توزيع الغنائم- وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم.
ودفع الصدقات إليهم جائزة ونافذة، من دفعها إليهم أجزأت عنه، براً كان أو فاجراً.
وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولى جائزة تامة ركعتين من أعادهما فهو مبتدع].
وقد ذكرنا صلاة أنس والبراء وعبد الله بن عباس خلف الطاغية الكبير: الحجاج الثقفي.(11/22)
عقيدة ابن حنبل في الخروج على السلطان
قال: [ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج مات ميتة جاهلية.
ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه].
وتأمل هذا الكلام للإمام أحمد بن حنبل وهو الذي تعرض لفتنة كانت أعظم فتنة بعد فتنة المرتدين في عهد أبي بكر، إذ لم يكن الضرر له أو لبعض الناس، بل كانت فتنة ماجت بها البلاد والعباد، وتوقف عليها استقامة عقيدة الأمة أو فسادها وانحرافها، ومع هذا فالذي يقول هذا الكلام هو الذي تعرض لهذه الفتنة هذا التعرض العظيم، فهذا الخليفة المعتصم أركب أحمد حماراً بالمخلوف.
أي: كان وجه أحمد في دبر الحمار، ومشى به في شوارع بغداد كلها، لكن ثبت الله تبارك وتعالى هذا الإمام العظيم، وكان يقول: أنا من أنا؟ من عرفني فقد عرفني، ومن لا يعرفني فأنا أحمد بن حنبل، القرآن كلام الله غير مخلوق، فانظر إلى أين وصل به الإصرار على الحق مع الإهانة والتعذيب؟ لأنه ليس شخصاً من عامة الناس، بل هو إمام يشار إليه بالبنان، وقوله دين إلى يوم القيامة.
قال: [ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق]، ولا بد أن تفرق بين حبك للإسلام وغيرتك عليه وعلى ما نزل بالمسلمين، وبين الخروج على السلطان، إذ إن حبك للسنة وشفقتك على ما وصلت إليه الأمة لا يحل لك أن تخرج، ونحن أيضاً نعرف نتيجة الخروج وما جلب للأمة من متاعب ومشكلات.(11/23)
عقيدة ابن حنبل في دفع الصائل
قال: [وقتال اللصوص والخوارج جائز إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله، فله أن يقاتل عن نفسه وماله، ويدفع عنها بكل ما يقدر عليه.
وليس له إذا فارقوه أو تركوه أن يطلبهم، ولا يتبع آثارهم، ليس لأحد إلا للإمام، أو ولاة المسلمين، إنما له أن يدفع عن نفسه في مقامه ذلك وينوي بجهده ألا يقتل أحداً، فإن أتى عليه في دفعه عن نفسه في المعركة، فأبعد الله المقتول، وإن قتل هذا في تلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله رجوت له الشهادة كما جاء في الأحاديث].
هذا الكلام يعبر عنه الفقهاء بـ (دفع الصائل).
أي: الظالم الباغي الذي هجم على بيتك ليسرقه ظناً منه أنه ليس هناك أحد في البيت، أو أنه رتب أموره وأخذ في حسبانه أنه يحتاج إلى العدة معه، فهو عمل حسابه أنه سوف يسرق، لكن لو كان هذا الرجل يدفع بالتخويف، كأن حس أن هناك أحداً في البيت، أو أن صاحب البيت مستيقظ، ولم يتخذ صاحب البيت أقل جهد، وأنه سوف يخاف ويخرج، فأنا أقول: هل يجوز لك أن تجري خلفه؟
الجواب
لا.
لأنه إذا دفع بوسيلة خفيفة فلا يجوز لك أن تستخدم الوسيلة الأعلى معه، فإذا كان يدفع بالخوف فلا يحل لك بعد أن خاف وولى مدبراً أن تولي خلفه، وأن تسرع وتهرول لتضربه وتقتله، وإن كان الصائل لا يدفع إلا بالضرب فلا يجوز لك أن تضربه بالسكين، وإن كان لا يدفع إلا بالسكين فلك ضربه بالسكين، وإن كان لا يدفع إلا بالقتل جاز لك أن تقتله، وعليه فلا تنتقل إلى الوسيلة الأعلى إلا بعد فشل الوسيلة الدون؛ لأن المقصود: ألا يقع عليك منه ضرر.(11/24)
عقيدة ابن حنبل في الشهادة بالجنة أو النار لأحد من أهل القبلة
قال: [ولا يشهد على أهل القبلة بعمله يعمله بجنة ولا نار، وإنما يرجو للصالح ويخاف عليه، ويخاف على المسيء المذنب ويرجو له الرحمة].
وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة.(11/25)
عقيدة ابن حنبل في مرتكب الكبيرة
قال: [ومن لقي الله بذنب يجب له به النار تائباً غير مصر عليه، فإن الله عز وجل يتوب عليه، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات].
عقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة: أن مرتكب الكبيرة قد خالفت فيه فرقتان عظيمتان: الخوارج والمعتزلة، بينما أهل السنة يعتقدون أن صاحب الكبيرة لا يكفر بكبيرته، وإنما هو مسلم فاسق عاص بكبيرته، ففيه جانب إيمان وجانب فسوق، فإن تاب فيما بينه وبين الله تاب الله عليه، وإن أقيم عليه الحد فالحد كفارته، ولا يسأله الله تبارك وتعالى عن هذا الذنب يوم القيامة، بل يقيله من صحيفته تماماً، وإن مات مصراً على هذه الكبيرة وهو معتقد حرمتها فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن مات مصراً عليها غير معتقد لحرمتها بعد قيام الحجة الرسالية عليه، وأن الله ورسوله قد حرما ذلك، لكنه عاند وجحد وأصر، فقد خرج من الملة؛ لأنه في هذه الحالة قد أنكر ما علم من الدين بالضرورة، وقد أحل ما حرم الله عز وجل.
قال: [ومن لقيه كافراً عذبه ولم يغفر له].
واليهود والنصارى كفار قولاً واحداً، لكن ربما عامة الناس يقولون: هم أتباع نبي ونحن أتباع نبي، وعلى ذلك فهم على الإسلام! لا إن اليهود والنصارى كفار قولاً واحداً، ومآلهم إلى النار خالدين فيها.(11/26)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - عقيدة الإمام ابن المديني
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم خير الناس بعد الأنبياء، وقرنهم هو خير القرون، وأدناهم صحبة أفضل من الذين لم يروه، ثم يليهم في الفضل التابعون الذين حملوا لواء الدفاع عن الكتاب والسنة، ووقفوا أمام البدع والشبهات، وعلى هذا سار من بعدهم من أئمة الدين وحفاظ الحديث، يثبتون لله ما أثبته لنفسه في كتابه وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويؤمنون بالغيب.(12/1)
اعتقاد علي بن المديني
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً عن مجمل اعتقاد السلف رضي الله تعالى عنهم، وقد ذكرنا في اعتقادهم عدة مسائل، ووعدنا ألا نعيد هذه المسائل في عقيدة كل من نذكر، وسردنا عقيدة سفيان الثوري، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وابن عيينة وغيرهم.
وهنا سنذكر عقيدة الإمام الكبير العلم الجبل إمام النقد علي بن عبد الله بن جعفر المديني، وهو من أئمة الجرح والتعديل العظام، بل هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو شيخ الإمام البخاري، وقرين أحمد بن حنبل.(12/2)
عقيدة علي بن المديني في الصحابة الكرام
سئل علي بن المديني عن عقيدته، فقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن بسطام: [سمعت سهل بن محمد قرأها على علي بن المديني -أي هذه العقيدة- فقال له: قلت: أعزك الله: السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يأخذها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها].
ثم ذكر أشياء كثيرة قد ذكرناها ولكنه زادها هنا إيضاحاً.
ومن هذه الخصال: الإيمان بأن النبي عليه الصلاة والسلام سيشفع عند ربه يوم القيامة لعصاة هذه الأمة الذين استحقوا دخول النار، أو دخلوا النار بالفعل.
ثم ذكر بعد ذلك موقف هذه الأمة من الصحابة رضي الله عنهم من حيث تبجيلهم وتوقيرهم واحترامهم وحبهم، وبغض من أبغضهم، والذب عنهم بكل سبيل.
ثم قال: [وأفضل الناس بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بعث فيهم كلهم].
يعني: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا في القرن الذي بعث فيه النبي عليه الصلاة والسلام.
قد اختلف أهل العلم في معنى (القرن): هل هو مائة عام أو خمسون عاماً أو أقل من ذلك أو أكثر أو طبقة من الطبقات؟ ففي علم المصطلح: الطبقة هم قوم تقاربوا في السن وتشابهوا في الصفات.
يعني: لا يمكن أبداً أن آتي برجل من كبار علماء الأمة وطالب علم، ثم أقول: إنهما من طبقة واحدة؛ لأن ذاك الرجل الكبير العالم أدرك من أهل العلم ما لم يدركه ذلك الصغير، وهذا الصغير لم يشترك مع ذاك الكبير في شيوخه، ولم يعاصر أحداث الدولة الإسلامية كما عاصرها الكبير، فلا يمكن أبداً أن أضع ذلك الصغير مع هذا الكبير في مرتبة واحدة، ولا في منزلة واحدة، وإنما يصح هذا إذا كان أحدهما يبلغ من العمر ستين عاماً، والآخر سبعون عاماً، وهذا الأخير طلب العلم مع الأول، فكلاهما أدركا طبقة معينة من الشيوخ، وحينها أقول: إن هذين قد اجتمعا في طبقة واحدة.
فهنا قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني).
(القرن) إن كان الطبقة فلاشك أن أصغر الصحابة طبقة، والصحابة (12) طبقة وليسوا طبقة واحدة، فليس البدري كمن شهد أحداً، وأصحاب البيعة يأتون بعد من شهد بدراً، ويتقدمون على من شهد أحداً.
ثم كبار الصحابة والذين لازموه صلى الله عليه وسلم ليسوا كمن أتى من البادية فرآه مرة ثم انصرف، وليس هذا الذي أتى من البادية فسأل فسمع جواب مسألته فعقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فأخذه وانصرف، كمن ولد فجيء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الطفل المولود حديثاً جيء به ونظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام فثبتت له بذلك الصحبة، حتى وإن كان أعمى العين لم يره، المهم أنه وضع في حجر النبي عليه الصلاة والسلام ودعا له بخير وسماه، فلا يعد كبير الأعراب وصاحب البادية كذلك الطفل الرضيع الذي أتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فالصحابة أنفسهم وإن اشتركوا في وصف الصحبة إلا أنهم يتفاوتون في المرتبة، ويتفاوتون في الطبقة، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني).
هذا القرن إن كان المقصود به مائة عام، فلا شك أن هذه المائة عام قد ولد فيها من التابعين الكثير.
وعند إطلاق هذا الكلام أنت تتصور أن هذا المقطع من الحديث المقصود به الصحابة على جهة الخصوص.
يعني: لا يشاركهم فيه غيرهم، وهذا خطأ، لأنه إذا كان المقصود من القرن مائة عام فلا شك في دخول بعض التابعين بل جل التابعين، فيكونوا ضمن أخير القرون.
وإن كان المقصود بالقرن الأول: الطبقة.
فإذاً يطلق هذا على طبقة الصحابة، ثم طبقة التابعين، ثم طبقة أتباع التابعين وإن كان كل واحد منهم يتفرق إلى طبقات متعددة، ولكنه كلام على سبيل الجملة دون التفصيل.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي رواية أنه قال: (ثم الذين يلونهم لا أدري أهي الثالثة أم الرابعة؟).
فقول علي بن المديني: [أفضل الناس بعد أصحاب رسول عليه الصلاة والسلام القرن الذي بعث فيهم كلهم، من صحبه سنة أو شهراً أو ساعة أو رآه أو وفد إليه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه، فأدناهم صحبة هو أفضل من الذين لم يروه، ولو لقوا الله عز وجل بجميع الأعمال].
يعني: أن أدنى صحابي رؤية وصحبة للنبي عليه الصلاة والسلام هو من جهة الفضل والبر أولى من كل التابعين، حتى وإن لم يبق من أعمال الخير شيء إلا وقد أتوه، فإن الصحابي أفضل من ذلك كله.
فإذا كان الصحابي الواحد أفضل من بقية الأمة إن كان عاملاً بالبر والطاعة -وهو كذلك- فكيف بمن يتجرأ على أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ويسبهم ويشتمهم ويلعنهم، بل ويكفرهم؟ لا شك أن الذي يفعل ذلك قد خرج بكليته عن الهدي والاستقامة والجادة، بل والملة.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد بين لهذه الأمة أنها مهما عملت من خير فإنها لن توفي حق الصحابة رضي الله عنهم، فما بالكم بحق النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد(12/3)
عقيدة علي بن المديني في محبة أبي هريرة
ثم تكلم علي بن المديني عليه رحمة الله عن مسائل كثيرة قد تكلمنا عنها، ولكنه تكلم عن مسائل وفصل فيها تفصيلاً قال: [وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة ويدعو له، ويترحم عليه، فارجو خيره، واعلم أنه بريء من البدع].
ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا أبا هريرة! والله لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق).
انظروا إلى هذا الحديث! ففيه منقبةٌ عظيمة لـ أبي هريرة، فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام محبته رمزاً وآية وعلامة على إيمان صاحب ذلك الحب، فإن أبا هريرة قد أبغضه الكثير، وتكلموا عليه قديماً وحديثاً، وإنما حملهم على ذلك بغضهم وحقدهم على الإسلام وأهله.
أبو هريرة أعظم راوية في الإسلام، وهو الذي روى عن النبي عليه الصلاة والسلام جملة مستكثرة بلغت الآلاف المؤلفة، حتى قيل: إننا لو رددنا أحاديث أبي هريرة كان لزاماً علينا أن نرد نصف الدين أو ثلثاه.
واحد من الصحابة رضي الله عنهم يروي نصف الدين، فهل يتصور أن يطعن أحد في هذا الراوي؟ لأن الطعن لا يتوقف عند حد الطعن في شخص أبي هريرة، ولكن المقصود منه فقدان الثقة بـ أبي هريرة، فإن فقدنا الثقة فيه فلابد أن نفقد الثقة في روايته، وبالتالي: من طعن في أبي هريرة لابد وأن يكون منافقاً بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم الغرض من الطعن في أبي هريرة: رد دين الله عز وجل؛ لأنه لم يكن هناك عداوة شخصية بين الطاعن وبين أبي هريرة لأنه لم يره، ولم يعاصره ولم يجالسه، إنما أتى من بعده، وإنما الحقد على الدين، وهذا هو الذي حملهم على أن يطعنوا فيه بكل سبيل وطريق وحيلة، فما كان أمامهم إلا أن يطعنوا في أبي هريرة، وأنتم تعلمون أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، فالذي طعن في أبي هريرة وجد له أنصاراً أخذوا عنه هذا الطعن، ومدرسة الاستشراق لما أتت إلى بلاد المسلمين وترجمت كتب العلم الشرعية علموا خطورة أبي هريرة، وعلموا أهمية أبي هريرة في دين الله عز وجل؛ لكثرة رواياته، ولتفرده برواية أحكام هي من الثبات واليقين عند المسلمين بمكان، فأرادوا أن يزعزوا الثقة في أبي هريرة، وتبعهم على ذلك كثير ممن انتسبوا إلى العلم، وانتسبوا إلى الأزهر كصاحب الحسين وأبي رية وغيرهم من المعاصرين الذين تبعوا أجيال المستشرقين ونهجوا نهجهم، وساروا خلفهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى دخلوا في جحر الضب وفي بؤرة النفاق والفساد والشك في دين الله عز وجل تبعاً لأسيادهم ولعلمائهم ومشايخهم من أهل الكفر والإلحاد والزندقة.
فهنا قال: [وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة، ويدعو له، ويترحم عليه؛ فارجُ خيره، واعلم أنه بريء من البدع].
إذاً: لا يمكن أبداً لمحب أبي هريرة أن يكون من أهل البدع.(12/4)
عقيدة علي بن المديني في حب عمر بن عبد العزيز
قال: [وإذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها، فاعلم أن وراء ذلك خيراً إن شاء الله].
وعمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله بلغ من الفضل والعلم مبلغاً عظيماً، وكان من جلة علماء المسلمين، ومن كبار المحدثين، ولكنه بعد أن تولى الولاية شغلته السلطة وشغله الحكم عن الحديث، وليس معنى ذلك أنه ترك الحديث وانصرف عنه كلية، وإنما كان يحدث ويتحرى الحديث، وينظر في أحوال الرجال بعد إمامته، ولكنه لم يكن بذاك القدر الذي كان عليه قبل الخلافة، فـ عمر بن عبد العزيز قبل أن يكون والياً وسلطاناً كان من أهل العلم الثقات الأثبات، فهو جبل من جبال الحفظ، وتزهد بعد أن تولى الرئاسة، على عكس ما كانت عليه الدولة الأموية من الغنى والثراء، بل كانوا يحملون عمر بن عبد العزيز على الكبر ويدربونه كيف يكون متكبراً.
وبعد أن تولى الخلافة تأسف على كل ذلك، وعاد إلى أصله الفطري، وقال سبحان الله: ما أسوأ قوماً يعلمون أبناءهم كيف يتكبرون! وعمر هو الذي حمل أهل بيته وحمل أولاده على أن يكونوا آخر الأمة تنعماً ورفاهية، وما أظن أنهم ترفهوا قط.
مع أن الأمة الإسلامية اتسعت أكثر في عهد عمر بن عبد العزيز، ولكنه قام على حراسة هذه الدولة خير حراسة رغم انشغاله بالسلطة والخلافة، ولكنه ما تشاغل عن متابعة أطراف الدولة شرقاً وغرباً، فكانت تبلغه الأخبار كل يوم، وكان يأتيه البريد في كل ساعة؛ لشدة حرصه على أحوال رعيته؛ لأنه يعلم أنه مسئول عنها بين يدي الله عز وجل مسئول عن الدابة فكيف بالإنسان الذي صار دمه في هذا الزمان أرخص من دم الكلب؟!(12/5)
عقيدة علي بن المديني في محبة التابعين والتأسي بهم
قال: [وإذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن وراء ذلك خيراً إن شاء الله.
وإذا رأيت الرجل يعتمد من أهل البصرة على أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، ويونس، والتيمي ويحبهم ويكثر ذكرهم والاقتداء بهم فارجُ خيره].
لأن هؤلاء هم الذين نشروا السنة وحثوا عليها وذبوا عنها في البصرة.
قال: [ثم من بعد هؤلاء حماد بن سلمة ومعاذ بن معاذ، ووهب بن جرير، فإن هؤلاء محنة أهل البدع].
يعني: أهل البدع في بلاء وشدة وكرب بسبب هؤلاء الأحياء، فإذا ماتوا فرحوا فرحة عظيمة، كما حدث عندما مات كثير من أهل العلم في الأزمنة المتأخرة، فقد ضربت طبول الفرح في بلاد الكفر شرقاً وغرباً لقتلهم والتمثيل بهم والتنكيل بهم في بلاد المسلمين هنا وهناك؛ لأن هؤلاء غصة في حلوق الكافرين في الداخل والخارج، فلما ماتوا ولما حبسوا، وشردت أسرهم كان في ذلك قرة عين الكافرين، وهذه سنة الله تبارك وتعالى في أهل التوحيد منذ خلق الله تبارك تعالى آدم عليه الصلاة والسلام.
قال: [وإذا رأيت رجلاً من أهل الكوفة يعتمد على طلحة بن مطرف، وابن أبجر وابن حيان التيمي، ومالك بن مغول، وسفيان بن سعيد الثوري، وزائدة بن قدامة فارجه].
يعني: فارج خيره، واعلم أنه على خير عظيم؛ لأن هؤلاء هم أهل السنة.
قال: [ومن بعدهم عبد الله بن إدريس، ومحمد بن عبيد، وابن أبي عتبة، والمحاربي فارج] أي: فارج خيره كذلك.
قال: [وإذا رأيت الرجل يحب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه، فلا تطمئن إليه وإلى من يذهب مذهبه ممن يغلو في أمره ويتخذه إماماً].
الذي ينظر إلى هذا النص لأول وهلة ربما يفهم منه استحباب ذم أبي حنيفة، ولكن لابد أن تعلم أولاً أن علي بن المديني الذي نحن بصدد سرد عقيدته كانت بينه وبين أبي حنيفة مشاحنة ومباغضة؛ لأن علي بن المديني كان إمام مدرسة الأثر.
يعني: لا يلبس ثوبه إلا بدليل، ولا يخلعه إلا بدليل، بينما أبو حنيفة رحمه الله كان يميل إلى الرأي كثيراً، ويعمل عقله في النص.
يعني: يجتهد في مقابل النص، والاجتهاد نوعان: اجتهاد مع النص، واجتهاد في النص، وبينهما فرق كما بين السماء والأرض، فلا يحل لواحد أن يجتهد بخلاف دليل قد ورد في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لا يحل لعالم أن يخالف دليلاً قد بلغه وصح عنده ولم يكن مؤولاً، وغير ذلك من أعذار أهل العلم في تخلفهم عن العمل بالدليل الذي بلغهم.
فهنا نقول: الدليل لا يمكن لأحد أن يخالفه.
أي: لا يحل له أن يخالفه إذا بلغ أو صح عنده.
ثم الاجتهاد في النص بمعنى: إعمال العقل في فهم النص على مراد الله إن كان آية، وعلى مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان حديثاً.
والاجتهاد مع النص.
أي: أن يأمرك النص بأمر وأنت تذهب إلى أمر آخر مع وجود الدليل وصراحته، فهذا اجتهاد غير سائغ، ولذلك أنتم تعلمون هذا القول المشهور: (لا قياس مع النص).
أو: (لا اجتهاد مع النص).
يعني: لا يحل لك أن تجتهد في مسألة النص فيها واضح، ولك أن تجتهد في فهم الدليل وفهم النص، فمثلاً: الحديث الفلاني أنا أسرد لك معناه والمراد منه على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، وفهماً ومسايرة لفهم أهل العلم من السلف لهذا الدليل.
بخلاف قولي: (أنا لا أرى هذا الدليل).
لأن هذا الدليل غير معقول.
يعني: فوق حد عقلي لذا أنا لا أتصوره، ولذلك أنا سأرد هذا الدليل وأقول في المسألة المطروحة برأيي.
فهذا الرأي وهذا الاجتهاد والإعمال العقلي مردود؛ لأنه اجتهاد مع النص، أما اجتهادك أنت في فهم النص فهو مقيد بفهم السلف، وهذا هو العقل الممدوح الذي مدحه الله تبارك وتعالى في كتابه، ومدحه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته وحث الله تبارك وتعالى عليه.(12/6)
عقيدة علي بن المديني في الأخذ بالرأي
قال: [وإذا رأيت رجلاً يحب أبا حنيفة، ويحب رأيه وينظر فيه، فلا تطمئن إليه].
لأنه يميل أيضاً إلى إعمال الرأي في وجود النص، وأبو حنيفة رحمه الله وقع في شيء من هذا، ولكن أبا حنيفة عليه رحمة الله لم يكن محدثاً بالقدر الكافي، ولم يبلغ في التحديث مبلغ أحمد، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا ابن المديني، ولا البخاري.
ولاشك أن البخاري متأخر عنه، ولكني ذكرته حتى أبين أن هؤلاء العلماء قد بلغوا مرتبة عظيمة في علم الأثر لم يبلغها أبو حنيفة، خاصة أن أبا حنيفة لم يرحل في طلب العلم، ولم يثبت له انتقال من الكوفة إلا إلى مكة والمدينة في موسم الحج.
وقيل: إنه رأى أنس بن مالك ولكنه لم يرو عنه.
ولا يعني ذلك أن أبا حنيفة رجل سوء، وينبغي طيه وإلقاؤه في الطرقات أو على المزابل؛ لأن بعض الناس إذا قرأ هذا يفهم ذلك، وهذا بلا شك خطأ، ولذلك أنا أحب عند ذكر أبي حنيفة أن ألفت الأنظار إلى قراءة رسالة في غاية الأهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية اسمها: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).(12/7)
اعتقاد أبي ثور
يقول أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم: [أرسل رجل من أهل خراسان إلى أبي ثور بكتاب يسأل عن الإيمان ما هو؟] تصور أن واحداً يبعث من آخر الدنيا برسالة يسأل فيها إماماً عن الإيمان ما هو؟ هذا يعني أن الأمر عظيم.
قال: [وهل هو يزيد وينقص؟ وهل هو قول أو قول وعمل، أو قول وتصديق وعمل؟].
فأجابه بأجوبة عظيمة جداً قد ذكرناها في عقائد من تقدموا، فلا داعي لنذكرها، ولكنه على سبيل الاختصار قال: [فأجابه: إنه التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وعمل الجوارح.
وسأله عن القدرية من هم؟ فقال: إن القدرية من قال: إن الله لم يخلق أفاعيل العباد -يعني: أفعال العباد- وأن المعاصي لم يقدرها الله على العباد ولم يخلقها.
فهؤلاء قدرية لا يصلى خلفهم، ولا يعاد مريضهم، ولا يشهد جنائزهم، ويستتابون من هذه المقالة، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.
قال: وسألت عن الصلاة خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ فهذا كافر بقوله -أي: بقول الذي يقول لا يصلى خلفه- وذلك أن القرآن كلام الله جل ثناؤه، ولا اختلاف فيه بين أهل العلم.
ومن قال: كلام الله مخلوق فقد كفر وزعم أن الله عز وجل حدث فيه شيء لم يكن] يعني: خلق فيه شيء لم يكن.
قال: [وسألت: يخلد في النار أحد من أهل التوحيد؟ والذي عندنا أن نقول: لا يخلد موحد في النار].
هذا مجمل اعتقاد أبي ثور رحمه الله.(12/8)
اعتقاد الإمام البخاري
أما اعتقاد الإمام البخاري عليه رحمة الله فإنه كثير جداً، ولذلك قال: [لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم من أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومضر، لقيتهم كرات قرناً بعد قرن، ثم قرناً بعد قرن]، وكرات يعني مرات أي: التقى بالواحد منهم مرات متعددة، وقد بلغ عدد شيوخ البخاري أكثر من ألف.
قال: [فلقيت بالشام] أي: فلان، ومضر فلان، ومكة فلان، والمدينة فلان وعدد أقواماً.
ثم قال: [واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصراً، وأن لا يطول ذلك، فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء: أن الدين قول وعمل].
فإذا نطق بالشهادتين ولم يعمل بمقتضى هاتين الشهادتين يكون في الغالب، أو في أرجح أقوال أهل العلم: كافراً بهذه الكلمة.
[أن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]].
فبعد أن وحدوا الله تبارك وتعالى -أي: نطقوا بشهادة التوحيد- لابد وأن يأتوا بالأعمال، وذكر الله تبارك وتعالى من الأعمال عملان هما: الصلاة والزكاة لأهميتهما.
ولا يعني ذلك: أن من أراد أن يتخلف عن الحج أو يجحده فلا حرج عليه، بل إنما ذكر الله تبارك وتعالى أهم فرضين ليدل على الباقي.
قال: [وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54].
قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل: قال ابن عيينة: فبين الله الخلق من الأمر]، يعني: فرق بين الخلق وبين الأمر.
[لقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]].
قال: [وما رأيت فيهم أحداً يتناول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم].
يعني: ما رأيت أحداً من هؤلاء العلماء الذين بلغوا ألفاً من أهل العلم ومن أئمة السلف يتعرض لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
[قالت عائشة: أمروا أن يستغفروا لهم، وذلك في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]].
أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ولعنوهم، خاصة الخوارج والشيعة والمعتزلة فهم الذين نالوا من الصحابة كثيراً.
قال: [وكانوا ينهون عن البدع]، أي: هؤلاء الألف.
والبدع [هي ما لم يكن عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، لقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
ولقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
ويحثون على ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه، لقول الله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وأن لا ننازع الأمر أهله -وأن لا ننازع أصحاب السلطان سلطانهم- لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم)].
أي: ذلك المسلم صاحب القلب الطيب النظيف النقي إذا اتصف بهذه الصفات.
وهي: [إخلاص العمل لله عز وجل، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم.
فإن دعوتهم تحيط من وراءهم].
الذي يتصف بهذه الصفات، لا يكون في قلبه غل ولا حسد ولا حقد على أحد من المسلمين.
قال: [ثم أكد ذلك في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم].
يعني: أن لا يرى جواز الخروج بالسيف على أمة النبي عليه الصلاة والسلام، كما خرجت الخوارج ومن بعدهم خرجوا الشيعة.
قال: [وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام؛ لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد.
قال ابن المبارك: يا معلم الخير من يجترئ على هذا غيرك!] يعني: من يفهم هذا الكلام غيرك؟!(12/9)
اعتقاد أبي زرعة وأبي حاتم الرازي
وأما عقيدة أبي زرعة الرازي، وأبي حاتم الرازي فقد ورد عن ابن أبي حاتم أنه قال: [سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟].
وأبو حاتم، وأبو زرعة كانا كفرسي رهان، كاد الناظر في علمهما أن يقول: إنهما نسخة واحدة أو شخص واحد، ولكن أبا زرعة يزيد قليلاً في التوثيق والإمامة عن أبي حاتم، وكلاهما ثقة.
قال: [فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأنصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والقدر خيره وشره من الله عز وجل، وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام: أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام وهم الخلفاء الراشدون المهديون.
وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق.
والترحم على جميع أصحاب محمد والكف عما شجر بينهم].
أي: حق وعقيدة.
قال: [وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه] ومعية الله تعالى لهم إنما هي معية سمع وبصر وإحاطة وعلم).
فالله تبارك وتعالى إذا كان معك فإن ذلك لا يتنافى قط مع العلو والفوقية، فإذا قرأت قول الله تبارك وتعالى: {أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194]، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، فهذه المعية المذكورة في الآية إنما هي معية علم وسمع وبصر وإحاطة، فهذا لا يتنافى مع علو الله عز وجل وارتفاعه وفوقيته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق السموات والأرض، وجعل بين كل سماء وأخرى مسيرة خمسمائة عام، وجعل فوق السماء السابعة بحراً، وفوق البحر العرش، وفوق العرش الكرسي).
والله تعالى مستوٍ على الكرسي استواءً يليق بجلاله وعظمته.
واستواء الله تبارك وتعالى معلوم لدينا، فالاستواء في لغة العرب لا يعني الاستيلاء، وإنما يعني العلو والفوقية، فإذا قلت أنت: إن فلاناً استوى على سقف البيت، فهذا يعني أنه علا وارتفع على سقف البيت، ومع هذا أنت تقول: إن فلاناً معنا، كما أن القمر في السماء والشمس في السماء، ومع هذا فأنت تقول: الشمس معنا والقمر معنا باعتبار النظر إليه، فأنت لا تنظر إلى الله تبارك وتعالى في حياتك الدنيا، وإنما النظر هذا في الآخرة، والله تبارك وتعالى هو الذي يراك ويرى جميع خلقه، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم أبداً، فالغيب والشهادة شهادة لله عز وجل.
قال: [وأن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله بلا كيف].
يعني كيف استوى؟ لا ندري.
فإذا كنت أنت لا تدري عن ذات الله تبارك وتعالى شيئاً، فأنت لا تدري عن كيفية ذات الله تبارك وتعالى، فكيف يتسنى لك أن تعلم صفاتها، فإذا كنت لا تعلم كيف الذات، فمن باب أولى أن تخفى عليك الصفات، ولا يتصور ذات بلا صفات.
تصور أنك تقول: إن هذا كأس، ولكن لا صفة له.
فهذا لا يتصور؛ لأن هذا الكأس أولاً له اسم وهو الكأس، ومن صفاته أنه برتقالي، وأنه مستدير، وأن له يداً يتحكم فيه من خلالها، فلا يتصور قط أن هناك ذات لا صفة لها، فإذا قلت: إن إبراهيم رجل كريم فكرم إبراهيم محدود، لأنه كرم بشري، وإبراهيم كريم في حدود طاقته واستطاعته.
ولذلك الكرم الذي وصف الله تبارك وتعالى به عباده كرم محدود، أما كرم المولى عز وجل فغير محدود وغير مكيف؛ لأن كرم الله تعالى يتناسب مع ذاته العلية، فإن الله تبارك وتعالى موصوف بكمال الكرم، فليس هناك كرم يضاهيه أو يوازيه، ولذلك نحن لا نخوض في كيفية معرفة صفة الله عز وجل، وإنما نؤمن بها ونمرها كما أمرها السلف، وكما مروا عليها بلا تأويل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل بصفات المخلوقين؛ لأن ذات الخالق تختلف عن ذات المخلوق، فلابد أن صفات الخالق كذلك تختلف عن صفات المخلوق.
قال: [وأنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة، يراه أهل الجنة بأبصارهم، ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء].
يعني: أنت عندما تقرأ في أوصاف الجنة تجد أنها من أعظم النعم، وأعظم ما فيها على الإطلاق: النظر إلى وجه الله عز وجل في يوم المزيد الذي هو يوم الجمعة، يتجلى ربنا تبارك وتعالى لخلقه فيرونه.
فتقول: أنا أريد أتصور كيف يتجلى ربنا؟ وما هذه الحجب التي إذا كشفها الله عز وجل رأيناه؟ وتدور بمخيلتك لتصل إلى صورة مرضية ومقنعة لك.
أنت غير مطالب بهذا، بل أنت منهي عن هذا؛ لأنك مهما تصورت فإن الحقيقة أعظم من ذلك، وهو نعيم ليس بعده نعيم.
إذا كان الله تبارك وتعالى والنبي عليه الصلاة والسلام قد بينا أن في الجنة نعيم من ثمارها وطيبها ورائحتها ما لا يمكن أبداً لعين أن تكون قد رأ(12/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - كلام ابن تيمية في الأسماء والصفات
مذهب الإمام ابن تيمية في الأسماء والصفات هو مذهب السلف الصالح، فهو يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من أسماء وصفات من غير تعطيل ولا تحريف ولا تبديل ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل كما يليق بجلال الله تعالى.
وقد وضع قواعد عظيمة لإثبات الأسماء والصفات لله تعالى، ورد فيها على أهل البدع والأهواء كالمعطلة والمجسمة.(13/1)
مذهب الإمام ابن تيمية في الأسماء والصفات
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في منهج أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، وذلك في المجلد الخامس (صفحة 45) من مجموع الفتاوى: [فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه].
أي: إذا وصف الله نفسه بوصف، أو وصف رسوله الكريم ربه تبارك وتعالى بوصف أو سماه باسم سميناه كما سماه من غير زيادة ولا نقصان، ومن غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل.
قال: [ولم نتكلف منه صفة ما سواه].
يعني: لا نتكلف من عند أنفسنا إثبات صفة لله عز وجل لم يثبتها لنفسه ولم يثبتها له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
قال: [لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف].
والجحود أنواع: الجحود بالتأويل، والجحود بالتحريف، والجحود بالتعطيل، والجحود بالتمثيل.
فلا نجحد ما وصف الله به نفسه، كما أننا لا نتكلف وصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، فإننا بين أمرين: أن نؤمن بما سمى الله تعالى به نفسه وما وصف به نفسه أو وصفه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولا نجحد شيئاً مما ثبت في الكتاب والسنة، ولا نتكلف شيئاً من عند أنفسنا لم يكن له وجود في الكتاب والسنة.
قال: [اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك].
يعني: أن تكون وقافاً عند حد الكتاب والسنة.
[ولا تجاوز ما قد حد لك].
أي: لا تجاوز حدك، إما في الإثبات وإما في النفي.
[فإن من قوام الدين: معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيباً؛ ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً].
وهو نفس معنى الكلام السابق.
قال: [وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك].
يعني: شيء لا أصل له في الكتاب ولا في السنة، وضم إلى ذلك أن نفسك قد أنكرت هذا.
قال: [وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تكلفن علمه بعقلك].
يعني: لا تثبتن شيئاً من ذلك بالعقل؛ لأن باب الصفات هو تماماً كباب الذات، فكما أنه يستحيل على آدمي أن يصف ذات الله تبارك وتعالى، يستحيل عليه كذلك أن يتكلم في باب الصفات؛ لأن أهل العلم يقولون: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، ولما كان الكل مجمعين على أن ذات الله تبارك وتعالى غيب لا يعلمها أحد فكذلك لابد وأن تكون الصفات تابعة لذلك، فلا يجوز لأحد أن يتكلم في صفة من صفات الله عز وجل، وفي كيفيتها.
لا أقصد معناها، كما أني لا أقصد العلم بها.
وقلنا من قبل: إن السلف إنما فوضوا الكيف ولم يفوضوا المعنى ولا العلم، فالصفة معلومة لله عز وجل، أثبت لنفسه العين، فلابد وأن يكون عندي علم بأن الله أثبت العين لنفسه، ومعنى العين معلوم لدي؛ لأن الله تبارك وتعالى يستحيل أن يخاطبني بشيء لا علم لي به، ثم يكلفني الإيمان به، ولذلك مخاطبة الخلق بالمحال محال.
أي: مخاطبة الخلق بشيء لا يعرفونه ثم لزوم الإيمان به أمر محال، والله تبارك وتعالى لم يتعبد خلقه بأمر محال، فإذا أثبت لنفسه العين علمت أنها عين حقيقة لله تبارك وتعالى كما أن لي عين، ولكن لما اختلفت ذات الله عن ذات المخلوق، لابد بالتالي أن تختلف صفات الخالق عن صفات المخلوقين.
ومعنى العين: أنها عين حقيقة كما يفهمها المستمع لها أولاً، والقائل بها أولاً، ولكنها عين تختلف عن أعين المخلوقين؛ لاختلاف الذات، فلابد بالتالي أن تختلف الصفات.
قال: [وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث نبيك من ذكر صفة ربك فلا تكلفن علمه بعقلك].
يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى نفى صفة عن نفسه، أو سكت عنها فلم يثبتها ولم ينفها فلا تتكلف إثبات ذلك أو نفيه بعقلك، ولكن الأمر كما قال أحمد بن حنبل: أصول الدين عندنا الالتزام بالكتاب والسنة.
أي: أصول الدين عندنا أن نلتزم بالكتاب والسنة.
ومعنى الالتزام بالكتاب والسنة: أن تقول بما قال الله عز وجل إثباتاً ونفياً، وأن تقول بما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام إثباتاً ونفياً.
أي: ما كان مثبتاً في الكتاب والسنة أثبتناه، إذا كان هذا في حق الإله، فإنما نثبته على الوجه اللائق بالله عز وجل، وإذا كان في حقي فإن هذا أمر يحتمل الكمال البشري ويحتمل العين البشرية، كما أن الله عز وجل خلقني وأثبت أن لي عينين، فإن كانتا سليمتين فيكون كمالاً بشرياً في الرؤية أو في وجود العينين، وإما أن أكون أعور العين أو أعمى كفيفاً فهذا(13/2)
قواعد مهمة في إثبات الأسماء والصفات
ومن القواعد التي تخدم الأسماء والصفات، ما يلي:(13/3)
التوسط في الألفاظ المجملة
القاعدة الأولى: التوسط في الألفاظ المجملة التي لم يرد إثباتها ولا نفيها.
أي: إذا كان اللفظ مجملاً أتوقف فيه؛ لأنني لو نظرت في هذا اللفظ لا أجده لا في الكتاب ولا في السنة، لأنه قد استحدث بعد ذلك، كلفظ الجهة والحد، أما الحد فلفظ منكر في غاية النكارة.
يقولون: إن الله تعالى إذا أثبتنا وجوده في السماء فإنما أثبتنا وجود الجهة، وهذا أمر يحتمل مدحاً ويحتمل ذماً؛ ويحتمل كمالاً ويحتمل نقصاً.
فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة.
قلنا له: ماذا تقصد بالجهة؟ فإذا قال: أقصد جهة العلو والفوقية والاستواء قلنا: هذا كلام حسن.
وإذا قال: أقصد بالجهة أن السماء تحوطه.
وأنه قد استقر على العرش والعرش يحمله.
فنقول: إن هذا كلام سخيف بارد، وكلام ليس على بطلانه رد أفضل من السكوت عنه، وإن كان الأولى ترك هذه المصطلحات بخيرها وشرها؛ لأنها لم ترد على لسان السلف، وهذه الكلمات حمالة؛ يستخدمها المبتدعون لإثبات بدعتهم، فيدورون بها كما يدور الحمار برحاه، يثبتون فساد معتقدهم.
وأما أهل السنة والجماعة إنما دخلوا في هذا الباب رغماً عنهم للرد على المبتدعة، فنقل على ألسنتهم بعض هذه المصطلحات.
كما قالوا: إن الله تعالى في السماء بذاته، فكلمة بذاته اضطر السلف إليها وإلى ذكرها، وكما اضطروا كذلك إلى أن يقولوا: (القرآن كلام الله غير مخلوق)، فلفظ (غير مخلوق) ليس على لسان السلف، إلا ما ورد على لسان البعض منهم رداً على المبتدعة، وخاصة فيما يتعلق في صفات الله عز وجل، فهو أمر في غاية الحساسية.
قال: [فإذا أتاك لفظ مجمل فتوقف فيه، إذا لم يكن قد ورد إثباته أو نفيه في الكتاب والسنة، أما معنى هذه الألفاظ المجملة فيستفصل عنه].
أي: تقول له: ماذا تقصد بهذا اللفظ؟ إذا قال: أقصد بالجهة العلو والفوقية لله عز وجل والاستواء على العرش، فهذا كلام جميل، لكن بدلاً من أن تقول: الجهة، قل: استوى على العرش، أو الله في السماء؛ لأن هذه هي الألفاظ التي وردت في الشرع، أما الجهة فلم يأت بهذا المصطلح النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أبو بكر الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الشافعي، ولا مالك، ولا أبو حنيفة، ولا أحمد بن حنبل، فينبغي ألا تتكلم بكلمة إلا إذا تكلم بها سلفك.(13/4)
كل اسم ثبت لله فهو متضمن لصفة من غير عكس
القاعدة الثانية: كل اسم ثبت لله عز وجل فهو متضمن لصفة من غير عكس، يعني: اشتقت الصفة من الاسم؛ لأن باب الصفات واسع جداً، وأوسع منه باب معاني الكمال اللائق بالله عز وجل، فإذا كان من أسماء الله: (الرحمن الرحيم الملك القدوس السميع البصير الرءوف)، فإنه تشتق من اسم الرحيم الرحمة، ومن الرءوف الرأفة، ومن السميع السمع، ومن القوي القوة، فباب الأسماء أدق وأقل من باب الصفات.
إذاً: أنا بإمكاني أن أشتق صفة لكل اسم؛ لأنه ليس هناك اسم إلا ويدل على صفة، وليس بلازم في الصفات أن تدل على الأسماء، فإنه قد ورد قول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، فالمخادعة والمكر في الإنسان صفتا نقص، لكنهما في حق الله عز وجل على سبيل المقابلة لأفعال العباد صفتي كمال، فمن كان من المخلوقين أشد مكراً وخداعاً فلا يستطيع أن يخادع الله عز وجل، أو أن يمكر على الله عز وجل؛ لأنه عالم الغيب والشهادة، فمهما يبطن المرء من شيء فإن الله يعلمه، بل ويكشف الله عز وجل عن عباده بما قد نووه من مخادعة ومكر وحيل.
والله تبارك وتعالى قال: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يصح أن نسمي الله تبارك وتعالى (المنتقم)، لأن هذا ليس من أسمائه، وكذا ليس من أسمائه المخادع الماكر.
إذاً: هذه الصفات التي تدل على النقص في حق البشر ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن على سبيل الكمال؛ لأنها في مقابلة صفات النقص عند المخلوقين، فما كان الله ليخادع إلا بعد أن خادع عبيده، وما كان الله ليمكر إلا بعد مكر عبيده، وما كان الله لينتقم إلا من المجرمين، وكلها صفات لله عز وجل تدل على كماله وإحاطته بخلقه.
والذي يتعلق بهذه القاعدة: أنه لا يجوز أن أشتق أسماء من هذه الصفات؛ لأن الأسماء توقيفية، وكذلك الصفات توقيفية، فلا يصح أبداً أنني أصف الله تبارك وتعالى بوصف لم يصفه لنفسه، ولم يصفه به رسوله الكريم، فإذا كان الوصف قد ورد في الكتاب والسنة أثبتناه، ومن ذلك: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] هذا نفي يستلزم كمال الضد.
يعني: إذا كنت تنفي عن الله الظلم، فيلزمك أن تثبت ضد الظلم وهو كمال العدل، وهذه قاعدة قد شرحناها قبل ذلك: وهي أنه يلزم من نفي الصفة عن الله عز وجل إثبات ضدها كمالاً، إذا كنت تقول: إن الله لا يظلم الناس شيئاً.
إذاً: الله تبارك وتعالى متصف بكمال العدل، وإذا كان الله تعالى قال: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] هذا يدل على كمال القيومية والحياة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام).
وإذا كان الله تبارك وتعالى موصوف بالجود والكرم والتفضل على عباده، فيلزم من ذلك أن ننفي عنه البخل والشح الذي يتصف به بعض خلقه.
قال: [كل اسم ثبت لله عز وجل فهو متضمن لصفة من غير عكس] يعني: الصفات تشتق من الأسماء ولا تشتق الأسماء من الصفات؛ لأن باب الصفات أوسع من باب الأسماء، وكل من الاسم والصفة أمر توقيفي.
يعني: لا نثبته إلا إذا كان ثابتاً في الكتاب والسنة.
قال: [مثاله: اسم الله: الرحمن متضمن صفة الرحمة، والكريم يتضمن صفة الكرم، واللطيف يتضمن صفة اللطف وهكذا] كل الأسماء لها صفات، لكن من صفاته: الإرادة والمشيئة والاستواء، فالله تبارك وتعالى أثبت ذلك لنفسه في الكتاب، وأثبتها رسوله في السنة فلا يصح أنني آخذ من صفة الإرادة أو المشيئة أو الاستواء اسماً فأقول مثلاً: المشاء أو المريد أو المستوي، مع أن الله قد قال في الاستواء: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}؛ فهي قد ثبتت في الكتاب.(13/5)
دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة قد تكون صريحة أو متضمنة
القاعدة الثالثة: دلالة الكتاب والسنة على ثبوت الصفة: إما أن تأتي صريحة، أو تأتي متضمنة، أو تأتي صريحة بفعل أو وصف دال عليها.
يعني: ليس بلازم أن يصف الله تبارك وتعالى نفسه صراحة في الكتاب، بل ممكن تأتي صراحة وممكن تأتي متضمِنة أو متضمَنة، وممكن يأتي التصريح بها من باب الفعل أو الوصف.
المثال الأول: الرحمة والعزة والقوة والوجه واليدين والأصابع كلها قد وردت صريحة في القرآن والسنة.
ومثال التضمن: البصير، فإنه يتضمن صفة البصر لله عز وجل، وهذا كلام يرد به على المعتزلة الذين يقولون: بصير بلا بصر، سميع بلا سمع، رحيم بلا رحمة، قوي بلا قوة، قدير بلا قدرة.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الصفة متضمنة، فإذا كان رحيماً فلابد أن يكون برحمة، وإذا كان سميعاً لابد أن يكون بسمع، وإذا كان بصيراً لابد أن يكون ببصر، فالصفة تثبت ضمناً للاسم.
والمثال الثالث: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، هذه الصفة وردت للدلالة -دلالة الاستواء- أي: دلت على أن الله تعالى متصف بالاستواء، وهو العلو والفوقية.
وقال تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فالآية دالة على الانتقام، فهي صفة لم ترد صراحة في الكتاب، وإنما دلت على هذه الصفة.(13/6)
الكلام في الصفات كالكلام في الذات
والقاعدة الرابعة: الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن ذاته حقيقية لا تشبه الذوات؛ فهو متصف بصفات حقيقية لا تشبه الصفات، سواء كانت هذه الصفات ذاتية أو خبرية أو فعلية.
فنثبت هذه الصفات لله تبارك وتعالى كما جاءت ولا نتأولها، ولا نقول فيها بأنها مجاز، لأن الذي يقول بالمجاز يصرف اللفظ عن حقيقته، فالذي يقول: اليد ليست يداً حقيقة إنما هي النعمة، أو هي القدرة، ففي النهاية يصف الله تبارك وتعالى بأنه ذات بلا صفات، ونحن قلنا باستحالة ذلك، فما من ذات إلا ولها صفات، حتى في الدنيا، وفي المخلوقات، فمثلاً: هذه السجادة خضراء طولها كذا عرضها كذا مستديرة مستطيلة مربعة مكعبة فيها ماء فيها هواء، وهذه كلها أوصاف، ولا يمكن قط بل يستحيل على أحد أن يثبت ذاتاً بلا صفات، فإذا كان المنكرون للصفات أو الذين صرفوها عن حقيقتها إلى المجاز لا يقولون بأن ذات الله ليست ذاتاً حقيقة أو أنها مجاز، فإذا قالوا ذلك فبالأولى أن يقولوا بالثانية.
قال: [فمن أقر بصفات الله كالسمع والبصر والإرادة، يلزمه أن يقر بمحبة الله ورضاه وغضبه وكراهيته].
يقول ابن تيمية عليه رحمة الله: [ومن فرق بين صفة وصفة مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضاً في قوله، متهافتاً في مذهبه، مشابهاً لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض].
يعني: لا تقل: إن الله تعالى يغضب غضباً على الحقيقة، واليد ليست يداً حقيقة، فلا تحمل الغضب واليد على الحقيقة أو المجاز؛ فإن حملتهما على الحقيقة وأثبتهما على القدر اللائق لله عز وجل فهذا مذهب السلف، وإذا قلت بالمجاز فهذا مذهب الخلف وهو فاسد باطل.(13/7)
ما أضيف إلى الله تعالى مما هو غير بائن فهو صفة له غير مخلوقة
القاعدة الخامسة: [ما أضيف إلى الله تعالى مما هو غير بائن عنه فهو صفة له غير مخلوقة].
ومعنى (غير بائن) يعني: غير مغاير ولا مختلف ولا منفصل، وأريد أن أقرب المعنى، وإن كنت أكره هذا اللفظ.
فإذا قلنا: بإثبات اليد لله، فهل هذه اليد مباينة لله عز وجل، أم هي صفة ذات لازمة له؟ يعني: أنا ممكن أن أقول: يدك وإن كانت صفة لازمة لك إلا أنه يمكن مباينتها عنك بقطعها، عند أن يأتي شخص يقطع يدك، نقول: قد باين يده عن بدنه.
يعني: باعد اليد عن البدن.
فالمباينة في الأعمال والجوارح متصورة وواقعة وحادثة في المخلوقين، لكن هل يمكن أن أقول: إن يد الله تبارك وتعالى مباينة لله عز وجل.
إذا قلنا: بأن صفات الله عز وجل ليست مباينة له فهذا يعني: أنها غير مخلوقة، فإذا كان الكلام صفة لله عز وجل فلا يتصور أن الله تعالى كان ساكتاً عاجزاً عن الكلام لا يعرف الكلام، ثم عرف فتكلم بعد ذلك؛ لأن من قال بهذا كفر بنص أهل السنة والجماعة، وعلى رأسهم أحمد بن حنبل.
وإذا قلنا بإثبات العين لله، لا نقول: بأنها عين زائدة عن ذات الإله، بل هي صفة ذاتية خبرية لازمة لذاته لا تنفك عنه.
ومعنى أنها ذاتية.
أي: أنها غير مخلوقة، فكما أن الله تعالى غير مخلوق وهو الخالق لكل شيء فكذلك صفاته غير مخلوقة، بخلاف نسبة الأشياء البائنة عن الله عز وجل المنسوبة إليه فإنها مخلوقة، كما تقول: بيت الله وأمة الله وناقة الله، فالبيت مصنوع مخلوق، والناقة مخلوقة، ونسبتهما إلى الله عز وجل نسبة تشريف، فإذا كانت الصفة بائنة عن الله عز وجل منسوبة إليه فإنها مخلوقة، ونسبتها إلى الله نسبة تشريف، بخلاف صفات الله عز وجل غير البائنة عنه، فإنها صفات غير مخلوقة؛ كصفة اليد وصفة الساق والقدم والأصابع والأنامل والكف والغضب والرضا والسخط والفرح والسرور والرفع والخفض وغير ذلك؛ كل هذه الصفات لله تبارك وتعالى غير مخلوقة.(13/8)
صفات الله عز وجل وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله ولو كان حديث آحاد
القاعدة السادسة: صفات الله عز وجل وسائر مسائل الاعتقاد تثبت بما ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن كان حديثاً واحداً آحاداً، من أجل أن تعرف أن منهج أهل السنة والجماعة يختلف عن منهج من أتى بعدهم، فأهل السنة والجماعة وعلى رأسهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل وعلى رأسهم جميع الأنبياء والمرسلين أثبتوا لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه، وأن الأمة ممن سلك منهج النبوة أثبتت لله تبارك وتعالى ما ورد في حديث النبي عليه الصلاة والسلام من أسماء وصفات، وإن كان الحديث الذي يحمل هذا الاسم أو هذه الصفة حديث آحاد، سواء كان هذا الحديث من طريق الواحد أو الاثنين أو الثلاثة.
إذا علمت هذا لابد وأن تعلم أن قوم المعتزلة: (لا نحتج في باب الاعتقاد إلا بالخبر المتواتر) قول محدث، وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة.(13/9)
معاني صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة معلومة
القاعدة السابعة: معاني صفات الله عز وجل الثابتة بالكتاب أو السنة معلومة، فلا يجوز مثلاً أن تقول: أنا لا أعلم معنى الاستواء، مع أن الاستواء معلوم، فهو الفوقية والارتفاع والعلو.
ولا يجوز أن تقول: أنا لا أعلم صفة المجيء؛ لأنك تعلم ماذا يعني قولك: جاء فلان.
أنا لو قلت لك: جاء زيد.
فإنك تفهم كلامي، فإذا قلنا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، فإنك تعلم معنى المجيء، ولكنك تجهل كيفية المجيء.
إذاً: السلف لم يفوضوا علم الصفات ولا معاني الصفات، إنما فوضوا الكيف، وقد زلت بهذه المسألة أقدام كثير من أهل العلم.
ومن المسائل التي زلت بها أقدام كثيرٍ من أهل العلم: مسألة العلو، قال الله تعالى: {اسْتَوَى} [طه:5].
فمن قال: لا أعلم معنى الاستواء، نقول له: إذاً: الله خاطبك بكلام غير مفهوم.
وهذا محال، فإذا كنت تقوله في باب الاعتقاد فقله في باب الأحكام، فمثلاً قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، أنت لا تعلم معنى الصلاة، وبالتالي أنت لا تعلم ذات الصلاة، وبالتالي أنت لا تصلي؛ لأنك لا تفعل شيئاً أنت لا تعلمه ولا تعلم له معنى.
فهل يتصور أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بشيء لا نعلمه ولا نفهمه؟
الجواب
لا.
فإذا قلت ذلك في الأحكام والمعاملات فكذلك في الاعتقاد، فالله تعالى قد خاطبنا في باب الأسماء والصفات بما علمناه وعلمنا معانيه، فإذا ثبتت لله تبارك وتعالى صفة الرحمة فلا بد من إثباتها لله عز وجل؛ لأنه قد أثبتها في كتابه، وأثبتها له رسوله.
ومن قال: لا أعلم معنى الرحمة! تقول له: هذا كلام سخيف وبارد، ومردود على قائله؛ ولذلك ورد عن بعض السلف أنه جادل رجلاً من أهل البدع، فجهل عليه بالعلم، فقام عليه ذلك العالم الرباني صفعاً وضرباً وركلاً، حتى قال له وهو يتضور تحت قدمه: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، وهو كان ينازع في أنه لا يعلم معناها، فلما ضرب وديس بالأقدام علم معنى الرحمة، فاحتج بدليل الرحمة في موضوع الرحمة؛ لأنه يعلم معناها.
إذا قلت لك في رابعة النهار: أين الشمس؟ فأفضل جواب عليك السكوت، وإذا كان القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب وأنت تنظر إليه وتقول: أنا لا أرى القمر فأفضل جواب أن نسكت عنك؛ لأنك أعمى البصر والبصيرة، فكذلك الله عز وجل خاطبنا بالصفات التي لها علم عندنا من الكتاب والسنة ولها معان يعلمها جميع العرب، فإذا كان المسلم غير عربي فيجب عليه أن يتعلم العربية كما تتعلم أنت الإنجليزية إذا أردت أن تترجم كلمات كثيرة جداً تمر عليك في صفحات الكتاب الأعجمي تريد قراءتها، لكن لا تعلم معناها، فأنت معذور في هذا، كما أن العجمي إذا استطاع أن يقرأ في كتاب الله فأتى عند صفة من صفات الله عز وجل فيقول: أنا لا أعلم صفة السمع ولا أعرف معناها، قلنا له بالإنجليزية: معنى أن الله سميع، فبينت له بلسانه أنها تثبت صفة السمع لله، فإنه سيقر صفة السمع، فهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى خاطب جميع المخلوقين بما هو في مقدورهم أن يفهموه، فلا يدعي واحد بعد ذلك أن الله تبارك وتعالى خاطبه بما لا يفهم.
إذاً: صفات الله عز وجل وسائر أمور الاعتقاد تثبت في خبر واحد، ومعاني الصفات الثابتة في الكتاب والسنة معلومة، وتفسر على الحقيقة، فالله سميع بسمع على الحقيقة، والله قدير بقدرة على الحقيقة، و {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] على الحقيقة.
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] على الحقيقة.
فمن قال: العين مقصود منها الرؤية أو الرعاية أو الإحاطة أو كف الأذى، نقول له: المعنى هو إثبات العين الحقيقة لله عز وجل، لكن كيفية العين لا يعلمها إلا صاحب العين سبحانه وتعالى، فلا مجاز في الصفات ولا استعارة فيها البتة، وأما الكيفية فمجهولة.(13/10)
ما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به وإن لم يفهم معناه
القاعدة الثامنة: ما جاء في الكتاب أو السنة وجب على كل مؤمن القول بموجبه والإيمان به، وإن لم يفهم معناه.
يعني: على فرض أنه خفي عليه معنى صفة، فلابد وأن يؤمن بها كما جاءت وكما قرأها، ويثبتها لله على الحقيقة وإن كان المعنى قد خفي عليه.
فمثلاً: عدم العلم بمعنى الأسماء الثابتة كالودود أو الحنان أو القيوم، أو الصبور لا ينفي عنك لزوم العلم والإيمان بها، فلابد وأن تؤمن بأسماء الله وصفاته، وإن خفي عليك بعضها أو كلها.
وصفات الله عز وجل لا يقاس عليها، فلا يقاس مثلاً السخاء على الجود، إذا كانت صفة الجود ثابتة لله عز وجل فلا أقول: الله تعالى سخي، وإن كان المعنى جميلاً، لأن باب الصفات توقيفي، فلا يصح في صفات الله الاجتهاد والقياس.
والقياس إلحاق فرع بأصل، والذي يلحق الفرع بالأصل هم أهل العلم، فإذا كان المقيس والمقيس عليه متساويين في الدليل ومتحدين في العلة ألحقوا الفرع بالأصل، فإذا كان الأصل حراماً فالفرع حرام، وإذا كان الأصل حلالاً فالفرع حلال، فمثلاً: الله عز وجل حرم الخمر صراحة وهذا المقيس عليه، وهو الأصل والحشيش فرع، فهو حرام قياساً على الخمر؛ لأن أدلة الشرع في الأحكام وفضائل الأعمال: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس.
فالحشيش حرام؛ لأنه متحد مع الخمر في العلة وهي ذهاب العقل والإسكار، وهذه العلة التي لأجلها حرم الله الخمر صراحة فألحقنا به الحشيش.
والله تبارك وتعالى قد ثبت في صفاته أنه جواد، فلا أستطيع أن أقول: إنه سخي، مع أن السخاء هو الجود؛ لأن صفات الله لا يصح فيها الاجتهاد ولا القياس؛ لأنها توقيفية.
وكذلك في بقية المعاني التي تدل على الجود إلا إذا كانت ثابتة، فالكرم كذلك من الجود، وباب من أبوابه، وشبيه ومثيل له، لكنه قد ورد في نصوص أخرى أنه كريم.
والله تبارك وتعالى هو القوي، فهو قوي بقوة؛ فالصفات تؤخذ وتشتق من الأسماء.
إذاً: لفظ القوة ثابت لله عز وجل.
والجلد الذي هو تحمل المشاق والصعاب والقوة، لا يصح إثباته لله عز وجل في مقام القوة، أو قياساً عليها؛ لأن باب الصفات لا يقاس عليه؛ لأن الصفات توقيفية.
ولفظ (القدير) ثابت لله، وهو قدير بقدرة.
إذاً: الله تبارك وتعالى متصف بالقدرة، فلا يمكن أن أثبت لله عز وجل صفة الاستطاعة؛ لأنها لم تثبت في الكتاب ولم يثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام في السنة، إنما الصفة التي وردت تغني عن هذه الصفة وهي صفة القدرة.
وصفة الرحمة ثابتة لله عز وجل، ومن معانيها: الرأفة والرقة، فممكن أن أثبت الرأفة؛ لأنها مشتقة من الرءوف، بخلاف الرقة وإن كانت مثل الرحمة، فلهذا يقال: فلان رقيق القلب.
يعني: رحيم.
وباب القياس في حق المخلوقين في الصفات حدث عنه ولا حرج، لكن في حق المولى تبارك وتعالى لا يجوز أن أقول: إن الله رقيق؛ مع أن الرقة بمعنى الرأفة والرحمة وغير ذلك.
وكذلك (العلم) فالله تبارك وتعالى عليم بعلم؛ فعليم اسم وبعلم صفة، والمعرفة من معاني العلم، فلا يجوز أن أثبت صفة المعرفة لله عز وجل؛ لأن صفات الله عز وجل لا يتجاوز فيها التوقيف، فلا نذهب فيها أكثر مما ورد إلينا، كما مر في القواعد السابقة.(13/11)
أسماء الله وصفاته عز وجل لا حصر لها
القاعدة التاسعة: صفات الله عز وجل لا حصر لها؛ لأن كل اسم يتضمن صفة، وأسماء الله لا حصر لها، أما حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) فتقديره: إن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً، فباب الأسماء واسع لا ينتهي؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن مسعود: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي).
الشاهد: (أو استأثرت به).
فالضمير يعود على الله.
أي: أو استأثرت أنت بهذا الاسم الذي أخفيته عن جميع المخلوقين في علم وغيب لا يطلع عليه أحد، فوحدك أنت الذي تعلمه.
فباب الأسماء باب واسع جداً، وإذا قلنا: إن كل اسم يشتق منه صفة فلابد وأن يكون باب الصفات أوسع من باب الأسماء؛ لأن كل اسم يدل على صفة، وهناك صفات لا يشتق منها الأسماء.(13/12)
إثبات صفة العين لله تعالى
نريد أن نثبت لله عز وجل صفة العين، فصفة العين صفة ذاتية لله تبارك وتعالى، غير مباينة عنه، فكما أثبتنا اليد لله عز وجل وأن اليد غير مخلوقة، وأنها غير مباينة له سبحانه، بخلاف يد المخلوق فممكن مباينتها بقطعها.
إذاً: الصفات الذاتية هي اللازمة لذات الإله تبارك وتعالى، كما أنها خبرية.
أي: قد ورد الخبر بها، ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة.
وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تعالى يبصر ببصر، كما أنه يسمع بسمع، ويعلم بعلم، كما يعتقدون أن لله عز وجل عينين تليقان به لكنهما ليستا كعيون المخلوقين؛ لأن هذا يستلزم التمثيل، والتمثيل حرام، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فكل شيء في الوجود لا يشبه ولا يماثل ولا يكافئ ولا يعدل الله تعالى، فإذا كان كذلك فلا يجوز لي أن أقول: إن الله تعالى له عيناً كعيني أو عينان كعيني؛ لأن هذا يستلزم التمثيل والمشابهة، وهو محال.
كما أنني لا يجوز لي أن أقول: إن عين الله ليست على الحقيقة، بل هي مجاز والمقصود منها: الرعاية أو الرؤية أو غير ذلك؛ لأنني إذا قلت بالمجاز أو التأويل، لابد وأنني سأقع في التعطيل، وهو: نفي ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله الكريم.
فالله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهو نفي للماثلة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، إثبات للأسماء والصفات على الوجه الحقيقي اللائق بالله عز وجل.
أما دليل إثبات العين من الكتاب فقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، أي: واصنع يا نوح السفينة ونحن ننظر إليك بأعيننا، ((وَوَحْيِنَا)) أي: وإلهامنا لك كيف تصنع السفينة، فالوحي هنا بمعنى الإلهام.
والمعنى: أن الله تعالى أمر نوحاً عليه السلام أن يصنع السفينة من ألواح الخشب والمسامير والحبال يربط بها أطراف السفينة حتى يحمل فيها أهل الإيمان ويسير في البحر إلى أن يصل إلى بر الأمان والنجاة، فيغرق الله تبارك وتعالى من تخلف عنه.
إذاً: نقول بإثبات العين الحقيقية لله عز وجل، وأن الله كان ينظر إلى نوح على الحقيقة بعينيه الحقيقتين وهو يصنع الفلك، ويوحي إليه كيف يصنع السفينة.
وقال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39].
وهذا الخطاب موجه لموسى عليه السلام، فقد ألقى عليه محبة في قلوب الخلق، وكذا محبة الله عز وجل لموسى كلاهما يمكن القول به، ولا تناف بينهما؛ لأنه قد ورد في الحديث: (أن الله تعالى إذا أحب عبداً ألقى محبته في قلوب العباد، بل أمر الملائكة أن يحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) أي: المحبة.
قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] أي: ولتربى.
فالصناعة هنا بمعنى التربية، ولذلك تختلف بحسب الحال، تقول: صناعة بيت، وصناعة الأخشاب، وصناعة الدروع، وصناعة الملابس، فكل صنعة من هذه الصنعات تختلف عن غيرها، فصناعة البيت.
أي: بناؤه.
وصناعة الثوب.
أي: حياكته وخياطته.
وصناعة الآدمي.
أي: تربيته.
ومعنى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي: ولتربى على عين الله عز وجل.
أي: الله تبارك وتعالى يرعاك ويحفظك ويكلؤك وينظر إليك بعينيه الحقيقيتين، ولا غرابة في ذلك.
ولذلك أهل البدع يقولون: إنكم تتأولون إذا أردتم أن تتأولون، وتنكرون على من يتأول إذا أردتم الإنكار عليه، فاثبتوا على قدم واحد؟ يوجهون هذا اللوم لأهل السنة.
فنقول: إننا نعتقد في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أن الله تعالى يرعاه ويكلؤه ويحفظه ويربيه وينظر إليه وغير ذلك.
فنحن نثبت الصفة ولازمها، فالفرق بيننا وبين أهل البدع أننا نثبت الصفة ولازمها بخلافهم؛ فإنهم يثبتون لزوم الصفة وينكرون الصفة، فمثلاً: قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، يقول أهل البدع: اليد بمعنى القدرة.
وأرادوا من هذا الكلام نفي اليد الحقيقية عن الله عز وجل، بظنهم أن إثباتها إثبات للتمثيل، وهذا كلام باطل، وأهل السنة يثبتون اليد ولازم اليد، فيثبتون الصفة ولازمها، فيلزم من إثبات العين الرعاية والإحاطة والكلأ والحفظ وغير ذلك من المعاني.
أما هم فإنهم يثبتون لوازم الصفة ولكنهم ينكرون الصفة، وبالتالي يقعون في التعطيل، أما نحن فلا نقع في التعطيل ولا في التمثيل؛ لأننا في جانب التمثيل نقول: إن لله يداً حقيقة ليست كأيدي المخلوقين، بل يداً تليق بجلاله.
فلا ننفي الصفة، وإنما نثبتها ونثبت معها اللازم، فقوله سبحانه وتعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي: إن الله تعالى ينظر إليك بعينيه ويحفظك ويرعاك ويكلؤك.
إذاً: بذلك نكون أثبتنا الصفة ولازمها، فأهل البدع يثبتون لازم الصفة فقط بخلاف الصفة، قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطو(13/13)
الأسئلة(13/14)
حكم صيام أول رجب
السؤال
هل وردت نصوص في صيام أول رجب؟
الجواب
النصوص الواردة في صيام أول رجب كلها نصوص باطلة غير صحيحة، فمن خص فعليه الدليل.(13/15)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - وجوب معرفة الله بالسمع
معرفة الله سبحانه وتعالى واجبة، إذ لا يتصور أن عابداً لله عز وجل يعبده وهو لا يعرفه، ومعرفة الله عز وجل لا تثبت ابتداء إلا بالسمع لا بالعقل، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، ومع هذا لم يكلفه الله معرفته بعقله، وإنما خاطبه بالنقل والوحي ليعرفه به سبحانه وتعالى.(14/1)
باب جماع توحيد الله عز وجل وأسمائه وصفاته
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باقٍ].
باب له تعلق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته، ووجوب معرفة الله عز وجل.(14/2)
معرفة الله تعالى ثبتت بالسمع والنقل
معرفة الرسل والأنبياء واجبة كذلك، ومعرفة الله تعالى ومعرفة رسله تثبت بالسمع لا بالعقل، وهو الذي نسميه أحياناً النقل، فالنقل والسمع والأثر والنصوص كلها بمعنى واحد.
فمعرفة الله عز وجل واجبة، ولا يتصور أن عابداً لله عز وجل يعبده وهو لا يعرفه، ولا يتصور أن عبداً يؤمن بالله وهو لا يعرفه، وكذلك لا يتصور أن عبداً يؤمن برسول الله وهو لا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعرفة الله تعالى واجبة، وكذلك معرفة الرسول عليه الصلاة والسلام واجبة، وذلك لا يثبت إلا بالسمع.
والمصطلح الذي اشتهر على ألسنة الناس: (أننا عرفنا ربنا بالعقل) وهذا يخالف ما كان عليه معتقد سلفنا رضي الله عنهم أجمعين من أن معرفة الله تعالى تثبت بالنقل لا بالعقل.
وهذه المسألة لها مدلول لدى العقلانيين والمعتزلة.
إن أهل السنة والجماعة يجري على ألسنة بعضهم أخطاء شائعة في الاعتقاد من حيث لا يدرون، فإذا سئل أحدهم: بماذا عرفنا الله؟ أجاب مباشرة بالعقل، وهذه إجابة خاطئة تمام الخطأ، فالله تعالى يعرف بالسمع لا بالعقل، أو بالنقل لا بالعقل، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت العبادة أو الشرع لا يعرفان إلا بالنقل فمشرع الشرع لا يعرف كذلك ومن باب أولى إلا بالنقل.
قال: [جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، وأنه حي قادر عالم سميع بصير متكلم مريد باق.
وسياق ما يدل من كتاب الله عز وجل وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن وجوب معرفة الله تعالى وصفاته بالسمع لا بالعقل].(14/3)
الأدلة من القرآن على أن معرفة الله ثبتت بالسمع لا بالعقل
قال: [قال الله تعالى يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بلفظ خاص والمراد به العام]، يعني: إن هذا الخطاب وإن كان موجهاً إلى شخص النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن المراد به جميع الخلق.
قال: [{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]].
أي: فاعلم يا محمد! أنت وجميع الخلق أنه لا إله إلا الله.
فهذه الآية تدل على توحيد الله عز وجل، وأنه لا إله بحق إلا هو سبحانه وتعالى.
ولو كان يعرف ذلك بالعقل فإن أرجح العقول وأقواها وأهداها سبيلاً هو عقل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد خاطبه الله عز وجل بهذا النقل، والأمر ابتداءً لا يعرف إلا من قبل النقل.
والعرب كانوا من أرجح الناس عقلاً وذكاءً وفطنة، وغير ذلك، ومع هذا كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون غير الله عز وجل، وقالوا بعقولهم: ما نعبد هذه الآلهة إلا لتقربنا إلى الله زلفاً.
والذي هداهم إلى ذلك عقولهم الفاسدة التي كانت من الذكاء والحفظ والإتقان والتثبت بمكان، وربما لا تبلغ أعظم العقول في هذا الزمان أقل العقول في أيام الجاهلية من جهة الحفظ والإتقان، فقد كان الواحد منهم يحفظ القصيدة أو الألفية المكونة من ألف بيت أو ألفين من المرة الأولى، ومع هذا كان منحرفاً في جهة التوحيد وزائغاً ضالاً؛ لأنه ليس عنده نقل يثبت أن الله تعالى إله واحد.
وقد خاطب الله عز وجل نبيه بهذا الخطاب ليثبت له سمعاً ونقلاً ووحياً أن الله تعالى هو المتفرد والمستحق للألوهية وحده، وأن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل إنما هي آلهة مزعومة.
قال: [وقال الله تبارك وتعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]].
فهو المستحق للعبادة وحده دون سواه، وكان كل نبي يؤمر بهذا عند رسالته، ويكلف بتبليغ هذا الأمر إلى أمته، فأخبر الله نبيه في هذه الآية أنه بالسمع والوحي عرف الأنبياء من قبله التوحيد.
فالأنبياء أنفسهم لم يعرفوا التوحيد إلا من قبل الوحي، ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قبل الرسالة على الحنيفية السمحاء.
وهذا التوحيد الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام بعد الرسالة وبعد التكليف لم يكن يعرفه عليه الصلاة والسلام تفصيلاً قبل الوحي، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام على الحنيفية السمحاء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان صاحب عبادة وتهجد واختلاء بالله عز وجل وذكر له، ولكن ليس بهذه المنهجية والتأصيل الذي أرسله الله عز وجل به، وإلا فما فائدة الوحي في حق النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ؟ قال: [فأخبر الله نبيه] أي: في هذه الآيات المتقدمة [أن بالسمع والوحي عرف الأنبياء قبله التوحيد.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ:50]-أي: قل يا محمد- {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]]، يعني: أن الهداية بوحي، والإيمان بوحي، والتوحيد بوحي، والوحي سمع ونقل، ولا دخل للعقل فيه؛ لأنه كلام الله تعالى، قال: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50].(14/4)
استدلال إبراهيم عليه السلام على وحدانية الله بالسمع لا بالعقل
قال: [قد استدل إبراهيم بأفعاله سبحانه المحكمة المتقنة على وحدانيته].
يعني: إبراهيم عليه السلام إمام الحنيفية السمحاء، وأبو الأنبياء لم يعرف ذلك بعقله، وإنما عرف توحيد الله بالنقل والسمع، فقد استدل بأفعال الله عز وجل المحكمة المتقنة على وحدانية.
قال: [بطلوع الشمس وغروبها، وظهور القمر وغيبته، وظهور الكواكب وأفولها، ثم قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]].
لأنه كان كلما خرجت له آية يقول: هذا ربي.
ثم يرجع عن ذلك.
ثم في نهاية الأمر سلم لله عز وجل بأنه صاحب الهداية، وأن الهدية لا تأتي إلا من قبله، وأن الدلالة على توحيد الله لا يمكن أن تكون إلا بالنقل عن الله عز وجل.
[قال: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77].
فعلم أن الهداية وقعت بالسمع] لا بالعقل.(14/5)
بيان أن وجوب معرفة الرسل بالسمع لا بالعقل
قال: [وكذلك وجوب معرفة الرسل -ثبت- بالسمع]، يعني: إذا كان الله تعالى لا يعرف إلا بالسمع والنقل فكذلك رسل الله عز وجل لا يعرفون إلا بالسمع، ولذلك لما ادعى المدعون النبوة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كان أتباعهم يعرفون أنهم كذبة؛ لأنه لا نقل ولا سمع ولا وحي ينزل عليهم، وكان أتباعهم متأكدين من ذلك وإن تابعوهم، ولكنهم كانوا في حقيقة أمرهم يعرفون أنه لا ينزل عليهم الوحي، وأنهم كذبة، فمعرفة الرسل لابد أن تكون بوحي من السماء.
قال: [قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]].
وهذه الآية تدل على أن معرفة الرسول لا تكون إلا بوحي من السماء.(14/6)
بيان أن العذاب لا يكون إلا بعد الرسالة
قال: [وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]]، أي: أن الله تبارك وتعالى لا يعاقب ولا يعاتب إلا بعد بلوغ دعوة الرسل إلى الناس أجمعين.
قال: [وقال تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]].
فالرسل هم الذين يقيمون حجة الله على الخلق، وهم الواسطة بيننا وبين الله عز وجل، وهم المبلغون عن الله عز وجل وحيه ومراده، والذين ينقلون تكاليف الله عز وجل الشرعية إلى الخلق أجمعين.
والله تعالى لا يسأل الجاهل الذي جهل بعد أن بذل الوسع في التعلم وخفي عليه العلم، كما أنه لا يسأل الناسي ولا المجنون، ولا السفيه الذي قد عذره الله تعالى في كتابه وعذره نبيه في سنته.
وكذلك الله تبارك وتعالى ما أرسل رسله إلا ليفرغوا الوسع ويبذلوا الجهد في تعليم الخلق؛ حتى تنقطع حجتهم بين يدي الله عز وجل حتى لا تكون لهم حجة يوم القيامة.
قال: [وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:44 - 47]-يعني: يا رب! لو أنك أرسلت إلينا رسولاً ما وقعنا في هذه الجرائم- {فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [طه:133]-يعني: لو يأتينا بآية ومعجزة من ربه- {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:133 - 134]].
قال: [فدل] أي: هذه الآيات [على أن معرفة الله والرسل بالسمع كما أخبر الله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة].
فمعرفة الله ومعرفة الرسل إنما تكون بالسمع والنقل لا بالعقل.
هذا بعض الأدلة من كتاب الله على قولنا.(14/7)
الأدلة من السنة على وجوب معرفة الله وصفاته بالسمع لا بالعقل
قال: [أما من السنة: حديث ضمام بن ثعلبة] رضي الله عنه الذي أتى يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عما قد بلغه رسل رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وفي حديث أنس قال: (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء)، وهذا النهي هو المذكور في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101].
فخافوا بعد نزول هذه الآية أن يسألوا النبي عليه الصلاة والسلام خاصة في قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله عز وجل من سأل عن مسألة فحرمت لأجل مسألته)، أو نحواً من هذا الكلام وهذا المعنى، وكانوا يرغبون عن سؤال النبي عليه الصلاة والسلام، حتى قال أنس بن مالك: (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية).
وأهل البادية فيهم جلافة وغلظة، وقد كان الواحد منهم يدخل على النبي عليه الصلاة والسلام كما يدخل على أقرانه وأصدقائه من أهل البادية بجلافة وغلظة وحماقة وبداوة وجفاء، فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام بطريقة غير لائقة.
وقول أنس: (فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل).
يعني: المهذب المحترم الذي تأدب بأدب أهل المدينة، لا بأدب البادية.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدا جفا).
يعني: من سكن البادية كان فيه من الجفاء والغلظة ما فيه، وقال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97].
يعني: فيهم غلظة وجلافة وشدة.
وأهل البادية لا يستريحون مع أهل الحضر، فأهل البادية ينظرون إلى أهل الحضر على أنهم قليلوا العيال فارغين لا ينفعون، وأهل الحضر ينظرون إليهم على أنهم في منتهى الغلظة والجفاء، وعقولهم غير متفتحة.
قال أنس: (كان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام ونحن نسمع).
وهذا فعل جيد أيضاً؛ لأن أنس لو أراد أن يتفاهم مع هذا الرجل لو سمع وحده فلن يعرف أن ما يأخذه منه حق أو باطل؛ لأنه ربما يستكثر أن يقول له: أنا أرى أن أعمل كيت وكيت، أو ينقله إليه بجلافة وغلظة، ثم إن لسان أهل البادية يختلف عن لسان الحضر.
وقد رأينا أناس في الشام من سكان الجبال كأنهم يتكلون اللغة اللاتينية، وحتى أهل الأردن وأهل سوريا وأهل لبنان لا يعرفون هذه اللهجة.
وأخبرنا أئمة المساجد الذين كلفوا من قبل أوقاف الشام في سوريا والأردن بالذهاب لإمامة الناس في هذه المساجد التي في البادية أنهم لم يجلسوا معهم أسبوعاً واحداً، وأن البطل فيهم هو الذي جلس أسبوعاً، وكانوا يقولون لهم: نحن لا نفهمكم ولا أنتم تفهموننا، وهذه الكلمة فهمها بعد أسبوع، وكانوا يقولون لهم: اكتبوا ما تريدون منا ونحن نقرأ، فالتعامل صعب جداً بين أهل البادية وأهل الحضر.
فقال أنس: (نهينا أن نسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع).
قال: [عن أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فجاء رجل على جمل له فأناخه ثم عقله -أي: فأناخه على باب المسجد، ثم ربطه بالعقال- ثم قال: أيكم محمد؟)] وهذا من الجفاء والغلظة.
[(قال: قلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ عليه الصلاة والسلام)].
وهذا فيه وصف النبي عليه الصلاة والسلام بالبياض وفيه: جواز الجلوس متكئاً، ولكن إن كان ذلك ولابد فعلى اليد اليمنى لا على اليسرى.
قال: [(ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين أظهر أصحابه، قال: فقال: يا محمد!)] ولم يقل: يا رسول الله، والله يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
يعني تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل العلم لهم من الحرمة ما ليس لغيرهم، وحرمة النبي عليه الصلاة والسلام أشد.
قال: [(قد جئتك يا ابن عبد المطلب! -وهذا أيضاً جفاء جديد- إني سائلك فمشدد مسألتي)].
يعني: أنا سأسألك أسئلة فيها غلظة وجفاء وحدة؛ لأن هذا طبعي، [(فلا تجد علي في نفسك)]، وهذا اعتذار لطيف في أول الكلام.
يعني: يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: أنا جلف جاف، وسؤالي فيه غلظة وحدة، فلا تغضب مني، والوجد هو الحزن والغضب.
قال: [فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (سل عما بدا لك)].
وهذه ليست أخلاق المدينة، بل هي أخلاق النبوة عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا)].
والزعم ليس بلازم أن يكون كذباً، بل هو مجرد القول، وأحياناً يكون الزعم والظن بمعنى الصدق في الحديث، وقوله: (أتانا(14/8)
شرح حديث عمر بن الخطاب في بيان مراتب الدين
وفي حديث عبد الله بن عمر قال: [حدثني عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد)].
والمدينة بين جبلين، وبين لابتين، وهي منقطعة عن البلدان وعن العمران، فالذي يأتيها من غيرها لابد وأن يظهر عليه أثر السفر من الغبار والتراب واتساخ الملبس وتعفير الوجه وشعث الرأس، وغير ذلك، وهذا الرجل الذي دخل عليهم وطلع عليهم لم يكن فيه شيء من ذلك، بل كان رجلاً مرتباً ومنظماً ونظيف الملبس، وليس عليه تراب ولا شيء من هذا.
قال: (لا يعرفه منا أحد)، يعني: ليس من أهل المدينة.
[(ولا يرى عليه أثر السفر)].
وهذا عجب.
قال: [(حتى جلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأسند ركبتيه إلى ركبته -يعني: أسند ركبتي نفسه إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام- ووضع كفيه على فخذيه)].
أي: ووضع كفيه على فخذي نفسه، وليس على فخذي النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا لا يتناسب مع أدب طلب العلم، فليس من الأدب أن تجلس إلى المعلم وتضع يديك على كتفه، أو على رجله، أو تأتيه من الخلف، فكل هذا من سوء الأدب مع المعلم والشيخ، وإنما من أراد أن يسأل مسألة فليأت من قبل وجه الشيخ، وليجلس إليه، ثم يسأله في أدب ووقار كما سأل هذا الرجل الذي جلس إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فوضع ركبتيه إلى ركبتيه.
يعني: كان بحذاء النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة.
ولا يعني ذلك أنه لامس بركبتيه ركبة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت بمحاذاة ركبة النبي عليه الصلاة والسلام ومسندة إلى ركبته عليه الصلاة والسلام.
[(ثم قال له: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ -يعني: عن أركان وشرائع الإسلام- فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)].
وهذه الأركان الخمسة هي أركان الإسلام.
[(قال: صدقت، قال عمر -راوي الحديث- فعجبنا له وهو يسأله ويصدقه)]، يعني: أن هذا الرجل أمره غريب، ومن أول ما دخل وهو يشعر بالغرابة، فهو غريب في منظره وهيئته، وفي مجلسه نوع أدب شديد، وقد أعجب الصحابة منه حتى عمر، ولذلك نقل الهيئة والكيفية، ثم إنه يسأل وهو أيضاً مصدق، وهذا على خلاف عادة السائل، فالسائل يسأل من أجل أن يتعلم، وأما أن يسأل فإذا سمع الجواب قال: هذا حق، وقد صدقت، وهذا لا يكون إلا إذا كان السائل له علم سابق؛ لأنه من العيب أن تقول: أنت صادق أو محق؛ لأن من عادة السائل السؤال حتى يتعلم، ويأخذ الجواب وينصرف، لا أن يقول له: صدقت.
وفي المرة الأخرى يقول له: أخطأت.
وقد يسأل العالم بالجواب حتى تعم الفائدة، ودليل ذلك: هذا الحديث، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطرح على الناس المسألة لأجل أن يسمع جوابهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم ما هي؟ فوقع الناس في شجر المدينة)، ووقع في قلب عبد الله بن عمر أن المسلم شبيه بالنخلة، والنخلة تعطينا التمر، وبقية الأشجار شجر، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقل: إن مثل المسلم كمثل النخلة؛ لأن النخلة ليس هناك غيرها، فلو قال: ما هي؟ لعرفوها، ولكنه عم عليهم المسألة فقال: إن مثل المسلم كمثل شجرة ما هي؟ فكلمة شجرة هذه جعلتهم يستبعدوا النخلة، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها النخلة، قال عبد الله بن عمر لأبيه عمر بن الخطاب: لقد وقع في قلبي أنها النخلة، وما منعني إلا الحياء)، يعني: استحيا من مشايخ قريش وزعماء الأنصار، فحزن عمر حزناً شديداً وقال: لو قلتها لكانت أحب إلي من الدنيا وما فيها.
وهذا من فرحة الأب بذكاء ولده وبتفوقه، وربما ظل عمر ندمان عليه حتى مات.
فـ عبد الله بن عمر عرف ذلك وهو طفل صغير، وقد كان عقله راجحاً من أول الأمر.
[قال: (قال: صدقت، فعجبنا له وهو يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)]، فأركان الإيمان ستة، وأركان الإسلام خمسة.
(قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه).
وهذا منتهى المراقبة لله عز وجل.
(فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أي: فإنه سبحانه يراك حقيقة.
(قال: صدقت.
فأخبرني عن الساعة؟ قال: قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: أني مثلك في هذه القضية، فيوم القيامة لا يعرفه أحد؛ لأن هذا من الغيب الذي أستأثر الله تعالى به لنفسه، وأنا لا أستطيع أن أجيبك عن هذا السؤال.
(قال: فأخبرني عن أماراتها وأش(14/9)
معنى الإسلام وأهمية تعليمه
قال الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
فالإسلام هو الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فمن أتى بدين غير دين الإسلام فإن الله تبارك وتعالى يرده عليه في وجهه ولا يقبله منه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
وقد جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: (يا محمد! علمني الإسلام) أو قال: (ما الإسلام؟) في رواية البخاري، (فنزل النبي عليه الصلاة والسلام من على المنبر، وطلب كرسي فجيء به، فجلس عليه في المسجد أو في صحن المسجد، وعلم الرجل الإسلام، ثم صعد المنبر فأتم الخطبة عليه الصلاة والسلام).
فإذا سألك أحد أن تعلمه الإسلام فدع ما في يدك مهما كانت أهميته، وعلم ذلك الرجل كيف يدخل في الإسلام، ولذلك ترك النبي عليه الصلاة والسلام عملاً عظيماً جداً، وهو خطبة الجمعة لأجل هذا، كما قطعها لأجل طفلين صغيرين الحسن والحسين -فلما رآهما النبي عليه الصلاة والسلام نزل من على المنبر وقطع الخطبة، وحمل الحسن والحسين وصعد بهما إلى المنبر، وتلا قول الله عز وجل: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28].(14/10)
شرح حديث: (الولد مجبنة مبخلة)
قال عليه الصلاة والسلام: (الولد مبخلة مجبنة مجهلة).
ومعنى مبخلة يعني: أنك تقول مثلاً عند داعي الصدقة: أولادي أولى، فأنا لن أتصدق لأني أريد أن أعمل مستقبل لأولادي، فتبقى معك الأموال، ثم تقصر فيما فرضه الله عز وجل عليك، وإذا نصحت بالذهاب إلى الحج مع الناس وتأدية فرض الله عز وجل قلت: لا، أريد أن أربي الولد والبنت.
وهذه الأشياء لن تنتهي، فلو أنه زوج العيال كلهم وسترهم بستر الله عز وجل فسيطمع بأن يكون لهم بيت، وإذا بنى لهم بيتاً ثم وقعت المشكلات فيما بينهم يقول: سأبني لكل واحد بيتاً.
فالقضية هذه لن تنتهي وليس لها نهاية.
وليس فرضاً عليك أنك تزوج أولادك، وتبني لهم البيوت قبل أن تؤدي فرض الله عز وجل الذي فرضه عليك فرض عين.
قال الحسن البصري: جاء أعرابي إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! علمني الدين.
فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -وهذا يعرف بالسمع لا بالعقل- وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان.
قال: وعليك بالعلانية -أي: في كل ما يرضي الله عز وجل- وإياك والسر -أي: وإياك وما يستحيا منه- كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (لما وجد رجلاً من الأنصار يعظ أخاه في الحياء).
يعني: يعاتب أخاه في الحياء ويقول له: إن حياءك شديد ويكاد أن يهلكك.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعه فإن الحياء من الإيمان).
وفي رواية: (فإن الحياء لا يأتي إلا بخير).
وفي رواية: (فإن الحياء كله خير).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وهذا الحديث له معنيان عند أهل العلم: أحدهما: إذا لم تستح من فعلك بين يدي الله عز وجل فاصنعه، فإنه من طاعة الله وفي رضا الله.
يعني: إذا لم يكن فعلك هذا مما تستحي منه بين يدي الله إذا حاسبك عليه فافعله الآن؛ لأنه في مرضاته وفي طاعته.
وهذا المعنى هو الذي قال فيه عمر: وعليك بالعلانية وإياك بالسر.
أي: وإياك أن تعمل عملاً في السر يغضب الله عز وجل.
وعليك بالعلانية، أي: وعليك بما لا يستحيا منه بين يدي الله عز وجل في الآخرة، ولا بين الناس في الدنيا، وإن لقيت الله فقل: أمرني بهذا عمر.
والمعنى الثاني لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
يعني: إذا كان الشخص ليس عنده حياء قط فليصنع ما شاء بعد ذلك، فإنه إذا نزع من المرء الحياء لم يعاتب ولم يلم على فعله القبيح الذي هو فيه؛ لأن الناس اعتادوا منه سوء الخلق، وسيحاسبه الله عليه يوم القيامة.
معنى كون الولد (مجهلة).
أي: أنه هو الذي يسبب الجهل لأبيه، فإذا خرج والده في طلب العلم منعه الولد لحاجته ومتطلباته، وغير ذلك مما يخص الولد.
يعني: أن الولد يشغل أباه عن طلبه للعلم، فيصير جاهلاً.
وقد تكون الزوجة أجهل من ولدها، والولد قد يحتمل، وأما الزوجة فلا تحتمل، فلا يخرج الزوج لدرس العلم إلا خفية من الزوجة، فيقول لها: سأذهب لآتي بكذا وكذا وكذا فتقول له: اذهب وفقك الله، ولو اشترى كتاباً لانتقدته أمه بأنهم ليس معهم مصاريف الأولاد وغير ذلك، حتى أنه يضطر في النهاية إلى شراء الكتاب بغير علمها.
فطالب العلم يحتاج إلى صبر عجيب جداً، صبر على شراء الكتاب، وصبر في المحافظة عليها، وصبر في الطلب، وصبر على الزوجة، وعلى الأولاد، وصبر من كل ناحية، وإن لم يكن صاحب حكمة وحنكة وفطنة وحسن تصرف في المواقف المتكررة كل ساعة وكل دقيقة فسيضيع مع أولاده ومع امرأته، فلا بد أن يجعل طالب العلم لقلبه ولوقته ولعلمه وقتاً مع كتاب الله ومع سنة رسوله، وحضور مجالس العلم وإلا سيضيع.
والشيخ ابن عثيمين وغيره يشرحون قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد مجبنة) فيما يتعلق بالجهاد.
أي: إذا نادى منادي الجهاد يقولون له: انتظر إلى أين ستذهب؟ إن لديك أولاداً صغاراً، فمن سيربيهم؟ مع أن هؤلاء الأولاد هم الذين سيدمرونه ويضيعونه، فهو لن يطلب العلم بسبب العيال، ولن يجاهد حتى يجاهد في العيال، فالولد هو سبب كل بلية، والذكي هو من يعطي لكل ذي حظ حظه، ثم يدع الأمر بعد ذلك لله عز وجل.
وكم من شخص حرص كل الحرص على تربية أبنائه، ثم ما رباهم في النهاية؛ لأنه لم يتق الله تبارك وتعالى فيما تعين عليه هو أولاً، بل جعل كل همه في أولاده، وليست هذه دعوة لترك الأولاد والتفريط في حقهم، أبداً، بل هذا مما قد تعين عليك، ولكنه تعين بقدر، فينبغي ألا تزيد عليه ولا أن تنقص منه.
والأصل في ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول).
وفي رواية: (أن يضيع من يقوت).
فعليه أن يعولهم ويطعمهم ويسقيهم ويعلمهم ويربيهم، ويعلمهم الإيمان بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل، وغير ذلك، فكل هذا داخل في عيالة الأولاد، وفي ا(14/11)
كلام ابن عثيمين في الإيمان بالله(14/12)
بيان ما يتضمنه الإيمان
الشيخ ابن عثيمين حفظه الله لما تكلم عن الإيمان بالله عز وجل قال: (الإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى، والإيمان بربوبيته).
أي: أنه متفرد بالربوبية، والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بألوهيته، وأن ذلك لا يتحقق إلا من قبل السمع، والعقل، والحس، والفطرة.(14/13)
الأدلة على معرفة الله تعالى
قال: (ومعرفة الله تعالى تتحقق أولاً: بالسمع.
ثانياً: بالعقل.
ثالثاً: بالحس.
رابعاً: بالفطرة).(14/14)
دلالة العقل على معرفة الله سبحانه وتعالى
قال: (فأما دلالة العقل فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها؟ يعني: هل وجد هذا الكون وما فيه من سماء وأرض وأجرام ومجرات وآيات عظيمة بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ قال: فإن قلت: وجدت بنفسها فمستحيل عقلاً يعني: أن العقل يحيل أن توجد هذه الكائنات بنفسها؛ إذ إنها في أصلها عدم ثم أنشئت، فكيف تكون موجودة وهي معدومة؟ والمعدوم ليس بشيء حتى يوجد فضلاً عن أن يوجد).
فهي لا يمكن أن توجد نفسها؛ لأنها في الأصل معدومة، والمعدوم لا يوجد نفسه، فكيف يوجد غيره؟ وإن قلت: وجدت صدفة فنقول: هذا يستحيل عقلاً أيضاً، فهل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها وجد صدفة؟ فلابد أن يقول: لا يمكن أن يكون ذلك، وكذلك هذه الجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة كذلك، ولا يتصور أن هذا التقدم الحضاري الذي يمر به العالم الآن وجد هكذا صدفة؟ وهل وجدت الطائرة أو الصاروخ أو أي آلة إلكترونية من قبل الصدفة، أم درس ذلك دراسة علمية منضبطة على المنهج التقني والحديث؟ لابد وأن ذلك كان مدروساً، فهذه الحضارة التي هي موجودة الآن التي عمرت الأرض شرقاً وغرباً لا يمكن أن يقول أحد أنها وجدت صدفة، وإذا كان الأمر كذلك فلابد وأن تكون مخلوقات الله عز وجل لها مدبر.
ويقال: إن طائفة من السمنية -وهم فرقة من أهل الهند- جاءوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وهل الخالق لهذا الكون موجود أم غير موجود؟ وكان هذا في القرن الثاني الهجري، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يجيبهم بعد يوم أو يومين، فذهبوا ثم عادوا بعد يوم أو يومين وقالوا: ماذا قلت؟ قال: أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تفكر بهذا يا أبا حنيفة؟! قال: نعم.
قالوا: إذاً ليس لك عقل، فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول.
قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه.
فهذا حجة عقلية في إثبات وجود الله عز وجل، ونحن متفقون أن الله تعالى إنما وجبت معرفته بالسمع، ولا بأس بمعرفته استئناساً بالعقل، والله تبارك وتعالى خاطب العقول الراجحة السليمة في القرآن في غير ما آية في عشرات ومئات الآيات، مثل قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} [محمد:24]، وغير ذلك من الآيات التي تخاطب العقل وتأمره بالتدبر والتفكر في آيات الله عز وجل وفي الخلق والكون وغير ذلك.
وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير.
يعني: لو أن جملاً مشى في الصحراء لعرف أثر قدمه، والعرب كانوا يعرفون آثار الأقدام، ونحن في هذا الوقت لا نعرف ما يمشي إلا السيارة، وأما الأعراب فكانوا يعرفون أن الذي مشى من هنا معزة فلان، فكانوا يعرفون حتى لمن هي، فهذه حياتهم.
وكان أحدهم يضع أذنيه قريباً من الأرض، وقد يسمع أصواتاً من بعد فإذا نظر ولم ير أحداً وإنما سمع دبيب الأرجل على الأرض علم أن هناك أناساً جاءوا من الشمال أو من اليمين أو من الجنوب.
فهذه حياتهم، وهم أئمة في ذلك.
فهذا الأعرابي لما سئل: بم عرفت ربك؟ قال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ بلى.
ولهذا قال الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
يعني: أهم خلقوا من غير شيء فأوجدوا أنفسهم بعد أن لم يكونوا؟ أم هم الخالقون للكون؟ أم أنهم كانوا في الأصل عدماً؟ فكيف أوجدوا أنفسهم فضلاً عن كيفية إيجادهم لغيرهم؟ فالعقل يدل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل، ولا بأس بأن نقول: معرفة الله تبارك وتعالى واجبة بالسمع، ولا بأس أن نستأنس بالعقل السليم الراشد.(14/15)
دلالة الحس على معرفة الله سبحانه وتعالى
الحس يدل على وجود الله عز وجل؛ فإن الإنسان يدعو الله عز وجل ويقول: يا رب! ويدعو بالشيء ثم يستجاب له فيه، فهذه دلالة حسية.
فهو نفسه لم يدع إلا الله، وقد استجاب الله له، فهو قد رأى ذلك رأي العين.
وكذلك نحن نسمع عمن سبق وعمن في عصرنا أن الله استجاب له، فهذه دلالة الحس على أن الشافي هو الله عز وجل؛ لأنه طلب الشفاء فشفاه سبحانه وتعالى، فهذه دلالة حسية.
والأعرابي الذي دخل المسجد والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب الناس يوم الجمعة فقال: (هلكت الأموال، وانقطعت السبل، وهلك الضرع والزرع، فادع الله يغيثنا.
قال أنس: والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة -يعني: قطعة سحاب- وما بيننا وبين سلع -وهو جبل في المدينة- من بيت ولا دار).
يعني: أن الأرض كلها صحراء جرداء، وهم يرون السماء جيداً ليس فيها سحاب ولا غمام، ولا شيء ينبئ عن نزول مطر، فلما دعا الرسول عليه الصلاة والسلام (خرجت سحابة مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت وأرعدت وأبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام).
فهذه دلالة حسية، فقد دعا فاستجيب له.
والله تعالى يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
وهذا أمر واقع يدل دلالة حسية على وجود الخالق.
وفي القرآن الكريم كثير من هذا، مثل قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:83 - 84] ومع أن هذه دلالة حسية إلا أنها تشمل معها الدلالة السمعية كذلك، إذ هي آية من كتاب الله عز وجل.(14/16)
دلالة الفطرة على معرفة الله سبحانه وتعالى
الفطرة تدل على الله سبحانه وتعالى، فقد جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة).
يعني: على التوحيد والإسلام، كما ورد في إحدى الروايات، (ما من مولود إلا يولد على فطرة الإسلام).
يعني: على توحيد الله عز وجل.
والناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العجم تؤمن بوجود الله عز وجل، وجاء في قصة سليمان عليه السلام: (أنه خرج يستسقي فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا سقياك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم).
فالحشرات والحيوانات والبهائم والطيور ومنها الغراب والهدهد عرفوا الله عز وجل ووحدوه حق توحيده الذي يجب له وينبغي.
إذاً الفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172].
فلما خلق الله تعالى آدم أخرج من صلبه كل نسمة تكون إلى يوم القيمة مثل الذر، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172]، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]، أي: ألست الخالق لكم، المدبر لجميع أمركم؟ {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
فلا تأتوا يوم القيامة وقت الامتحان والاختبار تقولون: كنا يا رب! من الغافلين.
فإن الله عز وجل جبلكم وفطركم وخلقكم على توحيده وعبادته، فلا تنحرفوا عن ذلك وتقولوا غفلنا.
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173].
يعني: ليس لنا ذنب، ونحن سمعنا ووجدنا آباءنا مشركين فأشركنا.
وهذا لا ينبغي أن يكون جواباً يوم القيامة.
فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته، وسواء استخرجهم الله من ظهر آدم واستشهدهم، أو إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به؛ فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته.
وأما دلالة الشرع فهو ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يُصلح الخلق، وهذا يدل على أن الذي أرسلهم بها رب حكيم رحيم عليم خبير، ولاسيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(14/17)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - هل الاسم هو المسمى
مسألة: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ مسألة في غاية التعقيد والصعوبة، وقد وجدت هذه المسألة في الأزمنة الأولى، وعلى جهة الخصوص في القرن الثالث الهجري، وذلك لما عربت كتب اليونان، ودخلت الفلسفة على المسلمين، والحق في هذه المسألة: أن الاسم هو المسمى، خلافاً لبعض الفرق المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، الذين خالفوا كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وإجماع المسلمين، ولغة العرب والعرف والعادة.(15/1)
بداية ظهور مسألة الاسم والمسمى
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فإن مسألة: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ مسألة في غاية التعقيد والصعوبة، ولا شك أنها مسألة قد صيغت في الأزمنة الأولى، وعلى جهة الخصوص في القرن الثالث الهجري، وذلك لما ظهرت الفلسفة، فتكلم المتكلمون في أسماء الله وصفاته، ووضعوا أمام أهل السنة العراقيل بزعمهم، واضطر أهل السنة إلى أن يردوا عليهم مفترياتهم، وأن يدحضوا الدخيل الذي لم يكن معلوماً لدى سلفنا رضي الله تعالى عنهم.
فهل اسم الله يدل على ذات الإله؟ وهل لفظ الجلالة (الله) إذا أطلقناه نعني به ذات الله تبارك وتعالى؟ وإذا أطلقنا لفظ (الخالق) هل هذا الاسم يدل على ذات الإله أم أنه منفصل عن الإله تبارك وتعالى؟ أي: هل الاسم هو عين المسمى، أم أنه خارج عنه؟(15/2)
إنكار الإمام أحمد لمسألة: هل الاسم هو المسمى
إن هذا الكلام لم يعرفه الصحابة ولا التابعون ولا أتباع التابعين؛ لأنهم علموا سلفاً أن الاسم هو المسمى؛ عرفوا ذلك بفطرهم، وبكتاب الله عز وجل، ولم يخوضوا في معرفة هذا المصطلح، ولذلك لما ظهر هذا المصطلح في القرن السادس أنكره الإمام أحمد بن حنبل غاية الإنكار، ولم يجب عنه لا لجهل عنده، فإنه كان إمام أهل السنة والجماعة، وكان عالماً بكل دقيقة وبكل صغيرة في عقيدة المسلمين، لكنه كره أن يسمع هذا المصطلح فضلاً أن يرد عليه، فتوقف فيه تمام التوقف، وقد نقل توقفه الإمام أحمد بن تيمية عليه رحمه الله في المجلد السادس من كتاب الفتاوى، كما نُقِل توقفه كذلك في كتاب طبقات الحنابلة، وغير ذلك من كتب الاعتقاد، فقد كرهه وأبغضه غاية البغض؛ لأن هذا الكلام لم يكن معروفاً لدى السلف فلم الخوض فيه؟ ولم إنشاؤه الآن؟ وأحمد يعتقد أن السلف رضي الله عنهم -ونحن نعتقد كذلك- ما كان معلوم لديهم فهو دين الله تبارك وتعالى، وما لم يكن معلوماً لديهم، فإنما يكره أو يحرم الخوض فيه لمن أتى من بعدهم؛ لأن السلف رضي الله تعالى عنهم ما عرفوا إلا الحق، وما أذاعوا بينهم إلا الحق والرضا.
لكن من أتى بعدهم -بعد دخول العجمة والفلسفة- اضطروا أن ينساقوا خلف الفلاسفة، وخاصة بعد أن عربت كتب الفلاسفة اليونانيين في حكم الدولة العباسية، ودخل الإسلام من الشر ما دخله بترجمة هذه الكتب، وعانى أهل العلم معاناة شديدة للرد على كلام الفلاسفة الذي تأثر به بعض علماء الإسلام وخاصة الأشاعرة.(15/3)
سياق ما فسر من كتاب الله وما روي عن رسول الله وورد من لغة العرب على أن الاسم والمسمى واحد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما فسر من كتاب الله تعالى، وما روي عن رسول عليه الصلاة والسلام، وورد من لغة العرب على أن الاسم والمسمى واحد].
أي: إذا قلت: الله، فالمقصود ذات الإله، وذات الإله واسم الله شيء واحد، فالاسم هو المسمى، والمسمى هو الاسم.
قال: [وأنه هو هو لا غير أي: أن الاسم هو المسمى، فلا شيء خارج عنه؛ لذا فالكلام في هذا الباب -هل الاسم هو المسمى- هو ضرب من ضروب الكلام عن القرآن الكريم، وأنه كلام الله تعالى غير مخلوق؛ لأن المعتزلة على جهة الخصوص قالوا: الاسم ليس هو المسمى، ومرادهم بهذا: أن الله تبارك وتعالى كان ولم يكن له اسم، ثم بعد أن كان أوجد أسماءه، والذي يقول: إنه أوجد أسماءه يلزمه أن يقول: إن أسماء الله تعالى لم تكن ثم كانت، ثم يلزمه تباعاً أن يقول: إن أسماء الله تعالى حادثة، وكل حادث لابد وأنه إلى زوال وفناء، فيلزمهم أن يقولوا: إن أسماء الله تعالى كلها مخلوقة كما قالوا في صفة الكلام لله عز وجل، وهو القرآن الكريم، فقد قالوا: إنه مخلوق، أي: حادث، وأسماء الله تعالى ليست هي عين المسمى؛ فيلزمهم أن يقولوا: إن الفناء يطرأ على هذه الأسماء، فكان الله ولم يكن له اسم، ثم تسمى بهذه الأسماء بعد ذلك؛ فيلزمهم أن يقولوا: إن كل هذه الأسماء لابد وأن يحصل عليها الفناء.
إن الذي يقول: إن أسماء الله ليست هي الله تعالى، أو ليست هي المسمى، وليست هي عين المسمى؛ يلزمهم أن يقولوا: إن أسماء الله تعالى حادثة، أي: أوجدت وأنشئت بعد أن لم تكن، والذي يقول بهذا الاعتقاد يقول: إنها لابد أن تفنى، فإن الله كان بلا أسماء، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن الله تبارك وتعالى كان بغير اسم الرزاق، ولم يستحق هذا الاسم إلا بعد أن رزق، وكان بغير اسم الخالق، وما استحق أن يكون خالقاً إلا بعد أن خلق، وغير ذلك من أسماء الله عز وجل، وهذا كلام في غاية البطلان والفساد.
بل قال أحمد بن حنبل: من قال بذلك فهو كافر؛ قياساً على كلامه في موقف المعتزلة من كلام الله عز وجل، فلما سئل عن القرآن: أهو مخلوق؟ قال: لا، إن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفاته غير مخلوقة، ومن قال: إن القرآن مخلوق فقد كفر.(15/4)
أدلة أهل السنة والجماعة على أن الاسم هو المسمى
وحجة أهل السنة والجماعة على أن الاسم هو المسمى، أو هو عين المسمى ما يلي: [قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:1 - 2]، وقال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وقال تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]].
أي: عندما تدعون الله تبارك وتعالى فإنكم لابد أن تدعونه بأسمائه الحسنى؛ إذ أنه تبارك وتعالى لا يمكن أن تناديه بغير اسمه، بل ولا يتصور هذا، فتقول: يا رحمان يا رحيم يا قابض يا خالق يا رزاق يا بارئ يا مصور يا مهيمن يا عزيز يا جبار، وغير ذلك من أسمائه الحسنى، لكن لو رفعت يديك إلى السماء وأردت أن تدعو الله بغير اسمه فإنك ستعجز عن الكلام، وتعجز عن الدعاء؛ لأنه لابد وأن تذكره باسم من أسمائه، ولا يتصور أن الله تبارك وتعالى كان بغير اسم، ولم يستحق أن يسمى إلا بعد أن خلق له أسماء، لذا فإن من يقول: إن أسماء الله وصفاته مخلوقة، لابد وأن يقول: إنها فانية؛ لأن الله في نظره وفي زعمه كان بلا أسماء، وسيكون في آخر الزمان بلا أسماء كذلك، ولا شك أن هذا قول كذب ومفترى، بل هو الكفر البواح والصريح.
قال: [وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65]، وقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3]، ولم يقل أحد من العقلاء: من اسمه: رب هذا البيت).
لأنهم يعلمون أن لله أسماء حسنى، وصفات عليا قد تسمى بها أزلاً، ولا تزال هذه الأسماء باقية إلى أبد الآبدين.
قال: [ولم يقل أحد من العقلاء من اسمه: رب هذا البيت، ولا قال أحد: ادع الذي اسمه: الله]، وإنما يقولون: ادعوا الله؛ لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3]، وقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
ولأن دعاء الاسم بخلاف دعاء المسمى، فعند إطلاق الاسم على الآدمي لابد وأن تعلم أن أسماء المخلوقين مخلوقة، بخلاف أسماء الخالق تبارك وتعالى فإنها غير مخلوقة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] أي: علم آدم بعد أن كان جاهلاً، وبعد أن لم يكن يعلم اسماً من الأسماء، فالله خلقه جاهلاً ولم يخلقه عالماً، ولذلك قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وهذا يدل على أنه قبل تعليم الله له لم يكن عالماً بهذه الأسماء، وهذه الأسماء مخلوقة لآدم ومخلوقة في آدم، أي: أن الله تعالى خلقها وعلمها لآدم بعد أن كان جاهلاً بها.
ولذلك فاسمك مخلوق، والاسم الذي ركب فيك وركب عليك كذلك مخلوق، ولذلك عندما يأتي المولود فيقال: نسميه إبراهيم، فيقول آخرون: بل نسميه محمداً، ويقول ثالث: بل نسميه سعداً، والرابع: يسميه سعيداً، وغير ذلك، ثم يستقر اسم ذلك الولد على ما قدره ربه تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ، والذي سجله ربه تبارك وتعالى هناك.
ثم انظر يا عبد الله! ألا ترى أنك تسمى حليماً وليس فيك شيء من الحلم، وتسمى لطيفاً وليس فيك من اللطف شيء، فلا يلزم أن يدل الاسم على المسمى؛ لأنك مخلوق واسمك كذلك مخلوق، بخلاف المولى عز وجل، فإنه خالق كل شيء، وهو سبحانه وتعالى ليس مخلوقاً، وإنما هو الإله الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وكذلك أسماؤه تبارك وتعالى وصفاته العلى، فإنها ليست مخلوقة، وإنما هي أسماء وصفات أزلية أبدية ليست بمخلوقة.
وهنا نقول: إن أسماء المخلوقين مخلوقة ولا تدل باللازم على المسمى؛ لأن المرء يسمى محمداً وليس فيه من الحمد شيء، ويسمى أحمد وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من أسماء أفراد هذه الأمة المحمدية وهم تاركون للصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وللأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهل هذا يدل على حمدهم لله، وشكرهم لله، وإنابتهم وإخباتهم لله؟
الجواب
لا، فإن أسماء المخلوقين مخلوقة، وليس بلازم أن يدل على عين المسمى، بخلاف المولى تبارك وتعالى فإنه لما كانت ذاته تبارك وتعالى ليست مخلوقة، وذوات المخلوقين مخلوقة، اختلفت الذات عن الذات، وبالتالي لابد وأن تختلف الصفات عن الصفات، إذ إن صفات الله تبارك وتعالى غير مخلوقة تبعاً لذات المولى تبارك وتعالى.
وأما ذات المخلوقين لما كانت مخلوقة فلابد وأن تكون أسماءهم وصفاتهم كذلك مخلوقة، ولذلك لم يقل أحد من العقلاء: يا أيها الناس! ادعوا من اسمه الله، وإنما يقال: ادعوا الله مباشرة؛ لأن اسم (الله) يدل على ذات الإله، ولا يلتفت عنه قط، وأن ذات الاسم هو ذات المسمى.
وقال تبارك وتعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُ(15/5)
من أعظم الشرك أن يقال: إن العبادة لاسمه، واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق
قال: [ومن أعظم الشرك أن يقال: إن العبادة لاسمه واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق].
فانظر إلى هذا اللبس وهذا الخلط، فرب رجل من المعتزلة يأتينا فيقول: من تدعون؟ فنقول: ندعو الله، فيقول: لا، أنتم الآن تدعون اسماً من أسماء الله، ولا تدعون ذات المسمى، وهو الله تبارك وتعالى، وأنتم بهذا قد أشركتم بالله! وهذا لبس وخلط، ولذلك رد عليهم الإمام فقال: [ومن أعظم الشرك أن يقال: إن العبادة لاسمه واسمه مخلوق، وقد أمر بالعبادة للمخلوق]؛ إذاً: فأنت الآن تدعو المخلوق كما تدعو السيد البدوي، والسيدة زينب، ونفيسة وغيرهم من الأولياء، وعليه فما الفرق عندكم -المعتزلة يوجهون هذا السؤال لأهل السنة- بين من يدعو البدوي وبين من يدعو اسماً من أسماء الله؟! فنقول لهم: إن الفرق شاسع وكبير جداً؛ لأننا نعتقد أولاً: أن الاسم هو المسمى، والأمر الثاني: أننا نعتقد أن أسماء الله تعالى لازمة لذاته لا تنفك عنه، فهي أزلية أبدية وليست بمخلوقة.
قال: [وهذا قول المعتزلة والنجارية وغيرهم من أهل البدع والكفر والضلال.
وقال تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
وقد أجمع المسلمون على أن (هو) إشارة إليه، وأن اسمه (هو).
وقال تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، فأمر الله تبارك وتعالى أن يذكر اسمه على البدن حين نحرها للتقرب إليه سبحانه]، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} ولم يقل: اذكروا ذات الله، ليدل على أن الاسم هو المسمى.
فإذا دعونا الله تبارك وتعالى فإنا نقول: باسم الله أذبح وأتقرب إلى الله، وباسم الله أجامع، وباسم الله آكل، وباسم الله أشرب، وباسم الله أمشي، وباسم الله أتوكل عليه، وأفعل كيت وكيت.
بينما المعتزلة إذا سمعونا نقول ذلك يقولون: أنتم تدعون الاسم دون المسمى! فنقول لهم: وإن كان الأمر كذلك فإن الله قد أمرنا بذلك، وعندنا في ذلك بدل النص عشرات النصوص؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج:36]، ولم يقل: فاذكروا ذات الله؛ ليدل على أن الاسم هو المسمى.
قال: [وعلى مذهب المبتدعة: لو ذكر اسم زيد أو عمرو أو اللات والعزى يجزيه؛ لأن هذه الأسماء مخلوقة، وأسماء الله عز وجل عندهم مخلوقة].
أي: أنهم يقولون: لا فرق بين أن تدعو اللات والعزى، وأن تدعو الله؛ لأنك بهذا كله إنما تدعو أسماء، سواء دعوت أسماء هذه الآلهة، أو أسماء الله تبارك وتعالى، فالكل عندهم مخلوق، والكل عندهم نداء لغير الله عز وجل.
قال: [وقال في آية أخرى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118])، ولم يقل سبحانه: فكلوا مما ذكر ذات الله.
وقال في موضع آخر: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121].
وقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن:78]-ولم يقل: تبارك ذات ربك- وقال في آية أخرى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]].(15/6)
إجماع المسلمين على أن المؤذن إذا قال كلمة التوحيد فقد أتى بالتوحيد وأقر بالنبوة
قال: [وأجمع المسلمون: أن المؤذن إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ فإنه قد أتى بالتوحيد].
أي: أقر بتوحيد الله عز وجل، وأنه قد دعا الله تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته العلى.
قال: [وأقر بالنبوة]؛ لأنه شهد أن محمداً رسول الله، ولذا فلا يتصور أن واحداً يقول: إن من قال: أشهد أن محمداً رسول الله؛ إنه قد دعا الاسم دون المسمى! كما أن واحداً لو ناداك وقال: قبحك الله يا زيد! وأنت اسمك زيد، فأردت أن تعاتبه فقال لك: أنا ما أردت تقبيح ذاتك، وإنما قبحت الاسم، ولا علاقة لك به، فهل يتصور ويعقل ذلك؟! إن هذا الكلام كله خلط ولا قيمة له، بل حتى في لسان العرب لا تجد مثل هذا الكلام؛ لأن الاسم عين المسمى.
ثم قال: [فإنه قد أتى بالتوحيد، وأقر بالنبوة إلا المعتزلة، فإنه يلزمهم أن يقولوا: أشهد أن الذي اسمه (الله) لا إله إلا هو، وأشهد أن الذي اسمه (محمد) هو رسول الله].
ولا يتصور أن يقبل هذا جاهل ولا عالم، فإذا قلنا له: لماذا قلت هذا؟ قال: لأنني اعتقد أن الاسم غير المسمى، وإذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، فأنا الآن أنادي الاسم دون المسمى، وإذا قلت: أشهد أن محمداً رسول الله، فإنني أشهد للاسم بالنبوة والرسالة دون المسمى! وهذا الكلام غير صحيح، وقد أجمع أهل السنة والجماعة على خلاف ذلك.
ولذلك قال المصنف: [وهذا خلاف ما وردت به الشريعة، وخلاف ما عليه المسلمون، وكذلك هذه الأيمان التي بالله تبارك وتعالى كلها عندهم يجب أن تكون مخلوقة].
أي: لو أنك قلت: والله والبارئ والخالق والمصور وغيرها من أسمائه تبارك وتعالى، فكلها أيمان باطلة؛ لأنهم يقولون: إنك قد ناديت المخلوق، وهم بهذا -أي: المعتزلة- يريدون أن يسحبوا ما قالوه في كلام الله عز وجل على بقية أسماء الله وصفاته، وبالتالي يجرون جميع الأحكام التي قالوها في القرآن على بقية أسماء الله وصفاته، فيقولون: لا يجوز الحلف بالله، ولا بأسمائه، ولا صفاته؛ لأنها مخلوقة، وإذا حلفت بالله أو بأسمائه أو بصفاته؛ فإنما تحلف بالمخلوق، وبالتالي تكون مشركاً.
فتأمل إلى زعزعة الثوابت في قلوب المسلمين، فهي ليست وليدة اليوم، نعم ظهر الآن في المسلمين بغال وحمير يشككون في الثوابت والأصول كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك، لكن زعزعة هذه الأصول على ألسنة هؤلاء الحمير والبغال لها أصول قديمة جداً، فتجد أنه ينعق بها اتباع كل ناعق، واتباع الحمير والبغال في الشرق والغرب؛ ليزعزعوا التوحيد في قلوب أهل السنة والجماعة.
وأنا متأكد أنه لو سألك سائل في الشارع: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ فإنك ستقول له: ما هذا؟ من أين أتيت بهذا الكلام؟ ما هو الاسم؟ وما هو المسمى؟ فسيقول لك: الاسم ليس هو المسمى؛ لأن أسماء الله مخلوقة، فيلبس عليك دينك، وتعود إلى بيتك بغير عقيدة أهل الإيمان وأهل التوحيد؛ لأنك بعدت كل البعد عن العلم، وعن طلب العلم، ثم إن هذه المسائل قد استعجمت على كثير من أهل العلم في السابق، فلم لا تعجم عليك يا عبد الله؟! ثم اعلم أن أصحاب البدع متخصصون في بدعهم، فقد علموا عنها كل كبيرة وكل صغيرة، وأحاطوا بها علماً، بل قد صنفوا وألفوا فيها الشبهات التي إذا ألقوها على جهلة المسلمين لتحيروا وتاهوا وضلوا، والعلم حابس لصاحبه ولأهله، فبالعلم تعصم من الضلال وتعصم من الغواية، وأما بغير العلم فإنه إذا ألقيت عليك شبهة تشربها القلب.
وأنا أنبه على أن العلم واجب على كل مسلم ومسلمة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم واجب على كل مسلم)، ويدخل فيه تبعاً النساء، وهذا هو العلم الضروري الذي لا يمكن للمرء أن يستغني عنه، وإذا لقي الله تبارك وتعالى بغيره فقد لقيه بتقصير شديد، والله تعالى يؤثمه في الدنيا، ويحاسبه على هذا التقصير يوم القيامة.
وإن من ألزم العلوم وأفرضها: علم العقيدة؛ لأنه يتعلق بذات الإله تبارك وتعالى، ولا يسعك أن تجهل إلهك ومعبودك، ولا يتصور أنك تعبد إلهاً وأنت لا تعرفه، وتتقي إلهاً وأنت لا تدري ما تتقيه؟ ومن تتقي؟ وبماذا تتقي؟ ولذلك من الخبط والعشواء أن تعبد إلهاً لست عارفاً به، وأن تتقي إلهاً وأنت لا تدري من هذا الذي تتقيه؟ وما الذي في قدرته وإمكانه؟ وكيف تتقيه؟ وبماذا تتقيه؟ فالاسم عند أهل السنة هو المسمى، وعند غير أهل السنة والجماعة الاسم غير المسمى، وبالتالي فإن أسماء الله تعالى مخلوقة.(15/7)
أمثلة من السنة على أن الاسم هو المسمى
قال: [وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول في دعائه: (باسمك اللهم أحيا وأموت))، ولم يقل: بذاتك يا من سميت نفسك الله].
وهذه سنة عظيمة لمن أراد أن ينام، فيتوضأ وضوءه للصلاة، ثم ينام على جنبه الأيمن، ويضع يده تحت خده الأيمن، ثم يقول هذا الدعاء: (باسمك اللهم أموت وأحيا) أي: أموت الموتة الصغرى وهي النوم، ثم أحيا منها بإذنك يا رب! وباسمك يا رب! قال: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستشفي للمرضى -أي: يطلب لهم الشفاء من الله تبارك وتعالى- بقوله: (أعيذك بكلمات الله التامة)، وكلمات الله تبارك وتعالى التامة غير مخلوقة].
والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان يستشفي للمرضى بصفات الله عز وجل، وهي ليست مخلوقة، فقد كان يستعيذ بكلام الله العظيم تبارك وتعالى، وكان يعوذ بها الحسن والحسين.
قال: [وجبريل حين اشتكى رسول الله عليه الصلاة والسلام عوذه بها -أي: أن جبريل عليه السلام عوذ النبي عليه الصلاة والسلام بكلمات الله التامة- ثم قول الناس في الأدعية: اللهم اغفر لي وارحمني، لا أن يقولوا: يا من سميت نفسك (الله) اغفر لنا وارحمنا؛ لأنهم يعلمون أن الاسم هو المسمى، قال: معناه عندهم -أي: عند المعتزلة-: من اسمه الله -الذي هو مخلوق- اغفر لي!].(15/8)
كفر من زعم أن الاسم غير المسمى
قال: [وهذا -أي الذي عند المعتزلة- كفر بالله، وخلاف كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسوله الكريم، وإجماع المسلمين، ولغة العرب، والعرف والعادة].
أي: أن معتقد المعتزلة يخالف هذا كله، إذ ليس له مستند من كتاب، ولا سنة، ولا معقول، ولا منقول، ولا عادة، ولا عرف، وتصور قولاً لا يستند إلى شيء من هذا كله! وأما قول أهل السنة والجماعة فيستند إلى هذا كله، فلابد وأنه الحق كل الحق، وما بعد الحق إلا الضلال.(15/9)
بيان بطلان مذهب أن الاسم غير المسمى في لغة العرب
قال: [فأما لغة العرب: فهل العرب كانوا يعرفون أن الاسم هو المسمى أم أنهم يعرفون أن الاسم غير المسمى؟ وما قولهم في ذلك؟ يقول الأصمعي ومعمر بن المثنى: إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة.
وعن خلف بن هشام البزار المقري أنه قال: من قال: إن أسماء الله مخلوقة فكفره عندي أوضح من هذه الشمس، وأشار إليها].
والذي يقول: إن أسماء الله غير ذاته؛ يلزم من ذلك أن يقول: إن أسماء الله مخلوقة، ومن قال بذلك فكفره أوضح من هذه الشمس.(15/10)
ذكر العلماء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى
قال: [ومن الأئمة: الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونعيم بن حماد ومحمد بن أسلم الطوسي ومحمد بن جرير الطبري، وكل هؤلاء يقولون بذلك، وقد أجمعوا عليه.
فهذا سفيان بن سعيد الثوري يروي بسنده عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أوى إلى فراشه قال: اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور).
وعن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ حسناً وحسيناً فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.
وكان يقول: كما كان أبوكما يعوذ به إسماعيل وإسحاق)].
يعني: أن هذا كان تعويذ إبراهيم عليه السلام لولديه إسماعيل وإسحاق.(15/11)
تابع الأدلة من السنة على أن الاسم هو المسمى
قال: [وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إن أحدكم لو يقول وهو يجامع -أي: يجامع امرأته-: باسم الله)]، ولم يقل: باسم الذات التي سمى نفسه الله؛ لأن اسم الجلالة يدل على ذات الله، بل هو ذات الله تبارك وتعالى.
قال: [(باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قضي بينهما بولد لم يضره الشيطان أبداً)]، أي: لم يقربه الشيطان أبداً، والحديث في الصحيحين.
قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ -أي: إني لقيت ما لقيت من سم ذلك العقرب الذي لدغني- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضرك)].
أي: لو أنك قلت يا عبد الله! حين دخل عليك المساء: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضرك شيء حتى تصبح.
وكلمات الله التامات ليست مخلوقة؛ لأنها صفة من صفاته تبارك وتعالى، وصفاته غير مخلوقة.
قال: [وعن عائشة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اشتكى رقاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: باسم الله أبريك)]، أي: أطلب لك البراءة والبرء والعفو والعافية من الله عز وجل.
[وفي رواية: (باسم الله أرقيك، من كل داء يشفيك، من شر كل ذي عين، ومن شر كل حاسد إذا حسد).
وفي حديث أبي سعيد: (أن جبريل أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: اشتكيت يا محمد؟ -أي: هل اشتكيت يا محمد علة؟ - فقال: نعم، فقال جبريل عليه السلام: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس وعين، الله يشفيك، باسم الله أرقيك).
وقال أبو سعيد الأصمعي: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة.
وقال أبو بكر ابن أبي داود السجستاني صاحب كتاب المصاحف: من زعم أن الاسم غير المسمى فقد زعم أن الله غير الله، وأبطل في ذلك -أي: أبطل في هذا المدعى، وتكلم بالباطل- لأن الاسم غير المسمى في المخلوقين، لأن الرجل يسمى محموداً وهو مذموم، ويسمى قاسماً ولم يقسم شيئاً قط، وإنما الله جل ثناؤه واسمه منه، ولا نقول: اسمه هو، بل نقول: اسمه منه تبارك وتعالى.
أي: أن الاسم هو الذات ومن الذات، وليس منفصلاً عنه؛ لأنك لو قلت: إن الأسماء منفصلة عن الذات فلابد وأن تقول: بأنها مخلوقة، وهذه وصمة عظيمة جداً.(15/12)
مناقشة المعتزلة حول الاسم والمسمى
قال: [فإن قال قائل: إن اسمه ليس منه فإنه قال: إن الله مجهول!] أي: لو قال رجل: إن اسمه ليس منه فإنه يلزمه أن يقول: إن الله مجهول؛ لأن الله لا تتعلق به أسماؤه، وليست لازمة لذاته، والله كان بغير اسم، أي: كان مجهولاً لدى ذاته ثم وجد، لكن الله لما علم أن ذلك نقص وعيب سمى نفسه بأسماء؛ حتى يحصل له التمام، ومن قال بذلك فقد كفر؛ لأن نسبة الجهل إلى الله تعني نسبة النقص إلى الله عز وجل، والله متصف بكل كمال وجلال وعظمة، ومن قال: بأن الاسم غير المسمى يلزمه أن يقول: إن الله كان بغير أسماء، وهذا عيب ونقص، والله منزه عن العيب والنقص.
قال: [فإن قال: إن له اسماً وليس به]، أي: لو قال المعتزلي: نحن سنوافقكم على أن الله تبارك وتعالى أسماؤه أزلية، أي: كانت له الأسماء، لكنها ليست قائمة ولازمة به، فإنه لابد وأن يقول: إن مع الله إله آخر؛ لأن الأسماء لابد وأن تدل على الذات، فهل -يا معتزلي! - قولك: بأن الله كان وأن أسماءه كانت كذلك، لكن الأسماء لم تكن لازمة له في أول الأمر؛ هل يتصور اسم بغير مسمى، أو مسمى بغير أسماء؟ فإذا قلت: إن الاسم لم يكن له أسماء لازمة به؛ فيلزمك أن تقول بالجهالة، وأن الله كان مجهولاً، وإذا قلت: بأن الأسماء كانت لكنها ليست لازمة لله تبارك وتعالى؛ فيلزمك بأن تقول: بأن هذه الأسماء كانت موجودة على غير مسمى، وهل يتصور اسم بغير مسمى؟! لا يتصور ذلك في المخلوقين، فكيف بالخالق تبارك وتعالى؟! أي: لو قلت: أما رأيت يا فلان! ذلك الرجل الذي اسمه زيد؟ فيقول: هو ابن من؟ فستقول له: هو ابن إبراهيم، فسيقول: إبراهيم هذا لم ينجب له بعد، فستقول له: أعرف ذلك، لكنه ولد جميل ولطيف، وصاحب شعر أصفر، وعيون زرقاء أو خضراء، فسيقول لك: يا فلان! ما الذي جرى لك؟! أتصف رجلاً غير موجود؟! فستقول له: نعم باعتبار ما سيكون بإذن الله، فسيقول لك: أنت مجنون؛ لأنك تصف بهذا الإتقان وبهذه الدقة ذاتاً غير موجودة، ولأنه لا يتصور أسماء بغير مسمى.
والمعتزلة أو بعض المعتزلة أحبوا أن يوافقوا أهل السنة في أن أسماء الله تعالى أزلية، لكنهم خالفوهم في أن الأسماء ليست هي عين المسمى، فالمسمى يكون بغير أسماء، والأسماء موجودة لكنها في جانب آخر، وليست ملازمة لعين المسمى، وليست هي عين المسمى ولا ذات المسمى، فنقول لهم: أنتم بهذا يلزمكم أن تنسبوا الجهالة لله عز وجل، وأنه غير معروف باسم من الأسماء، وأن هذه الأسماء إنما وجدت على غير مسمى، وهذا خبل لا يتصور.
وكل هذا الكلام الذي قلناه هو من الفلسفة، ولو كان هنا صحابي موجود بيننا فإنه سيتركنا ويرحل، أو لو أن الله تعالى أسقط رجلاً من القرون الأولى بيننا الآن وسمع كلامنا هذا؛ فإنه سيترك هذا المسجد؛ لأنه تربى تلك التربية النبوية، لا على هذا الكلام الفلسفي.
والذي جبر علماء الإسلام وعلماء أهل السنة والجماعة على أن يذكروا هذا الكلام هو ذلك الضلال الذي استورد ودخل على المسلمين، حتى أثر في كثير من قلوب أبناء الأمة الإسلامية، فاضطر أهل العلم اضطراراً إلى أن يدخلوه في هذا الباب ليردوه.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ألف كتاباً وسماه: نقض المنطق، وهو القائل: من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق، وكان رحمه الله إماماً في الفلسفة والمنطق، والذي جبره على ذلك هو أن يسقط عن هذه الأمة فرض كفاية، وليرد على الفلاسفة وينكر كلامهم، ولو دخل إلينا الآن رجل وقال: أنا أريد أن أعرف هل الله موجود أو ليس بموجود؟ فسنقول له: الله موجود؛ لأن الله تعالى قال كذا وكذا، ويكفي، لكن إن قال: أنا كافر بالكتاب والسنة، فلا تحتج علي بشيء منهما لأنه أصلاً قد أنكرهما وأجحدهما، وبالتالي لابد من حجة عقلية تتناسب مع منهجه، وهذا هو الكلام الفلسفي.
وهذا الكلام لم يكن موجوداً في الزمن الأول؛ لأن العربي كان عنده حلاوة وتذوق لكلام الله عز وجل، فكان ما أن يسمع الآية إلا ويعلم أن هذا كلام الإله العليم القدير، ولا يمكن أن يكون هذا كلام محمد عليه الصلاة والسلام؛ فأين بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم من بلاغة القرآن الكريم؟! ومع هذا فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام من أبلغ العرب، بل هو أبلغ وأفصح من خلق الله عز وجل، ومع هذا فبلاغته شيء وبلاغة القرآن شيء آخر؛ لأن بلاغة القرآن معجزة، وبلاغة النبي عليه الصلاة والسلام ليست معجزة؛ لأنها من كلام العرب، وأما القرآن فهو كلام الله تبارك وتعالى، فهو المعجزة الخالدة الباقية على مر الدهر والزمان.(15/13)
أمثلة من السنة وغيرها على أن الحلف لا يكون إلا باسم أو صفة من صفات الله
قال: [قال أبو بكر بن حماد: سمعت خلف بن هشام فيمن قال: الاسم غير المسمى، وهو ينكر أشد النكارة، ثم قال: لو أن رجلاً شتم رجلاً على قول من قال هذه المقالة -أي: على قول المعتزلة- فقال للرجل بعد أن شتمه: أنا لم أشتمك، وإنما شتمت الاسم]، والاسم غير المسمى، فإنه سيغضب غضباً شديداً.
وإن كان الرجل معتزلياً وقلت له: إذا كنت تقول: إن لله عز وجل أسماء، وهذه الأسماء غير المسمى، وهذه مسألة مجمع على خلافها عند أهل السنة والجماعة، وإجماع أهل السنة والجماعة في المخلوقين أن الأسماء غير المسميات، بل قد يكون اسمك محموداً وليس عندك شيء من الحمد، ويكون اسمك عابداً وأنت ضال، ويكون اسمك صالحاً وأنت طالح، فالاسم غير المسمى في المخلوقين، ومع هذا لو قلت لعابد: يا عاصي! فإنه سيغضب، مع أنه قد يكون من المسابقين في الفروض والسنن والمستحبات، وواقع في كل إثم وذنب ومعصية، فلو ناديته بغير اسمه الذي يعرفه فإنه سيغضب.
ثم قال: [ولو أن رجلاً حلف بالله على مال رجل لم يلزمه في كلامه حنث]، أي: لم يلزمه على كلام المعتزلي حنث؛ لأن الحلف عندهم بأسماء الله شرك، وأسماء الله مخلوقة، ولا يلزمه إلا التوبة؛ لأنه وقع في الشرك لا في الحنث، فانظر إلى هذه الثوابت عندنا وقد زعزعها المعتزلة! فإن قيل لهم: ماذا تقولون في كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)؟ فهنا أخذ المعتزلة هذه النصوص وأمثالها فأولوها، وقالوا: تأويلها: احلفوا بالذات التي اسمها الله! فإن قيل لهم: إذا أراد المرء أن يحلف فبماذا يحلف؟ إن حلف وقال: والله العظيم لم أفعل كذا؛ فإنه مشرك عند المعتزلي؛ لأنه حلف بالمخلوق، وهذا المخلوق هو الاسم وليس المسمى، والاسم غير المسمى، والأسماء مخلوقة، فلو قلت: والله، فإنما تدعو المخلوق دون الخالق، والخالق اسم أيضاً، فلن يقول: دون الخالق، بل سيقول: دون الذات؛ لأن الخالق اسم، فما الفرق بين الله وبين الخالق؟! وما الفرق بين الله وبين الرحمن؟ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]، فكلها أسماء لله تبارك وتعالى، وهو الذي قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، والضمير هنا يعود على الأسماء لا على المسمى نفسه؛ لأن الاسم يدل على ذات المسمى، بل الاسم هو المسمى، ولذلك قالوا: يحلف العبد بالذات التي اسمها الله.
لكن لو أن شخصاً حلف بهذه الصيغة عند القاضي لأنكر عليه أشد الإنكار، ولقال له: أتضحك علينا أم ماذا؟ بل إن الذين انتكست فطرهم لا يتفقون مع المعتزلة في ذلك.
قال: [ولو أن رجلاً حلف بالله على مال رجل لم يلزمه في كلامه حنث على قول من قال هذه المقالة، ويقول: إنما حلفت بالاسم فلم أحلف بالمسمى].
ويدور أمر الإسلام على هذا الاسم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: نشهد أن الذات التي من أسمائها الله هي الإله؛ لأن الله هو ذات الإله وذات المسمى تبارك وتعالى.
قال: [أرأيت الوضوء حين يبدأ فيه الإنسان يقول: باسم الله، فإذا فرغ قال: سبحانك اللهم؟ ورأيت الأذان أوله: الله أكبر، ولا يزال يردد أشهد أن لا إله إلا الله؟ ثم رأيت الصلاة حين يفتتح بقوله: الله أكبر؛ لا يزال في ذلك حتى يختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله.
ولم يقل: ورحمة الذات التي من أسمائها الله، فأولها وآخرها الله].
أي: أن أول الصلاة: الله أكبر، وآخر الصلاة: السلام عليكم ورحمة الله، فأول الصلاة الله وآخر الصلاة الله؛ لأن هذا الاسم هو ذات المسمى، فهل يتصور أنك تصلي لغير الله؟! وإذا كنت تقول: الله أكبر، فهل يعقل أن تقول: إن كلمة (أكبر) صفة للاسم دون المسمى؟ وإذا قلت: الله أكبر، فأنت قد كبرت الاسم دون المسمى؟ وبالتالي صليت لغير المسمى، وعبدت غير المسمى، وأطعت غير المسمى، وهذا الكلام كله خبل.
قال: [ورأيت الذبيحة باسم الله]، أي: إذا أردت أن تذبح الذبيحة فتقول: باسم الله.
قال: [أمر الإسلام يدور على هذا الاسم، فمن زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر، وكفره عندي أوضح من هذه الشمس].(15/14)
أقوال أهل العلم في تكفير من زعم أن أسماء الله مخلوقة
قال: [قال إبراهيم بن هانئ: سمعت أحمد بن حنبل وهو مختفي عندي -وابن هانيء من تلامذة أحمد بن حنبل، وفي الفتنة اختبأ عنده أحمد بن حنبل في بيته- فسألته عن القرآن، فقال: من زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر].
ولم يجيبه عن القرآن فقط، بل عمم الجواب ليشمل جميع الأسماء، وفي ذلك رد على المعتزلة وبعض الخوارج وبعض الشيعة القائلين بأن أسماء الله مخلوقة.
قال: [قال إسحاق بن راهويه: أفضوا إلى أن قالوا -أي: تكلموا مع إسحاق بن راهويه حتى بلغوا إلى أن قالوا-: أسماء الله مخلوقة؛ لأنه كان ولا اسم، وهذا الكفر المحض].
قوله: (كان الله ولا اسم) هو قول المعتزلة، ومعناه: كان الله تبارك وتعالى وليس له اسم، كالمولود يولد ولا اسم له، ثم بعد ذلك نسميه في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع أو السابع، والسنة قد صحت بتسمية الولد في اليوم الأول كما روى ذلك أبو داود، وصحت التسمية كذلك في اليوم السابع.
والمهم أنني أريد أن أقول: إن المولود يولد بغير اسم، ثم يسمى بعد ذلك، والذي يقول: إن الله كان ولا اسم له يلزمه أن يشبه الخالق تبارك وتعالى بالمخلوق، بل يلزمه أن يقول: إن الذات كالذات تماماً؛ لأن الصفات تصور عن الذات، والله تبارك وتعالى إذا اتصف بصفات، وتسمى بأسماء؛ فإنما هذه الأسماء تدل على ذاته تبارك وتعالى، وكذلك المولود حادث والأسماء حادثة، بمعنى: أن الاسم والمولود كانا بعد أن لم يكونا، ولذلك تقول: إذا جاء لي ولد فسأسميه محمداً، وتعقد العزم على ذلك أنت وزوجتك، ثم تضع امرأتك أربع بنات، فهل ستلغي اسم محمد بالمرة لأنه لم يأت لك ولد؟ وعليه فهل هناك في أسماء الله اسم يلغى؟ لا يمكن؛ لأنه أزلي أبدي.
ولو كان مخلوقاً للزم أن تقول: الإله حادث؛ لأنه لو كان مخلوقاً فلابد وأن يطرأ عليه الفناء والتغيير، وهذا المخلوق بعد أن يكبر ربما يذهب إلى أمريكا، وقد يأتي إليه صاحب العمل، أو الناس في الأتوبيس، أو الناس في الخمارات وخانات الفساد ويسألونه عن اسمه؟ فيقول: اسمي محمد، ويأتي إليه آخر فيقول له: يا سعادة البيه محمد، فيتأذى ويشمئز من اسمه، ويذهب إلى السجلات المدنية هناك فيعرف أن اسمه مثبوت في السجل المدني، ثم يذهب إلى أمريكا ويقول: يا ناس! أنا أريدكم أن تسموني: ماركو فرانكو، أما اسم محمد فلا أريده بالمرة! فأين الإسلام والولاء والبراء من هذا الرجل؟! وعند عودته إلى بلاده يستعمل البطاقة الشخصية التي تحمل اسم محمد، وهو قد شرب الخمر، وخالط المجتمع الأوروبي الكافر، وفعل الفواحش والمنكرات هناك.
فيا أيها الزنديق! الذي آثرت الكفر على الإيمان، وفضلت الضلال عن الهدى، وآثرته بعد أن هداك الله عز وجل، إن الاسم له تصور عن عقيدتك، وتعلق كبير جداً بإيمانك، ولذلك الرجل المؤمن الموحد الذي يغار على دينه عندما يسميه أبوه رفعت: جبريل، وجده اسمه سمير، فتأتي إلى الأخ وتقول له: ما اسمك؟ فيقول لك: اسمي: جبريل رفعت سمير، فتقول له: ما الأمر؟ فيقول: أنا مسلم، لكني سميت بهذا الاسم، أأعلي ذنب؟ فتقول له: لا، ليس عليك ذنب، فيقول: هل يمكن أن أغير اسمى؟ فتقول له: نعم، اذهب إلى السجل المدني وادفع خمسمائة جنيه، وهي ليست رسوم رشوة، وإنما مقابل تغيير الاسم.
إذاً: فالأسماء الحادثة يطرأ عليها التغيير، وأما أسماء الله تبارك وتعالى فلا يطرأ عليها التغيير ولا التبديل.(15/15)
كلام الإمام الطحاوي عن الاسم والمسمى وبيانه
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى توسع جداً في هذه القضية، أعني: مسألة: هل الاسم هو المسمى أم لا؟ والمسألة فيها أقوال كثيرة، وقد خالف فيها بعض أهل السنة، وهذا كلام حادث، وقد أنكروه غاية النكارة ولم يجيبوا فيه بقول، ولذلك قال ابن أبي العز الحنفي في شرح قول الطحاوي: مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة، ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفاته، وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً.
وهذا كلام جميل وقوي، وقد شرحه ابن أبي العز شرحاً جميلاً، لكن فيه شيء من الفلسفة على أية حال، حتى وصل إلى قوله: وكذلك قولهم: هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ أي: هل الاسم هو عين المسمى وذات المسمى أو غيره؟ قال: ولطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، قال: فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، أي: أنه عند إطلاق الاسم أحياناً يراد به المسمى، وأحياناً يراد به اللفظ الدال على المسمى لا عين المسمى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو: سمع الله لمن حمده، فالمراد به المسمى نفسه؛ لأنه لا يتصور انصراف الذهن إلى غير الذات.
وإذا قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحيم من أسماء الله تعالى، فالمراد هنا هو الاسم لا المسمى، فإذا قلت: الرحمن لفظ عربي فإنه لابد وأن ينصرف الذهن إلى الكلام عن الاسم لا عن المسمى، فهو يريد أن يقول لك: قد يطلق أهل السنة الاسم أحياناً ويريدون الكلام عن المسمى، وأحياناً يطلقون الاسم ولا يريدون المسمى، وإنما يريدون الكلام عن الاسم نفسه.
وعند إطلاق أهل السنة للاسم وإرادتهم له دون المسمى لا يقولون بالمغايرة بين الاسم وبين الذات، حتى وإن أرادوا أن يتكلموا عن الاسم؛ لأن المباينة تستلزم أن يكون الله ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهل يتصور أن آدم هو الذي سمى الله عز وجل -باعتبار أن آدم أول البشر- أو أن الملائكة -وهم خلق من خلق الله- هم الذين سموا الله تبارك وتعالى؟! إن هذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى.
والإمام الطحاوي رحمه الله قد أشار بقوله: ما زال بصفاته قديماً، إلى اسم من أسماء الله عز وجل ألا وهو: الأول، ولفظ القديم لا يليق بالله عز وجل، وليس هو من أسمائه ولا من صفاته؛ أن لفظ القديم يلزم منه أن هناك من هو أقدم منه، ولا أول قبل الله عز وجل، فالله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
فيستحب أن يقال: إن الله هو الأول، ولا يقال: هو القديم؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، بمعنى: أننا لا نسمي الله تبارك وتعالى إلا بما سمى به نفسه، ولا نصفه إلا بما وصف به نفسه، فكوننا نقول: إن الله هو القديم، أو أنه الستار، أو أنه المنعم فإننا نقصد بذلك: أن هذه أسماء لله تبارك وتعالى، وليس لدينا نص يثبت أن هذه أسماء لله عز وجل، ولا شك أننا إن سميناه بذلك فإننا نكون قد سميناه بما لم يسم به نفسه.
وقوله أيضاً: فإن الله تعالى ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه؛ قصد بذلك الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إن الله تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليهما! فصار متكلماً بعد أن كان عاجزاً، وصار خالقاً بعد أن خلق، وصار وهاباً بعد أن وهب، وغير ذلك في بقية أسمائه وصفاته تبارك وتعالى، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، أي: أن ربنا كان عاجزاً عن معرفة الأشياء على حقيقتها، وبعد أن وقعت عرفها.
وكان ليس له قدرة، ثم صارت له قدرة! وكان ممتنعاً عن الكلام، ثم صار قادراً على الكلام! إن الواحد منا يخاف ويخشى أن يقول لمخلوق صاحب وجاهة وسلطة: إنك عاجز عن الكلام؛ لأن لك ساعة أو ساعتين لا تتكلم فيها بكلمة واحدة! إننا نقول هذا حتى تعلموا أن الكلام في ذات الله تبارك وتعالى صار أسرع من الكلام فيما يجري بين الناس.
ثم قال: فإنهم قالوا -أي: المعتزلة-: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه؛ لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي، أي: أنه كان بنفسه عاجزاً عن الكلام، ثم صار بنفسه قادراً على الكلام، فإذا كان العجز الذاتي واجباً له فمن أين أتت له القدرة؟! والمخلوق إذا كان عاجزاً بذاته، ثم صار قادراً بعد ذلك، فمن وهبه القدرة؟ إنه الله عز وجل، فهل يتصور أن الله تعالى الذي يرزق ويهب القدرة وغيرها وهو بذاته عاجز؟ أعوذ بالله! إن هذا كفر بالله.
قال: وعلى ابن كلاب والأشعري، أي: أن المؤلف يرد على ابن كلاب صاحب الفرقة الكلابية، وعلى الأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه.
وأما كلام الله تبارك وتعالى فلا يدخل عندهم تحت مشيئته تبارك وتعالى، وهو عند أهل السنة والجماعة صفة م(15/16)
الأسئلة(15/17)
كلام النبي عليه الصلاة والسلام ليس بمعجز
السؤال
ذكرتم يا شيخ! أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام ليس بمعجزة، مع أن الله تبارك وتعالى تحدى ببلاغة النبي عليه الصلاة والسلام مشركي العرب؟
الجواب
أعطنا آية أو حديثاً يثبت أن الله تبارك وتعالى تحدى ببلاغة نبيه العرب، ليس هناك آية أو حديث في ذلك، وأنا قلت: إن كلام الله تبارك وتعالى معجز، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم غير معجز، وهم كانوا على علم كبير باللغة العربية.(15/18)
وجود المعتزلة في بعض الدول العربية
السؤال
هل يوجد معتزلة الآن في الدول العربية، وبالأخص مصر؟
الجواب
يا أخي الكريم! إذا أردنا أن نتكلم عن الاعتزال، فإنما هو منهج وفكر عقدي، والمعتزلة لهم أصول خمسة، ومن هذه الأصول: تقديم العقل على النقل، وإذا سمعت بأصولهم الأخرى فستقول: إن منهج المعتزلة من خير المناهج! كما أنه من أصولهم: التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين.
لكن قد يقول قائل: هل التوحيد عندهم فيه شيء؟ ف
الجواب
إن التوحيد عند المعتزلة غير التوحيد عند أهل السنة والجماعة، وكذلك: العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، وقد أنزلوها أساساً في مرتكب الكبيرة.(15/19)
الحكم على حديث: (يا علي! لا تنم حتى تأتي بخمس)
السؤال
حديث علي بن أبي طالب: (يا علي لا تنم حتى تأتي بخمس: قراءة القرآن، والتصدق، وزيارة الكعبة,) هل هو حديث أم لا؟
الجواب
هذا حديث موضوع.(15/20)
عجز البشر جميعاً عن مدح الله بصفة غير ما وصف به نفسه
السؤال
هل يستطيع البشر جميعاً أن يمدحوا الله عز وجل بصفة غير التي وصف بها نفسه؟
الجواب
لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا نحصي ثناء عليك) أي: لو أن الخلق جميعاً أثنوا على الله تبارك وتعالى فلن يستطيعوا أن يوفوا الله تبارك وتعالى ولو بعض ما يستحقه من مدح وثناء أبداً، بل ولا الأنبياء أنفسهم؛ إذ أن مقام الله تبارك وتعالى أعلى من ذلك.(15/21)
النصيحة لمن أتم ولده حفظ المصحف وهو دون التاسعة
السؤال
أتم ابني ولله الحمد حفظ القرآن وهو دون التاسعة، فأرجو منك النصيحة حتى أحافظ عليه وعلى حفظه، وماذا أفعل معه، وكيف أوجهه؟
الجواب
أسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ عليك ولدك، وأن يجعله من أئمة المسلمين الداعيين إلى الله تبارك وتعالى على منهاج النبوة، واعلم يا أخي الكريم! أن الحسد وارد في كتاب الله عز وجل، فنصيحتي التي قد نصحت بها من سبقك أن يكف ولده عن الأضواء والشهرة، فأبى، فما كان إلا أن أذهب الله تبارك وتعالى ما في صدره من كلامه ومن علمه.
وهناك بعض الأطفال في طريقهم إلى هذا، وقد سمعت أن طفلاً حفظ القرآن الكريم دون العاشرة، وأصيب بالغرور، وإني لأعجب لطفل قبل العاشرة أن يتعلم كيف يغتر! وكيف يتكبر! فلابد وأنه سقى ذلك من والديه، أو من مجتمعه الذي عاش فيه، أو أنه تأثر ببعض شيوخه الذين أخذ عنهم وقرأ عليهم القرآن.
لذا فإني أنصح هذا الأخ أن يعلم ولده بعد ذلك السنة، وأن يحفظه بعض المتون في الفقه والأصول والعقيدة والحديث وغيرها، ثم لا يظهر هذا الولد إلا إذا استوى عوده، وتعلم الحكمة، فإن أهل العلم قديماً لم يتصدروا للمجالس والإقراء والتدريس إلا بعد أن يجيز أحدهم جملة مستكثرة من أهل العلم هنا وهناك.
ثم أخي الكريم! لابد وأن تعلم ولدك أدب العلم: كيف أنه يحترم من هو أكبر منه، وكيف يحترم أهل العلم، ولابد أن يكون ولدك مؤدباً مهذباً متخلقاً بالأخلاق الحسنة، وإلا فإن القرآن لا ينفعه، وسرعان ما يتفلت منه عقوبة لك وله، والله تبارك وتعالى يحزنك فيه إذا علمته العلم ولم تعلمه الأدب والأخلاق الحسنة.
فاتق الله أيها العبد! وحافظ على ولدك، وأخفه عن الأضواء حتى يتعلم، وحتى تعتقد أنه قد حان الوقت لأن يكون نافعاً لدينه ولأمته.(15/22)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - ما ورد أن القرآن كلام الله غير مخلوق
القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو ما كان عليه أهل الجادة والمنهج القويم في القرون المفضلة، ولم يخالف في ذلك إلا أهل الفرق الضالة، الذين أبت عليهم عقولهم القاصرة أن يثبتوا لله سبحانه وتعالى صفة كمال فضلوا وأضلوا وأوردوا أنفسهم وأتباعهم طرق الهلاك، وحكم عليهم أئمة الإسلام بالكفر.(16/1)
إجماع السلف الصالح على أن القرآن كلام الله غير مخلوق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
خاتمة هذا المجلد الذي نحن بصدد دراسته يتكلم عن مسألة ربما نظر البعض إليها على أنها مسألة هينة أو يسيرة، أو أن الكلام فيها قد كثر، ولكنا نقول: إن الكلام مهما كثر في ذات الله تبارك وتعالى أو في أسمائه وصفاته فليس بكثير، وكما قال عثمان رضي الله عنه: المؤمن لا يشبع من كلام الله عز وجل.
وهذا البحث له تعلق عظيم جداً بكتاب المولى تبارك وتعالى، وخص المؤلف بالذكر صفة الكلام -أي: كلام الله عز وجل- وأنه غير مخلوق، ثم ساق دلائل ذلك من كتاب الله تبارك وتعالى تصريحاً أو استنباطاً، وساق دلائل ذلك من حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أقوال وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعمل السلف جميعاً على ذلك.
والقرون الخيرية من كان منهم على المنهج والجادة أنكر غاية النكارة أن يكون كلام الله تبارك وتعالى مخلوقاً، وسرد المؤلف ما يزيد عن ثلاثمائة اسم في هذا الجزء كلهم يقولون: إن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فمن قال بغير ذلك فهو كافر.
وقد بينا من قبل خطورة القول بخلق القرآن وأن هذا من أعظم الباطل، بل هو من ظلم العبيد لله عز وجل، أن ينسبوا صفة من صفاته للخلق دون أن يعتقدوا ويؤمنوا أنها صفة لازمة لذاته تبارك وتعالى، ولكن على أية حال في سماع كلام السلف بنصه وفصله فوائد عظيمة جداً؛ ولذلك نحن إذا سمعنا لفظ النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف أن نسمع معنى كلامه؛ لأن كلام النبوة له نور عظيم؛ فكذلك كلام سلفنا رضي الله عنهم؛ لأنهم ما خرجوا عن حد الكتاب ولا السنة في كلامهم، إلا ما شذ من أصحاب القرون الأولى وخالف السلف في معتقدهم ومسلكهم ومنهجهم فقال بغير قولهم، فإننا نجد على كلامه ظلمة كسواد الليل.
ولذلك يحسن بنا أن نسرد سرداً سريعاً على شكل مقتطفات؛ لننظر إلى ذلك النور الذي شع من أفواههم وعلى ألسنتهم.(16/2)
دلائل القرآن الكريم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق(16/3)
دلالة قوله تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج) على أن القرآن غير مخلوق
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال في قول الله عز وجل: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] قال: غير مخلوق؛ لأن العوج صفة نقص، والنقص يليق بالمخلوق ولا يليق بالخالق وأسمائه وصفاته، فالله تبارك وتعالى بين أن هذا القرآن أولاً: عربي، ثانياً: غير ذي عوج، أي: لا اعوجاج فيه ولا التواء ولا غموض.
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] أي: غير مخلوق؛ لأن العوج للمخلوق أليق، وهذا الكلام -وهو القرآن العربي- غير مخلوق، فلابد أن يكون غير ذي عوج.
وهكذا في كل صفات المولى تبارك وتعالى وأسمائه، فإن الذي يقول: إن القرآن وإن كان كلام الله إلا أنه مخلوق -يعني حادث- فلابد وأن ينزل ذلك على بقية الأسماء والصفات، لابد أن يقول: إن رحمة الله حادثة، وإن سمع الله حادث، وإن بصر الله حادث، وإن رأفة الله حادثة، وإن حلم الله حادث ينزل ذلك على جميع الصفات، وإلا فلم اختار صفة الكلام بالذات وقال: إنها حادثة، وإنها مخلوقة؟ فلابد أن ينطبق هذا المنهج المعوج على جميع صفات المولى تبارك وتعالى، وإلا فإنا نسألهم: لماذا فرقتم بين اسم واسم، وبين صفة وصفة، والمنهج واحد في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ ولذلك هم ذهبوا -بزعمهم- إلى تنزيه المولى تبارك وتعالى، وقالوا: الإنسان مخلوق يتكلم، فإذا قلنا: إن الله تعالى الخالق يتكلم فلابد أن يكون هذا الكلام كذلك مخلوقاً؛ ظناً منهم أن هذا نفي للنقص عن الله عز وجل، ولكن هذا الكلام كلام فاسد وباطل؛ لأنهم أرادوا التنزيه فوقعوا في التشبيه، وإلا فقول الجهمية مثلاً والخوارج: إن الله تبارك وتعالى لا يتكلم؛ لأنه لو تكلم للزم أن يشارك الإنسان -وهو أحد خلقه- في صفة الكلام، فقالوا: لا، الله تعالى لا يتكلم، كما أنهم قالوا: لا يتكلم بحرف ولا صوت؛ ظناً منهم أن هذا تنزيه للمولى تبارك وتعالى؛ فوقعوا كذلك في تشبيه الله تعالى بالجمادات؛ لأن الجمادات غالباً لا تتكلم، وإن كانت تتكلم أحياناً، وهذا في المعجزات التي جرت على يد الأنبياء والرسل.
فلا شك أن الله تبارك وتعالى يتكلم، وأن المخلوق يتكلم، لكن كلام المخلوق ليس ككلام الخالق؛ لأن ذات المخلوق تختلف وتتباين عن ذات الخالق تبارك وتعالى، فما الذي يمنع المرء أن يسلم أن الله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت كيف يشاء وكما يشاء في أي وقت شاء؟ وكلامه معجز لا يستطيع أحد من البشر أن يتكلم ككلام المولى تبارك وتعالى.
قال ابن عباس: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] قال: غير مخلوق.(16/4)
دلالة قوله تعالى: (أن يقول له كن فيكون) على أن القرآن غير مخلوق
ومن دلائل الكتاب من حيث الاستنباط: قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، أي: إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوجد شيئاً وشاءه في عالم محسوس فيقول له: (كن) فيكون هذا الشيء الذي أراده الله تبارك وتعالى، ولكن محل الشاهد من الآية: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ} [يس:82] إذاً: الله تبارك وتعالى يتكلم، والقول إنما هو الكلام، فهذه الآية أثبتت أن الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً في أي وقت وفي أي مكان وفي أي زمان فقط يقول له: (كن) فيكون هذا الشيء.
فقوله: (أَنْ يَقُولَ) يدل على أن الله تعالى يتكلم.
وقال البويطي: إنما خلق الله كل شيء بـ (كن)، فإن كانت (كن) مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقاً.
يعني: أليست هي قول كذلك؟ إذا أراد الله عز وجل شيئاً يقول له: (كن)، معنى ذلك على منهج المعتزلة والخوارج وبعض الشيعة: أن كلمة (كن) من قول الله عز وجل، فإذا كان قول الله عز وجل مخلوقاً فكذلك تكون كلمة (كن) مخلوقة، فقوله: (كن) إذا كان مخلوقاً هل يتصور أن يكون قوله: (كن) قادراً بذاته على أن يخلق غيره وهو (كن) الثانية؟ فإذا أراد الله أن يخلق شيئاً يقول له: (كن) فيكون، فقوله الأول: (كن) إذا كان مخلوقاً وأوجد غيره من الأشياء، فهذه الأشياء مخلوقة؛ لأنها حادثة، فهل يتصور أن كلمة (كن) المخلوقة تخلق غيرها؟
الجواب
لا.
قال البويطي: إنما خلق الله كل شيء بـ (كن)، فإن كانت (كن) مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقاً، إذاً: نسبوا الخلق إلى غير الله عز وجل، أرأيت خطورة الأمر؟ قلت: وهذا معنى ما يعبر عنه العلماء اليوم: إن هذا -أي: (كن) الأولى- كان مخلوقاً، فهو مخلوق بـ (كن) أخرى، يعني: (كن) غير مخلوقة و (كن) مخلوقة.
وهذه فلسفة تجعل الشخص يخرج كل ما في بطنه؛ لأن الصحابة والسلف والنبي عليه الصلاة والسلام من باب أولى لم يعرفوا هذا الكلام ولم يتعرضوا له.(16/5)
دلالة قوله تعالى: (ألا له الخلق والأمر) على أن القرآن غير مخلوق
استنباط آخر من آية أخرى من كتاب الله، وهو قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ففرق الله تعالى بين الخلق وبين الأمر، والخلق هم المخلوقات، والأمر هو القرآن الكريم، فقال: (أَلا لَهُ) أي: من عنده (الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)؛ ولذلك أهل العلم يقولون: القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، يعني: لا يفنى هذا الكلام ولا ينتهي.
وقال ابن عيينة لما أراد أن يعرض لـ بشر المريسي -وهو أحد من قال بخلق القرآن-: ما يقول هذا الدويه؟ يعني: هذا السائل الحيران ماذا يقول؟ قالوا: يا أبا محمد! يقول: القرآن مخلوق، قال: كذب ورب الكعبة، قال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] فالخلق خلق الله، والأمر هو القرآن.
فتفسير الأمر عند ابن عباس وعند ابن عيينة وأحمد بن حنبل وابن المبارك وسعيد بن جبير وغيرهم من أهل العلم: أنه كلام الله تبارك وتعالى ليس بالأمر الهين، وردوا هذا التأويل.
وكذلك قال أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد السلام بن عاصم الرازي وأحمد بن سنان الواسطي وأبو حاتم الرازي وغيرهم من أهل العلم.
قالوا: الأمر في هذه الآية هو كتاب الله تبارك وتعالى، وكلام الله تبارك وتعالى.(16/6)
دلالة قوله تعالى: (ولكن حق القول مني) على أن القرآن غير مخلوق
استنباط آخر من آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، ولم يقل: حق القول عني؛ ولذلك يقولون: القرآن منه بدأ وإليه يعود ولم يقولوا: عنه أتى، وإنما قالوا: منه بدأ، أي: أنه صفة ملازمة لذاته تبارك وتعالى.
ففي قوله: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) قال أهل العلم: وما كان منه فهو غير مخلوق.
وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق، فقلت: يا أبا سفيان! من أين قلت هذا؟ يعني: من أين لك هذا الفقه وهذا العلم؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] ولا يكون من الله شيء مخلوق.
وكذلك فسره أحمد بن حنبل ونعيم بن حماد والحسن بن الصباح البزار وعبد العزيز بن يحيى المكي الكناني.(16/7)
دلالة قوله تعالى: (ما نفدت كلمات الله) على أن القرآن غير مخلوق
استنباط آخر من آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، والمخلوقات كلها معلوم أنها تفنى وتبيد وتنتهي، فكل مخلوق حادث، وكل حادث لابد أن يطغى عليه الزوال والفناء.
وقد قال قوم من الكفار: غداً هذا القرآن ينتهي، فالكفار والمنافقون كانوا ينزعجون جداً من نزول آية أو آيات، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن كلام الله سينتهي، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية؛ ليبين أن كلامه أول بأولية الله عز وجل ولا آخر له؛ لأنه ملازم لذاته، فقال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان:27] يعني: لو أنكم جمعتم أشجار الدنيا بأسرها فجعلتموها أقلاماً، وجعلتم مع البحار سبعة أبحر كلها حبر ومداد، وكتبتم بهذه الأقلام التي من مجموع أشجار الدنيا بعد وضعها في ذلك المداد؛ لنفدت هذه البحار، وتكسرت وفنيت هذه الأقلام وانتهت، ولم تنته بعد كلمات الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على أنه قادر على الكلام في أي وقت شاء وفي أي زمان شاء.
قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] أي: لم تنته كلمات الله، والمخلوقات كلها تنفد وتفنى وكلمات الله لا تفنى، وتصديق ذلك قوله تعالى حين يفني خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]، أليس هذا قول أيضاً؟ وهو سؤال يوجه يوم القيامة قبل البعث وبعد النفخ -أي: النفخة الثانية أو الثالثة على مذهب- وفناء الخلق أجمعين، فالمولى تبارك وتعالى في سماه ينادي نداءً: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، وهو الذي يجيب على نفسه ويقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]؛ لأنه ليس هناك أحد من خلقه يجيب هذا الجواب.
فالشاهد من هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى بعد أن أفنى جميع المخلوقات وأبادهم وأماتهم وأهلكهم تكلم وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}، وهذا في حد ذاته قول؛ ليدل على أن قول الله غير مخلوق، ولو كان مخلوقاً للزمه الفناء مع بقية المخلوقات، ولكن الله تعالى لما أفنى جميع المخلوقات تكلم بعد هذا الفناء العام؛ ليدل على أن كلامه سبحانه ليس مخلوقاً؛ لأنه لو كان كذلك لطرأ عليه الفناء والفساد -عياذاً بالله تبارك وتعالى- على قول من يقول بأن كلام الله مخلوق.
وعن قتادة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، يعني: يوشك أن ينتهي، فأنزل الله تعالى ما تسمعون -أي: هذه الآية- رداً عليهم.
يقول: لو كان شجر الأرض أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفدت البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وكلماته وعلمه؛ لأن هذا من صفات المولى تبارك وتعالى، فإنه لا يفنى ولا يبيد.(16/8)
إثبات رجل عامي لأبي الهذيل العلاف أن القرآن كلام الله غير مخلوق بأنه لا يفنى ولا ينتهي
وسأل رجل أبا الهذيل العلاف -وهذا رأس الاعتزال- سأله رجل من عامة الناس عن القرآن: أمخلوق أم غير مخلوق؟ فقال العلاف: هو كلام الله مخلوق، فقال له الرجل: مخلوق يموت أو يخلد؟ فقال: يموت.
قال: فمتى يموت القرآن؟ انظر كلام الناس، وهكذا حال الفطر السليمة.
قال: فمتى يموت القرآن؟ قال: إذا مات من يتلوه فهو موته، وهكذا عندما تورط العلاف أراد أن يلوي لسانه على عادة أهل البدع إذا وضعوا في خانة اليد لووا ألسنتهم وكلامهم وصرفوا النصوص عن ظاهرها.
فقال الرجل: فقد مات من يتلوه -يعني: اعتبر أن جميع من تلا القرآن قد مات- ألا تقول: إن الخلق جميعاً قد ماتوا؟ قال: نعم.
قد ماتوا، فقال: وقد ذهبت الدنيا وتصرمت وقال الله عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]، فهذا القرآن وقد مات الناس.
يعني: فلماذا لم يمت قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)، فالله تعالى يتكلم بهذا يوم القيامة وقبل بعث الخلق من مرقدهم، ألا تعتقد يا علاف! أن هذا قول الله عز وجل؟ قال: بلى.
هو قول الله عز وجل، قال: إنه تكلم به بعد أن مات القراء والتلاة؛ ليدل على أن كلام الله لا علاقة له بقارئه وتاليه، وأنه لا يموت بموت القارئ والتالي، وهل يتصور تعدد القرآن؟ هل يتصور أن كل واحد له قرآن إن قلنا: إن كل قرآن يموت بموت قارئه)، لكن إذا ماتت جماعة بقيت جماعة أخرى تتلو القرآن؛ ليدل على أن القرآن لا علاقة له بقارئه ولا تاليه.
فقال له الرجل: فقد مات من يتلوه، وقد ذهبت الدنيا وتصرمت، أي: انقضت وفاتت، وقال الله عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] فهذا القرآن وقد مات الناس.
وليعلم أن العلاف هذا من كبار أوتاد المعتزلة.
فقال العلاف: والله ما أدري! وبهت، بهت الذي ابتدع ونافق، وعجز عن أن يرد على ذلك العامي الذي عرف أن القرآن كلام الله بفطرته غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فعجز ذلك الزنديق الأعظم أن يرد على رجل من عامة الناس، وما استطاع بعلمه وبفلسفته وموقفه الفاسد أن يرد على ذلك الرجل الذي استقامت فطرته على منهج النبوة.
[وذكر ذلك عبد الرحمن قال: حدثنا أبو سعيد -أي: أحمد بن يحيى بن سعيد الأنصاري القطان - قال: سمعت رجلاً سأل أبا الهذيل فذكر نحو هذا الكلام.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك.
فأين ملوك الأرض؟)]، بعد أن يميت الله تبارك وتعالى جميع خلقه يتكلم بهذا: أنا الملك فأين ملوك الأرض؟ أنا الجبار فأين جبابرة الأرض؟ فإذا قلنا: إن القرآن مخلوق يفنى بفناء الخلق فماذا نقول في كلام الله تعالى هذا بعد أن يفني خلقه؟ لماذا لم يفن هذا الكلام؟ ولماذا لم ينته هذا الكلام؟ قال: [هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس قال: ينادي منادي الله عز وجل بين يدي الصيحة، فيسمعها الأحياء والموتى، وينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا فيقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]]، فالله تبارك وتعالى هو الذي يسأل ويجيب على نفسه؛ ليدل على أن كلامه باق بقاء الدهر.
ونعيم بن حماد وإسحاق بن راهويه وهشام بن عبيد الله الرازي وسعيد بن رحمة المصيصي صاحب ابن المبارك وأبي إسحاق الفزاري، جميعاً يعتقدون بهذه الآية أن الله تبارك وتعالى كلامه غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.(16/9)
سياق ما روي عن النبي مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أما ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام مما يدل على أن القرآن من صفات الله القديمة].
في الحقيقة لا ينبغي أن يقال: إن صفات الله قديمة؛ لأن وصف الله تبارك وتعالى بالقديم وصف لم يرد في كتاب ولا في سنة، والله تبارك وتعالى وصف نفسه بأنه الأول وأنه الآخر وأنه الظاهر وأنه الباطن، لا أول قبله ولا آخر بعده سبحانه وتعالى، فنقول: إن الله تعالى بأوليته كذلك أول بصفاته وأول بأسمائه.
يعني: الله تبارك وتعالى أول برحمته وعلمه وحلمه وسمعه وبصره، فما استحق أن يكون سميعاً بعد أن سمع؛ لأن الله تبارك وتعالى يسمع أولاً بلا ابتداء، كما أن ذاته أول بلا ابتداء فكذلك صفاته لازمة لذاته، فلا نقول: إن الله تعالى كان بغير سمع ثم سمع، فما استحق أن يكون سميعاً إلا بعد أن سمع، وكان الله تبارك وتعالى بلا رحمة فخلق في ذاته الرحمة، فما استحق أن يكون رحيماً إلا بعد أن رحم، وكان الله ولم يكن شيء من المخلوقات، فما استحق أن يكون خالقاً إلا بعد أن خلق، إن الذي يقول: إن صفات الله تعالى مخلوقة لابد أنه ينفي جميع الصفات والأسماء أولاً عن الله عز وجل، وهذا القول كفر بواح؛ ولذلك نقول: إن الله تبارك وتعالى كان خالقاً قبل أن يخلق الخلق، كان رحيماً قبل أن يرحم الخلق؛ لأنهم غير موجودين من الأصل، وكان الله تبارك وتعالى عالماً بكل شيء.
أليس الله تبارك وتعالى هو الذي كتب كل شيء كان وما سيكون إلى قيام الساعة وما بعدها في اللوح المحفوظ، فهو محفوظ عنده تحت العرش؟ أليس الله تبارك وتعالى كتب وقسم أرزاق الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صح ذلك الخبر عند مسلم؟ أليس الذي يفعل هذا عليماً؟ فإن الذي يقول: إن صفات الله تبارك وتعالى مخلوقة لابد أنه يلحق النقص بالله عز وجل؛ لأنه يقول: إن الله كان ذاتاً مجردة عن الأسماء والصفات، ثم اكتسب هذه الأسماء والصفات، وهل يمكن أن يكون هنالك ذات بغير صفات؟ بل إن ذوات المخلوقين لابد أن يكون لها صفات من اللون والطول والعرض والحجم والسعة والضيق وغير ذلك، فلا يتصور من باب أولى أن يكون الله تبارك وتعالى بغير صفات أو بغير أسماء.
وصفات الله تبارك وتعالى وأسماؤه موقوفة، أي: أنه لا يجوز لي أن أصف الله تبارك وتعالى بما لم يصف به نفسه ولم يصفه به رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، فلا يصح أن أقول: إن الله تبارك وتعالى من أسمائه الستار، أو من أسمائه المنعم.
هذا غلط؛ لأنه لم يصح في ذلك حديث قط، وإنما الذي صحَّ ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة).
وفي رواية الترمذي: (هو الله الخالق البارئ المصور) إلى آخر الأسماء التسعة والتسعين، ولكن سرد الأسماء في زيادة الترمذي ليست صحيحة، أي: أن الحديث بهذه الزيادة ليس صحيحاً، ولذلك من الأمور المخالفة أن تكتب هذه الأسماء، وأن تعلق هنا وهناك على أنها أسماء الله تبارك وتعالى الواردة في الحديث الذي أخرجه الترمذي، فكيف نعتمد في أمر من أمور العقيدة -وهو أمر عظيم يتعلق بأسماء الله وصفاته- على حديث ضعيف؟ إذا كان أهل العلم قد اختلفوا في اعتبار الحديث الضعيف في فضائل الأعمال فما بالكم بالأحكام والعقائد؟ ولكن الله تبارك وتعالى -كما تعرض لذلك غير واحد من أهل العلم- له تسعة وتسعون اسماً مستفادة من كتابه ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أي: أنه عندما تجمع الأسماء التي صحت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وجاءت في كتاب الله تجدها من مجموع الكتاب والسنة تسعة وتسعين اسماً.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك).
هذا الحديث يدل على أن لله غير هذه الأسماء أسماءً استأثر بها في علم الغيب عنده، ولكن النبي عليه السلام أخبرنا أن الذي أنزل في الكتاب والسنة تسعة وتسعون اسماً، وهذا لا ينفي أن يكون هناك أسماءً أخرى استأثر الله تبارك وتعالى بها.(16/10)
دلالة حديث آدم وموسى على أن علم الله تعالى صفة أزلية له سبحانه
قال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقي آدم موسى فقال موسى لآدم: أنت الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، فعلت ما فعلت وأخرجت ذريتك من الجنة! فقال له آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلامه وآتاك التوراة، أنا أقدم أم الذكر؟)، فكل واحد صاحب منة معينة، فآدم خلقه الله تعالى بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه من كل شيء، وصحيح أنه بسبب زلته أخرج ذريته من الجنة، لكن آدم قال: يا موسى! أليس الله تعالى قد اصطفاك؛ لأنه من المعلوم أن آدم نبي وأن موسى رسول، والرسول أعظم من النبي، ولذلك قال هنا: (أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته) ولم يقل: بنبواته.
قال: (أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته، وكلمك ولم يكلم أحداً, وآتاك التوراة)، يعني: ألست موسى الذي على هذا النحو؟ قال: نعم.
قال: يا موسى! إني أسألك: (أنا أقدم أم الذكر؟) أي: اللوح المحفوظ الذي كتب الله تبارك وتعالى فيه ما وقعت فيه أنا وقدره عليَّ تقديراً؟ يعني: هذا الذي عملته أنا ووقعت فيه بقدر الله وعلمه السابق الأزلي الأبدي أو حادث؟ قال: (فحج آدم موسى)، أي: فانتصر آدم في حجته على موسى، وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى أول بصفاته، فقد علم الله تبارك وتعالى أن آدم سيفعل كذا، فكتبه عليه كتابة قدرية وليست شرعية؛ لأن هذا مخالفة للأمر، فآدم أكل من الشجرة بغواية الشيطان له، ولكن الله تعالى لما علم أزلاً أن آدم سيعصي الأمر، وأنه سيتبع الشيطان في ذلك في لحظة ضعف أو في لحظة هوى، أو حب الأبدية وحب البقاء في الجنة والخلود فيها، فصدقه وفعل ما فعل، هل كان الله تبارك وتعالى يعلم ما وقع من آدم أم لا؟
الجواب
يعلم؛ ولذلك كتبه في اللوح، فهو محفوظ عند الله تبارك وتعالى، فآدم حج موسى، أي: انتصر على موسى بهذه الحجة؛ لأنه عندما قال له موسى: يا آدم! كيف وقع منك هذا؟ قال له آدم: ما وقع مني إلا بقدر، يعني: وقع وانتهى، ولابد أن نؤمن أن كل ما في الكون من خير أو شر إنما هو من عند الله عز وجل، فالله تعالى خلق إبليس وهو رأس الشر، وليس لإبليس خالق غيره؛ لأن الله خالق كل شيء؛ ولذلك حج آدم موسى.
فعلم الله تبارك وتعالى صفة أزلية أو حادثة؟
الجواب
أزلية، أي: أولية، فلما كانت هذه الصفة أولية يلزم أن تكون جميع الصفات أولية كصفة الكلام، ولو قال: يا موسى! إن الله تبارك وتعالى لم يكتب هذا علي، ولم يقدره علي تقديراً كونياً قدرياً، فمعنى ذلك: أن الله تعالى ما علم ما بدر منه وما وقع إلا بعد أن وقع، وهذا قول القدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه وأن الأمر أنف، وهذا كلام فاسد.
فآدم استدل له بصفة العلم وصفة الكتابة؛ ليقيس على ذلك كل صفة من صفاته سبحانه.(16/11)
ضوابط الاحتجاج بالقدر على المعاصي، والفرق بين القدر الكوني والقدر الشرعي
أهل العلم لهم ضوابط في الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ويفرقون بين القدر الكوني والقدر الشرعي، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية، أما ظاهر النص هنا فإنه يدل على أن آدم احتج بقدر الله على ما وقع منه وهو معصية، مع إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية.
فنقول: الفرق بين موقف آدم وإجماع أهل العلم وما أتى به جميع الأنبياء والمرسلين: أن آدم تاب وأناب إلى ربه، وهذا بخلاف الرجل الذي سرق في عهد عمر، فجيء به بين يديه فأمر بإقامة الحد عليه، فقال: يا عمر! أتريد أن تجلدني على أمر قدره الله علي؟ انظر بجاحته وجرأته وكأنه لم يعمل شيئاً.
فقال عمر: نعم.
إن الذي قدر عليك هذا قد فرض عليك الحد، وهو من قدر الله عز وجل.
فأنت حينما تقع في الذنب، فتعتصر هماً وغماً وألماً، وتتوب وترجع إلى الله تبارك وتعالى، وتعزم على ألا تعود لمثل هذا الذنب، فهذا أمر مقبول، فما من نبي يقع في ذنب أو هفوة من الهفوات الصغيرة إلا وقد استغفر ربه وأناب ورجع، فما وقع فيه الأنبياء والمرسلون من هذه الهفوات اليسيرة الصغيرة التي لا تخدش في رسالتهم ولا في إيمانهم كان ذلك بتقدير من الله تعالى مع أنه معصية، ولكن الفرق بين الاثنين: أن هذا يحتج بقدر الله السابق على معصيته بجرأة وبجاحة وسفالة ووقاحة، وهذا يحتج بقدر الله السابق؛ لأنه يعلم ويعتقد بعد توبته أن الذي بدر منه ما بدر إلا بعلم الله عز وجل وأن الله لما علمه كتبه، فهم لا يحتجون بالقدر، وإنما يعتقدون أن الله قد علم ذلك سلفاً وأولاً، فلما علمه كتبه.
وأنتم تعلمون أن أولى مراتب القدر: العلم الصادق الأزلي لله تبارك وتعالى، ثم الكتابة، وهو أن الله تبارك وتعالى علم كل شيء كان وسيكون إلى يوم القيامة، فكتب ذلك في كتاب، فهو محفوظ عنده تحت العرش.
والمرتبة الثالثة من مراتب القدر: المشيئة، والمشيئة نوعان: مشيئة شرعية دينية، ومشيئة قدرية كونية، فالمشيئة الشرعية الدينية مبناها على محبة الله تعالى ورضاه، وهي طاعته التي أمر بها ونهيه الذي نهى عنه، فطالما التزم المرء أمره وانتهى عن نهيه نقول: إنه دخل في مشيئة الله الشرعية الدينية، بمعنى: أنه أطاع الله فيما أمر وانتهى عما نهى، وما أطاع ذلك الرجل ما أمره الله ورسوله وما انتهى عما نهاه الله ورسوله إلا بحب الله وتوفيق الله وتقدير الله له، والله تبارك وتعالى في المقابل علم أن هذا العبد سيزني ويسرق ويقتل ويشرب الخمر وغير ذلك، فكتبه عليه وقدره عليه، ومعنى: قدره عليه أنه أذن في وقوعه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال لهذا العبد: لا تشرب الخمر، فإن فيها كيت وكيت، ولا تطع الشيطان لأنه لا يدل على خير، ولا تقتل ولا تسرق ولا تزنِ ولا تعمل كيت ولا كيت ولا كيت، ولكن العبد خالف ذلك فوقع في هذا المحذور، فوقوعه في هذا المحذور الله تبارك وتعالى علمه أولاً فكتبه، وليس معنى كتبه: أنه جبره على أن يفعله، ولو قلت ذلك لقلت بقول الجبرية، فلو قلت: إن هذه المعاصي المرء مجبور على فعلها فستكون من الجبرية، وتكون من القدرية في وقت واحد.
ولكن لابد أن تعلم أن الله تعالى كتب المعاصي على عباده بمعنى: أنه علم أن العبد سيختار المعصية، فلما علم ذلك سلفاً كتبها عليه، فمثلاً: كتب أن أحمد سيفعل كذا، سيقتل، سيسرق، وأحمد يعلم أن هذه سرقة، ويعلم أن الله تعالى حرمها، وأنه لو أطاع لدخل في المشيئة الشرعية الدينية التي مبناها على محبة الله ورضاه، ولو خالف لدخل في مشيئة الله الأخرى، وهي أن الله تعالى لا يقع شيء في كونه إلا بإرادته وإذنه.
تصور لو أن عبداً أراد أن يسرق الآن، فلابد أن السرقة تستلزم مجموعة من الأفعال: المشي والهم بالسرقة، وتحديد ذلك، ومد اليد على المسروق، ثم أخذه وتحريزه والجري به، أليس كل هذا مخلوقاً لله عز وجل؟ هل يستطيع العبد أن يفعل ذلك بغير إرادة الله؟ هل يمكن أن يقع شيء في الكون بغير إذن الله؟ أنا أود أن أسرق هذا الشيء وأخرج جرياً، فمن الذي قواني على الجري؟ ومن الذي منحني القدرة والقوة على أن أخطف هذا الميكرفون؟ إنه الله تبارك وتعالى الذي خلق كل ذلك، فهذا تم بتقدير الله ليعاقبني الله تبارك وتعالى عليه بعد ذلك؛ لأنه أمرني ألا أفعل هذا، بل أفعل غيره، فإذا رأيت من يسرق نهيته عن ذلك وأمرته بطاعة الله عز وجل، فلما خالفت ذلك وذاك فإننا نقول: إن هذا كله وقع بتقدير الله، لكن ليس بتقدير الله الشرعي؛ لأن الله تعالى يكره ذلك، يكره السرقة وحذر منها، كما أن الله تبارك وتعالى لا يرضى لعباده الكفر، ومع هذا هو الذي أذن بوجود الكفر إذناً قدرياً، فكفر الكافر وقع في الأرض بإذن من الله، ولو أن الله تبارك وتعالى شاء أن يجعل الناس أمة واحدة مؤمنة لجعلهم مؤمنين جميعاً، ولو شاء أن يجعلهم جميعاً كفاراً لجعلهم كذلك، ولكن حكمة الباري اقتضت وجود الإيمان والكفر، وجود الخير والشر، وجود المعاصي والطاعات، وجود الجنة والنار في المقابل، وبين الله تبارك وتعالى في كتابه البيان الشرعي ال(16/12)
خلق أفعال العباد ومسألة اللفظ
المرتبة الرابعة: مرتبة خلق أفعال العباد.
إن الكلام والبصر والسمع والجري وغير ذلك مما يفعله العبد بالليل والنهار في جميع أوقاته، كل ذلك مخلوق، بمعنى: أن حركة لساني الآن وأنا أتكلم وأنت ترد علي، بل حركة عقلك عندما أتكلم وأنت تفهمني؛ هذا الفهم مخلوق وليس أزلياً؛ لأنك أنت نفسك لست أزلياً، فكيف يكون الفهم أزلياً؟ فهنا نقول: إن أفعال العباد مخلوقة، والأئمة عندما تعرضوا لمسألة خلق القرآن أنكروا ذلك تماماً وحكموا بالكفر على من يقول: القرآن مخلوق، ولكنهم اختلفوا في مسألة اللفظ، فجمهور أهل السنة لم يتعرضوا لمسألة اللفظ، وهناك فرق كبير بين اللفظ بالقرآن والتلفظ بالقرآن، فمن قال: إن لفظي بالقرآن مخلوق فقد أخطأ، ولو قال: إن تلفظي بالقرآن مخلوق فقد أصاب؛ لأن اللفظ اسم، وهو يدل على الملفوظ وهو القرآن الكريم، فإذا قلت: إن لفظي بالقرآن مخلوق فكأنك -ولو كان ذلك على سبيل الإشارة- تقول: القرآن مخلوق.
أما إذا قلت: إن تلفظي، يعني: حركة لساني وإخراج الصوت من فمي أو من صدري مخلوق، بمعنى: أنه حادث؛ فهذا لا بأس به.
إنك تقرأ في حاشية هذا الكتاب أن الناس اختلفوا في مسألة القرآن، فمنهم من قال: هو مخلوق، ومنهم من قال: غير مخلوق، ومنهم من قال بالتوقف، يعني: توقف ولم يتكلم لا بهذا ولا بذاك، ومنهم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ثم يرجح المحقق أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الصحيح وما عداه باطل، وهو أن القرآن كلام الله غير مخلوق وسيرد على من قال بمسألة اللفظ.(16/13)
حكم القول: يا رب القرآن!
كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، قوله: (اللهم يا رب القرآن!) يدل على أن القرآن مربوب، وكل مربوب مخلوق حادث، فهذا الرجل إما أنه كان على مذهب الاعتزال، وإما أنه جاهل لا يعلم شيئاً، ولكن ابن عباس فطن إلى الأمر؛ فوثب إليه ابن عباس فقال: مه! وهي كلمة زجر، وقيل: هي كلمة تعجب عند العرب، أي: كيف تقول هذا؟ هذا من أنكر المنكرات! فقال ابن عباس: القرآن منه.
أي: أن القرآن كلام الله ليس بمربوب، منه بدأ وإليه يعود، فانظر إلى ابن عباس! لاحظ كلمة يقع فيها كثير من الناس في هذه الأيام؛ لأن هذه الزيادة (رب) ليست في حديث صحيح قط، وإنما الصحيح: (يأتي الصيام والقرآن فيشفعان للعبد فيقول القرآن: أسهرت ليله فشفعني فيه، ويقول الصيام: أظمأت نهاره فشفعني فيه)، وهذه الرواية صحيحة، أما رواية: يا رب! فليست صحيحة.
وقال عبد الله بن عمر: القرآن كلام الله غير مخلوق.
وعن عمرو بن دينار قال: أدركت تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.(16/14)
ذكر إجماع التابعين من مكة والمدينة والكوفة والبصرة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق
يذكر أهل مكة والمدينة، ثم يذكر أهل البصرة والكوفة، ويذكر منهم علي بن الحسين ويذكر أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن البصري وسليمان التيمي وأيوب السختياني وحماد بن أبي سليمان وسليمان الأعمش جميعاً يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.
فهذا الثوري يقول: سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: قولوا لفلان الكافر: لا يقرب مجلسي، فإنه يقول: القرآن مخلوق.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين وأحمد بن يونس وأصحابه: ثبت أبو نعيم وقال: لقيت سبعمائة شيخ، ذكر الأعمش والثوري وجماعتهم.
قال: ما سمعت أحداً منهم قال ذا القول، يعني: يقول بخلق القرآن، إلا رجل واحد.(16/15)
ذكر ما روي عن أتباع التابعين في أن القرآن كلام الله
يذكر أهل مكة والمدينة، ثم يذكر أهل البصرة والكوفة، ويذكر منهم علي بن الحسين ويذكر أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن البصري وسليمان التيمي وأيوب السختياني وحماد بن أبي سليمان وسليمان الأعمش جميعاً يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق.
فهذا الثوري يقول: سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: قولوا لفلان الكافر: لا يقرب مجلسي، فإنه يقول: القرآن مخلوق.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين وأحمد بن يونس وأصحابه: ثبت أبو نعيم وقال: لقيت سبعمائة شيخ، ذكر الأعمش والثوري وجماعتهم.
قال: ما سمعت أحداً منهم قال ذا القول، يعني: يقول بخلق القرآن، إلا رجل واحد.(16/16)
قول جعفر بن محمد أن القرآن كلام الله غير مخلوق
جاء تحت باب: [ما روي عن أتباع التابعين من الطبقة الأولى من بلدان شتى]، عن إسحاق بن بهلول قال: [سألت موسى بن داود عن القرآن، فقال: حدثني معبد أبو عبد الرحمن عن معاوية بن عمار الدهني قال: قلت لـ جعفر بن محمد: إنهم يسألوننا عن القرآن: مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله].
يعني: لا يقال عنه: خالق ولا مخلوق، ولكن يقال: إنه كلام الله.
قال: أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد قال أبي أحمد بن حنبل: رأيت معبداً هذا ولم يكن به بأس، وأثنى عليه أبي، قال: وكان يفتي برأي ابن أبي ليلى]، وسئل جعفر عن القرآن فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله.
[وعن موسى بن جعفر قال: سئل أبي -الذي هو جعفر بن محمد - عن القرآن: خالق هو أو مخلوق؟ فقال أبي: لو كان خالقاً لعبد -لأن من شأن الخالق أن يعبد- ولو كان مخلوقاً لنفد]، ولو كان مخلوقاً لأتى عليه الفناء.(16/17)
قول ابن المبارك أن القرآن كلام الله غير مخلوق
وقال في ترجمة عبد الله بن المبارك: [قال ابن المبارك: سمعت الناس منذ تسعة وأربعين عاماً يقولون: من قال: القرآن مخلوق فامرأته طالق طالق طالق، البتة.
قلت: ولم ذاك؟ قال: لأن امرأته مسلمة، والمسلمة لا تكون تحت كافر].
أرأيت؟ ليس هناك محاباة في دين الله عز وجل.
قلت أنا: فقد لقي عبد الله بن المبارك جماعة من التابعين مثل سليمان التيمي وحميد الطويل وغيرهم وليس في الإسلام في وقته أكثر رحلة منه ولا أكثر طلباً للعلم وأجمعهم له وأجودهم معرفة به، وأحسنهم سيرة وأرضاهم طريقة مثل ابن المبارك، ولعله يروي عن ألف شيخ من التابعين، فأي إجماع أقوى من هذا، وابن المبارك يقول: هذا ما أدركت الناس عليه.
فهل يتصور يا إخواني! أن هذا حق خفي على النبي وأصحابه والتابعين والقرون الخيرية وبان لهؤلاء الفلاسفة؟
الجواب
حتى لو لجأنا إلى المنطق العقلي لا يتصور أبداً أن أمراً يخفى على النبوة وعلى الصدر الأول للرسالة، ولا يظهر إلا لمن بعدهم، لكرامة هؤلاء على الله عز وجل أبداً؟ لأنه ليس أحد أكرم على الله من أنبيائه ورسله وأصحاب أنبيائه في المرتبة الثانية، فإن الله ما كان ليخفي شيئاً عنهم جميعاً ثم يظهره للمعتزلة أو للأشعرية، أو للماتريدية، أو للخوارج، أو للشيعة! إن الذي يقول بهذا لابد أن يكون قد فقد عقله.(16/18)
كلام الفضل بن دكين فيمن أدرك ممن يقولون بأن القرآن كلام الله
قال: [قال أحمد بن يونس: لقيت أبا نعيم فقال لي: إنما هو ضرب الأسياط، قال ابن أبي شيبة: فقلت: ذهب حديثنا عن هذا الشيخ، فقيل لـ أبي نعيم فقال: أدركت ثلاثمائة شيخ كلهم يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنما قال هذا قوم من أهل البدع كانوا يقولون: لا بأس برمي الجمار بالزجاج، ثم أخذ زره -يعني: أبو نعيم أخذ زر قميصه- فقطعه، ثم قال: رأسي أهون علي من زري، يعني: سأرمي الجمار برأسي ولا أرميها بالزجاج؛ وذلك لأن النص ذكر أن الجمار إنما هي من حصى الخذف، من حصى مكة أو منى أو المزدلفة أو عرفة على المذهب الراجح، والذي يقول: إن رمي الجمار لا بأس أن يكون بالزجاج، يفتح المجال أمام الآخر ليقول: لا بأس أن يكون بالفضة والذهب، وما المانع؟ إن الشيعة الآن يعتقدون أن رمي الجمار بالدم مجزئ، بل قربة إلى الله عز وجل عندهم؛ ولذلك يصعد الشيعة ويحرصون على أن يرموا جمارهم من فوق الكبري في مكان الرمي، ويرمون سبعة أكياس من الدم تعبيراً عن شؤمهم بإهراق دم الحسين، فينتهزون الفرصة ليعبروا عن حبهم المزعوم لآل البيت، وحزنهم الشديد على الحسين، ويا ليته كان معنا الآن! ثم يقولون: إن هذه الأكياس من الدم إنما تجزئ لأننا نرمي بها ونرجم بها، ويسقط كيس الدم في ذلك المكان المعد للجمار وينفجر فيلوث جميع الحاضرين، وعلى أية حال! لا يأتي من الشيعة على جهة الخصوص ومن المبتدعة على جهة العموم إلا كل شر.(16/19)
قول أبي جعفر المنصور في أنَّ (لا إله إلا الله) كلام الله غير مخلوقة
قالك [وكتب أليون ملك الروم إلى أبي جعفر المنصور يسأله عن أشياء ويسأله عن لا إله إلا الله: أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ قال: فكتب إليه أبو جعفر: كتبت إلي تسألني عن لا إله إلا الله: أخالقة أم مخلوقة؟ قال: وليست خالقة ولا مخلوقة، ولكنها كلام الله عز وجل]، يعني: حتى السلاطين كان لهم عناية بأسماء الله وصفاته.(16/20)
ذكر ما كان من ابن أبي ليلى مع الرجل الذي قال بخلق القرآن
قال: [قال محمد بن عمر: إن ابن أبي ليلى قال: حدثني أبي قال: لما قدم ذلك الرجل إلى محمد بن عبد الله بن أبي ليلى شهد عليه حماد بن أبي سليمان وغيره أنه قال: القرآن مخلوق، وشهد عليه قوم مثل قول حماد بن أبي سليمان، فحدثني خالد بن نافع قال: كتب ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر وهو بالمدينة بما قاله ذلك الرجل، وشهادته عليه وإقراره، فكتب إليه أبو جعفر: إن هو رجع وإلا فاضرب رقبته وأحرقه بالنار، فتاب ورجع عن قوله في القرآن.
قال وكيع: ولما كان من أمر الرجل ما كان قال له ابن أبي ليلى: من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن خلق منطقك؟ قال: الله.
قال: خُصِمت، قال: صدقت، فماذا تقول؟ قال: فإني أتوب إلى الله.
قال: فبعث معه ابن أبي ليلى أمينين فيوقفاه إلى حلقة من حلق المسجد يقولان لهم: إنه قال: إن القرآن مخلوق فقد تاب ورجع، فإن سمعتموه يقول شيئاً فارفعوا ذلك إلي، قال: وأمر موسى بن عيسى حرسياً -أي: شرطياً- فقال: لا تدعنه يفتي في المسجد.
قال: فكان إذا صلى قال الحرسي: قم إلى منزلك، فيقول له: دعني أسبح، فيقول: ولا كلمة].
انظر إلى حرص الناس على دين الله عز وجل، إنه لأمر عجب! [قال: فلا يتركه حتى يقيمه، فلما قدم محمد بن سليمان جمع جماعة فكلمه؛ فأذن له وجلس في المسجد].
فلم يجلس في المسجد إلا برخصة.
ونحن في الحقيقة أردنا أن نستبشر خيراً بسرد كلام السلف؛ لأن سرد كلام السلف فيه نور وبركة عظيمة جداً، فأردنا أن نسعد بسماع وقراءة كلام سلفنا رضي الله عنهم أجمعين.(16/21)
الأسئلة(16/22)
حكم تحية المسجد لمن لا ينوي مفارقته
السؤال
هل يلزم المرء سنة تحية المسجد إذا أراد أن يخرج من المسجد إلى الحمام، أو ليشرب ويرجع، أو يكلم طالباً له أو غير ذلك؟
الجواب
هناك فرق بين من يخرج من المسجد ينوي مفارقة المسجد، ومن خرج من المسجد لا ينوي المفارقة، ولا شك أن الحمامات ليست من المسجد، وهذه التوسعات التي حول المسجد ليست من المسجد؛ ولذلك يجوز فيها ما لا يجوز في المسجد من البيع والشراء وغير ذلك، فنقول: إن الذي خرج من المسجد بنية عدم العودة إذا رجع إلى المسجد كان هذا رجوعاً جديداً يلزم منه تحية المسجد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).
أما إذا خرج بنية العودة وكان خروجاً يسيراً للحمام أو أن يكلم واحداً في الخارج، كأن يكلم أهله، أو يقضي شيئاً يسيراً ويرجع مرة أخرى؛ فإن هذا لا يلزمه تحية المسجد.
والله تعالى أعلم.(16/23)
حكم لبس المرأة للنقاب أثناء العمرة
السؤال
ما حكم لبس المرأة للنقاب أثناء العمرة؟
الجواب
يعني: أثناء الإحرام، والنبي عليه السلام يقول: (لا تنتقب المرأة المحرمة)، فالنقاب مخالف لهدي النبي عليه الصلاة والسلام في الحج والعمرة عند الإحرام، ولكن للمرأة أن تطرح ثوبها على رأسها فيسدل على وجهها، وهذا لا يعد نقاباً، لا يسمى في لغة الاصطلاح: نقاباً، فلو طرحت المرأة مثلاً البيشة على رأسها، فنزلت فغطت وجهها غطاءً أو غطاءين أو ثلاثة كما تشاء المرأة، فإن هذا ليس من النقاب في شيء، بل النقاب هو المعروف لدينا: الذي تعصب به المرأة رأسها؛ ولذلك لا تعصب المرأة بثوبها رأسها في الإحرام.(16/24)
بيان ما يفعله الطبيب إذا علم أن امرأة فضت بكارتها من غير زوجها
السؤال
يقول الطبيب: أتاني رجل بزوجته ولم يمر على زواجهما أكثر من أسبوع، ولكنه عند جماعه إياها لم ير دم البكارة.
فهل يجوز لي أن أخبر زوجها بحقيقة الأمر؟
الجواب
نعم.
يجب عليه أن يخبره بحقيقة الأمر؛ لأن هذا الرجل إذا كان طيباً فكيف له أن يعاشر امرأة قد جامعها غيره في حرام، وإن هذا من العيوب المؤثرة في إتمام الزواج أو في استمراره، فهناك من العيوب من إذا أخفاه الزوج أو الزوجة على صاحبه لا يكون مؤثراً في الزواج وفي استمراره، ومن العيوب ما إذا عرفه الطرف الآخر لم يقبل الزواج، كما لو أن المرأة عرفت أن زوجها عنين أو مجبوب أو لا يستطيع أن يصل إلى النساء وإن كان في الظاهر أن له عضواً كأعضاء بقية الرجال، فلها الحق الشرعي في أن تطلق من زوجها.
وإذا علم الرجل كذلك أن للمرأة عيباً عظيماً تتأثر به الحياة ولا تستقيم، والزوجة أخفت هذا العيب عن الزوج ولم تطلعه عليه إلا بعد البناء بها أو العقد عليها، فللزوج أن يطلقها كذلك لهذا العيب المؤثر.
فأرى أن هذا من العيوب المؤثرة، وكيف يستقيم البيت أو يعتدل المزاج الزوجي مع زوجة لا يُدرى: أكان ذلك منها بنكاح أم بسفاح، خاصة إذا كان هذا الأمر بسفاح فكيف يستقيم الأمر بينهما؟ فأرى أن الطبيب يلزمه أن يصرح لهذا الزوج بما كان من تلك المرأة.(16/25)
حكم زواج المسيحي من المسلمة والعكس، وحكم تحدث الخطيب عن التبرعات في الخطبة
السؤال
هل من الممكن تزوج مسلمة من مسيحي، فالمسيحي يقول: إني أريد أن أسلم؟ فالرجاء الإفادة، وهل يجوز للخطيب في الجمعة أن يتحدث عن التبرعات؟
الجواب
على أية حال.
يجوز أن يتحدث الخطيب عن التبرعات ويحث الناس، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحث أصحابه على الصدقة، لكن السؤال الأول وهو البلية العظيمة جداً وكنت أظن أن ذلك معلوم من الدين بالضرورة: أن المسلمة لا تكون تحت كافر قط، والعكس صحيح: أن الكافرة من اليهودية أو النصرانية وأصحاب الكتاب تكون تحت مسلم بشرط أن تكون محصنة حرة عفيفة غير زانية ولا مشركة، كأن تقول: عيسى هو الله أو ابن الله أو أن عزيراً ابن الله أو غير ذلك، فإن هذه مشركة وإن كانت من أهل الكتاب؛ فلا يجوز الزواج منها؛ لأن بعض الناس يتصور أن الزواج بالمسيحية أمر على إطلاقه، وليس الأمر كذلك، إنما الأمر مشروط بألا تكون مشركة، وأن تكون محصنة حرة عفيفة ليست زانية ولا باغية، وأن تكون السيادة في البيت للزوج، وأن يلحق الأولاد به لا بها عند الفراق أو عند استدامة الحياة بينهما.
فبهذه الشروط يجوز نكاح الرجل المسلم من المرأة الكافرة الكتابية، أما نكاح المسلمة من الكافر فإنه لا يجوز البتة، ولم يجوزه إلا ضلال الفرق المنحرفة الذين جوزوا مع هذا زواج الأب من ابنته وزواج البنت من أبيها وزواج الأخ من أخته والأخت من أخيها، فإنهم وقعوا في مثل هذا كله، وبالمناسبة قالوا بجواز زواج المسلمة من كافر، فإن هذا أمر لا عبرة به؛ لأن الخلاف هنا غير معتبر.
إن النصارى قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ليسوا كلهم يقولون: إن عيسى ابن الله ولا أنه الله، فإن جلَّ النصارى من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: إن عيسى رسول الله، وبعضهم يقول: ابن الله، والبعض يقول: هو الله، يقولون بالتثليث والتثنية، لكن ليس كل النصارى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام يقولون هذا؛ ولذلك لو رجعت إلى كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري وهو أول كتاب في الصحيح في شرح حديث أبي سفيان صخر بن حرب لما لقي هرقل الروم، لعرفت أن هرقل اختلف أهل العلم فيه: هل آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام أو لم يؤمن؟ والراجح: أنه لم يؤمن، بدليل أنه حارب النبي عليه الصلاة والسلام وحاربه النبي عليه الصلاة والسلام في أرض الشام، ولو كان مسلماً لما حارب النبي عليه الصلاة والسلام.
وهناك أدلة كثيرة تشهد بأن هرقل لم يدخل في الإسلام، وإن كانت بعض الروايات أثبتت إسلامه، ولكن أقوى الروايات لم تثبت إسلامه.
الشاهد في هذا: أن هرقل كان نصرانياً، ومع هذا أثنى عليه النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث، وأنه من أهل الكتاب، وكان مع هرقل من يقول بهذه الأقوال الثلاثة: أن عيسى ابن الله، وأنه هو الله، وأنه نبي الله.
فأنا أقول: إن النصراني يكون أحياناً معه نوع شرك فيما يتعلق بإثبات البنوة أو الألوهية لعيسى، وإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فإنه يبقى على أصل كفره من أهل الكتاب.
وهذا عند الإطلاق، فأهل الكتاب في كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يطلق على من يقول: إن عيسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان كافراً.(16/26)
حكم الجمع بين نية تحية المسجد والسنة الراتبة في ركعتين
السؤال
أيهما أولى بالتقديم: تحية المسجد أو السنة الراتبة؟
الجواب
ما المانع أن تجمع بينهما بنيتين؟ يعني: تصلي السنة بنيتين، وهذا مذهب جمهور العلماء: أن صلاة النوافل تجمع فيها النيات المتعددة، نيتان وثلاث وأربع وخمس وعشر إن شئت.(16/27)
حكم تشميت المرأة الأجنبية إذا حمدت الله
السؤال
هل يشمت الرجل المرأة الأجنبية إذا عطست وقالت: الحمد لله؟
الجواب
في الحقيقة النص عام، حديث أبي هريرة في الصحيحين قال النبي عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم ست، ومنها: وإذا عطس فحمد الله فشمته)، وحق المسلم للذكر من باب التغليب، وإلا فالأصل حق المسلم على المسلم والمسلمة على المسلمة وحق المسلمين بعضهم على بعض، هذا هو الأصل، لكن القضية ترجع إلى فرع آخر، وهو إذا كان ذلك له تعلق بالفتنة بين الرجال والنساء فإنه لا يشمتها كالسلام تماماً، فإنه من حق المسلم على المسلم إذا لقيه أن يسلم عليه، وأن يرد عليه السلام وهذا من الواجبات، فإذا كان سلام الرجل على المرأة أو العكس فيه فتنة لهما؛ فإنه لا يسلم، بمعنى إلقاء السلام لا المصافحة، أما المصافحة فممتنعة تماماً بين الرجال والنساء ما لم يكونوا من المحارم، وكذلك تشميت العاطس على النحو من هذا.(16/28)
حكم مصافحة المرأة الكبيرة في السن
السؤال
هل يجوز مصافحة المرأة الكبيرة في السن؟
الجواب
المصافحة لا تجوز قط، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في زمنه نساء عواجز كثر، ولم يثبت أنه صافح واحدة منهن، بل ثبت العكس أن عائشة كما ورد في الصحيح تقول: (ما مست يد النبي عليه الصلاة والسلام يد امرأة لا تحل له)، وفي رواية: (أجنبية عنه قط)، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أسوة لهذه الأمة.
أما البنت الصغيرة التي لم تبلغ الحلم فلا حكم لها، يجوز مصافحتها والسلام عليها وغير ذلك؛ لأنها بنت لا تشتهى، صغيرة في السن جداً، والواحد يتعجب من الإخوة الذين يشددون في الأمور قليلاً، فلا يرضى أن يسلم على البنت التي عمرها سنتان أو ثلاث.
وهناك من البنات الصغيرات من تشتهى فعلاً، كأن تكون جميلة وبيضاء وشعرها جميل للغاية، فإذا لم تبلغ البنت ولم تحدثك نفسك بشيء من هذا فاعلم أن الأمر على الستر والسلامة، وإذا حدثتك نفسك فابتعد، والأولى أن تلحق هذه البنت وإن لم تبلغ الحلم ببقية النساء.
ومسألة مصافحة العجائز لم ترد في كتب السلف على أية حال، فالشخص يرى واحدة كأمه أو جدته أو أكبر من ذلك، وإذا بها تقول له: خذ بيدي يا بني! وهي امرأة عجوز جداً، وهذا لا يمكن أبداً، فإذا كان ذلك لحاجة ماسة أو ضرورة ملحة؛ فعلى الشخص أن يمسك بذراعها، أو يمسك بثوبها ليدلها على الطريق، وأنا نفسي أفعل هذا، وأفعله بحرج كبير، لكن من باب الرحمة ومساعدة المحتاج وفك كرب المكروبين، ولا يخطر بالبال قط شيء مما يدور في ذهنك ورأسك، إذ إنها امرأة تتجاوز سبعين أو ثمانين سنة، فكيف تشتهى هذه المرأة من شاب عنده من العمر عشرون أو ثلاثون سنة أو أربعون سنة؟!(16/29)
الحكم على حديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)
السؤال
هل الحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) حديث صحيح؟
الجواب
نعم.
حديث صحيح، قاله النبي عليه الصلاة والسلام بمناسبة أنه نهى الناس عن تلقيح النخل، فلم يثمر النخل في ذلك العام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل لما سألوه: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) يعني: افعلوا ما شئتم.(16/30)
شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)
السؤال
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، ما معنى هذا الحديث؟
الجواب
ليس معنى هذا الحديث كما يتبادر إلى بعض الأذهان أنه ليس هناك شيء اسمه خطأ ولا نسيان ولا إكراه، بل إن الخطأ واقع، والنسيان واقع، والإكراه واقع، ولكن لو وقع منك فعل خطأ أو معصية على سبيل الخطأ أو على سبيل النسيان أو على سبيل الإكراه، فإن الله لا يحاسبك عليها.
ولنضرب أمثلة على ذلك: الخطأ أو النسيان مثلاً في الصلاة، كشخص صلى الظهر فقام إلى الركعة الخامسة، فلو قام متعمداً لبطلت جميع صلاته من أولها إلى آخرها؛ لأنه زاد عن النص بغير نص وخالف الهدي فيحاسب على ذلك، لكن إذا قام إلى الخامسة نسياناً فلا تبطل صلاته، وقد وقع منه الخطأ والله لا يحاسبه عليه؛ ولذلك يجبر خطؤه بسجدتي السهو.
والإكراه واقع، ولكن الله تعالى لا يحاسبك عليه، فلو أتى السلطان مثلاً فهجم على بيتك بالليل، وانتهك حرمتك، وكشف سترك وعرضك، فوجد أن امرأتك جميلة مثلاً، فقال لك: طلق هذه المرأة، فقلت: لا، لن أطلقها.
هذه امرأتي وأم أولادي، وأنا أحبها وأحتفظ بها، فقال لك: تطلقها وإلا سنعمل فيك كذا وكذا؟ وبدأ فعلاً في تنفيذ ما هدد به من ضرب وركل وكهربة وغير ذلك من أساليب التعذيب، فبلغ بك التعذيب حداً لا تحتمله؛ فخشيت على نفسك من الهلاك، فقلت مكرهاً: امرأتي طالق؛ ليتزوجها هو، فهل هذا الطلاق يقع صراحة؟
الجواب
لا يقع.
فقوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، المعنى: رفع إثم ذلك عن أمته، فالمرفوع هو الإثم وليس الفعل؛ لأن الفعل واقع منك، والخطأ واقع، والنبي عليه السلام نفسه نسي، كما ثبت في الصحيح: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في بيت عائشة فسمع رجلاً يقرأ في المسجد فقال: رحم الله فلاناً؛ أذكرني آية كنت قد أنسيتها)، فالنسيان واقع حتى من النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن نسيان النبي عليه الصلاة والسلام لا تعلق له بالوحي، فإنه لم ينس شيئاً من الوحي إلا بعد أن بلغه لأصحابه، فكان محفوظاً لدى الأصحاب، فلا يضر بعد ذلك نسيان النبي عليه السلام له أو تذكره؛ لأنه قد بلغ أولاً، كما أنه صلى العصر وفي رواية الظهر في حديث (ذي اليدين) ركعتين، فهمهم القوم، فقام رجل طويل اليدين، فرفع يديه وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما قصرت وما نسيت) يعني: وما أظن أني نسيت.
(فقال: إنك صليت بنا ركعتين، فقام النبي عليه السلام وكبر وصلى ركعتين ثم سجد للسهو)، وهذا يدل على النسيان؛ لأنه ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام أن يصلي الظهر ركعتين متعمداً، فالنسيان واقع حتى من الأنبياء، وهذا أمر لا يخل بالشرع؛ لأن نسيان الأنبياء بعد البلاغ لا قبل البلاغ، ومادام قد بلغ فإن البلاغ محفوظ لدى الأصحاب بدليل أنهم أنفسهم ردوا عليه عليه الصلاة والسلام.
فالخطأ واقع والنسيان واقع والإكراه موجود، وما أكثره خاصة في هذا الزمان، ولكن إثم الأفعال الناجمة عن الخطأ والنسيان والاستكراه لا يأثم عليها المخطئ ولا الناسي ولا المكره، إنما يأثم بها المكرِه لا المكرَه، والعلماء لهم كلام فيمن أكره على العصية، فيجمعون على استحباب أن يهلك المرء دون الوقوع في المعصية، وإذا لم يحتمل الإكراه فإنه لا بأس عليه في اقتراف المعصية، والرأي الأول أحب وأولى.(16/31)
الحكم على أحاديث الذهب المحلق
السؤال
أحاديث الذهب المحلق والتي جاء بها فضيلة الشيخ الألباني هل هي صحيحة أم ضعيفة؟ وإذا كانت صحيحة كيف العمل بها؟
الجواب
في الحقيقة هذه المسألة يخالف فيها الشيخ الألباني جماهير علماء الأمة قديماً وحديثاً، وإن كانت صحيحة إلا أنها مؤولة بمنع الزكاة، أو البخل بالتصدق بها أو إعارتها، أو غير ذلك مما ذكره أهل العلم.
وأما التفريق بين المحلق وغير المحلق فهذا مذهب جديد لشيخنا لم يسبق إليه، والله تعالى أعلم.
وكل إنسان يخطئ ويصيب.(16/32)
حكم صوم الولد عن والده
السؤال
هل يجوز للولد الصيام عن والده الذي توفي، وهل يصل ثوابه للميت؟
الجواب
نعم.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، واختلف أهل العلم في نوع هذا الصيام: هل هو صيام الفرض أو صيام الواجب؟ فصيام الواجب كصيام النذر أو صيام الكفارات، وصيام الفرض هو شهر رمضان لا غير، فهل قوله عليه السلام: (من مات وعليه صوم)، يشمل الواجب والفرض على السواء أم يشمل الواجب فقط؟ جمهور أهل العلم على أن ذلك متعلق بالواجب فقط دون الفرض، وأن الفرض يكفيه الكفارة، أي: إطعام مسكين عن كل يوم وجبتين، وبعض أهل العلم يقولون: الصوم متعلق بالواجب والفرض على السواء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(16/33)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - من أفتى فيمن قال القرآن مخلوق
الكلام صفة من صفات الله تعالى، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والله يتكلم كيفما شاء ومتى شاء، ومن قال غير هذا فقد ضل سواء السبيل، وخالف مذهب أهل السنة والجماعة، وقد حكم عليه أئمة الإسلام بأحكام غليظة هي لازم تكفيرهم له، فقالوا في معتقد ذلك أنه لا يرث ولا يورث، وماله فيء للمسلمين إن مات، وامرأته تبين منه بينونة كبرى، ولا ينكح، ولا يصلى خلفه، ولا يعاد إذ مرض ولا تشهد جنازته، وما ذاك إلا لعظيم فريته، وخطر ما قال به من فساد معتقده.(17/1)
سياق ما روي عمن أفتى فيمن قال القرآن مخلوق
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فلا يزال الكلام موصولاً عن كتاب الله عز وجل المتمثل في صفة الكلام، وهو: أن القرآن العظيم كلام الله تعالى غير مخلوق، وقد فرغنا من تصحيح الاعتقاد في أن كلام الله عز وجل هو صفة من صفاته سبحانه، وأن من قال: إن كلام الله تعالى مخلوق فلاشك أنه قد حاد عن جادة الصواب، وانحرف عن عقيدة النبوة.
وهذا الباب الذي نحن بصدده انعقد في إفتاء من أفتى فيمن قال بأن القرآن مخلوق، أي: في حكم من قال: إن القرآن مخلوق.(17/2)
اضطراب مالك في إصدار الحكم على من قال القرآن مخلوق
لقد اضطرب الإمام مالك عليه رحمة الله في إصدار الحكم على من قال: بأن القرآن مخلوق، فقال تارة: اقتلوه، وفي مرة أخرى سئل فقال: سلوه واستتيبوه، فإن تاب وإلا فاضربوا عنقه.
فهل يقتل دون أن يسأل ويستتاب، أو لابد من استتابته ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل؟ قال مالك في مرة ثالثة: ربما كان مخطئاً.
فمن قال: إن القرآن مخلوق إما أن يكون مخطئاً، أو متأولاً، أو معاند.
فاضطرب مالك عليه رحمة الله في إطلاق هذه الأحكام، وأما غيره فقد ورد عنه الاستتابة مرة واحدة، وغيرهم ورد عنه القتل مباشرة.(17/3)
الجمع بين ما ورد عن سلفنا في حكم من قال القرآن مخلوق
وبعد قراءة ما ورد عن سلفنا فيما يتعلق بحكم من قال: بأن القرآن مخلوق؛ خرجنا بنتيجة تأليفاً لأقوالهم، وعدم تضاربها: بأن من قال: القرآن مخلوق وهو جاهل لا يعلم ذلك فإنه يعلم ولا يستتاب؛ لأنه جاهل، فبمجرد أن يتعلم فإنه يترك هذا الخطأ الذي كان عليه، وينحاز إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وإنما سمع الناس يقولون: مخلوق، فقال: مخلوق، وهو لا يدري ما معنى هذه الكلمة ولا ما خطورتها، وأما من قال ذلك متأولاً -والتأويل في هذه القضية غير سائغ ولا معتبر- فإنه لابد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وأما من قال ذلك عناداً وجحوداً وهو يعلم خطورة الأمر فإنه يقتل دون أن يستتاب، ولو أنك تصفحت كلام أهل العلم لخرجت بهذه النتيجة؛ ولذلك سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه عمن قال: القرآن مخلوق ما هو؟ قال: كفر، وقائله إما مخطئ فيعلم، وإما عالم فيقتل.
وأرجو أن ينسحب الكلام الذي قلناه في هذه الصفة على صفات الله عز وجل كلها، فهذا كلام ذكرناه على صفة الكلام لله عز وجل؛ لأن المناسبة استدعت ذلك، وأن الفتنة قامت فيما يتعلق بهذه الصفة، فوضع كل أصولاً؛ ليمشي عليها بقية جماعته وفرقته؛ فوضع أهل السنة في مقابل أصول أهل البدعة أصولاً؛ لتجري هذه الأصول على بقية الصفات، فإذا كانت صفة الكلام غير مخلوقة لله عز وجل فكذلك بقية صفاته غير مخلوقة، ولا يجوز أبداً أن نقول عن أي صفة: إنها مخلوقة، فإن صفات الله تبارك وتعالى منه وإليه، ولا يجوز أبداً أن تقول: إن الله كان بغير صفات ثم اتصف بهذه الصفات، أو كان بغير أسماء ثم تسمى بهذه الأسماء؛ لأنه يلزمك -والحالة هذه- أن تقول: إن الذات العلية كانت مجردة عن الأسماء والصفات، ثم أحدثها الله تبارك وتعالى لنفسه.
وقولك: (ثم أحدثها) يعني: ثم خلقها، وهذا بلا شك كفر؛ لأن فيه نسبة النقص إلى المولى عز وجل، وأنه كان مجرداً ثم اتصف، وكان مجرداً ثم تسمى، وكأنه كان عاجزاً من أول الأمر أن يتسمى أو يتصف، ثم لما علم سبحانه أن هذا نقص وعيب أراد أن يتمه وأن يكمله؛ فسمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات.
فمن جاء عنه ذلك مالك عليه رحمة الله، ومن الخلفاء: أبو جعفر المنصور، وأما من الفقهاء فكثير جداً لا يكاد العد يحصرهم.
قالوا لـ مالك: ما تقول فيمن قال: القرآن مخلوق؟ قال: اقتلوه؛ كافر، فقال السائل: يا أبا عبد الله! إني لم أقله، إنما قلت لك: قال إنسان، قال مالك: إنما سمعته منك.
يعني أن مالكاً أمر الناس أن يقتلوا الذي سأله، فلم يقل مالك: اقتلوا القائل، وإنما قال: اقتلوا السائل.
فقال السائل: أنا أقول لك: إن شخصاً يقول كذا، وأنا لم أقل ذلك، فقال: أنا ما سمعته منه، وإنما سمعت هذا منك.
وهذا يدل على حساسية الأمر لدى السلف، وأنهم ما كانوا يحبون أن ينتشر هذا الكلام ولو على سبيل السؤال؛ لأنه باب عظيم من أبواب نشر الفاحشة بين الناس.
والفاحشة إن كانت عند إطلاقها تعني: الزنا وتغير الذنوب، إلا أن أعظم من ذلك وأشر هو الكلام في أسماء الله وصفاته بغير علم.
وقال سفيان بن عيينة: قال يحيى بن السراج: كنا عند ابن عيينة فتشوش الناس -يعني: أحدثوا أصواتاً متداخلة ومختلطة- فقال ابن عيينة: ما هذا؟ قالوا: قدم بشر المريسي، قال: وما يقول هذا؟ قالوا: يقول: القرآن مخلوق، قال: آتوني بشاهدين حتى آمر الوالي بضرب عنقه.
أي: شهد عندي اثنان أو ثلاثة أنه يقول هذا أمرت الوالي أن يضرب عنقه.
وعن حفص بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما كنت أعرض أحداً من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية.
قال الربالي: هم والله كفار.
وقال ابن مهدي: لوددت أن أقوم على رأس الجسر فلا يمر أحد إلا سألته، فإن قال: القرآن مخلوق؛ ضربت عنقه، وألقيته في الماء.
فهذا عبد الرحمن بن مهدي إمام عظيم جداً من أئمة السنة، وهو شيخ الإمام الشافعي، قال: من زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى بن عمران تكليماً فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن القرآن محدث -أي: حادث- ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأرى أنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وهكذا جاء عن عبد الله بن داود الخريبي وغيرهم.
وسئل أبو عبيد القاسم بن سلام: ما تقول يا إمام! فيمن قال: القرآن مخلوق؟ قال: هذا رجل يعلم ويقال له: إن هذا كفر، فإن رجع وإلا ضربت عنقه.
وهذا النص يستلزم الاستتابة، كما أن فيه عقيدة عظيمة جداً لأهل السنة وهي: مبدأ ورود العذر بالجهل.
وعن القاسم قال: من قال: إن القرآن مخلوق فهو شر ممن قال: إن الله ثالث ث(17/4)
شناعة إنكار صفات المخلوق الثابتة، فكيف بإنكار صفات الخالق
إن صفات المخلوقين تختلف عن صفات الخالق تبارك وتعالى، فلو أنك موصوف بالحلم والناس يعرفون عنك ذلك، فجاء شخص وأنكر أنك حليم، فإنك ستفقد هذا الحلم وتغضب؛ لأنه نفى عنك صفة لازمة لك جبلك الله عز وجل عليها، إذ إن الصفات إما جبلية، وإما مكتسبة.
فالمرء إما أن يولد بصفات جبله الله عز وجل عليها وخلقه عليها، وإما أن يكتسب هذه الصفات بالتعلم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم).
وقيل: إن الحسن البصري رحمه الله ذهب إلى السوق ليشتري عبداً سيئ الخلق، فقيل: ولم؟ قال: حتى أتعلم فيه الحلم.
يعني: يسيء إلي وأحسن إليه إلى أن يكون الحلم سجيتي.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه: (إن فيك خصلتين يحبهما الله).
وفي رواية: أنه قال: (إن فيك لخصلتين من خصال الله عز وجل)، ومن صفات الله عز وجل: الحلم والأناة.
قال: يا رسول الله! أجبلني الله عز وجل عليهما، أم أنهما مكتسبتان -كما في معنى الرواية- قال: بل جبلك الله عليهما، يعني: خلق فيك هاتين الخصلتين، فالصفات إما جبلية، وإما مكتسبة.
والشاهد من هذا الكلام: أنه لو أتى واحد وأنكر عليك صفة ونفاها عنك وأنت متصف بها على الحقيقة مجبول عليها، فإنك تغضب غضباً شديداً جداً؛ لأنه قد نفى عنك الصفة، فما بالكم بمن ينفي الصفات اللازمة لله عز وجل، وله المثل الأعلى؟!(17/5)
الأحكام المترتبة على مقالة: إن القرآن مخلوق
إن هذا الأمر خطير؛ ولذلك حاز اهتمام الأئمة والخلفاء والراشدين، بل قال بعض أهل العلم: إن من قال: القرآن مخلوق لا يرث ولا يورث، فإذا مات أحد من أقربائه وله في ماله ميراث فإنه لا يرثه، وإذا مات هو فإن ماله فيء للمسلمين، وليس لأحد من الورثة أن يطالب بشيء منه؛ لأنه لا توارث بين أهل ملتين، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.
فمن قال: القرآن مخلوق لا يرث ولا يورث، وامرأته تبين منه بينونة كبرى، أي: كأنه بمثابة من طلق امرأته ثلاثاً وبانت عنه بينونة لا رجعة فيها؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك: سمعت الناس منذ (49) سنة يقولون: من قال: القرآن مخلوق فامرأته طالق ثلاثاً البتة.
قلت: ولم ذاك؟ قال: لأن امرأته مسلمة، والمسلمة لا تكون تحت كافر.
وكثير من أهل العلم قالوا: من قال: القرآن مخلوق لا ينكحون، ولا يصلى خلفهم، ولا يعاد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، وإن موالاة الإسلام انقطعت بينهم وبين المسلمين.
فانظروا إلى هذا الكلام الخطير العظيم الذي يدل على أن من قال ذلك -وهو عالم بما يقول- فهو خارج ومارق ومرتد عن ملة الإسلام.(17/6)
حكم العلماء على الواقفية
وقال أحمد: الواقفي لا يشك في كفره.
أي: من قال: أنا متوقف في هذه القضية، فلا أقول: إنه مخلوق، ولا إنه غير مخلوق، فإن وقف لجهل منه فإنه يعلم، وإن وقف وهو يعلم أنه كلام الله غير مخلوق فإنه شر ممن قال: إنه مخلوق.
ولذلك قال أحمد: إنما يقول: أتوقف يستتر بها من قوله: مخلوق.
وفي رواية أخرى قال: فإن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وإن من وقف في إثبات أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال: أنا لا أقول بأنه مخلوق ولا غير مخلوق؛ فهو شر من الذي يقول: إنه مخلوق.
فلا يجوز اعتقاد أن كلام الله مخلوق، كما لا يجوز التوقف في أن كلام الله غير مخلوق.(17/7)
معنى أن القرآن كلام الله حقيقة
إن سياق الآيات في كتاب الله تعالى، وما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام والصحابة والتابعين يدل على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة، وأهل السنة والجماعة لم يلجئوا لهذه المصطلحات إلا في مقابل مصطلحات أهل البدع؛ لأن أهل البدع يقولون: القرآن كلام الله، وأهل السنة يقولون: القرآن كلام الله، لكن أهل البدع يقولون: مخلوق، وأهل السنة يقولون: غير مخلوق، فهم مشتركون في اعتقادهم أن القرآن كلام الله، ومختلفون في أنه مخلوق أو غير مخلوق، فأهل السنة وأهل البدعة متفقون على الله تكلم بهذا الكلام، لكن من أهل البدع من يقول: إن القرآن هو كلام الله تكلم به مجازاً.
ومنهم من يقول: إن القرآن كلام الله تكلم به كلاماً نفسياً.
ومعنى ذلك: أن الله تعالى تكلم بهذا الكلام، لكنه كلام ليس بحرف ولا صوت، إذ إن جبريل عليه السلام علم ما دار في نفس الله عز وجل وما أراد أن يتكلم به، فعبر عما دار في نفس الله عز وجل، فعلى ذلك يكون القرآن من كلام جبريل لا من كلام الله عز وجل، وهذا قول الأشاعرة، فإنهم لا يثبتون أن الله تكلم بهذا الكلام بحرف وصوت، وإنما يقولون: إن الله تكلم كلاماً نفسياً، يعني: أصل هذا الكلام دار في نفس الله عز وجل، فنقله إلينا جبريل، فلم يتكلم الله تعالى به على الحقيقة بحرف وصوت.
والأشاعرة والماتريدية -وهم من أضل فرق المسلمين- قال عنهم الأزهريون: هم من أهل السنة والجماعة.
وليس الأمر كذلك، بل هذا من باب الخلط واللبس، فالأشاعرة ليسوا من أهل السنة، والماتريدية شر منهم، وليسوا من أهل السنة كذلك، فأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تبارك وتعالى تكلم بهذا الكلام على الحقيقة بحرف وصوت، لكن بحرف وصوت يليق به عز وجل، فليس كحرفي وصوتي، فانتبه.(17/8)
سياق ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على أن القرآن كلام الله على الحقيقة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة].
وكلمة (على الحقيقة) وضعها أهل السنة للرد على من قال: إن كلام الله مجازي، وإن كلام الله نفساني، فكلام الله على الحقيقة، تكلم به بحرف وصوت، وأنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم من السماء، وهذا يدل بمفهوم الموافقة أو بالاستنباط على أن الله تبارك وتعالى مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وقد أنزل هذا القرآن على محمد وأمره أن يتحدى به، وهذا يدل على أن القرآن معجز ولا يستطيع أحد أبداً أن يأتي ولو بآية من مثل كتاب الله عز وجل، وأمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إليه، وهذه صفة خامسة: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد البيان لابد أن يدعو الناس إلى هذا القرآن، وأنه القرآن على الحقيقة، يعني: تكلم الله به بحرف وصوت.
قال: [متلو في المحاريب، مكتوب في المصاحف، محفوظ في صدور الرجال، ليس بحكاية ولا عبارة عن قرآن].
أي: ليس بقصة افتعلها جبريل، ولا عبر جبريل عن هذا الكلام الذي دار في نفس الله عز وجل.
فقوله: (ولا عبارة عن قرآن) يعني: هو كلام الله على الحقيقة.
قال: [وهو قرآن واحد غير مخلوق وغير مجعول -والمجعول بمعنى: المخلوق- ومربوب -أي: وغير مربوب- بل هو صفة من صفات ذاته، لم يزل به متكلماً -يعني: يتكلم في أي وقت شاء- ومن قال غير هذا فهو كافر ضال مضل مبتدع مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة].
هذا مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بكلام الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فالله تعالى يتكلم، وقد كلم موسى، والذي يقول: إن الله لم يكلم موسى معناه: أنه مكذب للقرآن، منكر لهذه الصفة.
وقال الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144].
وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، يعني: أن الله عز وجل يتكلم.
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15].
فالله عز وجل يتكلم بكلام أنزله من السماء على نبيه؛ ولذلك قال الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6].
وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50].
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
فهذه الآية لها حكاية وقصة عصرية، إذ كل زعيم في كل زمان يبحث له عن آية تناسبه، فيتأول القرآن هؤلاء المنافقون الزنادقة ويتأكلون به، فيصرفون كلام الله عز وجل على غير مراده، وهكذا إلى أن ظهر الرئيس مبارك، فيقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، والله إن هذا التأويل قد حدث في جامع الأزهر.
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، إذاً: هذا القرآن منزل من عند الله عز وجل.
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193] أي: جبريل عليه السلام.
فأشار الله عز وجل إلى أن كلامه غير مخلوق، وهو منزل منه سبحانه، فمن قال: إن القرآن هو الذي في السماء -أي: في اللوح المحفوظ فقط دون الذي بين أيدينا- أو من قال: إن القرآن في السماء -يعني: لم يتكلم به الله عز وجل وإنما دار في نفسه- فقد خالف الله ورسوله، ورد معجزات نبيه، وخالف السلف من الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة.
وقال عكرمة: سمعت أبا هريرة يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله)، والضمير يعود على الله عز وجل (خضعاناً لقوله)، إذاً: فهو يتكلم، قال: (كأنها سلسلة على صفوان)، والصفوان: هو الحجر أو الجبل الأملس.
قال: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير)، أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون: يا جبريل! ماذا قال ربك؟ قال: يقول الحق، قال: فينادون الحق الحق)، فيرددون أن الله تعالى يتكلم بالحق.
وهنا منقبة عظيمة لـ عبد الله بن مسعود أن(17/9)
تحريم السفر بالقرآن إلى أرض العدو المحارب
وعن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو؛ مخافة أن يناله العدو)، والحديث عند البخاري ومسلم.
إن الانجليز والفرنسيين أعداؤنا، وكل من لم يكن مسلماً فهو عدو لنا، وها نحن نسافر بالقرآن إلى أمريكا وروسيا ولبنان -لبنان تعتبر نصرانية- فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما الموقف من فعلنا وواقعنا مع نهي النبي عليه الصلاة والسلام ألا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو؟ إنك عندما تصل إلى المطار فإنه يفتشك ويلاقي بجيبك مصحفاً فيقوم يأخذه منك، ويرميه في الزبالة، فماذا تعمل في هذه الحالة؟ إن لم تقتله لن ترجع إلى هذا البلد مرة أخرى.
إن هذا الحديث ليس على ظاهره، بل المراد منه معنى آخر، فكل من لم يكن مسلماً فهو عدو لك، لكن هناك من الأعداء من هو محارب، ومن الأعداء من هو مسالم.
فهناك فرق عظيم جداً بين ديار الكفر وديار الحرب، فدار الحرب كفر أصلاً، ولكنها زادت أنها رفعت لواء الحرب مع دار الإيمان، والحرب والله لابد أن تدور، ولابد أن يكتب النصر لأهل الإيمان، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعجل بما وعدنا به.
والعدو ينقسم إلى محارب ومسالم، فأما المسالم فإن النهي لا ينطبق عليه، وأما المحارب فينطبق النهي عليه، وهذا مقصود الحديث.
مثال ذلك: الحرب التي دارت بين مصر وإسرائيل في فلسطين، ففي هذه الآونة من الحرب لا يجوز قط لواحد أن يأخذ معه المصحف ويدخل به فلسطين؛ لأن غلبة الظن أن القرآن يتعرض للإهانة، وأن العدو ينال منه؛ لأن البلدين في حالة حرب.
واحترام اليهودي لكتاب الله ليس معناه: أنه محب للقرآن، بل هو عدو وخبيث ومجرم، وأقرب إلى أن يكون محارباً، لكن ليس هناك حرب بين البلدين الآن، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام من أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو المحارب.(17/10)
الأمر بتعاهد القرآن
يقول عبد الله: عن النبي عليه الصلاة والسلام: (بئس ما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كذا وكذا، بل هو نسي).
وهذا القول فيه كراهة شديدة، كذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في البخاري: (لا تقل: نسيت آية وكذا، وإنما قل: نسيت آية كذا وكذا).
يعني: أن الذي أنساك هذه الآية هو الشيطان، فقال عبد الله: تعاهدوا هذه المصاحف -وربما قال: القرآن- فلهو أشد تفلتاً من صدور الرجال من النعم من عقلها.
وانظر إلى الإبل حين تتفلت من عقالها ورباطها، ثم تنطلق في الصحراء، فكذلك القرآن إن لم يتعاهده صاحبه فإنه يتفلت منه.(17/11)
حكم من قال: لفظي بالقرآن مخلوق
قال أهل العلم بكفر من قال لفظي بالقرآن مخلوق، ولا فرق بينه وبين من يقول: القرآن مخلوق؛ لأن قوله: لفظي يعني: ملفوظي بالقرآن، أي: الذي تلفظت به مخلوق، بخلاف قولك: تلفظي بالقرآن يعني: حركة اللسان والفم والأضراس والحلقوم والصوت والحروف، فكل هذا قد خلقه الله عز وجل فيك، وأما المنطوق والمتلو والمقروء والملفوظ فإنه ليس بمخلوق.
فقولك: لفظي بالقرآن مخلوق يعني: القرآن الذي تلفظت به مخلوق، وهذا بلا شك قول كفر، بخلاف قولك: حركاتي أنا قد خلقها الله في، فحركة شفتيك ولسانك هذه مخلوقة بلا شك.(17/12)
رؤية العبد النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، وما تقوله الصوفية في معنى اليقين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن من رآه في النوم فقد رأى الحق، والنبي حق صلى الله عليه وسلم، وأن الشيطان لا يتمثل به -أي: لا يأتي في صورته- وفيمن رآه وسأله عن القرآن فأجاب بأنه غير مخلوق من العلماء والسلاطين].
هذا باب عظيم في الرؤيا، والرؤيا من الله عز وجل، والحلم من الشيطان.
فالرؤيا التي هي من عند الله عز وجل مبشرات، وهي عاجل بشرى المؤمن، وهي منحة الله تبارك وتعالى لعباده الصالحين في الدنيا، ولا يعني ذلك: أن هذه الرؤيا يؤخذ منها الأحكام والعقائد، بل هي مبشرات فقط؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فسيراني حقاً، أو قال: فكأنما رآني في اليقظة؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي).
وقد يأتي إليك الشيطان ويقول لك: أنا النبي؛ وهو كذاب، أو يقول لك: أنا محمد، أو يقول: أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لك: كيت وكيت، ورفع عنك الصلاة والصوم والزكاة والحج، ورفع عنك كل شيء، ويقول: ما دمت قد بلغت درجة اليقين فليس عليك عبادة، فأنت رجل بلغت درجة لم يبلغها أحد من الأمة ولا حتى أنا.
فهؤلاء المجرمون يقولون: سقطت عنا التكاليف؛ لأننا بلغنا مرحلة اليقين، والله تعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، ونحن قد حصلنا على مرتبة اليقين التي ليس بعدها يقين؛ ولذلك وضعت عنا العبادة.
فنقول لمثل هؤلاء: هل بلغت من اليقين مبلغاً لم يبلغه النبي عليه الصلاة والسلام؟! إن عمر طعن وهو يصلي، وأبو بكر الصديق صلى إلى آخر لحظة في حياته، وكل الصالحين وأهل السنة يصلون ولم يرفع عن واحد منهم قط شيء، ولم يرفع عنهم خلق من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام فضلاً عن عبادة أو واجب أو فرض من الفروض، واليقين في الآية كما يفهمه القاصي والداني هو الموت.
فبعد الموت محاسبة على ما مضى من تقصير وتفريط، والصوفية يقولون: اليقين درجة من درجات التوكل على الله عز وجل، يبلغها المرء فيكشف له الحجاب، وكل هذا كذب.
فهذا عبد القادر الجيلاني -وهو ممن تزهد، وقد أثنى عليه شيخ الإسلام ابن تيمية عدة مرات- أتاه الشيطان في صورة شيء عظيم، فقال له: يا جيلاني! أنا ربك، وقد وضعت عنك كل شيء، فقال الجيلاني: اخسأ أي عدو الله! فذهب ولم ير شيئاً بعد ذلك.
وشيخ الإسلام ابن تيمية في ترجمة الجيلاني يثني عليه ثناءً قوياً، ويقول: هذه هي الولاية لله حقاً.
فالشاهد: أن الشيطان لا يتمثل في حقيقة النبي عليه الصلاة والسلام ولا يستطيع، لكن قد يأتي في صورة أخرى غير صورة النبي عليه الصلاة والسلام ويدعي أنه النبي، فقد ادعى أنه الله عز وجل، وقد ادعى أنه الإله، فكيف لا يدعي أنه نبي في صورة غير صورة النبي؟! فالشيطان قد يتمثل على هيئة أخرى ويدعي أنه محمد، ثم يلقي بعد ذلك مفترياته على ذلك الرائي أو صاحب الحلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني فإنما رأى الحق).
وقال عليه الصلاة والسلام: (الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة).
فالرؤيا الصالحة يراها العبد لنفسه أو ترى له، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وهذه منحة من الله عز وجل.
وليس معنى ذلك: أن الذي يرى ستاً وأربعين رؤيا يكون نبياً؛ لأنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، ولكنها مبشرات.(17/13)
رؤيا الصالحين لرسول الله وهو يخبرهم أن القرآن غير مخلوق
قال محمد بن منصور: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه رجلان أعرفهما بوجهيهما، قلت: يا رسول الله! ما نقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق، قلت: هذه رؤيا جميلة، فقلت للرجلين: اشهدا على هذا الكلام.
وقال يحيى بن عبادة: سمعت رجلاً من أهل دمشق ممن يكتب عنه العلم يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فقال لي: قل لـ يحيى بن أكثم: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، وقد بانت منه امرأته.
ثم قال الرجل: والله ما رأيت يحيى وما أعرفه، أتروني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذكره عبد الرحمن قال: حدثني يوسف إلى أحمد بن الوليد قال: حدثني علي العابد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بعبادان -قرية- فقلت: يا رسول الله! أما ترى ما نحن فيه من الاختلاف في القرآن، هذا يكفر هذا وهذا يكفر هذا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وما ذنبي وقد رفعت لكم علماً، فضم إليه قوم وانقطع عنه آخرون.
فقلت: يا رسول الله! فكيف السنة وكيف أقول؟ قال: هكذا، وعقد ثلاثين وأومأ إلى فيه، كأنه أراد أن يقول: إن القرآن ثلاثون جزءاً، وقال: كلام الله وليس بمخلوق.
فقلت: يا رسول الله! هؤلاء الذين وقفوا فقالوا: لا نقول كذا ولا كذا؟ قال: فكلح وجهه وقال بيده كهيئة المستخف.
يعني: أشار بيده أن ابعد عني ولا تخبرني عن هؤلاء.
وقال محمد بن عبد الله بن طاهر: كان أبي لا يكاد يرى رؤيا فقال: رأيت في النوم رجلاً حسن الهيئة فقال لي: ما تقول في القرآن؟ فقلت: لأسألنه عنه، فقلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: فقال: الخلق في كلام العرب: التقدير، وكلام الله أجل من أن يكون مقدراً.
يعني: كلام الله غير مخلوق وغير مقدر، فهو يتكلم بما شاء، في أي وقت شاء.
قال ابن الأعرابي: ما رأيت قوماً أكذب على اللغة من قوم يزعمون أن القرآن مخلوق.
يعني: هب أنهم يكذبون على الله وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن قول: القرآن مخلوق لا يستقيم في لغة العرب.
وقال أحمد بن محمد المروزي صاحب الإمام أحمد: رأيت أحمد بن حنبل في النوم وعليه حلتان -والجزاء من جنس العمل- خضراوان، وفي رجليه نعلان شراكهما من الرمجان، وعلى رأسه تاج مكلل بأنواع الجواهر، فقلت: يا أبا عبد الله! ما الذي فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وكساني، وقال لي: يا أبا عبد الله! إنما أعطيتك هذا لمقالتك: القرآن كلام الله غير مخلوق.
فانظر إلى هذه الرؤيا العظيمة، فإنها مبشرات قليلة ونادرة.(17/14)
ما روي من الرؤيا السوء لمن قال بخلق القرآن في الدنيا، وما أعد الله عز وجل لهم من العذاب في الآخرة
قال خالد بن خداش: رأيت في المنام كأن آتٍ آتاني بطبق قطن، فقال: اقرأ، فقلت: بسم الله الرحمن الرحيم.
إن ابن أبي دؤاد يريد أن يمتحن الناس، فمن قال: القرآن كلام الله كسي خاتماً من ذهب، فصه ياقوتة حمراء، وأدخله الله الجنة، وغُفِر له أو قال: غَفَر له.
ومن قال: القرآن مخلوق جعلت يمينه يمين قرد، فعاش بعد ذلك يوماً أو يومين، ثم يصير إلى النار.
وابن أبي دؤاد صاحب فتنة أن القرآن مخلوق.
وقال الحسين بن الصباح: رأيت في المنام قائلاً يقول: مسخ ابن أبي دؤاد، ومسخ شعيب، وأصاب ابن سماعة فالج -مرض- وأصاب آخر الذبحة ولم يسمه.
وقال: علي بن الموفق: حدثني أبو عمرو التمار قال: كان لنا جار مجوسي يقال له: بهرام فمات، فرأيته بأقبح رؤيا فقلت: أي بهرام! فقال لي بصوت ضعيف: نعم؛ أنا بهرام يا أبا عمرو! فقلت: إلى أي شيء صرت؟ قال: إلى قعرها، قلت: فتحتكم أحد؟ قال: نعم.
هؤلاء الذين يقولون: القرآن مخلوق.
قال أبو بكر بن أبي العوام: ثم لقيت أبا عمرو التمار فسألته عن هذا فحدثني كما حدثني علي بن الموفق عنه.
وكان علي بن الموفق يقول: كان لي جار مجوسي فكنت أعرض عليه الإسلام فيأبى، فمات على المجوسية، فقال: نحن في الدرك الأسفل من النار.
قلت: وتحتكم أحد؟ قال: نعم، قوم منكم.
قلت: من أي الطوائف؟ قال: الذين يقولون: القرآن مخلوق.
وقال الدورقي: سمعت أحمد بن نصر الشهيد يقول: مررت برجل وقد صرع، فجئت أقرأ في أذنه، فإذا قائل يقول: دعني أقتله؛ فإنه يقول: القرآن مخلوق.
أي: حتى الجن لا يرضون بهذا، وليس من عقيدتهم.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يحيينا وإياكم على كتابه، وسنة نبيه على مراد الله ومراد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.(17/15)
الأسئلة(17/16)
أهمية الاعتقاد بأن القرآن كلام الله غير مخلوق
السؤال
ما الفرق بالنسبة لنا بين أن يكون القرآن كلام الله أو مخلوقاً؟
الجواب
لو قلت لك: ما هو معتقد أهل السنة والجماعة في كلام الله عز وجل؟ أو قلت لك: ما هو معتقد أهل السنة والجماعة في استواء المولى عز وجل على عرشه؟ أو قلت: اشرح لي هذه الآية: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28].
فإنك ستقول كما قال ابن عباس: غير مخلوق.
فالفائدة بالنسبة لك أن تستقيم لديك صفة من صفات الله عز وجل على منهج أهل السنة والجماعة، وأن تعتقد أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومن قال بغير ذلك فهو كافر.
ففائدة علمك أن هذا القرآن كلام الله، وهو غير مخلوق: أن تنجو بنفسك من الكفر، وأن تحسن اعتقادك في الله عز وجل وأسمائه وصفاته.(17/17)
تزيين الشيطان عمل من يدعي أنه المهدي حتى يدعي الألوهية
السؤال
يوجد بالطالبية شاب متعلم، ويحفظ بعضاً من القرآن الكريم، وعنده شيء من علم الشرع، ويصلي بالليل ويبكي كما تقول زوجته، ويشاهد التلفزيون وزوجته متبرجة، ويدعي أنه المهدي المنتظر، وهذا الادعاء منذ سنوات، وعقله صحيح سليم، فعندما كلمته وأثبتَّ أنه كذاب ضحك مني وسخر، وأقر على ذلك.
ويدعي أيضاً أنه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه مخلوق من نور الله، ورغم ذلك هو يسخر من صاحب اللحية والجلباب القصير، فهل هو كافر أم ماذا يكون حكمه؟
الجواب
انتظروا شهرين أو ثلاثة أشهر وسيدعي الألوهية، وهذا الأمر ليس فيه خلاف، ولو قرأت في تاريخ الفرق فإنك ستجد في الفرق أمماً ادعت الألوهية، وذلك بعد أن كان الواحد منهم يدعي أنه المهدي، فإن لم يجد ذلك ادعى النبوة، فإن لم يجد النبوة ادعى الألوهية، وخاصة لو أراد الحكم ومعه العتاد والعدة، ففرعون ادعى الإلوهية؛ لأن معه المجرمين الذين يشيرون عليه، ويفرضون على الأمة المصرية أنه إله شاءوا أم أبوا، فكل من يدعي هذا ماذا يقصد من وراء ذلك؟ إن المسلم عندما يسمع هذا الكلام فإنه يقول: ما أحلم ربي! وما أعظم صبره على من يسبونه ويفترون عليه! بل ويغذيهم ويطعمهم ويسقيهم ويصحهم، ويكسوهم من عري، ويقويهم من ضعف.(17/18)
حكم رؤية الأب مخطوبة ابنه
السؤال
هل يجوز للأب أن يرى من سيخطبها ابنه؟
الجواب
لا يجوز، فالذي سيخطبها هو الولد وليس الأب، وأحاديث محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وغيرهما من الصحابة كلها تقول: (انظر إليها).
يعني: انظر أنت وليس أبوك.(17/19)
حكم من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه
السؤال
رجل حلف بالله ألا يقوم ببيع شيء في محل ثم باعه، فما هي كفارة هذا الحلف؟
الجواب
كفارة يمينه على هذا الترتيب: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من حلف على شيء فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه).(17/20)
نصائح لمن ابتلاه الله بالاستمناء
السؤال
شاب رأيت فيه الالتزام، ومظهره يدل على ذلك، فهو يحفظ كتاب الله، ويحضر دروس العلم، ولكنه يشكو من أنه يقوم بالاستمناء، ويقول: إنه في حالة ضيق شديد من هذا الفعل، ولديه شهوة عظيمة جداً لا يستطيع ردها، حتى إن الشهوة تفاجئه وهو في الصلاة، فما حكم هذا الاستمناء؟
الجواب
أسأل الله تبارك وتعالى أن يصرف عنه هذا السوء، وأن يبدله مكانه عفة وطهارة ونقاء، على هذا الشاب إن كان قادراً على الزواج أن يبادر به؛ لأنه لا علاج له إلا النكاح، فإن لم يكن قادراً فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم علاجاً له وهو الصوم، فليكثر من الصوم، ولو أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، فخير الصوم صيام داود عليه السلام.
كما أنه يجب عليه أن يختار لنفسه الصحبة المؤمنة، والرفقة الطيبة، وألا يدع لنفسه المجال في أن يخلو بنفسه، فإن خلا بنفسه غلبه الشيطان، ويجب عليه أن يتذكر دائماً أن نظر الله تبارك وتعالى إليه أسبق من مد يده بالاستمناء، وليستشعر أن الله تبارك وتعالى يراقبه في السر والعلن، وهذه درجة الإحسان، وهي: أن تعتقد أن الله تعالى يراك، وإن كنت لا تراه في الدنيا فإنه تعالى مطلع عليك، محيط بك بسمعه وعلمه وبصره وقدرته عليك أيها العبد! كما ينبغي عليك أن تكثر من قراءة القرآن الكريم، وأن تطالع كتب أهل العلم.
وأخيراً: لا تخلُ في وقت من الأوقات في أثناء نومك على جهة الخصوص بنفسك قط، وينبغي أن يكون معك أحد من إخوانك، أو أحد من أهل بيتك، ولا تطالع تلك المجلات الخبيثة والجرائد الفاضحة التي تعرض صور الفاتنات التي يفتن بها من تزوج أربعاً! فهذه فتنة عظيمة جداً، أسأل الله تعالى لي ولكم النجاة منها.(17/21)
عدم طاعة الولد أباه في تطليق زوجته إلا لمصلحة شرعية
السؤال
لو قال رجل لابنه: طلق زوجتك، فماذا يفعل؟
الجواب
هذا الأب معتمد على الأثر الذي روي عن عمر بن الخطاب مع ولده عبد الله، وليست هذه الرواية على إطلاقها، فقد دعت الضرورة والمصلحة الشرعية إلى أن يأمر عمر ولده أن يطلق امرأته، وليس هناك حجة في قول عمر وأمره لولده، بل الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال لـ عبد الله: (أطع أباك)، وكانت هذه المرأة جميلة جداً، وقد كادت تفتن عبد الله بن عمر؛ مما جعله يتخلف عن حضور مجالس علم النبي عليه الصلاة والسلام.
فلما رأى عمر أن هذه المرأة بجمالها كادت تفتن ولده أمره أن يطلقها، وهذه حجة شرعية؛ ولذلك أقره النبي عليه السلام على هذا الأمر.
وقد أتى رجل إلى أحمد بن حنبل وقال: إن أبي أمرني أن أطلق امرأتي، فماذا أفعل؟ قال: إن كان أبوك مثل عمر فطلقها.(17/22)
حكم قراءة القرآن وإعطاء ثوابه للميت
السؤال
هل يجوز قراءة القرآن وإعطاء ثوابه للميت؟
الجواب
الراجح من أقوال أهل العلم: أن ذلك لا يجوز، وأنه حرمان للقارئ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خير مال المرء من كسب يده، وولده من كسبه).
ويقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له)، فإنك بمجرد عملك الصالح -ومنه قراءة القرآن- وبمجرد أن تهم به ويحول بينك وبينه حائل؛ يذهب ثوابه إلى الوالد مباشرة مع عدم حرمانك أنت، لكن لو قلت: اللهم إني قرأت ربع القرآن لك على أن تجعل ثوابه لأبي فإنك جريء على الله، وكأنك تتألى عليه، وهي على الأقل قلة أدب مع الله عز وجل.
فينبغي للمرء أن يطيع الله تبارك وتعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليس عليه شيء بعد ذلك، فإن هذا الثواب سيأخذ القارئ حظه فيه تاماً كاملاً، ومن سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، فهي أجور توزع بغير نقصان.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(17/23)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - قواعد السلف في إثبات الصفات
هناك قواعد قعدها السلف في باب الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، ولا يمكن فهم وإثبات صفات الله عز وجل على منهج السلف إلا بحفظ هذه القواعد واعتقادها، كما أن معرفتها وفهمها يقودان إلى معرفة سبب الانحراف الذي وقع فيه الخلف الذين خاضوا في التمثيل والتعطيل والتأويل لأسماء الله وصفاته.(18/1)
القواعد التي انتهجها أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فسنبدأ في المجلد الثاني من كتاب أصول الاعتقاد للإمام أبي القاسم اللالكائي، وهذا المجلد في غاية الأهمية؛ لأنه يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته، وأنتم تعلمون أن الأمة بأسرها إلا من رحم الله تعالى من أهل السنة والجماعة قد خاضوا خوضاً عظيماً في صفات المولى تبارك وتعالى حتى شككوا عامة الناس.
فصفات المولى تبارك وتعالى بين مؤول صارف لها عن ظاهرها، بمعنى: أنه قد عطلها، فإذا صرف الاسم أو الصفة عن ظاهرها فمعنى ذلك: أنه لم يثبتها لله عز وجل كما أراد وكما أراد رسوله عليه الصلاة والسلام، ففي هذه الحالة عطل هذا الاسم أو هذه الصفة، وعلى النقيض من هذا نجد من أثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله من أسماء وصفات ولكنه قال: إن هذه الصفات الثابتة للمولى تبارك وتعالى تناسب الصفات التي أثبتها الله تعالى لخلقه، فصفة اليد وصفه الوجه وصفة الساق وغيرها من الصفات ثابتة لله تبارك وتعالى، ولكنهم قالوا: إن يد الله كأيدينا، ووجه الله كوجوهنا، وساق الله كساقنا، فمثلوا الخالق بالمخلوق، ولم يجعلوا فارقاً بين الخالق والمخلوق.
وأهل السنة والجماعة هم وسط بين المعطلة وبين الممثلة المشبهة، فقالوا: نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله على النحو الذي أراده الله عز وجل، من غير تعطيل ولا تمثيل، فلا يعطلون الصفة ولا يصرفونها عن ظاهرها، ولا يشبهون هذه الصفات بصفات المخلوقين، فهم وسط بين الاثنين، أثبتوا لله الصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله، ولكن على صورة تليق به تبارك وتعالى، وما وقع أهل البدع والأهواء فيما وقعوا فيه في صفات المولى تبارك وتعالى إلا لأنهم غفلوا عن أشياء وصرفوا أشياء عن ظاهرها، ولذلك كان من المهم جداً أن نتعرف على قواعد وأصول يجب على دارس العقيدة أن يتعلمها؛ لأنه من لم يزل في قاعدة قد يزل في غيرها، لكن إذا استجمعت لديه هذه القواعد وهذه الأصول فإنه لا يزل بإذن الله أبداً.
فينبغي علينا الآن أن نكتب هذه القواعد وأن نسمعها، ولا بد لنا من شرحها والعروج عليها، ولكننا سنكتبها أولاً، سأملي عليكم هذه القواعد ثم بعد ذلك نتعرض لها بالشرح بإذن الله تعالى.(18/2)
التوحيد وإفراد الخالق عن مشابهة المخلوقين
القاعدة الأولى: التوحيد وإفراد الخالق عن مشابهة المخلوقين، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].(18/3)
إثبات الصفات على مراد الله ومراد رسوله ووجوب الإيمان بذلك
القاعدة الثانية: إثبات الصفات على مراد الله عز وجل وعلى مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ووجوب الإيمان بذلك.
وهذه القاعدة احتراز من التعطيل الذي هو نفي الصفات، كما أنها احتراز من التأويل بغير دليل الذي سماه العلماء: (تحريفاً) فبعد أن أثبت الله تبارك وتعالى أنه ليس كمثله شيء بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فنفى المثلية والمشابهة بينه وبين جميع الأشياء، وما دون الله تبارك وتعالى مخلوق والمخلوق شيء، فليس هناك شيء في مخلوقات الله تعالى يماثل ويشابه المولى تبارك وتعالى، ثم أثبت في نفس الآية الصفات فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] سميع بسمع، بصير ببصر.
فبعد أن نفى المماثلة أثبت ما يمكن أن يوهم التشبيه: فلان سميع والله سميع، فلان بصير والله بصير، فقد يفهم الشخص من هذا التشبيه في السمع والبصر بين الخالق والمخلوق، وليس الأمر كذلك، فقد أثبت المولى تبارك وتعالى أنه ليس كمثله شيء، وأثبت لنفسه سبحانه الصفات اللائقة، كما في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وفي قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]؛ لأن من صفات الله تبارك وتعالى العلو.
وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: علا وارتفع.
وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فمن صفات المولى تبارك وتعالى أنه يتكلم.
وقوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3].
وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64].
وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27].
وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا إذا بقي الثلث الأخير من الليل)، فالنزول والمجيء صفتان لله تبارك وتعالى، والغضب والرضا والعجب كلها صفات للمولى تبارك وتعالى.
وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من أحدكم براحلته) إلى آخر الحديث.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر) ورؤية المولى تبارك وتعالى جائزة وممكنة، بل حادثة يوم القيامة، بمعنى: حاصلة.
هذه القاعدة الثانية.(18/4)
الكف عن الخوض في كيفية الصفات
القاعدة الثالثة التي تعين على فهم صفات المولى تبارك وتعالى كما فهمها السلف: الكف عن الخوض في كيفية الذات والصفات.
فلا تقل: كيف يكون شكل الله؟ وكيف تكون صفاته؟ وكيف يسمع؟ وكيف يأتي؟ وكيف يصعد؟ وكيف ينزل إلى السماء؟ وكيف يجيء؟ وكيف يرى؟ وغير ذلك من الأسئلة؛ حتى تسأل عن ذات المولى تبارك وتعالى، وأنت منهي عن هذا كله، ولذلك ثبت عن السلف أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، أي: لا تتعرضوا لها ولا تخوضوا فيها بتأويل غير سائغ ولا بصرفها عن ظاهرها، فآمنوا بها وصدقوا بها على النحو الذي جاءت به في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، من غير أن تتعرضوا لها بتمثيل أو تعطيل أو تحريف.
وقول أم سلمة وربيعة الرأي ومالك وهو قول مشهور: الاستواء معلوم.
فقد سئل مالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم.
لماذا معلوم؟ لأن الله تبارك وتعالى يخاطبنا بلغة نحن نفهمها، ولا يتصور أن الله تعالى خاطب هذه الأمة بما ليس له مدلول في اللغة عندهم، فاستوى في اللغة بمعنى: علا وارتفع إذا كان هذا متعلقاً بالمولى تبارك وتعالى.
فالاستواء في اللغة إذا قيد بالمولى تبارك وتعالى فهو يعني: العلو والارتفاع، بخلاف استواء بلقيس على عرش اليمن، إذ إن استواء بلقيس يختلف عن استواء المولى تبارك وتعالى، واستواء الزعيم على كرسيه يختلف عن استواء المولى تبارك وتعالى على كرسيه، فإذا قيد الاستواء بذات المولى تبارك وتعالى فإنه يعني: أنه علا وارتفع، واللغة لا تسمح إلا بهذا، وسنبين هذا أيضاً.
وقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فإذا كان الله تبارك وتعالى قد حجب نفسه عنا بحيث لا أحد منا يعلم ذات الله تبارك وتعالى، ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل يعلم ذات المولى تبارك وتعالى، فمن باب أولى أنه يجهل كنه صفات المولى تبارك وتعالى، أي: لا يعلمها على كيفيتها الثابتة للمولى تبارك وتعالى.
فإذا كنت لا تعرف كنه الله ولا كيفية ذاته؛ فلا بد أن تسلم بأنك لا تعرف الصفات؛ لأنها فرع وتصور عن الذات، وكل ذات لها صفات، وهذه الصفات هي تصور وفرع عن الذات، فإذا كنت تعلم الذات وكيفيتها فلا بد أن تعلم كذلك الصفات.
هب أنك سئلت عن محمد أو عن علي أو عن إبراهيم، فقلت: نعم، أنا أعرفه، طوله كذا وعرضه كذا وأبيض اللون أو أسود اللون وذو لحية وله يدان طويلتان أو قصيرتان وكتف عريض وغير ذلك.
وتصفه تماماً؛ لأنك تعلم ذاته وبالتالي تعلم صفاته.
أما إذا سألناك: هل الله موجود؟ فتقول: نعم موجود.
ولو سألناك: كيف هو؟ فتقول: لا أعلم كيف هو، فكان لزاماً عليك أن تقول: أنا لا أعلم كيفية الصفات الثابتة للمولى تبارك وتعالى، وفي المقابل قد أثبت الله تبارك وتعالى لنفسه هذه الصفات فينبغي عليك أن تؤمن بها، وأن تصدق وأن تسلم للمولى تبارك وتعالى، فكما سلمت بوجود الذات وأنت تجهل كيفيتها فلابد أن تسلم بالصفات وأنت تجهل كذلك كيفيتها.
ولذلك سئل مالك: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ علو المولى تبارك وتعالى هذا صفة واستواؤه على العرش سبحانه وتعالى صفة، فإذا كنت تجهل الذات فلا بد أن تجهل الصفات ومنها الاستواء؛ ولذلك قال مالك: الاستواء معلوم.
يعني: نحن نعلم في اللغة ما معنى استوى، إذا قرنت بالمولى تبارك وتعالى فمعناه: ارتفع وعلا، وهذا معلوم.
قال: والكيف مجهول، يعني: لا يُعلم كيف استوى الله تبارك وتعالى على العرش، فلا يستطيع أحد أبداً أن يقول: إن الله تبارك وتعالى استوى على العرش على نحو استواء المخلوق؛ لأن كيفية الاستواء لم تأتِ في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وإنما ورد الاستواء، وهو العلو المعلوم لدى العرب.
فنحن لا نعلم كيفية استواء المولى تبارك وتعالى، كما أننا لا نعلم كيف يسمع المولى تبارك وتعالى، ولا كيف يبصر المولى تبارك وتعالى، ولا كيف يجيء المولى تبارك وتعالى، ولا كيف ينزل إلى السماء الدنيا تبارك وتعالى، فإذا كنت تجهل كيفية صفة واحدة فينبغي أن تجهل كيفية جميع الصفات، ولو أنك ادعيت العلم في كيفية صفة فلابد أن تدعي العلم في كيفية جميع الصفات، وإلا فلا حجة مع من فرق بين صفة وصفة، وبين اسم واسم.
إذاً: هذه القاعدة الثالثة التي قعدها أهل السنة والجماعة في معرفة أسماء الله وصفاته: أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، ونكف عن الخوض في التأويل ومعرفة الكيفية، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ لا ندري، ولكننا نؤمن ونسلم، فمن الله الرسالة وعلينا التصديق والتسليم.
فإذا كنت تؤمن بكتاب الله وبكلام الله فلا بد أن تعلم أن الله تعالى نفى المماثلة بينه وبين خلقه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وأثبت لنفسه السمع والبصر بقول(18/5)
القول في الصفات فرع عن القول في الذات
القاعدة الرابعة: الترابط بين الذات والصفات؛ لأنها ذات واحدة للمولى تبارك وتعالى متصفة بصفات كشأن أي ذات، فليس هناك شيء في المخلوقات ليس له صفات، فهذا المنبر هل له صفات؟ نعم.
له صفات؛ فهو مرتفع عن الأرض، عريض، طويل، بني اللون، له كرسي يجلس عليه الإمام، وغير ذلك من الصفات، وكذلك هذا الكتاب له ذات ومتصف بصفات، فله طول وعرض، وله عمق، كما أنه أخضر اللون وبداخله ورق أبيض، فكل هذه صفات إذا ذكرتها لك فمعنى ذلك: أنني قد حددت هذه الذات بصفاتها، فهل يمكن أن أقول: هناك كتاب لا صفة له؟ لا يمكن أبداً، إذ كيف يكون كتاباً؟ ومن الذي سماه كتاباً إذا كان معدوم الصفات؟ فإن الذي ليس له صفة هو العدم؛ لأنه لا يمكن أبداً القول بأنه موجود.
فذات المولى تبارك وتعالى متصفة بصفات، فإذا كنت تقر أن ذات المولى تبارك وتعالى موجودة فلا بد أن تنسب الصفات لهذه الذات، وفي نفس الوقت أنت لا تعلم هذه الذات، وبالتالي لا تعلم كيفية صفات المولى تبارك وتعالى.
فالقول في الصفات كالقول في الذات، والقول في الذات كالقول في الصفات، فإذا كنت تقول: الذات موجودة فلابد أن تقول: الصفات موجودة، وإذا نفيت -عياذاً بالله- الذات فلابد أن تنفي كذلك الصفات؛ لأن الذات لا بد لها من صفات.
وهذا الكلام يرد به على المعتزلة الذين أثبتوا الذات ونفوا الصفات، فجعلوا المولى تبارك وتعالى في نهاية الأمر أنه ذات بغير صفات، وهذا محال في العقل وفي الشرع.
كما أن الأشعرية أثبتوا للمولى تبارك وتعالى سبع صفات فقط، ونفوا عنه بقية الصفات؛ ولذلك أهل العلم يقولون عن الأشعرية: السبعية؛ لأنهم يثبتون سبع صفات وينفون بقية الصفات.
والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فإذا أثبت لله بعض الصفات فلابد أن تثبت البعض الآخر التي أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، وإذا كنت تكيف بعض الصفات فلابد أن تكيف البعض الآخر، والتكييف باطل.
فالقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر يرد به على الأشعرية الذين أثبتوا لله سبع صفات فقط ونفوا عنه بقية الصفات الثابتة في الكتاب والسنة.(18/6)
طريقة السلف في الصفات هي النفي المجمل والإثبات المفصل
القاعدة الخامسة: طريقة السلف في الصفات هي النفي المجمل والإثبات المفصل، أي: أن السلف رضي الله عنهم نفوا عن الله تعالى إجمالاً جميع صفات النقص، وأثبتوا لله تبارك وتعالى تفصيلاً جميع صفات الكمال.
وسنشرح هذه القاعدة بالتفصيل إن شاء الله.(18/7)
طريقة السلف في النفي هي النفي المتضمن لكمال الضد
القاعدة السادسة: طريقة السلف في النفي هي النفي المتضمن لكمال الضد، يعني: إذا نفيت أن الله تعالى ينام، والنوم صفة نقص في حق المولى تبارك وتعالى، وكل صفات النقص منتفية عن المولى تبارك وتعالى، فإذا كنت تنفي صفة النقص هذه عن المولى فلابد أن تثبت كمال ضدها، فتقول: هو القيوم، فكمال الضد للنوم أن الله قيوم قائم بذاته لا يحتاج إلى أحد من خلقه، كما أنه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، ولا يجوز أن نفرض أنه لو نام لحدث كذا وكذا؛ لأن هذا الفرض مجرد طرحه لا يجوز ولا ينبغي؛ لأن طريقتنا في النفي هي النفي المطلق لجميع صفات السلوب، أي: جميع صفات النقص.
فالناس ينامون ويستيقظون، والمولى تبارك وتعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، فطريقة السلف في النفي هي النفي المتضمن لكمال الضد، فإذا نفيت صفة نقص عن المولى عز وجل فلابد أن أثبت ضد هذه الصفة على أعلى درجات الكمال.
فالإنسان يوصف بأنه أعمى، والمولى تبارك وتعالى يوصف بضد هذه الصفة، فهو البصير تبارك وتعالى، وبصر الله تبارك وتعالى لا حد له ولا نهاية؛ لأنه يبصر على أعلى درجات الكمال، وليس هناك أحد من خلقه يشبهه في الإبصار؛ وذلك لأن الله تبارك وتعالى يبصر السر وأخفى، يبصر الخطيئة، ويبصر الغيب كما يبصر المشاهد، وأنت لا تبصر إلا الذي أمامك، وبصرك محدود، فأنت لا ترى إلا من بالمسجد، وكذلك لا ترى جميع من بالمسجد، بل إنني لو وقفت أمامك فإنك لم تحطني رؤية وبصراً؛ لأنك لا ترى مني إلا ما يقابلك من جسدي كالوجه والصدر ومقدم اليدين ومقدم البدن، أما من خلف فأنت لا تراني، وإن أتيت إلى خلفي فأنت ترى خلفي ولا ترى أمامي، فبصرك ضعيف عاجز ناقص، بخلاف بصر المولى تبارك وتعالى؛ فإنه يبصر كل شيء، لا يخفى عليه شيء لا بالليل ولا بالنهار، مهما أخفيت شيئاً فإن الله يعلمه، ولو وضعته في سبع أرضين فإن الله تعالى يبصره ويعلمه، فإذا كنا ننفي عن المولى تبارك وتعالى صفة نقص فإن الله تبارك وتعالى يتصف بضدها بأعلى درجات الكمال.
ونحن نقول: فلان ظالم، فالظلم صفة نقص، والمولى تبارك وتعالى نفى عن نفسه الظلم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] بل رحمته سبقت غضبه.
فالظلم صفة نقص يتصف بها المخلوق وليس الخالق، فنفي صفة الظلم عن الله سبحانه وتعالى يلزم منه إثبات ضدها للمولى عز وجل وهي العدل، كما أن عدل الله ليس كعدل المخلوق؛ لأن عدل الله تبارك وتعالى عام وشامل وفي أعلى درجات الكمال من العدل.
ومن الممكن أن أقول: فلان عادل، لكنه ليس عادلاً بصفة مستمرة؛ لأن عدله ليس مع كل الناس، فهو بشر قد يحيد في يوم ما على فلان من الناس.
فلو أن قاضياً قضى بين متخاصمين، وأحد هذين الخصمين عدو أو بغيض إلى ذلك القاضي، فأنت لا تأمن أبداً قضاءه في هذا الخصم؛ وذلك لأنه بشر ربما يحيد، وإن اعتبرنا أن هذا القاضي عادل في الخصومة؛ لأنه ليس له عدو من المتخاصمين، ولكنه يقضي بما يسمعه من المتخاصمين لا بما يراه، وربما أحد الخصمين ألحن بحجته من صاحبه فيقضي القاضي للظالم، وهو ليس آثماً بهذا الحكم؛ لأنه حكم بناءً على ما سمع.
فالذي يعلم خصوصية العدل وحقيقته هو الله عز وجل، وسيقضي بعدله يوم القيامة بأن يرد المال إلى صاحبه على شكل حسنات، أي: يؤخذ من حسناته ويعطى لصاحب الحق، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئات الأول فطرحت عليه حتى طرح في النار؛ وذلك لأن عدل الله تبارك وتعالى متعلق ببقية صفاته كالعلم والسمع والبصر وغير ذلك، وإن الله تعالى في هذه الخصومة قد علم الحق أين هو، وقد شاهد ذلك مشاهدة يعلمها هو سبحانه وتعالى، فرغم إجراء الباطل في الدنيا إلا أن الأمور ترد إلى نصابها يوم القيامة.
فنقول: إذا اتصف المرء بالظلم فإن الله ليس بظلام للعبيد، بل إنه متصف بضد هذه الصفة وهو كمال العدل للمولى تبارك وتعالى.(18/8)
التحريف بالتأويل أشد قبحاً من التعطيل والتكييف والتمثيل
القاعدة السابعة: التحريف بالتأويل أقدح من التعطيل والتكييف والتمثيل وأقبح، وإن كان الكل قبيحاً، إلا أن التحريف في الذات أقبح ما أتت به فرق الضلالة، لأنهم يحرفون النص عن ظاهره ويعطلون المولى تبارك وتعالى عن صفاته التي وصف بها نفسه، وكأنهم كذبوا بالقرآن والسنة.(18/9)
كل شيئين بينهما قدر مشترك وقدر فارق
القاعدة الثامنة: ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن نفى القدر الفارق فقد مثل، ومن نفى القدر المشترك فقد عطل، والقاعدة هذه من أعظم القواعد في الأسماء والصفات، أسسها شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم.
ولنضرب مثالاً: الله تبارك وتعالى ذات، وقد وصف نفسه بأن له يدين، وأنا ذات ومتصف بصفات منها اليدان، إذاً القدر المشترك بين يدي ويدي الله تبارك وتعالى أن الذي لي اسمه يد، وأن الذي ثبت لله تبارك وتعالى كذلك، فالقدر المشترك بيني وبين الله هو مجرد التسمية، لكن هناك فارق، ويعلم هذا الفارق بالإضافة وعند إطلاق كلمة يد، فحينما أقول: (يد) فقط يعني: اليد المعلومة التي تراها، وهي اليد الملاصقة لبدنك، لكن لو قلت: يد الله، فالمعنى يحمل شيئاً آخر، وهو أن يد الله تبارك وتعالى لا يعلم كيفيتها أحد من الخلق؛ وذلك لوجود القدر الفارق بين ذات الله وذات المخلوق، فلا بد أن يكون هناك قدر فارق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فمن صفات الخالق أن له يداً لكنها يد تليق بذاته، ولما كان ذات الله بالنسبة لي مجهولة فلا بد أن تكون يده كذلك بالنسبة لي مجهولة، لكن لو قلت: يدي فقط، أو يد محمد، أو يد إبراهيم، أو زيد، أو عبيد، فأنت تعلم كيفية هذه اليد حتى وإن لم ترها، لكن لو قلت: يد الله فوق أيديهم، فإنني أثبت لله تبارك وتعالى اليد التي أثبتها لنفسه على مراده هو، وعلى كيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.
فالقاعدة الثامنة: ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن عطل القدر الفارق فقد مثل؛ لأنه يلزمه أن يقول: يد الله كيدي، ولو أنك مثلت صفات المولى تبارك وتعالى بصفاتك فيصبح الله سبحانه عبارة عن إنسان، بل يكون إنساناً على صورة قبيحة تعالى الله عن ذلك! لأن الله تبارك وتعالى له ساق واحدة كما أثبت لنفسه، فعندما ترى إنساناً له ساق واحدة فإن هذا منظر قبيح على غير العادة والمألوف.
فهل يتصور أن يكون الخالق تبارك وتعالى في نهاية الأمر عبارة عن صورة قبيحة؟! وسيصبح وجه المولى تبارك وتعالى ممسوحاً لو مثلته بالمخلوق؛ لأن المولى تبارك وتعالى لم يثبت لنفسه الأذن ولا الأنف ولا الفم، وهذا لا يتصور عنه سبحانه، تنزه عن ذلك كله، بل لو أن إنساناً بغير فم ولا أنف ولا أذن فإن منظره سيكون قبيحاً.
إذاً: لا بد أن نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه، كما قال: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] فالله تبارك وتعالى هو أعلم بذاته وأعلم بصفاته، وهو جميل يحب الجمال، ففي الحديث: (إن الله جميل) فإذا أثبتنا أن الله تبارك وتعالى يشابه أو يماثل خلقه فلا بد أن يكون الله تعالى عبارة عن شخص له ساق واحدة وبلا وجه، بمعنى: أنه ليس له أنف ولا فم ولا أذن، وسينطبع في مخيلتي وذهني قبح هذه الصورة، والله تبارك وتعالى جميل يحب الجمال، فكيف يتفق ما دار في ذهني مع ما ثبت في النص؟ إذاً: لابد أن أرجع إلى إثبات النص على مراد الله عز وجل.
إنَّ الله تبارك وتعالى له ساق واحدة وهي في حقه غاية الكمال، وقد تكون صفة النقص في حق المولى تبارك وتعالى كمالاً في حق المخلوقين، بل لا يستقيم ولا تستقيم حياة المرء إلا بهذه الصفة، فالنوم مثلاً صفة نقص في حق المولى تبارك وتعالى، وهي صفة كمال للمرء؛ لأنه لو لم ينم لجن، وذلك لأنه يلبي رغبة بدنه وهي النوم، فإذا نام واستيقظ فإنك تجده في أحسن منظر ويظهر عليه الوضاءة والنضرة؛ لأنه أخذ حاجته من صفة لازمة له، فالنوم نقص في حق المولى تبارك وتعالى ولا ينبغي له، وهي صفة كمال في حق المخلوقين لا تستقيم حياتهم إلا به، فالذي ينفي القدر الفارق بين الله تبارك وتعالى وبين المخلوقين لا بد أن يثبت لله صفات كصفات المخلوقين.
ومن نفى القدر المشترك فقد عطل، والقدر المشترك هو أن يكون الاشتراك بيني وبين الله عز وجل في الاسم فقط، فالقدر المشترك بين يدي ويدي المولى تبارك وتعالى في مجرد التسمية، قال الله سبحانه: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10].
وفي الحديث: (يد الله على الجماعة)، وفي رواية: (يد الله مع الجماعة).
وأهل البدع يقولون: قوة الله، باعتبار اللازم لهذه اليد؛ لأن اللازم لليد هو القوة، وباعتبار اللازم تصير اليد هنا بمعنى: القوة، وقد سمى الله تبارك وتعالى نفسه القوي واتصف بالقوة، فالأحاديث والآيات أثبتت له القوة من جهة الصفة، وأثبتت أنه قوي من جهة الاسم، فلما أقول: اليد بمعنى: القوة، إذاً: لا داعي أن أثبت أنه قوي كما في الآية الأخرى، قالوا: لأننا في الحقيقة ننزه المولى تبارك وتعالى عن مشابهته لخلقه، فإنه يلزم من إثبات اليد المشابهة بين الخالق والمخلوق، وهكذا عجزوا بعقولهم أن يثبتوا لله يداً تليق بجلاله وكماله وعظمته، فهم بذلك أرادوا أن يهربوا بزعمهم من التمثيل والتشبيه فوقعوا في التعطيل، وقالوا: اليد في قوله تعالى: {يَدُ ال(18/10)
مذهب السلف وسط بين التمثيل والتعطيل
القاعدة التاسعة: مذهب السلف وسط بين التمثيل والتعطيل؛ لأن الأمة كلها وسط بين الأمم السابقة: بين اليهود والنصارى، فاليهود أمة مادية، والنصارى أمة روحانية رهبانية، ونحن وسط بين هذا وذاك، فهذه الأمة متمتعة بالوسطية في كل شيء، وعلى رأس هذه الأشياء اعتقادها في المولى تبارك وتعالى.
فهم لا يشبهون الله تعالى بخلقه ولا يعطلونه عن صفاته، إنما يثبتون له ما أثبته لنفسه على مراده سبحانه، وما أثبته له رسوله على مراده سبحانه وعلى مراد رسوله الكريم الذي هو أعلم الخلق على الإطلاق بربه ومولاه وسيده.(18/11)
كل ممثل معطل لحقيقة الصفة وذاتها وكل معطل ممثل
القاعدة العاشرة: كل ممثل معطل لحقيقة الصفة وذاتها.
فالذي يقول: يد الله كيدي في الحقيقة هو معطل ليد الله عز وجل، صارف لها عن حقيقتها.
كذلك كل معطل ممثل، أي: أن الذي يعطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته لا بد أن يئول في نهاية الأمر إلى تمثيله بالمخلوقين، لأنه لم يفهم من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوقين.
فإن قال قائل: لا أقدر أن أتصور أبداً كيفية يد الله عز وجل فكيف يخاطبني الله سبحانه وتعالى بشيء لا أعرفه؟ قلنا: إن الله سبحانه وتعالى يخاطبك بشيء لا تعرفه، وذلك من باب أنك لا تعلم كيفيته؛ ليبتليك أتؤمن أم تكفر، فإنه يصعب عليك أن تثبت لله تبارك وتعالى صفاته وتقول بلزوم التمثيل والتشبيه، فإن قلت: وأنا لا يمكن أبداً أن أتصور يد الله إلا أن تكون كيدي، وساق الله إلا أن تكون كساقي، ومجيئه إلا كمجيئي ونزوله كنزولي من السلم، فهذا هو النزول الذي أعلمه، ولا أتصور أن الله يخاطبني بما لا أعلمه.
فنقول: الله تبارك وتعالى خاطبك بما تعلم، ولكن ليس عالم الغيب كعالم الشهادة، فلما كان ذات الله تبارك وتعالى غيباً عنا غير مشاهد فكذلك صفاته غيب عنها غير مشاهدة، ولذلك يلزم الإيمان بها كما أقررت بلزوم الإيمان بالذات وأنت لم تره.
فلو قلنا لك الآن: هل تعلم ذات المولى عز وجل؟ ستقول: أعوذ بالله! أنا لا أعلمها، بل الذي يعلمها هو الله تبارك وتعالى، لكني أؤمن أن الله تبارك وتعالى له ذات موجودة، فإذا كنت تستعيذ بالله من وصف الذات فلا بد أن تستعيذ بالله من وصف الصفات كذلك، وهذا أمر لازم.(18/12)
بيان معنى السلف والخلف
هذه عشر قواعد قعدها أهل العلم قديماً وحديثاً، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، ولكن لا بد أن نعلم من أين أوتي أهل البدع والأهواء القاعدتين اللتين قام عليهما مذهب الخلف في تعطيل الصفات، وعندما أقول: (الخلف) هذا في مقابل السلف، فيكون عندنا مصطلحان: سلف وخلف، وكلمة السلف لها معنيان: المعنى الأول: تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها خير القرون؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فإذا قصدت بيان معنى كلمة السلف من جهة الزمن فهو القرن الأول والثاني والثالث، وإذا قصدت ما هو أعظم من ذلك فإنما تقصد المنهج، فإن المنهج ليس له علاقة مطلقاً بالحقبة الزمنية، فعند إطلاق لفظ: (فلان سلفي)، معناه: إما أن يكون عاش في تلك الحقبة الزمنية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلوهم) فأقول: هذا سلفي زمانياً، وإما أن يكون على سلف المنهج والتلقي والمشرب والاعتقاد، وهو من كان على مثل ما كان عليه السلف إلى يوم القيامة، فلو أن شخصاً اعتقاده في الله عز وجل ومنهجه وأصوله كلها هي التي كان عليها النبي عليه السلام وأصحابه الكرام والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فإننا نقول عنه: سلفي المنهج.
ومن هنا نفهم أنه ليس كل من عاش في القرن الأول الهجري أو الثاني أو الثالث سلفي المنهج، فهناك الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيرهم من أهل البدع وواصل بن عطاء المعتزلي، فهؤلاء نسميهم خلفاً؛ لأنهم خالفوا السلف في المنهج.
ولذلك القول الذي يقول: كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف محل نظر؛ لأن هذا قد يحمل على الحقبة الزمنية، (كل خير في اتباع من سلف) أي: في اتباع القرون الأولى.
وكل شر في اتباع من أتى بعدهم في الحقبة الزمنية، فالأفضل أن نقول: الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، سواء كان هذا الاتباع في القرون الأول أو في القرون التي بعدها، والابتداع سواء ظهر في القرن الأول أو في القرن الألف فهو ابتداع؛ لأن كله شر؛ بل إن الشر ظهر في القرون الخيرية على أيدي رءوس البدع، فلا يمكن أبداً نسبتهم إلى السلف ولا أنهم سلفيون، بل ولا سلف لهم في البدع التي أتوا بها وأفسدوا بها عقائد الأمة وضمائرها وعبادتها.
ففي هذه الحالة نبين أن لفظ السلف له معنيان: معنى زمني ومعنى منهجي، فلا أستطيع أن أقول مثلاً: أنا خلف لـ أبي بكر الصديق، لأن إطلاق لفظ الخلف يعني: الذم، لكن أقول: أنا تابع لـ أبي بكر، تابع لـ عمر، لـ عثمان، لـ علي، لأن نفس المنهج الذي استقاه أبو بكر هو الذي أنا عليه وإن كنت مقصراً، حيث إني لا أقدم منهجاً آخر غيره خاصة في باب صفات المولى تبارك وتعالى.(18/13)
قواعد الخلف المخالفة لسلف الأمة في صفات الله(18/14)
حكم قياس الخالق بالمقاييس التي تحكم المخلوق
القاعدة الأولى التي مشى عليها الخلف وجعلتهم يخالفون سلف الأمة: هي قياسهم الخالق سبحانه وتعالى بالقوانين والمقاييس التي تحكم المخلوق.
فقالوا: إن الله تبارك وتعالى استوى على العرش بمعنى: أنه استولى وقعد على العرش وصار لصيقاً وملاصقاً للعرش؛ وذلك لأن الواحد فينا لو جلس على الكرسي لكان ملاصقاً للكرسي.
ونقول لهم: هل القوانين التي تحكم البشر هي التي تحكم المولى تبارك وتعالى؟
الجواب
لا؛ ولذلك لما حكموا المقاييس والمعايير التي لا تصلح إلا للبشر في حق المولى تبارك وتعالى وقعوا تارة في التشبيه وتارة في التمثيل، وأحبوا أن يهربوا من تشبيه الخالق بالمخلوق فوقعوا في التعطيل، فغلطوا في كل الأحوال، فلا تعطيل ولا تمثيل ينفعهم، ولا تشبيه ولا تأويل ولا تحريف ينفعهم، فقياسهم الخالق سبحانه وتعالى بالقوانين والمقاييس التي تحكم المخلوق ممتنع في الأصل، فممتنع أن يمثلوا الله بخلقه، أو يقيسوا صفات المولى تبارك وتعالى بصفة المخلوق؛ وذلك للزوم الوحدانية لله عز وجل، أي: أن الله واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله.
فإذا قلت: المولى تبارك وتعالى تكلم فليس كلامه ككلامنا، بل إنه يتكلم على نحو لا يستطيع أحد من خلقه أن يتكلم مثله؛ وذلك لأنه واحد في كلامه، أي: لا يشبهه أحد من خلقه في صفة الكلام، فهو واحد في أفعاله.
ومن صفات الله المجيء، فربنا تبارك وتعالى يجيء، قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
فالرب تبارك وتعالى يأتي، فإن قيل: كيف يأتي؟
الجواب
الله أعلم، لكنه يأتي؛ لأنه أثبت صفة الإتيان وصفة المجيء لنفسه، فأنا أثبت لله تبارك وتعالى صفة المجيء كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] فلا أقول: وجاء أمر ربك؛ لأن هذا ضلال وزيغ وتحريف للنص، حيث إن الله أثبت لنفسه صفة المجيء، فأنت لو قلت: المقصود بقوله: (وجاء ربك) أمر ربك: لنفيت صفة المجيء عن الله عز وجل، وهذا ليس منهج السلف، بل أنا أثبت لله تبارك وتعالى صفة المجيء، ولكنه مجيء غير مجيئي أنا؛ وذلك لأن هذا فعل لله عز وجل، ولما كان الله تعالى واحد في أفعاله فإن أفعاله لا تشبه أفعال المخلوقين.
إذاً: الله تبارك وتعالى يجيء ويأتي ويغضب ويرضى ويسخط على نحو لا يشبهه مجيء الخلق ولا إتيانهم ولا غضبهم ولا رضاهم ولا سخطهم، فهو واحد لأنه متصف بالوحدانية في الذات والصفات والأفعال.(18/15)
التأويل لصفات الله الثابتة له للخروج من تمثيله بالمخلوقين
هذه القاعدة الأولى جرت الخلف إلى الانحراف، وإلى تصوير الله تعالى بصورة قبيحة، سبحانه وتعالى عما يقولون، فأرادوا أن يفروا من ذلك فوقعوا بين نارين.
قالوا: لو أثبتنا لله ما أثبته لنفسه بالمماثلة لصفة المخلوقين فإن الله سيكون إنساناً، وهذا ليس معقولاً، فوقعوا بين نارين: أن يكذبوا بآيات الله الواردة في وصفه سبحانه كما فعل الجهم بن صفوان، فلا يد ولا ساق ولا عين ولا وجه؛ لأن إثبات هذه الصفات يستلزم التشبيه والتمثيل، فقالوا: ونحن ننزه المولى عز وجل عن ذلك، فنفوا عن المولى عز وجل ما أثبته لنفسه.
وهذه بلية أخرى.
وإما أن يؤولوها فيقولون: لو نفينا الصفات لأصبحنا نكذب بالقرآن، والله قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فأثبت الله لنفسه العين وأثبت لنفسه اليد، فلا بد أن نؤولها بالمجاز ونخرجها عن معناها الحقيقي اللائق به سبحانه وتعالى، وبهذا نكون قد أثبتنا لله تعالى ما أثبته لنفسه، فنقول: يد الله بمعنى: القوة.
وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] المقصود بالعين هنا الرعاية، يعني: أحوطك وأشملك برعايتي حتى تتربى وتصير شاباً فتياً، وبالتالي يصرفون صفات المولى تبارك وتعالى عن معناها ومضمونها الحقيقي إلى المعنى المجازي.
هذه هي القواعد التي قعدها السلف في الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته، ولا يمكن أبداً فهم صفات المولى عز وجل على منهج السلف إلا بحفظ هذه القواعد واعتقادها، فلابد أن تراجعها بين الفترة والفترة حتى تعرف من أين أتي الخلف.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(18/16)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الاستواء لله عز وجل
من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، واستواؤه تعالى معناه: علوه وارتفاعه على خلقه فوق سماواته وعرشه، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم المعتبر، خلافاً للفرق الضالة الخارجة عن الطريق المستقيم، والذين يؤولون ذلك تأويلات عقلية مبناها على اللغة، وعلى اعتبار عدم مناقضتها لصفة المعية كما هو في المخلوقين، ولبئس ما فهموا، وساء ما إليه فطنوا.(19/1)
اشتراك المخلوق مع الخالق في بعض الصفات لا يستلزم المشابهة والمماثلة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في الدرس الماضي ذكرنا عشراً من القواعد التي تلزم كل مسلم -فضلاً عن طالب العلم- في سبيل دراسته لعلم الاعتقاد، وقلنا: إن صفات المولى تبارك وتعالى لا يمكن فهمها كما فهمها السلف إلا من خلال هذه القواعد، وهذه القواعد كنا قد استفدناها من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وقد جمع جلها شيخنا محمود عبد الرازق المنصوري في كتاب سماه: توحيد الصفات بين معتقد السلف وتأويل الخلف، وبالأمس أرسل إلي عدة نسخ من مختصر لهذا الكتاب، فقرأته اليوم فألفيته مختصراً نافعاً جداً؛ ولذلك آثرنا أن نوزعه عليكم إن شاء الله.
ذكرنا أن أول هذه القواعد هي: توحيد المولى تبارك وتعالى، بمعنى: إفراده بالوحدانية في كل شيء، فلا يستطيع أحد أن يتصف بصفة على الوصف الكامل لله عز وجل من خلقه قط، فلو ذكرنا صفة الرحمة فإن الله تعالى موصوف بها، وإن كثيراً من عباده موصوف بها، لكن الله تعالى تفرد بهذه الصفة على الوجه الأكمل الذي ليس بعده كمال، فلا تستوي رحمة المخلوق ورحمة الخالق سبحانه وتعالى؛ لأن رحمة الخالق واسعة وعامة وشاملة لمن كان أهلاً لها؛ ولذلك يقول المولى تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، أما رحمة العباد فلا تسع كل شيء؛ ولذلك هناك مفارقة ومباينة بين صفة المخلوقين وصفة الخالق تبارك وتعالى.
فعند إطلاق صفة من الصفات على مخلوق من المخلوقات -وإن تشابهت وتماثلت- مع صفة لله عز وجل، فلا يعني هذا أنها شبيهة ومماثلة لها من جميع الوجوه ومن جميع الجوانب، بل هي شبيهة بها من حيث الاسم فقط، فإذا كانت المخلوقات نفسها تتماثل أو تتشابه في الاسم، وتختلف في الصورة، فإن الله تبارك وتعالى خلق العسل وخلق الخمر، وخلق التمر وخلق الجنان وخلق التفاح وخلق المطعومات، ولكنك إذا وازنت بين مطعومات الدنيا التي تطعمها أنت الآن ومطعومات الجنة فشتان ما بين هذا وذاك.
وإذا قلنا لك: هل تستطيع أن تكيف تين الجنة أو زيتونها؟ تقول: لا، أنا الذي أعرفه من هذا النعيم الأسماء فقط؛ وذلك لأن الله ذكر في كتابه أنه خلق في الجنة التين والزيتون، لكن هل هو كالتين والزيتون اللذين نأكلهما؟
الجواب
لا، فالزيتون الذي نأكله نحن الآن ليس كالزيتون الذي خلقه الله في الجنة، فإذا كانت المخلوقات نفسها اتحدت في أحد الأوصاف ولكنها تباينت واختلفت في بقية الأوصاف، فهل يمكن أن تسوي صفات الخالق سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين عند الإطلاق؟ لا يمكن أبداً، هناك مباينة ومفارقة.(19/2)
سياق ما روي في قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)
ونحن بصدد ضرب بعض أدلة استواء الله تباك وتعالى على عرشه، فاستواء سليمان على العرش، واستواء بلقيس على العرش، واستواء أي ملك على عرشه يختلف تماماً عن استواء المولى تبارك وتعالى؛ لأن استواء المخلوقات يتناسب مع ضعف وعجز ونقص هذه المخلوقات، أما استواء المولى تبارك وتعالى فلا شك أنه على الوجه الأكمل الذي يتناسب مع كمال صفاته تبارك وتعالى، وإن كان الجميع يسمى: استواء.
فليس استوائي هذا على الكرسي وأنا مماثل له كاستواء المولى تبارك وتعالى على عرشه، فإن هذا استواء يليق بالله عز وجل، واستوائي على الكرسي يليق بذلك الضعف البشري الذي خلقت له ومن أجله.
وقد ذكر الإمام اللالكائي باباً وسرد فيه أدلة استواء الرحمن على العرش، فقال: [سياق ما روي في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأن الله على عرشه في السماء]، فهل كلمة (على) هنا تستلزم المماسة؟ هذا الذي فهمه أصحاب الفرق الضالة.
فقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قالوا: (استوى) بمعنى: استولى، ولنا وقفة مع هذا التفسير.
الوقفة الأولى: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، هل يلزم من هذا الحرف (على) أن الله تعالى مماس وملاصق للعرش؟ فإذا قلنا ذلك فإنه يلزمنا أن نقول: إن العرش يحمله، وهو سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، فهو أكبر من العرش، وأكبر من جميع المخلوقات؛ فلا يحمله خلق من خلقه تبارك وتعالى، وإنما نقول: إن الله تعالى علا فوق العرش، أي: خلق الأرضين وخلق السماوات السبع، وجعل فوق السماء السابعة بحراً، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، والله تعالى فوق العرش، ليس مماساً له سبحانه وتعالى؛ لأنه منزه أن يلتصق بأحد من مخلوقاته.
قال: (وأن الله على عرشه في السماء)، قولنا: (في السماء) لا تستدعي الظرفية كذلك، بل (في) بمعنى (على)؛ لأن المتفق عليه أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فقوله: (في) يعني: (على)، أي: وأن الله على عرشه على السماء، بمعنى: فوق السماء؛ لأن (على) تفيد العلو والفوقية، فـ (في) هنا بمعنى (على)، أي: على السماء؛ ومثلها قوله تبارك وتعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، فهل يتصور أن ذلك المجرم يدخل غيره في جذع النخلة حتى يعاقب ويصلب؟
الجواب
لا، ولكن التقدير: ولأصلبنكم على جذوع النخل، فـ (في) بمعنى (على).
إذاً: قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} [طه:5]، أي: فوق العرش، وأن الله على عرشه في السماء، يعني: على السماء، فهذه الحروف إنما تفيد الفوقية والعلو.(19/3)
الأدلة من القرآن على أن الله مستو على عرشه فوق خلقه
قال: [وقال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]]، فالصعود لا بد وأن يكون إلى جهة العلو، وكذلك الرفع، قال: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ))، أي: يرتفع {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وأن الله تعالى يجازي صاحبه خيراً، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، أي: يرفعه إليه ويقبله.
قال: [وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]]، فقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، والذي في السماء هو الله عز وجل، وكما اتفقنا أن (في السماء) بمعنى: (على السماء).
قال: [وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61]]، فأسند لنفسه تارة العلو وتارة الفوقية، وهما بمعنى واحد، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61]، أي: يرسل عليكم من السماء إلى الأرض حفظة؛ فدلت هذه الآيات على أنه تعالى في السماء، وعلمه في كل مكان من أرضه وسمائه.
فهذا أمر معلوم لدى جميع السلف أن الله تعالى بذاته استوى على العرش، ولكن لما خاض المعتزلة والأشاعرة من بعدهم في صفات المولى تبارك وتعالى، وتكلموا على استوائه وفوقيته، أو معيته مع خلقه -قالوا: إن الله تعالى مع خلقه بذاته في كل مكان، هذا قول المعتزلة والأشاعرة، وهو قول يناقض وينافي الحق تماماً ولا حق فيه، بل الحق أن الله تبارك وتعالى مستو بذاته على العرش، مباين لخلقه، كما ثبت ذلك من كلام السلف، وللإمام الطحاوي شعر ونظم جميل جداً في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في معية الله تبارك وتعالى، قال: نؤمن بالله تعالى، وأنه فوق السماء، أي: وأنه استوى على عرشه بائن من خلقه، ومعنى بائن: غير ملاصق لخلقه، بل مغاير لهم.
ولا بد أن نعرف أن العرش مخلوق ولا خالق إلا الله عز وجل، وقول الإمام: بائن من خلقه، يدل على أن الله غير ملاصق للعرش، ولكنه فوق العرش سبحانه وتعالى، وذلك لما كان العرش أعلى شيء في المخلوقات؛ فإن الله تعالى فوق هذا العلو، يعني: أن الله تبارك وتعالى أعلى من كل مخلوق، وأعلى المخلوقات هو العرش، والله تعالى فوق العرش.
فدلت هذه الآيات على أنه تعالى في السماء، وعلمه بكل مكان من أرضه وسمائه؛ لأن الله تعالى قد أحاط علمه بكل شيء، والسماوات شيء، والأرض شيء، وجميع المخلوقات شيء، وأن علم الله تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء، روي ذلك عن الصحابة: عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأم سلمة، ومن التابعين: ربيعة بن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، وقال به من الفقهاء: مالك بن أنس، والثوري، وأحمد بن حنبل، ونحن نذكر هذا على سبيل الاختصار، وإلا فقد سبق أن سردنا الكثير من أسماء السلف الذين تكلموا وصنفوا في معتقد سلف هذه الأمة.(19/4)
الأدلة من السنة على أن الله مستو على عرشه فوق خلقه
ذكر الإمام اللالكائي في هذا الباب -كما ذكر في غيره على عادة المصنفين المسندين- آثاراً وأحاديث بعضها صحيح والبعض الآخر ضعيف، ولا شك أن الحجة في الصحيح، خاصة إذا كان الاحتجاج في باب الاعتقاد، أما الضعيف فلا حجة فيه، ولا حتى في فضائل الأعمال على المذهب الراجح، ولذلك ذكر هنا أحاديث ضعيفة كما ذكر آثاراً أعرضنا عن ذكرها صفحاً؛ لأنها ليس فيها حجة.
ومما صح من روايته عن معاوية بن الحكم السلمي، وهذا الحديث عند الإمام مسلم وهو المعروف بحديث الجارية.
قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (يا رسول الله! كانت لي جارية ترعى غنيمات لي من قبل أحد والجوانية -أي: كانت لي بنت صغيرة ترعى الغنم بين جبل أحد والجوانية- وإني أطلعتها يوماً إطلاعة، فوجدت ذئباً قد ذهب منها بشاة)، يعني: اختبرتها وراقبتها ذات يوم؛ فوجدت ذئباً أخذ شاة من تلك الغنيمات.
قال: (وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون)، يعني: أحزن لفقدان مالي وأغضب، (فصككتها صكة)، يعني: لما غفلت عن تلك الغنيمات؛ صفعتها وصككتها على وجهها صكة.
قال: (فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم)، استعظم ذلك جداً وأنكره.
قال معاوية: (فقلت: يا رسول الله! ألا أعتقها؟ -أي: فيكون ذلك كفارة لي؟ - فقال: ادعها إلي، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أين الله؟ قالت: الله في السماء)، وهذه جارية صغيرة، وإن شئت فقل: بدوية لا تعرف من دينها ولا من دنياها شيئاً غير أنها ترعى الأغنام في الجبل، ومع هذا لم تقع فيما وقع فيه فرق كثيرة من فرق المسلمين، وضلت فيه جماعات من أمة محمد عليه الصلاة والسلام: كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم.
فقالت هذه الجارية: (الله في السماء.
قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاوية بن الحكم السلمي: اعتقها فإنها مؤمنة)، فرتب النبي عليه الصلاة والسلام إيمان هذه الجارية على معرفتها بذات الله تبارك وتعالى، وأنه مستو على عرشه في السماء، وأنها أقرت برسالة ونبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا بلا شك أعظم علامات الإيمان: اعتقادك بالله عز وجل واعتقادك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله.
انظروا إلى هذه الجارية الصغيرة في السن، البدوية التي لا حظ لها في العلم، علمت بفطرتها أن الله تعالى في السماء، مستو على عرشه.
وعن أبي هريرة: (أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام بجارية سوداء أعجمية)، والأعجمي ليس بلازم ألا يكون عربياً، فالأعجمي: هو كل من لم يجد اللسان العربي، ولكنه يتكلم بلسان آخر، وكذلك العربي الذي لا يستطيع أن يفصح عما في نفسه بلسان عربي فصيح مبين يسمى أعجمياً وإن كان عربياً.
أتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام بجارية سوداء أعجمية فقال: (يا رسول الله! إن علي عتق رقبة مؤمنة)، يعني: قد فعلت فعلاً يستوجب أن أعتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء)، أي: أنت رسول الله الذي في السماء، وهذه جارية أعجمية؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اعتقها)، يعني: هي تصلح أن تكون كفارة لذنبك؛ لأنها مؤمنة، وإن الذنب الذي ارتكبته ورتب الله تبارك وتعالى عليه عتق رقبة مؤمنة هذه الجارية بهذه الإجابة مؤمنة وهي تجزئ في كفارتك؛ فأعتقها.
قال: [وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء -وهذا محل الشاهد وفي رواية: بصره إلى السماء- فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)].
الشاهد: أن المرء إذا توضأ ثم رفع بصره إلى السماء، لماذا يرفع بصره إلى السماء؟ لماذا لا يضع وجهه في الأرض وينادي المولى تبارك وتعالى؟
الجواب
لداعي الفطرة في قلبه وفي روحه ونفسه أن الله تعالى في السماء، وما وجدنا واحداً قط من المسلمين، بل ولا حتى من غير المسلمين يدعو الله تبارك وتعالى إلا وهو يتوجه بيديه وبوجهه ورأسه ورقبته، بل وبكليته إلى جهة السماء؛ لأن داعي الفطرة من داخله يناديه أن الله تعالى في السماء، وأنك إن توجهت إليه بالدعاء قبل الله دعاءك.
وهذا الحديث محل خلاف بين أهل العلم من المحدثين، فبعضهم يحسنه، والبعض الآخر يضعفه، كالذي بعده؛ لأنه من رواية أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، وهو أبوه، وقيل: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه إلا بعض أحاديث -أربعة أو خمسة- قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود(19/5)
أقوال السلف في استواء الله على عرشه وعلوه وفوقيته على خلقه(19/6)
قول عمر رضي الله عنه في علو الله وفوقيته
قال عمر رضي الله عنه: (والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه على مشرك ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله؛ لقتلته به).
هذا النص خفي على المحقق فقال في الحاشية: لم يتبين لي المراد من هذا القول، والمراد من هذا القول: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أن الله تعالى يقبل دعاء المؤمنين ويقبل دعاء الصالحين، فلو أن واحداً من المؤمنين توجه إلى السماء، أي: إلى الله عز وجل بالدعاء على مشرك من غير ما جريرة ارتكبها واقترفها استوجبت أن يدعو المسلم والمؤمن عليه، وقتل ذلك المشرك من جراء هذه الدعوة؛ لقتله عمر بن الخطاب؛ لأنه قتل مشركاً بغير ذنب.(19/7)
قول ابن عباس رضي الله عنهما في علو الله وفوقيته
وعن مجاهد قال: قيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون بالقدر -أي: يتكلمون فيه وينفون علم الله تبارك وتعالى بما كان وما سيكون- فقال: (يكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه)، يعني: لئن ظفرت بواحد منهم لأضربنه ضرباً مبرحاً، وعبر عنهم بأنه إذا لقي الواحد منهم أخذ شعره حتى يقطعه ولا يبقي في رأسه شعرة، قال: (إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه)، والشاهد في قول ابن عباس في الباب: إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فإن الله تعالى كان على العرش، وأهل العلم اختلفوا: هل القلم خلق أولاً أو العرش؟ لأنه قد وردت نصوص تدل على أن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، وورد أن الله تعالى قبل أن يخلق شيئاً من مخلوقاته خلق العرش؛ لأنه كان على العرش ولم يكن شيئاً.
واختلاف أهل العلم له محاضرة أخرى؛ لأن الكلام فيه والتأويل فيه طويل جداً، ويحتاج إلى صفاء ذهن في هذه الجزئية على جهة الخصوص: هل خلق العرش أولاً أو القلم؟ ولكن الراجح: أن القلم خلق أولاً، وخلق الله تعالى العرش فاستوى على العرش.
وعن عكرمة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17]، ولم يقل: سآتيهم من فوقهم.
قال ابن عباس: لم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لعلمه أن الله من فوقهم.
وعن بشر بن عمر قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال: ارتفع.
لأن استوى في لغة العرب بمعنى (علا وارتفع)، خاصة إذا قيدت بالمولى تبارك وتعالى، فاللفظ له معنى عند الإطلاق، وله معنى عند التقييد، فعند الإطلاق (استوى) بمعنى: (علا وارتفع)، وذلك عند العرب، فإنهم لا يعرفون (استوى) إلا بمعنى: (علا وارتفع)، وعند التقييد لها معان متعددة سنذكرها الآن.(19/8)
شرح قول أم سلمة في استواء الله عز وجل
وعن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
قالت: الكيف غير معقول.
أي: إذا كنا متفقين على أن (استوى) بمعنى: (علا وارتفع)، فما هي الكيفية التي استوى الله عز وجل بها على عرشه؟ هذا أمر لا يدخل في دائرة العقل قط، فهو أمر غيبي، ونحن نؤمن بوجود الله عز وجل، ولا يشك أحد في أن الله تعالى ذات موجودة، لكن لو قلنا لواحد: صف لنا الله عز وجل؛ فإنه لا يستطيع، والذي لا يستطيع أن يصف المولى تبارك وتعالى لا بد أنه سيعجز عن وصف صفاته، وعلى ذلك فإنه سيعجز كذلك عن معرفة كيفية يد الله عز وجل، وساق الله عز وجل، وعين الله عز وجل، ووجه الله عز وجل؛ وذلك لأن اليد من الصفات، والوجه من الصفات، والساق من الصفات، وكذلك الأمر في بقية الصفات.
والصفات في حق المخلوقين هي المكونة للذات، فإذا قلت لك: صف لنا محمداً أو إبراهيم أو سعداً، فإنك تستطيع أن تصفه تماماً؛ لأنك لا تستطيع أن تصف شيئاً إلا إذا كان مماثلاً لأمر أنت رأيته، فلو أني قلت لك: صف لنا إبراهيم! لقلت: إبراهيم طويل أو قصير، أو عريض أو نحيف أو سمين، ذو عينين زرقاوتين، أو أصابعه طويلة، أو أبيض أو أسود، حليم غضوب، وغير ذلك من الصفات، فأنت تصف إبراهيم بهذه الدقة؛ لأنك رأيت إبراهيم، أو رأيت من هو مثل إبراهيم، وهكذا فتستطيع أن تصف إبراهيم من خلال مثيله.
ولكن الله تبارك وتعالى ليس له مثيل، وأنت لم تر الله عز وجل، إذاً: الله تبارك وتعالى غيب عن الخلق أجمعين؛ فلا نستطيع أبداً أن نصف المولى تبارك وتعالى، نعجز عن ذلك؛ لأنه غيب، وهو لا مثيل له ولا عدل له ولا كفء له؛ ولأنه منزه عن الشريك والمثيل والضد وغير ذلك من أنواع المماثلات والمتشابهات في عالم المخلوقات، فإذا كان الله تبارك وتعالى غيباً عنا على هذا النحو الذي ذكرناه، فإما أن ننكره وإما أن نثبته، فإن أنكرناه لا بد أن ننكر ذاته؛ لأن هذه الذات هي متصفة بتلك الصفات، فإن أنكرناه كفرنا، وإن أثبتنا وجود الذات؛ لا بد أن نثبت وجود الصفات، لكن وجود الصفات يكون على نحو يليق بالذات، ونحن لا نعلم كيفية الذات.
فإذا كنت أنا أعجز عن وصف ذات الإله، فلا بد أنني سأعجز عن وصف يده وساقه ووجهه وبقية الصفات اللازمة له عز وجل، التي أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته؛ ولذلك عندما يأتي شخص ويقول لي: كيف الله؟ أقول: هذا أمر أنا لا أعقله، ولا أقدر أن أصفه، فإن قال لي: صف لي يد الله تبارك وتعالى فقط، أقول له: لا أقدر على ذلك، والذي لا يستطيع أن يتكلم في الذات لا يستطيع أن يتكلم في الصفات؛ لأن الذات والصفات أمر واحد، وصفات المولى تبارك وتعالى -كما قلنا- لازمة لذاته.
فالذي يستطيع أن يتكلم في الذات يستطيع أن يتكلم في الصفات، والصواب: أننا لا نستطيع أن نتكلم في الذات، وبالتالي يحرم علينا أن نتكلم في الصفات، ولكن علينا أن نؤمن بها كما جاءت، أليس عندنا إيمان بوجود الله من غير ما نراه ومن غير ما نمثله؟ فلماذا لا نؤمن بصفات الله من غير ما نراها ومن غير ما نمثلها ونشبهها بصفات المخلوقين؟ وهذا أمر لازم لإيمانك بالذات من غير أن تراها، فكذلك لا بد أن تؤمن بالصفات على الوجه اللائق الكامل لله عز وجل وأنت لم ترها ولا تعرف كيفيتها؛ ولذلك لما سئلت أم سلمة عن معنى الاستواء الذي هو أحد صفات المولى تبارك وتعالى قالت: الكيف غير معقول، أي: لا يدخل في دائرة عقلي قط؛ لأن عقلي قاصر وعاجز أن يكيف الاستواء لله عز وجل.
فاستواء المولى تبارك وتعالى شيء آخر يختلف عن استواء المخلوقين؛ لأن الذات تختلف عن ذوات المخلوقين، وكذلك الصفات لا بد أن تختلف عن صفات المخلوقين، فالكلام في كيفية الاستواء كالكلام في كيفية كل صفة من صفات المولى تبارك وتعالى، يمتنع ويستحيل ولا يجوز لأحد أن يمثل ولا أن يشبه، ولا أن يحرف الكلم عن مواضعه؛ فيصرف هذه الصفات عن مدلولها الذي وضعه المولى تبارك وتعالى له؛ فلا يجوز لأحد أن يقول: اليد هي القدرة، والعين هي الرعاية، والمجيء هو الأمر، وغير ذلك من صفات المولى تبارك وتعالى، بل نثبتها كما أثبتها السلف، ونمرها كما جاءت، ولا نتكلم فيها قط، ونؤمن بها على هذا النحو.
فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه هذه الآيات لم يخف عليه معناها، ولم يناقش أحد من الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام في كيفية الاستواء؛ وذلك لأنهم يعلمون أن الاستواء بمعنى العلو والارتفاع، فهذا كان أمراً مستقراً لديهم، ولذلك لم يسألوا عنه، بل لم يثبت أن واحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام سأل عن صفة واحدة لله عز وجل؛ لأنهم سكتوا عن هذه الصفات، وآمنوا بها على هذا النحو الذي وردت به ظاهراً، وعلموا المعنى؛ لأنه لا يعقل أن الله تبارك وتعالى يخاطب المخاطبين بكلام هم لا يعلمون معناه؛ ولذلك قالوا: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، يعني: معلوم لنا أن الله تعالى استوى؛ لأنه أخبر في(19/9)
شرح قول الإمام مالك في استواء الله عز وجل
الجواب الذي أجابت به أم سلمة قد أجاب به ربيعة الرأي، وأجاب به مالك كذلك، فقد جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته -يعني: ما رأيته غضب غضباً شديداً إلا عندما وجه إليه هذا السؤال- وعلاه الرحضاء، يعني: العرق، وهذا يدل على أن هذا السؤال لم يطرح في عالم السلف، وكان بالنسبة لـ مالك كصاعقة نزلت على رأسه.
قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه، فلما سري عن مالك قال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول -يعني: معلوم لدينا أنه استوى بمعنى: علا وارتفع- والإيمان به واجب على ما جاءت به النصوص من غير تأويل ولا تحريف، والسؤال عنه بدعة.
فالسؤال عن كيفية صفات المولى تبارك وتعالى بدعة؛ لأن أمرها موكول إلى الله عز وجل، فلا يحل لأحد أن يسأل عن كيفية صفات المولى عز وجل؛ لأن الذي يسأل عن كيفية الصفات لا بد أن يسأل عن كيفية الذات، فالله له وجه يليق به ليس كوجوه المخلوقين، وله ساق تليق به ليست كسوق المخلوقين، وله نفس لكن ليست كأنفس المخلوقين، وفي النهاية نعلم أن ذات المولى تبارك وتعالى تختلف عن ذوات المخلوقين؛ لأنها تابعة للخالق.
قال: والسؤال عنه بدعة؛ فإني أخاف أن تكون ضالاً، فأمر به فأخرج من المسجد.
وهنا وقفة طيبة جداً: أن من سأل عن شيء تورع عنه السلف؛ فلا بد أن يعلم أن هذا أول الطريق للضلال، خاصة إذا كان تعلقه بالمولى عز وجل بذاته أو صفاته من جهة الكيفية، لا من جهة العلم والمعنى، ألسنا دائماً نردد هذا الشعار: ما وسع السلف يسعنا؟ لكن لماذا في الأسماء والصفات لم يسعنا ما وسع السلف؟ لماذا السلف سكتوا عن تكييف صفات المولى عز وجل ونحن لا نريد أن نسكت؟ فالسلف وسعهم أن يؤمنوا ويصدقوا بهذه الأخبار التي أثبتت أن لله تبارك وتعالى صفات تليق بجلاله وكماله، لماذا نحن لا نريد أن نسكت؟ ولماذا الأمة كلها لم تسكت، وخاضت في الأسماء والصفات؟ فمنهم من عطل المولى تبارك وتعالى وحرَّف الكلم عن مواضعه، بحيث يصل بهم الحال في النهاية إلى أنه لا يوجد شيء اسمه إله متصف بصفات؛ لأن اليد عندهم هي القدرة، والعين هي الرعاية، وغير ذلك من تحريف وتأويل الصفات عن معناها اللائق بالله عز وجل؛ هؤلاء معطلة.
ولذلك إذا سألت: أين إله المعطلة؟ سيظهر عندهم أنه إله بلا ساق وبلا يد وبلا عين وبلا وجه وبلا ذات، وصدق ابن تيمية عليه رحمة الله لما قال: المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً؛ لأن الممثل والمشبه قالا: الله تعالى له يد كيدي، وله عين كعيني؛ فنصل في النهاية إلى أن ربنا عبارة عن شخص من الأشخاص، وذات من ذوات المخلوقين؛ ولذلك قال ابن تيمية: وكل ممثل يعبد صنماً؛ لأن الصنم معلوم لديه، فهذا القول من أفضل أقوال ابن تيمية: الممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً.
فالممثل والمشبه لصفات المولى تبارك وتعالى بصفات المخلوقين ينتهي إلى أن هذا الإله هو عبارة عن إنسان، والمعطل الذي أراد بزعمه أن ينزه المولى تبارك وتعالى عن منهج المجسمة والممثلة والمشبهة نفى تلك الصفات عن الله عز وجل، فأصبح عندهم في النهاية إلهاً بلا صفات، وبهذا وقعوا فيما فروا منه، وقعوا في شر لكن من نوع آخر.
وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، لا يعطلون صفات المولى تبارك وتعالى، بل يثبتونها، ولكن ليس على مذهب المثبتة الممثلة المشبهة، وإنما يؤمنون بما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله على الوجه اللائق بكماله وجلاله، فهم يفارقون المشبهة ويفارقون في الوقت نفسه الممثلة.(19/10)
شرح قول ربيعة الرأي في استواء الله عز وجل
وسئل ربيعة عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول -يعني: هو معلوم لدينا- والكيف غير معقول، لا نستطيع أن نعقله؛ لأن العقل لا يدرك إلا ما أحاط به، أما شيء غيبي فلا يدخل في مقدور العقل ولا في حدوده؛ فكيف يعقله؟ أو كيف يكيفه ذلك العقل؟ قال: الكيف غير معقول، ومن الله الرسالة -أي: الأمر بإثبات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله- وعلى الرسول البلاغ وقد بلغ، وعلينا التصديق، أي: الإيمان بما فرض الله عز وجل علينا.
وقول مالك: فإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به -أي: السائل- فأخرج من المسجد؛ هذا يدل على أن كل منحرف عن معتقد السلف ينبغي ألا يجالس؛ لأن مجالس السلف فيها عامة الناس وفيها خاصتهم، وأما الخاصة فلا يخشى عليهم، لكن الخشية كل الخشية أن تفسد عقائد عامة الناس، ولذلك كل مبتدع ضال -خاصة في مسائل الاعتقاد- ينبغي أن يعزل عن مجالس أهل الخير إذا علم عناده وجحوده، أما إذا أتى طالباً للعلم وطالباً للهدى ومنقاداً لأهل العلم من سلف هذه الأمة وممن سار على منهجهم وأخذ من منبعهم؛ فلا شك أن جلوسه هنا مستحب بل واجب عليه.(19/11)
شرح قول ابن الأعرابي في استواء الله عز وجل
وعن داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل.
انظر إلى الجواب كأنه فسر الماء بالماء، لو قلنا: صف لنا الماء، ستقول: الماء هو الماء، ولا يوجد تفسير أسهل من هذا، والسلف كانوا يفسرون الماء بالماء.
فقال له: ما معنى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ قال: معناه: أنه على عرشه كما أخبر.
إجابة مريحة لكن لمن أراد أن يرتاح، فقال له: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى.
إذا كنا نفسر قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بمعنى: استولى، فمن هذا الذي كان ينازع الله تبارك وتعالى على العرش فغلبه واستولى على العرش؟! وهذا من لازم التأويل، إذا كنت تقول: إن (استوى) بمعنى: (استولى) فلا بد أن يكون قد حصل هناك مغالبة بين الله وبين غيره، وكان هذا العرش بينهما، أو كان هذا العرش مع غير الله، وأن الله استولى على ذلك الغير وضربه وهزأه ثم أخذ منه العرش، هل يعقل أن يكون هذا تفسيراً؟ وهل هناك مجنون -فضلاً عن عاقل- يقبل هذا التفسير في حق المولى عز وجل؟! إذاً: (استوى) بمعنى: (علا وارتفع) لكن لو قلت: استوى بمعنى: استولى في حق المولى عز وجل؛ فهذا يدل على أن المغالبة كانت بين الله وبين غيره، ولكن في النهاية كتب النصر لله عز وجل، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فقال: يا أبا عبد الله! ليس هذا معناه -أي: ليس معناه: علا وارتفع- إنما معناه: استولى.
قال ابن الأعرابي: اسكت، ما أنت وهذا، لا يقال -يعني: لا يقال: (استوى) بمعنى: (استولى) - استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى، أما سمعت النابغة يقول: ألا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد ففي حق المخلوقين لا بأس، لكن في حق الخالق لا.
وقال أبو بكر محمد بن أحمد بن النضر: كان أبو عبد الله بن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل -يعني: يقيمه ويتعلم فيه- وذكر لنا أن ابن أبي داود سأله: أتعرف باللغة استوى بمعنى استولى؟ وكان ابن الأعرابي لغوياًّ ومحدثاً وفقيهاً، فقال: لا أعرف، إنما استوى بمعنى: علا وارتفع.
وقال ثعلب -أي: أبو العباس -: استوى: أقبل عليه وإن لم يكن معوجاً.
وهذا أحد المعاني، (ثم استوى إلى السماء)، أي: أقبل إلى السماء، واستوى على العرش بمعنى: علا، واستوى وجهه: اتصل، واستوى القمر: امتلأ، واستوى زيد وعمر: تشابها، واستوى فعلاهما وإن لم تتشابه شخوصهما، هذا معنى استوى في اللغة، واختار من بينها استوى على العرش، بمعنى: علا، فإذا صرف الاستواء لغير الله عز وجل كانت له معانٍ أخرى، أما إذا قيد بالرحمن فإن الاستواء يكون بمعنى: العلو والارتفاع، هذا الذي يعرف من كلام العرب.(19/12)
شرح تفسير مقاتل لقوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم)
قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، يعني: لو تناجى ثلاثة أو أربعة أو خمسة؛ إلا كان الله تعالى معهم أينما كانوا، حتى وإن أخفوا كلامهم.
أتت امرأة تشتكي زوجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة الظهار، تقول عائشة: فدخلت المرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، وكنت في زاوية منها، والمرأة تجادل النبي عليه الصلاة والسلام في أمر زوجها الذي قال: أنت علي كظهر أمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتظري حتى يأتينا الوحي).
فانتظرت المرأة فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]، تقول عائشة لما نزلت هذه الآية: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! مع أنها نجوى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين تلك المرأة إلا أن الله سمع ذلك؛ ولذا قالت عائشة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! ما من شيء صغير ولا كبير، غيب ولا شهادة إلا الله يعلمه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم).
فالله تبارك وتعالى مستو بذاته على عرشه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] بسمعه وعلمه وإحاطته وبصره ورعايته وغير ذلك من بقية صفات المولى تبارك وتعالى اللازمة لعلمه وسمعه وبصره وإحاطته بالخلق.
قال مقاتل في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، قال: هو على العرش ولن يخلو شيء من علمه.
قوله: (هو على العرش) أي: بذاته، وكلمة (بذاته) لم يتعرض السلف لها ولم يذكروها؛ لأنها معلومة لديهم، فلم يذكروها إلا بعد أن تكلم الخلف المبتدعون في الذات الإلهية، وقالوا: إن الله تعالى مع كل خلقه بذاته.
يعني: لو أنا دخلت الحمام، أو دخلت الحوش، أو دخلت الأماكن النجسة فإن ذات الله تبارك وتعالى موجودة معي في هذه الأماكن القذرة والنجسة؟! تنزه الله عن ذلك! فالصحيح: أنني لو صنعت في الحمام صنيعاً أحاسب عليه، فإن الله يعلمه ويراه ويسمعه.
إذاً: الله تعالى مع خلقه بعلمه وسمعه، أما ذاته العلية فإن الله تبارك وتعالى قد استوى على عرشه، وقد تحرج السلف من كلمة الذات؛ لأنها لم تكن على لسان النبي عليه الصلاة والسلام ولا على لسان أصحابه، فلم يذكروها، والسلف كانوا يتحرجون أشد الحرج من الحق ما لم يتكلم به من قبلهم.
وكلمة الذات حق، ولكن لكونها لم ترد عن السلف؛ فإنهم تورعوا عن ذكرها، مثال ذلك: في قصة خلق القرآن، فإن السلف يقولون: القرآن كلام الله، ولم يقولوا يوماً: مخلوق ولا غير مخلوق؛ لاعتقادهم أنه غير مخلوق، لكن لا يلزم بهذا المعتقد التصريح به، ولما وقع المعتزلة فيما وقعوا وقالوا: هو مخلوق؛ اضطر أحمد بن حنبل ومن معه أن يقولوا: هو غير مخلوق، فكلمة (غير مخلوق) هذه تحرج بعض السلف من ذكرها ونطقها وإطلاقها؛ لأنها لم تأت على لسان الصحابة والتابعين.
لكن في مقابلة أهل البدع وذكرهم لهذا صراحة صرح السلف رضي الله تعالى عنهم بأقوال يكرهونها، لا لأنها الحق، وإنما لأنها لم ترد على لسان السلف، فكذلك لم نجد واحداً من الصحابة يقول: استوى الرحمن على العرش بذاته، وإنما هو علم من نفسه وآمن وصدق بأن الرحمن استوى على العرش، أما كلمة (بغير ذاته) فلم يخض فيها السلف، وإنما خاض فيها الخلف، إذ قالوا: الله معنا في كل مكان بذاته، فالسلف اضطروا إلى التصريح، قالوا: أنتم تقولون: الله معنا بذاته، ولو كان الصحابة يقولون ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يقوله؛ فهذا أمر آخر، أما أن تقولوا شيئاً لم يقله الصحابة: إنه معنا بذاته، فالله تعالى عن ذلك، ونحن سنتعرض للذات، ونقول: إن الذات العلية في السماء على العرش، وأما المعية لله عز وجل فإنها معية علم وسمع.
ولذلك قال: هو على العرش، ولن يخلو شيء من علمه، ولم يقل: من ذاته، يعني: هو على العرش بذاته، وليس شيء يخلو من علمه، يعني: هو معنا بعلمه، وأما ذاته العلية فهي فوق العرش.(19/13)
قول سليمان التيمي في علو الله وفوقيته
وقال سليمان التيمي -وهو من أئمة السلف-: لو سئلت: أين الله تبارك وتعالى؟ لقلت: في السماء.
من هذا القول نعلم أن السلف لم يدخلوا في هذه التعقيدات التي دخل فيها الخلف، إنك عندما تقرأ مثلاً: كتاب مقالات الإسلاميين لـ أبي الحسن الأشعري، أو كتاباً من كتب الخلف عموماً -وأبو الحسن سلفي؛ لأنه قد ثبتت سلفيته- لوجدت أمراً صعباً شديداً جداً على العقل وتخشى أن تقبله، فهناك كلام في المقالات مثل الطلاسم، تقول: هذا الكتاب أشبه بالسحر؛ لأن العقيدة أخفى وأدق من ذلك، وهناك كثير من طلبة العلم يقولون: أشق الدروس على نفوسنا وعقولنا دروس العقيدة؛ لدخول المحاضر في تلك التعقيدات الخلفية التي أتى بها الخلف، وأنها أشبه بالكلام الذي لا معنى له، وكأنها سفسطة وخوض في الباطل.
قال التيمي: لو سئلت: أين الله تبارك وتعالى؟ لقلت: في السماء، فإن قال -أي: السائل-: فأين عرشه قبل أن يخلق في السماء؟ قلت: على الماء، فإن قال لي: أين كان عرشه قبل أن يخلق الماء؟ قلت: لا أدري.
وأنا لست مطالباً أن أستمر معك في هذه الأسئلة، لا بد أن تؤمن كإيماني، وأنا لست مكلفاً بذلك، أعطني نصاً من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام يقول بوجوب التسلسل مع هذا السائل.
لا يوجد؛ لذلك قال: لا أدري، وهذا كلام جميل، واعتقاد سليم، وهو من أئمة السلف، ومع هذا يقول في أمر من أمور الاعتقاد: لا أدري؛ لأنه غير مكلف بذلك.(19/14)
أقوال سفيان الثوري وعبد الله بن نافع وأحمد بن حنبل في علو الله وفوقيته
وقال سفيان الثوري في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، قال: علمه، أي: علمه معكم أينما كنتم.
وعبد الله بن نافع يقول: ملك الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء.
وقال يوسف بن موسى البغدادي: قيل لـ أبي عبد الله أحمد بن حنبل: الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه في كل مكان؟ قال أحمد: نعم، على العرش، وعلمه لا يخلو منه مكان.
وفي رواية حنبل أن أحمد سئل عن قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7].
انظر! يحتجون بظاهر القرآن الذي هو في ظاهره تعارض، قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فيقولون: هذا فوق وهذا تحت، أليس فيه تعارض؟ فأجاب أحمد بأن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، يعني: بعلمه، أما ذاته العلية فهي فوق.
قال: علمه، عالم بالغيب والشهادة، علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد.
أليس العرش مخلوقاً، والكرسي وسع السماوات والأرض، وهو أكبر من العرش، لكنه على أية حال في النهاية هو كالسقف الذي أظل الخلق أجمعين، وله حد.
والله تبارك وتعالى باعتباره على العرش له صفة يعلمها هو سبحانه، لكن لا يعلمها أحد من خلقه، لكن ليس له حد سبحانه، إذا كان الذي يتكلم في حد الله عز وجل يريد أن لله ذاتاً فإننا نؤمن أن الله تبارك وتعالى ذات متصف بالصفات ونوافقه على ذلك، أما إذا كان يريد أن الله تعالى محدود يميناً ويساراً، وفي الأمام والخلف، وطولاً وعرضاً؛ فإننا نقول: هذا كفر بواح.
قال: وربنا على العرش بلا حد ولا صفة، وسع كرسيه السماوات والأرض بعلمه.(19/15)
قول محمد بن جعفر في استواء الله على عرشه
وسئل محمد بن جعفر عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال: من زعم أن الله استوى على العرش استواء مخلوق على مخلوق فقد كفر، ومن اعتقد أن الله استوى على العرش استواء خالق على مخلوق فهو مؤمن.
وهو بهذا يريد أن يقول: إن استواء الخلق غير استواء المخلوق، فإذا اعتقدت أن الله استوى استواء يليق به؛ فأنت مؤمن، وإذا اعتقدت أن الله يستوي كاستوائك أنت؛ فأنت كافر، والذي ينبغي في هذا أن يقال: إن الله استوى على العرش من غير تكييف، يعني: عندما يقال: كيف استواؤه؟ أقول: لا أعلم، هذا علمه لله عز وجل.(19/16)
الجمع بين قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) وبين أن الله مستو على العرش
هنا سؤال مهم، والجواب عليه إما أن يكون بالنقل والسمع، وإما أن يكون بالعقل: معية الله تبارك وتعالى لخلقه في الوقت الذي نثبت فيه العلو والارتفاع هل بينهما تناقض؟ كيف تجمع بين أن الله على العرش وهو كما في الآية: {مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]؟ فإنك إن لم يكن عندك علم تقف، وبعد هذا التوقف تشك، والشك في ذات الله تبارك وتعالى وفي صفاته كفر، فهل بين العلو والمعية تناقض؟
الجواب
ليس بينهما تناقض لأول وهلة، حتى لو لم تكن تعرف الجواب، فلعلمك أن هذا ورد في الكتاب تحكم بعدم التناقض؛ لأنه {لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فهذا كلام الله عز وجل الذي لا يخطئ قط، ولا يجوز عليه الخطأ، بل هو مستحيل في حقه تبارك وتعالى، فما دام هذا كلامه فلا بد من الجمع والتأويل بما يتناسب مع كمال الله وجلاله، أما من قال بالتعارض والتناقص في حق الله عز وجل فهو كافر.(19/17)
ما ورد في القرآن ليس فيه تناقض
الوجه الأول من أوجه
الجواب
أن الله جمع بينهما حين وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله تعالى به نفسه، يعني: يكفي أنهما في القرآن قد وردا، فلا يوجد بينهما تناقض؛ لأن الله عز وجل قال هذا، وهذا إيمان مطلق، ما دام ربنا قال هذا، وما دام النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا فالكلام صحيح، كقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (يد الله على الجماعة)، وفي رواية: (يد الله مع الجماعة)، معنى هذا الكلام: أنه عندما أجتمع معك على البر والتقوى فربنا معنا ومؤيدنا وناصرنا ومعيننا، لكن (يد الله على الجماعة) أو (مع الجماعة) عجزت بعض العقول أن تفهم هذا المعنى، فقالوا: لا، اليد هنا ليس المقصود بها اليد الحقيقية لله عز وجل، إنما المقصود بها: النصرة والتأييد والإعانة والتثبيت، كيف ذلك والله تعالى قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]؟ فلو كانت اليد بمعنى القوة فهذا صرف للصفة عن مدلولها الحقيقي، وكأنك تقول: إنه ليس لله يد، ولو كانت اليد بمعنى القدرة فأنت تنفي أن تكون لله يد؛ لأنك أولت، بل حرفت النص عن ظاهره بما ينتج عنه تعطيل المولى عز وجل عن إحدى صفاته وهي صفة اليد.
فالقول الصحيح في تفسير قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]: فوقية يد الله فوق أيدي الجماعة المؤمنة لا يعلم كيفيتها إلا الله، وهذه قاعدة أخذناها في الدرس الماضي: أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في بقية الصفات، والكلام في الصفات كالكلام في الذات.(19/18)
عدم وجود تعارض بين العلو والمعية
كذلك عندما تمشي في الصحراء ليلاً فإنك تجد القمر معك وهو في السماء معك، فتقول: أنا كنت ماشياً في الصحراء والقمر يمشي معي، لكن المعية هذه تشير إلى أن القمر كان ماشياً بجانبك، فهل كان القمر يمشي بجانبك؟ كذلك لو قال شخص: كنت أمشي في صحراء مكة والشمس تسير معي، فهل سارت الشمس معه؟ والشمس كانت معه بالفعل، فالشمس معي بضوئها، والقمر كذلك معي بضوئه ونوره، فالقمر في السماء بينك وبينه ملايين الأميال، ومع هذا أنت جوزت لنفسك أن تقول: القمر معي، والشمس معي، والنجوم معي، وغير ذلك من المخلوقات.
كذلك السماء فوق الأرض، فعندما أقول: السماء فوق الأرض، هل يلزم من ذلك أن السماء ملاصقة للأرض مماسة لها؟ فكلمة (فوق) عند الإطلاق ولأول وهلة تعني المماسة والالتصاق، فقولي: السماء فوق الأرض، يعني: أن السماء قد التصقت وماست الأرض، وهذا الكلام في الواقع غير صحيح؛ لأن بين السماء الدنيا وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام، هذه السماء الدنيا تبعد عن الأرض بنحو خمسمائة عام للراكب المسرع، بل قال بعضهم: بسرعة الضوء، وسمك السماء الواحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام حتى السماء السابعة.
خمسمائة عام في (13) أو في (14)، وفوق السماء السابعة بحر، وهو الماء المعبر عنه بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] فالماء ليس هو الساحل الأحمر أو الأبيض، بل الماء الذي فوق السماء السابعة، عمقه مسيرة خمسمائة عام، وفوق هذا الماء العرش، وفوق العرش الكرسي، والله تعالى استوى على العرش، انظر إلى علو الله تبارك وتعالى على هذه المخلوقات جميعاً بهذه الأبعاد الفلكية الخطيرة التي لا يمكن إحصاؤها، ثم بعد ذلك هو مع خلقه بعلمه وسمعه يرى مكانهم ويسمع كلامهم، ويجازيهم على الإحسان إحساناً، ويقدر لهم خيراً أو شراً على ما صنعوه من شر؛ إما أن يؤاخذ به، وإما أن يعفو عنه.
إذاً: الوجه الثاني في الجمع بين معية الله تبارك وتعالى وفوقيته: أنه ليس بين العلو والمعية تعارض، إذ من الممكن أن يكون الشيء عالياً وهو معك، مثلما ذكرنا في القمر والشمس وغيرها.
أرأيت لو أن إنساناً على جبل عال وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان بعيد في المعركة وأنا معكم، فمعيته هنا ليست ببدنه، ولكنهم أرادوا أن يثبتوا ذلك من باب المجاز، فقد يقول أمير الجيش للجيش: اذهبوا قاتلوا العدو الفلاني وأنا معكم، ووضع نفسه أو التف على قمة الجبل، ووضع المنظار على عينيه، وهو يرى الجيش رغم المسافات البعيدة بينه وبين الجيش إلا أنه يرى أحوال الجيش، وفي الحقيقة هو ليس معهم إلا بمجرد المنظار، فإذا كان هذا القائد يقول لجنوده: أنا معكم رغم هذا البعد وهو مخلوق، فما بالكم بالخالق تبارك وتعالى؟(19/19)
تعذر اجتماع العلو والمعية في حق المخلوق لا يعني تعذر اجتماعهما في حق الخالق
الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق لم يكن متعذراً في حق الخالق؛ للكلام الذي قلناه في الدرس الماضي: أن نظام الأقيسة والجاذبية الأرضية التي يتعامل بها الناس في حياتهم لا يمكن أن تنطبق على الله، ولا أن يخضع لها المولى عز وجل؛ لأنها مقاييس ضعيفة وهزيلة تتناسب مع ضعفنا.
أما المولى تبارك وتعالى القوي الواحد المتفرد الصمد الذي تلجأ إليه جميع المخلوقات، ولا يلجأ هو لأحد، هو الغني عن الخلق، والخلق كلهم فقراء، غنيهم وفقيرهم فقير إلى الله تبارك وتعالى، فإذا كان اجتماع المعية والعلو والارتفاع في حق المخلوقين مستحيل، أو غير ممكن، فإنه ممكن في حق المولى تبارك وتعالى؛ لأن البشر تحكمهم المقاييس، هذه المقاييس والمعايير لا يمكن أن تحكم على الصفات الإلهية؛ لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين في ضوء التباين بين الخالق والخلق.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول في السفر: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل)، يعني: أنت معي في سفري، وأنت معي في أهلي، وأنت خليفتي في أهلي، يعني: أنا يا رب! قد استخلفتك على أهلي أن تحفظهم وترعاهم، وهذا الفهم الذي في عقولنا إنما يتناسب مع المخلوق.
لو قلت لك: يا أخي! ستسافر معي؟ فتقول أنت: أنا موافق، فأقول لك: بشرط أن تخلفني في أهلي؛ فإنك ستقول: أنت مخطئ هل سأقسم نفسي نصفين؟ فإما أن آتي معك وإما أن أخلفك في أهلك، اختر واحدة من اثنتين؛ لأن قدرتي لا تتسع للأمرين، لكن قدرة المولى تبارك وتعالى فوق ذلك بكثير، فهو القدير وهو القادر تبارك وتعالى، فإنه يصحب كل من يسافر، والأمة كلهم مسافرون وحاضرون، والله تبارك وتعالى معهم جميعاً في الحضر والسفر.
قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) فجمع بين كونه صاحباً له في السفر، وخليفة له أيضاً في أهله.
وفي الحديث القدسي العظيم في سورة الفاتحة: (إذا قال العبد أو المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الرب: حمدني عبدي)، فكم من الناس يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]؟ ملايين، مع أن لكل واحد من الله عز وجل جواباً على حده؛ لأن الله تبارك وتعالى ساق في هذا الحديث الجواب بصيغة الفرد: (إذا قال عبدي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله تبارك وتعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي)، والثاني يقول: الحمد لله، وفي نفس الوقت تلقى آخر في مكان آخر بل في نفس المسجد يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:4 - 6]، ولكل واحد منهم جواب.
فالله تبارك وتعالى يجيبه، فلو قلت لك: أنا وأدهم مثلاً سنقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، على نَفَس واحد، وسنقرأ الفاتحة كلها، وأنت تقول: حمد أدهم وحمد حسن، ومجد أدهم ومجد حسن، فهذا ليس في قدرتك، لكن المولى تبارك وتعالى عليم بما يقول العباد حتى وإن أسروا في أنفسهم، بل هو أسهل من السهولة عليه تبارك وتعالى أن يرد على كل واحد وإن تعددت أقاويل المتكلمين، ويجيب كل واحد بما يتناسب مع سؤاله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2]، حمدني عبدي، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3 - 4]، والمولى تبارك وتعالى يجيب على جميع الخلائق؛ لأن هذا في قدرته، وإذا كان هذا في مقدور الخالق تبارك وتعالى؛ فلا بد أن تقر أن المقاييس التي تحكمني أنا ليست هي المقاييس التي تحكم كلام الباري تبارك وتعالى.
فلما أقول: إن الله تبارك وتعالى في السماء وهو معنا، لا بد أن تؤمن بذلك؛ لأنه في مقدوره تبارك وتعالى أن يكون معنا، فعندما أسألك عن أخيك مثلاً تقول: هذا يا أخي! مسافر في المنصورة، لي (10) سنوات منه ولا أعرف عنه شيئاً، لكن الله تبارك وتعالى يعلم عنه كل شيء، ويعلم عنك وأنت هنا كل شيء، ويعلم جميع الخلائق على بعد أوطانهم، وعلى اختلاف ألوانهم وألسنتهم وقلوبهم، يعلم كل شيء، عالم الغيب والشهادة لا يعزب عن علمه شيء يعلم كل ذرة وكل دقيقة؛ لأنه عليم وعلاَّم -صيغة مبالغة- أي: لا يخفى عليه شيء مهما حاول أحد من المخلوقين أن يخفى عن الناس؛ فإنه لا يخفى على الله عز وجل؛ لأنه عالم الغيب وعالم الشهادة.
وقد ثبت في السنة أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يدعون الله تبارك وتعالى بصوت عالٍ جداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)، يعني: ادعوا بصوت هادي، فالله يعلم كل هذا ويشاهده؛ لأنه(19/20)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة السمع لله عز وجل
أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وسط بين المجسمة والمعطلة، فهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تبديل ولا تأويل، سواء في صفات الذات كالسمع والبصر، أو صفات الأفعال كالمجيء والاستواء، وغيرها.(20/1)
سياق ما دل من الكتاب والسنة في أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما دل من كتاب الله، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم].
وهذا في باب الأسماء والصفات للمولى عز وجل، وهو من أعظم الأبواب ومن أخطرها، فيجب أن يكون الكلام في هذا الباب في غاية الأهمية، خاصة وأن الذات الإلهية غيب عنا، فإذا كان الأمر كذلك، فهذا يستلزم أن صفاته كذلك غيبٌ عنا، فلا نستطيع أبداً أن نجزم باسم لله عز وجل، أو بصفة من صفاته إلا عن طريق السمع والخبر، فأنا أستطيع أن أصفك لأني أراك، والمولى تبارك وتعالى ليس كذلك؛ لأنه لا يراه أحد في الدنيا، ولو كان يراه أحد لرآه موسى عليه السلام حينما طلب من ربه أن يراه، فقال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143].
فالله تبارك وتعالى لم يحقق هذه الرغبة لموسى عليه الصلاة والسلام، ولكنه قال: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولكن الجبل لم يستقر.
فرؤية المولى تبارك وتعالى في الدنيا مستحيلة وغير ممكنة ألبتة، لا نقول إلا أن يشاء الله فلو شاء الله أي شيء كان، ولكن الله تعالى قضى ألا يراه أحد في الدنيا على خلاف الآخرة؛ فإن المؤمنين يرونه رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، بخلاف الكافرين فإن الله تعالى يحجب ذاته ونفسه عن الكافرين عقوبة لهم.
الشاهد من هذا الكلام: إذا كان الله تعالى غيب عنا فلا نعرف أوصافه، ولا أسماءه، وفي المقابل نقول: إن الله تعالى أرسل رسوله، وأنزل معه الكتاب، وأخبرنا في هذا الكتاب أن له أسماء وصفات، فإذا كنا نؤمن بهذا الكتاب، فلابد وأن نؤمن بأن لله أسماء وصفات، والله تبارك وتعالى فرق بين الأسماء والصفات.
فقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] أثبت في هذه الآية اسمين: السميع والعليم، فلابد وأن نثبت أن لله هذين الاسمين.
وقال الله تعالى لموسى وهارن: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
والله تبارك وتعالى يسمع بسمع، ويبصر ببصر، ويعلم بعلم، ويقدر بقدرة، وهو رحيم برحمة، وقوي بقوة، فهذه الأسماء اشتقت منها الصفات مع أن الصفات ثابتة، فضلاً عن جواز اشتقاق الصفة من الاسم، إلا أن الله عز وجل أثبت بالنص أن له صفات بخلاف الأسماء ولكنها تتناسب مع الأسماء؛ لأنه هو السميع وهو يسمع، وهو البصير ويبصر، وهو العليم ويعلم.
هذا الكلام أجمعت عليه الأمة إلا المعتزلة، وقليل من الجهمية، قالوا: إن الله تعالى يسمع بغير سمع، ويبصر بغير بصر، ويعلم بلا علم، ويرحم بلا رحمة؛ لأنه عليم بذاته، بصير بذاته، رحيم بذاته.
أرادوا من ذلك إثبات الأسماء ونفي الصفات.
ولكن أهل السنة والجماعة اتخذوا قاعدة في أسماء الله تعالى وصفاته، هذه القاعدة لا يضل من تمسك بها، بل يضل من خالفها وجعلها وراء ظهره، وهي: (أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية).
ومعنى توقيفية: أي: ما أوقفه الشرع، فمثلاً: صلاة الظهر أربع ركعات فقط، بلا زيادة ولا نقصان، فالله تعالى قد شرع وأذن وفرض ألا يصلى الظهر متعمداً أكثر من أربع ولا أنقص منها إلا في حال القصر وهو تشريع بنص.(20/2)
بيان أن صفات الله وأسماءه توقيفية
إذاً: معنى أن أسماء الله وصفاته توقيفية هو أنني لا أثبت لله تعالى إلا ما أثبته لنفسه من غير زيادة ولا نقصان، فمثلاً: الله عز وجل هو المنعم حقاً على جميع العباد، ولا يوجد نص يثبت أن الله تعالى اسمه المنعم، فلا يجوز لي أبداً أن أسمي الله تعالى المنعم، وإن كان الإنعام من صفات الكمال، وهي ثابتة من هذا الوجه لله عز وجل، لأنه لا ينعم غيره، ولذلك قال الله تعالى في قصة زيد بن حارثة والنبي عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، فالله تعالى هو المنعم والمتفضل والرزاق، ولكن القضية في إثبات الاسم من عدمه، هل يجوز لي أن أتبجح بذكر اسم لله تعالى لم يثبته تعالى لنفسه؟
الجواب
لا.
حتى وإن كان هذا الاسم جميلاً ومعناه حسناً، فهذا شيء، وإثباته لله تبارك وتعالى شيء آخر.
فمهما كان الاسم جميلاً إذا كان الله تعالى لم يثبته لنفسه في الكتاب، ولم يثبته له رسوله في السنة الصحيحة فلا يجوز لأحد أن يجتهد في إثبات ذلك لله عز وجل.(20/3)
بيان أن اسم (الستار) ليس من أسماء الله تعالى
الناس يعتقدون أن من أسماء الله تعالى (الستار)، وليس في كتاب ولا في سنة رسوله عليه الصلاة والسلام هذا الاسم، فنسبة هذا الاسم لله عز وجل تقول وافتراء على الله بغير علم؛ لأن الله تعالى أعلم بذاته، وبما تستحقه ذاته العلية من الأسماء والصفات، فإذا كان الله تعالى لم يسم نفسه بهذا الاسم، فلا يجوز لأحد أن يسمي الله تعالى به.
والستر يحبه الله عز وجل، ولم يسم نفسه به، وإنما وصف نفسه به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي ستير، يحب الحياء والستر).
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: (من ستر مسلماً في الدنيا ستره الله يوم القيامة).
فستر الله تبارك وتعالى على عباده من صفاته سبحانه وليس من أسمائه، وإذا كان الله تعالى متصفاً بالستر، فلا يجوز أن يسمى الستار، وهذا خطأ واشتقاق على غير منهج السلف؛ لأن منهج السلف في قضية الأسماء والصفات هو التوقف عند النص، فهم لا يثبتون اسماً زائداً على النص ولا ناقصاً عنه، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة).
أي: من علمها وحفظها وعمل بمقتضاها دخل الجنة.
وفي حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك).
فهذا الحديث يبين أن الله تبارك وتعالى له أسماء، منها: ما اختص الله عز وجل نفسه بعلمه ولم يطلع أحداً عليه.
وقوله: (أو علمته أحداً من خلقك).
أي: من الأنبياء، وهذا فيه رد على صناديد الصوفية الذين يدعون دائماً أنهم يعلمون اسم الله الأعظم، وأن الله تعالى أوحى إليهم وأطلعهم على اسمه الأعظم، وهذا افتراء عظيم على الله عز وجل؛ لأن الأنبياء أحق بذلك، ومع هذا لم يدع نبي من أنبياء الله ولا رسول من رسله أنه يعلم الاسم الأعظم.
وقوله: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، أي: حجبته عن خلقك أجمعين أنبياء وغير أنبياء، فإذا كان الله تبارك وتعالى له أسماء قد حجبها عن الخلق أجمعين ومنهم الأنبياء فلا يجوز لعامة المسلمين والمؤمنين أن ينسبوا أسماء لله تبارك وتعالى لم يصرح المولى عز وجل بها في كتابه، ولا على لسان رسوله، ولا أطلع أحداً من الخلق أجمعين بما فيهم الأنبياء والمرسلين على هذه الأسماء.
والله تعالى إذا أثبت لنفسه اسماً وصفة فلا يجوز لأحد من الخلق إثبات الاسم ونفي الصفة، أو إثبات الصفة ونفي الاسم، وإنما نتوقف فيما أوقفنا الله تعالى عليه سواءً كان ذلك في باب الأسماء أو في باب الصفات، ولذلك عقد الإمام هذا الفصل والذي بعده لإثبات هذه القضية فقال: [سياق ما دل في كتاب الله، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله عالم بعلم].
فهذان اسم وصفة.(20/4)
بيان أن الله عالم بعلم وأن علمه غير مخلوق
قال: [وأن علمه غير مخلوق].
ليرد على القدرية الذين نفوا علم الله تبارك وتعالى الأزلي السابق؛ لأنهم قالوا: إن الله تعالى لم يكن عالماً، ثم علم بعد ذلك، وبعد أن علم خلق الخلق.
فقولهم: (إن الله لم يكن عالماً فصار عالماً).
هذا نقص.
وكذلك قولهم: (لم يكن سميعاً فصار سميعاً)، فالكلام في اسم واحد أو في صفة واحدة كالكلام في جميع الأسماء والصفات، ولا يجوز لأحد أن يقول: إن الله عالم بغير علم، ولكنه سميع بسمع.
وخلافه تخبط وخبل؛ لأن الكلام في الأسماء والصفات كلها شيء واحد في جهة الإثبات، أو في جهة النفي، فإذا كان في الكمال فهو كلام في الإثبات، وإذا كان في النقص فهو كلام في النقص، لأن الله تعالى متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص.
إذاً: قوله: [إن الله عالم بعلم، وأن علمه غير مخلوق] فيه قضيتين: القضية الأولى: أن الله عالم بعلم.
أي: إثبات الاسم والصفة في وقت واحد.
والثانية: أن علمه غير مخلوق.
قال: [قال الله عز وجل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7].
وقال: {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].
وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255].
وقال: {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166].
وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود:14].
وقال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11].
وروى ذلك من الصحابة ابن عباس وبه قال من العلماء: الشافعي وأحمد، وإسحاق، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، وأحمد بن سنان الواسطي].
قال: [عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق علم الله في خلقه فهم صائرون إليه)]، وإن كان الحديث ضعيفاً إلا أنه يشهد له عدة آثار في ذلك.
ومعنى ذلك: أن علم الله تعالى سابق عن الخلق، ولذلك جاء في صحيح مسلم وغيره أن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، فهل يصح في المعقول والمنصوص أن يصدر هذا من غير عالم؟ إن الواحد منا يتصف بالعلم وبالجهل، وأن علمنا حادث؛ لأن المرء يولد جاهلاً، ثم يتعلم شيئاً فشيئاً، وربما تقدم على الشيء وأنت تجهل ماهيته وحقيقته، وكيف يعمل وكيف ينتج وكيف يسير، ثم تتعلم بعد ذلك.
كما لو أنك اشتريت سيارة أو مكينة أو شيئاً من الأشياء وأنت لا تستطيع أن تتعامل معه؛ لأنك جاهل بحقيقة هذا الشيء، ثم تأتي بمعلم ليعلمك على هذا الجهاز أو غيره، ثم بعد أن تتعلم تصير عالماً بهذا الجهاز؟ لأن الله تعالى خلق فيك العلم بعد أن كنت جاهلاً.
أما الله عز وجل فلا يوصف بأنه لم يكن عالماً فصار عالماً، فأما علمي فإنه على قدر بشريتي أعلم شيئاً وأجهل أشياء، وعلمي لهذا الشيء الذي أنا تعلمته وعلمته إنما هو علم حادث.
ومعنى أنه حادث: أنه مخلوق.
وأما علم الله تبارك وتعالى فإنه علم شامل محيط بجميع الخلائق، فهو يعلم تبارك وتعالى ذاته ويعلم أسماءه، ويعلم صفاته كما أنه يعلم كل شيء من خلقه أجمعين.
وأما أنت فعلمك على قدر ما تحتاج وربما أقل مما تحتاج، فلم يدع أحد من الخلق أنه أحاط بكل شيء علماً، أو ادعى صفة من صفات الربوبية إلا أن يكون فرعون، والله تعالى قد كذبه وأهلكه، ولو كان إلهاً كيف يتسنى له أن يموت، مع أن الحياة والقيومية صفتان ذاتيتان لازمتان لله، ولذلك ورد في الأثر: أن امرأة طرقت الباب على فرعون فقال لها: من؟ فقالت وهي بالباب: بئس الإله الذي لا يعرف من في الباب.
أي: أتزعم أنك إله ولا ترى من خلف الباب فكيف ترى الكون؟ ولا ينازع أحد في أن الله تعالى يرى كل كبيرة وصغيرة في الكون، فعلمه محيط، ولو تفكرت في علم الله لوجدت عجباً.
إن الله تعالى يعلم ما في جوفك وما في ظاهرك، وما في جوف الآخرين وظواهرهم، بل وما في جوف السماوات السبع والأرضين السبع وما في ظاهرها، وإن الله تعالى يعلم الموجود، وإن الله تعالى يعلم الغيب ويعلم الشهادة، فعلمه محيط بكل شيء، علم عام وشامل، أما علم المرء فإنه علم قاصر ضعيف حتى في أخص خصوصيات عملك واختصاصك فكثيراً ما تقابل أشياء من صميم عملك فتقول: أنا ما تعلمت هذه القضية، وأنا أجهلها.
إذاً: علم الله تعالى علم لا يقاس به علم، وكذلك سمع الله لا يقاس به سمع، لأنه يسمع كل شيء مهما دق وخفي، فأنت ربما تحدث نفسك بأشياء ومعك جارك أو صديقك أو صاحبك، وربما يقول لك صاحبك: فيم تفكر يا فلان؟ الذي يفكر فيه ذلك المرء يعلمه الله تبارك وتعالى، ويعلم ما هو صائر إليه، ونتيجة هذا التفكير الذي لا يعلمه العبد إنما يعلمه الله؛ فإن الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض وقبل أن يخلق هذا العبد علم أن عبده فلان(20/5)
إثبات أن صفة العلم صفة ذات أزلية لله تعالى
قال: [عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل عند المريض وكان في علم الله ألا يموت في مرضه ذلك: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفاه الله)].
والشاهد من هذا الحديث: إذا قال الرجل عند مريض في زيارة مرضه: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك شفاه الله تعالى) إذا دعا بها سبع مرات، إذا كان في علم الله الأزلي السابق أن هذا المرض ليس هو مرض الموت، ولذلك كانوا يفرقون بين مطلق المرض ومرض الموت، فمطلق المرض يمرض ويشفى، بينما مرض الموت يموت بسببه، فإذا كان لم يسبق في علم الله عز وجل أن هذا الرجل في هذا المرض يشفى من مرضه فإنه يشفى بسبب هذا الدعاء.
وهذا يعني أن الله تعالى علم في الأزل أن هذا العبد لم يمت، ولذلك فإن هذا النص يثبت أن الله تبارك وتعالى لا يزال عالماً منذ الأزل، ولا ينتهي علمه أبداً، لأن العلم صفة ذات للمولى تبارك وتعالى.
وصفة الفعل إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل، مثل صفة الكلام إذا شاء الله تعالى تكلم، وإذا شاء ألا يتكلم لا يتكلم، بخلاف صفة الذات فإنها لازمة له لا يمكن أن تنفك عنه كصفة اليد مثلاً، فإن الله تعالى أثبت لنفسه اليدين فهو سبحانه وتعالى متصف بهما أزلاً وأبداً.
ومن قال: إذا شاء الله أن يحتفظ بيديه احتفظ بهما، وإذا شاء أن يستغني عنهما استغنى، فهذا سوء أدب مع الله عز وجل، حتى وإن كان ذلك على سبيل المثال.
فهنا نقول: إن صفة العلم صفة لازمة لله عز وجل، ليست صفة فعل، لأننا لو قلنا إنها صفة فعل، لجاز لنا أن نقول: إذا شاء علم وإذا شاء جهل، والجهل منتف عنه تعالى، فلابد أن يثبت له العلم أولاً وآخراً، فهنا نقول: الله تبارك وتعالى علم أزلاً أن هذا العبد سيموت في هذا المرض أو لا يموت، فإذا كان الله تعالى علم أنه لا يموت في هذا المرض شفاه بسبب هذا الدعاء، وإذا كان علم أزلاً أنه سيموت في هذا المرض، وأنه قدر عليه المرض وكتبه ويموت بسببه، فإن الناس أجمعين لو اجتمعوا على أن يدعوا لهذا المريض لا ينفعه ذلك، ولو أتوا بأصلح من في الأرض وأتقى من في الأرض لا ينفع ذلك الدعاء؛ لأن الله تعالى كتب أزلاً أنه سيموت بهذا المرض، حتى ولو جمع الله الأنبياء والمرسلين يدعون لعبد من عباده بالشفاء، ولكن الله كتب له ألا يشفى من هذا المرض بل يموت فيه لا تقبل دعوات الأنبياء والمرسلين، ولكنه من باب الدعوات وطلب الخير فقط، ولا يلزم أن يشفى منه بسبب دعاء المرسلين، فكم دعا النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في مرض موتهم، ولكن الله تعالى كتب أزلاً أنهم سيموتون في هذا المرض، فكتب لهم الأجر بسبب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يملك لهم السلامة والشفاء من هذا المرض.(20/6)
الرد على ما يروى عن ابن عباس في معنى الكرسي وتأويله بالعلم
قال: [عن ابن عباس قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] قال: علمه].
في الحقيقة: هذا نص لم يثبت عن ابن عباس، والحمد لله أنه لم يثبت، ولو ثبت على مذهب من حسن هذا الأثر فليس فيه حجة؛ لأن الكرسي لا يجوز صرفه عن ظاهره.
فلا يجوز أن أقول: الكرسي بمعنى العلم.
أي: وسع علمه السماوات والأرض؛ لأن سعة علم الله عز وجل في السماوات والأرض قد ذكرت في آيات ونصوص آخر، والكرسي قد وردت فيه أحاديث تثبت أن لله تبارك وتعالى كرسي، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله خلق الأرضين، وخلق السماوات وجعل بين السماء الدنيا وبين الأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وفوق كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وفوق السماوات البحر، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، والله تعالى فوق العرش).
وقال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الكرسي، قال: (هو موضع القدمين لله عز وجل).
فهل يتصور أن علم الله تعالى هو موضع قدميه؟ هذا كلام لا معنى، فكيف يفسر الكرسي بأنه العلم، وهل دعت الضرورة إلى صرف هذا النص وهذا اللفظ عن ظاهره؟
الجواب
لا.
وأهل السنة متفقون على أن ما يخص المولى تبارك وتعالى من أسماء وصفات خاصة في أمور الغيب لا يجوز صرفها عن ظاهرها أبداً وإلا وقع الصارف في التعطيل، أي: تعطيل المولى عز وجل عن صفاته.(20/7)
حكم القول: (بأن علم الله مخلوق)
قال: [أخبرنا عبد الله بن أحمد بن علي المقرئ، قال: سمعت أبا بكر عبد الله بن محمد بن زيد النيسابوري يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: قال حفص الفرد: علم الله مخلوق.
قال الشافعي: كفرت بالله العظيم].
هذا القول إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان؛ لأن كل مخلوق حادث جديد، وعلم الله تبارك وتعالى أزلي أولي، فهل يتصور أن الله تعالى لم يكن عالماً فصار عالماً حتى نقول إن علم الله مخلوق؟! فضلاً عن أن كل مخلوق يفنى، وما من شيء إلا وهو حادث يطرأ عليه البلى والفناء، فهل الله تبارك وتعالى لم يكن عالماً فصار عالماً، ولزاماً أن نقول: إن علمه حادث ومخلوق، وكل مخلوق فان، فهل كان الله تعالى جاهلاً ثم صار عالماً، ثم يئول بعد ذلك إلى الجهل؛ لأنه إذا كان علمه حادثاً فلابد وأن يفنى، فهذا كلام هو للكفر أقرب منه إلى الإيمان.
ولذلك كفَّر أهل العلم من قال بهذا القول: [قال الشافعي: كفرت بالله العظيم].
أي: كونك تقول: إن علم الله حادث.
وهؤلاء المبتدعة يتكلمون من طرف خفي ومع خاصتهم في صفة واحدة لا في كل الصفات، ثم يصير من سمع هذا الكلام فرحاً ببيان بدعة ذلك المبتدع في علم الله، وليس في علم الله فحسب، وإنما في جميع الصفات، لأن أهل السنة يعتقدون أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات إما إثباتاً أو نفياً، فمن قال: إن علم الله حادث أو مخلوق، يلزمه أن يقول: إن سمع الله تعالى كذلك، وحلم الله تعالى كذلك، وقدرة الله تعالى كذلك، وأنه لم يكن قادراً فصار قادراً، ولم يكن سميعاً فصار سميعاً، ولم يكن مبصراً فصار بصيراً بعد ذلك، وكذا في بقية الصفات.
ولماذا تقول بالذات: (علم الله تعالى حادث)، مع أن العلم صفة، والسمع صفة والرحمة صفة، والقوة صفة، والإرادة صفة والمشيئة صفة، فلم تقول هذا في صفة وتترك في بقية الصفات؟ لابد أنه سيعجز عن جواب هذا السؤال.
ولذلك لما أتى يحيى بن يعمر البصري إلى مكة ومعه حميد بن عبد الرحمن البصري قال له: لعل الله تعالى يقيض لنا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال: فأتينا الكعبة فوجدنا أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر يطوف بها.
قال: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي أسأله أنا فقلت: أبا عبد الرحمن! قد ظهر قبلنا أناس يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف.
والشاهد في قوله: (وأن الأمر أنف).
يعني: مستحدث.
أي: أن الله لا يعلمه أزلاً، وما علمه إلا بعد أن وقع بالفعل.
يعني: أن الله تبارك وتعالى - على مذهب الجعد وتلميذه الجهم بن صفوان - لا يعلم قبل صلاة العشاء أنه هناك درس، وما علم أن هناك درس في مسجد الهدى إلا بعد يوم السبت حقيقة.
فهل يتصور في جنب الله عز وجل أنه لم يكن عالماً به إلا بعد أن وقع فعلمه؟ وهذا يعني أن صفات المولى عز وجل خلقت له سبحانه وتعالى، وهذا كلام هو إلى الكفر أقرب، ولذلك كفر عبد الله بن عمر هؤلاء وتبرأ منهم.
وفي رواية أنه قال: أو قد قالوها؟ كأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوقعون أن يظهر هذا، ولذلك ورد في صفاتهم أنهم يتنطعون ويتعمقون، وهذا شأن كل متنطع في دين الله عز وجل أن يبوء بالفشل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أنه قال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا).
فما من إنسان تشدد في دين الله عز وجل في كل مسائله وقضاياه أكثر مما ورد فيه النص إلا انقطع، إما غالى مغالاة شديدة جداً فكان حرباً على الإسلام والمسلمين، وإما سقط وترك كل شيء، وخير الأمور أوسطها، وهذه الوسطية وهذا العدل هو الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يحيا به وعليه، وكذلك أصحابه الكرام وأهل العلم الذين يقتدى بهم في دين الله عز وجل.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن دين الله يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
يعني: لن يغالب الدين أحد إلا غلبه الدين.
لو أن رجلاً قام الليل كله يصلي لغلبه النوم فنام قبل صلاة الفجر ولم يصل الفجر إلا بعد طلوع الشمس، وإن شئت فقل إلا بعد أذان الظهر؛ لأنه قام الليل كله، وانقطع لذلك عن أداء الفرض، والنبي عليه الصلاة والسلام يحذر أن يكون الرجل منا كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
والمنبت: هو المسرع الذي يجري جرياً سريعاً متلاحقاً، فلو أن رجلاً أراد سفراً إلى بلد ما، فركب دابة وظل يضربها على ظهرها، ويأنف أن تمكث وأن تستريح في أثناء الطريق، فإنها ستكل وتعجز عن السير مهما ضربها، فلا هو أبقى الدابة وحافظ عليها، ولا هو وصل إلى البلد التي يريد الوصول إليها، لأنه مسرع على غير العادة متنطع متشدد.
أما الاستمساك بكتاب الله تبارك وتعالى وسنة النبي عليه الصلاة والسلام على منهاج العدل والوسطية الذي كان علي(20/8)
الإيمان بمدلول الأسماء والصفات
قال: [وعن إسحاق بن راهويه: إن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة].
والمعتزلة قالوا: إن الله سميع بغير سمع، بصير بغير بصر، قادر بغير قدرة، ومعنى ذلك: أن الله تعالى ذات متصفة بأسماء لا مدلول لها في الواقع.
من الممكن أن يكون الإنسان قوياً ويصرعه أحد الناس، أو كريماً وفيه ما فيه من البخل والشح أو لطيفاً وعنده من الغلظة ما فيه، فلا يلزم من صفات المخلوقين أن يكون لها وجود في الواقع، بل من الممكن أن يتصف المرء بصفة وبضدها، وليس لصفات المولى تبارك وتعالى ضد، وإنما ضدها في المخلوقين لا في الخالق، فالله تبارك وتعالى اتصف بالحلم فحلمه وسع كل شيء، وهو حليم إلى أقصى درجات الحلم وأكمل درجات الحلم، بحيث لا حلم بعد ذلك، ولا أحد يتصف بهذه الصفات فيداني أو يقارب المولى تبارك وتعالى، لأنه متفرد في صفاته، فلا أحد في الخلق يبلغ مبلغ الحلم لله عز وجل، ولا يدانيه ولا يقترب منه، لأن حلمه عام وحلم المخلوق خاص.
فكذلك لو قلت: إن الله سميع بغير سمع يلزمني أن أقول: ربما يتصف بالسمع وغيره.
أنا ممكن أن أسمى سميع وأنا أصم، وأنا في الحقيقة لا أسمع شيئاً لأنني أصم، فلا يلزم من كون اسمي سميعاً أن أكون سميعاً حقاً.
فهذه المسألة مهمة جداً: إذا قلت: إن الله سميع بغير سمع، وبصير بغير بصر، وعليم بغير علم، يلزمك أن تقول: أنه لا يسمع أصلاً، ولا يبصر أصلاً، ولا يعلم أصلاً، أو أحياناً يعلم وهو لا يعلم، ويبصر وأحياناً لا يبصر، وأحياناً يكون قادراً وأحياناً يكون عاجزاً.
بالنسبة للمخلوق لا يلزم من ذكر اسم قادر أن يكون في كل شيء قادراً، فلا يلزم من كان من المخلوقين اسمه قوي أن يكون قوياً، أو من كان اسمه قادر أن يكون قادراً على كل شيء، إنما يلزم لله عز وجل أن يكون صاحب القدرة، والقوة المطلقتين، فهو سميع بسمع، وبصير ببصر، وغير ذلك من الأسماء والصفات.(20/9)
سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله بأن الله سميع بسمع قادر بقدرة
قال: [سياق ما دل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله سميع بسمع، بصير ببصر، قادر بقدرة، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224]].
فأثبت لنفسه السمع والعلم.
[قال تبارك وتعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]].
وهذا قول إبراهيم لأبيه، وهذه الآية بمفهوم المخالفة تثبت أن الإله يسمع ويبصر وهو الغني ولا يغني عنك شيئاً؛ لأنه الغني تبارك وتعالى.
[وقال في قصة موسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]، وروي عن عمر أنه كلمته هذه المرأة.
فقيل لها: أكثرت على أمير المؤمنين.
فقال: دعها أما تعرفها؟ هي التي سمع الله منها] أي: فأولى بنا أن نسمع.
فـ عمر رضي الله عنه أثبت لله صفة السمع، فقال: دعها أما تعرفها هي التي سمع الله جدالها.
وهذا نص من عمر بن الخطاب وفيه انقطاع، ولكن يشهد له أصل القصة أنها في كتاب الله عز وجل.
[وقالت عائشة: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات].
يعني: سمع الله تبارك وتعالى أحاط بجميع الأصوات، لا أقول: يسمع أصوات الآدميين فحسب، بل وأصوات جميع المخلوقات آدميين وغير آدميين من شجر وبشر وحجر وخيل وريح وجميع المخلوقات.
[وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع أصحابه يرفعون أصواتهم بالدعاء، فقال: (أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)].
وكان هذا في غزوة من الغزوات، كانوا كلما نزلوا منزلاً أو صعدوا جبلاً رفعوا أصواتهم بالدعاء، فأتاهم النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (أربعوا).
يعني: تلطفوا وأرفقوا بأنفسكم، (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً).
فنفى عنه صفة النقص، وأثبت له صفة الكمال، فالله تبارك وتعالى لا يتصف بالصفات التي تليق بالمخلوقين كالصمم وغيرها، فأثبت له الكمال في السمع والبصر، ونفى عنه صفة الأصم والغائب؛ لأن الله تعالى لا يغيب عنه شيء، لأنه حي قيوم.
[وأشار النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة لما قرأ (سميعاً بصيراً) فوضع أصبعه السبابة التي يدعو بها وإبهامه على عينه وأذنه -يعني بذلك- أن الله تعالى يسمع بسمع، بصير ببصر].
لكن لا يلزم من هذه الإشارة أن الله تعالى له عين كعيني وأذن كأذني، خاصة وأن الذي فعل ذلك هو النبي عليه الصلاة والسلام، وقد حذرنا من أن نمثل صفات المخلوق بصفات الخالق، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين لنا أن المولى تبارك وتعالى يتصف بصفات هي صفات لنا من جهة الاسم فقط، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق.
فالقدر المشترك بين سمع الله وسمع المخلوق هو في الاسم فقط ومن ذلك أن الدنيا فيها تفاح والجنة فيها تفاح، والدنيا فيها عسل ولبن وخمر والجنة فيها عسل ولبن وخمر، فهل خمر الجنة وعسلها وتفاحها كخمر الدنيا وعسلها وتفاحها؟ شتان ما بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
إذا كان هذا الاختلاف في المخلوقات التي خلقها الله سواء في الدنيا أو في الآخرة، فإنهما يختلفان تماماً من جهة المذاق والحلاوة، فكذلك صفات الله تعالى تختلف عن صفات المخلوق.
قال: [عن أبي موسى رضي الله عنه: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) -يعني: أقرب شيء إلى شعر رقبة بعيره- قال أبو موسى: (فقلت في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)]، فالله تعالى معنا بسمعه وعلمه وبصره، أما ذاته العلية تبارك وتعالى فهو فوق العرش.
قال: [عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله عز وجل، يشرك به ويجعل له ولد، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم) أخرجه مسلم من حديث جرير، والبخاري من حديث الأعمش].
فأي حلم وأي صبر للمولى عز وجل! والشاهد من هذا الحديث: إثبات السمع لله عز وجل، فهو الذي يخلق الخلق ويعافيهم ويرزقهم الصحة والرزق والمال والطعام والشراب وغير ذلك، ثم بعض هؤلاء الخلق يطوفون حول قبر البدوي، أو الحسين، ويدعونهم من دون الله عز وجل، وهذا من أعظم الظلم لله عز وجل، وهو أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
قال: [عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه سميع بصير، فوضع أصبعه السبابة وإبهامه على عينه وأذنه) أخرجه أبو داود، وهو إسناد صحيح على شرط مسلم يلزمه إخراجه](20/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الوجه والعين لله عز وجل
صفة الوجه ثابتة لله عز وجل بأدلة الكتاب والسنة، وقد تضافرت أقوال علماء السنة على إثباتها لله عز وجل، كما أثبتها سبحانه لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كعادتهم في إثبات سائر الصفات الله عز وجل، بدون تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، وقد خالف أهل البدع في ذلك فأولوا هذه الصفة، كما أولوا غيرها من الصفات، ظانين منهم أنهم ينزهون الله عز وجل بزعمهم عن الأبعاض والأجزاء ومشابهة المخلوقين، وهذا انحراف وضلال مبين.(21/1)
سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله على أن من صفات الله الوجه
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فإن الوجه ثابت لله عز وجل في كتابه الكريم، وفي سنة نبيه العظيم عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وخالف في ذلك المتأخرون، أو خالف في ذلك الخلف جميعاً.
وصفة الوجه لله عز وجل صفة ذاتية خبرية، وليست صفة فعلية، بل هي صفة ذاتية، بمعنى أنها لازمة لذاته منذ الأزل وإلى الأبد، فهي لازمة له أولاً وآخراً ولا تنفك عنه، فهي ليست من صفات الأفعال التي إذا شاء الله تعالى فعلها وإذا شاء لم يفعلها كصفة الكلام والضحك والغضب والإتيان والمجيء والسرور والفرح، وغير ذلك، فهذه صفات فعلية إذا شاء فعلها وإذا شاء لم يفعلها، بخلاف الصفات الذاتية اللازمة له، والتي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى.
وثبتت هذه الصفة كغيرها من الصفات الخبرية بكتاب الله عز وجل، قال: [قال الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]] فهذه الآية أثبتت أن لله تبارك وتعالى وجهاً.
قال: [وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]].
أي: وجه الله تبارك وتعالى.
قال: [عن أبي موسى: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه -يعني: يخفض الميزان ويرفعه- يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفها -أي: لو كشف هذا الحجاب- لأحرقت سبحات وجهه) زاد عبد الله: (كل شيء أدركه بصره)].
فأثبت في هذا الحديث أن له وجهاً.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: [(ما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)]، فإذا رفع هذا الحجاب رأى الناس ربهم تبارك وتعالى وذلك في الآخرة.
أي المؤمنون.
وهذا الحديث قطعة من حديث طويل عند البخاري ومسلم في أبواب رؤية الرب تبارك وتعالى لأهل الإيمان.(21/2)
إتيان السلف لصفة الوجه كسائر الصفات
أطبق سلفنا رضي الله عنهم وأتباعهم على الإيمان بهذه الصفة كغيرها من صفات الرب تبارك وتعالى، وإثباتها على ما يليق بالله، وهم لا يفسرونها ولا يؤولونها، وإنما يؤمنون بها كما جاءت، ويمرونها كما جاءت، وهذا مذهب سلفنا رضي الله عنهم في جميع الصفات الخبرية لله عز وجل، بل وفي جميع الصفات، فهم يؤمنون بها على ما وردت في النص دون أن يتعرضوا لها بالتأويل أو التحريف أو التمثيل أو التكييف، ولا يطلقون عليها شيئاً من الألقاب التي يرددها النفاة -أي: المعطلة أو المتأولون- مثل العضو أو الجزء.
المعطلة والمؤولة يقولون: الوجه لله عز وجل يلزم منه إثبات أنه كل يتجزأ.
قالوا: فالوجه جزء من البدن والذات، فلو أننا قلنا: إن لله وجهاً للزم أن نقول: إن الله ذات مكون من أبعاض وأجسام وأجزاء.
وهذه هي شبهة الممثلة أو المعطلة الذين أرادوا أن ينزهوا بزعمهم الله تبارك وتعالى عن مشابهته للمخلوقين.
قالوا: ولو أننا أثبتنا الوجه للزم من ذلك أن نقول بالأبعاض أو الأجزاء للكل وللذات العلية، ولما كان هذا عندهم يتنافى مع تنزيه المولى تبارك وتعالى فقد قالوا: نحن لا نثبت له وجهاً؛ لأن إثبات الوجه يلزم منه أنه سبحانه وتعالى جسم.
وإن سلفنا رضي الله عنهم لم يذهبوا في هذه الصفة -كما لم يذهبوا في غيرها- إلى مثل هذه التأويلات، بل قالوا: نثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه من صفات النقص، ونثبت له ما أثبته له رسوله من صفات الكمال، وننفي عنه ما نفاه عنه رسوله من صفات النقص، وإذا أثبتنا شيئاً لله تبارك وتعالى قد ورد في الكتاب والسنة فإنما نثبته على الوجه اللائق بالله عز وجل، ولا نخوض فيه بتأويل أو تعطيل أو تحريف؛ لأننا لو عطلنا هذه الصفة وقلنا: ليس لله وجه فلابد وأن نكون مكذبين بالقرآن الكريم وبأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
والله تبارك وتعالى أعلم بنفسه من خلقه، ونبيه أعلم به من بقية الخلق، وإذا كان الله تبارك وتعالى -وهو أعلم بذاته العلية- قد أثبت لنفسه الوجه فلم لا نثبته نحن؟ وإذا أثبت الرسل لله تبارك وتعالى الوجه فلم لا نثبته نحن؟ وإذا كنا متبعين غير مبتدعين فلم لا نتبع النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمرنا؟ ولم لا ننته عما حذرنا منه؟ ولماذا نعطل الله تبارك وتعالى عن صفاته العلية وأسمائه الحسنى؟ وهنا أمر أكرره دائماً؛ لأنه في غاية الأهمية، وهو أن نعتقد معتقد السلف في صفات المولى تبارك وتعالى وفي أسمائه العلية، ولو نظرت الآن على وجه المعمورة والبسيطة لوجدت قلة قليلة جداً من أهل العلم -ولا أقول من طلاب العلم ولا من عامة الناس- يعتقدون معتقداً صحيحاً في الله عز وجل، وأما عامة أهل العلم فإنهم قد وقعوا فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وحذر منه أصحابه الكرام، فقد وقعوا في التأويل تارة، وفي التحريف تارة، وفي التعطيل تارة، وغير ذلك زعماً منهم أنهم ينزهون الله تبارك وتعالى.(21/3)
خطأ إطلاق لفظ (كتب التربية الدينية) على الكتب الشرعية
إننا لو نظرنا الآن إلى القائمين على المناهج الدراسية التي أعدت إعداداً لإبعاد أطفالنا وأولادنا عن سلوك طريق الهدى المستقيم، وعن سلوك طريق ربهم لوجدنا أنهم أقوام تربوا على أيدي اليهود تربية طويلة، أخذت أمداً بعيداً من السنين، وإذا نظرنا إلى كتب التربية الدينية، وهذا اسم خطأ، وإنما الصحيح أن تسمى: التربية الشرعية الإسلامية، وليست التربية الدينية؛ فإن اليهود يقولون: التربية الدينية.
والنصارى يقولون: التربية الدينية، ونحن نقول: التربية الدينية.
إذاً: نحن نعترف بأن لليهود ديناً، وغير ذلك، ودين الله تبارك وتعالى واحد، فقولنا: التربية الدينية هذا أمر مجمل، وفيه لبس عظيم جداً، وهو يجعل المستمع لهذا المصطلح يقول: هناك تربية دينية لليهود وللنصارى وللمسلمين، ولو قلنا: (التربية الشرعية الإسلامية) لكان أمراً قاطعاً وجازماً، فالمصطلح الأول مصطلح غربي لا علاقة لأهل الإسلام به.(21/4)
اشتمال المناهج الدراسية على عقيدة التأويل والتحريف والتعطيل والتمثيل
أيضاً: لو نظرنا في أمثال هذه الكتب التي تدرس التربية الشرعية لأولادنا في المدارس وإخواننا في الجامعات لوجدنا فيها التأويل والتحريف والتعطيل بل والتمثيل تارة كما عند النصارى، وهو تمثيل الخالق بالمخلوق، وهذا أمر في غاية الفظاعة، فأولادنا يتربون أعواماً طويلة على هذا الانحراف العقدي، ثم بعد ذلك إذا أردنا أن نضبط هذا الفكر والفهم تعبنا كل التعب؛ لأنهم منذ عشرين عاماً وهم يدرسون تلك العقيدة الفاسدة التي استقوها من جوهرة التوحيد، أو من كتب النسفي، أو من كتب الزمخشري، أو غيرها، فيعز بل يصعب جداً أن يستقيم هذا الذي درس هذا الانحراف أمداً طويلاً، وأن يعود بين يوم وليلة.
وأنا أحذر كل الحذر الإخوة والآباء لهؤلاء الطلاب والتلاميذ، وأنصحهم أن يراجعوا على جهة الخصوص كتب اللغة العربية والتربية الدينية، ويقوموا أولادهم، ويبينوا لهم فساد وعوار ما أدخل في هذه الكتب، وأنه قد حرص واضعيها على إرضاء أسيادهم هنا وهناك.
إن تصحيح معتقدك ومعتقد أبنائك وأهل بيتك أمر في غاية الأهمية؛ لأن العقيدة أهم شيء في حياة المسلم، فإن استقامت استقام ما بعدها، وإن اعوجت فقد اعوج كل شيء بعدها، ولا يسلم للعبد شيء قط إذا كانت عقيدته غير منضبطة على عقيدة السلف رضي الله وتبارك وتعالى عنهم.
والسلف رضي الله عنهم يثبتون لله تبارك وتعالى الصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله على المعنى اللائق به، وكونهم يثبتون ذلك هذا يرد على المعطلة الذين ينفون هذه الصفات عن الله عز وجل، وكونهم يثبتونها على المعنى اللائق بالله عز وجل يردون به على الممثلة الذين قالوا: إثبات هذه الصفات يستلزم التمثيل، فقال السلف: إثباتها لا يستلزم التمثيل، ولكننا نثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه على الوجه الذي يليق بذاته العلية.
وإذا كنا نؤمن أن لله تبارك وتعالى ذاتاً علية تختلف عن ذوات المخلوقين، فلابد وأن نؤمن لزاماً أن لهذه الذات العلية التي تختلف عن ذوات المخلوقين صفات علية تختلف عن صفات المخلوقين؛ لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا بلغنا هذا المبلغ وعرفنا أن هذه الذات متصفة بصفات، وأنها علية لا تتناسب ولا تتماثل وتتشابه مع ذوات المخلوقين، فلابد أن تكون الصفات كذلك.(21/5)
شبهة نفاة صفة الوجه والرد عليهم
السلف لا يطلقون على هذه الصفات شيئاً من الألقاب التي يرددها النفاة مثل العضو، والجزء، والبعض، وغير ذلك من الألقاب التي يطلقونها ليتذرعوا بها إلى نفي هذه الصفة، بدعوى أن إثبات هذه الصفة يعني التركيب المستلزم للحاجة والافتقار، فهم يقولون: لو أنكم أثبتم الوجه فلا بد أن تقولوا: إنه بعض من كل؛ لأن الوجه جزء من الجسم ومن البدن، فإذا أثبتنا لله عز وجل وجهاً فلابد وأنه جزء من ذاته، قالوا: كما أن إثبات اليد يستلزم أن تكون جزءاً من ذاته، وكذلك العين والساق، فهو إذاً: ذات مكونة من أبعاض وأجزاء وأجسام، وهذا كلام في غاية الإجرام في حق الله عز وجل.
والمخلوق مكون من أجزاء وأجسام وأبعاض، ولو سئلت: هل تقيس الخالق بالمخلوق؟ فلا بد وأنك ستقول: لا، فالذات تختلف عن الذات.
أي: ذات الخالق تختلف عن ذات المخلوق.
وإذا كان هذا النافي أو المشبه يقول بهذا، فنقول له: اختلاف الذات عن الذات يستلزم اختلاف الصفات، وهذا يعني: أن نثبت الصفات، ولكن على الوجه اللائق بتلك الذات، فلما كانت الذات كاملة علية جليلة، فلابد وأن تكون الصفات كذلك، فنثبت لله تبارك وتعالى الوجه.
وهم يقولون: الوجه هو الذات.
فإذا سئلوا: لماذا تقولون إن الوجه هو الذات؟ لقالوا: اعتماداً على قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
ونحن نثبت لله تبارك وتعالى الساق والوجه واليد والعين والنفس، وكل ما أثبته الله تعالى لنفسه، ولو قلنا بإثبات الوجه الحقيقي لله عز وجل لقال النفاة: يلزم من إثباتكم الوجه لله عز وجل: أن ذات الإله هالكة مع من يهلك، ولا ينج إلا وجهه، ويستشهدون بظاهر الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].(21/6)
رد ابن عثيمين على من أول الوجه بالذات
تعرض الشيخ ابن عثيمين حفظه الله تعالى لرد هذه الشبهة بكلام ممتع وجميل جداً فقال: فإن قيل: ما المراد بالوجه في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]؟ إن قلت: المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت -يعني: عطلت- فإذا قلت: إن هذا الوجه عبارة عن الذات فيكون المعنى: إنه ذات بلا وجه، كما قال أحد المفسرين: إن الله تبارك وتعالى ليس له وجه، فالله تبارك وتعالى يثبت أن له وجهاً، وهو يقول: ليس لله تبارك وتعالى وجه.
وقال في قوله تعالى في سورة القصص: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، أي: إلا ذاته.
لأنه ليس لله وجه، إذ لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، فنفى الوجه عن الله تبارك وتعالى نفياً صريحاً، وقال: الوجه عبارة عن الذات حيث إنه لا وجه له؛ لأنه يلزمنا من إثبات الوجه أن نشبهه بالمخلوقين، ولما كان لا يشبه المخلوقين ولا يشبهه مخلوق يلزمنا نفي صفة الوجه.
ولذلك قال صراحة في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
أي: إلا ذاته؛ لأنه ليس لله وجه، إذ لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء.
وهذا الرجل الكبير هو فريد وجدي، وتفسير فريد وجدي يقع في مجلد عظيم، وقد سلك فيه مسلك الأشاعرة في كل الصفات، وقد نفى عن الله تبارك وتعالى صفة الوجه التي أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.
يقول ابن عثيمين -رحمه الله-: إن قلت المراد بالوجه الذات فيخشى أن تكون حرفت، وهذا التحريف يستلزم التعطيل، وإن أردت بالوجه نفس الصفة -أي: صفة الوجه- وقعت في محذور، وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره حيث قالوا: إن الله يفنى إلا وجهه.
يقول:
و
الجواب
إن أردت بقولك إلا ذاته يعني: أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه.
أي: بذات لها وجه.
وإن أردت بقولك الذات: أن الوجه عبارة عن الذات بدون إثبات الوجه، فهذا تحريف وهو غير مقبول.
أي: أن ابن عثيمين مشى على قاعدة: أن السلف يثبتون الصفة ولازمها، فهو يقول: إذا أردت بالوجه الذات فلا بأس بهذا المراد إذا كنت تثبت أن هذه الذات لها وجه، وأما إذا قصدت أن الوجه هنا يعني الذات المجردة عن الصفة فهذا تحريف وتعطيل.
إذاً: لا بأس أن تقصد بالوجه الذات، ولكن مع الإيمان بأن هذه الذات لها وجه.
وهذا كلام جميل ومقبول، وإن كنت لا أستريح راحة كاملة لهذا التأويل، وهذا التفسير والبيان، ولكني أؤمن بالصفة كما جاءت هكذا، ولكن يلزمني أن أجيب عن السؤال، وأقول: من قال: إن الهلاك يلزم كل شيء إلا الوجه، وأن الله تبارك وتعالى يهلك فقد كفر.
ويكون معنى الآية: إن الله تبارك وتعالى يهلك كل عباده ولا يهلك هو؛ لأن الهلاك صفة عجز ونقص، وهذا لا يجوز على المولى تبارك وتعالى، بل تبقى ذاته ويبقى وجهه، وربما يكون هذا صياغة أخرى لكلام الشيخ ابن عثيمين حفظه الله، ولذلك يقول: وعليه فنقول: {إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، أي: إلا ذاته المتصفة بالوجه، وهذا ليس فيه شيء.
والفرق بين هذا القول وبين قول أهل التحريف: إن هؤلاء يقولون: إن المراد بالوجه الذات ولا وجه لهذه الذات.
ونحن نقول: المراد بالوجه الذات المتصفة بأن لها وجهاً، فعبرنا به عن الذات.
أي: فعبرنا بالوجه عن الذات رداً على هذه الشبهة.
وهناك أدلة أخرى في كتاب الله عز وجل تدل على إثبات هذه الصفة -أي: صفة الوجه لله- ومنها: قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22].
ومن السنة: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لما قسم النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم يوم حنين قام إليه رجل وقال: يا محمد! إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله).
فأثبت الوجه لله.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟).
يعني: إذا عم الظلم في الأرض فمن يعدل إلا الأنبياء والرسل؟ والشاهد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام أقره على سياق هذا الكلام وفهمه وأن لله وجهاً، وهذا الرجل هو زعيم الخوارج، ولما ولى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليخرجن من ضئضئ هذا -أي: من صلبه وظهره- قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
قال: فإذا لقيتموهم فاقتلوهم).
وهم الخوارج.
فهذا إقرار من النبي عليه الصلاة والسلام لفهم هذا الرجل أن لله تعالى وجهاً.
ومنها: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الثلاثة الذين حبسوا في الغار، وقصتهم طويلة معروفة مشهورة، وقال كل واحد منهم: اللهم إن(21/7)
كلام ابن خزيمة في إثبات صفة الوجه لله تعالى
قال إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد بعد أن أورد جملة من الآيات تثبت صفة الوجه لله عز وجل: فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق الشام ومصر مذهبنا أن نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا -أي: نشهد به بألسنتنا- ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين -يعني: نؤمن بهذه الصفة كما جاءت دون تشبيه ودون تمثيل- عز ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجل ربنا عن مقالة المعطلين -يعني: لا وجه شبه بين الخالق والمخلوق- ثم استعاذ من مقالة المعطلين النافين لصفات المولى تبارك وتعالى.(21/8)
كلام ابن مندة في إثبات صفة الوجه لله تعالى
قال الحافظ ابن منده في كتاب التوحيد: ومن صفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه: قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وكان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بوجه الله من النار، والفتن كلها، ويسأل بوجه الله تبارك وتعالى.
ثم سرد ابن منده بسنده أحاديث، ثم قال: بيان آخر يدل على أن العباد ينظرون إلى وجه ربهم عز وجل.
إلى أن قال: باب آخر: فيه إثبات أن العباد ينظرون إلى وجه الله عز وجل، وسرد بسنده ما يدل على ذلك من أخبار سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم.(21/9)
كلام الأصبهاني في إثبات صفة الوجه لله تعالى
قال الأصبهاني في كتاب الحجة: ذكر إثبات وجه الله عز وجل الذي وصفه بالجلال والإكرام، والضمير في قوله (وصفه) يعود على الوجه.
قال: باب: ذكر إثبات وجه الله عز وجل الذي وصفه بالجلال والإكرام والبقاء في قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27].
فهو لم يقل: ذي الجلال، وإنما قال: ((ذُو الْجَلالِ))، وذو الجلال صفة للوجه، ولو قال: ذي الجلال لكان الجلال والإكرام صفتان للرب تبارك وتعالى، وليس للوجه.
وقال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78].
وهنا لابد أن نفرق بين الآيتين، فلم يقل الله تبارك وتعالى في الآيتين: (ذو).
ولم يقل فيهما: (ذي)، وإنما قال في الوجه: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال في الذات: {ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78].
وهذا يدلنا على إثبات الوجه، وأنه متصف بالجلال والإكرام، وعلى إثبات الذات، وأنها كذلك متصفة بالجلال والإكرام، فمن قال: إن الوجه عبارة عن الذات -أي: أنه ذات بلا وجه- فلابد وأنه سيخطئ في تفسير قوليه تبارك وتعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو) و (ذِي)، ولن يخرج من هذه الورطة.
وقد تعرض ابن عثيمين -رحمه الله- لهاتين الآيتين اللتين ذكرتا في كتاب الله وتعرض كذلك لأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فقال في الآية الأولى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]: وهذه معطوفة على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26].
ثم أعقب ذلك بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27].
ولهذا قال بعض السلف: ينبغي إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أن تصلها بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}؛ حتى تبين الاستثناء؛ حتى يتبين نقص المخلوق وكمال الخالق، وذلك للتقابل، فهذا فناء وهذا بقاء.
أي: هذا فناء كتب على المخلوقين، وهذا بقاء واجب لله تبارك وتعالى.
وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، أي: لا يفنى.
الوجه معناه معلوم عند العرب، فهو ثابت لله عز وجل، وكيفيته لدينا مجهولة، كما أن الذات مجهولة لدينا، وكذلك الصفات مجهولة لدينا، ونحن لا نعلم كيفية وجه الله تبارك وتعالى كما لا نعلم سائر صفاته، ولكنه يلزمنا أن نؤمن بأن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، وموصوفاً بالبهاء والعظمة والنور العظيم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
وسبحات وجهه أي: بهاءه وعظمته وجلاله ونوره.
وقوله: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) فبصره ينتهي إلى كل شيء.
يعني: لو أن الله كشف هذا الحجاب -الذي هو من نور- لأحرقت سبحات وجهه جميع المخلوقين؛ لأن بصره ينتهي إلى جميع المخلوقين، وعليه فلو كشف الله هذا الحجاب -الذي هو النور أو النار- لاحترق كل شيء في الأرض.
ولهذا نقول: هذا الوجه وجه عظيم، ولا يمكن أبداً أن يماثل أوجه المخلوقات.
وبناء على هذا نقول: من عقيدتنا أننا نثبت أن لله وجهاً حقيقة، وقد أخذنا هذا ونأخذه من قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27].
وهذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
فهذا نفي للمثلية بين الخالق والمخلوق، ونحن نجهل كيفية هذا الوجه؛ لقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه، أو أن يتحدث عنها بلسانه فهو مبتدع ضال؛ لأن هذا ليس طريق السلف، وهو قول على الله من غير علم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه ما لا نعلم، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فالتعرض لذكر كيفية الوجه لله عز وجل قول على الله بغير علم.
وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، أي: أنك مسئول على كل هؤلاء.
وأما قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، فقد وصف نفسه بأنه رب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه ربوبية خاصة، وقوله: ((ذُو)) صفة للوجه، والدليل الرفع، فلم يقل: ذي، وإنما قال: ذو، ولو كانت صفة للرب لقال: ذي الجلال، كما قال في نفس السورة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْ(21/10)
معنى قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)
قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، أي: فان.
وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] أي: هالك إلا وجهه، وهي توازي قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] والمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل فإنه باق، ولهذا قال: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، أي: فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم.
وقيل في معنى الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: إلا ما أريد به وجهه.
وهذا تأويل ثان، والتأويل الأول: أن يراد بالوجه الذات العارية عن الصفات.
وهذا التأويل قد رددناه بقوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو)، ولم يقل: ذي؛ لأن الجلال والإكرام هنا صفة للوجه، بخلاف قوله تبارك وتعالى: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ))، فذي الجلال صفة للرب تبارك وتعالى.
وأما التأويل الثاني لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: إلا ما أريد به وجهه تبارك وتعالى، فيكون هذا الهلاك على الأفعال، أي: أفعال العباد، فكل من فعل فعلاً لا يبتغي به وجه الله فهو هالك، أي: يصبح هباء منثوراً.
وهناك أحاديث أخرى كثيرة جداً في الأمر بلزوم النية الصالحة في العمل والإخلاص لله عز وجل، وهي تبين أن من عمل عملاً على غير هذا النحو فإنه يكون هباء منثوراً، بل صاحبه في النار، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تعلم العلم ليتصدر به المجالس، أو يماري به السفهاء، أو يجادل به العلماء فالنار النار)، مع أنه تعلم العلم، ولكنه لم يتعلمه لوجه الله عز وجل، ولم يخلص فيه لله عز وجل، وإنما تعلمه بنية سيئة فاسدة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات).
فالنية يترتب عليها الجزاء والعقاب، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فقولهم في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] بأنه: إلا ما أريد به وجهه هذا كلام فاسد جداً؛ لأنه يلزم منه نفي الصفة؛ لأن الهلاك سيكون مترتباً على الفعل نفسه، وهم قالوا: إن سياق الآية يدل على ذلك، فقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به؛ لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى، إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى، لأن العمل الصالح له ثواب باق لا يفنى في جنات النعيم.
والمعنى الأول أسد وأولى.(21/11)
تأويل أهل التحريف للوجه بالثواب والرد عليهم
أيضاً: فسر أهل التحريف وجه الله بالثواب، فقالوا: المراد بالوجه هنا: الثواب، فكل شيء يفنى إلا ثواب الله عز وجل فإنه لا يفنى.
وإذا قلنا: إن الوجه الثواب لزمنا أن نقول: إن الذات غير متصفة بالوجه.
يعني: أنها ذات بلا وجه، وهذا تعطيل.
ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال لله عز وجل بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود؛ لأن الثواب إذا شاء الله تبارك وتعالى أوجده وإذا شاء جعله هباء منثوراً، فالثواب بيد الله عز وجل، فهو يثيب عبداً ولا يثيب آخر، والثواب على هذا النحو مخلوق؛ لأنه حادث، فأنت لن تثاب إلا إذا عملت، فثواب الله تبارك وتعالى مخلوق حادث ومترتب على العمل، والعمل كذلك مخلوق وحادث، فإذا قلنا: إن الوجه في الآية المراد به الثواب فالثواب حادث، ووجه الله تبارك وتعالى ليس حادثاً، فلا يصح أن نقول: إن الوجه مقصود به الثواب، بل الذي يصح أن نثبت لله تبارك وتعالى وجهاً على المعنى الذي يليق بكماله وجلاله، فإذا فسر بالثواب صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه.(21/12)
بيان أن كل الآيات التي ذكرت الوجه مضافاً إلى الله فإنه يراد بها وجه الله الثابت له
الأصل أن كل آية فيها إثبات الوجه مضافاً إلى الله فإنه يراد بها وجه الله الثابت له، كما في قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52].
وقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20].
وما أشبههما من الآيات، فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله عز وجل وجه الله تبارك وتعالى، الذي هو صفة من صفاته.(21/13)
اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) وبيان الصحيح منها
اختلف المفسرون في آية واحدة، وهي قوله الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، فقال بعضهم: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا)) أي: إلى أي مكان وليتم وجوهكم عند الصلاة، ((فَثَمَّ)) أي: فهناك وجه الله عز وجل.
ومنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة، وإن معنى {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] أي: فثم الجهة التي وجهكم الله تعالى إليها، وهذا تأويل أيضاً، فأولوا {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] أي: فثم الجهة، فأولوا الوجه بالجهة، وقالوا: إن الوجه بمعنى الجهة؛ لقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148].
فلم يقل: لكل وجه هو موليه، ولكن قال: لكل وجهة.
فالوجه عند هؤلاء هو الجهة، أي: فثم جهة الله التي يقبل الله صلاتكم إليها، قالوا: لأنها نزلت في حال السفر، فإذا صلى الإنسان النافلة فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت عليه القبلة، فإنه يتحرى ويصلي، سواء كان ذلك في الفرض أو في النافلة.
والصحيح أن المراد بالوجه هنا هو وجه الله تبارك وتعالى الحقيقي، أي: إلى أي جهة تتوجهون فثم وجه الله تبارك وتعالى؛ لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن المصلي إذا قام يصلي فإن الله يقبل عليه بوجهه، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يبصق الرجل عن أمامه أو عن يمينه، ولكن إذا أراد أن يبصق فليبصق عن شماله أو تحت قدمه اليسرى، فإن الملائكة تلازم يمينه، وإن الله تبارك وتعالى من تلقاء وجهه.
فإذا صليت في مكان لا تدري أين القبلة فيه واجتهدت وتحريت وصليت ثم بان أن القبلة خلفك فالله يكون قبل وجهك حتى في هذه الحال، ويقبل عليك بوجهه؛ لأنك قد بذلت ما في وسعك وتحريت ما أمكنك.
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية.(21/14)
حال كتاب: المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات وحال مؤلفه
للشيخ محمد عبد الرحمن المغراوي كتاب عظيم جداً اسمه: (المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات).
وهو مع صغره إلا أنه عظيم النفع جداً، والشيخ المغراوي رجل مغربي، وعريق في مذهب السلف، وقد التقيت بهذا الرجل في السعودية مرة، وفي الكويت مرة أخرى، وهو في غاية الشدة في إثبات مذهب السلف، وعادة المغاربة بدءاً من ليبيا وانتهاء بالمغرب أنهم قوم لا يعرفون إلا الحدة والعصبية لأي رأي يتبنوه.
ومن أعظم نعم الله على ذلك الرجل أنه تعصب لمذهب السلف، وقل أن تجد في المغرب رجلاً يفهم عقيدة السلف حق الفهم كما فهمها هذا الرجل، فصنف هذا الكتاب بعد أن طاف وجال في جميع التفاسير التي ألفها المفسرون، فمنهم من كان معتزلياً محترقاً، أو جهمياً جلداً، أو أشعرياً قحاً، أو سلفياً.(21/15)
حال المفسرين في التأويل
من المفسرين من وقع في التأويل بغير قصد كـ الشوكاني مثلاً، فـ الشوكاني كان سلفي المعتقد، وكان أولاً زيدياً شيعياً، ولكن الله تبارك وتعالى من عليه بالرجوع إلى مذهب السلف، والذي يترجح لدي أن الله من عليه بوجود محمد بن عبد الوهاب في أرض الجزيرة العربية؛ لأن الشوكاني عاصر محمد بن عبد الوهاب عليهما رحمة الله، وانتشر مذهب ابن عبد الوهاب السلفي العقيدة في أرض الجزيرة كلها في حياته، ولعل الشوكاني عليه رحمة الله تأثر به، فانحرف عن مذهب الزيدية إلى مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم، ثم بقيت عنده بقايا ربما لا يقصدها، ومن باب النصيحة في الدين أقول: إنه وقع في بعض التأويل؛ لأن صاحب البدعة قل أن يتنظف منها بالكلية، بل لابد أن يبقى فيه شيء من رواسبها، ولذلك لا يمكن أن يكون صاحب البدعة الأصلية كصاحب السنة الأصلية وإن تاب صاحب البدعة، فليس هذا كذاك عند الله عز وجل إلا إذا أحسن إحساناً ليس بعده إحسان واستقام استقامة نهائية، وتخلى عن بدعته من أولها إلى آخرها.(21/16)
حال ابن عطية وابن الجوزي في التأويل
أيضاً: من المفسرين ابن عطية الأندلسي، وهو إمام كبير جداً ومفسر عظيم وصاحب سنة، ولكنه كان في العقيدة أشعرياً، وكان صاحب سنة -أي: له رواية وسند- وتفسيره من التفسيرات العظيمة التي هي محل الاعتبار والاهتمام، ولكنه في آيات الصفات وقع وزل.
وكذلك ابن الجوزي عليه رحمة الله.(21/17)
حال الزمخشري والبيضاوي والنسفي في التأويل
أيضاً الزمخشري له كتاب عظيم جداً في التفسير، وهو عظيم في باب اللغة، وباب الصرف، والبيان والإعجاز، أما في صفات المولى تبارك وتعالى فلا يساوي شيئاً؛ لأنه معتزلي ومحرف، والبيضاوي كذلك، وكذلك النسفي الذي هو عمدة الأزهر.
ومن التلبيس العظيم: أنك تسمع وتدرس في الأزهر أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا تلبيس عظيم جداً على الأمة، فالأشاعرة والماتريدية من أهل القبلة وليسوا من أهل السنة، بل هم خلف، وهم في الترتيب الثاني في إثبات خلفيتهم بعد المعتزلة.(21/18)
حال الخازن وأبي حيان والجلالين والشربيني وأبي السعود في التأويل
أيضاً الخازن في تفسيره كذلك، وكذلك أبو حيان الأندلسي الغرناطي، وهو من غرناطة.
وجلال الدين السيوطي كان أشعرياً قحاً، وكذلك جلال الدين المحلي، وتفسير الجلالين معلوم لديكم ومشهور، رغم أنه لا يعتبر في عالم التفاسير تفسيراً؛ لأنه تعليقات يسيرة وبسيطة على كلمات المولى تبارك وتعالى، ولكن لإثبات أشعريتهما جعل الله تبارك وتعالى القلم يجري بأيديهما في آيات الصفات، فأولاها وصرفاها عن ظاهرها حتى تعلم الأمة ولا تضطرب أو تختلف في إثبات أشعريتهما، وسمي هذا التفسير تفسير الجلالين نسبة إلى جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلي.
كذلك الخطيب الشربيني وهو كذلك عمدة الأزهر، وأبو السعود عمدة الأزهر.(21/19)
حال الشوكاني في التأويل وعدم تعمده للباطل كالزمخشري
والشوكاني سلفي، وله كتاب اسمه: التحف في مذاهب السلف، ولكنه وقع في التأويل، وقد نبهنا مراراً أن الذي يتحرى الحق ولا يصيبه ليس كالذي يتعمد الباطل، وهذا مثل الزمخشري.
إن الزمخشري في تفسيره للآيات التي أثبتت رؤية المؤمنين لربهم تبارك وتعالى صرف هذه الآيات عن ظاهرها، ولم يتكلم فيها، ولما أتى إلى الأحاديث التي تثبت ذلك سمى أهل السنة: الحشوية.
وقال: لقد صنع الحشوية أحاديثاً يثبتون بها -بزعمهم- رؤية المؤمنين لربهم.
وهذه الأحاديث متواترة، والذي يردها كافر، فالذي يرد الحديث المتواتر كالذي يرد الآية من كتاب الله؛ لأن هذا ثابت بالتواتر وذاك ثابت بالتواتر، ولكنه لم يستطيع أن يرد الآية فأولها، وهذا مذهب أهل البدع.
يعني: إذا لم يستطيعوا نزعها من جذرها تعرضوا لها بالتأويل.
يعني: يصرفوها عن ظاهرها.
فكأنه يقول: الحديث أمره سهل، وأما الآية فلا أستطيع؛ لأن الأمة كلها ستقوم علي، وأما الحديث فهو محل أخذ ورد، فهو يقول عن الأحاديث التي أثبتت الرؤية: أنتم الذين صنعتموها.
قال الإمام الذهبي رداً على الزمخشري: ليته ما تكلف.
فهل أهل السنة سيطبقون ويجمعون في الأرض مع اختلاف بلدانهم وألسنتهم وألوانهم ومعارفهم على اختلاق أحاديث تبلغ حد التواتر؟ فالمتواتر عند المحدثين هو: الحديث الذي روي بالعدد الكثير في كل طبقة من الطبقات من أول السند إلى منتهاه بحيث يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب.
يعني: لا يمكن أبداً أن يتفق مغربي مع واحد مصري مع شامي مع حجازي مع يمني مع طلياني في إثبات حديث وسياقه على نسق واحد إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ إن كل واحد من هؤلاء في جهة، ومع هذا يتناقلون حديثاً على وجه واحد، فهذا يدل على صدقهم، ومع ذلك قال الزمخشري: إنهم صنعوا أحاديث يثبتون بها رؤية المؤمنين لربهم.
وهذا لم يضرب ولم يقتل في ذلك الوقت، وهو أشر من الحكام.(21/20)
حال الألوسي في التأويل
أيضاً: من المفسرين الذين وقعوا في التأويل: الإمام الألوسي، وكتابه (روح المعاني) في التفسير يقع في عشرة مجلدات، وهو كتاب عظيم إلى أقصى حد، ولكن الألوسي زل في بعض الصفات وأولها، وليته ما كتبها، لأن أصله ليس أشعرياً، فزل في بعض الصفات وليس في كلها، فهو مرة يدافع عن مذهب السلف ومرة يقع فيما وقع فيه المؤولة، وهذا يدل على أنه لم يتمكن من دراسة الاعتقاد.
ومن واجبي أن أبين لك ذلك؛ حتى إذا قرأت في كتب هؤلاء تحذر، وأنا أحثك على القراءة وطلب العلم من هذه الكتب، إلا في موطن الصفات والذات فينبغي أن ترجع لرجل سلفي سني، أو تقرأ له؛ لأن حبك لفلان ربما يجعلك تعمى وتصم عن أخطائه، وهذا مذهب غير معمول به عند المسلمين.(21/21)
حال سيد قطب في التأويل
أيضاً: سيد قطب رحمه الله تبارك وتعالى، وهو لم يتمكن من دراسة الاعتقاد، فقد دخل السجن قبل أن يقرأ كتاباً في العقيدة، وما تعلم في السجن شيئاً، بل تفرغ للكتابة والتصنيف.
والذي يظهر أن السيد قطب يثبت صفة الوجه، ولكن بتحفظ شديد جداً، فقد قال في سورة البقرة عند قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]: فهي توحي بأنها جاءت رداً على تفضيل اليهود في إدعائهم أن صلاة المسلمين إلى بيت المقدس كانت باطلة وضائعة ولا حساب لها عند الله، والآية ترد عليهم هذا الزعم، وهي تقرر أن كل اتجاه قبلة، فثم وجهه حيث توجه إليه عابد، وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله، لا أن وجه الله سبحانه في جهة دون جهة، والله لا يضيق على عباده ولا ينقصهم ثوابهم، فهو عليم بقلوبهم ونياتهم، ودوافع اتجاهاتهم، وفي الأمر سعة، والنية لله، إن الله واسع عليم.
وقال في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]: فكل شيء زائل، وكل شيء ذاهب، المال والجاه والسلطان والقوة والحياة والمتاع، وهذه الأرض ومن عليها، وتلك السماوات ومن فيها وما فيها، وهذا الكون كله ما نعلمه منه وما نجهله كله هالك، فلا يبقى إلا وجه الله الباقي متفرداً بالبقاء.
وقال عند قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]: وفي ظل هذا النص القرآني تخفت الأنفاس، وتخشع الأصوات، وتسكن الجوارح، وظل الفناء يشمل كل حي، ويطوي كل حركة، ويغمر آفاق السماوات والأرض، وجلال الوجه الكريم الباقي يظلل النفوس والجوارح والزمان والمكان، ويغمر الوجود كله بالجلال والوقار.
ثم ذكر كلاماً وقال بعده: ويعقب على هذه اللمسة العميقة الأثر بنفس التعقيب، فيعد استقرار هذه الحديقة الغناء لكل من عليها، وبقاء الوجه الجليل الكريم وحده بعد استقرار هذه الحقيقة نعمة يواجه بها الجن والإنس.
وقال عند قوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:19 - 20]: ثم ماذا ينتظر هذا الأتقى الذي يؤتي ماله تطهراً وابتغاء وجه ربه الأعلى؟ إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب ومفاجئ على غير المألوف.
فهو في تفسيره لهذه الآيات لا يؤولها بل يبقيها على ظاهرها، فنحمله على المتبادر إلى الذهن من إثبات الصفات.
وسيد قطب أول صفات كثيرة لله عز وجل وأقل تأويله هو تأويله لصفة الوجه، وقد أول صفة الاستواء، وصفة الكلام، وصفة الكرسي، وصفة الإتيان والمجيء، وصفة النفس، وصفة العين، والمحبة، واليد، والفوقية، وإثبات الرؤية، وصفة المعية، وأقل تأويله هو تأويله لصفة الوجه دون هذه الصفات.(21/22)
حال المراغي ومحمود حجازي والطاهر بن عاشور في التأويل
أيضاً: المراغي إمام كبير من أئمة الأزهر وعالم من علمائهم وقد أول هذه الصفات كذلك، وكذلك الشيخ محمود حجازي وقع في التأويل، وطاهر بن عاشور في تفسيره العظيم جداً وقع في التأويل، وكان متأولاً أصيلاً.(21/23)
حال الصابوني في التأويل وذكر نماذج من تأويلاته
أيضاً: الصابوني -حفظه الله وهداه- وقع كذلك في التأويل، فقال في صفة الوجه عند قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] أي: كل شيء يفنى وتبقى ذاته المقدسة، ففسر الوجه بالذات، وقال: أطلق الوجه وأراد ذات الله عز وجل.
قال ابن كثير: وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت، فعبر بالوجه عن الذات، كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وقال عند قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، أي: ويبقى ذات الله الواحد الأحد ذو العظمة والكبرياء والإنعام والكرام.
وقال عند قوله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115].
أي: إلى أي جهة توجهتم بأمره فهناك قبلته، فخص الوجه بالقبلة التي رضيها لكم، وقد نزلت الآية فيمن أضاع جهة القبلة.
وكذلك القرطبي عليه رحمة الله.
وإذا نظرت إلى كلام المفسرين، أو إلى تأويل المفسرين لكدت أن ترجع بالحسرة والندامة، وبشديد الحزن والغم والهم، فقل أن يسلم لك إمام من الأئمة أو مفسر من المفسرين إلا ووقع في التأويل أو كان مؤولاً أصيلاً.
وهؤلاء الذين عددناهم الآن حوالي عشرين مفسراً، وبقية الكتاب تناول بقية المفسرين من أول من صنف في التفسير إلى آخر من صنف كـ الصابوني، وهم كثرة كثيرة جداً.(21/24)
تفاسير ينصح بالرجوع إليها
أعظم تفسير ترجع إليه هو تفسير الإمام الطبري؛ فقد كان على رأس أهل السنة والجماعة في زمانه، ثم اختصر كتابه العلامة الكبير النحرير شيخ السلف والمفسرين في زمانه: ابن كثير الدمشقي عليه رحمة الله تعالى.
ونحن ننصح دائماً بالرجوع إلى تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير لمن أراد النظر في التفسير، ومن عز أو شق عليه هذا أو لم يفهمه فليرجع إلى مختصر هذا الكتاب، وهو اختصار شيخنا وأستاذنا وعالمنا رحمه الله الشيخ محمد نسيب الرافعي، فقد اختصر تفسير ابن كثير في أربع مجلدات، فمن أراد فليرجع إلى هذه الكتب الثلاثة، وأما غيرها فالأولى أن لا يقرأ فيها ولا ينظر فيها إلا طالب للعلم الشرعي الذي قد تمكن من علم العقيدة على مذهب السلف.
فإذا نظرت في الآية المتعلقة بصفات المولى تبارك وتعالى فلابد أن تعلم كون هذا المفسر متبعاً أو مبتدعاً.(21/25)
حال ابن الجوزي في العقيدة
ابن الجوزي -عليه رحمة الله- أشعري أصيل، وتجد له أحياناً أقوالاً في غاية الروعة والجمال في مذهب أهل السنة والجماعة، ونبذ الابتداع، وتضليل المبتدعة، والأمر بلزوم وسلوك سبيل السلف، ولكن القضية كانت عند ابن الجوزي غير منضبطة، فهو يأمر باتباع السلف ويخالفهم، فقد قال في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]: قال المفسرون: معناه يبقى ربك، ففسر الوجه بالذات.
وكذا قال في قوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] أي: يريدونه هو.
وقال في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]: إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.
وهذا الكلام في غاية الخطورة، فهو يقول: وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم.
والذين أنكر عليهم ابن الجوزي هم السلف، فقد ذهبوا إلى إثبات أن لله تعالى وجهاً، وهو صفة زائدة على الذات.
وهذا هو معتقدنا نحن، فنحن نقول: ونعتقد أن لله تبارك وتعالى وجهاً يختلف عن الذات؛ لأننا لو قلنا: إن الوجه هو الذات فستكون الذات من غير وجه، ولكن الوجه صفة زائدة للذات، فهو سبحانه ذات متصفة بالوجه.
وابن الجوزي يقول: و (قد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى إثبات أن لله تعالى وجهاً) وليس له دليل إلا ما عرفه من الحسيات، من أن ذلك يوجب التبعيض، وأنا إذا أثبتنا أن لله وجهاً فهذا يوجب التبعيض.
قال: ولو كان كما قالوا -أي: ولو كان الأمر كما قلنا نحن- كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه.
ويستدل بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
قال ابن حامد: أثبتنا لله وجهاً ولا يجوز إثبات رأس.
يعني: إذا أثبتنا أن لله وجهاً لا يلزم هذا أن نثبت أن لله رأساً؛ لأنه لم يرد في النصوص، فلو قلت: إثبات الوجه يلزم منه إثبات الرأس؛ لأن وجهي في رأسي، فكيف أثبت وجهاً بلا رأس؟ فسأقول لك: هذا الكلام في حقي أنا وأنت، وأما في حق الله عز وجل فلا؛ فلو قلت: يلزم من إثبات الوجه إثبات الرأس، فسأقول لك: أنت وضعت صورة لله عز وجل في رأسك وقلبك وجعلت الله كنفسك، وجعلت الذات العلية كذاتك أنت السفلية.
ولا نثبت لله وجهاً بلا رأس، فهذا أيضاً خطأ، بل نثبت لله وجهاً لأنه أثبته، وننفي عنه ما نفاه عن نفسه، فلا نثبت الرأس، ولا مانع أن يكون الله اتصف به، ولكنه لم يخبرنا، ونحن لا نثبت لله شيئاً إلا إذا كان ثابتاً.
يقول: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ما ذكر، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس.
فـ ابن الجوزي ينقم على ابن حامد الذي يقول: إننا نثبت الوجه لكن لا نثبت الرأس، قال: لأنه يلزم من إثبات الوجه التشبيه بين الخالق والمخلوق.(21/26)
حال كتاب دفع شبه التشبيه لابن الجوزي وسبب تأليفه له
إن كتاب (دفع شبه التشبيه) لـ ابن الجوزي أشأم كتاب صنف في الإسلام في الاعتقاد، وكان غرضه من تصنيف هذا الكتاب أن يرد على أهل السنة، معتبراً أن الذي عندنا شبهات وهو يدفعها عننا.
قال: لأن إثباتكم للشبهات التي في عقولكم يلزم منها التشبيه بين الخالق والمخلوق، فهو يسمينا تارة المجسمة، وتارة المشبهة.
فقد انبرى قلمه في تصنيف هذا الكتاب ليرد به على أهل السنة والجماعة؛ ظناً منه أن ما عندنا هو مجموعة شبهات، وابن الجوزي رد على إمامه أحمد بن حنبل.
حتى أن الإمام الذهبي حينما تكلم في المجلد الرابع عشر من السير في ترجمته لـ ابن الجوزي قال: وليت ابن الجوزي سكت وما خالف إمامه.
لأن ابن الجوزي في الفروع حنبلي، وأحمد بن حنبل كان سيد الأمة في زمانه في إقامة العقيدة على ما كانت عند النبي عليه الصلاة والسلام وعند أصحابه الكرام.
وابن الجوزي اعتبر أن أحمد بن حنبل ومن معه مشبهة، وقد أساء غاية الإساءة للحنابلة ولـ أحمد بن حنبل خاصة في مذهبه، وأساء إلى مذهب السلف على العموم رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهو يقول: إنه سلفي، ويحث الناس على معتقد السلف.(21/27)
مناقشة لأحد دكاترة الأزهر حول من هم المتكلمون وصفة الكلام
سألت أحد مشايخ الأزهر كان يدرس العقيدة للسنة الأولى في كلية الشريعة، وقد أكثر من قول: (والمتكلمين).
فقلت له: من المتكلمون؟ قال لي: أهل السنة، قلت: من هم؟ قال لي: الأشاعرة والماتريدية مجموعهم هم أهل السنة، قلت: والمعتزلة؟ قال: والمعتزلة خالفوا في بعض الصفات فقط، قلت: ومن الذي خالف في كل الصفات؟ قال: الذين أثبتوها على ما جاءت ولم يتعرضوا لها بالتأويل.
قلت: وما الذي منعهم أن يتعرضوا لها بالتأويل؟ قال: جهلهم بالنصوص، قلت: الذي نعلمه من كتب الاعتقاد أن أبا بكر لم يتعرض لهذه الآيات بالتأويل، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتبع سنة هؤلاء، فقد قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).
قال: لا، أمر النبي عليه الصلاة والسلام باتباع سنة الخلفاء في السياسة والحكم، قلت له: من أين لك هذا القيد؟ قال: لأن السنة إذا أضيفت إلى خليفة قصد بها الحكم، وإذا أضيفت إلى عالم قصد بها في هديه وسمته، قلت: أيضاً سنطالبك بالدليل في هذا.
وكان أكبر رأس في الأزهر، وهو رئيس جامعة الأزهر، وهو الدكتور عبد الفتاح الشيخ.
ثم قلت له: يا أستاذ! الذي نعلمه من مذهب سلفنا أن أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته لا يتعرض لها بالتأويل، وما سكت سلفنا عن تأويل هذه الصفات عن جهل وإنما عن علم وإيمان، فقد آمنوا بها ولم يرد أن أحداً منهم سأل النبي عليه الصلاة والسلام ما المقصود باليد أو الوجه أو الساق أو القدم أو الأنامل أو الأصابع؟ وهب أن أبا بكر جاهل، فهل الأمة والصحابة في ذلك الزمان كلهم جهال؟ فقد علمهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يسألوا إذ لم يعلموا، فكونهم لم يسألوا دليلاً على أنهم آمنوا بها كما جاءت، وأمروها ولم يتعرضوا لها بتأويل، وأما من تعرض لها بتأويل فإنه خلفي وليس سلفياً.
قال: ماذا تقصد؟ قلت: أقصد أن من تعرض لها بالتأويل أشعري، والأشاعرة ليسوا من أهل السنة بل هم من أهل القبلة، وهذه مجاملة معهم، وأما أن تدعي أمام الطلاب أن الأشاعرة والماتريدية هم أهل السنة فهذا تلبيس، فثار ثورة عارمة وسب وشتم، ثم حرش بي عند العساكر الذين كانوا يحرسونه.
في المحاضرة الثانية كنت جالساً في الدكة الأولى، فقال في صفة الكلام لله عز وجل: والكلام ثابت لله عز وجل، فقلت: يمكن أنه تاب والحمد لله، ويبدو أن الرجل قد راجع نفسه واستقام، فقال: ولكن ليس على مذهب الحشوية، فقلت له: يا شيخ! من الحشوية؟ قال: من سموا أنفسهم بالسلف، قلت: نحن يعني؟ قال: هو أنت، قلت له: ليس أنا فأنا تابع، قال: وأما الكلام الثابت لله عز وجل فهو كلام نفساني، وإن الله لا يتكلم على الحقيقة، قلت: آخر الكلام ينقض أوله، قال لي: كيف؟ قلت له: الله تبارك وتعالى يتكلم كلاماً على الحقيقة متى شاء وبأي كيفية شاء ونحن لا نعلم حقيقة الكيفية، قال لي: كيف؟ وهل ربنا يؤاخذنا بشيء لا نعلمه؟ قلت له: لا، وأرجو ألا ترفع صوتك حتى لا تضيع المعلومة، فالكلام ثابت لله عز وجل على المعنى اللائق به، ثم قلت له: وهل أنت رأيت ربنا؟ قال: لا، قلت: هل رأيته كيف يتكلم؟ قال: لا، قلت له: وكيف أثبت أن له كلاماً نفسانياً؟ وما الذي يمنعك أن تثبت له الكلام على الحقيقة؟ قال: كيف يا بني؟ وهل له أسنان ولسان؟ قلت له: وهل لابد أن نثبت له ذلك؟ قال: فكيف تقول: إنه يتكلم حقيقة؟ قلت له: هل ربنا له مخ؟ فلو أن له مخاً فسيتكلم كلاماً نفسانياً، فهل تثبت له المخ؟ قال لي: لا، قلت له: كيف يكون له كلام نفساني؟ قال: تعال إلى المكتب لنتناقش، قلت له: بل هنا؛ لأنك تكلمت بهذا الكلام أمام الطلاب، ولا يصلح أن يخفى هذا على الطلاب، ولا أن تعتقد أنت لنفسك أن الله تبارك وتعالى يتكلم كلاماً نفسانياً، ومعذرة فأنا سأبيّن الطلاب ماذا يعني الكلام النفساني عند الأشاعرة، ثم قلت له: من أول من سن الأشعرية؟ قال لي: أبو الحسن الأشعري، قلت له: وفي أي قرن كان؟ قال: في القرن الثاني، قلت له: وفي خلال هذين القرنين أتظن أن الأمة كانت مجمعة على الضلال إلى أن أتى أبو الحسن الأشعري؟ ثم إن أبا الحسن الأشعري صنف كتباً بعد توبته وأعظمها كتاب (الإبانة)، وكتاب رسالة إلى أهل الثغر أثبت فيها عقيدة أحمد بن حنبل، وخلع نفسه من عقيدته الأولى -عقيدة المتكلمين- وقد تكلم بكلام عظيم ومتين جداً في الإثبات والنفي على مذهب السلف، وعلى مذهب أحمد بن حنبل.
إذاً: فمن ماذا تاب؟ هل تاب من الحق ورجع إلى الباطل أم تاب من الباطل؟ فقال لي: توبة أبي الحسن غير ثابتة، قلت له: بل ثابتة وبقلمه، قال: أنت الذي افتريت عليه، قلت له: كيف؟ قال: أنتم الذين صنفتم كتاب الإبانة.
ثم قلت لهذا الدكتور: دعني أبين للطلاب الكلام النفساني، قال: لا أنا من سيبينه.
ثم قال: الله تبارك وتعالى لا يليق به أن يتلكم كلاماً على ال(21/28)
مناقشة لأحد مشايخ الأزهر حول صفة اليد في قوله تعالى: (يد الله فوق أيدهم)
أيضاً: أحد مشايخي في الأزهر كنت أظن فيه خيراً، وكان شديداً جداً في السنة، ولم أكن أعرف أن عنده هذا التأويل العظيم، فقلت له: نريد أن تعطينا محاضرة في مسجد الرحمة، قال: نعم، وأين مسجد الرحمة؟ قلت له: في شارع الهرم، قال: أولم تجد إلا شارع الهرم؟ قلت له: لا بأس فيه خير أيضاً إن شاء الله، قال: ما عنوان المحاضرة التي تريدونها؟ أتريدونها في العقيدة أم في الأصول أم في الفقه؟ قلت له: لا، إنما نريدها محاضرة عامة، قال: ولنجعلها في العقيدة، قلت له: هناك عندنا ناس يا دكتور! يقولون: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] يعني قوة الله فوق قوتهم، قال لي: نعم هكذا أقول، وماذا تقولون أنتم؟ قلت: يكفي يكفي لا نريدك، وكنت أتكلم معه بالتليفون وأنا بعيد منه، ثم قال: ماذا تقولون يا أخي؟! قلت له: نثبت لله يداً حقيقية، قال: من قال لكم هذا الكلام؟ قلت: الذي قال لنا هذا الكلام النبي عليه الصلاة والسلام ثم أبو بكر وعمر، قال لي: أنتم تكذبون على هؤلاء، هؤلاء أطهار وأشراف.
وقد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها على أن لله تعالى وجهاً، كما أن له يدين وسمعاً وبصراً وصورة وعلماً وحياة وقدماً، وغير ذلك مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فيجب إثبات الوجه لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل.
ونحن نثبت الوجه لله عز وجل؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وكما أننا نثبت لله تبارك وتعالى ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له تعالى وجهاً لا شبيه له ولا نظير.
وقد نفى الجهمية وأشباههم من نفاة الصفات صفة الوجه عن الله تعالى، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وأتوا بعبارات مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، وأرادوا بها قطعاً معنى باطلاً؛ كي يلبسوا بها على الخلق، وهذه الألفاظ المجملة يلهج بها أهل البدع؛ لينفوا بها صفات الباري جل وعلا.(21/29)
الرد على من أول صفة الوجه بأدلة الكتاب والسنة
بالاعتصام بالكتاب والسنة تنجو من أباطيل أهل البدع وشبههم، وهناك الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة التي ترد على الجهمية وغيرهم من النفاة وتدحض شبههم، وتقمع باطلهم: قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27].
وجاء في صحيح البخاري -رحمه الله- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال النبي عليه الصلاة والسلام: أعوذ بوجهك، فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65]، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعوذ بوجهك، قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام:65]، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا أيسر)، وهذا الحديث نص صحيح صريح في إثبات الوجه لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية الخبرية.
ومن الأدلة على إثبات صفة الوجه لله تعالى: ما رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور)، وفي رواية: (النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
والجهمية تنكر هذا الحديث وما في معناه، فعموا وصموا، والأشاعرة تحرفه وتتأوله بتأويلات فاسدة، إما بتفسير الوجه بالذات؛ لتنفي صفة الوجه عن الله، وإما بغير ذلك من التأويلات الباطلة.
وهناك العديد من الأدلة الصحيحة المتلقاة بالقبول عند أهل العلم مما يثبت لله تعالى صفة الوجه، وهي تغيظ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف الضالة، ففي البخاري ومسلم من طريق أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).
فقوله: (على وجهه) فيه إثبات الوجه لله تعالى حقيقة، وأهل الباطل تأولوا هذا الحديث كما تأولوا غيره من الأحاديث الدالة على إثبات صفة الوجه لله تعالى، حتى قال القاضي عياض: فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، أي: فمن آمن به على ظاهره وأثبت الوجه لله أفضى به ذلك إلى التجسيم، يعني: كأنه أراد أن يقول: إذا أثبت الوجه لله فلابد وأن تقول بأن الله تعالى جسم له أجزاء وأبعاض؛ لأن الوجه جزء من الجسم، وبعض من الكل.
والقاضي عياض كان إمام المتأولة، وكلامه هذا خطأ وغلط، فليس في إثبات الصفات لله تعالى تجسيم، فإن السلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله محمد عليه الصلاة والسلام إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل.
والواجب على جميع الخلق: التسليم والانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى؛ فإنه من أعظم الضلال والإلحاد، والذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق هو المجسم المشبه.
والله المستعان.
ومن الأدلة كذلك على إثبات الوجه لله تعالى: ما رواه أبو داود عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا دخل المسجد، قال: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم).
فقوله: (وبوجهه الكريم) دليل على إثبات الوجه لله تعالى، وهو يرد على من زعم أن الوجه هو الذات، فقد استعاذ صلى الله عليه وسلم أولاً بالله العظيم، ثم استعاذ ثانياً بوجهه الكريم.
وهذه المغايرة للتباين بين الذات وبين الوجه، وإثبات أن الوجه صفة لتلك الذات، والعطف يدل على المغايرة.
والأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الوجه لله تعالى كثيرة، وقد أخرجها كثير من أهل العلم في كتبهم، متلقين لها بالقبول والتسليم، ولم ينكرها أحد منهم.
قال ابن خزيمة: فنحن وعلماؤنا جميعاً في جميع الأقطار نقول: إن لمعبودنا عز وجل وجهاً كما أعلمنا الله في محكم تنزيله.(21/30)
خطأ ابن الجوزي في نسبته تفسير الوجه بالذات إلى جميع المفسرين
ابن الجوزي تأول قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] بأنه يبقى ربك، وهذا التعميم والإطلاق بأنه قول المفسرين خطأ عظيم جداً.
فهناك من المفسرين قبل ابن الجوزي من فسر الآية بغير ما ادعاه ابن الجوزي، مع أن الحق ليس مقصوراً على من صنف كتاباً أو كتباً في التفسير، وليس بلازم أن نأخذ تأويل الصفات من التفسير، فهذا أحمد بن حنبل رحمه الله ليس له كتاب التفسير، ومع هذا تكلم عن صفات المولى تبارك وتعالى.
والطبري في تفسير قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، قال: يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد! ذو الجلال والإكرام.
فلم يقل: ويبقى ربك، وإنما قال: ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ))، فهذا إثبات لصفة الوجه، وقوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] نعت للوجه، ففرق بين قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وبين قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78].
فذو الجلال والإكرام صفة للوجه، وأما ذي الجلال والإكرام فصفة للذات تبارك وتعالى.
قال: وهذا مذهب أهل التحقيق، ومن فسر الوجه بالذات فقد أخطأ وسلك مسلك الجهمية.(21/31)
رد ابن خزيمة على من أول الوجه بالذات في قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)
وقال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية نفسه -أي: التي أضاف إليها الجلال بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]-، قال: وزعمت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام لا الوجه.
قال أبو بكر: أقول -وبالله توفيقي-: هذه دعوى يدعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] فذكر الوجه مضموماً في هذا الموضع مرفوعاً، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو كان قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] مردوداً إلى ذكر الرب في هذا الموضع لكانت القراءة: ذي الجلال والإكرام مخفوضاً كما كان الباء مخفوضاً في ذكر الرب جل وعلا -أي: في قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]- فلما كان الجلال والإكرام في هذه الآية صفة للرب خفض (ذي)، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعاً كانت صفة الوجه مرفوعة، فقال: (ذو) ولم يقل: ذي، فتفهموا يا ذوي الحجا! هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، ولا تغالطوا فتتركوا سواء السبيل.(21/32)
رد ابن القيم على من أول الوجه بالذات
قال ابن القيم عليه رحمة الله في مختصر الصواعق كلاماً عجيباً، فقد قال: إنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه.
يعني: لا توجد حتى لغة في العالم تفهم أن الوجه بمعنى الذات، فكيف تقولون بأن الوجه في الآية المقصود به الذات؟ قال: وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب أن قال: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه السور، ووجه النهار، ووجه الأمر، فيقال لهذا المعطل المشبه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مبطل لقولك؛ فإن وجه الحائط أحد جانبيه؛ فهو مقابل لدبره، ومعنى هذا أن وجه الكعبة مقابل لدبرها، فهو وجه حقيقة، فما الذي يمنعك أن تثبت لله وجهاً على الحقيقة؟(21/33)
رد ابن تيمية على من نفى الصفات عن الذات
قال ابن تيمية: وإذا قال من قال من أهل الإثبات للصفات: أنا أثبت صفات لله زائدة على ذاته فحقيقة ذلك أننا نثبتها زائدة على ما أثبته النفاة من الذات.
وهذا كلام جميل جداً، فهو يريد أن يقول: النفاة لم يثبتوا تلك الصفات الزائدة على الذات، وأما نحن فنقول: إن الذات متصفة بصفات، والنفاة سموا نفاة؛ لأنهم نفوا تلك الصفات الزائدة على الذات، وقالوا: نحن نثبت الذات فقط، وأما هذه الصفات فإنا نؤولها أو نعطلها، أي: يصرفونها عن ظاهرها، أو يعطلونها تماماً.
وابن تيمية عليه رحمة الله -وهو سيد المثبتين على منهج السلف- يقول: إنما نثبت لله تبارك وتعالى إثباتاً بلا تمثيل، وننزهه تنزيهاً بلا تعطيل.
والكلام في هذا الأمر أظنه يطول جداً.
فإذا علم هذا الأصل العظيم الذي لا يضل من تمسك به فليعلم أن النصوص جاءت صريحة صحيحة في إثبات الوجه لله تعالى، وقد تقدم بعضها.
ومن أنكرها فإنما ينكر على الله تبارك وتعالى قوله، وعلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام خبره، وهذا من أعظم الضلال وأقبح الباطل، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
ومن رد آيات الصفات وأحاديثها أو حرفها فهو والله بمعزل عن هذا التحكيم.
وقول ابن حامد: ولا نجوز إثبات الرأس قصده في ذلك أن النص لم يأت به، ولو جاء النص به لكنا أول القائلين به؛ تفادياً من مخالفة الله ومخالفة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فلما لم يأت النص بإثبات الرأس لله تعالى لم يقل به ابن حامد، وأي عيب في هذا؟ ومنه يظهر أن إنكار ابن الجوزي ليس في محله؛ لأن ابن حامد أثبت لله وجهاً، وهكذا جاءت النصوص، فمن أنكر على ابن حامد فإنما يرد الآيات والأحاديث الصحيحة، وهذا ضلال بعيد وزيغ عظيم، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.(21/34)
حكم تأويل العين بالرؤية
أيضاً: من الناس من حمل العين المذكورة في الكتاب على الرؤية، وهذا تأويل، يعني: قال في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] أي: بمرأى مني، وفي قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] أي: بمرأى منا، وكذلك في قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14].
وقد يكون ذلك من صفات الذات، وتكون صفة واحدة، والجمع فيه للتعظيم، ومنهم من حملها على الحفظ والكلاءة -أي: الرعاية- وقال: إنها صفات فعل، والجمع فيها سائغ.
ومن قال بأحد هذين زعم أن المراد بالخبر نفي نقص العور عن الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين من الآفات والنقائص.(21/35)
رد البيهقي على من نفى الصفات عن الذات
قال البيهقي في الرد على هؤلاء: والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسنة من إثبات العين صفة لا من حيث الحدقة أولى.
فهو يريد أن يقول: أثبت لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه من صفة العين على الحقيقة، ولا تتوهمن أن العين جارحة؛ لأن العين في حق المخلوقين هي الحدقة، فلا تقولن: حدقة في حق الله عز وجل، وهذا القول الذي اختاره البيهقي هو الذي عليه سلف الأمة، وأما محاولة بعض الناس حمل النصوص على خلاف ما يظهر من ألفاظها فمحاولة جهمية معروفة.
وأما تفسير من فسر الآيات السابقة بالرؤية مع إنكار صفة العين فقوله شبيه بقول المعتزلة القائلين: إنه تعالى سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، وهو قول مرفوض شرعاً وعقلاً، كما تقدم وذكرناه.
وابن الجوزي عليه رحمة الله وقع في هذا التأويل، ورد على ابن خزيمة، وهو من أئمة السلف.
وابن الجوزي مضطرب جداً في باب الاعتقاد خاصة في باب الأسماء والصفات، فهو تارة يثبتها وينافح ويجادل ويهاجم المبتدعة، وتارة يقول بقول المبتدعة ويهاجم أهل السنة ويسميهم مشبهة، فهو هنا أنكر على ابن خزيمة إثبات العينين لله تبارك وتعالى حقيقة، وقال: هذا لا يشبه كلام السلف.
ثم قال: وقد أتى ابن خزيمة بما لم يسبق به، مع أن ابن خزيمة هو إمام من أئمة المسلمين، وهذه زلة خطيرة وسقطة شنيعة وقع فيها ابن الجوزي عليه رحمة الله، وما ذكرناه آنفاً يكفي للرد عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(21/36)
الأسئلة(21/37)
حال النصوص الواردة في قيام أول رجب، وحكم تخصيص أول رجب بالقيام
السؤال
هل وردت نصوص في قيام أول ليلة رجب؟
الجواب
النصوص التي وردت في قيام أول رجب كلها نصوص باطلة غير صحيحة، فمن خص أول يوم في رجب بقيام اعتقاداً منه أن هذه طاعة مخصوصة منصوص عليها فقد وقع في الابتداع، أي أنه غير معذور بجهله، وليحذر المرء من الأيام التي يلتزم المبتدعة بصيامها، وتلك الليالي التي يخصونها بقيام دون ما نص في كتاب الله، أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام.(21/38)
حكم التصفيق للرجال، وحكم القسم بقول (اللهم أقسم بك عليك)
السؤال
ما حكم التصفيق للرجال في أي مناسبة؟ وهل يجوز أن أدعو الله تعالى بقولي: اللهم إني أقسم بك عليك؟
الجواب
حكم التصفيق للرجال مكروه كراهة شديدة جداً، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه كان يصفق في أي مناسبة من المناسبات، والنبي عليه الصلاة والسلام جعل التصفيق من شأن النساء، والتسبيح من حق الرجال في الصلاة، فقال: (إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال)، يعني: إذا أخطأ الإمام فلتصفق المرأة وليسبح الرجل، فبعض أهل العلم عمم التصفيق على كل الأحوال، وبعضهم قال: إنما هو مخصوص بالصلاة، ولا بأس أن يصفق الرجل في غير الصلاة.
والله تعالى أعلم بذلك.
وأما قول الرجل أريد أن أدعو الله تعالى بقولي: (اللهم إني أقسم بك عليك) فليس عندي جواب على هذا السؤال.
ولك أن تقسم بالله وبأسمائه وصفاته، وأما أن تقسم بالله عليه أو تقسم بصفة من صفاته عليه، أو بفعل من أفعاله عليه سبحانه وتعالى فليس عندي علم في هذا الباب، ولعل الله تعالى يطلعنا ويعلمنا حكم هذا.(21/39)
حكم شراء مصحف لطالب العلم من مال الزكاة
السؤال
هل يجوز شراء مصحف لطالب علم يحفظ القرآن ويريد أن يتم حفظه كاملاً من مال الزكاة؟
الجواب
يجوز إذا كان فقيراً؛ لأن زكاة المال لها مصارف ثمانية معلومة في كتاب الله عز وجل في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] إلى آخر الآية، فإذا دخل هذا الطالب تحت صنف الفقراء جاز ذلك، أو تحت صنف المساكين جاز ذلك، أو تحت صنف آخر من بقية الأصناف جاز له ذلك.
وأما شراء مصاحف ووقفها في المساجد من زكاة المال فهذا أمر لا يجوز، كما أنه لا يجوز بناء المساجد من زكاة المال من باب أولى، والمعاصرون توسعوا جداً في فهم في سبيل الله، وهذا التوسع الله أعلم بحقيقة قبوله، وهل هو صحيح أم لا؟ فقد أدخلوا فيه كل شيء، وكل من هب ودب، وكل محتاج، والأصل في إطلاق سبيل الله أنه الجهاد، أي: جهاد العدو، هذا هو الأصل.
وقد ورد حديث في مسند أحمد يدل على أن سبيل الله هو الجهاد والحج، والسلف توقفوا عند هذين، وجمهورهم على أن سبيل الله هو الجهاد، وأما المعاصرون فإنهم أدخلوا الكثير والكثير في هذا السهم، الذي هو من أسهم الزكاة، والمنصوص عليه في الآية.
فالله أعلم بحقيقة الأمر.(21/40)
حكم صيام الإثنين والخميس إذا وافق يوم الشك
السؤال
الذي يصوم الإثنين والخميس طول السنة هل له أن يصوم آخر يوم في شعبان إذا كان إثنين أو خميس أم يقف في خمسة عشر شعبان؟
الجواب
يصوم في كل إثنين وخميس إلى أن يدرك رمضان، حتى وإن كان اليوم الذي قبل رمضان هو يوم الإثنين أو الخميس، وقد وقع خلاف سنة (1984م) في الأردن، وهذا الخلاف كان في يوم الأربعاء، وهل رمضان غداً أم بعد غداً؟ فسألت الشيخ الألباني: هل الصيام غداً أم بعد غد؟ قال: على أية حال أنا في الحالين صائم.
وهذا يعتبر جواباً صريحاً أو ضمنياً للرد على سؤال الأخ، فيجوز لك أن تصوم الإثنين أو الخميس الذي قبل رمضان مباشرة، فإن كان من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن من رمضان فهو نافلة؛ لأنه قد ثبت من عادتك أنك تصوم الإثنين والخميس على مدار السنة كلها.
وليلة النصف من شعبان أو يوم النصف من شعبان كل الأحاديث الواردة فيه ضعيفة، وأنا لن آخذ بحديث ليلة النصف ونهار النصف من شعبان ولكن آخذ بحديث الثلاثة الأيام البيض، وإذا كنت أصوم منذ اثني عشر شهراً فلا تأت تمنعني اليوم، هذا فضلاً أنه فيه عدم مشاركة المبتدعة في بدعتهم.
وأما حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) فهو حديث ضعيف، وهذا الذي اعتمد عليه الأخ في سؤاله.
ويوم الشك هو يوم الغيم الذي لا تتضح فيه الرؤيا، والنبي عليه السلام قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين).
والعدة إذا كانت في أول الصيام فالمقصود بها عدة شعبان، وإذا كانت في آخر الصيام -أي: في آخر رمضان- فالمقصود بها عدة رمضان.(21/41)
حكم قول: (لسوء حظي)، و (لا قدر الله)
السؤال
ماذا تقول في قولي الناس: (لسوء حظي)، و (لا قدر الله)؟
الجواب
( لسوء حظي) كلمة تدل على الشؤم، ولا شؤم في الإسلام كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فقد قال: (لو كان الشؤم في شيء لكان في ثلاث: في المرأة، والدابة، والبيت).
يقول الحافظ ابن حجر: وهذا يدل على أنه لا شؤم قط في الإسلام؛ لقوله: (لو كان الشؤم في شيء)، فدل على أنه لا شؤم أصلاً في الإسلام.
وهذا من الألفاظ النابية التي ينبغي للمسلم أن يتورع ويتنزه عنها.
وقوله: (لا قدر الله) كلام مجمل إذا أراد قائله أن الله لا يقدر الأشياء إلا بعد وقوعها فهذا قدري جلد، أو جاهل، وإذا كان هذا من باب الدعاء لرفع الشر فلا بأس بذلك، كما تقول: فلان رحمه الله، وما يدريك أنت أن الله قد رحمه، فإذا كنت تخبر أن الله قد رحمه فهذا قول على الله بغير علم، وإذا كنت تقول هذا من باب الدعاء له فلا بأس بهذا، فقولك: (لا قدر الله).
أي: أسأل الله ألا يقدر عليك الشر، فهذا من باب الدعاء، وهو جائز ولا بأس به.(21/42)
حكم قول: (يا مولانا)
السؤال
يقول الناس: (يا مولانا!) فهل هذه الكلمة صحيحة أم لا؟
الجواب
هي صحيحة، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، فأنت مولاي وأنا مولاك، وكلنا يتولى أخاه وصاحبه، والولاية من الولاء، والولاء معقود في الله عز وجل حباً وبغضاً، إيماناً وكفراً، فالكافرون يتولى بعضهم بعضاً، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض.
وكلمة (مولانا) لها عند العجم مدلول أحسن بكثير جداً من العرب، فالعربي يقول لك: يا مولانا! استهزاء تارة وبحق تارة وبلغو الكلام تارة ثالثة.
والعجم لا يقولون: يا مولانا إلا لرجل ذو مكانة وعلم سابق، أو الشيخ له مكانته، فإذا سمعت الباكستاني يقول لآخر: يا مولانا، فاعرف أن هذا الرجل له مكانة عظيمة جداً في بلده، وأما في مجتمعنا الآن فهي تقال لكل أحد.(21/43)
حكم إيراد المفتي والقاضي للدليل على فتواهما
السؤال
إذا سئلت مسألة أعلمها ولكنني لا أتذكر الدليل جيداً من الكتاب والسنة، أو أنني أعلم الدليل ولكني أشك في صحته وتمام الإجابة؛ فهل إذا سكت عن الإجابة التي ربما تنفع مسلماً أكون كاتماً للعلم النافع وواقعاً في الإثم حقاً أم أنني على صواب؟
الجواب
القاضي والعالم لا يلزمان بسوق الدليل عند إجابة الأسئلة، فإذا ساقا الدليل على صحة كلامهما فهذا فضل، ولذلك استقر في أذهان وعقول وقلوب الناس -العالم منهم والجاهل- أن الحاكم إذا حكم بحكم لا يطالبه المحكوم عليه بسوق أدلته، وأجمع أهل العلم أن القاضي لا يلزم بإثبات أدلته، أو بسوق مستنده في هذا الحكم، وكذلك المفتي.
وتجد في أصول الفقه مسألة: هل يلزم المفتي أن يسوق أدلة فتواه في كل فتوى؟ ويجيبون كلهم: بـ (لا).
قولاً واحداً، فإذا ساق فهذا فضل، فأنت لا يلزمك أن تسوق الدليل، وإن سقته كان أحسن وأفضل.
وإذا كنت تعلم أن الذي يستفتيك متعنت فلا تجبه ابتداء، وقد كان الرجل يأتي إلى مالك فيسأله السؤال فلا يجبه مالك، فيعيده عليه فلا يجبه مالك، وقد حدث منه هذا مرات وفي عدة مجالس، فإذا تأدب وانكسر وذل بين يدي الإمام أجابه، ثم يقول له الإمام في نهاية
الجواب
يا فلان! سل تعلماً ولا تسل تعنتاً، فإن الذي يتأدب ويريد أن يتعلم علمناه، وأما من يريد أن يتنطع فلا؛ لأن الذي لم يتأدب ولم يتعلم أصول الأدب في طلب العلم فلابد وأنه سيفسد بهذا العلم كثيراً، وهناك أناس كثر في هذا الزمان تعلموا بعض العلم ولم يتعلموا له الأدب فصار شرهم على علماء الأمة بالذات ظاهر وبين وواضح، وأول ما طعنوا طعنوا في أهل العلم؛ لأنهم لم يتعلموا الإخلاص أولاً في طلب العلم الذي هو أوجب الواجبات على طالب العلم، ثم لم يتعلموا حق الشيخ، وحق الكتاب، وحق الأقران، وحق الأمة عليهم، فإذا لم يتعلم طالب العلم هذا كله وهجم على العلم هجوماً فلابد وأنه سيتراجع عن طلب العلم، ثم بعد ذلك يدير ظهره لعلماء الأمة وطلاب العلم فيها.(21/44)
حكم طاعة الوالدين إذا منعا الولد من طلب العلم
السؤال
هل يجوز الكذب على الوالدين لأنهما يمنعاني من حضور مجالس العلم خوفاً علي، وكذلك يمنعاني من إطلاق اللحية؛ لأنهما يرفضان التعصب، زادكم الله علماً وحفظكم؟
الجواب
هذا السؤال صراحة مشكل جداً، وقد سمعت العلماء يجيبون عن هذا
السؤال
بأن العلم الذي لا يسعك جهله لا طاعة لوالديك في الامتناع عنه، كعلم الاعتقاد مثلاً، أو علم فرائض الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، هذا إذا لم تكن تعلمه ولا سبيل لك إلى تحصيله تحصيلاً سليماً، ففي هذه الحالة لا طاعة لوالديك في الامتناع.
وأما إذا كان العلم من باب النافلة -وأنت عالم وراسخ على أصول ثابتة في هذه المسائل الأساسية، أو أنك جاهل وتريد أن تصبح واعظاً- ففي هذه الحالة سماع كلام الوالدين أولى من حضور هذه المجالس، والعلماء يفرقون بين العلم الذي لا يسعك جهله والعلم الذي يسعك جهله.
والوعظ والمجالس الوعظية من العلم الذي يسعك أن تجهله، وليس لازماً أن تبكي، ولكن يلزمك أن تعرف أن الظهر أربع ركعات، وإذا كنت صاحب مال لزمك أن تعرف حق الله تعالى في هذا المال، وإذا أرادت الحج لزمك أن تعرف كيف تحج.(21/45)
وقت حادثة الإسراء
السؤال
هل صحيح أن الإسراء كان في رجب؟
الجواب
لا، لم يصح، ولكنهم يحتفلون في رجب من أجل حلاوة المولد.(21/46)
حكم الوصية
السؤال
سمعت أن من مات ولم يوص لم يكلمه الله يوم القيامة، وقد كتبت وصيتي، ولكني لا أعلم ماذا أكتب فيها غير بعض الأشياء منها، وذلك تقريباً لعامل السن، فأنا لم أبلغ العشرين بعد وأشعر بقلق من هذا الأمر، فبماذا تنصحني؟
الجواب
مادام أن الوصية الشرعية معك فلا بأس، وهي تكفيك إن شاء الله.
ولا حرج عليك إذا لم توص خاصة إذا لم يكن عندك شيء توصي به، ويمكن أن توصي بالمسائل الشرعية، ونبذ البدع، واتباع السنن، وحث القوم على سلوك مذهب السلف من الاعتقاد الصحيح وغير ذلك، ووصية الإنسان لا بد أن تكون معلومة من حياته، فلو علم عن شخص أنه صاحب مذهب فاسد، وأنه يتحين فرصة أن يموت أحد الجيران أو أحد الأقارب ثم يلطم الخدود ويشق الجيوب ويدعو بدعوى الجاهلية -وهذا الفعل كان يفعله النساء في الجاهلية، ولكن في هذا الوقت أصبح من أعمال الرجال، فجاهلية الماضي أفضل من جاهلية المسلمين في هذه الأيام، فإذا مات شخص من الأسرة فإنه يلطم ويشق الجيوب، فإذا لبس جلابية قطعها، ثم يقطع الثوب الأول والثاني والثالث وهكذا، ثم يجعل ذلك باباً للولاء والبراء- فإذا مات ولم يوص ففي هذه الحالة سنقول: إنه كان يلزمه أن يوصي وصية شريعة يبرأ بها إلى الله عز وجل.
وقد دعيت مرة لألقن امرأة كانت في الاحتضار أو شيء من هذا، فذهبت مسرعاً، فقالت لي: يا شيخ حسن! هل تعرف خالتي أم زينب؟ قلت: لا والله أنا لا أعرفها.
فأوصتني أن هذه هي التي تنوح عليها أول الأمر.
فقلت لها: هذا حرام وأنتِ آثمة بهذا.
فهل تريدين أن تدخلي النار؟ قالت: ولماذا أدخل النار؟ فأنا صوت على الناس حتى أصيبت حنجرتي بالمرض شهراً.
قلت: إذاً يلزمك أن تتوبي من هذا قبل أن تموتي، فقالت: خلاص يا شيخ حسن! أنا وضعت وصيتي في رقبتك، وأنت مسئول على كل شيء، ولو حاسبني ربي عن شيء سأسألك أنت يوم القيامة، قلت لها: إذاً توكلي على الله، ثم التفت فإذا بها قد ماتت.
فجاء أهلها يريدون أن يقدموا الواجب الذي عليهم، فقلت لهم: هذه قد أوصت بكيت وكيت وكيت، وإذا لم تنفذوا وصيتها فسنأتي بشبابنا وننفذ وصيتها بالإكراه، وذهبنا ودفناها ورجعنا، فكتب الله تبارك وتعالى لهذه المرأة أن توصي وصية شرعية في آخر لحظة من لحظات حياتها.
فالمرء بلا شك يلزمه أن يوصي، ولكن لزوماً لا يبلغ به الإثم إذا لم يكن له ما يوص فيه، فالأمر على الاستحباب المؤكد جداً، وبعض أهل العلم ذهب إلى وجوب الوصية، ورتب الإثم على من تركها.
والله تعالى أعلم.(21/47)
معنى حديث (صلة الرحم تزيد في العمر) ودرجته
السؤال
قرأت في شرح الطحاوية أن صلة الرحم تزيد في العمر -أي: سبب طول العمر- فما معنى هذا؟
الجواب
هذا حديث صحيح، ومعناه: أن الله قدر أن هذا يصل رحمه فيعيش، وأن هذا سبب إلى وصوله هذه الغاية، ولو لم يعمل بالسبب لم يصل إلى هذه الغاية.
وهذا الحديث قد روي بطرق كثيرة، ومجموع هذه الطرق يرتقي بالحديث إلى درجة الصحيح لغيره.
وقد اختلف العلماء في معنى زيادة العمر مع أن الله تبارك وتعالى كتب العمر، ولن يتغير بزيادة ولا نقصان، والإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب (الداء والدواء) تعرض لشرح هذه القضية وفصلها تفصيلاً جيداً ونقل الاختلاف فيها: فقال: زيادة العمر هنا بمعنى البركة.
أي: بركة العمر، فمثلاً الإمام الشافعي مات وعمره أربع وخمسون سنة، وقد ذاع علمه في الأرض شرقاً وغرباً، وسيظل بإذن الله إلى قيام الساعة، فإذا نظرت إلى عمر هذا الرجل وذلك الميراث العظيم الذي ورثته عنه الأمة قلت: هذا إعجاز وأعجوبة من أعاجيب الزمان، وهناك من بلغ أربعاً وخمسين سنة ولا يعرف كيف يصلي ولا يصوم، وحينما تنظر إلى عمرك وعمر الشافعي تعلم أنه كان ممتلئاً بركة وأنت على غير ذلك.
قال: زيادة العمر هنا البركة في العمر التي قدرها الله عز وجل؛ لأن غيرك في نفس العمر، وليس هناك بركة في عمره ولا في عمله.
ومنهم من قال -وهو التفسير الأولى-: إن هذا هو المحو والإثبات في الكتب التي بأيدي الملائكة، وأما الذي لا يقبل المحو ولا الإثبات فهو اللوح المحفوظ المذكور في قول الله تبارك وتعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].(21/48)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - قواعد في الصفات مع صفة اليد
صفات الله الذاتية لا تثبت إلا من طريق السمع فقط، ولا دخل للعقل ولا للنظر فيها، كالقدم والساق واليد والنفس، فكلها ثابتة بالكتاب والسنة، وقد وضع أهل السنة والجماعة قواعد تميزهم عن الفرق الضالة التي خرجت عن جادة الصواب في اعتقادهم في أسماء الله وصفاته ما بين تمثيل أو تعطيل أو تأويل، وقد ثبت بالكتاب والسنة أن لله يدين كلتاهما يمين، نمرها كما جاءت من غير تكييف ولا تمثيل لها، ومن غير تعطيل ولا تأويل.(22/1)
الإيمان بذات الله وصفاته من الإيمان بالغيب
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مع باب جديد من أبواب أصول الاعتقاد.
هناك صفات ذاتية للمولى تبارك وتعالى لا تثبت إلا من طريق السمع فقط ولا دخل للعقل ولا للنظر فيها، وهي: الصفات اللازمة لذاته تبارك وتعالى كصفة اليد والعين، والقدم والساق والنفس وغير ذلك مما أخبر المولى عز وجل أنه متصف بها، وأخبر بها رسوله عليه الصلاة والسلام، نقول: إنه لا دخل للعقل فيها؛ ولا دخل للنظر فيها؛ لأن الله تبارك وتعالى بذاته وصفاته غيبها عنا، فلابد أن نؤمن بما أخبرنا الله ورسوله حتى وإن لم يكن ذلك داخلاً في مقدور عقولنا، لأنه الابتلاء في الإيمان، فإذا أخبر الله عز وجل أن له يدين فلابد أن أؤمن أن له يدين؛ ولذلك فرق الضلالة التي انتسبت إلى الإسلام وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام عنها هي كما قال صلى الله عليه وسلم: (وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة).
هذه الواحدة هي التي نهجت نهج النبوة في اعتقادها ومسلكها ومشربها.(22/2)
اختلاف الناس في صفات الله وبيان مذهبهم
وقد اختلف الناس، واختلافهم عظيم، ولكنه يرجع إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: ادعى أصحاب هذا المذهب أن إثبات هذه الصفات الذاتية لله تبارك وتعالى يستلزم التشبيه.
قالوا: إذا كان لله يدان وعينان، وله سمع وله قدم وعين وساق إلى غير ذلك فإن هذا يستلزم أن يكون الله عز وجل مشبهاً بخلقه.
ولذلك وقعوا إما في التمثيل، وإما في التعطيل.
قالوا: لا ينبغي لإله أن يتصف بما يتصف به خلقه، ولذلك عطلوا هذه الصفات فقالوا: ليس لله يد ولا ساق ولا عين ولا نفس، وغير ذلك من الصفات الخبرية؛ لأن وجود هذه الصفات وإثباتها لله يستلزم المماثلة والمشابهة مع خلقه؛ ولكنهم لا يقولون ولا يجترئون أن يقولوا: نعطل هذه الصفات؛ لأنهم لو قالوا ذلك وصرحوا به لكان لأطفال المسلمين الذين يلعبون في الشوارع أن يكفروهم، ولكنهم قالوا: لا.
العين يقصد بها: الرعاية.
واليد يقصد بها: القوة.
والساق يقصد بها: الرفعة، وغير ذلك من تأويل النصوص وصرفها عن ظاهرها وعن مراد الله تبارك وتعالى منها.
فهم لم يصرفوا هذه الصفات ويعطلوها عن الله عز وجل صراحة، وإنما أولوها فوقعوا في شر عظيم جداً؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: المتأول أشد شراً من المعطل.
ويقول أيضاً: إن الممثل يعبد صنماً، وإن المعطل يعبد عدماً.
لأنه لا يمكن أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا كنت تؤمن بذات الله تبارك وتعالى وأنها ذات علية موجودة، فإن هذه الذات لابد أن يكون لها صفات؛ لأن ذوات كل شيء لها صفات، فكذلك ذات المولى تبارك وتعالى أولى وأحرى أن تكون لها صفات خاصة، وقد أخبر المولى تبارك وتعالى بصفاته في كتابه، وأخبر بها رسوله عليه الصلاة والسلام.
إن الذي ينفي هذه الصفات عن الله عز وجل ويعطلها عن الذات لابد أنه سيخرج في النهاية بلا ذات، وإذا كان يستحيل أن توجد ذات بغير صفات في حال تعطيلك فلابد أن يكون في النهاية أنك تعبد إلهاً غير موجود، وغير متصف بأي صفة من الصفات، فهو والعدم سواء.
هذا في مذهب المعطلة؛ ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: المعطل يعبد عدماً.
والممثل يقول: إن يد الله كيدي، وإن عيني الله كعيني، وإن رجل الله كرجلي، فسيصير هذا الإله في النهاية عبارة عن إنسان، ربما يكون جميلاً وربما يكون هو كالإنسان في جماله أو أقل أو أكثر، والذي يعبد الله على هذا النحو لا شك أنه يعبد صنماً.
ولذلك أهل السنة والجماعة ذهبوا مذهباً وسطاً بين الممثلة والمشبهة، وبين المعطلة والنفاة من جهة أخرى، فلم يعطلوا الصفة عن الذات، ولم يمثلوا هذه الصفة بصفات المخلوقين، ولكنهم أثبتوا الصفة ثبوتاً حقيقياً لله عز وجل كما يليق بجلاله، فلا يشبهونها بصفات المخلوقين، ولا يعطلون الصفة عن الذات، فأثبتوا الصفات من جهة، وهذا الإثبات يليق بالله عز وجل، وليست هذه الصفات كصفات المخلوقين، فالله تبارك وتعالى له يدان، لكن هاتين اليدين ليست كيدي، وله عينان ليست كعيني، وله ساق ليست كساقي؛ لأن ذاته تختلف عن ذاتي، فلابد أن تختلف الصفات كذلك عن صفاتي.
فأهل السنة والجماعة لهم مذهب وسط بين المعطلة وبين المشبهة إذ أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله عز وجل وعظمته، فلا إشكال حينئذ.
ما الذي يضرك أن تعلم أن لله يدين على الوجه اللائق به؟ لأن الأيدي في لغة المخلوقين وحياتهم مختلفة، فإن أيدي الضفادع والبهائم ليست كأيدي الآدميين، وليست أيدي الجن كأيدي الإنس، فإذا كانت الأيادي والصفات تختلف في عالم المخلوقات، فلم لا تقول بهذا الاختلاف بين الخالق والمخلوق.
وأن لله صفات تختلف عن صفات المخلوقين جميعاً؟ ولكن لما وقع الخلاف وبين أبناء هذه الملة المباركة، وكل واحد منهم نحا نحواً يختلف فيه عما أراده النبي عليه الصلاة والسلام، وعما أراده الله عز وجل، لاشك أنهم يبتعدون كل البعد، ويتشبهون تارة بالنصارى، وتارة باليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64].
إذاً: لابد أن نذهب المذهب الوسط بين الممثلة الذين شبهوا صفات الخالق بصفات المخلوق، وبين المعطلة الذين نفوا عن الذات جميع الصفات، وبعضهم نفى بعض الصفات وأثبت بعضها.(22/3)
قواعد مهمة في عقيدة أهل السنة في الأسماء والصفات
ذهب أهل السنة والجماعة إلى وضع قواعد وأصول، من خلالها يمكنك بيسر دون عسر أن تفهم معتقد أهل السنة والجماعة في ذات الإله وصفاته تبارك وتعالى.(22/4)
القاعدة الأولى: إفراد الله تبارك وتعالى بالوحدانية في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله
أول قاعدة هي: إفراد الله تبارك وتعالى بالوحدانية، سواء في ذاته أو في أسمائه أو في صفاته أو في أفعاله.
ومعنى أنه واحد في ذاته: أن أحداً من خلقه لا يشبه ذاته، فإن جميع المخلوقين ذوات، فذات الإنسان وذات الحيوان وذات الجن وذات الجماد والحجر والشجر تختلف تماماً عن ذات المولى تبارك وتعالى، ولا يجوز لأحد أن يتصور في الذهن أن ذات الله تبارك وتعالى كذاته هو؛ لأن الله تعالى ليس له مثيل؛ ولذلك قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فنفى التمثيل والتشبيه بينه وبين جميع المخلوقات، فلا أحد يشبهه قط في شيء من الأشياء، ولا في ذاته العلية تبارك وتعالى.
فلما كان واحداً في ذاته فهو كذلك واحد في صفاته، فالمرء يتصف بالرحمة، والله تبارك وتعالى متصف بالرحمة، ولكن الله تعالى واحد في رحمته، إذ إن رحمته لا تشبه رحمة المخلوقين جميعاً ولو اجتمعت، فلا يجوز أن أقول: (أنا رحيم والله تعالى رحيم فرحمتي كرحمة الله).
هذا لا يجوز؛ لأنني في هذه الحالة جعلت الشبه قائماً بين صفتي وصفة المولى تبارك وتعالى، وهذا لا يجوز، والله تعالى واحد في صفاته، وليس لأحد من خلقه أن يتصف بصفة من صفاته إلا على وجه الكمال البشري، أو على وجه النص العام، فربما يتصف المرء بأنه رحيم بكل الناس، لكن هل رحمته وسعت كل شيء كما وسعت رحمة المولى تبارك وتعالى كل شيء؟ لا.
لأن الله لم يثبت لعبد من عباده رحمة واسعة.
فرحمة الله تختلف عن رحمة جميع المخلوقين، وهذا يبين القول بأن الله تعالى واحد في صفاته.
وصفاته تبارك وتعالى لازمة له، وأما صفاتنا فليست بلازمة؛ لأنني يمكن أن أقول: سماني أبي وأمي رحيماً، أو كريماً، وليس عندي رحمة بل أنا غضوب وجهول، وبخيل لست كريماً، أما المولى تبارك وتعالى إذا سمى نفسه بالرحيم ووصف نفسه بالرحمة يلزم أن يكون رحيماً.
وإذا كان المولى تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى: الكريم، فهو متصف بالكرم؛ لأنه كريم بكرم، ولا يكون المولى تبارك وتعالى بخيل قط، والبخل هو عكس الكرم؛ لأن البخل صفة نقص لا تليق بالبشر فضلاً عن رب البشر.
فالمولى تبارك وتعالى واحد في صفاته، كذلك واحد في أفعاله.
إذا أخبرنا المولى تبارك وتعالى بأنه ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ويقول: (هل من داعٍ فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له)، وغير ذلك من النداءات التي ينادي بها المولى تبارك وتعالى فلا نقول: إن الله تعالى ينزل كنزولي هذا وينزل الدرج.
لأن نزول المولى تبارك وتعالى نزولاً كاملاً يليق بجلاله وكماله، أما نزولي أنا فيتفق مع عجزي وضعفي ونقصي.
وهو كذلك سبحانه وتعالى يغضب، لكن ليس كغضبي، ويفرح ليس كفرحي، وهكذا أفعاله تبارك وتعالى، هو واحد في أفعاله لا يجوز أبداً أن أشبه أفعالي بأفعال المولى تبارك وتعالى، إنما هو اشتراك في الاسم دون المسمى، فنزوله عز وجل يوافق نزولي في الاسم فقط ويختلف في المسمى.
وإذا كنت لم أر الله تبارك وتعالى، وأخبرني أنه ينزل فهذا النزول لا أعلم أنا كيفيته، وليس نزول أحد من الخلق كنزول الله تبارك وتعالى حتى أقول: إن الله ينزل مثل فلان؛ لأنه قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فنفى المماثلة والمشابهة بينه سبحانه وبين أحد من الخلق، فهو واحد في ذاته، واحد في أسمائه، واحد في صفاته، واحد في أفعاله.(22/5)
القاعدة الثانية: إثبات الصفات على مراد الله ومراد رسوله، ووجوب الإيمان بذلك
القاعدة الثانية: إثبات الصفات على مراد الله عز وجل، وعلى مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب الإيمان بذلك دون بحث في الكيفية، فإنه ما من أحد خاض في كيفية أسماء الله وصفاته إلا حار وظل وتاه.
فمنهم من تاب، ومنهم من مات على بدعته؛ لأن صفات المولى تبارك وتعالى تصعد فوق حد الخيال العقلي والتصور الذهني.
فإذا فكرت في كيفية نزول المولى تبارك وتعالى، أو في كيفية غضبه أو فرحه لا يمكن أبداً أن تدرك حقيقة ذلك، ولكن الله تعالى أخبرك أنه ينزل، فأنت تؤمن إيماناً جازماً بأن الله تبارك وتعالى ينزل ويفرح ويضحك، ويغضب ويسخط، لكن لا تعلم كيفية هذا النزول، ولا كيفية هذا الغضب، ولا كيفية هذا الضحك، ولا يضحك ربي كضحكي؛ لأنني أضحك ضحكاً يستلزم فماً ونواجذ وأسناناً ولساناً، والمولى تبارك وتعالى لم يثبت ذلك لنفسه، فضحكي يناسبني أنا، أما ضحك المولى تبارك وتعالى فإنه ضحك يتناسب مع ذاته العلية، فلذلك أهل السنة لم يخوضوا قط في كيفية الصفات.
دخل رجل على مالك بن أنس رحمه الله تعالى وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم.
لأن الله تعالى أخبرنا أنه استوى، ولذلك لا يجوز لنا أبداً أن نفوض العلم.
واستوى بمعنى: علا وارتفع، فإثبات الفوقية لله عز وجل أمر معلوم لدينا لا نشك في ذلك، والعرش لا يحويه ولا يستلزم هذا حداً؛ لأن من قال بالحد فهو مبتدع.
ثم قال مالك: والكيف مجهول.
يعني: استواء المولى تبارك وتعالى لا يعلمه إلا المولى تبارك وتعالى؛ لأن استواءه لنا غيب، فنثبت لله تبارك وتعالى الاستواء على الكيفية التي أرادها المولى عز وجل لنفسه.
قال مالك: والسؤال عنه بدعة.
وخوض في الباطل، وكلام على الله بغير علم، وهذه القاعدة تقال في كل صفة من صفات المولى تبارك وتعالى.(22/6)
القاعدة الثالثة: الكف عن الخوض في كيفية الذات والصفات
القاعدة الثالثة: الكف عن الخوض في كيفية الذات والصفات، والترابط بين الذات والصفات؛ لأن ذات الله تبارك وتعالى قد اتصفت بصفات لازمة للمولى تبارك وتعالى، فليس هناك فاصل بين الذات والصفات.(22/7)
القاعدة الرابعة: النفي المجمل والإثبات المفصل والنفي المتضمن لكمال الضد
القاعدة الرابعة: أن طريقة السلف في الصفات هي: (النفي المجمل) أي: نفي جميع النقائص عن الله عز وجل، فكل نقيصة معلومة في عالم المخلوقات لا يتصف المولى تبارك وتعالى بها قط، بل هو المختص بالكمال والجلال المطلق.
فطريقة السلف في الصفات هي: (النفي المجمل والإثبات المفصل).
وطريقة السلف هي: (النفي المتضمن لكمال الضد)، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255].
وفي الحديث: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام).
فإذا نفينا النوم عن الله عز وجل لابد وأن نثبت ضد النوم وهو كمال القيومية والحياة لله عز وجل حياة تليق بجلاله تبارك وتعالى لا كحياتنا.
كما أن المولى تبارك وتعالى حي قيوم حياة دائمة سرمدية أبدية، لا أول لها ولا آخر؛ لأنه تعالى هو الأول وهو الآخر، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء.
فنقول: إن طريقة السلف في إثبات الصفات هي: (النفي المتضمن لكمال الضد).
أي: نفي جميع النقائص عن الله عز وجل، وإثبات ضد هذه النقائص، وهي: صفات الكمال.(22/8)
القاعدة الخامسة: أن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق
القاعدة الخامسة: السلف يقولون: التحريف بالتأويل أقبح من التعطيل، والتكييف والتمثيل، وما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر فارق، فالقدر المشترك مثلاً بين صفة الله تبارك وتعالى (الحلم) وصفتي هي أن الحليم من أسماء الله وهو حليم بحلم، فهذه صفة لله تبارك وتعالى ثابتة، وكذلك اسمه (الحليم)، وأنا كذلك سماني والدي حليماً، فأنا أشابه المولى تبارك وتعالى في مجرد الاسم فقط، ولا يجوز أن يسميني والدي الحليم؛ لأن الحليم معرف على ذات علية، ولا يجوز لأحد أن يشارك هذه الذات في هذه الصفة المعرفة بالألف واللام، فلا يجوز لأحد أن يتسمى بالكريم أو الحليم، أو العظيم، أو الرءوف أو الرحيم إلا أن يكون على نسبة العبودية لله تبارك وتعالى: كعبد الرحيم، عبد العظيم، عبد السميع، وغير ذلك، فالله هو السميع البصير الحليم القوي القدير؛ لأن هذه ثابتة لله تبارك وتعالى فقط دون أحد من خلقه، ولذلك ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، والقدر المشترك يكون في التسمية فقط، أنت رحيم والله رحيم، أنت كريم والله كريم.
هذا من جهة الصفة، وبالإمكان أن تسمى كريماً وليس عندك شيء من الكرم، أما إذا كان الله تعالى موصوفاً بالكرم فلابد أن نثبت له حقيقة صفة الكرم.
ومعنى القدر الفارق: أن رحمة الله تختلف عن رحمتي، وكرم الله يختلف عن كرمي، وفضل الله يختلف عن فضلي، وغير ذلك من الفوارق بين الخالق والمخلوق، فلا تقل: إن لله ذاتاً تشبه ذاتك، أو إن لله صورة كصورتك، ولا تتصور أن نزوله -سبحانه- كنزولك، إلا أن الاشتراك يقع في مطلق الاسم، أو في مجرد الاسم فقط، فإن صفات المخلوقين تختلف عن صفات الخالق تبارك وتعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمن نفى الأول -أي: فمن نفى القدر المشترك -فقد عطل- لأنه جعل نفسه كالله تبارك وتعالى- ومن نفى القدر الفارق فقد مثل.
ومذهب السلف وسط بين التشبيه والتعطيل، وقد عرجنا عليه، وكل ممثل معطل لحقيقة الصفة وذاتها، وكل معطل ممثل.
هذه القواعد تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في فتاواه العظيمة، وأخذها تلميذه ابن القيم ووضعها في كثير من كتبه.(22/9)
توسط أهل السنة والجماعة في اعتقادهم من بين الفرق الأخرى في صفة اليد
لما تكلمنا عن بعض صفات المولى تبارك وتعالى من جهة الإجمال كان لزاماً علينا أن نتكلم عن صفاته من جهة التفصيل، وسنعيش في كل محاضرة مع صفة واحدة من صفات المولى تبارك وتعالى، وهذه المحاضرة مع (صفة اليد).(22/10)
مذهب الفرق الضالة في تفسير اليد والرد عليهم
صفة اليد كجميع الصفات الخبرية التي أخبر المولى تبارك وتعالى أنه متصف بها، قد طاشت فيها سهام الخلف عن إصابة الهدف، وأخذوا يفسرونها تفسيراً يساوي عقيدتهم، ففسروها مرة بالقدرة، ومرة فسروها بالنعمة؛ يريدون الفرار بزعمهم من التشبيه والتمثيل، ويا سبحان الله! قد وقعوا فيما فروا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى أثبت ذلك لذاته العلية وهو أعلم بذاته وبجميع خلقه، أثبت هذا لنفسه وهم نفوه، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
(مَا مَنَعَكَ) أي: يا إبليس؟! لم لم تسجد لآدم الذي خلقته بيدي؟ و (يدي) تسمية.
وهذا فيه: إثبات أن لله تبارك وتعالى يدين لا يداً واحدة.
ويقول تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، رداً على اليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64].
فهل من الجائز أن يقال في قوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي، أو بقدرتي؟ إن هذا الكلام لا يستقيم في لغة العرب؛ لأن المعلوم أن لله تبارك وتعالى قدرة واحدة تشمل جميع الخلق، ولذلك قال الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]، فلم يثبت المولى تبارك وتعالى تعددية في قدرته، فتفسير اليد بالقدرة تفسير لا يعرفه العرب، وإن قلت بالتعددية فلا بد أن تطالب بالدليل ولا دليل، فلابد أن ترجع مرة أخرى للبحث عن معنى اليد.
إذاً: اليد صفة لله تبارك وتعالى، وهي معلومة لدينا، أما كيفيتها في جنب الله عز وجل فإن الله تعالى هو الذي يعلمها، وليس من الجائز أن يقال: (مما خلقت بنعمتي).
بالإجماع؛ لأن الذي يؤمن به جميع المؤمنين -والخلف كذلك منهم- أن نعم الله كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما أخبر الله فقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
يعني: كثيرة جداً.
فلا يستقيم كذلك أن يقال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي؛ لأن الله تعالى نعمه كثيرة جداً، بحيث أن العاد والحاصي لا يستطيع أن يعدها ولا أن يحصيها.
ويلزم من قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أن يقال: خلق الله آدم بقدرتين.
وهذا لا يجوز بالإجماع؛ لأن الذي ندين به -سواء كان في ذلك السلف والخلف- أن لله تعالى قدرة واحدة وباهرة وهو على كل شيء قدير؛ لعدم الدليل على التعدد، وهذا يتضح فيه الصواب في المسألة بإذن الله تعالى.
وهذا الإمام أبو الحسن الأشعري زعيم تلك الفرقة، تاب وأناب ورجع إلى مذهب السلف، وتبرأ مما كان عليه من قبل، قال هذا الإمام العظيم الجبل في رسالته لأهل الثغر وفي بقية كتبه الاعتقادية: فلو كان الله عز وجل عنى بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك ميزة؛ لأن الله تعالى خلق آدم بقدرته وخلق إبليس بقدرته، بل خلق جميع الخلق بقدرته تبارك وتعالى، وكل مولود يولد بقدرة الله وإرادته، فإذا كانت اليد هنا بمعنى: القدرة فلابد أن إبليس سيرد على المولى تبارك وتعالى هذا القول، ويقول: أنت كذلك خلقتني بقدرة، كما خلقت آدم بقدرة، لكن إبليس لم يرد على المولى تبارك وتعالى؛ لأنه علم من الخبر أن الله تعالى خلق آدم بيديه سبحانه وتعالى، وأخبر الله تبارك وتعالى إبليس أن آدم يمتاز عنه ويتفوق عليه بأنه خلقه بيديه الكريمتين سبحانه وتعالى.
وإبليس لما فهم ذلك لم يرد، فسبحان الله! الذي فهمه إبليس لم يفهمه الأشعرية، ولم يفهمه المعتزلة، ولو كان خالقاً لإبليس بيديه كما خلق آدم بيديه لم يكن بتفضيله عليهم بذلك وجه من الوجوه، ولقال إبليس محتجاً على ربه: فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم بهما.
فلما أراد الله عز وجل تفضيله عليه بذلك قال له موبخاً باستكباره على آدم أن يسجد له: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
إذا كان لا يصح في الأذهان ولا في الاعتقاد تفسير اليد بالقدرة ولا بالنعمة، فلابد أن يكون هناك تفسير ثالث، وهو إثبات هذه الصفة للمولى تبارك وتعالى على النحو الذي يليق بجلاله سبحانه، وإذا ثبت بطلان هذا التأويل فلابد من الذهاب إلى تفسير غير الذي ثبت لدينا أنه باطل.(22/11)
مذهب أهل السنة والجماعة في تفسير قوله تعالى: (لما خلقت بيدي)
التفسير الذي نذهب إليه: إثبات الصفة لله تبارك وتعالى كما أراد على الوجه اللائق به تبارك وتعالى، نؤمن بذلك ونسلم، وإلا فإننا في النهاية نقع في الخوض في ذات الله، وسنصوره في عقولنا، ولما كان الخوض محرماً كان الثاني (التصور) من باب أولى محرماً، فدل على أنه ليس معنى اليد: القدرة، إذ إن الله عز وجل خلق الأشياء جميعها بقدرته، وأراد الله إثبات يدين لم يشارك إبليس آدم عليه الصلاة والسلام في أن خلق بهما، ولا يخلو قوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] من إثبات اليدين لله عز وجل، كذلك لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله تعالى له يد جارحة كأيدينا، وإن قلت ذلك فقد مثلته بيدي، وهذا لا يجوز.
فلابد في النهاية من إثبات يدين ليست نعمتين، ولا جارحتين ولا قدرتين، ولا يوصفان إلا كما وصف الله عز وجل بها نفسه، فلا يجوز عند أهل اللسان أن يكون معنى قول القائل: عملت بيدي.
يعني: نعمتي.
فلو أن واحداً قال لك: أنا رفعت هذه المنضدة بيدي.
هل تفهم من ذلك: أنه رفعها بنعمتيه؟ فتفسير اليد بالنعمة ليس معلوماً في كلام العرب خاصة عند التثنية.
أما عند الإفراد والجمع فهذا وارد في كلام العرب.
تقول: فلان له علي يد.
أي: له علي جميل وفضل ونعمة.
هذا عند الإفراد، وفلان صاحب أياد بيضاء.
أي: صاحب نعم وتفضل.
وهذا في الجمع.
أما عند التثنية فإن العرب لا تعرف عند التثنية أن اليد بمعنى: النعمة.
قال ابن تيمية: وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله: (بِيَدَيَّ): إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين، ولا يوصفان إلا بأن يقال: بأنهما يدان ليستا كالأيدي، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت.
إذاً: جاءت اليد في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أنواع وأنحاء، قال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] على الإفراد.
وقال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] على التثنية.
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].
فاليد أتت بالإفراد وأتت بالتثنية وأتت بالجمع، وقلنا: إن العرب لا تعرف ذلك عند تثنية اليد وإنما تعرفه إذا تعدى الخبر إلى المفرد أو إلى الجمع، وإذا راجعنا هذه الاستعمالات الثلاثة في اللغة فإنك ستجد أن الله تبارك وتعالى إذا ذكر اليد المسماة يضيف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد: (بيدي) ويتعدى الفعل بالباء إليهما.
أي: إلى اليدين، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] في الإفراد والتثنية.
وهنا ذكرهما بصيغة الجمع، فأضاف العمل إلى اليد نفسها، وإضافة العمل إلى اليد تعني: النعمة، كما قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].
فقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] أي: مما عملنا.
وهذا يشهد له قول الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] والمعنى: بما كسبتم.
وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] أي: بما قدمت أنت، لأنه تعدى بحرف الباء: ((فَبِمَا كَسَبَتْ))، وقوله: ((بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ))، فإذا تعدى الفعل بحرف الباء يضاف العمل إلى العامل، وليس إلى الصفة، وأما إذا أضيف الفعل إليه تبارك وتعالى ثم عدي الفعل بالباء إلى يده مثناه أو مفردة، فهذا مما باشرته يده سبحانه وتعالى على الحقيقة.
فقوله: (خلقت بيدي) تعدى الفعل بالباء هنا، ولابد أن يضاف إلى اليد حقيقة عند التثنية؛ لأن الله تعالى هو الذي باشر خلق آدم بيديه تبارك وتعالى، ولا يحتمل المعنى أبداً القدرة، وقد جاء في التوراة في قول موسى لآدم وآدم لموسى في حديث المحاجة: (احتج آدم وموسى فقال موسى لآدم: أنت آدم، أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة أنت الذي خلقك الله بيده فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده).
إذاً: الله تعالى خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، فلما احتج موسى على آدم بأن الله خلقه بيده، احتج عليه كذلك آدم بأن الله كتب له التوراة بيده وكلمه تكليماً.
الشاهد من هذا: أن الله تعالى باشر كتابة التوراة بيده سبحانه، وباشر خلق آدم بيده سبحانه، فلا يجوز أن نقول: إن الله كتب التوراة بنعمته، أو بقدرته، لأن كل شيء بنعمة الله، وكل شيء بقدرة الله، فنقول: للتوراة هنا فضيلة وليست صفة على غيرها، وكذلك إذا كان الله تعالى خلق آدم بقدرته فكذلك خلق جميع الخلق بقدرته، فما الداعي أن يقول: إنه خلق آدم بقدرته؟ فليس هناك فضل لآدم على بقية المخلوقات إذا حملنا اليد على القدرة أو على النعمة؛ وذلك لأن الجميع مخلوق بقدرة الله.
إذاً: هذه اليد التي باشرت الخلق يد على الحقيقة، وأن الله باشر ذلك على الحقيقة، وخلاصة ذلك: أن هذه الصفة صفة بها العطاء والأخذ والقبض وهي غير القدرة وغير النعمة، وقد ورد في كثير من الأدلة صفة اليد كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ((22/12)
اختلاف علماء أهل السنة والجماعة في كون كلتا يدي الله يمين أو هما يد يمنى ويد يسرى
هناك إشكال عظيم جداً يقع فيه كثير من الناس، وهو: بعد أن أثبتنا أن الله تبارك وتعالى له يدان هل هما: يد يمنى والأخرى يسرى؟ فأنت لا تعرف من صفة اليدين في المخلوقين إلا اليمين واليسار، خاصة وقد وردت بعض الأدلة التي تثبت أن لله تبارك وتعالى يدين، فهل هما يمين أم شمال؟ هذا أمر لابد من تحريره، فنتغاضى عن إثبات اليدين لله عز وجل، لأننا قد علمنا ذلك من خلال الأدلة، وأن اليدين لله عز وجل فهل هما يمين وشمال، أو كلاهما يمين؟(22/13)
وصف كلتا يدي الله بأنها يمين وثبوت ذلك بالكتاب والسنة
أولاً: توصف يد الله عز وجل بأنها يمين، وهذا ثابت بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67].
فليس في كتاب الله عز وجل وصف ليده بأنها شمال أو أنها يسار، وأن الآيات كلها نطقت بأن يد الله تبارك وتعالى موصوفة بأنها يمين.
والدليل من السنة: ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة).
أي: لا تنقصها نفقة.
وأيضاً جاء من حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم: (ويطوي السماء بيمينه).
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري ومسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً، فإن الله يتقبلها بيمينه).(22/14)
أدلة القائلين بإثبات صفة اليد الشمال لله تعالى
أهل السنة والجماعة يؤمنون أن لله عز وجل يدين، وأن إحدى يديه يمين، فهل الأخرى توصف بالشمال، أو أن كلتا يديه يمين؟ القائلون بإثبات صفة الشمال منهم: عثمان بن سعيد الدارمي، وأبو يعلى الفراء، والإمام محمد بن عبد الوهاب، وصديق حسن خان، ومحمد بن خليل هراس ذلك العالم النحرير المصري، وعبد الله بن سليمان الحجازي، وأدلتهم في ذلك هي: ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى).
وهذا إثبات لليمين، (ثم يقول: أنا الملك.
أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك) إلى آخر الحديث.
والشاهد في هذه الجزئية: (ثم يقضي الأرضين بشماله).
والحديث في صحيح مسلم من طريق عبد الله بن عمر.
وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمين فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للتي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي).
يعني: أنتم قسم الجنة وحظ الجنة.
(وقال للتي في يساره: إلى النار ولا أبالي).
هذا الحديث حديث حسن، ولكن من ذهب إلى إثبات اليسار لله عز وجل فسر الضمير هنا بأنه يسار المولى تبارك وتعالى، وليس كذلك السياق، فأنتم تعلمون أنه لا يستقيم قط أن يكون الضمير عائداً على المولى تبارك وتعالى، قال: (خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه) والضمير يعود على أقرب اسم مفرد (كتف)، أي: كتف آدم اليمين فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، (وضرب كتفه اليسرى) والضمير يعود على كتف آدم، (فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للتي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي) أي: الذرية التي خرجت من كتف آدم الأيمن إلى الجنة ولا أبالي.
قال: (وقال للتي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي).
فسقط احتجاجهم بهذا الحديث؛ لأن الضمير في (كتفه) يعود على كتف آدم.
ومن أدلتهم: أنه قد ورد في بعض الأدلة: (ويأخذ الله تبارك وتعالى السماوات بيمينه، أو يطوي السماوات بيمينه، والأرضين بيده الأخرى).
قالوا: (الأخرى) تستلزم أن تكون في مقابلة اليمين، وهذا تأويل واجتهاد في النص، فإذا كان يقول: (يطوي المولى تبارك وتعالى السموات بيمينه، ثم يطوي الأرضين بيده الأخرى) قالوا: لابد أن تكون الأخرى هي اليسرى، وهذا استنباط من النص، وهذا الاستنباط ربما يصح في جنب المخلوقين، لكنه لا يصح في جنب الله عز وجل، فلا يستقيم مع النصوص التي وردت بأن كلتا يديه يمين.
ونحن نعلم أنه لا اجتهاد مع النص، فإذا كان النص قد ثبت بأن كلتا يديه يمين، فلا يجوز أن نقول في لفظه: (بيده الأخرى): أنها اليسار؛ لأنها في مقابلة مذكورة وأنها اليمين، وهذا من أدلتهم في وصف إحدى اليدين باليمين كما في الأحاديث السابقة، وهذا يقتضي أن الأخرى ليست يميناً فتكون شمالاً.
على أية حال: اجتهد كل واحد في إثبات ما لديه من علم، والذي يترجح من خلال النصوص أن كلتا يدي الله يمين لا شمال ولا يسار فيهما.
ومن القائلين بهذا: إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله تعالى في كتابه العظيم كتاب التوحيد، والإمام أحمد بن حنبل، والبيهقي.
ومن العلماء المعاصرين: جميع العلماء إلا الشيخ الغنيمان فقد تردد في ذلك، ولا أظن أنه قطع في هذا.(22/15)
أدلة القائلين بأن كلتا يدي الله يمين
أدلة من قال بأن كلتا يديه سبحانه يمين: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعاً: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين)، وهذا نص ثابت.
وحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مرفوعاً: (أول ما خلق الله تعالى القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين).
واعلم أن الحديث الذي جاء في إثبات الشمال أخرجه مسلم من طريق عبد الله بن عمر، وهنا ثبت عن عبد الله بن عمر أنه روى حديثاً: (أول ما خلق الله تعالى القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين).
إذاً: عبد الله بن عمر وافق جمهور الرواة، ووافق الروايات بإحدى روايتيه وخالف في الأخرى؛ ولذلك هذه المخالفة في إثبات الشمال لله عز وجل إذا أتت من طريق واحد تدل على الاضطراب.
يعني: إذا كان الراوي لهذه الصفة هو عبد الله بن عمر مرة يثبت أن كلتا يديه يمين، ومرة يثبت أن لله يدين إحداهما يمين والأخرى شمال فلابد أن نقول: قد حدث هنا اضطراب، ولا يلزم أن يكون هذا الاضطراب من جانب الصحابي، بل إن ذلك في الغالب العام من طرف أحد رواة الإسناد.
ولذلك هذا الخبر هو الصحيح عن عبد الله بن عمر قال: (أول ما خلق الله تعالى القلم فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه قال بيده وهما مقبوضتان: خذ أيهما شئت يا آدم! فقال: اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة، ثم بسطها).
هذا الحديث عند ابن أبي عاصم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في الأسماء والصفات وغيره.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يمين الله ملأى لا يغيضها شيء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض) والحديث في الصحيحين.
فلو قلنا: إن اليد هنا بمعنى: القدرة أو بمعنى: النعمة، فهل يصح أن نقول: إن النعمة تقبض وتبسط؟ قال ابن خزيمة في كتاب التوحيد: باب ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أن لخالقنا جل وعلا يدين كلتاهما يمينان، لا يسار لخالقنا عز وجل، إذ اليسار من صفة المخلوقين تجلى ربنا عن أن يكون له يسار.
هذا كلام ابن خزيمة.
وقال في التوحيد أيضاً: بل الأرض جميعاً قبضة ربنا جل وعلا بإحدى يديه يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه وهي اليد الأخرى.
يعني: هي كذلك يمين، وكلتا يدي ربنا يمين لا شمال فيهما جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار، إذ كون إحدى اليدين يساراً إنما يكون من علامات المخلوقين جل ربنا وعز عن التشبه بخلقه.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب طبقات الحنابلة لـ أبي يعلى: وكما صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وكلتا يديه يمين) لابد من الإيمان بذلك.
قال: فمن لم يؤمن بذلك ويعلم أن ذلك حقٌ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مكذب برسول الله عليه الصلاة والسلام.
وسئل الشيخ الألباني رحمه الله كما في مجلة الأصالة: كيف نوفق بين رواية: (بشماله) الواردة في حديث ابن عمر في صحيح مسلم، وبين الرواية: (وكلتا يديه يمين)؟
الجواب
قال: لا تعارض بين الحديثين، فقوله: (وكلتا يديه يمين)، تأكيد لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
يعني: لابد أن تصرف من الذهن تشبيه الخالق بالمخلوق، فإذا صرفته فلابد أن تعلم بإثبات اليدين لله عز وجل ليس على نحو أيدي المخلوقين.
قال: فقوله: (وكلتا يديه يمين) تأكيد لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فهذا الوصف الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيد للتنزيه، فيد الله ليست كيد البشر (شمال ويمين)، ولكن كلتا يديه سبحانه يمين.
وترجيح آخر للروايتين: أن رواية: (بشماله) رواية شاذة كما بينتها في تخريج المصطلحات الأربعة لـ أبي الأعلى المودودي.
ويؤكد هذا: أن أبا داود روى نفس الحديث الذي رواه مسلم وأثبت فيه -أي: مسلم - الشمال دون أن يثبت فيه هذه الرواية الأخرى، ولكن قال: (وبيده الأخرى) بدل (وبشماله)، وهو الموافق لقوله تعالى، وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكلتا يديه يمين).(22/16)
مناقشة الأدلة التي تثبت صفة اليد الشمال لله تعالى
أولاً: أن حديث عبد الله بن عمر عن مسلم الذي فيه لفظة: (الشمال) تفرد بها عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه، وعمر بن حمزة ضعيف، وإن كان أحد رواة مسلم، فضلاً عن أنه قد روى رواية خالف فيها جمهور الرواة، وإن الضعيف إذا أتى برواية يخالف فيها الثقات، فهذه الرواية منكرة، وهي في غاية النكارة إذا تعلقت بذات الإله أو بصفاته.
والحديث الذي رواه ابن عمر عند البخاري وكذلك عند مسلم ليس عندهما لفظة: (الشمال) والحديث المتفق عليه في الصحيحين أولى مما تفرد به مسلم، بل ومن طريقه راوٍ ضعيف.
وقال الحافظ البيهقي في الأسماء والصفات: ذكر الشمال في الرواية تفرد به عمر بن حمزة عن سالم، وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر ولم يذكرا فيه الشمال.
فلما خالفه عمر بن حمزة وهو ضعيف دل ذلك على أن روايته منكرة.
وروي ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعيف كذلك بمرة، تفرد بأحدهما جعفر بن الزبير، وفي الطريق الثاني يزيد الرقاشي وهما متروكان، فكيف يقال: إن الشمال في مقابلة اليمين؟ وتخرج من ذلك إلى أنه لا يصح دليل ولن يصح دليل في إثبات صفة الشمال في يدي الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه اللفظة إنما وردت من طريق الضعفاء، والذي روي من طريق الثقات كذلك ورد في كتاب الله عز وجل أن الله تعالى له يدان، وكلتا يديه يمين.
وأما قولهم: إن ذكر اليمين يدل على أن الأخرى شمال قول صحيح لو لم يرد ما يدل على أن كلتا يديه يمين.
يعني: صحيح عند إطلاق اليدين في لغة العرب وفي التصور الذهني أن أحدهما يمين والآخر شمال، لكن هذا في حياة المخلوقين أولاً.
ثانياً: أن هذا القياس لا يصح مع المولى تبارك وتعال خاصة، فإنه قد ثبت بالأدلة أن كلتا يديه يمين على أية حال، ونحن نعلم يقيناً أن الخلق جميعاً إذا كانت لهم يدان فإحداهما يمين والأخرى يسار، وقد ورد في بعض أشعار العرب مدحاً بوصف الرجل باليمينين، فكيف لا يكون المولى تبارك وتعالى كذلك إذ إن وصف اليدين بأن كلتيهما يمين لا يعني عند العرب أن الأخرى ليست يساراً، بل قد يوصف الإنسان بأن يديه كلتاهما يمين كما قال المرار الأسدي: وإن على الأمانة من عقيل فتى كلتا اليدين له يمين ولا يعني ذلك: أنه لا شمال له، بل هو من كرمه وعطائه بشماله ويمينه، فهو يعني: أن يده الشمال تنفق وتعطي كيده اليمين.
ولقب أبو الطيب طاهر بن حسين بن مصعب بذي اليمينين، كتب له أحد أصحابه: للأمير المهذب المكنى بطيب ذو اليمينين طاهر بن الحسين بن مصعب والشاهد: (ذو اليمينين) لفرط عطائه وجوده.
يريد أن يقول له: أنت يدك تعطي وتبذل بالليل والنهار، وأنت لا تبخل عن أصحابك بشيء سواء بيمينك أو بشمالك، وهذا كلام لا يستقيم في الأذهان، ولكنه خرج مخرج المجاز في الإطناب والمدح، وإلا فإنفاق الشمال مكروه في الشرع؛ ولذلك قالت عائشة: وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في أمره كله كان يحب التيمن في ترجله، وتنعله وفي عطائه وأخذه، فما كان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي إلا بيمينه، وما كان يأخذ شيئاً من أصحابه إلا بيمينه.
والترجيح: أن صفات الله تبارك وتعالى توقيفية، والذي قد ثبت بالنص أن كلتا يديه يمين، ولابد من القول والذهاب إلى هذا المذهب بأن كلتا يدي ربنا تبارك وتعالى يمين، ولا توصف إحداهما بأنها شمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تبارك وتعالى لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد.(22/17)
الأسئلة(22/18)
الحكم على حديث: (إن الله خلق آدم على صورته)
السؤال
ما صحة الحديث بأن الله تعالى خلق آدم على صورته؟
الجواب
هذا حديث صحيح متفق عليه عند البخاري ومسلم، لكن لا يلزم منه إثبات الصورة لآدم، أو أن الضمير يعود على المولى تبارك وتعالى، وهذا كلام أيضاً محل تفصيل، فقد ورد في الحديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا ضربت فلا تقبح ولا تلعن، ولا تضرب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته).
هل الضمير هنا يعود على آدم أو على صورة آدم، أو على صورة المضروب، أو على صورة الرحمن؟ كلام طويل جداً نبحثه عند الكلام عن صفة (الصورة) للمولى تبارك وتعالى.(22/19)
ثبوت اكتحال النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل أحاديث اكتحال النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة؟ وهل هو مستحب أم واجب؟
الجواب
نعم.
صحيحة، وإذا صح الأثر لزم العمل به، سواء كان ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب والندب.(22/20)
بيان أن السنة قص الشارب لا حلقه
السؤال
هل السنة قص الشارب أم حلقه؟
الجواب
السنة في ذلك قص الشارب دون الحلق.(22/21)
حكم التصدق على زانية
السؤال
هو يجوز لي أن أتصدق على زانية؟ وكيف أفعل حتى لا أفتن بها؟
الجواب
نعم يجوز؛ لحديث الرجل الصالح الذي تصدق على سارق وزانية وغني فأصبح الناس يقولون: تصدق على سارق.
استشهد الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظه الله في درس له أنه لما يتصدق المسلم على زانية ربما بهذه الصدقة تستعف عن الزنا.
وهذا نص الحديث.
ولا يلزم أن تعطيها الصدقة بنفسك، من الإمكان أن تحتال في إيصال هذه الصدقة إلى هذه المرأة التي تريد التوبة، ولا سبيل لها إلا أن تستعف بمال حلال كصدقتك، فلا بأس أن تذهب أمك إليها، أو أختك أو إحدى محارمك، أو شيخ كبير هرم لا يفتن بها ولا تفتن به، ولا تمكنه من نفسها، وإذا كان يغلب على ظنك أن هذه المرأة الزانية البغية ربما تفتنك فيحرم عليك أن تقترب منها؛ لغلبة ظن وقوع الفتنة بينك وبينها، فأوسط الأمر أن تجعلها صدقة سر، وهي -إن شاء الله تعالى- مقبولة عند الله عز وجل.(22/22)
النصح بشراء كتاب أصول الاعتقاد
السؤال
هل تنصحنا بشراء كتاب أصول الاعتقاد للالكائي وهو محل الكلام، أم نسمع ونكتب الشرح فقط؟
الجواب
لا أرى تعارضاً بين شراء الكتاب، وبين أن تسمع الشرح، وأن تكتب نقاط الفوائد.
وأهل الأصول يقولون: إذا كان الجمع ممكناً بين الاثنين فهو خير من رد أحدهما.(22/23)
الحكمة من تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله
السؤال
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] الآية، فما الحكمة من تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله؟
الجواب
سؤال لطيف، الله تعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فأخر الإيمان وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما السياجان اللذان يحيطان بالإيمان ويحفظانه، فأمة ليس فيها أمر بالمعروف ولا نهي عن المنكر لابد أن يضيع فيها الإيمان، فقدم المولى تبارك وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهما السياجان اللذان يحيطان بالإيمان ويحافظان عليه.
وأنتم تعلمون بداهة: أن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو ليس من أهل الإيمان والإسلام لا يقبل منه ذلك، فالكافر لو أمر بالمعروف ونهى عن المنكر يكافئه الله عليه بزينة الحياة الدنيا، لكن في الآخرة ليس له نصيب، ولا يقبل الله تبارك وتعالى منه ذلك العمل؛ لأنه عديم الإيمان، وعديم الإسلام والتوحيد.(22/24)
بيان أن صفات الله سبحانه توقيفية كما أن أسماءه توقيفية
السؤال
هل تثبت هذه الأسماء لله سبحانه وتعالى: الجميل، الطيب، النظيف؟
الجواب
هذه صفات للمولى تبارك وتعالى دون الثالث قولك: (نظيف) لم أسمع به، لكن من صفاته: أنه جميل يحب الجمال، وأنه طيب لا يقبل إلا طيباً.
ولابد أن تعلموا أن الصفات كذلك توقيفية كالأسماء، فلا يجوز أن نسمي الله تبارك وتعالى إلا بما سمى به نفسه، ولا يجوز أن نصف الله تبارك وتعالى إلا بصفة قد وصف الله تبارك وتعالى بها نفسه.
وعندما ننسب صفة لله أو اسماً لله ليس وارداً في الكتاب ولا السنة فإن هذا لا يجوز؛ لأن الأسماء توقيفية وكذلك الصفات.
أما باب المعاني الجميلة فهو باب أوسع من باب الأسماء والصفات، فنثبتها لله تبارك وتعالى، فالمنعم والستار ليست من أسماء الله، وغير ذلك من الأسماء التي درجت على ألسنة الناس، وليست في حقيقتها من أسماء الله.
فالمنعم ليست صفة ثابتة لله تبارك وتعالى وردت في كتابه أو في سنة رسوله، ولكنها من المعاني الجميلة التي تليق بالمولى عز وجل؛ ولذلك قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، فالله تبارك وتعالى بلا شك هو المنعم والمتفضل ليس على سبيل أن (المنعم) من أسمائه أو من صفاته، ولكنه معنى جميل يليق بجلال المولى تبارك وتعالى في الجملة.(22/25)
معنى حديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)
السؤال
هل يوصف الله بالملل كما في حديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)؟
الجواب
لا.
ملل المخلوق المعروف لا يوصف به المولى تبارك وتعالى؛ لأنه صفة نقص، والملل في حق الله تبارك وتعالى صفة كمال؛ لأننا متفقون على أنه متصف بالكمال المطلق، منفي عنه جميع النقائص.
فأحسن تفسير لحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا): أن الله لا يمل من إعطائكم الثواب على الأعمال الصالحة حتى تمتنعوا أنتم عن تلك الأعمال، فإن الله يقطع ثوابه عنكم، وهذا أحد وجوه التفسير في هذا الحديث: (إن الله لا يمل)؛ لأنكم تعلمون الحديث: (من عمل حسنة فله عشر أمثالها).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا حديث فيه الحث على علو الهمة في طلب معالي الأمور وعظيم الأعمال التي يثيب المولى تبارك وتعالى عليها، فإن المرء كلما عمل صالحاً أثابه الله تبارك وتعالى، ويتوقف هذا الثواب إذا توقف العمل.
فعبر المولى تبارك وتعالى عنه بكلام من لغة العرب حتى يفهموه.
فقوله: (إن الله لا يمل) أي: من إعطائكم الثواب على الأعمال حتى تكفوا أنتم عن الأعمال، فإن الله تبارك وتعالى يمنعكم ويحرمكم الثواب، لأنكم منعتم أنفسكم العمل الصالح.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(22/26)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الأصابع لله عز وجل
أهل السنة والجماعة يثبتون لله تعالى الأسماء والصفات كما يليق بجلال الله من غير تكييف ولا تعطيل ولا تحريف ولا نفي ولا تأويل، ومن ذلك إثباتهم لصفة الأصابع والأنامل، فقد ثبت ذلك في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي ذكر فيها أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا.(23/1)
الأدلة على إثبات صفة الأصابع لله تعالى
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فلا زلنا نتكلم عن صفات الباري تبارك وتعالى، واليوم بمشيئة الله عز وجل نتكلم عن صفة الأصابع لله تبارك وتعالى، بعد أن تكلمنا أنه ذو يدين سبحانه وتعالى، وكلتا يديه يمين لا شمال فيهما، وأما الأحاديث التي وردت تثبت أن لله يميناً وأن له شمالاً فأحاديث شاذة ضعيفة خالفت كتاب الله عز وجل، وخالفت ما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن كلتا يديه سبحانه يمين، ورددنا كل تأويل صرف لفظ اليد لله عز وجل عن ظاهرها وعن حقيقتها، والذي قلناه في صفات اليد لابد وأننا سنقوله في كل صفة ولذلك فإننا لا نعيد الكلام اعتماداً على فهمه في المرة الأولى أو الثانية.
واليوم نتكلم عن صفة الأصابع فنقول: لله عز وجل أصابع، وإذا كنا لا نعلم كيفية اليد، فإننا كذلك لا نعلم كيفية الأصابع لله عز وجل، ولكننا نثبتها له سبحانه وتعالى بلا كيف ولا حد، فلا نستطيع أن نكيف صفات المولى تبارك وتعالى، سواء كانت صفاته الفعلية، أو الخبرية الذاتية، ومعنى أنها صفة ذاتية.
أي: أنها لازمة لذاته تبارك وتعالى لا تنفك عنه، أولية بأوليته دون ابتداء، وآخرية بآخريته بلا انتهاء، بخلاف -مثلاً- صفة الكلام لله عز وجل وصفة النزول، وصفة المجيء وغيرها من الصفات، فإن الله تبارك وتعالى أعلمنا أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، فلا يجوز لأحد أن يقول: إنه ينزل في الثلث الأول، أو ينزل في النهار، أو ينزل في بعض الليل دون بعضه، إلا ما حدده الله تعالى ورسوله، فإذا كان الخبر يثبت أنه ينزل في الثلث الأخير من الليل، فيمنع أن يقول أحد: أنه ينزل في منتصف الليل، أو في أول الليل أو في بعض أجزاء النهار؛ لأنه ينزل حيث أخبر، وبالطريقة التي تليق به تبارك وتعالى.
إذاً: الله تبارك وتعالى ينزل في وقت ولا ينزل في وقت آخر، ولا ينزل في بقية الليل وكذلك النهار، وإنما ينزل في الثلث الأخير من الليل، والله تبارك وتعالى يتكلم بأي كلام متى شاء، وله أن يتكلم في وقت دون وقت، لكننا لا نقول: إن لله تبارك وتعالى يد بالليل، وليست له يد بالنهار، لأنها صفة ذاتية، ومعنى ذاتية أنها ملازمة لذاته لا تنفك عنه، فيمتنع أن نقول في هذه الصفات: إنها ثابتة لله عز وجل في وقت دون وقت، وإنما هي ثابتة له في كل وقت وحين، فإن الله تبارك وتعالى لا تنفك عنه يده، كما أنه لا تنفك عنه أصابعه.
يعني: لا يوصف في وقت أنه ذو أصابع، ثم ننفي عنه في وقت أنه ذو أصابع، لأنها لازمة له على الدوام من الأزل وإلى الأزل، دون بداية ولا نهاية.
ذكر غير واحد من العلماء في كتبهم أن صفة الأصابع لله عز وجل ثابتة لله عز وجل، وتلقاها بالقبول أهل السنة والجماعة، ومما يؤيد ذلك: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما -أي: البخاري ومسلم - وكذلك ذكره ابن عبد البر في كتابه العظيم: (التمهيد)، وقد جمع أكثر طرقه الإمام الدارقطني في رسالة صغيرة لطيفية جداً سماها: (صفات الباري تبارك وتعالى)، هذه الرسالة ليس فيها حديث إلا له تعلق بصفات الله عز وجل، والإمام الدارقطني كان على رأس طبقته ممن يدعو إلى السنة على منهج النبوة، فقد كان إماماً عظيماً جبلاً من جبال السنة والداعين إليها، الآمرين فيها بالمعروف، والناهين فيها عن المنكر، جمع في هذه الرسالة عدة أحاديث تثبت صفات المولى تبارك وتعالى.(23/2)
حديث: (إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع)
من هذه الأحاديث التي رواها الدارقطني في هذه الرسالة: ما أخرجه ابتداءً الإمام مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عز وجل عنه قال: (جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى حبر: عالم من علماء اليهود، (فقال: يا أبا القاسم! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى -الذي هو التراب- على أصبع، وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر وتصديقاً له).
وعبد الله بن مسعود راوي الحديث فهم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ضحك تعجباً وتصديقاً ولا غرو في ذلك؛ لأنه حق أتى من قبل اليهودي فقبلناه، لا لأن القائل به يهودي، ولذلك لم يرده النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له لا هذا الخبر يرد؛ لأنك يهودي لا يقبل منك هذا الخبر، وإنما ضحك تعجباً وتصديقاً لمن أخبر بذلك الخبر، (ثم قرأ قول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).
وقد روى هذا الحديث غير واحد من الصحابة، فلم ينفرد به ابن مسعود، بل رواه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما.
وقريب منه: حديث أبي هريرة عند مسلم والحديث متفق عليه -أخرجه الشيخان- رواه البخاري في كتاب التوحيد في صحيحه.(23/3)
حديث: (إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن)
أيضاً: وفي معنى هذه الأحاديث المشار إليها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم ولفظه: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال -أي النبي عليه الصلاة والسلام-: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك).
والشاهد: إن قلوب العباد كقلب واحد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وهذا الحديث كذلك هو الحديث الثاني في إثبات أن لله تبارك وتعالى أصابع.(23/4)
حديث: (قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)
كذلك في معناه الحديث الثالث: حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عند مسلم ونصه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الميزان بيد الرحمن إن شاء يرفع أقواماً ويضع آخرين، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه).
(إن شاء أقامه): أي هداه.
(وإن شاء أزاغه): أي أضله.
فهذه أحاديث ثلاثة تثبت الأصابع لله تبارك وتعالى، فصفة الأصابع لم تثبت بالكتاب العزيز، ولا يلزم في إثبات صفة من الصفات أن يكون لها ذكر في القرآن الكريم، وإنما مصدر التشريع والاعتقاد كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما نعتمد على السنة وحدها إذا لم يكن هناك خبر في القرآن الكريم، وقد نطقت السنة فيما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو وكذلك رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان وما اتفق عليه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
هذه الثلاثة الأحاديث أثبتت أن لله تبارك وتعالى أصابع، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
وبهذه الأحاديث الصحاح يثبت علماء الحديث وأهل السنة لله تعالى الأصابع، بثبوتها صفة لله تعالى خبرية؛ لأن الخبر قد ورد بها.(23/5)
منهج أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات
من القواعد المسلم بها عند أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بصفات المولى تبارك وتعالى وأسمائه: أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله، وينفون عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام.
فلابد وأن نثبت الأصابع لله عز وجل، لأنه قد ورد في السنة إثباتها.
أي: نطقت السنة بإثبات أن لله تبارك وتعالى أصابع، وأحاديث صفة الأصابع لله عز وجل لم تسلم من تحريف المحرفين كأي صفة من الصفات، بل تعرضوا لها مرة بالتأويل، ومرة بالتحريف، بل منهم من تعرض لها بالتعطيل، ومنهم من تعرض لها بالتمثيل.
قالوا: إذا كنا نثبت لله تبارك وتعالى أصابع، فلابد وأنها تكون كأصابعنا، ولا شك أن هذا غلو شديد، وانحراف عن منهج النبوة فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل؛ لأن المنهج الحق هو منهج أهل السنة وهم وسط بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، فلا ينفون الصفة وقد أثبتها الله تعالى ورسوله، كما أنهم لا يشبهون صفات الخالق بصفات المخلوقين، فلا يمثلون صفات الباري عز وجل بصفات المخلوق الجارحة، فإننا نثبت أن لله تبارك وتعالى أصابع ليست جارحة، فلا تشبه أصابعنا، إنما هي أصابع تليق بالمولى عز وجل، ونسكت على ذلك، ونؤمن به إيماناً جازماً، فأحاديث الصفات نالها ما نال غيرها من نصوص الصفات الأخرى.
وزعم بعضهم: أن صفة الأصابع تخليط من اليهود، فقالوا: نحن لا نثبت صفة الأصابع، لأنها إنما أتت من طريق اليهود، وهذا الكلام مردود عليهم، فإن الحجة ليست بقول اليهودي وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام، لأن خبر بني إسرائيل إن وافق ما عندنا فلا بأس وإن خالف رددناه، وإن لم يخالف ولم يوافق فإننا لا نؤمن به ولا نكذبه.
أي: لا نصدقه ولا نكذبه، فلا عبرة به عندنا، وإن قال به حبر من أحبار اليهود، والنبي عليه الصلاة والسلام ضحك تعجباً لما قال، وتصديقاً له، فإنما نأخذ الحجة من تصديق النبي عليه الصلاة والسلام لذلك الحبر.
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) ليس فيه واحد من اليهود أو النصارى بل هو خبر مسلم قح من أوله إلى آخره، وكذلك حديث النواس بن سمعان، وكلاهما يثبتان أن لله تبارك وتعالى أصابع، فلماذا نرد هذه الأخبار؟ ومعلوم أن اليهود مجسمة فما من بدعة وقعت في الإسلام إلا ولابد أن صاحبها إما يهودي أو نصراني أو مجوسي أو صاحب هوى وبدعة، فكل الانحرافات والبدع الخاصة بالعقيدة مصدرها اليهود والنصارى والمجوس، ثم أصحاب الأهواء الذين يميلون بأهوائهم إلى الابتداع لا إلى الاتباع.
وقالوا: أن ضحك النبي عليه الصلاة والسلام من كلام الحبر ليس دليلاً على تصديقه لليهودي، بل هو دليل الكراهة والغضب والاستنكار، وهذا كلام بعيد جداً.
ومتى علم أحد من المسلمين أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أنكر أمراً ضحك له؟ وهل وجدتم دليلاً في السنة من أولها إلى آخرها أو سمع أحدكم أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سمع شيئاً يكرهه وينكره فإنه كان يضحك؟ إنما كان يغضب غضباً شديداً حتى يرى ذلك في وجهه، وإذا كان ذلك في عموم الأشياء فإنه من باب أولى في أحاديث الصفات لله عز وجل، فلابد أن يكون شديد الغضب، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت على باطل، وضحكه لا يدل على استنكاره، وإنما يدل على تعجبه وتصديقه.
هب أن المسألة مسألة عقول وأفهام، فأيهما أحسن عقلاً وأشد فهماً عبد الله بن مسعود الذي رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضحك، أم هؤلاء الذين صرفوا الضحك إلى الاستنكار ورد خبر ذلك الحبر؟ إن الواحد إذا ضحك ربما يضحك استهزاءً، أو سخرية، أو استنكاراً لما يسمع، أو تعجباً مما يسمع، أو موافقة وقبولاً لما يسمع، لأن التشريع لا يناط به، ولكن الذي يعلم أنني أضحك تعجباً أو استنكاراً هو الذي يراني أضحك، يعلم كيف أضحك، وعلام يدل هذا الضحك، فـ عبد الله بن مسعود هو الذي رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يضحك، فلو كان يعلم أن هذا الضحك ليس للتعجب ولا للتصديق بل هو للاستنكار ولغرابة الخبر لصرح بذلك ونقله إلينا، بل هو الذي رأى الضحك، ويعلم من حال ضحك النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يستنكر ولا يستغرب وإنما قال: (ضحك النبي عليه الصلاة والسلام مما قال الحبر تعجباً وتصديقاً له).
وإذا كانت المسألة مسألة فهوم وعقول فعقل عبد الله بن مسعود أرجح، وفهمه أقوى وأشد من فهم هؤلاء الذين حرفوا النص عن ظاهره لينفوا عن الله عز وجل أنه ذو أصابع.
وادعوا كذلك أن ذكر الأصابع لم يرد في القرآن أو في حديث متواتر، والرد عليهم أنه ليس بلازم قط أنها ترد في القرآن الكريم، ودعواهم في ظاهرها حق ولكن أريد بها باطل، ولو وردت لفظة الأصابع في القرآن لأولوها كما أولوا غيرها من الصفات التي وردت في القرآن، كما أولوا صفة اليد مع أنها ثابتة لله في القرآن فأولوها بالنعمة، وبالقدرة.
المهم أنها(23/6)
مذهب المعتزلة في الصفات والرد عليهم
ومن هؤلاء المعتزلة من يتفلسف ويقول: إننا لا نحتج في صفات المولى عز وجل إلا بالأحاديث المتواترة.
وهؤلاء معتزلة، بل هم شر من المعتزلة، فمعتزلة هذا الزمان شر من المعتزلة في ذلك الزمان الأول، فإنهم تأولوا هذه الصفات وهم يعتقدون أن هذا دين يتقربون به إلى الله عز وجل، أما هؤلاء الملاحدة الذين تبنوا مذهب الاعتزال في هذا الزمان فإن التسمية الحقيقية لهم أنهم ملاحدة، ولكنهم تستروا بسترا العقل وقالوا: نحن عقلانيون، نحن تابعون للعلم الحديث، نحن معتزلة ولكنهم في الحقيقة لا يجرءون على أن يصرحوا بمكنون صدورهم؛ لأنه يؤدي بهم إلى الكفر الصريح عياذاً بالله تعالى فهنا يقولون: إن هذه الصفة ليست ثابتة في الكتاب ولذلك لا نقول بها إلا إذا وردت بأحاديث متواترة.
والرد عليهم فيما يلي: الرد الأول: أن غيرها من الصفات ثبتت في الكتاب ولم تقولوا بها؟ وهذا يدل على فساد قلوبكم، وسوء طويتكم.
الرد الثاني: أنه لا يلزم من ثبوت شيء في دين الله عز وجل أن يرد في الكتاب، بل إن الله عز وجل أمرنا أن نتبع محمداً عليه الصلاة والسلام؛ لأن سنته وحي من عند الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فالنبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن لله أصابع، وقد صح بذلك الخبر فلم لا نقول به؟ ولم لا نعتقده؟ ولم نرد على النبي عليه الصلاة والسلام؟ تصور أنك جالس بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) أتقول له لا هذا الخبر ليس متواتراً؟ أم أين دليلك من الكتاب؟
الجواب
أنك لا يمكن أن تتكلم، ولو تكلمت بهذا الكلام الكفري بين يديه لوجدت من يؤدبك ومن يقطع رقبتك كأمثال عمر وغيره، بل هو اعتراض وتقدم بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام.
الرد الثالث: من الذي فرق في صفات المولى عز وجل بين قبول الخبر إذا جاء متواتراً ورده إذا جاء آحاد؟ من الذي قال بهذا؟ أهو النبي عليه الصلاة والسلام أم الخلفاء الأربعة أم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أم الأئمة المتبوعون إلى قيام القيامة؟
الجواب
لم يقل أحد من هؤلاء برد الخبر إذا كان في الاعتقاد إذا أتى من طريق الآحاد، بل قالوا: إذا صح الخبر فهو مذهبنا، وهو معتقدنا، وبه نقول، فإذا كان هذا الخبر قد ورد في الصحيحين بإثبات هذه الصفة لله عز وجل فلماذا لا نقول بها إذاً؟ ولذلك (أرسل النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً وحده إلى اليمن، وقال: إنك تدعو قوماً أهل كتاب -يهود ونصارى- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) هذا اعتقاد.
وأرسل معاذاً وهو خبر آحاد، وقبله أهل اليمن ولم يردوا معاذاً ويقولوا له: اذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو اذهب إلى أبي القاسم فأخبره أننا لا نقبل هذا الكلام إلا إذا كان متواتراً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام لما استقر عنده أن خبر معاذ كاف وحده في إقامة الحجة على أهل بلد أرسله إليهم يعلمهم الاعتقاد أولاً، فلما لم يكن هذا ولا ذاك، قام أهل اليمن وقبلوا خبر معاذ وأتوا بعد ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام مسلمين، بعضهم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليسمع بالسند العالي ما أوحى الله عز وجل به إلى نبيه.
فقولهم: إن هذا الخبر ليس في القرآن مردود.
إذاً: ماذا تصنع السنة؟ وما قيمتها حينئذ؟ كما أن خبرهم أو قولهم بأننا لا نقبل في إثبات الصفات إلا الأحاديث المقطوعة ويقصدون بها المتواترة، خبر كذلك أشد رداً مما سبقه.(23/7)
مذهب الأشاعرة في الصفات والرد عليهم
أيضاً الذين أثبتوا هذه الأحاديث، هم أحسن حالاً ممن سبق، هؤلاء قالوا: سنسلم بأن هذه الأحاديث صحيحه، وأننا سنحتج بها في الاعتقاد، لكنهم ذهبوا مذهباً آخر، واضطربوا اضطراباً شديداً، وتحيروا وتخبطوا، فقالوا: هذه الأخبار صحيحة ولكننا سنؤولها -وهؤلاء الأشاعرة- ونصرفها عن ظاهرها، وعن المراد منها، ومحاولة التأويل بدعوى أن مثل هذه النصوص لا يراد ظاهرها؛ لأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، ومن أصول المبتدعة: تقديم العقل على النقل، لكن من أصول أهل السنة تقديم النقل على العقل، والذي خلق العقل هو الله عز وجل؛ لأنه لا خالق غيره ولا رب سواه، وهذا العقل منه الفاسد ومنه السليم، ونصوص الشرع منها الصحيح ومنها السقيم، فالصحيح كتاب الله عز وجل وما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام، والسقيم منها: الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإذا كان الخلاف وقع بين أهل العلم فيما يتعلق بالاحتجاج بالضعيف في فضائل الأعمال، فمن باب أولى وأحرى إذا كان هذا الخبر الضعيف يثبت صفة لله عز وجل فلا نثبتها، لأنهم يشترطون في ذلك يأتي الخبر من طريق صحيح، ومن طريق الثقات.
فقولهم إنما نؤول الأصابع لأنها لا تتفق مع العقل؛ ولأن الأدلة العقلية تأبى ذلك، لأنهم تصوروا أن أصابع الخالق كأصابع المخلوقين، فأرادوا أن ينزهوا الله تبارك وتعالى برفض الأدلة، وإما أن ينزهوه بتأويل الأدلة، فلما ثبتت الأدلة ثبوتاً يقينياً قالوا: إن هذه الأدلة ظاهرها غير مراد.
يعني الكلام هذا على سبيل المجاز.
أي: أن الكلام هذا لا يقصد به حقيقة الأصابع، فيصرفون النص عن ظاهره ويقولون بالمعنى المترتب عليه، وهو القبض وهو لا يتم إلا بالأصابع، والبسط لا يكون إلا بالأصابع وغير ذلك، والحثيات كذلك لا تكون إلا بالأصابع، أي براحة اليد وبالأصابع، فلما ثبت هذا كله لله عز وجل أردوا أن يقولوا: إن هذه الأصابع إنما هي فرع وتصور عن اليد التي هي أصلاً عندهم القوة، فالأصابع لا يراد منها الظاهر بل هي مجاز لله عز وجل، والمجاز فيما يتعلق بأمور الغيب -خاصة فيما يتعلق بالباري تبارك وتعالى- لا يجوز قط، وليس هو منهج أهل السنة والجماعة، لأنهم يثبتون لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله على الوجه اللائق به حقيقة لا مجازاً، فإن لله يد حقيقة، لكن لا يعلم كيفية هذه اليد إلا الله عز وجل.
أما المبتدعة قالوا: لابد من التأويل إلى ما يليق ويقبله العقل، فنقول: هذا غيب لا دخل للعقل فيه، والغيب ابتلاء من الله عز وجل، فالجنة والنار والحور العين لا نقول فيها أنها مجاز، وإلا للزم من ذلك القول بأن الله عز وجل مجاز؛ لأنه ليس ذاتاً حقيقية -حسب زعمكم- لأنكم أنكرتم الصفات اللازمة للذات، فإذا كنتم تنكرون هذه الصفات وتؤولونها بأنها مجاز لابد وأنكم تقولون في النهاية بأن الذات العلية كذلك مجاز.
إذاً: في النهاية لا يوجد إله.
ويصح هنا ما قاله ابن تيمية: إن المعطل يعبد عدماً، وإن الممثل يعبد صنماً.
فـ ابن تيمية لم يقل هذا الكلام من فراغ بل هو خبر قلوب القوم لا أقوال ألسنتهم، فعلم بنور من الله عز وجل أن المعطلة الذين يعطلون الصفات ويلزم بذلك أن يعطلوا الذات يعبدون عدماً؛ لأنهم في النهاية لا يكون لهم إله؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك ذات بغير صفات، فإذا كانوا نفوا الصفات فلابد وأن ينفوا في النهاية الذات.
والممثلة على النقيض من ذلك، فهم يثبتون أن لله تعالى يداً كأيدينا وعيناً كأعيننا، وساقاً كساقنا، وأصابع كأصابعنا، وينزل كنزولنا، ويجيء كمجيئنا، فيصورونه في النهاية شخصاً، فهم يعبدون صنماً؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشبه أحداً من خلقه لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقال آخرون: يحتمل أن يكون المراد بالأصابع خلقاً يخلقهم الله عز وجل ليحملوا ما تحمله الأصابع.
وهذا تأويل ساذج إذ جعلوها شيئاً حادثاً منفصلاً عن الذات، وصفات الله تبارك وتعالى ليست حادثة، لأنك لو قلت بحدوثها فيلزمك أن تقول: إن الله كان متصفاً بالنقص فكمل نفسه.
وهذا كفر والعياذ بالله.
وقال آخرون: لعل المراد بالأصابع نعمة النفع والدفع، أو أثر الفضل والعدل إلى آخر تلك التكلفات التي نحن في غنى عن سردها؛ لأن حسن اعتقادنا في الله عز وجل أن نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة عن صفات الله عز وجل على الوجه اللائق به تبارك وتعالى، ولذلك فإن منهج أهل السنة في غاية الراحة والطمأنينة، ولذلك إذا أتاك أي خبر لابد وأن تسأل: من القائل به؟(23/8)
بيان أنه لا تعارض بين العقل السليم والنقل الصحيح
ناقشني رجل فقال: يرحم الله فلاناً فإنه كان يشن الغارة على السلفيين، وهو خبر القوم، وعلم فساداً من هديهم وفساد قلوبهم.
قلت: أما يرحمه الله فإنا نسأل الله أن يرحمه، وأما أنه خبر القوم، فوالله ما خبرهم ولو خبرهم لتبعهم، بل منعه كبره أن يقبل الحق وأن يتبع شباباً صغاراً في سن أولاده وهو عالم كبير في الأزهر، وكان يغتاظ أشد الغيظ إذا سمع كلمة سلفي أو كلمة سنة.
قلت: أليس هو الذي رد حديث الذبابة وهو في الصحيح؟ قال: نعم.
ثم قلت: أليس هو الذي رد حديث سحر النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم.
هذا لا يليق بجناب النبوة.
قلت: النبي أعلم بجناب النبوة منك، فهو الذي أخبر أنه سحر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الطبيب الأول الذي أخبرنا أن الذبابة إذا وقعت في شراب أحدنا فليغمسها في هذا الشراب فإن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء، وأنت لا تدري بأي الجناحين سقطت هذه الذبابة، فمن باب الاطمئنان ودفع الوسواس أن تغمسها، فإذا كان جناحها الذي يحمل الداء هو الذي سقط عالجه الجناح الآخر؛ لأن فيه الدواء، وإن كان الذي سقط فيه هذا الشراب هو الجناح الذي فيه الدواء فإن غمس الجناح الذي فيه الداء لا يضره، ثم إني قلت له في نهاية المناقشة: من الذي أبلغك أن أبا بكر رد هذا الكلام؟ قال: لا أحد.
قلت: وعمر؟ قال: لا.
وعثمان؟ قال: لا.
والشافعي؟ قال: لا.
وأبا حنيفة؟ قال: لا، قلت: ما تقول في هؤلاء، أليس هم علماء الأمة؟ ومن الذي يقول بما تقوله الآن؟ قال: المعتزلة.
فقلت: رضيت لنفسك ولدينك أن تكون متبعاً لمنهج المعتزلة وهم الخلف.
قال: لأن هذا الكلام غير معقول.
قلت: العقل ليس مصدراً للتشريع، بل الكتاب والسنة حاكمان على العقل، هاديان له، مرشدان له إلى طريق الحق والخير، فأنت جعلت عقلك حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يعقل.
ثم قلت: أتظن أنك العاقل الوحيد؟ قال: لا وأنت أيضاً يا شيخ عاقل؟ قلت: إذا كانت المسألة مسألة عقول فإن عقلي يقبل كل خبر جاء في كتاب الله أو صح عن النبي عليه الصلاة والسلام سواء علمت معناه أم لم أعلمه، علمت حقيقته أم لم أعلمها، فإن عقلي يأمرني بذلك، وأنت عقلك يرد هذا، فهل يتصور أن يكون الله عز وجل جعل العقل حاكماً على الكتاب والسنة؟ أنت اليوم عاقل وغداً لست عاقلاً، فأنت اليوم تقبل خبراً وغداً ترده، والخبر الذي تقبله بعقلك أنا أرده بعقلي والعكس بالعكس، فلا يصح أن يكون العقل المتغير الموصوف بالعجز والنقص والضعف حاكماً على الكتاب والسنة.
نعم.
الله تبارك وتعالى خاطب العقل وكلفه بأعظم تكليف أن يؤمن بهذا الكتاب، وأن يتدبر في آيات الله عز وجل؛ لأن العقل المخاطب هو العقل السليم، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ).
لأن هؤلاء الثلاثة لا عقول لهم، ولذلك لا يقعون في دائرة التكليف، والشرع لم يكلف هذه العقول أن تمعن النظر؛ لأنها لا نظر لها، فكيف تجعل من عقلك حكماً على الكتاب والسنة؟! ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل: لا يوجد أبداً تعارض بين النقل والعقل، وإن كنا أحياناً نشعر بوجود تعارض، فالنقل الصريح في الكتاب والسنة يتفق مع العقل الصحيح السليم من كل آفة وهوى وابتداع وزيغ وانحراف عن الحق.
وإذا لم يوافق العقل الشرع فلابد أن تكون هناك علة، هذه العلة ليست في دين الله عز وجل، وإنما هذه العلة إما أن تكون بفساد العقل، وإما أن تكون في ضعف النقل كأن يكون الحديث ضعيفاً، ثم ذكر مثالاً على ذلك، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب.
قال: وما اكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان ويكون إلى قيام الساعة).
وحديث آخر من طريق جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر).
وهذا الحديث يحتج به الصوفية، فيقال: إن التعارض واقع بين هذين الخبرين، فإما أن يكون الجمع بينهما ممكن، وعقلي هو الذي قصر لفساد فيه وجهل فيه عن الجمع بين الدليلين، وإما أن يكون العيب في عدم ثبوت واحد منهما، فلما فتشنا علمنا أن حديث القلم هو الصحيح، وأن حديث: (نور نبيك يا جابر) حديث موضوع، فلما علمنا بوضعه استبعدناه فلم يبق لنا إلا خبر واحد: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) فليس عندي في هذه المسألة إلا خبر واحد، فلابد أنه سيتفق مع عقلي تمام الاتفاق، لأن النقل صريح، والعقل صحيح، ففي هذه الحالة ليس هناك تعارض أبداً.
ولذلك فإن ابن خزيمة إمام الأئمة رحمه الله تعالى، صاحب كتاب التوحيد وهو كتاب عظيم جداً، قال: ما من دليلين ترون أن بينهما ت(23/9)
مذهب الحافظ ابن حجر في الصفات
ممن أنكر الإثبات وتكلف في معنى حديث الأصابع: الحافظ ابن حجر إمام أئمة السنة، فقد زلت قدمه في بعض الصفات فوافق فيها الأشعرية، ولا يعني ذلك أنه في موافقته للأشاعرة في بعض الصفات أنه أشعري، بدليل أنه حمل حملة شعواء في شرحه للصحيح في المجلد الثاني عشر على مذهب الأشاعرة، وأثبت أنهم من أهل القبلة لا من أهل السنة.
فأهل العلم يفرقون بين المصطلحين: أهل القبلة، وأهل السنة، فأهل القبلة: يثبت لهم الإسلام فقط وعندهم انحراف وبدع.
وأما أهل السنة: فإن الاتباع والاقتداء ثابت لهم، ولذلك سموا أهل السنة والجماعة، لأنهم استنوا بسنة النبي عليه الصلاة والسلام على مراد النبي عليه الصلاة والسلام، وهم الجماعة الذين اجتمعوا على الاقتداء والاتباع بالنبي عليه الصلاة والسلام.
أما الأشاعرة فإنهم فرقة من الفرق، وكذلك المعتزلة فرقة، والخوارج فرقة، والقدرية فرقة، والإباضية فرقة، والشيعة فرقة، والصوفية فرقة، وكلهم ضالون؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قضى وحكم بذلك، فإننا نقضي ونحكم بما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فحكم بأنهم للنار لأجل انحرافهم وضلالهم حين ابتعدوا عن منهج السنة.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: حيث أوضح أن في تصرف هؤلاء المتأولة الطعن في ثقات الرواة، وصرفهم هذه النصوص عن ظاهرها فيه طعن للرواة الذين رووا هذا الخبر ورد الأخبار الثابتة إلى أن قال: ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي للزم فيه تقرير النبي عليه الصلاة والسلام على الباطل، وسكوته عن الإنكار وحاشاه من ذلك.
يعني: إذا كان كلامهم صحيحاً فإن النبي عليه السلام أقر عبد الله بن مسعود على فهمه الباطل، ولما كان ذلك محال في حق النبي عليه الصلاة والسلام أن يسكت على باطل لابد وأننا نقول: بأن ابن مسعود فهم فهماً صحيحاً سليماً أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحك تعجباً وتصديقاً وليس استنكاراً كما قالت المتأولة.
ثم قال: وممن أنكر بل تشدد في الإنكار على من ادعى أن الضحك في الحديث كان على سبيل الإنكار هو ابن خزيمة، فإنه بعد أن أورد هذا الحديث في كتابه التوحيد، قال: يا له من موقف غريب؟ هل هؤلاء يدعون أنهم أعلم بالله وما يليق به من رسول الله أو من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أو من التابعين لهم بإحسان؟ فمثل هذا يحتار فيه المرء ولا يدري كيف يفسره.
وعلى كل حال فهذه مواقف ثلاثة تمخضت من دراسة أحاديث الأصابع ومواقف الناس منها، وهي: الأول: إثبات صفة الأصابع كما جاءت بها السنة، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة.
الثاني: تأويل الأحاديث الواردة والخروج بها عن ظاهرها، وهذا مذهب الأشاعرة.
الثالث: إنكار الأحاديث وردها بدعوى أنها مخالفة للأدلة العقلية القطعية في زعمهم، وهذا منهج المعتزلة والجهمية، والحق أبلج والباطل لجلج.(23/10)
إثبات صفة الأنامل لله تعالى
هناك صفة أخرى لله عز وجل أحب أن أذكرها؛ لأنها تابعة لصفة الأصابع، وهي صفة (الأنامل) وإثباتها لله عز وجل، فقد ثبت فيما رواه أحمد في مسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه عز وجل فيما يرى النائم.
وأنتم تعلمون أن الخلاف قائم في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة الإسراء والمعراج، ولكن هذا له درس مخصوص، سيأتي بإذن الله.
أما الذي لا خلاف فيه بين الأمة أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه في المنام بدليل حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري.
قالها ثلاثاً.
قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي) وهذا فيه إثبات لصفة الكف لله عز وجل.
قال: (حتى وجدت برد أنامله في صدري): يعني المولى تبارك وتعالى وضع كفه التي تليق به سبحانه وتعالى بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام، ولو فسرنا الكف بالنعمة فهل يتصور أن يكون المعنى: إن الله وضع نعمته بين كتفي النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا بد وأن نقول: بأنها كف حقيقة على المعنى اللائق بالمولى عز وجل.
قال: (حتى شعرت ببرد أنامله في صدري).
فهذا الحديث يثبت لله تعالى صفتين صفة الكف وصفة الأنامل، وهو حديث صحيح لغيره، أخرجه أحمد، والترمذي، وابن خزيمة، وابن أبي عاصم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رد على الإمام الرازي صاحب التفسير لما أول قوله: (وجدت برد أنامله) بالعناية، وأنه وجد أثر تلك العناية يفسر بأن الله تعالى وضع كفه على النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتنى به أعظم عناية، فشعر النبي عليه الصلاة والسلام بهذه العناية في صدره، فرد عليه ابن تيمية فقال: فتخصيص أثر العناية لا يجوز.
يعني: إذا كان الأمر كما قال الرازي فلن يكون هناك معنى جديد من أنه شعر ببرد أنامله على صدره، ونحن نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب، فهل يقول كلاماً ليس له معنى، أم كلامه كله له معنى؟ فكلامه صدر عن حكمة، وعن وحي، وتشريع، فلا يتصور أبداً تخصيص أنه شعر بذلك في صدره، فلماذا ما شعر في جميع بدنه؟ إذا كانت رجلك تؤلمك فإنك تستشعر بأن الله تعالى سحب منها نعمة القوة والدفع والنزع، أما إذا كانت لا تؤلمك فإنك تستشعر بأن نعم الله تبارك وتعالى وعناية الله تبارك وتعالى تحيط بك حسياً ومعنوياً فلماذا خصص النبي عليه الصلاة والسلام أنه شعر ببرد أنامل المولى عز وجل على صدره؟ ولماذا لم يقل: في بطنه، أو في ظهره، أو قدمه، أو في عقله أو غير ذلك؟ فكونه خص الصدر لابد أن يكون ذلك لفائدة.
قال: فتخصيص أثر العناية لا يجوز إذا لم يوضع بين الكتفين شيء قط، وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه، فكان يجب أن يبين أن أثر تلك العناية متعلق بما يعم، أو بأشرف الأعضاء، وما بين الثديين كذلك بخلاف ما إذا قرأ الحديث على وجهه، فإنه إذا وضعت الكف على ظهره نقل بردها إلى الناحية الأخرى وهو الصدر، ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس، وأيضاً فقول القائل: وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي.
هذا نص من النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز صرفه، ولا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ يعني: لا يتصور أن يكون هذا البرد الذي قال به النبي صلى الله عليه وسلم هو مجرد العناية؛ لأن العناية ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الرؤيا، وهذا أمر يعلم بطلانه بالضرورة من اللغة العربية، وهو من غث كلام القرامطة والسفسطائية.
ثم قال ابن تيمية الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء حيث قال: (فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها).
وفي رواية: (برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب).
يعني هذه الرؤيا كان فيها العلم، وقوله: (فعلمت ما بين المشرق والمغرب).
يعني علمت فيم يختصم الملأ الأعلى.
لأن السؤال الأول: (أتدري فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: لا يا رب).
وهذه الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم أطلعه الله عز وجل على علم ما بين السماء والأرض إلى قيام الساعة.
قال: (فعلمت ما بين المشرق والمغرب) فذكر وضع يده بين كتفيه، وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين كتفيه وهذا معنى ثان، ويجوز هذا أيضاً عن شيء مخصوص في محل مخصوص، وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر، والشاهد من هذا الكلام كله: أن صفة الكف ثابتة لله عز وجل، وصفة الأنامل ثابتة لله عز وجل، وصفة الأصابع ثابتة لله عز وجل.(23/11)
مذهب الإمام النووي في الصفات
الإمام النووي تارة يذهب مذهب الخلف في التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها، وتارة يذهب مذهب السلف وينافح ويدافع عنه، وتارة ينقل مذهب السلف والخلف ولا يرجح ويسكت، وهذا بلا شك تردد عظيم جداً ينم عن أن الإمام النووي لم يتمرس في هذا المسائل تمرس أهل السنة والجماعة، ولم يكن على علم وإحاطة بمذهب السلف فيما يتعلق بصفات الباري تبارك وتعالى، كما كان الأمر عند أحمد، وعند ابن خزيمة، وعند ابن راهويه، وعند يحيى بن معين، وعند الشافعي وغيرهم من أهل العلم، ولم يكن قد بلغ في الاعتقاد هذا المبلغ، وإذا كان أحياناً يتحير ويتردد، وأحياناً يقطع بالحق، وأحياناً يميل إلى الباطل، ليس اعتقاداً أنه باطل، ولكنه تصور هذا بعقله، ووقع فيما يريد أن يفر منه.
لذلك لا نقول: إنه خلفي وإنما هو سلفي وافق المبتدعة في بعض أقوالهم، وهذه الموافقة إنما نتجت عن عدم تمكنه في دراسة الاعتقاد، بل تبعيته في الأخذ والتلقي عن الإمام المازري وعن القاضي عياض، وهما أشعريان، خلفيان، متأولان، وهما اللذان أورداه هذه الموارد، وأخرجاه إلى حد الابتداع فيما يتعلق بالصفات، ولذلك قال النووي معلقاً على قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع)، هذا من أحاديث الصفات، وقد سبق فيه المذهبان: مذهب الخلف، ومذهب السلف، والتأويل مذهب الخلف، والإثبات مع الإيمان به مذهب السلف.
يقول: أنني قدمت أو شرحت هذا الأمر مراراً وتكراراً أن أحاديث الصفات فيها المذهبين مذهب الخلف ومذهب السلف مع التصديق الجازم على ما جاءت به دون خوض أو تأويل أو تحريف.
قال: مع اعتقادي أن الظاهر منها غير مراد، وهذا القول لا ينسب إلى أهل السنة.
نحن نقول: الظاهر منها مراد لله عز وجل على ما يليق به، فنؤمن بصفة اليد مع اعتقادنا أن الظاهر منها مراد لله حقيقة لكن على الوجه اللائق به تبارك وتعالى.
قال: (فعلى قول المتأولين الذين يتأولون الأصبع هنا على الاقتدار).
أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع في مثل هذا للمبالغة في الاقتدار، فيقول أحدهم: بأصبعي أقتل زيداً.
أي: لا كلفة علي في قتله.
وقيل: يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته.
قال: (وهذا غير ممتنع).
يعني جائز، وممكن، أي: هذا الكلام وجيه لا يرد، ولذلك ينبغي بل يجب على طلاب العلم أن يتفحصوا وأن يتحروا كل لفظ يقرءونه في كتب السلف أو في كتب غيرهم وإن كان فيها شر مستطير فاحذر من القراءة فيها ابتداء، وكتب السلف ممكن يقع فيها الخبط والخلط، والإمام النووي على العين والرأس، يا ليت واحد في هذا الزمن مثل النووي أو حتى نصف النووي، وقد تعلمنا من النووي وغيره أن من خالف الكتاب والسنة فكلامه يرد على قائله، ومن وافقهما أخذ من قائله حتى وإن كان يهودياً أو نصرانياً، لحديث: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها).
قال النووي: وقيل: يحتمل أن المعنى بعض مخلوقاته، وهذا غير ممتنع، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة، فمرة وافق أهل السنة، ومرة يخالف ونحن نقول: إن اليد الجارحة مستحيلة على الله عز وجل، فلو أثبت لله يداً مثل يدي الجارحة فأنا قد شبهت الخالق بالمخلوق، وهذا حرام لا يجوز ولا ينبغي، فقالوا: إن إثبات اليد لله عز وجل مجازي، والمقصود باليد: القدرة والغلبة والقوة، وإلا لترتب على ذلك أن يد المولى عز وجل مثل يد المخلوق.
ومذهب أهل السنة وسط بين الاثنين، فأثبت هذه الصفة لله على حقيقتها وعلى المراد منها ظاهراً لله عز وجل على الوجه اللائق، ولذلك فإن مذهب أهل السنة مريح جداً، فهو عبارة عن كلمات يسيرات تعتقدها، وتتعبد مولاك بها، وليس فيها تلف، وعقيدة الأنبياء والمرسلون فيما يتعلق بالإيمان لا تتغير عن بعضهم البعض.(23/12)
موقف أهل السنة والجماعة من التفويض
قال النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن) هذا من أحاديث الصفات، وفيها القولان السابقان، والإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى.
وهذا الكلام غلط، ومردود عليه؛ لأن المعنى معلوم لدى السلف.
إن أهل السنة يفرقون بين تفويض العلم، وتفويض المعنى، وتفويض الكيف، فتفويض العلم ليس مذهب أهل السنة الجماعة، لأنهم علموا يقيناً أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، لأن الخبر ورد بذلك فليس عندي مجال أن أفوض علم الاستواء لله عز وجل، لأن الله عز وجل هو الذي أعلمني وأخبرني في كتابه أنه استوى.
أما تفويض معنى الاستواء لله عز وجل هو أنني لا أعرف أن الله قد أخبرني بالاستواء، ولا أعلم معنى الاستواء، وأفوضه لله عز وجل، وهذا غلط لأن الاستواء معناه: الفوقية والارتفاع والعلو، فلا يفوض العلم والمعنى، وإنما تفوض الكيفية.
وليس من اختصاصي أن أعرف كيفية استواء ربنا على العرش، وهذا من اختصاص ربنا، لأني لم أر الله عز وجل، ومن أجل أن أكيف لك الاستواء لابد أن أراه سبحانه وأنا لم أره، فيقال: فلان استوى على الكرسي بمعنى أنه تربع أو جلس مدلدلاً رجليه، واستوى عليه بمعنى علا وارتفع عليه أو استقر عليه أو استولى عليه، وهذه المعاني كلها في الاستواء لا تليق بالمولى عز وجل، وإلا في النهاية لو أن الاستواء في حق المخلوق مثل حق الخالق سيكون ربنا في النهاية جالس على الكرسي ولابس عمامة تعالى الله عن ذلك.
وأصحاب الجمعية الشرعية يقولون عن السلفيين أنهم يريدون أن يجلسوا ربنا على الكرسي ويلبسونه عمامة، وهذا كلام في منتهى الإجرام في حق المولى تبارك وتعالى.
قال: (الإيمان بها من غير تعرض لتأويل ولا لمعرفة المعنى).
لا يا حبيبي نحن نعرف المعنى جيداً معنى أن الله له أصابع نحن نعرف الأصابع؛ لأن الله تبارك وتعالى خاطبنا بما نعلم، بكلمات نعلم معناها، فلا يتصور أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بما لا يقع له معنى في عقولنا، وإلا فربنا يخاطبنا بالمحال، والمخاطبة بالمحال غير واردة في الشرع وهي مسألة محل خلاف عند الأصوليين، والراجح فيها أن الله لم يخاطب عباده إلا بمعان معلومة لديهم، فمعنى الأصابع معلوم لدينا، لكن أصابع الخالق تليق بالكمال والجلال الثابت لله عز وجل.
قال: (بل نؤمن بأنها حق، وأن ظاهرها غير مراد).
أي: أنه يؤمن بأنها حق، وهذا كلام جميل، يؤمن بأن الله تبارك وتعالى له أصابع على الحقيقة، وأن هذا حق وليس باطلاً.
أما قوله: (وأن ظاهرها غير مراد).
هنا لابد أن يوقعك في التأويل، وينصرف النص عن ظاهره، بل نقول: إن ظاهر هذه النصوص التي أثبتت لله الأصابع مراد لله عز وجل حقيقة على المعنى اللائق به تبارك وتعالى.
ومعنى (غير مراد).
أي: غير معلوم لدي، ولذلك لما سئل مالك بن أنس عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: الاستواء معلوم -لأن الله أخبرنا- والكيف مجهول.
إذاً: نفوض الكيف، لا العلم والمعنى، فتعمل عملاً لا يليق، بل يجب عليك أن تفوض الكيف، فتقول: لله أصابع.
فالعلم قام لدي بأن لله أصابع من أجل خبر ورد ولذلك نحن نسميها صفات خبرية ذاتية؛ لأنها قد وردت في الخبر، وذاتية أي ملازمة لذات الله تبارك وتعالى لا تنفك عنه، فنقول: إن لله أصابع، وأن هذه النصوص على ظاهرها، والمراد منها معلوم لدينا على الوجه اللائق لله عز وجل، ولا نعلم كيفية أصابع المولى عز وجل.
قال النووي: والثاني: التأويل.
وهذا خطأ في الفهم من النووي لمعتقد أهل السنة والجماعة، وكل الناس يؤخذ من قوله ويرد، والتأويل ما كان يليق بالله عز وجل أبداً، ولذلك فإن النووي كان يخلط بين مذهب السلف والخلف كأنه لا يعلم كيف هذا.
قال: تؤول بحسب ما يليق بها، فعلى هذا فإن المراد هو المجاز -والسلف لا يقولون بالمجاز في الصفات بل حاربوا من قال بذلك أشد المحاربة- كأن يقول القائل: فلان في قبضتي، وفلان في كفي ولا يراد به أنه حال في كفه بل المراد تحت قدرتي.
ويقال: فلان بين أصبعي أقلبه كيف شئت.
أي أنه قادر على قهره والتصرف به كيف شاء.
والكلام هذا يصح في لغة المخلوقين ومع المخلوقين بعضهم البعض، لكن لا يصح مع الله قط؛ لأنه لا يشبه المخلوقين لا في وحدانيته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، والقدرة من أفعاله تبارك وتعالى، والتصرف من أفعاله تبارك وتعالى، فقدرة الخلق ليست كقدرة الخالق ولو أجمع الخلق أجمعون على قدرتهم وجعلوها في رجل واحد.
قال: فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده.
يعني: جعل الأصابع عبارة عن التصرف؛ لأنه قاس الخالق على المخلوق، فإن الأصابع في حق المخلوق تقبض وتبسط، وتدفع وغير ذلك، فكذلك قالوا: قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ليس الأمر على حقيقته وعلى ظاهره، بل هذا كلام مجاز تعبير عن قدرة الله عز وجل أنه(23/13)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة القدم لله عز وجل
صفة القدم ثابتة لله تعالى في السنة، وهي قدم تليق بالله سبحانه لا تشبه أقدام المخلوقين، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في جميع الصفات، إذ يجب إمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف ولا تأويل، وقدم الله سبحانه لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وتعالى.(24/1)
إثبات أهل السنة والجماعة صفة القدم لله تعالى
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فمع صفة أخرى لله عز وجل، وهي من الصفات الخيرية اللازمة لذاته سبحانه، وهي صفة الرجل أو القدم، وكلاهما بمعنى واحد، وهذه الصفة ثبتت لله عز وجل بالسنة لا بالكتاب ولا بالإجماع إلا أن يكون إجماع أهل السنة والجماعة، أما إجماع الأمة فلا، لأن الفرق الضالة خالفت أهل السنة والجماعة في هذه الصفة.
وإذا قلنا: إن هذه الصفة ثبتت في سنة النبي عليه الصلاة والسلام فيلزمنا سوق الأدلة على ذلك.
قال أبو هريرة في المحاجة التي دارت بين الجنة والنار: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين.
وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم.
فقال الله تبارك وتعالى للجنة حينئذ: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي.
وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها).
أي: على الله تعالى أن يملأ الجنة وأن يملأ النار.
(فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار رجله فيها، فتقول: قط قط قط).
أي: اكتفيت اكتفيت اكتفيت، أو حسبي حسبي حسبي.
(فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقاً)، أي: يخلق لها خلقاً حتى يملأها.
الشاهد من الحديث: أن النار لا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فهذا المقطع من الحديث يفيد ثبوت صفة القدم لله عز وجل.
وروى البخاري هذا الحديث من حديث أنس رضي الله عنه بنحو هذه الرواية.
وابن عباس رضي الله عنه قال: الكرسي موضع القدمين، والكرسي هو أحد مخلوقات الله عز وجل العظيمة، قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255].
ومعنى: وسع.
أي: شمل وأحاط.
فهذه السماوات السبع وهذه الأرضين السبع ما هي في الكرسي إلا كحلقة في فلاة.
والعرش أعظم من الكرسي؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما السماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة).
هذا حديث عظيم جداً يدل على أن الكرسي بالنسبة إلى العرش لا شيء، كما أن السماوات والأرض بالنسبة إلى الكرسي لا شيء، ومثل النبي عليه الصلاة والسلام لهذا بمثل عظيم جداً ليقرب الأذهان، فقال: هب أن السماوات والأرض حلقة بين يديك ألقيتها في صحراء هل تظهر لك هذه الحلقة؟
الجواب
لا.
بل تختفي؛ لأنها ليست شيئاً بالنسبة إلى هذه الفلاة.
قال: إذا كانت السماوات والأرض في الكرسي على هذا النحو فالكرسي نفسه لا يمثل شيئاً بالنسبة إلى العرش، فكيف يكون حجم العرش حينئذ؟ إنه عظيم جداً، والله تبارك وتعالى من فوق العرش.
وتصور أن الكرسي الذي هذا وصفه وأن السماوات والأرض بالنسبة له لا شيء هو موضع قدمي الله عز وجل، فكيف تكون هاتان القدمان لله عز وجل؟ أمر لا يمكن أبداً أن يدخله قياس ولا أن يحيط به عقل، فسبحان الله الكبير المتعال، أثبت لنفسه العلو وأثبت لنفسه اسم الكبير وصفة الكبر، بل العظمة رداؤه والكبر إزاره سبحانه وتعالى، فلابد أن كل صفة من صفاته تليق بكبريائه تبارك وتعالى وعظمته وعلوه فوق عرشه.
فإذا كنا لا نستطيع تكييف مخلوق لله عز وجل وهو الكرسي فعجزنا عن تصور ذات الله أولى.
وهذه الأرض بين أيدينا ونحن نعيش عليها، لكنها ليست أرضاً واحدة، وكانوا قديماً يقولون: ليس بعد بلاد مغرب العرب بلاد أخرى، وكانوا يقولون: بحر الظلمات الذي ليس بعده شيء، ثم اكتشفوا منذ حوالي (400) عام دولة أمريكا، اكتشفوها بعد أن أيقنوا أنه ليس بعد بلاد المغرب العربي بلاد أخرى؛ اكتشفوا أعظم دولة، والآن رجعوا إلى نفس الكرة مرة أخرى وقالوا: ليس بعد أمريكا إلا بحر الظلمات، والمسافة من أول أمريكا إلى آخرها عشر ساعات بالطائرة متواصلة.
يعني: كما بين مصر إلى أمريكا.
لكن هل أمريكا آخر بلدان العالم؟ لابد أن يتصل الغرب بالشرق؛ ولذلك هذا كلام أثاره أهل العلم بمناسبة ذكر المسيح الدجال وحديث الجساسة الذي رواه مسلم في آخر كتاب الصحيح.
قالوا: المسيح الدجال موجود من زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وحديث تميم الداري في ذكر الدجال في صحيح مسلم، يثبت أن تميماً الداري رأى المسيح الدجال ورأى الجساسة.
وهل هو ابن صياد(24/2)
مذاهب الفرق الضالة في صفة القدم(24/3)
إنكار المعطلة لصفة القدم لله عز وجل
قال الخطابي: ونحن أحرى ألا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر منا علماً وأقدم زماناً وسناً، ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين: منكر لما يروى من هذه الأحاديث، وهؤلاء هم الجهمية الذين أنكروا صفات الباري تبارك وتعالى، ومكذب به أصلاً.
فإما أنه يرد الأحاديث ويثبت أنها ضعيفة أو مكذوبة بعقله لا بالأدلة والقواعد التي وضعها أهل العلم لإثبات النص ورده، وإما إذا غلبناهم وقلنا: إنها صحيحة وأنها قد وردت في الصحيحين وغيرهما لجئوا إلى حيلة أخرى وهي تأويل هذه النصوص وصرفها عن ظاهرها.
قال: منكر لما يروى من هذه الأحاديث ومكذب به أصلاً، وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث، وهم أئمة الدين وثقة السنن، والواسطة بيننا وبين النبي عليه الصلاة والسلام.
فلماذا ترد هذه الأحاديث؟ يعني: هذا الحديث الذي بين يدينا رواه البخاري ومسلم، وهو يثبت أن لله تبارك وتعالى رجلاً أو قدماً والأمة اتفقت على قبول الصحيحين وأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل، فهل سترد حديثاً اتفقت الأمة على قبوله؟ سيجد المبتدع حرجاً، فيقول: لا.
إذاً: لابد أن نذهب مذهباً آخر، ولو رده سأقول له: ولم رددته؟ أفيه انقطاع؟ سيقول: لا.
أرواته عدول؟ فسيقول: نعم.
عدول.
بمعنى: أنهم ثقات ضابطون؟ سيقول: نعم.
أهناك شذوذ؟ يقول: لا.
فيه علة؟ يقول: لا.
إذاً: لم رددته؟ يقول: لأنه يستحيل عقلاً أن يثبت هذا لله عز وجل؛ لأنه يلزم من ثبوت هذا ثبوت الجارحة لله عز وجل، واليد الجارحة كأيدينا تماماً، وكأرجلنا تماماً، إذا كنتم تؤمنون بأن لله رجلاً.
وأنه سبحانه يضعها في النار حتى تقول: قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض، فيلزمكم أن تقولوا: إن لله رجلاً كأرجلنا.
وأهل السنة يقولون: لا.
لا يلزم من إثبات الصفة لله عز وجل مشابهتها لصفات المخلوقين، لكننا نثبتها لله عز وجل على المعنى اللائق بالله عز وجل، ولا نتعرض لها بتكييف ولا تحريف ولا نصرفها عن ظاهرها، وإنما نؤمن بها ونمر أدلتها كما جاءت بعد الإيمان والتسليم بهذه الأدلة على مراد الله عز وجل في إثبات صفاته وكماله.(24/4)
ضلال المشبهة بتشبيه صفة القدم لله بصفات خلقه
الطائفة الأخرى: مسلمة للرواة فيها -قالوا: لا نستطيع أن نقول: إن هذا الحديث ضعيف أو مكذوب أو مردود، فنسلم للرواة فيها- ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهباً يكاد يفضي إلى القول بالتشبيه.
يعني: الأولون كأنهم أرادوا أن يثبتوا تنزيه المولى عز وجل عن مشابهته للمخلوقين، فقالوا: لا يوجد شيء اسمه الصفات أبداً، لا يوجد شيء اسمه يد ولا رجل ولا ساق ولا شيء أبداً؛ لأننا ننزه المولى عز وجل من أن يكون مثل المخلوقين، وهذا الفريق ذهب مذهباً مناقضاً، وهو إثبات هذه الصفات لله عز وجل، ولكنهم قالوا: يد كأيدينا ورجل كأرجلنا، ونفس كأنفسنا، فشبهوا الخالق بالمخلوق.
يعني: قوم أرادوا أن ينزهوا فوقعوا في التعطيل، وقوم أرادوا أن يثبتوا فوقعوا في التمثيل والتشبيه، أما أهل السنة فوسط بين الاثنين، قالوا: نحن ننزه المولى عز وجل على مذهب الفريق الأول ولكننا نخالفهم في إثبات الصفات، ونوافق الفريق الثاني في إثبات الصفات ولكن دون تمثيل أو تشبيه.
هذا معتقد أهل السنة في صفات الله عز وجل.(24/5)
ضلال المؤولة لصفات الله تعالى
ونحن نرغب عن الأمرين معاً، ولا نرضى بواحد منهما.
أي: لا نرضى بمذهب التعطيل ولا بمذهب التمثيل والتشبيه.
وقال آخرون: يجب علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحت من طريق النقل والسند تأويلاً.
قال أهل التأويل: القدم هاهنا يحتمل أن يكون المراد به: من قدمهم الله للنار من أهلها.
وهذا كلام سخيف وبارد.
قالوا: (حتى يضع الرب قدمه فيها) هذه اللفظة تعني: أن من علم الله سلفاً أنه من أهل النار فقدمهم إليها، فيقال لكل من قدمه الله قدم.
أنت نفسك لست مستفيداً من هذا التأويل ولن يدخل في ذهنك هذا، ولكن احذر ألا تفهمه، بل افهم أن هذا التأويل تأويل سامج وبارد، فيقولون: أن هذا القدم في هذا الحديث تعني من قدمه الله تعالى إلى النار.
يعني: من قذفه فيها.
قالوا: ولغة العرب تطلق القدم على السابقة من الأمر.
فنقول لهم: ماذا تقولون في الضمير؟ (حتى يضع الجبار فيها قدمه).
فالهاء تعود على الجبار.
وفي رواية: (حتى يضع الله عز وجل فيها رجله)؟ وقال النضر بن شميل في معنى قوله: (حتى يضع الجبار فيها قدمه).
أي: من سبق في علمه أنه من أهل النار، وهذا تأويل باطل.
قال الخطابي: وقد تأول بعضهم الرجل على نحو من هذا، والمراد به: عدد استيفاء الجماعة الذين استوجبوا دخول النار.
هذا في تأويل الرجل، قالوا: هذه الرجل بمعنى الجماعة، والعرب تسمي جماعة الجراد رجلاً، كما تسمي جماعة الظباء سرباً، واستعير ذلك لجماعة الناس.
أيتصور هذا الكلام؟! اعلم أن هذه الصفة قد عاد الضمير إليها، قال: (رجله) لم يقل: رجلاً، وقال: (قدمه) ولم يقل: قدماً، وأنتم تعلمون أن الضمير إذا أضيف إلى صفة مخصوصة يلزمها ولا يتعدى إلى غيرها بخلاف إطلاقه وعدم إضافته، كما لو قلت: قدم، يصح أن تقول قدم الله عز وجل وقدم المخلوقين، لكن إذا قلت: قدمي فإنه لا يفهم منها أنها قدم الله عز وجل، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى يضع الله قدمه.
يدل على أنها قدم الله عز وجل، لأنها مضافة إلى الله عز وجل، فلا يصح صرفها عن هذا التخصيص مطلقاً.
وإن الإمام القرطبي من أعظم المتأولة، مع أن تفسيره في غاية الإمتاع، إلا أنه في صفات المولى عز وجل يجب التحذير منه، فله كتاب اسمه (الأسنى في أسماء الله الحسنى) قد بلغ في أسماء الله وصفاته مبلغاً عظيماً لم يسبق ولم يلحق به؛ فأثبت لله عز وجل أسماء وصفات لم يثبتها له رسوله ولم يثبتها لنفسه المولى عز وجل، وأنتم تعلمون أن الأسماء والصفات أمر توقيفي.
قال القرطبي: وقيل: إن هؤلاء قوم تأخر دخولهم في النار وهم جماعات؛ لأن أهلها يلقون فيها فوجاً فوجاً، كما قال الله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8]، فالخزنة تنتظر أولئك المتأخرين الذين لم يدخلوا بعد في النار، إذ قد علموهم بأسمائهم وأوصافهم، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به ولم يبق أحد قالت الخزنة: قط قط.
لفظ الحديث أن الذي قال: قط قط هي النار.
قال: وحينئذ تنزوي جهنم على من فيها، وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر، فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم لا أن الله تعالى جسم من الأجسام تعالى الله عن ذلك.
نقول: أنت تنزه الله تبارك وتعالى عن ذلك مع أن الله لم ينزه نفسه ولم ينزهه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام عن هذا، كما أن إثبات القدم والرجل لله عز وجل لا يستلزم إثبات الجسم والجارحة.
وقال بعضهم: القدم: خلق من خلق الله تعالى، فمادام أن هناك مكاناً في الجنة فارغاً، وربنا تبارك وتعالى سينشئ خلقاً جديداً فيسكنهم الجنة حتى تكتفي الجنة فكذلك القدم والرجل إنما هما علم واسم على مخلوق جديد لله عز وجل يخلقه في ذلك الوقت فيلقيه في النار حتى تقول: قط قط.
وهذا تأويل آخر.
يعني: هذه القدم والرجل أسماء لمخلوقات جديدة سيخلقها الله عز وجل في حينها، حينما تقول جهنم هل من مزيد؟ فيخلق الله عز وجل لها خلقاً جديد قد استوجبوا النار، هذا الخلق يسمى الرجل تارة ويسمى القدم تارة أخرى! قال: القدم بخلق من خلق الله تعالى يخلقه يوم القيامة، فيسميه قدماً ويضعه في النار فتمتلئ منه.
قال ابن فورك: قال بعضهم: القدم: خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدماً، ويضيفه إليه من طريق الفعل.
فقوله: (حتى يضع الجبار فيها قدمه) إضافة الضمير للفعل، وكذلك قوله: (حتى يضع الجبار فيها رجله) قالوا: إن هذا خلق جديد اسمه قدم واسمه رجل، والله تبارك وتعالى يأمر به فيلقى في جهنم، فإذا ألقي قالت النار: قط قط.
وقال بعضهم: المراد بالقدم هنا: قدم خلقه.
وهذا كذلك لا يصح أبداً، ولا يمكن أن يستقيم مع لغة العجم وليس العرب فقط؛ لأن من استوجب دخول النار دخلها كل بدنه، فهل تتصور أن رجليك كمخلوق تدخل النار، وأنت تدخل الجنة من غير رجليك؟! ومعلوم أن الناس في الجنة على أحسن منظر وأحسن هيئة، فلا يتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فيضع الجبار فيها قدمه).(24/6)
الاستدلال بحديث تحاجج الجنة والنار لإثبات صفة القدم لله تعالى وكلام أهل العلم في ذلك
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة وقالت النار)، نحن نثبت أن الجنة تتكلم على الحقيقة ولكن ليست لها جارحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا أن هذه الجنة عبارة عن ذات مكونة من صفات وجوارح، وكذلك النار تتكلم بقدرة الله عز وجل، والله تعالى يخلق لها الكلام فتتكلم به، والذي يسمع هذا الكلام هو الله عز وجل، وتسمعه النار وتسمعه الجنة، بدليل الحديث: فقالت النار وقالت الجنة يعني: رداً عليها.
فالجنة تسمع النار، والنار تسمع الجنة، والله تعالى يسمع الجميع.
ولذلك قالت النار: (أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين.
وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم.
فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي.
وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها، فتقول: قط قط.
فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض).
وهذا الحديث رواه غير واحد من الصحابة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي بعض رواياته: (حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول: قط قط قط ثلاثاً).
وفي بعضها: (حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط، وعزتك).
فموقف السلف من معنى الحديث: أن هذا الحديث من أحاديث الصفات، وأن القدم صفة من الصفات الخبرية التي تمر كما جاءت دون تأويل أو تحريف في النص، ودون تشبيه أو تمثيل لصفات الله بصفات خلقه، فلا تقاس القدم بأقدام خلقه، ورجله بأرجل مخلوقاته، بل يكتفى بالمعنى الوضعي للكلمة دون محاولة لإدراك حقيقة قدمه، وقد عجزنا عن إدراك حقيقة ذاته سبحانه، فآمنا وسلمنا لله ورسوله، وهذا موقف لا يتغير ولا يتبدل بالنسبة لأتباع السلف، فهو موقف ثابت، وهو اتباع النصوص في جميع الصفات الخبرية أو غيرها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
والحديث بجميع رواياته يدل على أن الله سوف يخلق في الجنة والنار تمييزاً وقدرة على الكلام دون أن يكون لهما آلات التكلم من الفم والأسنان واللسان وغيرها، وهو المعتاد بالنسبة لنا.
وأما الخلف فقد تكلفوا في تأويل هذا الحديث أكثر من تكلفهم في تأويل أي نص آخر من نصوص الصفات، وذكرنا من قبل تأويل الخلف في المراد بالقدم ورددنا عليه.
وابن الجوزي عليه رحمة الله في كتابه دفع (شبه التشبيه) شن غارة شعواء على بعض علماء السلف.
قال ابن الجوزي: وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية وقال مثله في: (يضع قدمه في النار).
قال ابن الجوزي: وذكر الساق مع القدم تشبيه محض.
وقد اتفقنا من قبل أن ابن الجوزي كان مضطرباً جداً في مسائل الاعتقاد، فهو يريد أن يقول: إن القاضي أبا يعلى أثبت الساق وأثبت معها القدم، وأن إثباتهما يستلزم التشبيه.
وهذا لا يصح عنده.
وليس القاضي أبو يعلى فقط الذي أثبت هذا، بل كل علماء السنة أثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه، ومنها الساق والقدم ولم يقولوا بالتشبيه، بل نزهوا المولى تبارك وتعالى عن التعطيل ونزهوه عن التشبيه، وكلام ابن الجوزي ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض، فإن الأدلة كتاباً وسنة تدل على إثبات ذلك لله، فمن أنكره فإنما ينكر على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى الصحابة الذين نقلوا إلينا ذلك.
وقال ابن الجوزي: وقال أبو يعلى مثله في: (يضع قدمه في النار).
وهذا أيضاً من الحق الذي يجب الاعتقاد والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية التي يجب الإيمان بها دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تشبيه.
ثم ذكر حديث الاحتجاج بين الجنة والنار، وقوله: (قدمه) وأن الهاء تعود على الرب جل وعلا، وهو قول واحد عند أهل السنة والجماعة، والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله عز وجل.
وذكر بعد ذلك أثر ابن عباس وأثر أبي موسى الأشعري في إثبات أن الكرسي موضع القدمين لله عز وجل؛ لأنه أمر غيبي له حكم الرفع، فلا يقال فيه من قبل الرأي ولا مجال للاجتهاد فيه، فيؤخذ منه إثبات قدمين لله عز وجل، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
قال أحمد بن حنبل: أحاديث الصفات تمر كما جاءت.
أي: الأحاديث التي فيها إثبات صفة لله عز وجل تؤمن بها على حقيقتها، وتفوض كيفية هذه الصفة لله عز وجل، مع كونك تعلم علماً يقينياً أن هذه الصفة ثابتة لله عز وجل.
قال الإمام الثقة الجبل حماد بن سلمة البصري وكان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع: من رأيتموه ينكر(24/7)
الأسئلة(24/8)
الثبات على عقيدة الفرقة الناجية
السؤال
نرجو إعلامنا بمشاهير التأويل الذين نقرأ لهم كـ القرطبي وابن الجوزي؟ وكذلك أي الجماعات الحالية التي هي على الساحة متأولة وذلك للحيطة؟
الجواب
على أية حال نحن بينا أن القرطبي كان متأولاً، وبينا أن ابن الجوزي كان متأولاً، فتارة ينافح عن مذهب السلف ويهجم على الخلف، وتارة يهجم على السلف، وتارة ينسب للسلف قولاً ليس من أقوالهم قط، لذلك الذهبي عليه رحمة الله قال في السير: وابن الجوزي لم تثبت قدمه على وتيرة واحدة، فكان أحياناً ينصر مذهب السلف وأحياناً ينصر الخلف، ولا يصح أيها الإخوة! أن عقل المرء وإيمانه يكون عبارة عن قص ولصق، فالجملة التي تعجبه من عند المعتزلة يأخذها ويعتقدها، والتي تعجبه من عند الجهمية يعتقدها، والتي تعجبه من عند الأشعرية يعتقدها، والتي تعجبه من عند الشيعة يعتقدها، يعني: عقيدته عبارة عن مجموع عقائد الفرق الضالة مع الفرقة الناجية وهي أهل السنة والجماعة، بل لابد للمرء أن تكون عقيدته لا تزيد ولا تنقص عن معتقد السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين.(24/9)
أخطاء سيد قطب رحمه الله لا تعني بغضه وعدم الترحم عليه
السؤال
هل سيد قطب من المتأولة؟
الجواب
إذا أردنا الكلام عن الأديب البارع السيد قطب فلا شك أن هذا الرجل كانت له ظروف علمها من علمها وجهلها من جلها، فـ سيد قطب عليه رحمة الله ظهر في فترة كان الناس فيها هم للكفر أقرب منهم للإيمان، ولم يكن هذا العلم السلفي منتشراً في ذلك الوقت، قضى سيد قطب معظم حياته في سجون عبد الناصر الهالك عليه من الله تعالى اللعنة، فلم يتأهل اعتقادياً قبل أن يدخل السجن، كـ النووي عليه رحمة الله لم يتمكن من دراسة العقيدة، واكتفى بالنقول من المازري والقاضي عياض وكلاهما أشعري، ولكنه ينقل عنهما التأويل دون تقعيد وأحياناً يقعد، وأحياناً ينقل ويستحسن، واعتذر عنه بعض تلاميذه أنه لم يكن قد تمكن من دراسة علم الاعتقاد على يد مشايخ زمانه، فوقع فيما وقع فيه، فإن قيل: الإمام النووي هل هو أشعري جملة؟
الجواب
لا.
ليس كل من وقع في بدعة ينسب إليها، كما أنه ليس كل من وقع في الكفر يصير كافراً، فأحياناً يقع المسلم في قول كفري أو فعل كفري لكن لا يلزم من وقوع هذا الكفر الكفر، كما أن الرجل يقع في البدعة ولما يعلم بعد أنها بدعة.
يذكر أن رجلاً من المحدثين عمل بحديث ضعيف عشرين عاماً، فقال أحد تلامذته: إن هذا الحديث فيه فلان وفلان وهما ضعيفان، فوجد المحدث أن الطالب صادق فبكى.
قيل له: خير يا إمام! يعني: هون عليك.
قال: خير؟! والله ما في عملنا منذ عشرين عاماً بهذا النص خير قط.
فلا يلزم من وقوع الرجل في بدعة أنه مبتدع، كما لا يلزم من وقوعه في الكفر أنه كافر، بل ولا يلزم من إطلاق الكفر على الجماعة كفر كل معين فيها، فلو قلنا: إن بلداً من البلدان كافرة، هل يلزم من هذا أن كل من بهذه البلد يكون كافراً؟ فهاهي أمريكا بلد كفر، ومع ذلك نجد كثيراً من إخواننا يعيشون في تلك البلاد، فلا يلزم من إطلاق الحكم العام بالكفر على مجموعة لزوم هذا الكفر على كل فرد من أفراد المجموعة، ولذلك لما نقول: لعنة الله على الظالمين، هل كل ظالم ملعون بعينه؟ الجواب: لا، فهناك ظلم لم يرد النص بلعن صاحبه في القرآن ولا في السنة، ومع هذا فهو ظلم، لكن لا يلزم منه إثبات اللعن في شخصه.
نرجع إلى كلامنا: سيد قطب عليه رحمة الله وقع في تأويل بعض الصفات، وهو كغيره من أهل العلم نحب فيه الصلاح والخير والطاعة وموافقة السنة.
أليس هذا منهج أهل السنة والجماعة؟ ونكره كل ما يخالف الحق ويخالف الكتاب والسنة.
وكوننا نكره ما يأتي من قبل عالم أو مجتهد في مسألة من المسائل خالف فيها الحق لا يعني ذلك بالضرورة أننا نبغضه هو، بل نحن نحب سيد قطب عليه رحمة الله، ونتولاه وندعو له بالرحمة، وندعو له بالخير، وندعو له بأن يبيض الله تبارك وتعالى وجهه مع وجوه المؤمنين يوم القيامة، وفي نفس الوقت نرد عليه ما خالف فيه الكتاب؛ لأن الكتاب أحب إلينا من سيد قطب وغيره، والسنة أحب إلينا من أنفسنا وليس من سيد قطب فحسب.
فالشيخ سيد قطب عليه رحمة الله خالف منهج السلف في كثير من الصفات كما هو في كتاب (الظلال) وغيره من كتبه.
فأغلب الظن أن سيد قطب لم يتأهل في هذا الباب، وليس في هذا عيب؛ لأن معظم حياة سيد قطب قضاها في السجون، وأنت تعجب إذا علمت أنه ألف (الظلال) وهو في السجن.
وأنت لو كلفت أن تحفظ جزء عم في السجن قد تعجز.
كان عبد الناصر وزبانيته من كلاب الأرض في ذلك الزمان يحبسون سيد قطب في داخل سجونهم وزنازينهم، ولو كنت مكانه لأيقنت أنك لن تستطيع أن تفسر لحظة واحدة تفسيراً هادئاً، فكيف برجل يخرج هذا التفسير العظيم من بين جدران السجون؟ فإذا نظرت إلى خطئه في الاعتقاد فانظر إلى إصابته الحق في كثير من المسائل التي تكلم فيها في كتابه الظلال.
فالشاهد من هذا الكلام: أن السيد قطب له حسناته الكثيرة، وله أخطاؤه كذلك، فما أخطأ فيه نرده على سيد قطب وعلى غيره، وكذلك وجب علينا أن نقبل ما أصاب فيه ووافق الكتاب والسنة؛ لأن الحق ضالة المؤمن يلتمسه ويأخذه حيث وجده.(24/10)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الساق لله عز وجل
صفة الساق لله تعالى من الصفات الذاتية، وهي صفة ثابتة بالكتاب والسنة، وقد جاء عن بعض السلف في هذه الصفة كلام مخالف لما عليه الجمهور، وقد طار أهل البدع بهذا القول فرحاً، واستندوا إليه في قولهم بنفي هذه الصفة، إلا أن هذا الكلام مردود بالكتاب والسنة وقول جمهور الصحابة.(25/1)
إثبات صفة الساق لله عز وجل
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن صفات الله عز وجل الذاتية الخبرية، ومنها: صفة الساق، وهذه الصفة قد ثبتت لله عز وجل بآية وبحديث.(25/2)
رفع الإشكال الوارد في قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق)
قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42].
هذه الآية بهذا السياق أحدثت إشكالاً عظيماً عند أهل العلم، بل أقولاً عند أهل السنة؛ لأن الآية لم تكن صريحة في إثبات الساق لله عز وجل؛ لأنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، فوردت منكرة وغير منسوبة لله عز وجل، ولذلك اختلف السلف رضي الله عنهم في ماهية هذه الساق، لكن جمهور أهل العلم من السلف وغيرهم رفع عنهم هذا الإشكال بحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهم، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا جمع الله العباد في صعيد واحد نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون).
أي: لينصرف كل قوم من أهل الموقف إلى معبودهم الذين كانوا يعبدونه في الدنيا.
قال: (فيلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم.
فيأتيهم -أي: ربنا- فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا الذي كنا نعبده.
فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا).
أي: إذا أتانا في صورته التي عرفنا بها في حياتنا الدنيا عرفناه.
قال: (فيكشف لهم عن ساقه).
فوردت (الساق) هنا مضافة إلى الله عز وجل، ولم يقل: فيكشف لهم عن ساق.
قال: (فيكشف -أي: الله عز وجل- لهم عن ساقه فيقعون سجوداً، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42].
ويبقى كل منافق لا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة).
وفي حديث أبي سعيد: (يوم يكشف ربنا عن ساقه).
وهذا تصريح ثان.
فهذا الحديث بشواهده قد رفع الإشكال الوارد في الآية.(25/3)
أقوال أهل العلم في معنى الساق في الآية
هذه الصفة كغيرها من الصفات أحدثت إشكالاً عظيماً جداً عند كثير من أهل العلم، ولذلك ابن الجوزي عليه رحمة الله في تفسير هذه الآية يقول: قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة والجمهور -وهذا كلام فيه شطط وغلو-: يكشف عن شدة.
وهذا هو التأويل الأول في معنى الساق.
وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق أي: إذا اشتدت الحرب بنا.
وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقال ابن قتيبة: وأصل هذا: أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة.
وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون.
فإذا كانت الساق في اللغة العربية تعني الشدة في أحد وجوهها، فلا تفسر هنا على أن الساق الواردة في حق الله عز وجل بمعنى الشدة؛ لأن هذا سيكون حتماً تحريفاً للكلم عن مواضعه، وصرفاً للفظ عن ظاهره إذا احتملت اللغة للمصطلح وجهاً، لكنها وردت في سياق لا تحتمل هذا الوجه اللغوي، وعليه فلا يمكن حمل هذا اللفظ على الوجه اللغوي أبداً، وإلا فاليد أحد وجوهها في اللغة: النعمة، والقوة، فهل يمكن أن نحمل قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] على أن نعمته فوق نعمتهم، أو أن قوته فوق قوتهم؟
الجواب
لا.
لكن إذا عبرنا عن اليد بالقوة فهذا أمر جائز في اللغة، لكنه في الاصطلاح وفي سياق الآية لا يجوز لنا أن نحمل اليد على القوة أو القدرة أو النعمة مع عدم إثبات اليد الحقيقية لله عز وجل على المعنى اللائق، فإذا أردنا أن نثبت هذا وذاك، أو أن نثبت الوجه اللغوي، فلابد أولاً من إثبات الوجه الشرعي، ثم نثبت بعد ذلك الوجه اللغوي؛ لأن أهل البدع المتأولون يعتقدون صرف النص عن ظاهره إلى معناه المجازي أو معناه اللغوي دون إثبات حقيقته لله عز وجل.
أما أهل العلم من السلف فإنهم يثبتون الصفة لله عز وجل ولازمها بعد ذلك، فيثبتون اليد أولاً، ثم يثبتون لازم هذه اليد، بخلاف المتأولة فإنهم يثبتون اللازم ولا يثبتون الصفة الحقيقية لله عز وجل.
فإذا قلنا هنا: إن الساق في اللغة لها وجه بمعنى: الشدة، فإننا لابد وأن نثبت أولاً لله عز وجل الساق، ثم نثبت لازم ذلك وهو الشدة والقوة، أما تحريف هذه الكلمة عن ظاهرها، وإثبات الشدة للساق دون إثبات الساق لله عز وجل، فهذا صرف للنص عن ظاهره دون مسوغ شرعي.(25/4)
بيان أن ثبات الصفات لله عز وجل لا يقتضي المماثلة ولا المشابهة لخلقه
روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يكشف عن ساقه).
فإذا قلنا: إن المراد بالساق الشدة، فيكون معنى الكشف الإزالة.
أي: يزيلها، وهذا كلام لا تحتمله اللغة.
قال ابن الجوزي: وقد ذهب القاضي أبو يعلى: إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: (يضع قدمه في النار).
فـ ابن الجوزي ينكر على أبي يعلى الفراء إثبات أن الساق والقدم صفة ذاتية لله عز وجل.
ويقول ابن الجوزي: إثبات الساق مع القدم لابد وأنه يستدعي تشبيه الخالق بالمخلوق! والجواب عليه من وجهين: الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، ومن ثم كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن البيان في باب الاعتقاد أولى منه في باب الأحكام والحلال والحرام، ولأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته هي أساس الإيمان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يبين هذا الباب بياناً عاماً، فعلمه الخاص والعام، وعلمه العالم والجاهل، والبدوي والحضري، ولم يستنكر أحد منهم شيئاً في هذا الباب قط، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جل وعلا تقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، أو تشبيه الخالق بالمخلوق، وإنما آمنوا بها إجمالاً على الوجه اللائق بالله عز وجل، وإنما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا، وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، فإذا كان المخلوق له يد والله تعالى له يد، فلابد وأننا نثبت اليد الحقيقية لله عز وجل على ما يليق بجلال ذاته وعظمته، بخلاف المخلوق، فهي شبيهة وشريكة ليد الله عز جل في الاسم دون المسمى؛ لأنها يد ويد الله تعالى يد، فهما متماثلتان ومتشابهتان في الاسم فقط دون المسمى ودون الحقيقة، فحقيقة يد المخلوق تختلف تماماً عن حقيقة يد الخالق تبارك وتعالى، ولا يعلم حقيقتها ولا كيفيتها إلا الله عز وجل، فكيف نقول بالمماثلة والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق؟! لكن أهل البدع لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما فهموه من صفات المخلوق، فقالوا: إن الله تعالى قد خاطبنا بأن له يد، ونحن نعلم ما هي اليد؟ بدليل أننا نراها، والله تبارك وتعالى لما أخبر أن له يداً، وأنا أعلم سلفاً يدي وكيفية يدي، فلابد وأن يكون الله تعالى قد خاطبني بما أفهم، وخرجوا من ذلك بأن يد الله تبارك وتعالى كيد خلقه؛ لأن الله تعالى لابد وأنه قد خاطبنا بما نفهم.
والجواب عليهم: أن الله تبارك وتعالى له ذات، وهم يؤمنون بذلك، فهل ذات الله كذات المخلوق؟! لا.
فذات الله ليست كذات المخلوق، وأقصى ما يمكن أن يقوله: إن ذات الله تبارك وتعالى لا يعلمها إلا هو.
فنقول: وكذلك الكلام في الذات كالكلام في الصفات، فكما أن ذاته خفية وغيبية عنا، ولا يعلم كيفيتها أحد من الخلق، فكذلك صفاته -ومنها: الساق- لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، وعليه لما اختلفت الذات لابد أن تختلف الصفات.
ومن هنا نحن نثبت الصفات لله عز وجل على الوجه الحقيقي اللائق به، ولا يعلم كيفية الذات ولا كيفية الصفات إلا هو سبحانه وتعالى، ولم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا رسول مرسل، ولا نبي تنبأ.
وعليه فقولهم: إن إثبات الصفات لله عز وجل تقتضي المماثلة بينها وبين صفات المخلوق عجز وضعف عقلي عندهم؛ لأنهم لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفاتهم هم، مع أن هذا ليس بلازم، بدليل: أن الله تبارك وتعالى خلق خلقاً عظيماً كثيراً، وجعل لكل مخلوق من مخلوقاته يداً وساقاً وعيناً وقدماً، وغير ذلك من الجوارح، فهل يقول ذلك المتأول: إن ساق الله تبارك وتعالى كساقي فنقول له: إن الله عز وجل قد خلق خلقاً كثيراً غيرك، سواء من الحيوان، أو الدواب، أو الطير، أو الإنس، أو الجن، أو غيرها، فلم لا تقول: إن الله تعالى له ساق كساق الجن، أو كساق الملائكة، وهم أعظم وأشرف خلقاً من العصاة.
سيرد قائلاً: لأن الله تعالى خاطبني أنا بذلك.
فهذه الحجة مردودة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد بعث نبيه أيضاً للجن، فإذا كنت تقول: إن ساق الله كساقك أنت، فلم لا يكون ساقه كساق الجن، وهم مكلفون مخاطبون بأوامر الشرع أمراً ونهياً؟ لابد وأنه ستسقط حجته، ويسلم في نهاية الأمر بإثبات الساق لله عز وجل التي تختلف عن جميع سوق المخلوقات من الإنس والجن والطير والدواب والهوام والحشرات وغير ذلك، لابد وأنه سيصل في النهاية إلى الإقرار والاعتراف بهذا.
وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إثباتاً بلا تمثيل ولا مشابهة بينه وبين خلقه، وتنزيهاً بلا تعطيل.
أي: ننزه الله تبارك وتعالى أن تكون صفاته كصفاتنا، وفي الوقت ذاته نثبتها لله عز وجل، فنحن نثبت(25/5)
مخالفة أهل البدع لأهل السنة في إثبات صفة الساق لله عز وجل
من الصفات التي يوصف بها الرب جل وعلا، وقد شرق بها أهل البدع وغربوا، ولم يثبتوها له سبحانه تعالى: صفة الساق، زاعمين أن إثباتها يقتضي تشبيهاً للخالق بالمخلوق، لكن هذا ضلال عظيم وبعد عن منهج السلف، فلا يصف الله تعالى أحد أعلم من رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعلم الخلق بالله عز وجل، فإذا وصف النبي عليه الصلاة والسلام ربه بوصف فلا يجوز لأحد بعد ذلك أن يدعي الورع، أو أن يدعي التنزيه، أو أن يستلزم المماثلة والتشبيه؛ لأنه لابد وأن يزعم بأنه أعلم بالله من النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد دلت سنة النبي عليه الصلاة والسلام الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد على أن الساق ثابت لله تعالى، وكما أننا نثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نقول في صفات الله تعالى كالساق وغيرها: إنها لا تشبه صفات المخلوقين؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا هو حقيقة الإيمان.
أي: أن نسلم لله عز وجل بما أمرك ونهاك، ونبرأ من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحت بها النصوص كالساق وغيرها، من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاءت في الكتاب والسنة، وننكر عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه.
وهذا مذهب جمهور السلف في تفسير هذه الآية، وإذا كان الفعل: (يُكْشَفُ) مبني للمجهول لما لم يسم فاعله، فإن الحديث قد سمى صاحب الساق، وهو الله تبارك وتعالى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يوم يكشف ربنا عن ساقه)، فالذي أخفته الآية بينه الحديث.(25/6)
الرد على المبتدعة في الاحتجاج بتفسير ابن عباس للساق
وأما ما جاء عن ابن عباس أنه قال: يريد القيامة والساعة لشدتها، فقد ضعفه كثيرون من أهل العلم بالحديث، وقالوا: ولا يصح شيء من هذا عن ابن عباس، ولهذا لما جاء هذا الخبر عن ابن عباس طار به أهل البدع فرحاً، وهذه من علامات أهل البدع.
أي: أن تقع أعينهم وعقولهم على قول لرجل -وإن كانت غير راجحة- ليؤيد ما هم عليه من البدعة، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لم تكن هناك صفة لله عز وجل محل جدال ونقاش وخلاف بين السلف إلا هذه الصفة.
وما روي عن ابن عباس فيها طار به أهل البدع فرحاً؛ لأنهم نسبوا التأويل للسلف، ولم يقولوا: إن هذه زلة لـ ابن عباس مثلاً، مع أنها ليست بزلة؛ لأنه لم يثبت عنه هذا الكلام، وعلى فرض ثبوته -وهذا يعني على أضعف الإيمان وأقل الأقوال- فإن ابن عباس قد قال: إن قاتل النفس لا توبة له.
كما قال: إنه ليس هناك رباً إلا ربا النسيئة المذكور في القرآن، ولم يقل بربا الفضل، بل قد زل ابن عباس في أكثر من سبع مسائل خالفه فيها جمهور الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهنا في هذه الصفة قد خالفه الصحابة وعلى رأسهم: عبد الله بن مسعود وقال: الساق صفة ذاتية لله عز وجل.
لذا فلو ثبت هذا عن ابن عباس فنحن نعلم أن إثبات لازم الصفة عند السلف يستلزم إثبات الصفة أولاً، وهذه قاعدة عند السلف، بخلاف المتأولة الذين يثبتون لازم الصفة دون الصفة.
فإذا كان هذا معلوماً من مذهب ابن عباس في صفات الله تبارك وتعالى كلها، فلم يثبت المبتدعة هنا لازم الصفة وينفون أصل الصفة الذي هو من معتقد ابن عباس في جميع صفات الله تبارك وتعالى؟ وفي هذه الحالة لابد -وهذا على فرض صحة وثبوت هذا الكلام عنه- من إثبات الصفة ولازمها.
ومن أمثل الأسانيد التي جاءت عن ابن عباس في ذلك: ما رواه الفراء في كتابه (معاني القرآن).
قال: حدثني سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42].
أي: يريد القيامة والساعة لشدتها.
وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة.
نعم ابن عباس ترجمان القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام قد دعا له، وكان من أحبار هذه الأمة، لكن هل يستلزم هذا بالضرورة ألا يخطئ ابن عباس؟ إنه إذا لم يكن معصوماً فالخطأ جائز عليه حينئذ، وإذا جاز الخطأ عليه فنرده بقول بعض أصحابه له، ولذلك نحن دائماً نقول: إن إجماع الصحابة حجة بلا خلاف، لكن على فرض أن هذا تأويل ابن عباس، فتأويل هذه الصفة من ابن عباس هل عليه إجماع الصحابة؟ لا.
فلا أقل من أن نقول: إن هذه الصفة محل خلاف عند السلف، لكن هذا الخلاف لابد من فصل النزاع فيه، فنقول: إن حديث: (يوم يكشف ربنا عن ساقه)، لم يصل ابن عباس، وإذا كان هذا الحديث لم يصل ابن عباس وقال بغيره، فهو مجتهد مأجور أجراً واحداً لأن الصحابة قد خالفوه بإثبات الساق الحقيقية لله عز وجل، وفي هذه الحالة لابد من رد كلام ابن عباس، أو حمله على أحسن المحامل، ورده أولى، وعليه فهذا التفسير للآية من ابن عباس لا تقوم به الحجة؛ لثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية.(25/7)
رواية أبي هريرة في إثبات الساق لله تعالى
وأما حديث أبي هريرة ففيه: (فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجوداً) فلا يمكن أبداً أن تحتمل اللغة تفسيرهم: (فيكشف الله تعالى عن شدته فيقعون سجوداً)؛ لأنه قد قال: إن كشف الساق هو كشف الشدة، وكشف الشدة بمعنى: إزالتها، أي: رفع الشدة، فهل يناسب أن نقول: إن الله تعالى في الموقف والمحشر يرفع شدته.
بمعنى: أنه يكون هناك حالة رضا.
لا.
ولا شك أن السجود هذا إنما هو داعي الخوف، فلا يسجد الناس والله تبارك وتعالى قد رفع عنهم الشدة والخوف، بل هم يسجدون إذا خافوا، فهذا الوجه في اللغة غير محتمل.
بل الحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت في الآية، فقوله: (فيكشف لهم عن ساقه)، صريح في إثبات الساق لله تعالى؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدة قطعاً.
وقوله: وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى.
ويؤيده ما رواه الدارمي في كتابه: الرد على الجهمية -وهو كتاب من أمتع الكتب، وهناك أيضاً كتابين بهذا العنوان: الرد على الجهمية للإمام أحمد، والرد على الجهمية لـ ابن منده، وكلها كتب لثلاثة من أئمة السلف للرد على الجهمية المعطلة بعنوان واحد- فقد روى الدارمي من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، قال: يكشف الله عز وجل عن ساقه).
وفي حديث آخر: (يوم يكشف ربنا).
فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أن الآية من آيات الصفات، وليس المقصود بالساق هنا: الشدة.
وأن المراد منها -أي من الآية-: إثبات الساق كصفة ذاتية لله تبارك وتعالى، وقد جاءت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.(25/8)
رواية أبي سعيد في إثبات صفة الساق لله تعالى
قال البخاري: باب: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]: قال: حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً).
أي: أن الله تبارك وتعالى يوم يكشف عن ساقه لأهل الإيمان وللمنافقين -أي: في المحشر- فإن كل مؤمن عندما يرى الله عز وجل ويعرف أن الله عز وجل هو هذا بساقه التي عرفهم بها في الدنيا، يقع كل مؤمن ومؤمنة ساجداً لله عز وجل؛ لأنهم يعرفون الله تعالى بهذه الصورة التي عرفهم بها في حياتهم الدنيا، ويذهب كل منافق ومعاند وجاحد ليسجد كما رأى أهل الإيمان يسجدون، والمنافقون الذين ما كانوا يصلون ولا يصومون إلا رياء وسمعة يذهبون ليسجدون، فيجعل الله تبارك وتعالى ظهورهم قطعة واحدة لا مقاطع ولا مفاصل فيها، فلا يتمكنون من السجود لله عز وجل، إذ السجود في هذا اليوم شرف عظيم، وبيان وتمييز لأهل الإيمان من أهل النفاق، فإنه لا يتمكن من السجود في ذلك اليوم إلا كل مؤمن ومؤمنة.
كما روى الإمام مسلم هذا الحديث، وكذلك أحمد في كتاب السنة من طريق عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع الله الأولين والآخرين -أي: جميع الخلق- لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة).
أي: يقفون أربعين سنة في الموقف.
قال: (شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء).
فانظر إلى هذا الحديث! إنه من أمتع ما يمكن أن تسمعه أذنك، فالله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في الموقف لمدة أربعين سنة، وكل واحد منهم يشخص ببصره إلى السماء.
أي: ينظر إلى جهة العلو والفوقية لله عز وجل، ينتظرون من الله عز وجل أن يفصل وأن يقضي بين العباد.
قال: (فينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام).
ينزل ربنا تبارك وتعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، وهذا يعني أن العرش فوق الكرسي.
قال: (ثم ينادي مناد: أيها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟).
أي: ألا ترضون من الله عز وجل أن يلحق كل واحد منكم بمعبوده وإلهه الذي كان يعبده في الدنيا؟ قال: (أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى.
قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا.
قال: فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون).
أي: أن الله تبارك وتعالى يجعل كل معبود في الدنيا عبد من دون الله يمثله على نفس الهيئة والشكل التي كان عليها في الدنيا، حتى يتعرف عليه كل مخلوق كان يعبده، فالذي كان يعبد الشمس يمثل الله تبارك وتعالى له الشمس، فيذهب إليها ليعبدها في ذلك، والقمر والأوثان والأصنام والحجارة والمقابر وغير ذلك فإن كل معبود يتبعه عابدوه في هذا اليوم ولا شك.
قال: (ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى).
أي: ما من نبي إلا وله شيطان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم تغلب على شيطانه فآمن، ولم يثبت أن شيطان عيسى آمن، والذي كان يعبد عيسى بن مريم عليه السلام من دون الله عز وجل يتمثل له شيطان عيسى في صورة عيسى حتى يذهب إليه من كان يعبد عيسى فيعبد هذا الشيطان؛ لأن عيسى لا يرضى بذلك، بل قد تبرأ من عبادة النصارى له ولأمه، والله تبارك وتعالى قد أكرمه بأنه لا يعبد أمام عينه في هذا الموقف العصيب الرهيب، لكنه سبحانه مثل الشيطان في صورة عيسى، ولذا لما كان عيسى يعبد في الدنيا من دون الله عز وجل كان من العدل أن يلحق الله عز وجل من كان يعبد عيسى بشيطان عيسى حتى يقيم كل واحد منهم الحجة على نفسه.
قال: (ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيتمثل الرب جل وعز فيأتيهم فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً).
أي: نحن لم نكن نعبد أحداً إلا الله عز وجل، (فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟).
ومن المعلوم أننا لا نعرف الله عز وجل، ويوم القيامة سيظهر لنا، فكيف نعرفه؟ باختلاف ذاته وصفاته عن ذوات جميع المخلوقات التي رأيناها.
لكن المسيح الدجال يقول: أنا ربكم.
لكنه أعور، وربنا ليس بأعور، وكذلك يأتي من الآيات ما يثبت صحة هذا القول في الظاهر، فيأتي بأشياء لا يمكن أن يفعلها إلا إله قادر، فيحضر رجلاً من أهل المدينة فيشقه نصفين حتى يل(25/9)
رواية ابن مسعود في إثبات صفة الساق لله تعالى
وروى ابن خزيمة في كتاب التوحيد حديث ابن مسعود في كشف الساق، وهذا الكتاب من أنفع ما يمكن أن يقرأ في كتب العقيدة، لذا فلابد عليك أن ترتقي عن فتح المجيد وعن العقيدة الطحاوية، فعندما تقرأ في كتب العلم المسندة تشعر بلذة ما بعدها لذة، كأن تمسك بكتاب التوحيد لـ ابن خزيمة وتنهل منه في الوقت الذي لا تعرف الأمة من ابن خزيمة ولا ما هو كتاب التوحيد له، فتعرف أن هذه نعمة من نعم الله عز وجل عليك، وعندما تقرأ كتب السنة كلها، فتقوم بأخذ المجلد الأول والثاني والثالث والرابع إلى المجلد الحادي عشر من كتاب فتاوى ابن تيمية، هذه المجلدات التي ضمن فيها الإمام ابن تيمية عقيدة المسلمين، سواء عقيدة السلف أم عقيدة الفرق الضالة، فعندما تبدأ تقرأ في هذه المجلدات ستقول: هذا كلام بعيد! لا، فليس بعيداً أبداً، فإنك إذا شرعت في قراءتها فإنك ستكملها، ثم ممكن أن تبدأ بكتاب التوحيد، وهو مجلدين بعدما حقق.
روى ابن خزيمة في كتابه (التوحيد) من طريق أبي الزعراء قال: ذكروا الدجال عند عبد الله بن مسعود فقال: (تفترقون أيها الناس! عند خروجه ثلاث فرق).
أي: سيفترق المسلمون ثلاث فرق عند ظهور الدجال، وذكر الحديث بطوله ثم قال: (ثم يتمثل الله عز وجل للخلق).
أي: يأتي الخلق في صورة يرتضيها الله عز وجل لنفسه.
قال: (فيلقى اليهود.
فيقول لهم: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئاً).
انظر إلى الكذابين! (فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا اعترف لنا عرفناه).
أي: إذا أتانا في صورته التي نعرفه بها عرفناه.
(فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خر لله سجداً).
وهذا موقوف حسن على عبد الله بن مسعود، وقد تقدم مرفوعاً.
والحاصل: أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة الصحيحة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.(25/10)
خطأ ابن الجوزي في نقله قول الجمهور في صفة الساق لله تعالى
أما ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، أي: يكشف عن شدة، فقول غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنة علم خطأ هذا القول وبطلانه؛ فهذا أحمد بن حنبل، وابن خزيمة، وابن منده، والدارمي، وغيرهم كثير جداً قد صنفوا في الاعتقاد، وما رأينا في كتب الاعتقاد المصنفة عند أهل السنة والجماعة أنهم أولوا الساق بالشدة، ولم نجد من هؤلاء من يقوله، وهذا القائل إما أنه لا يعرف من هم السلف، وإما أنه أطلق هذا القول جزافاً دون تحقيق، ولو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور فإنه لا يدل على صحة قولهم وبطلان ما عداه؛ لأنه ليس دائماً الحق مع الجمهور، إذ إن كل مسألة من مسائل الدين، سواء في باب الأصول أو الفروع لا نبحث فيها عن رأي الجمهور؛ لأنه ليس ذلك بلازم، والجمهور في أكثر من مسألة قد خالفوا فيها الدليل، لكن الأمة في مجموعها معصومة، بمعنى: أن الحق لا يخفى على مجموعها في زمن ولا في بلد، وإنما الحق لابد أنه يكون ظاهراً في كل زمان وفي كل مكان، حتى وإن ظهر لواحد من الأمة فقط، مثلاً: عندما نأتي إلى قرية (الطالبية) ونذكر مسألة من المسائل فماذا سنقول؟ هل سنقول: إن هذه المسألة قد خفيت على أهل الطالبية بأسرهم؟ لا؛ لأن هذا يخالف سنة الله تبارك وتعالى، ولأنك لو قلت: إن الحق قد خفي على مجموعة من الناس في مكان أو في زمان، فلابد وأن تعتقد حينئذ أن حجة الله تبارك وتعالى تخفى عن عباده وعن خلقه في أي وقت أو في أي مكان، وهذا بخلاف عقيدة المسلمين، بل الحجة تقوم على المسلمين ولو بواحد، ولا يمكن أن يخفى الحق على مجموع الأمة، لا في زمن ولا في مكان، ولذلك لما وقع هذا الخلاف بين ابن عباس وبين الصحابة رضي الله عنهم خالفه ابن مسعود.
بل صح السند لـ ابن مسعود في المخالفة، ولم يصح إثبات التأويل عن ابن عباس كما ذكرنا، فنقول في هذه الحالة: على فرض صحة ما ادعى ابن الجوزي من أن مذهب الجمهور هو التأويل، فهل يلزمنا أن نقبل مذهب الجمهور هنا؟ لا.
لأنه قد يكون لشخص من الأشخاص قول لا نعلم له مخالفاً فيكون إجماعاً، ولو علمنا له مخالف لا أقل من أن نقول: إن هذه المسألة قد اختلف فيها الصحابة، وممكن أن يشتهر قول أحد الأصحاب ولا يشتهر القول الثاني، فيأتي بعد ذلك المقلدة فتجدهم يقلدون القول ويلتزمونه نقلاً من الكتب أو سماعاً من المشايخ دون تحقيق لهذا القول، وسائر القول على هذا النحو، من أجل ذلك أنا أحكي لك عن مسألة قال بها ألف واحد من العلماء، لكن هذا الألف بلا تحقيق لا قيمة له، إنما القيمة في التحقيق، وأقول: التحقيق دائماً؛ لأنه عندما يكون هناك مسألة هي محل نزاع بين أهل العلم، فإنهم يعرضونها على المشرحة، وهذه المشرحة هي مشرحة الكتاب والسنة، الميزان الأعظم، هذا الميزان الذي لا يمكن أبداً أن يهتز؛ لأنه الميزان الذي أزن به الأعمال والأقوال، صحيحة أو غير صحيحة، مقبولة أو غير مقبولة، وعليه فمذهب الجمهور على نقل ابن الجوزي -إن صح أن الجمهور قالوا بذلك- مردود ليس عليه دليل، وهم -إن صح ذلك عنهم- نفوا والنافي لا يطالب بالدليل في النقاش العلمي، فالذي ينفي الشيء لا يطالب بالدليل، وبالتالي فالذي يطالب بالدليل هو الذي يثبت؛ لأن معه من العلم والحجة ما ليس عند النافي، وفي هذه الحالة فمسألة الساق اختلف فيها أهل العلم، فجمهورهم ينفيها، وبعضهم يثبتها، فهل تتصور عقلاً أن آتي إلى النافي وأقول له: ما دليلك على نفي الساق؟ سيقول: الأصل عدم إثبات ما نفاه الله عن نفسه، أو لا أثبت لله إلا ما أثبته لنفسه ولم يثبت لنفسه ساقاً.
فسأقول له: إن هذا الفريق الثاني المناهض والمناقض يقول: أن هناك ساقاً، فسيقول: ليأتينا بالدليل، فأقول: الدليل: حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، وحديث عبد الله بن مسعود، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وعليه؛ فإذا كانت الآية مطلقة وعامة فلابد من حملها على الحديث المقيد، وأن هذه الساق التي وردت منكرة غير مضافة إلى الله عز وجل قد وردت في الحديث مضافة وثابتة، وصريحة في إثباتها الساق لله عز وجل.
وفي هذه الحالة سأقول له: أنت أيها الجمهور! قد خالفك رجل واحد في الأمة، والدليل معه، فضلاً أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن مسعود، أو هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أثبت، وإذا كنا نعتقد أنه أعلم الخلق بالله عز وجل فلابد وأننا نقول: بأن حديثه مقدم على مذهب الجمهور.
ثم لو افترضنا مثلاً صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل ذلك على صحة قولهم وبطلان ما عداه، إذ ليس كل قول يذهب إليه الجمهور يكون صواباً، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، وإنما يعرف(25/11)
رد ابن تيمية على من يؤول صفة الساق لله تعالى
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في (نقض أساس التقديس)، وهذا الكتاب من أمتع ما يمكن أن يقرأ، وأقول لك: إن كثيراً من الإخوة يعتقدون أنه ليس هناك كتب عقيدة في الإسلام إلا العقيدة الطحاوية، وفتح المجيد، والواسطية فقط، وهذا غلط، بل إن هناك كتباً كثيرة في الاعتقاد، ثم إن العلماء قد صنفوا هذه الكتب من أجلنا نحن فقط، من أجل ذلك فنحن لا نعرف غيرها! ولذا فهم عندما رأوا أننا لا نستطيع أن نفهم أي كلمة من كلام السلف، قالوا: نصنف لهؤلاء الجيل علم على قدر همتهم وفهمهم، حتى يلقوا الله عز وجل باعتقاد سليم.
إذاً: فنحن لا نتوقف عند هذه الكتب فقط، إذ إنها قد صنفت للمبتدئين في العلم، وأنتم أصبحتم في مستوى كبير، فلابد أن تكبروا عن ذلك قليلاً، فهناك أكثر من ألف مصنف مسند وغير مسند في توحيد الله عز وجل، وحاولوا أن تنتهوا من العقيدة الطحاوية من أجل أن تأخذوا مرحلة أعلى قليلاً.
وعلى كل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نقض أساس التقديس: إن هؤلاء يتأولون كشفه عن الساق بأنه إظهار الشدة -انظر هذا الكلام الجميل- وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفونه، فيكشف لهم عن ساقه فيسجدون له، فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة.
فهو يريد أن يقول: في قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، أن المتأولة يقولون: إن الله تبارك وتعالى لا يأتي ولا يجيء ولا يذهب ولا يرضى ولا يسخط ولا يفرح ولا، ينفون كل هذه عن الله عز وجل، فيقولون في تفسير قوله تعالى: ((وَجَاءَ رَبُّكَ))، أي: وجاء أمر ربك، أو رحمة ربك، أو رضا ربك، والمهم أن الرب تبارك وتعالى عندهم لا يأتي، وعليه فإذا كنتم تفسرون مجيء وإتيان الله عز وجل بإتيان الرحمة، وأنتم الذين تقولون: لو ظهر لنا بما نعرفه لعرفناه، لكن هو سيعرف لكم بالساق مثلما أبنتم ذلك، فإذا كانت الساق هي الشدة فهل تسجدون لها؟
الجواب
لا.
فإذا قلتم: إن الإتيان والمجيء لله عز وجل هو إتيان الرحمة، فلا يتصور أنك إذا رأيت رحمة ربك سجدت في هذا الموقف.
واعلم أن هناك أصلاً مهماً جداً لابد وأن تعض عليه بالنواجذ خاصة فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل، وهو: (حمل الألفاظ على ظاهرها دون تحريف، أو تأويل، أو تمثيل، أو تكييف، أو تشبيه)؛ لأن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يرد ما يخرجها عن ذلك.
يعني: إذا كانت الآية تقول: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42].
إذاً هي ساق، حتى لو لم نكن متصورين صفة الساق، ولا نصرف هذه الساق عن ظاهرها كما يفعل المبتدعة؛ لأنه لابد أن يكون معك صارف لها أو قرينة على الصرف؛ ولأن الأصل في الألفاظ أنها تحمل على الحقيقة لا على المجاز، سواء المجاز الشرعي أو المجاز اللغوي أو المجاز العقلي.
فقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، أثبتت الآية أن هناك ساقاً، ولا أستطيع أن أقول: بأنها الشدة؛ لأنه لابد من صارف أو قرينة صارفة، واللغة ليست صارفة إلا بشرط: استحالة حمل اللفظ على ظاهره، واللفظ الذي معي أحمله على معناه الاصطلاحي الشرعي، فإن كان محالاً أحمله على الحقيقة اللغوية، وإن كانت الحقيقة اللغوية محالة فأحمله على الحقيقة العرفية، وهذا ترتيب أهل العلم في صرف النص عن ظاهره.
لكن في هذه الحالة عندما يثبت ربنا سبحانه لنفسه الساق، فإننا نحمل هذا اللفظ على حقيقته الشرعية، ولا يمكن أن نتعدى ذلك إلى غيره لأنها خطوات وضعها أهل العلم وأمرونا باتباعها، ولو تخطينا الحقيقة الشرعية في صفة الساق فلابد وأن نتخطاها في جميع الصفات الذاتية لله عز وجل.
وبهذه المناسبة أذكركم بقاعدة قد مرت وهي: (أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات)، فإذا تخطينا الحقيقة الشرعية في الساق فيلزمنا أن نتخطاها في جميع الصفات.
إذاً: مذهب السلف هو إثبات الألفاظ على حقيقتها وعدم صرفها عن ظاهرها إلا بنص أو قرينة.
وعندما أريد صرف الساق عن ظاهرها، فهل أبحث لها عن صارف؟ لو قلت: نعم.
فلن أجد لها صارف في اللغة، وبعد أن أصرفها عن ظاهرها إلى معناها اللغوي سأجد الحديث قد صرح بأن الساق ساق لله عز وجل، إلا إذا كنت سأصرف لفظ الله أو الرب عن ظاهره فأقول: الله هذا، أو الرب هذا مخلوق من المخلوقات! ألا يمكن أن يقول أحد بذلك؛ لأن الحديث: (يوم يكشف الله عز وجل عن ساقه)، فهل أستطيع أن أتصرف في هذا اللفظ؟ بمعنى أن أقول: ليس المقصود هنا بالله عز وجل: (الإله المعبود).
إن من يقول بذلك سيكون مجنوناً بلا شك، ولو قلت: إن الله عز وجل ليس المقصود به: الإله المعبود! سأنظر وأجد الحديث الثاني يقول: (يوم يكشف ربنا عن ساقه).
فلا يجتمع في مخلوق قط لفظ الرب مع لفظ الله، ممكن أن يكون رب البيت، رب الدار، رب الغنم، رب البقر، لكن الرب -بالتعريف-(25/12)
خطأ الإمام النووي في تأويله لصفة الساق لله تعالى
قال الإمام النووي في تفسير حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم في قوله: (فيكشف عن ساق)؛ قال: فسره ابن عباس وجمهور أهل اللغة بالشدة.
وانتبه أنه قال: جمهور أهل اللغة، وابن الجوزي قال: جمهور العلماء.
أي: علماء الشرع.
لذا فأنت عندما تسمع مذهب الجمهور فالمقصود به: جمهور الفقهاء، لا جمهور اللغويين، فانظر إلى ابن الجوزي كيف عمى علينا وقال وجمهور العلماء؟! والصحيح أنهم جمهور اللغويين الذين قالوا: بأن الساق هي الشدة، ولو قالوا بذلك فلا يعول على كلامهم؛ لأن الساق تعني الشدة في أحد وجوه اللغة، لكن لا يستلزم هذا إنزال هذا المعنى اللغوي على هذا النص؛ لأن هذا يعتبر تلبيساً.
والإمام النووي قد نقل كلاماً عظيماً جداً عن كثير من أهل العلم القائلين بأن الساق تعني الشدة، وهذا على عادة الإمام النووي، فإذا كان مضطرباً في مسألة ما فإنه ينقل أقوال أهل العلم دون أن يرجح، وفي ترجمة الإمام النووي التي ذكرناها من قبل: أنه لم يتمكن من دراسة علم العقيدة، مع أن علم العقيدة متعلق بذات الله تبارك وتعالى، فأنت الآن عندما تدرس كل العلوم الشرعية ولست متمكناً من العقيدة فسيخرج لك صبي في الكتاب يعدل عليك، لكن في الفقه عندما تخطئ أو تتبنى مذهباً شاذاً لا يكون لذلك تأثير، أو غير ذلك.
يعني: نحن مثلاً: عندما نعيب على ابن حزم، أو نعيب على أحد من أهل العلم مذهباً قد ذهب إليه في مسائل الفروع في الفقه، فلا يكون لذلك تأثير، لكن عندما نقول: فلان هذا جهمي، رغم أنه فقيه، فلان هذا معطل، رغم أنه محدث، فلان هذا قدري، رغم أنه كذا كذا، فلان هذا شيعي، رغم أنه كذا وكذا، فسيكون ذلك أمراً شنيعاً جداً؛ لأن الخطأ في العقيدة ليس كأي خطأ قط، ولذلك ينبغي أن تتنبه إلى أن دراسة علم الاعتقاد والتمكن منه على مذهب السلف ومعرفة أصولهم التي أصلوها وساروا عليها، أهم شيء في حياة العبد المسلم.
ولذلك يقول أهل العلم: وهذا من العلم الذي لا يسع المسلم جهله، إذ إن من العلوم ما يمكن أن يسعك جهله، ومنها ما لا يمكن أن يسعك جهله، وعلى رأس ذلك: علم الاعتقاد والتوحيد فلا يسعك جهله.
وعلم العقيدة لا يتوقف على أنك تذهب لتتزوج فيأتون لك بالبنت من أجل أن تراها، وتقول لها: أين الله؟ فتقول لك: في السماء.
فتقول: يكفي.
هذه البنت سلفية (100%).
هذه خيبة! إذ إنه لم يثبت أن واحداً من السلف تقدم لخطبة امرأة واختبرها، بل كان يتلصص إلى أن يرى جزءاً من بدنها، فينظر ما يعجبه ويسره فيتقدم لها، لذا فلا يصح أن يتقدم شخص لفتاة فيخرج هذه الورقة من جيبه ويسأل هذه الأسئلة.
ورحم الله الشوكاني فإنه قال في تفسير سورة القلم: وقد أغنانا الله سبحانه وتعالى في تفسير هذه الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً، فليس كمثله شيء.
فانظر إلى هذا الكلام الجميل، فالحديث يبين الآية، وقد بين أن المقصود من الساق في الآية هي ساق الله عز وجل، فنثبتها من غير تجسيم ولا تمثيل مثل بقية الصفات، ولا يصح أن نخصها بكلام بمفردها، فهي مثل العين واليد، والقدم والأصابع والكف والأنامل وغيرها، فنقول فيها كما نقول في بقية الصفات.(25/13)
إثبات الصحابة جميعاً لآيات وأحاديث الصفات من غير تحريف ولا تأويل
أخذ المتأوله ما نقل عن ابن عباس من تأويل لهذه الآية فطاروا به كل مطار، وإذا كانوا يريدون أن يأخذوا بكلمة ابن عباس هنا، فيلزمهم أن يأخذوا بكلام ابن عباس في كل الصفات، وهذا هو منهج ابن عباس، بل إن أقصى ما يمكن أن يدافع به عن ابن عباس: أن ابن عباس لم يكن عنده علم بالحديث، فحمل الساق على المحمل اللغوي، ولو كان عنده علم بالحديث ما قال هذا قط.
والحق أن تفسير ابن عباس للساق الذي ورد في الآية الكريمة ليس من تأويل الأشاعرة؛ لأنه ليس منهج ابن عباس، بل هو رأي رآه، وهذا على فرض ثبوت هذا التأويل عنه، وهو غير ثابت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الذي أقوله الآن وأكتبه، وإن كنت لم أكتبه في ما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس -هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات ليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير.
وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]-أي: يريد أن يقول: إن هذا ليس كلام الصحابة، بل لم يختلفوا إلا في تفسير هذه الصفة- فروي عن ابن عباس -صيغة التمريض- وطائفة أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة.
وعن أبي سعيد وطائفة: عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين.
اهـ.
وقال ابن القيم: و (الصحابة متنازعون في تفسير الآية، هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع) اهـ.
لكن هنا جملة أمور وحقائق لا يجوز لأحد أن يتعداها، أو أن يغض نظره عنها، وهي أن الخلاف وقع بين الصحابة إلا أنه في هذه الصفة فقط؛ لأن التأويل ليس مذهبهم بتأويل الساق بالشدة.
وابن القيم يريد أن ينصحنا بنصائح، وكأنه يقول: رغم وقوع النزاع في هذه الصفة إلا أن هناك عدة نصائح أريد أن أنصحكم بها، وهي: أن تفسير بعض التابعين أو ابن عباس من الصحابة -على فرض صحته عنهم- لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بالشدة في الآخرة ليس من التأويل الذي فيه صرف للآية عن ظاهرها.
أي: أنه ليس تأويل الأشاعرة، ولا فيه تعطيل لصفة من صفات الله جل وعلا، بل إنهم يثبتون هذه الصفة بالأحاديث الأخرى الصحيحة، فشتان بين قولهم وبين تعطيل وتأويل الأشاعرة.
كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات.
أي: أنه يريد أن يقول: إن الآية ليست صريحة في إثبات أن أن الساق صفة لله عز وجل، وإنما أتى التصريح في الحديث.
ثم قال: ولا ريب -أي: ولا شك- أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل (عن ساقه)، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنها من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إذ إن التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف، لكن كثيراً من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاً له، كاليد على القدرة والنعمة، والعين على الإحاطة والرعاية، ثم يريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلاً، وهذا خطأ من وجهين.
وقد سبقه أبو يعلى الفراء فحمل تأويل ابن عباس على قول أهل اللغة، وليس على التأويل الفاسد الذي هو مذهب الأشاعرة.
وأما ما روي عن ابن عباس في تأويل الساق فقد خالفه ابن مسعود، ولا أقل من أن يقال: إن الصحابة اختلفوا في هذه، وليس قول أحدهم بحجة على قول الآخر إلا بدليل أو بنص، والنص مع ابن مسعود لا مع ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما، وعليه فلا إشكال إذاً.
وأظن بذلك الكفاية والغنية، وقد اتضح أن لله تبارك وتعالى ساقاً ليست كساق المخلوق، وأنها ساق حقيقية لله عز وجل يتعرف بها إلى خلقه في الموقف، وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قد أخطأ في صرف هذه الصفة إلى المعنى اللغوي، وهذا إن صح عنه ذلك، وإن لم يصح فقد أغنانا ضعف الإسناد إليه عن نسبة التأويل له رضي(25/14)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الكلام لله عز وجل
منهج أهل السنة والجماعة في صفات الله أنها صفات تليق به سبحانه، لا يجوز فيها التمثيل ولا التشبيه ولا التكييف ولا التأويل، بل يجب إثباتها كما أثبتها الله لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ومن ذلك ما ورد أن لله يدين وعينين ووجهاً وقدماً ورجلاً، وغيرها من الصفات الذاتية، كما نثبت لله عز وجل صفة الكلام وهي صفة ذاتية وفعلية، فهو تعالى يتكلم وقتما يشاء، بحرف وصوت ليس كحرف وصوت المخلوقين.(26/1)
مذهب أهل السنة والجماعة في إثبات صفة الكلام لله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فكنا نتكلم عن صفات للمولى تبارك وتعالى تثبت بالسمع ولا شك أنها تثبت بالعقل كذلك، فصفة الكلام -مثلاً- لله عز وجل لا بد للعقل أن يتصور أن الله يتكلم، فلو فرض أنه لم يأت نص سمعي يثبت أن الإله يتكلم بحرف وصوت للزم أن يتصور العقل أن هذا الإله لابد أن يكون متكلماً، بخلاف الصفات الأخرى فإنها لا تثبت بالعقل، بل تثبت بالسمع فقط.
أي: بالمنقول أو بالخبر؛ ولذلك يسميها أهل العلم: الصفات الخبرية، أو الصفات السمعية؛ لأن إيماننا بها يتوقف على السمع، والسمع هو النص -أي: المنقول- بخلاف العقل؛ ولذلك يسمي أهل العلم الصفات الذاتية لله عز وجل بالصفات السمعية والخبرية، يعني: لا تثبت عن طريق العقل، وإنما تثبت عن طريق النص، وتثبت عن طريق السمع، كصفة اليد والعين والرجل والقدم والأصابع وغير ذلك من الصفات الذاتية للمولى عز وجل لا يمكن أبداً أن أثبتها لله تعالى صفة ذاتية أصلية من مصدر الاجتهاد؛ وذلك لأن العقل محرم عليه أن يتصور ذات الإله وصفاته الذاتية، وإلا وقعت في تشبيه الله عز وجل بأحد مخلوقاته، فلابد أن أتوقف في إثبات هذه الصفات إلا إذا ورد في ذلك النص، فإذا أثبت النص أن لله وصفاً أثبتناه، وإذا نفى النص عن الله عز وجل وصفاً نفيناه؛ لأننا لم نر الله عز وجل.
إذاً: يتوقف إيماننا بصفات الله تعالى الذاتية على الخبر، وعلى النص الوارد إلينا؛ ولذلك نقول: إن صفات الله عز وجل الذاتية صفات خبرية بحتة لا مجال للعقل فيها، بخلاف صفات أخرى كصفة الكلام، فهب أنه إذا لم يرد نص أن الله تعالى يتكلم فإنه لابد أن يتصور العقل أن الإله لابد أن يكون متكلماً، فصفة الكلام تثبت بالسمع وبالعقل، وهذه الصفة صفة ذات وصفة فعل.
صفة الكلام صفة ذات وصفة فعل؛ لأن الله تبارك وتعالى أثبت لنفسه صفة الكلام فهي صفة ذاتية له، إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم، وهذا معناه: أنها صفة فعلية.
بمعنى: إذا شاء فعل الكلام وإذا شاء لم يفعل، له ذلك وله ذلك.
فإن الله تعالى يتكلم في أي وقت شاء، وبأي كلام شاء، وله ألا يتكلم في وقت، وأن يتكلم في وقت آخر سبحانه وتعالى، يفعل ما يشاء.
فالكلام صفة ذاتية وصفة فعلية.
أي: لها تعلق بفعله تبارك وتعالى، وفعله يختلف عن أفعال المخلوقين، فإذا قلنا: إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت لا يلزم من ذلك أنه يتكلم ككلامي هذا الذي يخرج من لساني ومن فمي بحرف وصوت، فالحرف معلوم لديكم والصوت أنتم تسمعونه، أما الله عز وجل فإنه يتكلم بحرف وصوت ليس بحرف كحرفي وصوت كصوتي، ولكنه يتكلم بكيفية لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى؛ لأنني لو قلت: إن المولى عز وجل يتكلم ككلامي أو ينطق بنفس الطريقة التي أنطق بها للزم من ذلك أن نثبت أن لله تعالى فماً؛ لأنه لو لم يكن لي فم ما استطعت أن أتكلم، ولو لم يكن لي لسان ما استطعت أن أتكلم، وإن الله عز وجل لم يتكلم عن إثبات صفة الفم أو اللسان له سبحانه، فيحرم على المرء أن يثبت للمولى عز وجل صفة لم يثبتها لنفسه؛ ولا أنفي ذلك ولا أثبته؛ لأن النص سكت عنه.
فإن قيل: إذا لم يكن له فم ولا لسان فكيف يتكلم؟
الجواب
أنه يتكلم حيث شاء وكيف شاء، ولا يلزم من كلامه المماثلة والمشابهة بين كلامه وكلام المخلوقين، فإنه يتكلم بكيفية وطريقة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، ولما كان الكلام صفة من صفات المولى عز وجل لزم أن نؤمن بهذا كما ورد، ولا نخوض في الكيفية، والكلام في صفة الكلام كالكلام في بقية الصفات، فالله عز وجل أثبت لنفسه صفة اليد، وأثبت لنفسه العين والأصابع والقدم وأثبت أنه يضحك، وأثبت الساق وغير ذلك.
ولذلك عقد المصنف اللالكائي عليه رحمة الله هذا الباب لإثبات هذه الصفات من جهة السمع والخبر، وأفردها بباب مستقل، كأنه يشير إلى أن هذه الصفات ع(26/2)
سياق ما دل من كتاب الله وسنة رسوله على أن من صفات الله الوجه والعينين واليدين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما دل من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن من صفات الله عز وجل الوجه والعينين واليدين].
وسكت، ولكنه ذكر في نفس الباب صفة الأصابع والقدم والضحك والساق والكلام، ولعله لم يقصد أن يتطرق إلى ما لم يذكره في التبويب بخلاف الذي ذكره من الوجه والعينين واليدين.(26/3)
الأدلة على إثبات أن لله وجهاً يليق به سبحانه
قال: [قال الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]].
هذه الآية أثبتت أن لله وجهاً، لكن هل وجه الله عز وجل كوجوه المخلوقين؟ من أراد أن يشبه وجه الله عز وجل بوجهه نقول له: لم اخترت لله عز وجل بالذات أن يكون وجهه كوجه بني آدم، فجميع المخلوقات لها وجوه؛ فلم لم يختر المولى عز وجل أن يكون وجهه كوجه غير بني آدم من المخلوقات؟ إذا طرح عليه هذا السؤال لابد أنه سيعجز عن الجواب، فإذا قال: إن الله تعالى يخاطب بني آدم فقط، وأنه يخاطبهم بما يعرفون، وإنما يعرفون من أنفسهم الوجه.
نقول: لو كان وجه الله عز وجل كوجهك للزم أن يكون من ذلك أن ذاته كذاتك، فهل تقول بذلك؟ لابد أنه سيقول: لا.
إن ذات الإله عز وجل تختلف عن ذوات المخلوقين جميعاً من بني آدم وغيرهم.
فنقول: وكذلك صفاته تختلف عن صفات المخلوقين، ومنها الوجه.
ولذلك الذين أولوا الوجه بالنعمة ليس لديهم حجة ولا برهان، والذين قالوا: إن الوجه هو الذات: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] قالوا: المراد هنا بالوجه: الذات العلية.
نقول لهم: إن هذا تأويل باطل وفاسد كذلك؛ لأنك إذا قلت: إن الوجه هو الذات لابد أنك تنفي عن الله عز وجل حقيقة الوجه؛ لأن الوجه عندك هي الذات، ولو قلت بذلك للزمك أن تنفي عن الله عز وجل صفة الوجه، وهذا طبعاً كلام لا يقول به إلا خلفي متأول، أما السلف فإنهم أثبتوا لله تبارك وتعالى الوجه وقالوا: المراد بالوجه هو وجه الرحمن تبارك وتعالى، فأثبتوا الوجه على النحو الذي يليق بجلاله وكماله، ولم ينفوه بتأويل الخلف أن الوجه هو الذات؛ لأن الذي يقول: الوجه هو الذات يقول: لا وجه؛ لأن الوجه عبارة عن ذات الإله، وهم ظنوا أنهم ينزهون المولى عز وجل عن مشابهة المخلوقين.
فما الذي حدا بهم إلى هذا التمثيل وهذا التشبيه؟ وما الذي يمنعهم أن يثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه على الوجه اللائق به سبحانه، ويؤمنون بذلك.
صفة الوجه ثابتة بالله عز وجل، ليس كوجوه المخلوقين، وليس الوجه هو ذات الله عز وجل؛ لأن هذا تأويل الخلف، فيحرم أن تصرف صفة من صفات الله عز وجل عن معناها وعن حقيقتها التي أرادها المولى عز وجل منك، كما يحرم عليك أن تؤولها وأن تلوي عنقها لتصرفها عن ظاهرها.
قال: [وقال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]].
فأثبت كذلك في هذه الآية أن له وجهاً سبحانه وتعالى.(26/4)
الأدلة على إثبات أن لله يدين تليقان به سبحانه
قال: [وقال الله عز وجل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]].
أي: ما الذي منعك يا إبليس! أن تسجد لآدم الذي خلقته أنا بيدي، سبحانه وتعالى.
يقولون نفياً ليدي الله عز وجل: اليد بمعنى: القدرة.
واليد بمعنى: النعمة.
وهذا كلام بعيد جداً، وفيه غلو كما أن فيه تعطيلاً، فروا بزعمهم مما يسمى تشبيهاً فوقعوا في التعطيل.
أي: جردوا الذات العلية من تلك الصفات الخبرية السمعية.
فالله عز وجل قال لإبليس: ما منعك أن تسجد لآدم الذي خلقته بيدي؟ فإذا كانت اليد هنا بمعنى النعمة فليس لآدم فضل على بقية المخلوقات؛ لأنه في هذه الحالة لابد أن الله خلق الخلق جميعاً بنعمته، فلم يقول عن آدم بالذات - {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]- إذا كانت اليد هي النعمة؟ كما تقول: فلان له علي يد -يعني: له علي جميل ونعمة- وهذا معروف في كلام العرب.
وهذا الذي أوقع الخلف في صرف النص عن ظاهره، فاعتمدوا فقط على بعض ما ورد في كلام العرب من أن اليد يقصد بها النعمة، وقالوا كذلك: اليد هنا بمعنى القوة.
فمعنى: ((خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)) أي: خلقت بقوتي؛ لأنه ثنى اليد: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولم يقل: بيدِي، وإنما قال: بيدَيَّ.
فإذا قلنا: إن اليد بمعنى القوة -كما يقول الخلف- فيلزمنا أن يكون التأويل هكذا: ما منعك أن تسجد لما خلقت بقوتيَّ.
ولم يقل أحد: إن لله قوتين؛ حتى يكون التأويل: خلقت بقوتيَّ.
ثم إن الله تبارك وتعالى أثبت لنفسه اليد وأثبت لنفسه القدرة والقوة، فكونك تجعل صفة مركبة على صفة أخرى فإنه يستلزم تعطيل الصفة التي حملتها على الثانية، فأنت تقول: اليد بمعنى القدرة أو اليد بمعنى القوة، وإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه القوة والقدرة واليد، فكونك تؤول اليد بالقدرة والقوة، فالقدرة والقوة من الأساس موجودة وثابتة لله عز وجل، ولكن تأويلك اليد بالقدرة والقوة ينفي صفة اليد عن المولى عز وجل، وستأتي معنا نصوص لإثبات أن هذا التأويل الخلفي تأويل باطل كذلك.
قال: [وقال عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]].
فهل يستقيم أن نقول: بل نعمتاه مبسوطتان؟ أو بل قوتاه مبسوطتان ينفق كيف يشاء؟ هذا كلام لا يستقيم حتى في لغة العرب.
قال: [وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]].
فأثبت العين.
قال: [وقال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37].
وقال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]].
إثبات لصفة اليد كذلك.(26/5)
كلام بعض السلف في إثبات أن لله عيناً ووجهاً
قال: [وعن الزبير بن العوام: أنه سئل بوجه الله -يعني: قيل: أعطني لوجه الله- فقال: أعطه، فإنه بوجه الله سأل لا بوجه الخلق].
وهذا يثبت أن صفة الوجه كانت ثابتة عند السلف.
قال: [وعن القاسم بن محمد: أنه سئل بوجه الله فقال: لا يفلح من رده].
أي: لا يفلح من رد سائلاً سأل بوجه الله.
وهذا يعني: أن صفة الوجه ثابتة لديهم.(26/6)
حديث: (أن الله سبحانه خط التوراة بيده)
قال: [عن طاوس سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى)] يعني: كانت بينهما محاجة، كلٌ منهما يذكر حجته على الآخر، كأنها خصومة أو مناظرة: [(احتج آدم وموسى، فقال موسى لآدم: أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة)].
أي: بسبب فعلك يا آدم! كنت سبباً في طرد الخليقة من الجنة، وذلك لما طردك الله عز وجل وأهبطك على الأرض، وكانت بعد ذلك الذرية والنسل، فكان موطن الذرية الأرض لا الجنة، فأنت الذي خيبتنا، وأنت الذي أخرجتنا من الجنة.
قال: [قال له آدم: (أنت موسى اصطفاك الله بكلامه)].
وهذا إثبات لصفة الكلام لله عز وجل، وأن الله كلم موسى تكليماً من وراء حجاب، فموسى سمع كلام الله عز وجل بنفسه لا عن طريق الوحي، ولا عن طريق جبريل عليه السلام، وإنما سمع موسى كلام المولى عز وجل.
والجعد بن درهم -ذلك المبتدع الأثيم- أنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأن الله كلم موسى تكليماً، وقام خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى وخطب الناس، ثم نزل من على سلم المنبر وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ لأنه أنكر أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً.
فذبح الجعد بن درهم عند أصل المنبر.
أي: عند أول عتبة المنبر، مع أن الجعد استجار بعد ذلك؛ وكأنه يريد أن يعتذر من مقالته خوف القتل، ولكن خالد القسري لم يأبه لذلك وقال: إن هذه مقولة صار لها أتباع، وصار لها متقولون يتقولون بها ويجهرون بها.
فقتله لخطورته، كما أن الذي أتى به الجعد هو كفر بواح، فلو قتله لكفره اجتهاداً لكان هذا اجتهاداً سائغاً، ولو قتله لعظيم بدعته التي انتشرت في العامة والخاصة لكان قتله كذلك لمنع الفتنة أمراً جائزاً في الشرع، فعلى الوجهين قد أصاب خالد بن عبد الله القسري.
قال: [قال آدم لموسى: (أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده)].
والضمير يعود على يد الله عز وجل.
أي: أن الله تعالى هو الذي كتب التوراة بيده، وهذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله عز وجل بيده الشريفة، خلق آدم بيديه، وكتب التوراة بيده.
وقال في رواية أخرى: (يا موسى! ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى خط التوراة بيده قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال: بلى).
وهذا إقرار من موسى عليه السلام أن الله كتب التوراة في الأزل قبل أن يخلق آدم وقبل أن يخلق الخلق.
ومعلوم أن بين آدم ونوح عشرة قرون، وقبل نوح -بل وقبل الخلق أجمعين بأربعين سنة- خط الله عز وجل التوراة بيده، وكتب في التوراة الخطيئة التي ستقع من آدم، وأن آدم بعد عصيانه سيتوب ويستغفر وينيب إلى ربه.
فقال له: وأن الله خط لك التوراة بيده، وكتب فيها ما قد وقع مني، وأنه أمر قدره علي قبل أن يخلق السماوات والأرض بأربعين سنة.
قال: [(تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟)].
إن كتاب التوراة هو الكتاب الذي أرسل به موسى، وبين موسى وآدم عشرة قرون، وقبل خلق آدم بأربعين سنة خط الله عز وجل التوراة بيده ويمينه، ثم أثبت في هذه التوراة أن آدم سيعصي، وسيتبع شيطانه فيما يسول له ويجمل من الأكل من شجرة في الجنة؛ طلباً للخلد، فعصى آدم ربه فغوى.
ثم قال آدم لموسى: أتلومني على ذلك؟ هذا أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة! فلو أننا اعتبرنا أن القرن (100) عام إذاً: قبل (1040) سنة كتب الله عز وجل في التوراة أن آدم سيعصي ولكن هذا على سبيل المثال.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(فحج آدم موسى)] يعني: فارتفعت حجة آدم على حجة موسى.
قال: [أخرجه البخاري ومسلم].
ولكن ربما ينطبع في أذهان الحاضرين أنه يجوز للمرء أن يحتج بالقدر على المعصية، فيقول: آدم نفسه قال: (أتلومني على أمر قدره الله عز وجل علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟).
يعني: هذا مكتوب في اللوح المحفوظ.
فنقول: إن إجماع أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز لأحد أن يحتج بالقدر على المعاصي.
الأمر الثاني: الفارق بين من يحتج بالقدر على المعصية وبين آدم: أن آدم لما عصى تاب إلى الله عز وجل، وهذا لم يتب.
الأمر الثالث: أن آدم قال ذلك وهو ليس في دار التكليف، وأنت تحتج بالقدر على المعصية وأنت في دار التكليف.
فمن هذه الفوارق لا يجوز لأحد أن يعتمد على القدر في استباحة واستجازة معاصيه، وهذا الأمر محل اتفاق بين العلماء في عدم الجواز.(26/7)
حديث: (إن الله يبسط يده بالليل والنهار للتائبين)
قال: [عن أبي موسى: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، حتى تطلع الشمس من مغربها) أخرجه مسلم].
الإمام المازري قال: اليد هنا بمعنى: القبول.
يعني: ليست هي اليد الحقيقية، وإنما اليد بالنسبة للمولى عز وجل بمعنى قبول توبة العبد إذا تاب إلى الله عز وجل.
إذاً: يكون التقدير هكذا: إن الله تعالى يقبل توبة عبده الذي عصى بالنهار إذا تاب في الليل، ويقبل توبة عبده بالليل إذا عصى في النهار.
وهذا كلام لا يستقيم مع معتقد أهل السنة والجماعة في اليد، فاليد هي اليد الحقيقية لله عز وجل التي تثبت على الوجه الأكمل اللائق به تبارك وتعالى، ولو قلنا: إن اليد عبارة عن قبول التوبة، أو أن اليد هي النعمة أو هي القدرة، فلابد أن يكون هذا الحديث في نهاية الأمر لا معنى له.
والإمام النووي عليه رحمة الله ينقل عن المازري، لم يكن ضليعاً في مسائل الاعتقاد.
لا أقول: إنه أشعري وإن كان يتبنى مذهب الأشاعرة في بعض الأحيان، وليس حال الإمام النووي بأحسن من حال ابن الجوزي، فكلاهما مضطرب في أمر الاعتقاد، خاصة في باب الصفات، فهما تارة ينافحان ويدافعان عن مذهب السلف بكل ما أوتيا، ويقولان: نؤمن بهذه الصفات ونمرها كما جاءت، ولا نخوض فيها بتأويل ولا تعطيل، بل نثبتها على الوجه اللائق بالله عز وجل، وتارة يقولان: لابد من تأويل هذه الصفة؛ لأن الأمر لا يستقيم في أذهانهم على المنهج الأول وهو منهج السلف.
وتارة نسمع أن مذهب السلف أسلم وأن مذهب الخلف أعلم وأحكم، وهذا الكلام في غاية الخطورة؛ لأنه يجعل من التأويل وصرف النصوص عن ظاهرها علماً أزيد وحكمة أوسع مما كان عليه السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام تعرض لصفة من الصفات بالتأويل، أو صرفها عن ظاهرها المعلوم لدى النطق بها وسماعها لدى أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، كما لم يثبت أن صاحباً من أصحاب رسول الله سأل عن معنى اليد أو العين أو الساق أو القدم لله عز وجل، وإنما آمنوا بها على حقيقتها اللائقة بالله عز وجل، وأمروها دون أن يخوضوا فيها؛ لعلمهم أن ذات الإله تختلف عن ذوات المخلوقين، فأثبتوا هذه الصفات لله على الوجه الذي يليق بذاته العلية تبارك وتعالى، فقال: (إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها).(26/8)
حديث: (أن لله وجهاً لو كشف عنه الحجاب لأحرقت سبحات وجهه كل شيء)
قال: [عن أبي موسى: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع كلمات: -يعني: قال أربع كلمات- فقال: إن الله لا ينام، ولا يبنغي له أن ينام)].
لأن النوم صفة نقص وهي تليق بالمخلوق لا تليق بالخالق، ولا يصح في الأذهان أن نقول: فماذا يحدث لو أنه نام لأن هذا طرح فاسد وباطل؛ إذ ذلك يستحيل في حق الله تبارك وتعالى؛ لأنه نقص، والنقص عليه محال، والنقص ثابت في حقنا، فالله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام.
قال: [(ويخفض القسط ويرفعه)] وهذه الثانية.
والقسط: هو الميزان.
ويرفعه.
أي: يجعل الميزان العام الذي توزن به أعمال العباد يوم القيامة تارة عليهم وتارة لهم.
يفعل ما يشاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
قال: [(ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار)].
يرفع إليه عمل الليل في وقت الفجر قبل أن تطلع الشمس، ويرفع إليه عمل النهار قبيل المغرب، أو في صلاة المغرب.
وقيل: في صلاة العصر.
والراجح: قبل دخول الليل.
قال: [(يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل)].
وقوله: (يرفع إليه) يدل على أن الله تبارك وتعالى في السماء؛ لأن الرفع لا يكون إلا إلى جهة العلو والفوقية.
ثم قال: [(حجابه النار أو النور)] أي: أن الله عز وجل جعل بينه وبين خلقه حجاباً، هذا الحجاب من نار أو من نور، على اختلاف في الروايات وكلاهما ثابت للمولى عز وجل.
قال: [(حجابه النار -أو النور- لو كشفه -أي: لو كشف هذا الحجاب- لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره أو ما انتهى إليه بصره من خلقه)].
يعني: لو أن الله عز وجل كشف هذا الحجاب بينه وبين خلقه في الدنيا لأحرق جميع المخلوقين؛ لأنهم لا يقوون على رؤية المولى تبارك وتعالى، ولو كانوا يقوون على ذلك لكان أولاهم بهذه القوة موسى عليه السلام، فقد طلب موسى أن يرى الله تبارك وتعالى جهرة؛ لأن اليهود طلبوا منه ذلك، {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]، فموسى حاك في نفسه ذلك فطلب من ربه أن يراه، ولكن الله عز وجل أخبره بعجزه ونقصه البشري وأنه لا يقوى على ذلك، وكذلك الخلق أجمعون، لو أن الله عز وجل كشف الحجاب الذي بينه وبينهم لاحترقوا جميعاً؛ لأنهم لا يقوون على هذا إلا بإذن الله تبارك وتعالى في دار الآخرة لا في دار الدنيا؛ ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنهم لما علموا يقيناً أنهم لا يقدرون على رؤية المولى عز وجل سألوا عن مدى وإمكانية رؤيتهم للمولى تبارك وتعالى في الآخرة.
قالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟).
لأنهم علموا أنهم لا يستطيعون رؤيته في الدنيا.
قالوا: إذا كان موسى عجز عن ذلك، فهل نرى ربنا يوم القيامة؟ (قال النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيتم القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا غمام، ورأيتم الشمس في رابعة النهار لا يحول بينكم وبينها غيم ولا غمام؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه ضيم).
أي: أنكم لا تضامون، لا يحصل لكم ضيم ولا غيم ولا شك في رؤية المولى تبارك وتعالى في دار الآخرة، وأن الله تبارك وتعالى يحجب نفسه العلية وذاته العلية عن الكافرين، ويمكن المؤمنين من رؤيته تبارك وتعالى.
وهذا يثبت أن الرؤية مستحيلة في حق المخلوقات في الدنيا، وأنها ثابتة في الآخرة على خلاف ما ذهب إليه المعتزلة من أن الرؤية مستحيلة في الدنيا والآخرة، وهم بذلك كأنهم كذبوا القرآن الكريم.(26/9)
حديث أن لله رداء كبرياء على وجهه
قال: [عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنات الفردوس ثنتان، من ذهب حليهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليهما وآنيتهما وما فيهما، ليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)].
ليس بين من دخل الجنة وبين الله عز وجل إلا ذلك الرداء وذلك الحجاب وهو كبرياؤه تبارك وتعالى.
قال: (وهي -أي: هذه الأنهار- تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدع بعد الأنهار).
أي: أن هذه الجنات كأنها تنزف نزيفاً عظيماً، وتسيل سيلاناً عظيماً، ثم تنشأ الأنهار من تلك الجنات الأربع.(26/10)
حديث أن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى).
واليمين بمعنى: يده اليمنى.
قال: [(يمين الله ملأى لا يغيضها شيء)] أي: لا ينقصها شيء مهما أنفق، لا ينقص مما في يمينه شيء.
قال: [(سحاء الليل والنهار)] سحاء تفيد: شدة العطاء وكثرته.
أي: يعطي بقوة وسرعة.
وهذا يدل على شدة عطاء المولى تبارك وتعالى بالليل والنهار لعباده.
قال: [(أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض)].
أرأيتم ما أنفق الله عز وجل منذ أن خلق السماوات والأرض؟ فبسبب هذا الإنفاق الكثير لابد أن تفنى تلك الخزائن، لكن هذا لا يكون إلا في قياس المخلوقين، أما في قياس الخالق فلا؛ لأن خزائن الله عز وجل تختلف عن خزائن البشر، فالبشر مهما بلغت خزائنهم لابد أنها تفنى، أما خزائن المولى تبارك وتعالى فمهما أنفق منها عز وجل فإنها لا تتأثر إلا كما يتأثر البحر إذا أدخل فيه المخيط.
يعني: تصور أنك تأتي بإبرة وتدخلها في البحر، ثم تخرج هذه الإبرة مرة أخرى.
ما الذي تعلق بها؟ لا أقول: نقطة ماء، بل نقيطة ماء.
فهل هذه النقطة ومهما عظمت هل تؤثر في ماء البحر؟ أو هل تؤثر في وزن البحر، أو في حجم الخير الذي في البحر؟ أبداً.
فمهما أنفق المولى تبارك وتعالى، وسحت يده بالليل والنهار فإن ذلك لا ينقص من خزائنه شيء إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر، وهذا يدل على أنه لا تنقص هذه الخزائن أي نفقه ينفقها المولى عز وجل، وخزائنه بيده ينفق منها كيف يشاء.
قال: [(أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينفق ما في يمينه)] أي: لا يزال الخير الذي وضعه في يمينه رغم أن هذا الخير يغط فيه الخلق أجمعين من بني آدم وطير وحيوان وحشرات وغيرها، فإن الخزائن لا تزال موجودة بتمامها وكمالها في يمين المولى تبارك وتعالى.
قال: [عن عبد الله بن عمرو ويبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور -والمقسط هو العادل- عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين)] هذا أمر في غاية الإعجاز.
هذا أمر يجعل المرء يحار، ولابد في النهاية أن يسلم المرء بأن ذات الله وصفاته تختلف عن ذوات المخلوقين وصفات المخلوقين.
كيف تكون يداه الاثنتان يميناً، ومعلوم أن اليمين دائماً تكون أقوى في المخلوقين من الشمال؟ نقول: ليس علينا معرفة الكيفية، ولا يعرفها أحد من المخلوقين، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ ولذلك فإن الأدلة التي وردت بأن لله عز وجل يداً شمالاً كما قال: (ويطوي السماوات بيمينه ويقبض الأرضين بشماله) هذه الرواية وإن كانت في مسلم إلا أنها شاذة؛ لأنها من رواية عمر بن حمزة، وعمر ضعيف.
وأما مسلم فقد احتج به لتوثيق عمر عنده، مع أن جميع النقاد على أن عمر بن حمزة ضعيف، وعيب على مسلم إخراجه لحديث عمر بن حمزة، سواء هذا الحديث أو غيره.
فالرواية في مسلم لا تأخذ الحصانة إذا كانت في جنب الله عز وجل، وقد أعرض البخاري عن هذه الرواية، بل اتفق معه مسلم على أن (كلتا يدي الرحمن يمين).
فهذه الرواية هي المتفق عليها، والرواية الثانية وإن أتت من ثلاث طرق إلا أنها من طريق عمر بن حمزة وهو ضعيف، وجاءت من طريقين كل منهما في إسناده رجل متروك، فالرواية شاذة غاية الشذوذ، بل منكرة غاية النكارة؛ لأن الحديث المنكر: هو مخالفة الضعيف للثقة.
بخلاف الحديث الشاذ فإنه مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، أو لمجموع الثقات، فهذا الحديث في غاية النكارة، وقد ثبت لله عز وجل كما اتفق على ذلك البخاري ومسلم أن كلتا يديه يمين.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا).
أخرجه البخاري ومسلم].(26/11)
حديث: (وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض)
قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار.
وقال لنا: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه -أي: لم ينقص ما في يمينه- وعشره منه ملأى، وبيده الأخرى الميزان يرفع ويخفض)].
أي: يرفع به ويخفض به.
فهذا يدل على أن لله تبارك وتعالى يدين: اليمين واليد الأخرى، والأخرى ليست شمالاً كما فهم الخلف، وإنما هي يمين كذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وكلتا يديه يمين).(26/12)
أحاديث أن الله يقبض الأرض ويطوي السماوات يوم القيامة
قال: [أن عبد الله بن عمر أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه.
يقول: أنا الملك)].
وقال: [(يقبض الله الأرض بشماله، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك)].
هذه رواية شاذة، هذه الرواية الثالثة، وأنا أحذر منها كل الحذر؛ لأنها وردت في صفات الله تبارك وتعالى وفيما يتعلق بالذات العلية؛ ولذلك ينبغي الحذر والتحذير منها، وهي رواية ضعيفة، وكل الروايات التي وردت في إثبات أن الله تعالى له يسار أو شمال ضعيفة جداً، وإذا أراد أحدكم أن يحقق في هذه القضية فليفعل.
[عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله السماوات فيقبضها، ويقبض الأخرى بيده ويقول: أنا الملك.
أين الملوك؟ أنا الجبار.
أين الجبارون؟)].(26/13)
حديثا أبي هريرة في قبض الصدقة وقبوله سبحانه لها بيمينه
قال: [عن أبي هريرة -ولا أراه مرفوعاً- قال: (إن الله تعالى يقبض الصدقة ولا يقبل منها إلا طيباً، ويقبلها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه -والفلو: هو المهر أو ولد الناقة- حتى يجعلها أعظم من أحد).
وقال أبو هريرة: في كتاب الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]-يعني: يربيها وينميها ويزيدها- ثم تلا: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104] إلى آخر الآية].(26/14)
حديث صدقة الرجل تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل
قال: [عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما تصدق رجل بصدقة إلا وقعت في يد الرب قبل أن تقع في يد السائل].
هذا نص أيضاً أثبت أن لله تعالى يداً.
قال: [وهو يضعها في يد السائل، ثم قرأ: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104]].
إذاً: من الذي يأخذ الصدقات؟ الله عز وجل.(26/15)
إثبات أن لله أصابع
قال: [عن عبد الله قال: (جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع)] انتبه! هذا حديث يثبت صفة أخرى للمولى عز وجل وهي صفة الأصابع.
قال: [(إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى -التراب- على إصبع، وذكر كلمة كلها على إصبع -يعني: ذكر مخلوقات أخرى على إصبع الرحمن- ثم يهزهن المولى تبارك وتعالى، ثم يقول: أنا الملك أنا الملك.
فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه تعجباً مما قال الحبر تصديقاً له)] فالحجة ليست في خبر الحبر، وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام.
[ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ({وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67])]، يعني: مع علم اليهود بذلك إلا أنهم لم يقدروا الله تعالى حق قدره، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه من الحق الذي سمعه من ذلك الحبر، ولكنه عاب على اليهود أنهم ما قدروا الله حق قدره.
قال: [أخرجه البخاري ومسلم].
قال: عن عبد الله قال: (جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم! أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع؟ فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه، فأنزل الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] إلى آخر الآية).
واللفظ لـ أحمد، أخرجه مسلم من هذا الطريق والبخاري من حديث الأعمش].
[عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء)؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك)].
وذلك لأنها بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء.
فقلوب العباد جميعاً كقلب رجل واحد في يد الله عز وجل؛ لأنه قال: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد).
يعني: كأن الله جمع القلوب جميعاً فجعلها في قلب واحد، وجعل هذا القلب بين أصبعيه يصرفه ويقلبه كيف شاء إلى الطاعة إلى المعصية إلى الجنة إلى النار إلى الحب إلى البغض وغير ذلك مما يشاء تبارك وتعالى، ويفعل ذلك لحكمة عظيمة لا يعلمها إلا هو.(26/16)
وقفات مع حديث: (خلق الله آدم على صورته)
قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته)]، يا ترى! الضمير في قوله: (صورته) يعود على الله عز وجل، أم على آدم، أم على المضروب؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديثه: (إذا ضربت فلا تقبح ولا تضرب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته).
ولذلك يقول بعض أهل العلم: الضمير في صورته يعود على الله عز وجل اعتماداً واتكالاً على حديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وهذه الرواية صريحة.
ثم يقولون: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: على هيئته التي خلقه عليها يوم خلقه.
فالضمير يعود على آدم.
وهناك تأويل ثالث: (إن الله خلق آدم على صورته) أي: على صورة ذلك المضروب.
(فلا تقبح)؛ لأنك لو قبحته كأنك قبحت وجه أبيك آدم، ولكن الكلام عن حديث الصورة سنخصص له محاضرة كاملة.
قال: [(خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك، فإنه تحيتك وتحية ذريتك.
قال: فذهب فقال: السلام عليكم.
فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله.
قال: فزادوا: رحمة الله.
قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً)].
يعني: كل الذين يدخلون الجنة يكونون على صورة آدم، طوله في السماء ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
يعني: الله تبارك وتعالى لما خلق آدم خلقه وطوله في السماء حوالي (45) متراً، تصور أنك ستدخل الجنة وطولك (45) متراً، طبعاً أنت تنتظر هذا اليوم، ولن تدخل الجنة من أجل أن تنظر صورتك وأنت طويل هكذا! وقد وردت بعض الآثار أنهم يدخلون في عمر متوسط (33) عاماً، فعمر سيدنا عيسى عليه السلام (33) عاماً، وفي الحقيقة هذه أمور كلها وإن جاز في العقل تصورها إلا أننا نقول: نؤمن بها كما جاءت.
قال: [عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه)] يعني: إذا ضرب، من المقاتلة والمفاعلة.
أي: وقع شجار.
[قال: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)].
الضمير يعود على المضروب.
وفي حديث: [(إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه لا يقولون: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)].
وعن ابن عمر مرفوعاً: [(لا تقبح الوجه؛ فإن الله تعالى خلق آدم على صورته)].(26/17)
إثبات أن لله عينين
قال: [حدثني قتادة، قال سمعت أنساً يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا أنذر الدجال أمته، ألا إنه الأعور الكذاب)].
ما هي علامته؟ قال: (ألا إنه الأعور الدجال) ومعنى الأعور: يرى بعين وعين أخرى فاسدة كأنها عنبة طافية.
قال: [(وإن ربكم ليس بأعور)].
وهذا يدل على أن صاحب العين الواحدة أعور، وأن الله تبارك وتعالى ليس بأعور.
إذاً: هذا يثبت لله تبارك وتعالى عينين.
قال: [(مكتوب بين عينيه -أي: المسيح الدجال -: كافر، يقرؤه كل مؤمن)] حتى وإن لم يكن قارئاً، أي: حتى الذي لا يحسن القراءة والكتابة سيقرأ كلمة كافر على جبهة المسيح الدجال، فأين العذر بعد ذلك؟ فأنت تعرف أنه كافر، وأنه المسيح الدجال فلماذا تتبعه؟(26/18)
إثبات أن لله قدماً أو رجلاً
قال: [عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد)] أي: الخلق والبعث الذين بعثهم الله تبارك وتعالى يلقون في النار، وهي تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، كلما ألقي فيها فوج طلبت المزيد.
قال: [(حتى يضع عز وجل رجله أو قدمه فيها فتقول: قط قط)].
هذا فيه إثبات صفة القدم أو الرجل للمولى عز وجل، والحديث عند البخاري.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اختصمت الجنة والنار)].
يعني: احتجت الجنة والنار [(فقالت النار)].
وهل هناك نار تتكلم؟ نعم.
الذي خلقها قادر على أن ينطقها، النار تتكلم، والجنة تتكلم، كما أن الموت يوم القيامة يتكلم، والموت مخلوق كما تعلمون: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] فالموت مخلوق والحياة مخلوقة، وكل مخلوق لابد أن يموت، وفي الحديث: (وإن الله تعالى يجعل يوم القيامة الموت على صورة كبش حتى يؤتى به فيذبح).
يعني: الموت في نهاية الأمر يجعله الله في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار؛ لأن الموت آخر من يموت، فكل المخلوقات تموت على يد ملك الموت، حتى لا يبقى إلا ملك الموت، فيأمر المولى عز وجل الموت أن يميت ملك الموت، فإذا مات لا يبقى إلا الموت، فيصوره الله عز وجل ويخلقه في صورة كبش، فيقضي عليه بالموت فيموت فلا يبقى إلا الله عز وجل، وبعدها تقوم الساعة.
قال: [(اختصمت الجنة والنار، فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال الله عز وجل للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء وقال للجنة: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء، ولكل واحد منكم ملؤها -الجنة لها ملؤها والنار لها ملؤها- وإذا كان يوم القيامة لم يظلم الله أحداً من خلقه شيئاً ويلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الله قدمه فيها، فهناك تملأ، ويزوى بعضها إلى بعض -يعني: تنضم أركانها وأبعادها إلى بعض- وتقول: قط قط)] أي: كفى.
والحديث كذلك أخرجه مسلم.(26/19)
إثبات أن الله تعالى يضحك
قال: [عن أبي رزين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ضحك ربنا تبارك وتعالى من قنوط عباده وقرب غيره -وهذا فيه إثبات لصفة الضحك- قال: قلت: يا رسول الله! أويضحك الرب؟ قال: نعم.
لن نعدم من رب يضحك خيراً)] يعني: أملنا في الله عظيم، وهذا نص ضعيف من جهة الإسناد، لكن متنه تشهد له الرواية الثانية التي أخرجها البخاري، وهي من طريق أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(يضحك الله إلى رجلين قتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة.
قال: يقاتل هذا -الأول- في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيؤمن فيقاتل في سبيل الله فيستشهد)] فيدخل كذلك هو الجنة، فكلاهما يدخل الجنة.
يعني: كأنه مؤمن وكافر، فالمؤمن يقاتل في سبيل الله فيقتله الكافر، فيدخل المؤمن الجنة، ثم يسلم بعد ذلك الكافر فيقاتل في سبيل الله فيقتل فيدخل كذلك الجنة، فإن الله تعالى يضحك إلى رجلين على هذا النحو، وهذا فيه إثبات صفة الضحك.
وجاء [أن ابن عباس قال في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] قال: عن بلاء عظيم].
فعبر عن الساق بالبلاء العظيم والشدة والكرب.
وهذا التفسير من ابن عباس لم يوافقه عليه أحد من أصحابه، وأنتم تعلمون أن قول الصاحب حجة إذا لم يكن له مخالف، فإذا خالفه جميع الأصحاب فالحجة في قولهم.
كل الذي ذكرناه الآن من اليدين والعينين والقدم والساق والأصابع والصورة سنفرد لكل واحدة تباعاً في الدرس القادم بإذن الله محاضرة تامة كاملة، حتى نستوعب الأدلة التي وردت في كل صفة، وإذا كان هناك شبهة في بعض الأدلة أوضحناها بإذن الله تبارك تعالى اعتماداً واتكالاً على كلام أهل العلم عليهم رحمة الله.
قال: [عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:65]، قال عليه الصلاة والسلام: أعوذ بوجه الله)].
وهذا إثبات لصفة الوجه.
إن الإمام اللالكائي لم يرتب النصوص ترتيباً دقيقاً، فبعد أن يتكلم عن الوجه، يتكلم عن العين، ثم يتكلم عن الوجه مرة أخرى، ثم يتكلم عن اليد ثم عن الصورة ثم عن اليد مرة أخرى، والأصل أن يسرد كل النصوص الواردة في صفة تلو بعضها، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما أنه أراد أن يرتب بعد الجمع، فوافته المنية قبل أن يرتب، كما هو الشأن في كثير من أهل العلم، صنفوا كتباً وقبل أن يرتبوها وافتهم المنية، فبقيت كتبهم على هذا النحو، فهل يجوز لمن أتى بعدهم أن يرتبوها؟
الجواب
يجوز بشرط أن يُعلم أن هذا الترتيب من ترتيب فلان، كـ العلائي رتب كتاب ابن حبان على الأبواب الفقهية، فهو من حيث الكلم ومن حيث الأدلة والأسانيد من جمع ابن حبان، لكن لم يرتبه ابن حبان على هذا النحو الذي بين أيدينا، وإنما رتبه على نحو آخر، وترتيبه هذا كان فيه مشقة علينا حتى إن الحافظ ابن حجر قال: من أراد البحث في صحيح ابن حبان أضناه.
لأنك ممكن قد تجد حديثاً في الوضوء وهو في نفس الوقت موجود في الجنائز، أو موجود في الحدود، فكان صحيح ابن حبان كتاباً عظيماً جداً في بابه، إلا أنه لم يرتب، فلما رتب عظمت به المصلحة.(26/20)
مقتطفات من كلام السلف في إثبات صفات الله عز وجل
قال: [حدثني هشام بن عروة عن أبيه: جاءنا سائل فسأل بوجه الله.
قال: فقام الزبير فعلاه بالدرة -يعني: ضربه بالدرة- فقال: أبوجه الله تسأل؟ ألا سألت بوجه الخلق].
يعني: لو أنك سألت بوجه الخلق كان فيه فسحة، لكن كونك سألت بوجه الله إذاً: ألزمتنا بأن نعطيك.
وهذا يدل على أنهم يؤمنون بأن لله وجهاً.
قال أشعب: [دخلت على القاسم بن محمد في حائط له وكان يبغضني في الله وأحبه فيه].
انظروا إلى الصراحة، أشعب دخل على القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: وكنت أحبه في الله؛ لأن القاسم مستقيم، لكن أشعب كان فيه انحراف.
قال: وكنت أحبه في الله ويبغضني فيه، لكن بغض القاسم لـ أشعب لم يمنع أشعب أن يحبه في الله؛ وذلك لأنه على الاستقامة.
[فقال: ما أدخلك علي؟ اخرج عني.
قلت: أسألك بوجه الله لما جذذت لي عذقاً].
يعني: لو قطعت لي عنقوداً من العنب أو شيئاً من هذه الثمار، فإنني أسألك بوجه الله العظيم.
[قال: يا غلام! خذ له عذقاً فإنه سأل بمسألة لا يفلح من رده].
وهذا فيه إثبات الوجه لله عز وجل.
قال: [عن ابن عمر قال: احتجب من خلقه بأربع -أي: أن الله عز وجل احتجب من خلقه بأربع-: بنار وظلمة ونور -ولم يذكر الرابعة- وخلق أربعاً بيده: آدم والعرش والقلم وجنة عدن].
وأنتم تعلمون أنه تبارك وتعالى كتب التوراة بيده، فإما أن يقصد ابن عمر أن الله تعالى كتب التوراة بيده.
أي: حيث أمسك الله تبارك وتعالى القلم بيده فكتب التوراة، أو أنه كتب التوراة بيده كيف شاء، والذي يترجح إلي الثاني دون الأول.
قال: [(وقال لسائر خلقه: كن فكان)].
يعني: خلق الله تبارك وتعالى بيده أربعاً ثم قال لسائر خلقه: (كن) أمر، فكان.
[قال عبد الله: خلق الله أربعاً بيده: العرش وآدم والقلم وعدْن، وقال لسائر خلقه: كن فكان].
وهذا طبعاً يوافق قول عبد الله بن عمر.
وقال وكيع: [إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا].
لأن صفة الضحك صفة فعل، إذا شاء ضحك وإذا شاء لم يضحك، بخلاف صفة الذات، فالضحك ليست صفة ذات، وضحك المولى عز وجل ليس كضحكنا؛ لأننا لو قلنا بذلك لكان هذا يستلزم الفم والثغرين والأسنان على حسب حال الضحك من المخلوقات، فمنهم الذي يضحك فيبتسم في وقار، ومنهم الذي يضحك ويفتح فمه، فالمولى تبارك وتعالى لا يقاس بخلقه ولا يشبههم قط؛ بل نثبت له صفاته وأفعاله على الوجه اللائق به تبارك وتعالى.
قال: [إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا].
أي: أن الضحك لا يثبت إلا بالسمع، ولا يثبت بالعقل؛ لأننا لم نر الله عز وجل، وصفة الفعل تثبت بالعقل والسمع تارة، وتثبت بالسمع تارة، فصفة الضحك تثبت بالسمع؛ لأننا لم نره تبارك وتعالى.
قال: [نا بقية: قال لي الأوزاعي: يا أبا محمد! ما تقول في قوم يبغضون حديث نبيهم؟] يقصد حديث النبي عليه الصلاة والسلام المتعلق بالصفات.
[قال: قلت: قوم سوء].
الذين يبغضون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوم سوء.
[قال: ليس من صاحب بدعة تحدثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بخلاف بدعته إلا أبغض الحديث].
وهذه علامة من علامات أهل البدع، أنك ما حدثته بآية ولا بحديث يخالف بدعته وهواه إلا أبغض الآية وأبغض الحديث وإن لم يظهر ذلك عليه، وإن لم يصرح لغيره ببغضه الآية والحديث، فصاحب الهوى إذا حدثته بآية تخالف هواه أو بحديث يخالف هواه تحير وتكلف الرد على الآية والرد على الحديث؛ لأنه يقدم هواه على المفهوم والمنقول.
قال الفضل بن زياد: [سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة].
يعني: يجب الإيمان والتسليم المطلق لله عز وجل ولرسوله.
وقال مخلد بن الحسين: [قال الأوزاعي: يا أبا محمد! إذا بلغك عن رسول الله عليه الصلاة والسلام حديثاً فلا تظنن غيره].
أي: فلا تعتقد غيره.
[فإن محمداً عليه الصلاة والسلام كان مبلغاً عن ربه].
وإذا كان هو الذي يبلغ عن ربه فهو أعلم، وهذه البلاغات التي أبلغنا بها عليه الصلاة والسلام مصدرها الوحي، والله عز وجل أعلم بنفسه، يضحك، يغضب، يرضى، يسخط هو أعلم؛ لأنه يخبرنا عن نفسه التي لم نرها نحن تبارك وتعالى، فإذا كان الله عز وجل أثبت لنفسه الغضب فكيف أصرفه أنا، أو كيف لا أؤمن به؟ مع أن الذي أخبرني بهذا هو المولى تبارك وتعالى، فإذا أتاك الخبر عن الله وعن رسوله فآمن به ولا تعتقد غيره.
وقال بقية: [ثنا الأوزاعي قال: كان الزهري ومكحول يقولان: أمروا الأحاديث كما جاءت].(26/21)
الأسئلة(26/22)
اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الحياة الدنيا
السؤال
هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه؟
الجواب
هذه المسألة محل خلاف حتى بين السلف؛ ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: وهذه الفرعيات في الاعتقاد التي اختلف فيها السلف لا يبدع فيها المخالف.
كأنه أراد أن يقول: إن اختلاف السلف في بعض مسائل الاعتقاد من الأمور السائغة والمعتبرة، والذي يترجح لدينا: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه، وإنما رأى نوراً؛ لأنه لما سئل: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟) أي: حجبني النور عن المولى عز وجل، فكيف أراه مع وجود هذا الحجاب؟(26/23)
حكم دخول المرء الحمام وعلى رأسه رباط مكتوب عليه حديث نبوي أو آية
السؤال
ما حكم دخولي الحمام وعلى رأسي رباط مكتوب عليه حديث نبوي أو آية؟
الجواب
لا يجوز.(26/24)
حكم دخول المرء الخلاء وعلى جسده وشم مكتوب فيه ذكر
السؤال
ماذا تنصح من وشم على جسده: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وماذا يفعل عند دخول الخلاء؛ لأنه عجز عن إزالة هذا الوشم؟
الجواب
إذا كان عجز فلا شيء عليه.(26/25)
حكم الصلاة باستحمام لم يتضمن نية الوضوء
السؤال
يسأل كثير من الأشخاص عن جواز الصلاة بعد الاستحمام دون نية الوضوء عند الاغتسال؟
الجواب
لا يجوز له أن يصلي؛ لأننا لو قلنا بقول بعض أهل العلم أن رفع الحدث الأكبر يرفع معه الأصغر وإن لم يباشر غسل الأعضاء؛ فإنهم يلتزمون أن يكون ذلك الاغتسال بنية رفع الحدث الأكبر والأصغر، فإذا نوى رفع الحدثين فله أن يصلي بهذا الوضوء.
والذي يترجح لدي أن الترتيب كاد يكون واجباً من واجبات الوضوء، وأنا أعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام خالف الترتيب مرة، وهذه المخالفة ربما يكون لها تأويلات وصرف عن ظاهرها، ولو أخذنا بظاهرها لقلنا: إن الترتيب ليس واجباً، وإنما هو مستحب؛ لمداومة النبي عليه الصلاة والسلام عليه، وهو سنة مؤكدة من سنن الوضوء عنه عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فإن الذي لم يباشر الوضوء فقد خالف النبي عليه الصلاة والسلام في الاغتسال، فإنه كان يغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يصب الماء عن يمينه ثم عن شماله، ثم يعمم بدنه بالماء.
هذا صفة غسله، لكن لو افترضنا أنك دخلت في الماء بكليته دون هذا الترتيب وهذا الهدي فإن الجنابة ترتفع بالنية.
يعني: إذا نوى رفع الجنابة ارتفعت بذلك، وكذلك إذا نوى رفع الحدثين أو رفع الجنابة وحدوث الوضوء كما نوى أن يصلي، وإذا لم ينو لا هذا ولا ذاك فإن الجنابة لا ترتفع.
يعني: إذا أجنب رجل ودخل في الماء لا بنية رفع الجنابة، وإنما بنية التبرد فقط فإنه لا ترتفع الجنابة حتى وإن اغتسل، ومن باب أولى لا تصح صلاته بهذا الاستحمام، والله أعلم.(26/26)
حكم أداء الصلوات أو أغلبها في البيت
السؤال
يقول: إن لي أباً يصلي الصلوات أغلبها في البيت، وأنصحه مرة بعد أخرى، ولكنه يستمر في ذلك، فهل علي وزر إن تركت نصيحته في بعض الأحيان، فإنه يترك الصلاة في المسجد مع قدرته؟
الجواب
على أية حال هذا أمر يهون كثيراً عمن ترك الصلاة بالكلية، فإن الذي نعتقد من خلال الأدلة الواردة في الجماعة أن الجماعة سنة مؤكدة، وأذهب إلى عدم الوجوب، ولكن ليس معنى أن الجماعة سنة مؤكدة: أن يتركها المرء، فإن الجمهور الذين قالوا بأن الجماعة سنة مؤكدة لم يثبت أنهم تركوها مرة، ولكن من حيث ترتيب الحكم الشرعي هي ليست واجبة.
وهذه المسألة نحن ذكرناها هنا في محاضرة كاملة لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات، وذكرنا فيها أربعة مذاهب لأهل العلم، وترجح لدينا في ذلك الوقت ما لم يكن راجحاً لدينا في قلوبنا؛ لأننا رجحنا في المحاضرة الوجوب.
قلنا: إن الذي يترجح لدينا هو الوجوب؛ لما نرى من تفريط الناس وتفريط الإخوة في حضور الجماعة.
فكل يرجح من باب المصلحة هذا الحكم، مع أن الذي كان يستقر في نفسي أنه ليس براجح، لكن دعت المصلحة الشرعية للمستمعين أن ألقيها بين ظهرانيهم وأنها واجبة.
فلذلك لما اضطررت إلى ذكر ما أعتقد في القضية صراحة قلت: هي سنة مؤكدة.
ولما سمعها مني من سمع تخلف عن الجماعة على اعتبار أنها سنة، ولا يأثم بتركها، وأنا في الحقيقة لم أندم على تصريحي بأنها سنة مؤكدة؛ لأن الذي يريد أن يفوت عن نفسه الخير لا تأس عليه ولا تحزن؛ لأن الخير بيد المرء أن يأخذ سبعاً وعشرين درجة في كل صلاة، ما بين الدرجة والدرجة مسيرة خمسمائة عام في الجنة.
فالذي يريد أن يفوت هذا الخير على نفسه فأنا على يقين من أنه لن يفوت جنيهاً إذا دعي في الميكرفون: إن الإمام يوزع جنيهاً لكل من أتى المسجد، فأنا أؤكد أن النصارى سيأتون إلى الصلاة.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولو دعي إلى مرماتين عظيمتين لأتاهما ولو حبواً).
يعني: لو نادى المنادي: إننا سنوزع عظماً ليس لحماً، فإنك ستجد النساء والأطفال والرجال كلهم قد أتوا إلى المسجد، كل طوائف المجتمع جاءت المسجد من أجل أن تأخذ العظم! فما بالهم لا يفقهون أن صلاة الجماعة لها ثواب ودرجات في الجنة؟! لكن سبحان الله! لا يعقل هذا الفضل إلا العالمون، ويغفل عنه الغافلون، بل إن الله تبارك وتعالى يطمس على قلوبهم فلا يعقلون هذا الفضل؛ لأنهم لا يستحقونه، أما من تخلف عن الجماعة بعذر فلا شيء عليه، ومتى صلى فصلاته صحيحة.(26/27)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة النفس لله عز وجل
من سمات أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله من الأسماء والصفات، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله، ومن تلك الصفات التي أثبتوها صفة النفس لله تعالى، وقد اختلف السلف والأئمة من أهل السنة في كونها صفة للذات الإلهية، أم أنها دلالة على الذات الإلهية، وكذلك اختلفوا في النَفَس فبعضهم جعله صفة، وبعضهم حمله على التنفيس، ولكل قول منها ما يعضده من الأدلة.(27/1)
أدلة إثبات صفة النفس لله تعالى
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فإن العقيدة هي أهم شيء في حياة المسلم، وأهم شيء في العقيدة هو أن تعتقد في ذات الإله تبارك وتعالى ما يجب له وما يستحيل عليه، وما يستحيل عليه هو ما لا يجوز نسبته إلى الله عز وجل، وهي جميع صفات النقص.
وما يجب إثباته لله عز وجل هو جميع صفات الكمال التي أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى، وأثبتها له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومما أثبته الله تبارك وتعالى لنفسه وأثبته له رسوله الكريم: (صفة النفس).
و
السؤال
هل لله نفس؟
الجواب
نعم.
لله نفس؛ لأن هذه الصفة ثبتت في الكتاب وثبتت في السنة الصحيحة، فإذا ثبتت في الكتاب فلابد وأن نسلم؛ لأن الله تعالى أعلم بنفسه من غيره، وإذا جاءت على لسان رسوله، فلابد وأن نقر بأن النبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الخلق بربه، وأن نسلم له حتى وإن لم يكن ما قاله يتناسب مع عقولنا؛ لأن الله تبارك وتعالى فوق حد العقول، ولا يمكن لعقل أن يحيط بالله عز وجل؛ لا بأسمائه ولا صفاته ولا ذاته.
فإذا كان عقلك يستجيز أن ذات الله تبارك وتعالى لا يمكن الإحاطة بها، فلم تقول: إنه لا يعقل أن يكون لله نفس أو يد أو عين أو ساق؟ لم تستبعد هذا وتستقرب ذاك والجميع واحد، والكلام في صفة النفس كالكلام في بقية الصفات؟ صفة النفس جاء ذكرها في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].
وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
وقال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41].
فهذه ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل -ويوجد غيرها- تثبت أن الله تبارك وتعالى نفساً.
والنفس بإسكان الفاء؛ لأن لله تبارك وتعالى نفس بتحريك الفاء، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في ثنائه على الله عز وجل: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
فأثبت الحديث أن لله تعالى نفساً.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة وهو قطعة من حديث طويل قدسي: (قال الله عز وجل: وإذا ذكرني -أي: عبدي- في نفسه ذكرته في نفسي).
وبهذه الأدلة يجب علينا أن نثبت أن لله تعالى نفساً.
وبعض أهل العلم ادعى المشاكلة في الآية الكريمة: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] فقالوا: سبب المشاكلة أن الله تبارك وتعالى عبر بما هو في معقول العباد، وما هو في مفهومهم حتى يقرب إليهم المعنى، وليست النفس هنا حقيقة، ولكن الله عبر بشيء يعلمه المخاطب، وهذا باب المشاكلة أو المقابلة.
يعني: ذكر النفس في مقابل النفس، ولكن النفس في البشر حقيقة، كما قال عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة:116]، ونفس البشر معلومة، والله تبارك وتعالى منزه عن النفس.
لماذا تنزهون الله تبارك وتعالى عما أثبته هو لنفسه، وما أثبته له رسوله؟ أأنتم أعلم أم الله؟ أأنتم أعلم أم النبي عليه الصلاة والسلام؟ هذه دعوى غير واردة بل باطلة؛ لأن النصوص الأخرى كلها وردت دون مقابلة أو مشاكلة.
أيضاً: ذكرت النفس في هذه الآية: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116].
هو من كلام عيسى عليه السلام، والله تبارك وتعالى إنما تكلم بهذا الكلام على لسان عيسى؛ فأين المشاكلة وأين المقابلة؟ أيضاً: أن الله تبارك وتعالى يعلم السر وأخفى، فإذا كلمه عبد من عباده أو نبي من أنبيائه أو رسول من رسله فإنه يعلم ذلك حتى قبل أن يتكلم، فلا مشاكلة هنا ولا داعي للمقابلة.
كذلك لو سلمنا جدلاً بأن الله تبارك وتعالى ساق هذا على سبيل المشاكلة والمقابلة -وهي دعوى عريضة لا دليل عليها- فهل ذكر النفس في الأدلة الأخرى والأحاديث الصحيحة الثابتة أيضاً جاء على سبيل المشاكلة والمقابلة؟
الجواب
لا.
لأنه تعالى قال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41].
أين المشاكلة هنا وأين المقابلة؟ والمقابلة: هي ذكر النص في مقابل نص، فقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} لم تذكر فيه إلا نفس واحدة وهي نفس الله تبارك وتعالى، فلابد من إثبات النفس لله عز وجل، وليس هناك ما يدعو إلى التأويل أو التحريف؛ إذ شأن النفس كشأن الصفات الخبرية الذاتية الكثيرة التي تعرضنا لمعظمها وسنتعرض لباقيها إن شاء الله تعالى.(27/2)
خلاف أهل السنة في النفس هل هي الذات أم صفة للذات
أهل السنة والجماعة يثبتون النفس لله تعالى، ولكن بعض أهل السنة قالوا: النفس هي الذات، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وإن كان هذا يعد تأويلاً، إما أن تثبت أن الله تبارك وتعالى ذات له نفس، وإما أن تثبت أن النفس هي بذاتها ذات المولى تبارك وتعالى، فيكون الله تبارك وتعالى ذات بلا نفس، أو نفس الله عز وجل هي ذاته المتصفة بالصفات ومنها صفة النفس.
يعني: أمامك تأويلات ثلاثة: إما أن الله تعالى ذات بلا نفس.
وهذا كلام باطل، وهو كلام المتأولة.
وإما أن الله تعالى له نفس زائدة على الذات.
بمعنى أنها صفة لازمة للذات، فيكون المولى تبارك وتعالى ذاته متصفة بالصفات، وهذا لا بأس به، بل هو أرجح الأقوال في القضية.
والذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية: أن النفس هي ذات الإله تبارك وتعالى.
وهنا إشكال: ماذا يقصد ابن تيمية بهذا الترجيح؟ هل يقصد أن النفس هي ذات الإله الذي لم يتصف بأن له نفس، أو أنها ذات الإله المتصف بالصفات ولها النفس؟ الظن أن ابن تيمية عليه رحمة الله مال إلى تفسير النفس بأنها الذات المتصفة بالصفات ومنها صفة النفس، وهذا من باب إحسان الظن بكبير وشيخ أهل السنة في زمانه.
أما أهل السنة فإنهم يثبتون صفة النفس لله تعالى، ونفسه هي ذاته عز وجل، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، فقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
والدليل من السنة: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي).
وحديث عائشة رضي الله عنها: (وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
وحديث أبي هريرة: (فإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفس الله: (ونفسه هي ذاته المقدسة).
والذي يترجح لدي أنه تأويل.
وقال أيضاً في الفتاوى: (ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه).
يعني: تقول: نفس محمد.
لو أنك قلت: أنا كلمت محمد، أقول لك: هل كلمته نفسه؟ تقول: نعم.
كلمته نفسه.
يعني: تقصد ذاته.
ففي لغة العرب النفس والذات بمعنى واحد، وهذا الذي حدا بكثير من أهل العلم من السلف أن يقولوا: إن نفس الله تعالى هي ذاته، كما يقال: رأيت زيداً نفسه وعينه، وقد قال الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}، وقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}.
وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}.
وفي الحديث أنه قال لأم المؤمنين: (لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزن بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته).
وفي الحديث القدسي: (وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).
فهذه المواضع المراد بها عند جمهور العلماء: الله نفسه.
يعني: يفسرون النفس بأنها ذات الإله، ولكني كنت قد نبهت على قاعدة عند سلفنا رضي الله تعالى عنهم: (أنهم يثبتون الصفة ولازمها)، ولكن كلماتهم أحياناً تطلق على الصفة ويراد بها الصفة واللازم، وأحياناً يطلقون اللازم ويريدون إيجاد الصفة قبل اللازم، فأظن أن شيخ الإسلام ابن تيمية إنما عنى بأن النفس هي الذات -أي: المتصفة بالصفات- ومنها صفة النفس.
قال: (فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس عند جمهور العلماء: ((اللَّهُ نَفْسَهُ)) التي هي ذاته المتصفة بصفاته).
جمهور العلماء يطلقون النفس على الذات، ويقولون: النفس والذات بمعنى واحد، ولكنها النفس التي هي ذاته المتصفة بصفاته، وليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات.
يعني: ذات الله تبارك وتعالى متصفة بصفات لازمة لهذه الذات لا تنفك عنه، وهي المراد بها صفة للذات.
وهذا الكلام هو الذي أتحرج منه أشد التحرج.
قال: (ولا المراد بها صفة للذات، بل هي صفة للذات، وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، هذه الطائفة هي التي على الحق المبين؛ أن النفس صفة لله تبارك وتعالى، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة)، لا.
أي: أن ذات الله تبارك وتعالى غير متصفة بأي صفة، مجردة عن الصفات وكلا القولين خطأ، بل أقول: إن أحد هذين القولين صواب والثاني خطأ.
قال الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}.
وقوله جل ذكره: ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)).
وقال القاسمي في التفسير: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: ذاته المقدسة.
يذهب في هذا المذهب إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية.(27/3)
نقض مذهب المبتدعة في الصفات وبيان مذهب السلف في الإثبات والنفي
أيضاً: من السلف من يعد النفس صفة لله عز وجل.
وهذا هو الذي يترجح لدي، ومنهم الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد حيث قال في أوله: (فأول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه).
يعني: أول صفة ذكرها إمام الأئمة في كتاب التوحيد هي صفة النفس لله عز وجل.
ثم قال: (جل ربنا عن أن تكون نفسه كنفس خلقه، وعز أن يكون عدماً لا نفس له).
يريد أن يقول: نثبت له الصفات بغير تمثيل، وننزهه بغير تعطيل، وهذا هو منهج السلف: إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل.
كيف ذلك؟ أنا أعلم من نفسي أن لي نفساً، وأعلم أن هذه النفس قد اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: هي الروح.
ومنهم من قال: هي الدم.
ومنهم من قال: هي النفس الذي يتنفسه المرء.
وغير ذلك مما يقع في أودية الحد والتعريف لنفس الإنسان.
أنا أثبت لنفسي النفس؛ لأن الله تبارك وتعالى جبلني وخلقني عليها، وأثبت لله عز وجل النفس، ولكنها نفس تختلف عن نفسي.
لماذا؟ لأن ذات الله تختلف عن ذاتي، ولما كانت النفس من صفات الله عز وجل، والذات غيب عني، وأنا لا أعلم كنه الذات ولا كيفية الذات، فلابد وأنني سأسكت عن الخوض في الصفات؛ لأن الذات إذا كانت علية جليلة سامية فلابد وأن الصفات تابعة لها، ومنها صفة النفس، فإن الله تعالى له نفس، ولابد وأنها تختلف عن نفسي.
كيف هي؟ الله أعلم بنفسه.
ولا نعطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته، فنقول: لا نفس له.
لأن هذا نفي لما أثبته الله تعالى في كتابه، وما أثبته له رسوله في سنته.
فلو قلت: إن لله نفساً كنفسي، جعلت الله تبارك وتعالى كخلقه.
وهذا حرام.
وإذا قلت: إنه ليس هناك نفس لله، سلبت الذات العلية الإلهية صفاتها التي أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه، وهو أعلم بنفسه، ورسوله أعلم به.
فحيث أردت إثبات ما أثبته الله لنفسه احذر من الوقوع في أن أقول: إن له نفساً كنفسي.
لأن هذا تمثيل وهو حرام.
وإذا أردت أن أنزه الله عز وجل فلا أنزهه على مذهب المعطلة النفاة الذين ذهبوا بزعمهم إلى تنزيه الإله، فقالوا: ذات بلا صفات.
لماذا؟ قالوا: لأن إثبات هذه الصفات يستلزم المشابهة.
ففروا من التمثيل والمشابهة فوقعوا في التعطيل، وكلاهما شر.
أما مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته فوسط بين الممثلة وبين المعطلة، فقد أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه، ولم يخوضوا في معرفة كيفيته، بل أثبتوه على الوجه الذي يليق بعظمة الله تبارك وتعالى وجلاله وكماله.
وهم يقولون: له نفس، ولكن نحن لا نعلم كيفيتها؛ لأن الذات غيب عنا، ولا نعلم كيفية الذات، وإذا كنا لا نعلم كيفية الذات، فلن نعلم كيفية الصفات.
ولكن انظر مرة ثانية إلى كلام ابن خزيمة عليه رحمة الله حيث يقول: (فأول ما نبدأ به من ذكر صفات خالقنا جل وعلا في كتابنا هذا: ذكر نفسه، جل ربنا عن أن تكون نفسه كنفس خلقه -رد للتشبيه والتمثيل- وعز ربنا أن يكون عدماً لا نفس له).
وهذا رد على المعطلة النفاة.
واعلم أن هناك بعض الحانقين الحاسدين في زمن ابن خزيمة سموا كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة: كتاب الشرك، مع أنه ينضح توحيداً على مذهب السلف.
ابن خزيمة عليه رحمة الله ذكر الذهبي في ترجمته أنه كان ممن يخضب.
وهذا ربما يقال بأنه لا يحتاج إلى ذكر، والواقع غير هذا؛ لأن في ترجمة أي راوٍ من الرواة عندما يذكر مثل ذلك الذي يُرى أنه لا قيمة له، كان لذكره سبب، وقيمته كامنة في اتباع ذلك الراوي لهدي النبي عليه الصلاة والسلام ومنابذته في هذا الهدي لليهود والنصارى وغيرهم، ولذلك ابن خزيمة لما تكلم بهذا الكلام، لابد وأنه يرد به على بقية الفرق الضالة عن سواء السبيل، واختلفوا في دينهم، حتى اختلفوا في ذات الإله تبارك وتعالى.
وللشيخ الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله كتاب اسمه: (كيد الشيطان لنفسه قبل خلق آدم عليه السلام وذكر الفرق الضالة)، يذكر فيه كيف طرأ الفساد على هذه الأمة المباركة، ويذكر تسلسلاً لا تكاد تشبع منه حتى تقرأ الكتاب مرات ومرات، يشنع فيه على اليهود تارة وعلى المجوس تارة وعلى النصارى أخرى، ثم يشنع أيما تشنيع على الفرق الضالة الذين انتسبوا للإسلام واختلفوا فيه.
ومما قاله: (ونهى النبي عليه الصلاة والسلام عن التشبه باليهود والنصارى، فإن النصارى اختلفوا في ربهم وفي إلههم، فلو سألتهم عن ربهم لكان للرجل رأي، وللمرأة رأي، وللأولاد آراء، وللخادم عندهم رأي حتى أنك تطرح عليهم المسألة وهم عشرة فتخرج منهم بإحدى عشر رأياً).
اختلاف عظيم جداً في ربهم، ولكن الدليل على أن أهل السنة والجماعة هم أعلم الناس بالله عز وجل، وأنهم أهل الإيمان الحقيقي: أنهم لم يختلفوا في ربهم، لا في ذاته ولا أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله، كلامهم واحد.
ولو أخذت هذا الكلام لـ ابن خزيمة عليه رحمة الله وعرضته على كلام أحمد لوجدته يتطابق تمام المطابقة معه، ومع كلام السلف كلهم، وك(27/4)
تأويلات النفس
الشيخ مرعي الكرمي له كتاب: (أقاويل الثقات) وقد أصل لنفسه أصولاً وقعد قواعد ينبغي أن يخالف فيها، من هذه القواعد: أنه عد آيات صفات لله عز وجل من المتشابهات، وليس الأمر كذلك، والمحكم والمتشابه في صفات الله تبارك وتعالى له محاضرة خاصة.
قال: (ومن المتشابه: النفس).
وليس الأمر كما يقول.
بل هي من المحكمات، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقوله عز وجل: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).
قال أهل التأويل كما ذكر ذلك البيهقي -وهو أشعري المعتقد- النفس في كلام العرب على وجوه.
يعني: عند إطلاق كلمة النفس في كلام العرب لها معاني.
قال: نفس متفرقة مجسمة مروحة -لها روح- ومنها مجسمة غير مروحة، تعالى الله عن هذين.
وهو يريد أن ينزه الله تبارك وتعالى عن هاتين النفسين.
قال: ونفس بمعنى إثبات الذات.
يعني: نفس بمعنى الذات، وعليه فيقال في الله سبحانه: إنه نفس.
يعني: فسر النفس بالذات، لا أن له نفساً منفوسة أو جسماً مروحاً، وقد قيل في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116].
أي: تعلم ما أخفيه في نفسي ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك، ففسر النفس بالعلم، وهذا تأويل آخر: أن النفس تفسر بالعلم.
وهذا كلام بعيد جداً؛ لأن العلم من لوازم النفس وليس هو النفس نفسها.
وقوله: (فِي نَفْسِكَ) للمشاكلة.
وقد قلنا: إن هذا الكلام مردود؛ لأن قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) إن كان ورد على سبيل المشاكلة -أي: مقابلة النفس بالنفس- فإن النفس قد ذكرت في غير ما آية وحديث بغير مقابلة ولا مشاكلة.
قال: والمشاكلة وإن ساغت هنا لا تكون في غيره.
ومثله: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي).
أي: حيث لا يعلم به أحد ولا يسأله عليه.
وقال الزجاج في قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، أي: ويحذركم الله إياه.
أي ذاته، ففسر النفس بالذات.
وقال السهيلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد.
وهذا كلام في غاية الخطورة؛ لأنه سيثبت الذات المجردة عن الصفات -يعني يريد أن يقول: النفس هذه ليست صفة زائدة ثابتة لله تعالى- وقد استعمل من لفظها النفاسة والشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه تعالى.
وقال ابن اللبان: أولها العلماء بتأويلات، منها: أن النفس عبر بها عن الذات.
قال: وهذا وإن كان سائغاً في اللغة لكن تعدي الفعل إليها بـ (في) المفيدة للظرفية محال في حق الله عز وجل.
وهذا إبطال لذاك التأويل السابق.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قوله عليه الصلاة والسلام: (إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن).
قال: أي تنفيسه الكرب.
فعبر عن نفس الله عز وجل بالتنفيس وتفريج الكربات.
وهذا بلا شك أمر بعيد جداً، وقد ظهر فيما مر أن النفس تطلق على الله مراداً بها الذات المتصفة بالصفات.
ومنهم من قال: إن إطلاق صفة النفس على الله عز وجل يلزم من ذلك أن يكون الله تعالى شخص، ولا حرج في كون الله تبارك وتعالى شخص والأدلة قد وردت بإثبات أن الله تعالى شخص كما في حديث: (لا شخص أغير من الله).
فلما علموا ذلك نكصوا على أعقابهم يؤولون الشخص مرة أخرى، يعني: هم ظنوا أولاً أن أهل السنة لا يوافقونهم على هذا الطرح بأن إثبات صفة النفس لله عز وجل يستلزم أنه شخص، فظنوا أن أهل السنة والجماعة يفزعون من هذه التسمية ويرفضونها، ففوجئوا بأن أهل السنة يقولون: وما المانع أن يوصف الله تعالى بأنه شخص وقد جاءت الأدلة بإثبات ذلك ومنها قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم: (لا شخص أغير من الله)، (لا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين).
(لا شخص أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة).
وهذا دليل يثبت أن الله تعالى شخص.
والإشكال أنك تتوهم في ذهنك شيء عن الله، ثم تنزل الله تبارك وتعالى منزلة ما تعرفه من نفسك، وهذا حرام ولا يجوز.
لما تكلمنا عن اليد استبشع بعض السامعين أن لله يد، مع أن الله قد أثبتها لنفسه، ولما تكلمنا عن العينين استبشع بعض السامعين أن لله عينين.
ما البشاعة في ذلك؟ البشاعة عندك أنت، لما وضعت في تصورك ومخيلتك أنك تثبت لله تبارك وتعالى صفة كصفتك وتظن عند سماعها بأن الله تعالى متصف بما خلقك أنت عليه، وهذا هو الذي لا يجوز، ولا ينبغي أن يخطر ببالك.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: إطلاق الشخص في صفة الله غير جائز؛ لأن الشخص لا يكو(27/5)
ذكر من أثبت من العلماء أن النفس صفة للذات الإلهية
السلف أهل الحق يثبتون النفس لله سبحانه، ويسكتون عما وراءه من الخوض في حقيقتها أو كيفيتها، مادام الله تبارك وتعالى أثبت النفس لنفسه فما المانع أن أثبتها وأكف عن الخوض في الكيفية كما كففت عن بقية الصفات؟ وينزهون الله عن مشابهة نفسه بأنفس المخلوقين، كما لا يقتضي عندهم أن يكون سبحانه مركباً في نفس وبدن تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وقد وردت الآيات والأحاديث الدالة على إثبات هذه الصفة لله تعالى، كما قال الحافظ عبد الغني المقدسي وقد تقدم ذكر ذلك.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فكتبه على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي).
فما جوزه النووي رحمه الله من التأويل مردود مخالف لمنهج السلف، أما ما ذكره أولاً من أن المراد بالنفس الذات فله وجه في العربية، فإن النفس تأتي في كلامهم بمعنى الذات كما فصله شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه حمل النصوص التي فيها إثبات هذه الصفة لله عز وجل.
بينما ذكر غيره هذه النصوص مثبتاً بها أن النفس صفة لله تعالى يظهر ذلك من صنيع ابن خزيمة فإنه قال: باب: (ذكر البيان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات النفس لله).
ثم حشد النصوص في ذلك، ثم قال: (فالله جل وعلا أثبت في آي من كتابه أن له نفساً، وكذلك قد بين على لسان نبيه أن له نفساً، وكفرت الجهمية بهذه الآي وهذه السنة، وزعم بعض جهلتهم: أن الله تعالى إنما أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه، وزعم أن نفسه غيره -أي: زائدة- كما خلق غيره، وهذا لا يتوهمه ذو لب وعلم فضلاً عن أن يتكلم به).
وقد كتب الله الرحمة أفيتوهم مسلم أن الله كتب على غيره الرحمة؟ يعني: إذا كان الله تبارك وتعالى يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، فإذا كانت النفس بمعنى الغير وبمعنى الخلق، فيكون المعنى: ويحذركم الله غيره، فهل يستقيم المعنى هكذا؟
الجواب
لا.
قال: (وحذر الله العباد نفسه، أفيحل لمسلم أن يقول: إن الله حذر العباد غيره؟ أو يتأول قوله لكليمه موسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] إذا كان المقصود بالنفس الغير أو الخلق فهل يقال: واصطنعتك لغيري من المخلوقين؟
الجواب
لا.
ولا يستقيم هذا المعنى.
أو يقول: أراد الروح لله بقوله: {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116].
أي: ولا أعلم ما في غيرك.
هذا ما لا يتوهمه مسلم ولا يقوله إلا كل معطل كافر انتهى كلامه.
وإلى أنها صفة للذات ذهب أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه (اعتقاد التوحيد)، فقد نقل عنه ابن تيمية عقيدته، ومما فيها: إثبات النفس لله تعالى، فقال بعد أن أورد النصوص من الكتاب والسنة في إثبات النفس: فقد صرح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
يعني: نفس ليست كأنفس المخلوقين.
ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال صديق حسن خان: ومما نطق به القرآن وصح به النقل من الصفات: النفس.
وسرد الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وهذا هو الصواب الموافق لمنهج السلف.
وخلاصة الأمر: أننا لابد وأن نثبت لله تبارك وتعالى نفساً كما أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله الكريم، وأن هذه النفس هي صفة لله تبارك وتعالى.
ويحتمل -وهو بعيد في الشرع لا في لغة العرب-: أن تكون النفس هي الذات، فإن كانت النفس هي الذات في المخلوقين، فإن الخالق لا يقاس على المخلوقين، فإن نفسه صفة لازمة لذاته، وهي صفة ذاتية خبرية قد وردت في الأخبار والآثار.(27/6)
إثبات صفة النَفَس لله تعالى
صفة النَفَس لله عز وجل جاء فيها حديث سلمة بن نفيل السكوني رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو مول ظهره إلى اليمن: (إن لأجد نَفَس الرحمن من هنا).
ولم يقل: نَفْس الرحمن.
رواه الطبراني والبزار والبخاري في التاريخ الكبير والبيهقي في الأسماء والصفات، وأسانيده صحيحة.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا إن الإيمان يمان، والحكمة يمانية، وأجد نفس ربكم من قبل اليمن).
وشيخنا الألباني حفظه الله حكم على هذا اللفظة: (نفس الرحمن) بالشذوذ والنكارة، وهو الوحيد الذي تفرد بتضعيف هذه الزيادة.
ولا أتصور أن معه الحق في ذلك حفظه الله، فهو مجتهد عظيم، ولكنه خالف العلماء سلفاً وخلفاً في تضعيف هذه اللفظة، وللحديث شواهد على فرض ضعف هذه الرواية التي تكلم عنها شيخنا، وهي حديث أبي هريرة في المسند، حتى وإن أثبت أنها ضعيفة، فإنما يشهد لها حديث سلمة بن نفيل السكوني، وكذلك حديث أبي بن كعب رضي الله عنه موقوفاً عليه: (لا تسبوا الريح؛ فإنها من نفس الرحمن تبارك وتعالى).
ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح، بل قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وقال الذهبي: بل صحيح على شرط البخاري فقط.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).
قال الأزهري في تهذيب اللغة بعد أن ذكر هذا الحديث: (أجد نفس ربكم من قبل اليمن).
قال: أجد تنفيس ربكم عنكم.
أي: تفريج ربكم، فأول النفس بالتنفيس وتفريج الكربات؛ لأن الله جل وعز نصرهم بهم، وأيدهم برجالهم.
وكذلك قوله: (الريح من نفس الرحمن).
أي: من تنفيس الله بها عن المكروبين، وتفريجه عن الملهوفين انتهى كلامه.
وقال في القاموس المحيط: وفي قوله: (ولا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن)، (وأجد نفس ربكم من قبل اليمن)، قال: هو اسم وضع موضع المصدر الحقيقي من نفس تنفيساً ونفساً.
أي: فرج تفريجاً.
وهو واقع في نفس التأويل أيضاً.
قال أبو يعلى الفراء في إبطال التأويلات بعد أن ذكر حديث: (الريح من نفس الرحمن).
قال: اعلم أنا شيخنا أبا عبد الله -وهو أحمد بن حنبل - ذكر هذا الحديث في كتابه -أي: في مسنده- وامتنع أن يكون على ظاهره في أن الريح صفة ترجع إلى الذات، والأمر على ما قاله.
ويكون معناه: أن الريح مما يفرج الله عز وجل بها عن المكروب والمغموم، فيكون معنى النفس بمعنى التنفيس، وذلك معروف في قولهم: نفست عن فلان.
أي: فرجت عنه، وكلمت زيداً في التنفيس عن غريمه.
أي: في أن يفرج وأن يحط عن غريمه الدين.
ويقال: نفس الله عن فلان كربه.
أي: فرج عنه.
وروي في الخبر: (من نفس عن مكروب كربة، نفس الله عنه كربة يوم القيامة).
وفي الخبر: أن الله فرج عن نبيه بالريح يوم الأحزاب، فقال سبحانه وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9].
وإنما وجب حمل هذا الخبر على هذا.
أي: حمل خبر النَفَس على التنفيس، ولم يجز تأويل غيره من الأخبار.
يريد أن يقول: إن الخبر هذا بالذات يجوز تأويله، لأنه قد روي في الخبر ما يدل على ذلك؛ وذلك أنه قال عن الريح: (فإذا رأيتموها فقولوا: اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به).
فإذا كانت الريح من نفس الرحمن تبارك وتعالى، وليست من تنفيس الكربات فيكيف نستعيذ بالله تبارك وتعالى من شر الريح، ومن شر ما تحمل، ومن شر ما فيها وما أرسلت به؟! هذا لا يليق بالله عز وجل، وهذا يقتضي أن فيها شراً، وأنها مرسلة.
قال: وهذه صفات المحدثات -أي: صفات المخلوقات- وفي النفس شيء من هذا الكلام.
الله تبارك وتعالى قد ثبت في غير ما دليل أنه يضحك، يأتي، يسخط، يغضب، ينزل إلى السماء الدنيا.
وعند إطلاق هذه الأوصاف على المخلوقين فإنها محدثة مخلوقة، ونحن نعلم أن الخير والشر من الله عز وجل، ولا يكون في الكون إلا ما أراد، والريح مخلوقة بدليل أنها تسكن تارة وتهيج تارات أخرى، فلما قلنا: بأن الريح من نفس الرحمن.
أي: أن الله تبارك وتعالى له نفس من آثار هذه الصفة الله تبارك وتعالى يخلق الرياح التي تحمل الخير تارة، والتي تحمل الشر تارة أخرى.
ما المانع أن نؤمن بأن لله تعالى نفساً، وأن الله تبارك وتعالى يجعل من هذه النفس الرياح التي تحمل الخير والشر، وإن كانت محدثة فإن إحداث ال(27/7)
الأسئلة(27/8)
بيان ما يجب على المرأة من الصلوات إذا طهرت قبل أو بعد الغروب
السؤال
نرجو بيان الصلاة التي تجب على المرأة بعد أن تطهر من الحيض؛ علماً بأن الصلاة في كتاب فتاوى المرأة -والفتوى للشيخ ابن باز -: إذا طهرت المرأة قبل غروب الشمس وجب عليها صلاة الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الفجر وجب عليها صلاة المغرب والعشاء؟
الجواب
هذا هو الكلام الصحيح، وعليه جمهور أهل العلم.(27/9)
حكم الفرق التي تخالف أهل السنة
السؤال
الفرق التي لا تتفق مع السلف، مثل الأشاعرة والمنهج الذي ينشأ عليه تلاميذ الأزهر -مثلاً- ما جزاء هؤلاء أمام الله؟ وهل الذي يسير على هذا المنهج يؤدي به ذلك للكفر بالله؟
الجواب
ليس من الضروري أن نقول لك: إن هذا يؤدي إلى الكفر بالله من أجل ألا تمشي وراءه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (كلهم في النار إلا واحدة) لا يلزم منه الخلود في النار، بل يلزم منه المكث الطويل للمفارقة بين المتبع والمبتدع.
ولو قلنا: بأن الفرق الضالة التي خالفت في أسماء والله وصفاته في النار لا نحكم عليها بالخلود؛ لأنه لا يخلد فيها إلا كافر، لكن اعلم أننا عندما نقول: هذه فرق ضالة.
هي بالفعل ضالة.
لماذا؟ لأنها ضلت السبيل، وضلت عما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، لكن هل ضلوا بعناد وجحود؟ لا يمكن، إلا إذا كان صاحب هوى وصاحب انحراف، مثل عبد الله بن سبأ الذي قال: إن علياً هو الله، أو مثل الشيعة الذين يتقربون إلى الله بسب أبي بكر وعمر وعثمان، وتكفير الثلاثة، بل وتكفير معظم الصحابة إلا عدد قليل منهم.
وقولهم: إن القرآن الذين بين أيدينا ليس هو كلام الله ولا كتاب الله، وأن كتاب الله عز وجل يبلغ ثلاثة أضعاف هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وأنه موجود محفوظ مع المهدي المنتظر المزعوم.
وأن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى علياً بهذا الكتاب، وعلي أخفاه تقية، ثم أعطاه فاطمة، وفاطمة أعطته لمن بعدها وغير ذلك كلام كله خبل.
أنا أريد أن أقول لك: هناك تأويل سائغ وهناك تأويل غير سائغ وغير معتبر، ولذلك عندما تقرأ لأصحاب الفرق الضالة في كتاب ابن الجوزي المذكور آنفاً تجده يقول: ولقد بلغ أقوام من أهل الضلال مبلغاً جعلهم يقولون: إن الله تعالى شخص جميل، ومنهم من صرح بذلك فقال: إن الله تعالى إنسان لطيف، فأثبتوا له ما هو من صفات المخلوقين، من أن الله تبارك وتعالى يأكل ويشرب ويتغوط وينكح ويلد، وهذا بلا شك كفر صريح يصادم القرآن الكريم.
إذا علمت هذا فلابد وأنك ستقدر موقف المعتزلة في مسألة خلق القرآن الكريم، المعتزلة قالوا: إن القرآن مخلوق وهو كلام الله.
يعني: وافقوا أهل السنة بأن القرآن كلام الله، لكنهم قالوا: إنه مخلوق.
وأهل السنة يقولون: هو كلام الله غير مخلوق.
ومن قال: إنه مخلوق فقد كفر؛ لأن كل مخلوق حادث، وكل حادث لابد وأن يطرأ عليه الفناء.
أما المعتزلة فقالوا: لا يلزم من ذلك القول بالذات، وقامت الدنيا ولم تقعد في زمن الدولة العباسية في الصدر الأول في القرن الثالث الهجري وعذبوا أحمد بن حنبل ومن معه لرده على المعتزلة.
لو أني سألت نفسي سؤالاً: إن هذه القضية متعلقة بذات الإله، وليست لها علاقة بالدنيا ولا بالسلطان ولا بالمال ولا بالأبناء ولا بالزوجات، بل ولا حتى بالكرسي والعرش، حتى ندعي بأنهم عندما دخلت السياسية في هذه القضية كانوا يقصدون بذلك المحافظة على كراسيهم وعلى مناصبهم ودولتهم، فهي قضية عقدية بحتة عند المعتزلة، ولابد أن أحكم بأن المعتزلة كانوا يريدون بهذا المذهب وجه الله عز وجل، فإن المعتزلة حين أحدثوا هذا المذهب الباطل لم يعلموا بأنه الباطل الذي ليس بعده بطلان، وأنه أفسد الفساد، ولكنهم ذهبوا هذا المذهب وفي ظنهم واجتهادهم أن هذا دين الله عز وجل، ومن أجل ذلك قاموا على أهل السنة فضربوهم وآذوهم؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الكلام في الله عز وجل حادث، وأحمد بن حنبل لا يقول بأنه حادث، حتى قامت الحجة واستقر الأمر، ومَنَّ الله تبارك وتعالى على هذه الأمة بظهور أحمد بن حنبل ومن معه، لكن لابد أن أوضح بأن الدولة العباسية في ذلك الزمان كان يهمها أن ترعى دين الله عز وجل، لا ترعى دنياها ولو أفسدت الدنيا والدين كمن يفتي بحل الربا، بل أصبح الآن حلالاً بقانون وبقرار.
أيعقل أنه لا يعرف أنه هذا ليس حلالاً؟ يعرف، لكن هذا كرسي وسلطان وأموال تدفع شهرياً فأصبح معلوماً لكل ذي عينين ولمن كان له لب أن هذه الفتوى فتوى مأجورة مفصلة، وليست فتوى دين أبداً.
ومعظم الفتاوى التي على هذا النحو ليست ديناً، حتى الحراس والزراع في أراضيهم يعلمون هذا؛ لأنه يصدمهم فيما تربوا عليه ونشأوا وأنت أبوك الفلاح الذي يحسن كتابة اسمه يعلم أن التعامل مع البنوك ربا.
لماذا؟ لظهور العلم وانتشاره.
تأتي وتقول: أين العمل بهذه الفتوى؟ سأقول لك: إنك صاحب هوى، أنت كذاب، أنت متبع لهواك عندما تقول: أضعها في رقبة عالم وأخرج منها سالم.
أما المعتزلة عندما أخطئوا فما كانوا يقصدون الخطأ، ولم يكن من وراء خطئهم مصلحة لهم في قيام دولتهم، وإنما هو الدين الذي حرصت الدولة في ذلك الوقت على بيانه وظهوره على الدين كله، ولكنهم في هذا الاجتهاد أخطئوا، ولما انتشرت هذه البدعة وماجت في الأرض شرقاً وغرباً كان لزاما(27/10)
حكم هجران المداوم على المعاصي بعد نصحه
السؤال
لي ابنة أخت عمرها تسع عشرة سنة لا تصلي ومداومة على التبرج والمشاهدة للتلفزيون وسماع الأغاني واقتناء المجلات الخليعة، ولي أم كلما أنكرت هذا غضبت علي ودعت علي وصارت مشكلة، علماً بأن ابنة أختي تعيش معنا، وأن الآن لا أخاطبها إطلاقاً ولا أكلمها منذ شهور، وأعتني بنصح أمي وأختي؟
الجواب
الصحيح أن تداومي على نصيحتها وأن تصلوا لله عز وجل في الثلث الأخير من الليل وتدعو لها بالصلاح والفلاح والرشد وغير ذلك، ولا تملي من نصحها بالليل والنهار، فإما أن تقبل وإما أن تخرج من البيت.(27/11)
حكم التوسل بالأولياء والصالحين
السؤال
أثر عمر بن الخطاب في الاستسقاء: كنا نستسقي بنبينا صلى الله عليه وسلم واليوم نستسقي بـ العباس عم نبينا، فهل يدل على جواز التوسل بالأولياء؟
الجواب
لا، وإنما التوسل يكون بدعاء الصالحين وبالعمل الصالح الذي يعمله المرء، ويكون بالله تعالى وأسمائه وصفاته، أما التوسل بذوات المخلوقين فلا يجوز قط.(27/12)
حكم إحداث قول جديد لم يرد عن السلف
السؤال
هل يجوز لنا أن ننشئ قولاً جديداً لم يأت به أحد من السلف كقولكم في أمر النفس؟
الجواب
لا، لا يجوز.
يعني: أنت تريد أن ترد علي وتقول: مادام السلف أجمعوا أن النفس هي التنفيس، فلماذا تتحرج منها؟ أنا أقول لك لماذا أتحرج منها: لأن القضية ليس فيها إجماع، وأن لم آت برأي ثالث، بل بعض السلف -وهم قلة بلا شك- أثبتوا النَفَس لله عز وجل، على ما يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى، وما الحرج أن أتبع ولو واحداً من أهل العلم في إثبات هذا، وأن هذا الذي يترجح لدي، ورأيي هذا ليس رأياً ثالثاً، وإنما هو ترجيح لأحد الرأيين في المسألة.
والله أعلم.(27/13)
حكم أكل الجلالة من الدجاج
السؤال
سمعنا أن بعض الدجاج في القرى أكلها لا يجوز وتدخل في حكم الجلالة، فهل هذا حديث، وهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب
في الحقيقة هذه مسألة محدثة لم تكن معروفة في الماضي، إنما الجلالة هي التي ترعى وتأكل القاذورات، ويتغير لحمها عن لحوم مثيلاتها، والجلالة نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن أكلها حتى تحبس ثلاثاً أو أكثر من ذلك لكي يتغير لحمها.
يعني: تأكل طعاماً جيداً نظيفاً نقياً طاهراً حتى يتغير لحمها ودمها فحينئذ يجوز أكلها.
لكن في الحقيقة كون هذه فراخ الدجاج جلالة من عدمه أمر ليس محل اتفاق بين أهل العلم، وكثير ممن يربون الدواجن في مزارعهم يثبتون أن هذه ليست جلالة، وأن الطعام الذي يأتون به طعام نقي جيد وطاهر، أما قول القائلين بأن في الطعام نسبة دم، فالأطباء يقولون: إن نسبة الدم عبارة عن (1%) فقط بالنسبة للطعام الكلي، وهذه النسبة لا يتعلق بها تحريم ولا كراهة.
يعني: على فرض صحة قولهم بأن الطعام فيه نسبة (1%) دم، فنسبة (1%) إلى (99%) لا يمكن أن يتعلق بهذه النسبة حرمة ولا كراهة.
والله تعالى أعلم.(27/14)
حكم المكره على القتل والزنا
السؤال
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
وذكر الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث أنه يستثنى من ذلك الإكراه على الزنا والقتل فلا يباحان؟
الجواب
يريد أن يقول: إن الإمام النووي استثنى هذين الاثنين: القتل والزنا؛ وبالفعل فقد ذكر ذلك الإمام النووي رحمه الله.
لأنني إذا أكرهت على قتلك فلابد من إزهاق النفس، وإن كنت لا آثم بذلك.
أي: إذا قتلت مكرهاً، فما المانع ألا أقتل، وإن كنت أنا الذي سأقتل.
يعني: المكْرِه أعظم ما يمكن أن يملكه للمُكْرَه: القتل.
إذاً يقتلني فنفس مقابل نفس، نفس أكرهت فلم تقبل هذا الإكراه فقتلت فهي شهيدة أو بريئة عند الله عز وجل، وهذا خير من أن تقتل نفساً بريئة لا ذنب لها إلا الإكراه، هذا في حق القتل.
أما في حق الزنا، فلعظم خطره ولاختلاط النسب فيه واختلاط المياه.
أي: ماء الرجل بماء غيره، وما يترتب عليه من مفسدة عظيمة على الفرد والمجتمع؛ لذا قال: إن الزنا والقتل يستثنيان من الإكراه.
مداخلة: ما حكم الذي أحكم في قيده وأكره على الزنا من باب التعذيب والإجبار؟ الشيخ: لا يمكن لأحد مع هذه الحالة أن يقوى على الزنا، أما إذا كان الكلام موجه لبعض الجهات والهيئات التي ألفوا اغتصاب المؤمنين والمؤمنات سواء باللواط أو الزنا، فهذا أمر ليس فيه إكراه، وأي إكراه في ذلك؟ فإما أن تكون قد أنيطت بك تلك المهمة وأنت مجبر عليها، فلابد وأن تترك هذا العمل فوراً، وإن أوذيت وعذبت فلابد من الترك كذلك.
مداخلة: وهل الأفضل لهذا المكره أن يموت إن خير بين القتل والزنا أم يرتكب الفاحشة؟ الشيخ: يموت خير له، وهذا الكلام هو الذي قاله شيح الإسلام ابن تيمية.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.(27/15)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة النزول لله عز وجل
صفات الله الفعلية هي ما يتعلق بأفعال الله تبارك وتعالى، وأفعاله لا منتهى لها، فهو يفعل ما يشاء، متى شاء، وكيفما يشاء، ومن صفات الله الفعلية صفة النزول، وأهل السنة يثبتون لله سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله وعظمته، وقد خالفهم في ذلك فرق الخوارج الذين يردون الأحاديث الواردة في ذلك، أو يشبهون نزوله بنزول المخلوقين، كما خالفهم في ذلك القائلون بعدم نزوله تعالى مطلقاً، وغيرهم من أهل المذاهب المنحرفة، والتي ما هي إلا نتاج إعمال العقل وتقديمه على النص، واتباع الهوى الذي يئول بصاحبه إلى التردي في أودية الهلاك.(28/1)
اعتقاد أهل السنة والجماعة في صفة نزول الرب تبارك وتعالى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تعرضنا لصفات الذات لربنا تبارك وتعالى، ويقاس عليه ما لم نذكر، ويفهم مما ذكرنا المراد، فتعرضنا لذكر الساق واليد والعين والقدم وغيرها، وما لم نذكره يقاس على ما ذكرناه، بحيث يفهم أن المؤمن لا بد أن يؤمن بصفات المولى تبارك وتعالى الذاتية الخبرية دون خوض في كيفيتها.
وإذا قلنا: إن الصفات نوعان: صفات ذات وصفات فعل، فقد ذكرنا من صفات الذات ما يغني عن تكراره، ويقاس عليه ما لم نذكر.
وأما صفات الفعل: فهي ما يتعلق بأفعال الله تبارك وتعالى، وأفعاله لا منتهى لها، لأنه يفعل ما يشاء في أي وقت شاء وفي أي مكان شاء؛ ولذلك عبر المولى تبارك وتعالى عن مشيئته المطلقة في كتابه الكريم فيما يتعلق بأفعاله، فقال سبحانه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
فأفعاله متعلقة بمشيئته وإرادته، والله تبارك وتعالى لا يسأل عما فعل، فلا يقال لأفعاله: لم فعل؟ ولا كيف فعل؟ لأنه يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، بخلاف الخلق فإنهم يسألون عما يفعلون.
فأفعال الله عز وجل كالمجيء والإتيان والنزول والاستواء وغيرها من الأفعال تقول عنها: هذه صفة فعل لا صفة ذات، فاستواؤه تبارك وتعالى فعل، ومجيئه تبارك وتعالى يوم القيامة والملك صفاً صفاً فعل، ونزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فعل، وغير ذلك مما يطلق عليه أفعال لا صفات ذات.
فإذا كنا تكلمنا عن بعض صفات الذات وقلنا بوجوب الإيمان بها وإمرارها كما جاءت دون الخوض في كيفيتها، ونثبتها لله تبارك وتعالى بلا تمثيل، وننزهه عن التشبيه بلا تعطيل؛ فكذلك نقول في أفعاله تبارك وتعالى.
فصفة الفعل التي نتعرض لها في هذه الليلة هي نزول المولى تبارك وتعالى، فقد ثبت أنه ينزل في ليلة عرفة، وثبت أنه ينزل ويدنو في النصف من شعبان، وليس هذا يعني أننا نخص ليله بقيام ونهاره بصيام، ولكن المولى تبارك وتعالى ينزل في ليلة النصف من شعبان؛ ليغفر لعباده الصالحين، وينزل تبارك وتعالى في كل ليلة من الليالي إذا بقي ثلث الليل الآخر، فينادي في عباده: (أنا الملك.
هل من داع فأجيبه؟ هل من مريض فأعافيه؟ هل من مستغيث فأغيثه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر) أي: حتى يظهر الصبح.
ينادي المولى تبارك وتعالى ويتودد ويتحنن إلى عباده في هذا الوقت، وهو وقت إجابة الدعوة كما أجمع على ذلك أهل العلم، لكن القضية الآن: هل نزول الله تبارك وتعالى ثابت أم لا؟ والسؤال الثاني: إذا كان ثابتاً بالأدلة فكيف ينزل؟(28/2)
اعتقاد الفرق الضالة في صفة نزول الله سبحانه(28/3)
المذهب الأول: إنكار ورود أحاديث النزول في الصحيحين
نازع الخوارج والجهمية في ثبوت أحاديث النزول؛ لأن الخوارج لهم في رواياتهم رجال غير رجال أهل السنة؛ ولذلك فهم لا يعتمدون خبر أهل السنة، وهم -عند أهل السنة- مغالون متطرفون في شروطهم ومنهجهم وفي اعتقادهم، بل هم من الفرق الضالة، وبالتالي كيف يعتمد خبرهم الذي يؤيد بدعتهم؟ وأهل العلم بينوا ذلك من أول ما وقعت الفتنة في زمن عثمان وعلي بن أبي طالب، ولذلك كان ابن سيرين يقول: كنا لا نسأل عن الرجال حتى وقعت الفتن فقلنا: سموا لنا رجالكم.
فما سموا لنا من أهل السنة أخذنا بأحاديثهم، وما سموا لنا غيرهم تركناهم.
ويقول ابن المبارك: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.
أي: عن أهل الأهواء والبدع، أم عن أهل السنة والجماعة، ولذلك معظم الفرق التي انحرفت وضلت إنما كان انحرافها في عقيدتها في ربها تبارك وتعالى.
هذا مذهب الخوارج والجهمية ومعظم المعتزلة أنهم أنكروا ورود هذه الأحاديث رغم وجودها في الصحيحين.(28/4)
المذهب الثاني: إثبات أحاديث النزول وتشبيهه بالمخلوق
مذهب آخر قال: نحن نثبت هذه الأحاديث ولكن لا نفهم معنى النزول إلا ما نفهمه من نزول المخلوقين.
فنحن لا نرد النصوص، ولكننا ننازع في فهم هذه النصوص، فنقول: نحن لا نفهم من النزول إلا ما نفهمه من نزول أحدنا، وأحدنا لا ينزل إلا إذا كان في علو ونزل درجة درجة.
وافترى بعضهم على شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى أنه قال على منبر المسجد الكبير في الشام: إن الله تبارك وتعالى ينزل كنزولي هذا، ونزل درجتين ثم صعد.
وهذا في حق شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له رسالة في شرح أحاديث النزول من أمتع ما يمكن أن تقرأ وتسمع، والذي يذكر فيها مذاهب الفرق جميعاً في معنى نزول ربنا تبارك وتعالى، ثم يذهب في معنى النزول إلى ما قاله مالك: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ولذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة في جميع صفات المولى تبارك وتعالى الذاتية والفعلية قولهم هذا: الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة.
إذاً: فكيف يقال: إن شيخ الإسلام يقول: إن ربنا ينزل كنزولي هذا وينزل درجتين ثم يصعد المنبر مرة أخرى.
هذا كذب وافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن على أية حال! طار بهذا الخبر وبهذا النقل الكاذب أصحاب الأهواء والبدع الذين يبغضون شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ويبغضون السنة وحامليها، طاروا بهذا الخبر فرحاً وقالوا: هذا في حكم شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن كفرتم بعض المتعنتين الغالين من الفرق الضالة فيلزمكم أن تكفروا شيخكم شيخ الإسلام ابن تيمية.
وشيخ الإسلام لم يصدر عنه هذا، بل صدر عنه غيره، وكلامه مسطور مكتوب، فضلاً عن أن شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله لم يكن خطيباً قط، وهذا الخبر نقل أنه كان يخطب الجمعة فقال هذا، وشيخ الإسلام ابن تيمية لا يعلم من حياته قط أنه كان خطيباً.
وهذا وجه ثان للرد على هؤلاء الكذبة الذين افتروا على شيخ الإسلام ابن تيمية.
الوجه الثالث: أن هذا العام الذي نقل ابن بطوطة في رحلته، وذكر السنة التي فعل فيها شيخ الإسلام ابن تيمية هذا لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية حراً، بل كان مقيداً بالسلاسل في السجن.
وهو الوجه الثالث في إثبات بطلان هذا الكلام ونسبته إلى شيخ الإسلام عليه رحمة الله.
إذاً: للفرق الضالة رأيان: الرأي الأول: رد النصوص وبالتالي عدم التعرض للكيفية، لأن المسألة غير ثابتة.
الرأي الثاني: ثبوت النصوص وتأويلها بما يتفق مع نزول المخلوقين، وهذا غلو في التشبيه، وأنهم لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفاتهم إذا اتحدت الصفة في الاسم.
ولعلكم تذكرون تلك القاعدة التي ركزنا عليها أيما تركيز في أول شرح هذه الأصول وقلنا: (ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق وافتراق)، ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق في الاسم وافتراق في المسمى، وافتراق في الحقيقة، فنزول الرب تبارك وتعالى يستوي مع نزولي في الاسم فقط، فأنا أنزل والرب تبارك وتعالى ينزل، فالنزول له ثابت والنزول لي كمخلوق ثابت، ولكن مسمى وحقيقة النزول لله تبارك وتعالى تختلف عن حقيقة النزول بالنسبة لي، ولذلك هذه القاعدة ركزنا عليها أيما تركيز وقلنا: ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق وافتراق، فمن نفى القدر المشترك فقد مثل وقال: إن الله تعالى كذاتي وصفاته كصفاتي وأفعاله كأفعالي.
ومن نفى القدر الفارق فقد عطل.
إذاً: إذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق آدم على صورته) لو افترضنا أن الضمير في صورته يعود على آدم، لو افترضنا ذلك جدلاً فهل صورة الرحمن تبارك وتعالى كصورة آدم تماماً بتمام؟ لا.
لماذا؟ لأن آدم خلقه الله تعالى على صورة، والله تبارك وتعالى له ذات بكيفية وصورة تليق بجلاله.
إذاً: فأنا أثبت لله تبارك وتعالى أنه على صورة، وأنه على هيئة، وأنه على كيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، وليست صورته كصورة آدم، فصورة آدم صورة مخلوق، وصورة الله تبارك صورة الخالق، فالله تعالى له صورة وآدم له صورة.
إذاً: الاتفاق بين آدم وبين الله تبارك وتعالى في الاسم، والمسمى يختلف؛ لأن الله تعالى واحد في صورته.
أي: لا يشبه في صورته أحداً من خلقه، ولا أحداً من خلقه يشبهه في الصورة، فالذات تختلف عن الذات، والصورة صفة لله عز وجل تختلف عن صورة المخلوق، فالنزول ثابت لله عز وجل، لكن لا نذهب فيه مذهب الذين لا يفهمون من النزول إلا ما يفهمونه من نزولهم هم، وإنما يقول: إن ربنا تبارك وتعالى ينزل نزولاً يليق بجلاله، فلو أني صعدت على هذا المنبر وجلست عليه لقال الناظر لي: إن فلاناً قد استوى على الكرسي.
أي: قعد وتمكن من الجلوس على الكرسي.
فلا نقول هذا في استواء المولى تبارك وتعالى، وإنما نقول: استوى حقيقة استواءً(28/5)
المذهب الثالث: أن الله تعالى لا ينزل لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه
مذهب ثالث يقول: إن الله تبارك وتعالى لا ينزل.
قالوا: لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه.
انظر الكلام الغريب! يضربون القرآن بعضه ببعض؛ لأن القرآن يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ولا يفهمون من النزول إلا ما يفهمونه هم من صفاتهم: بأن الواحد منهم إذا جلس على الكرسي ونزل عنه خلا الكرسي عنه، فإذا كنت تقول: إن صفات الله عز وجل كصفاتك فيلزمك أن تقول بخلو العرش، وإذا كنت تقول: إن الله تعالى ليست ذاته ولا صفاته كذاتي وصفاتي فيلزمك أن تقول: إن نزول المولى تبارك وتعالى لا يستلزم منه خلو العرش؛ لأن الله تبارك وتعالى فوق كل شيء وهو بائن عن كل شيء.
فإذا قلت: إن الله تعالى ينزل ويخلو منه العرش فلا بد أن تقول حين نزول المولى تبارك وتعالى: إن العرش أعلى من الله عز وجل، وأن السماوات السبع أعلى من الله عز وجل، وأن الكرسي أعلى من الله عز وجل، وأن الماء أعلى من الله عز وجل، ولا يقول بهذا إلا جاهل أو كافر، فما الذي يمنعك أن تقول: إن نزول المولى تبارك وتعالى لا يستلزم خلو العرش منه، لأن هذا لا يليق إلا بالعاجز المخلوق، وأما الخالق تبارك وتعالى فلا ينفي دنوه علوه؛ وذلك لأنه يفعل ما يشاء، لا يسأل عما يفعل، بلم ولا كيف.
فنحن نعتقد أن الله تبارك وتعالى استوى على الكرسي، واستوى على العرش، وهو مع خلقه يدنو منهم وينزل وهو مستو على العرش تبارك وتعالى، لا يخلو منه العرش، بل هذا كلام حادث أحدثه أهل البدع لا نحب أن نخوض فيه، ولكنني ذكرت ذلك على سبيل الإجمال وعلى وجه السرعة؛ لأنه ربما خطر ببالك كما خطر ببال بعض السلفيين في هذا الزمان أنهم خاضوا في هذه القضية، وعيب عليهم أن يخوضوا فيها وإن كانوا علماء؛ لأنه يجب عليهم أن يسلموا لله عز وجل ويؤمنوا إيماناً مطلقاً جازماً بكل ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير خوض ولا تكلف تأويل، ولكنهم مع هذه القواعد الثابتة المستقرة في قلوبهم خاضوا في كيفية النزول لله عز وجل، وقالوا: هل يخلو منه العرش أم لا؟ وهذه مرحلة أخشى أن تؤدي بعد ذلك إلى القول بخلو العرش حقيقة ويقيناً عندهم، فيقعوا فيما وقع فيه أهل البدع.(28/6)
المذهب الرابع: أن الله لا ينزل إنما الذي ينزل هو رحمته وأمره
أيضاً: نزول الرب تبارك وتعالى فيه مذهب رابع لأهل البدع، وقد وقع في هذا المذهب الرابع بعض أهل السنة، أو بعض من ينتسب إلى السنة.
قالوا: إن الله تعالى ينزل، ولكن ينزل أمره وتنزل رحمته.
وهذا كلام مردود وباطل من وجوه: الوجه الأول: إن قولك: إن الله لا ينزل وإنما الذي ينزل رحمته وأمره.
فيه رد للنصوص الصحيحة الصريحة بغير حجة ولا برهان.
الوجه الثاني: إن رحمة الله تبارك وتعالى تنزل بالليل والنهار، لا تحتاج إلى نزول في الثلث الأخير من الليل، وليست محدودة بزمان ولا مكان.
الوجه الثالث: أن الحديث يقول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إذا بقي الثلث الليل الآخر فيقول: أنا الملك! من يدعوني فأستجيب له).
فقوله: (أنا الملك) وقوله: (ينزل ربنا) صريح في أن الذي ينزل هو الله عز وجل، فهل يمكن أن يتصور صرف لفظ: (الرب) ولفظ: (أنا الملك) إلى الأمر والنعمة والرحمة؟ لا يمكن.
هذا كلام لا تحتمله اللغة، بل العقل كذلك يرده، وهو تعطيل للإيمان بصريح النصوص، وقد وقع في هذا التأويل كثير من أهل العلم الذين نعتمد كلامهم وأخبارهم.
وعلى أية حال: الحق لا يعرف من خلالهم، وإنما الحق يعرف بالكتاب والسنة وبالأدلة البينة الواضحة، والأدلة ترد عليهم.
فما هي تلك الأدلة التي أثبتت نزول الله تبارك وتعالى؟ إن كنت أتكلم في هذه القضية كلاماً عاماً مجملاً بعد بيان عرض معتقدات أهل الملة في نزول المولى تبارك وتعالى -فإنني ألزمكم إلزاماً بقراءة رسالة عظيمة جداً لشيخ الإسلام ابن تيمية يفسر فيها حديث النزول، وهي مطبوعة في الهند، وطبعت هنا في الريان، وهي مأخوذة من المجلد الخامس من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن لم يتمكن من شراء الرسالة على انفراد تمكن من قراءة هذه الرسالة في المجلد الخامس من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، كتاب عظيم جداً بلغ حوالي مائتين صفحة.(28/7)
الأدلة على إثبات النزول لله عز وجل من السنة
الأدلة على إثبات النزول لله عز وجل في السنة أتت بطريق التواتر، وأنتم تعلمون أن الحديث المتواتر: هو ما رواه عدد كثير في كل طبقة من طبقاته بحيث تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
حديث يأتي من عشر طرق أو من عشرين أو ثلاثين أو سبعين أو مائة، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكر هذا الحديث في كل مكان وفي كل زمان، سمعه من النبي عليه السلام ما يزيد عن عشرين نفساً من أصحابه، كلهم رووه رضي الله عنهم أجمعين، منهم: ابن مسعود وابن عباس وأم سلمة وأبو هريرة وغيرهم كثير.
فرواية أبي هريرة التي هي من طريق الزهري قال: [أخبرني أبو سلمة والأغر - سلمان صاحب أبي هريرة - أن أبا هريرة أخبرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا)] فالنزول ليس إلى الأرض وإنما إلى السماء الدنيا.
أي: السماء التي تلي الأرض ينزل إليها ربنا تبارك وتعالى.
والزمن: حين يبقى ثلث الليل الآخر.
وهناك روايات قد وردت أنه ينزل إذا انصرم الثلث الأول من الليل، أو إذا مضى الثلث الأول من الليل.
ورواية: أو شطر الليل، ينزل ربنا تبارك وتعالى إذا انتصف الليل إلى سماء الدنيا، وإن كانت كل هذه أحاديث صحيحة في الجملة، إلا أن اتفاق أهل العلم على أن أصح الروايات في نزول المولى تبارك وتعالى حديث أبي هريرة الذي هو من طريق الزهري لا من طريق غيره، وأن نزول المولى تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر.
يعني: ينزل في آخر الليل وهو الوقت المشهود، الوقت الذي يستجيب الرب تبارك وتعالى فيه دعاء العباد.
قال: [(ينزل الله عز وجل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه)] إلى آخر الحديث.
وقد روي هذا الحديث من طريق أبي سعيد الخدري، ومن طريق علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق رضي الله عنه وجابر بن عبد الله الأنصاري ورفاعة الجهني، ومن طريق أبي الدرداء وعبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأبي ثعلبة الخشني وعقبة بن عامر الجهني، كلهم وغيرهم يروي هذا الحديث، كما روي في مرسلات علي وعائشة رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود.
كل هذا يثبت أن الله تبارك وتعالى ينزل وإن اختلفت المناسبة، فينزل ليلة عرفة -أي: يوم عرفة- حتى يدنو من العباد فيقول: (ألا هل من داع؟ ألا هل من مستغفر؟ ألا هل من تائب؟).
ويدنو في ليلة النصف من شعبان، وينزل في الثلث الأخير من الليل كما جاء عن أم سلمة كذلك.(28/8)
إثبات التابعين لنزول الرب سبحانه على الوجه الذي يليق به سبحانه
ومن التابعين عطاء بن يسار وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي: [عن عطاء بن يسار: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل منها -يعني: ليلة النصف من شعبان- ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا، فيغفر لكل عبد إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم].
قال: [عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان عطاء إذا ذكر عنده ليلة النصف من شعبان وما يقال فيها فيقول: إني لأرجو أن يكون ذلك في كل ليلة].
أي: أن يغفر الله عز وجل للعباد في كل ليلة؛ وذلك لأنه يؤمن أن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة، فليلة النصف من شعبان كبقية الليالي.
فـ عطاء كان يرجو أن يغفر الله عز وجل لكل أحد في كل ليلة.
وهذا ثابت كذلك عن عمر ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم.
قال مكحول الشامي: [يطلع الله تبارك وتعالى على خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويتوب على التائبين، ويدع أهل الحقد بحقدهم، فيغفر إلا لمشرك أو مشاحن].
وقال الفضيل بن فضالة: [إن الله يهبط إلى سماء الدنيا -يهبط بمعنى: ينزل- ليلة النصف من شعبان، فيعطي رغاباً، ويفك رقاباً، ويفخم عقاباً].
وهو دليل على المغفرة.
وذكر أحمد بن علي الأبار أن عبد الله بن طاهر - وهو أمير خراسان - قال لـ إسحاق بن راهويه: يا أبا يعقوب! ما هذه الأحاديث التي تحدثون بها، إن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ أهو ينزل ويصعد؟ فقال له إسحاق: تقول: إن الله يقدر على أن ينزل ويصعد ولا يتحرك؟ قال: نعم.
قال: فلم تنكر إذاً؟ يعني: هل أنت تعتقد أن الله تبارك وتعالى قادر على أن ينزل وأن يصعد دون أن يتحرك، وأنه مستو على العرش؟ قال: نعم.
لأنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فنزولي أنا يحتاج إلى انتقال وحركة، لكن لا يلزم من نزول الله عز وجل إذا أراد أن ينزل وأن يصعد أن يخلو منه العرش ولا أن يتحرك ولا أن ينتقل، بل هو مستو على عرشه كذلك.
فقال: أتقول: إن الله تعالى قادر على ذلك؟ قال: نعم.
قال: فلم تنكر إذاً أنه ينزل؟ كلام جميل! كلام أهل العلم، إذ إن القضية كلها أن تصدق أن القياس بينك وبين الخالق قياس مع الفارق، قياس غير صحيح ألبتة لا في الذات ولا في الأسماء ولا في الصفات ولا في الأفعال.
وقد سبق أن بينا القاعدة الأولى: وهي وحدانية الله تبارك وتعالى.
أي: واحد في ذاته، ولا يمكن أبداً لأي ذات من الذوات أن تشبه ذات الإله، ولا الأسماء ولا الصفات ولا الأفعال، فأنا لما أنزل هذا فعل، وربنا ينزل أيضاً فهذا كذلك فعل، لكن فعلي له مثيل فنزول محمد كنزول زيد، لكن ليس نزوله كنزول الله عز وجل؛ لأنه سبحانه واحد في أفعاله، ونزوله من أفعاله.
إذاً: نزوله سبحانه نزول تفرد، فلا يمكن أبداً أن يشبه نزول أحد من خلقه، فلا بد أن أؤمن بوحدانية الله عز وجل في أفعاله.
إن الجهمي يقول: أحاديث النزول غير صحيحة، بل هي كاذبة وباطلة، ولا يوجد شيء اسمه نزول وصعود؛ لذلك قال: [قال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب ينزل ويصعد فقل: وأنا أومن برب يفعل ما يشاء].
فيا له من كلام جميل! لا تتكلف التأويل والأخذ والرد، وإقامة الحجة عليه، فهؤلاء مجرمون، لا يسلمون لك بحجة، ولو أثبت الصفة من السنة قال لك: لا.
لا بد من القرآن، وهو قبل قليل أنكر صفة كان دليلها القرآن.
فهو لا يمكن أن يثبت معك على حال قط، وهو ليس محتاجاً إلى بينة أو دليل، إنما الذي دعاه إلى الإنكار هو كفره وجحوده بالله عز وجل، وقياسه الفاسد بين الخالق والمخلوق، وأنه لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يقيسه هو من صفات الخالق على صفات ذاته.
قال يحيى بن معين: [إذا سمعت الجهمي يقول: أنا كفرت برب ينزل.
فقل: أنا أومن برب يفعل ما يريد].
وقال حنبل بن إسحاق -ابن أخي أحمد بن حنبل -: [سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا نرد شيئاً منها إذا كانت أسانيد صحاحاً، ولا نرد على رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق.
حتى قلت لـ أبي عبد الله: ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم.
قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا].
يعني: لا تخض في ذلك، أثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون خوض، وآمن به كما جاء وصدق به كما جاء، ولا ترد شيئاً مما صح في أخباره وصفاته وأفعاله، على الوجه اللائق.
قال: [فقال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إنما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب قال الله عز وجل: {(28/9)
إثبات إسحاق بن راهويه نزول الرب سبحانه في مجلس الأمير عبد الله بن طاهر
مما يحتج به أهل السنة والجماعة: نقاش دار بين إسحاق بن راهويه والأمير عبد الله بن طاهر، حين سئل إسحاق بن راهويه في مجلس الأمير عن حديث النزول: أصحيح هو؟ فقال إسحاق بن راهويه: نعم.
قال السائل: كيف ينزل؟ قال إسحاق: أثبته فوق.
أي: أثبته أولاً فوق حتى أقول لك كيف ينزل.
لأن هذا السائل ربما يكون جهمياً أو معتزلياً، وهم لا يقولون بالعلو والفوقية لله عز وجل، والأشاعرة يقولون بأنه في كل مكان مع خلقه.
فقال السائل: أثبته.
يعني: ناقشني على اعتبار أنني مصدق ومؤمن بأن الله تعالى استوى على العرش.
فقال إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] تلا إسحاق هذه الآية؛ لأن استقامة الأمير استقامة الرعية وفساده فساد الرعية، فلما سمع الأمير هذه الآية قال لـ إسحاق: هذا يوم القيامة.
فقال إسحاق: أعز الله الأمير! ومن يأتي يوم القيامة من يمنعه أن يأتي اليوم؟ فبهت الأمير.
وهذا ذكاء إسحاق بن راهويه.
أجاب إجابة لا تناسب إجابة السائل حتى يسكت الأمير.(28/10)
منهج أهل السنة والجماعة في إثبات نزول الله تعالى دون تكييف
السؤال الذي طرحناه: هل إذا نزل الله إلى السماء الدنيا يخلو عنه العرش أم لا؟
الجواب
المفروض عدم ورود هذا السؤال.
سكت عن ذلك السلف، فقد قال مثل شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الصواب المأثور عن سلف الأمة وأئمتها: أن الله سبحانه لا يزال فوق العرش ولا يخلو منه العرش مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه قط، وكذلك يوم القيامة كما جاء في الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك، فالله سبحانه وتعالى قريب في علوه -يعني: عال مستو ومع ذلك قريب من عباده- وعلي في قربه، وهو مع جميع مخلوقاته بعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوالهم، وهو مع الصابرين والمحسنين والمتقين من عباده بالكلأ والحفظ والنصر والتأييد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
أما الأدلة فهي ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول -وفي رواية: حين يبقى ثلث الليل الأخير- فيقول: أنا الملك! من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك).
قال الذهبي: رواه أحمد وإسناده قوي.
وهو من طريق آخر عند البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني) إلى آخره.(28/11)
كلام ابن عبد البر في إثبات صفة النزول
قال ابن عبد البر في التمهيد: هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، رواه أكثر الرواة عن مالك.
إلى أن قال: وفيه دليل على أن الله في السماء على عرشه من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة - يعني: أهل السنة - وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان وليس على العرش، والدليل على صحة ما قالوه -أي: ما قاله أهل السنة- أهل الحق في ذلك: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
ثم قال ابن عبد البر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا) فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة.
وقد قال قوم من أهل الأثر أيضاً: إنه ينزل أمره وتنزل رحمته.
وروي ذلك عن حبيب كاتب الملك.
هو أبو محمد المصري، وهو كذاب، وأخباره منكرة باتفاق أهل العلم.(28/12)
كلام ابن القيم في إثبات صفة النزول
قال ابن القيم: إن نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها عنه نحو ثمانية وعشرين نفساً من الصحابة، وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يبلغ ذلك في كل موطن ومسمع.
ثم سرد الأحاديث التي تدل على ذلك.(28/13)
كلام ابن جرير في إثبات صفة النزول
وقال ابن جرير الطبري إمام المفسرين عليه رحمة الله: وأهل العلم بالكتاب والأثر من السلف والخلف يثبتون جميع ذلك ويؤمنون به بلا كيف ولا توهم، ويمرون الأحاديث الصحيحة كما جاءت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، بما في ذلك صفة النزول.(28/14)
كلام ابن القيم في اختلاف أهل السنة في صفة النزول
قال ابن القيم: اختلف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال: فأحدها: أنه ينزل بذاته.
قال شيخنا - يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية - وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين.
وقالت طائفة ثانية: لا ينزل بذاته.
وقالت طائفة أخرى: نقول: ينزل لا نقول بذاته ولا بغير ذاته، بل نطلق اللفظ كما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم ونسكت عما سكت عنه، وهذا ما يفهم من كلام الأوزاعي وحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه.
وقد سئل أحمد بن حنبل فقيل له: يا أبا عبد الله! أينزل إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم.
فقال السائل: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال الإمام: اسكت عن هذا.
فغضب غضباً شديداً ثم قال: أمض الحديث على ما روي.
يعني: آمن به كما جاء ولا تخض في الكيفية.
ومن أقوال هؤلاء الأئمة ومواقفهم يتضح جلياً موقف السلف الصالح من هذه الصفة وغيرها من جميع الصفات الإلهية، وهو الاكتفاء بفهم المعاني العامة للصفات، والإمساك عن الخوض فيما وراء ذلك، فهم لا يبالغون في الإثبات إلى حد التشبيه والتجسيم، كما لا يبالغون في النفي إلى حد التعطيل، بل يقفون مع ظاهر النصوص ولا يتجاوزونها.
يعني: يثبتون بلا تمثيل، وينفون بلا تعطيل.(28/15)
كلام أبي سعيد الدارمي في إثبات صفة النزول
قال أبو سعيد الدارمي في كتابه العظيم (الرد على الجهمية) بعد أن ذكر حديث النزول: فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرب تبارك وتعالى في هذه المواطن -أي: في هذه الأزمنة- في ليلة النصف من شعبان، في يوم عرفة، في الثلث الأخير من الليل.
قال: وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد ولا يمتنع من روايتها.
لأن بعض أهل العلم كانوا يتحرجون من رواية أحاديث الصفات بالذات، ومنهم من كان ينكرها بقلبه ويكره روايتها للناس.(28/16)
كلام ابن خزيمة في إثبات النزول
وقال إمام الأئمة محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد: (باب ذكر أخبار ثابتة السند صحيحة القوام رواها علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة).
قال: (نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب تبارك وتعالى من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفيه نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، فنزوله لدينا معلوم والكيفية مجهولة، لأنها لم توصف).
قال: (والله جل وعلا لم يترك -وكذا نبيه- بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم.
فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول).
فإذا كان النبي الذي هو أعلم الخلق بالله عز وجل لم يتعرض للكيفية فلم نتعرض نحن لها؟ قال: (وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح: أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إليه، إذ محال في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى).
فالذي ينزل ينزل من أعلى إلى أسفل.
قال: (ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل).(28/17)
كلام ابن تيمية في صفة النزول
وقال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص في كتابه (دقائق التفسير): (فالرب سبحانه إذا وصفه رسوله بأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، وأنه يدنو عشية عرفة إلى الحجاج، وأنه كلم موسى في الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأنه استوى إلى السماء وهي دخان، {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11] لم يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفعال من جنس ما نشاهده من نزول هذه الأعيان المشهودة).
يعني: لا يلزم من النزول والكلام والإتيان والمجيء الذي نحن نفهمه أن يكون مثل نزولنا ومجيئنا واستوائنا وغير ذلك.
قال: (حتى يقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر).
يقصد بذلك: أن نزول الله تبارك وتعالى بخلاف نزولنا، فالنزول يستلزم تفريغ المكان الذي كنت مستوياً عليه، بخلاف نزول المولى تبارك وتعالى فإنه لا يستلزم ذلك؛ لأن نزول المخلوق غير نزول الخالق، فلا نخوض فيما لم يخض فيها السلف رضي الله عنهم أجمعين.
وذكر مرعي الكرمي مذاهب أهل العلم التي ذكرناها واختلافهم في نزول المولى تبارك وتعالى، وسرد ذلك كله البيهقي.
قال البيهقي: وأسلمها - أي أسلم هذه المذاهب - الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق صلى الله عليه وسلم فيصار إليه.
قال: ومن الدليل على ذلك: اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب فحينئذ التفويض أسلم.
وهذا مذهب السلف الذي أقول به وأدين الله تعالى، وأسأله سبحانه الموت عليه مع حسن الخاتمة في خير وعافية.(28/18)
كلام العلامة الصوفي في صفة النزول
قال العلامة الصوفي في كتابه (قواعد وجوب الاستقامة والاعتدال): والمشهور عند أصحاب الإمام أحمد بل عند السلف جميعاً: أنهم لا يتأولون الصفات التي من جنس الحركة.
أي: لا يتأولون الصفات التي توهم في ظاهرها الحركة كالمجيء والإتيان والنزول والهبوط والدنو والتدلي والاستواء، كما لا يتأولون غيرها متابعة للسلف الصالح.
قال: وكلام السلف في هذا الباب يدل على إثبات المعنى المتنازع فيه، كما قال الأوزاعي لما سئل عن حديث النزول قال: أنا أومن برب يفعل ما يشاء.
وقال حماد بن زيد: يدنو من خلقه كيف يشاء.
قال: وهو الذي حكاه الأشعري - أي أبو الحسن - عن أهل السنة والأثر.
وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء.
وقال أبو الطيب: حضرت عند أبي جعفر الترمذي -وهو من كبار فقهاء الشافعية، أثنى عليه الدارقطني وغيره- فسأله سائل عن حديث: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) قال له: فالنزول كيف يكون، يبقى فوقه علو؟! فقال أبو جعفر الترمذي: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
كما أجاب مالك في الاستواء وأم سلمة وغيرهما، وهو قول أهل السنة في سائر الصفات.
وقال أبو عبد الله الرباطي: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر وحضر إسحاق بن راهويه فسئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال: نعم.
فقال له بعض قواد الأمير: يا أبا يعقوب! أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم.
قال: كيف ينزل؟ قال له إسحاق: أثبت أنت الحديث حتى أصف لك النزول.
فقال له الرجل: أثبته.
فقال له إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] فقال الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا يوم القيامة.
فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ وقال حرب بن إسماعيل: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: ليس في النزول وصف.
يعني: لا يحل لأحد أن يصف نزول الرب تبارك وتعالى.
قال: وقال إسحاق: لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين.
أي: إذا كنت تريد أن تصف شيئاً فصف أفعال المخلوقين، أما أفعال الخالق فلا، لأن الله تعالى قال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
قال: ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وأفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر المخلوقين.
يعني: يحرم عليك أن تفكر أو يجول في ذهنك أن الله ينزل كنزولك أو يستوي كاستوائك أو يأتي كإتيانك أو يجيء كمجيئك.
قال: وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء، ولا يسأل كيف نزوله؛ لأن الخالق يصنع ما يشاء كما شاء.(28/19)
كلام الجويني في صفة النزول
يقول أحد المحققين من الشافعية، وهو والد الإمام الجويني إمام الحرمين كلاماً جميلاً مع أنه أشعري.
قال: والذي شرح الله صدري - أي: والذي شرح الله له صدري - في حال المتكلمين الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر، واليدين بالنعمتين والقدرتين، أنه ما فهموا من صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين، فما فهموا عن الله تعالى استواءً يليق به ولا نزولاً يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله.
قال: ولا ريب ولا شك أننا نحن وهم متفقون على إثبات صفة الحياء والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله تعالى، ونحن قطعاً لا نعقل من الحياء والسمع والبصر والعلم إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا.
يعني: لما تقول: الله تعالى حي وآدم حي، فحياة آدم أنا أعلمها؛ لأنها كحياتي أنا، لكن حياة الله عز وجل تختلف عن حياة آدم، ولا أعلم كيفية حياته سبحانه، فأنا أثبت الحياة الكاملة التي لا يطرأ عليها فناء ولا فساد لله عز وجل، بخلاف حياتي فإنه يطرأ عليها العلل والأدواء والأمراض كلها وتنتهي وتفنى وتزول، فحياة المولى عز وجل تختلف عن حياة المخلوقين، فإياك أن تتوهم أن الله حي بحياة تليق بحياتك أنت، يا مخلوق يا ضعيف! يا من تنتهي حياتك في يوم ما! قال: ونحن قطعاً لا نعقل من الحياة والسمع والبصر والعلم إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا، فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض.
فأنت تثبت أن لله تبارك وتعالى عينين، لكن هل هما جارحتان؟ لا، وكذلك اليد والساق وغيرهما من صفات الذات لله تبارك وتعالى.
قال: فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض بل هي صفات كما تليق به.
أي: صفات كمال لا أعرف كيفيتها، لكنني أعلم علماً يقينياً أن الله تعالى حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، فأنا لا أعرف الشيء إلا من خلال أمرين: الأمر الأول: أن أراه هو.
فهل رأيت الله عز وجل؟ وهل لله مثيل؟ لا.
ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، فإذا كنت أجهل كيفية الذات سأجهل كيفية الصفات، لأنني لم أر ذات المولى تبارك وتعالى، فلا يمكن أبداً أن أمثل صفات الخالق بصفات المخلوقين.
قال: بل هي صفات كمال كما تليق به لا كما تليق بنا، ومثل ذلك بعينه: فوقيته واستواؤه ونزوله ونحو ذلك، نقول فيه بأن الكيف مجهول.
قال: وكل ذلك ثابت معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق، بل كما يليق بعظمته وجلاله، فإن صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، ولا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، الكل ورد في النص.
فإن قالوا في الاستواء والنزول: شبهتم.
يعني: إن قالوا لنا: أنتم تثبتون الاستواء والنزول؟ نقول: نعم.
فيقولون لنا: شبهتم.
فنقول لهم: في السمع والبصر شبهتم أنتم؛ لأنكم أصلاً لا تثبتون النزول ولا تثبتون الاستواء، إنما تثبتون السمع والبصر، فإذا كنتم تدعون أننا مشبهة لأننا نثبت الاستواء والنزول، فأنتم أيضاً مشبهة؛ لأنكم أثبتم السمع والبصر؛ لأنه لا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، كلها صفات لله عز وجل.
قال: قلنا لهم: شبهتم كما شبهنا، ووصفتم ربكم بالعرض.
فإن قالوا: لا نثبت له عرضاً، بل كما يليق به تعالى في السمع والبصر.
قلنا كذلك: ونحن نثبت له الاستواء والنزول كما يليق به تبارك وتعالى.
فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه، نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم، فكما هم لا يجعلونها أعراضاً كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا أعراضاً ولا ما يوصف به المخلوق.
وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين، فيحتاجون إلى التأويل والتحريف، ونفهم ذلك في الصفات السبع.
وهم السبعية من الأشاعرة.
قال: وحيث نزهوا ربهم في الصفات السبع مع إثباتها فكذلك يقال في غيرها، فإن صفات الرب تبارك وتعالى كلها جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة.
فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وأولنا هذه وحرفناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا بلاغ وكفاية.
انتهى كلام والد إمام الحرمين الإمام الجويني عليه رحمة الله.(28/20)
كلام ابن تيمية في آيات وأحاديث الصفات
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: (جماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولون: تجرى على ظواهرها) في كل الصفات.
قال: (وقسمان يقولون على خلاف ظواهرها).
يعني: يؤولونها ويحرفونها.
قال: (وقسمان يسكتون.
وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، فقل له: كيف هو؟ هل رأيته؟ فيقول: لا.
فقل: وأنا كذلك لم أر نزوله، فإذا كنت أنت لا تستطيع أن تكيف ذات الإله فأنا لا أستطيع أن أكيف أفعال الإله.
فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية الموصوف وأنت لم تعلم كيفية الصفة؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له، بل هذه الروح علم العاقل اضطراب النفس فيها.
فهذه الروح مخلوقة واختلف الناس فيها لعدم رؤيتهم لها، فأنت لا تستطيع أن تصف الروح مع أنها مخلوقة، وهي معك إذا نمت وإذا قمت، بل في كل أحوالك هي معك، فمن باب أولى أن تعجز عن وصف الخالق وصفات الخالق وأفعال الخالق.
قال: (والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثانية، وهي طريقة إمرارها على ظاهرها والإيمان بها كما جاءت).
وابن الجوزي قال كلاماً طيباً في كتاب (صيد الخاطر) مع أنه أشعري المعتقد إلا أنه أحياناً ينطق بكلام السلف، فيقول: من أضر الأشياء على العوام: كلام المتأولين والنفاة للصفات والإضافات، فإن الأنبياء عليهم السلام بالغوا في الإثبات ليقرروا في أنفس العوام وجود الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات؛ فإذا سمع العامي ما يوجب النفي طرد عن قلبه الإثبات، فكان من أعظم الضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاوماً لإثبات الأنبياء بالمحو، وشارعاً في إبطال ما بعثوا به.
قال: (وبيان هذا أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش، فأنست النفوس بإثبات الإله ووجوده، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]، وقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقال: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة:14] وقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المجادلة:22].
وأخبر الرسول أنه ينزل إلى السماء الدنيا فقال: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن).
وقال: (وكتب التوراة بيده).
وقال: (كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش) إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس؛ قيل له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فمحا من قلبه ما نقشه، وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة؛ ولهذا أقر الشارع على مثل هذا، فسمع منشداً يقول: وإن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا فضحك.
وقال له آخر: (أويضحك ربنا؟ فقال: نعم.
وقال: إنه على عرشه هكذا وأشار بيده مثل القبة) كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس.
وهو حديث ضعيف.
وعلى أية حال! كلام ابن الجوزي يحتاج إلى حذر شديد جداً؛ لأنه يضع السم في العسل فيما يتعلق بالاعتقاد، ولا يفعل ذلك ليفسد اعتقاد الأمة، وإنما أمور العقيدة عنده لم تنضبط، ولذلك خلط بينها كما خلط النووي وغيره بين الغث والسمين.(28/21)
الأسئلة(28/22)
حكم من دخل المسجد والإمام يصلي بالناس
السؤال
هل يجوز لأحد دخل المسجد والجماعة قائمة أن يصلي وحده أو يبقى بلا صلاة؟
الجواب
لا يصح له ذلك، وكل من دخل المسجد ووجد الجماعة قائمة وجب عليه أن يصلي معهم وإن كان ذلك قبل التسليم مباشرة، فقد دخل رجل المسجد فجلس ولم يصل، (فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: أقبل.
فأقبل.
قال: ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: إني صليت يا رسول الله!) قد يكون صلى في بيته، أو صلى في جماعة أخرى وأتى إلى المسجد فوجدهم يصلون، فاجتهد أنه قد صلى فلم يصل معهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت المسجد فوجدت الناس يصلون فصل معهم وعدها نافلة).
لكن يحظر عليك أن تدخل المسجد فتصلي صلاة غير صلاة الإمام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).
إذا دخلت المسجد وشرعت في صلاة السنة وسمعت المؤذن يقيم الصلاة فسلم من صلاتك والحق بالجماعة، وإذا دخلت المسجد ورأيت الناس يصلون وإن كنت قد صليت في الخارج فالحق بهم وصل بصلاتهم وعدها نافلة، كما أنه يحظر عليك أن تجلس بلا صلاة، فإن هذا يطرق للإمام أنك تكره الصلاة خلفه، وفي هذا من الفتن ما الله تعالى به عليم.(28/23)
فضل العالم على العابد
السؤال
قلت في محاضرة سبقت: إن بعض تلاميذ الشيخ الألباني والشيخ ابن باز اتجهوا للعبادة، وبعضهم اتجه للعلم ونشره والدعوة إلى الله عز وجل.
فمن أحب الفريقين إلى الله عز وجل؟
الجواب
لا شك أن العالم أفضل من العابد، وإن كانت الأحاديث التي تدل على الأفضلية لا يصح فيها دليل، فقوله: (عالم خير من ألف عابد) لا يصح به دليل، ولكن الله تبارك وتعالى أثنى على أهل العلم وجعلهم في مرتبة فوق مرتبة العباد ومرتبة عامة الناس، قال تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، فأهل العلم منزلتهم لا يمكن لأحد أن يدانيهم فيها ولا أن يساويهم، فهم ورثة الأنبياء، ولا شك أن ورثة الأنبياء خير ممن لم يرث الأنبياء كالعباد وغيرهم.(28/24)
حكم كتم العالم علمه عند الحاجة إليه
السؤال
وهل على الفريق الأول -العباد- ذنب لتركهم نشر العلم الذي أنعم الله عليهم به؟
الجواب
لا شك أن كاتم العلم عند الحاجة إليه آثم، فإن قام به غيره ولم يحتج إليه فلا إثم عليه، لأن نشر العلم فرض كفاية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة) هذا لمن احتيج إلى علمه، فإن لم يحتج إلى علمه فلا شيء عليه.(28/25)
سبيل الحصول على العلم
السؤال
إن أعلام الدنيا في زماننا كـ ابن باز والألباني وابن عثيمين لو أنهم رحلوا عنا - أمد الله في أعمارهم- قلتم إن الله سيستخلف أقواماً غيرهم فنريد رداً يعكس وضع حياتنا؟
الجواب
على أية حال! ابن باز كغيره من الناس، ولد لا يعلم شيئاً ولا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا ضراً وغيره كذلك من أهل العلم، يقول يحيى بن أبي كثير اليماني الإمام: لا ينال العلم براحة الجسد.
وهو مخرج في صحيح مسلم.
هؤلاء سهروا الليالي، واصلوا الليل بالنهار وزاحموا العلماء بركبهم، وتواضعوا وتأدبوا وحصلوا وذاكروا، وسامروا وناقشوا وتعلموا من كل علم قدراً وحظاً عظيماً جداً حتى يسر الله تبارك وتعالى لهم البحث والنظر في جميع العلوم الشرعية، ولا غرو أبداً إذا سلكت مسلكهم وهممت ونشطت في طلب العلم أن يوفقك الله عز وجل، وليس ذلك عليه بعزيز.(28/26)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
من حضر إلى الصلاة فلم يجد مكاناً في الصف ولا فرجة فيه، فهل يقف بنفسه؟
الجواب
نعم.
من دخل المسجد ولم يجد مكاناً في الصف فله أن يصلي وحده، فإن وجد فرجة في الصف فليلحق بها، وإن كان بإمكانه أن يلحق بالصف أو أحد الصفوف ولكنه آثر أن يصلي في صف وحده فصلاته باطلة، (والنبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يصلي وحده فقال: أعد صلاتك) ولو كانت صحيحة ما قال له هذا.(28/27)
بيان أن حجاب الله عز وجل واحد فقط
السؤال
ما الدلالة على إثبات الحجاب؟ ويوجد حديث في مجمع الزوائد يقول فيه: (سبعون حجاباً من نور ثم سبعون حجاباً من نار)، وهل يدخل في باب الصفات، فما الرد على من قال: هو حجاب واحد؟
الجواب
الحجاب حجاب واحد لله عز وجل، تقدم قبل ذلك الدليل في سنة النبي عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك مسلم.
قال: (حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) قال: حجابه، ولم يقل: حجبه، فالحديث السابق لا يمكن أن يعارض هذا الحديث الصحيح.(28/28)
باب كيفية وزن الأعمال يوم القيامة
السؤال
هل الأعمال يوم القيامة توزن بالحسنات والسيئات أم هي أعراض وأجسام؟
الجواب
هذه المسألة يعلمها الله عز وجل، وإن كان بعض أهل العلم تكلموا فيها، وإذا كنت تثبت القدرة المطلقة لله عز وجل فما المانع أن يزن الله تبارك وتعالى الحسنات والسيئات بغير أن يجعلها أجساماً وأعراضاً.
أنا أؤمن بذلك كما آمن النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر: أن الله تعالى قادر على كل شيء ويفعل ما يشاء، فإذا أراد أن يزن الأعمال خيرها وشرها دون أن تكون أعراضاً محسوسة أو ملموسة فهو قادر على ذلك، وهو قادر على أن يجعل هذه الحسنات والسيئات والأعمال أعراضاً، له هذا وله ذاك، وهو سبحانه على ما يشاء قدير.(28/29)
حكم من سها في صلاته ونسي أن يسجد سجود السهو
السؤال
شخص صلى المغرب وفي الركعة الثانية بعد قراءة التشهد قام بالتسليم وعلى الفور ذكرناه فتذكر أنه صلى ركعتين فقام وجاء بالثالثة ثم سلم ونسي أن يسجد سجدتي السهو، فماذا يفعل؟ وهل صلاته صحيحة؟
الجواب
أهل العلم يفرقون بين نسيان الزمن الطويل والزمن القصير، بأن كان لا يزال في مكانه الذي صلى فيه أو قريباً منه وتذكر وجب عليه أن يسجد للسهو حتى وإن كان هناك بعض الوقت بين تسليمه وبين تذكره، وإن طال الوقت فلا يجب عليه حينئذ، لكن إن شاء فعل وإن شاء ترك.(28/30)
ميراث أولاد الأم التي ماتت قبل أبيها في تركة جدهم
السؤال
هل يرث أولاد الأم التي ماتت قبل أبيها في تركة جدهم؟
الجواب
نعم.
يرثون -تحت باب الوصية الواجبة- حظ أمهم، والوصية الواجبة هي أن يموت الفرع بوجود الأصل، ولهذا الفرع أحفاد، فهم يرثون في تركة جدهم حظهم منه من باب الوصية الواجبة.(28/31)
حكم حلق اللحية
السؤال
يقول: من تنبت له لحية ولكن في أجزاء متفرقة، هل يجوز له حلقها؟
الجواب
لا يجوز، لا يجوز فعل ذلك.(28/32)
حكم ترك الحارس لصلاة الجمعة خشية الضرر
السؤال
شخص يعمل حارس أمن، ويأتي وقت صلاة الجمعة وهو في عمله فلا يستطيع صلاة الجمعة التي يكون فيها العمل لوقوع الضرر عليه، فماذا يفعل؟ وهل يأثم بعدم صلاتها؟ وهل يصليها ظهراً؟
الجواب
صلاة الجمعة لا مفر من الإتيان إلى مسجد الإمام والصلاة خلفه، لكن إذا منع من ذلك مانع مع تحسر وتفطر قلب العبد وأن العذر قد منعه تماماً كالمريض والمسافر والعبد والمرأة كان معذوراً عند الله كعذر هؤلاء، وكذلك المحبوس لا جمعة عليه، فإذا كان عذره بلغ هذا المبلغ بحيث صار معذوراً عند الله عز وجل فلا جمعة عليه حينئذ ويصلي الظهر، والله أعلم.(28/33)
ما يفعله المغتاب إن أراد التوبة
السؤال
أحسست أني قد اغتبتك وسامحني سامحك الله؟
الجواب
على أية حال، هذه المسائل اختلف فيها أهل العلم.
قيل لـ عبد الله بن المبارك: إني اغتبتك فسامحني.
قال: لا أحب أن أسامحك في شيء حرمه الله عليك.
وقيل لـ محمد بن سيرين: سامحني فإني قد اغتبتك.
قال: إني تصدقت بعرضي عليك فقل فيه ما شئت كل صباح ومساء.
وقول ابن سيرين أحب إلي من قول ابن المبارك.(28/34)
حكم القنوت في صلاة الفجر
السؤال
ما حكم قنوت الفجر، وهل ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام حديث صحيح فيه؟
الجواب
فيه خلاف بين أهل العلم، فالشافعية يقولون بوجوب القنوت، ولكن الراجح من مذاهب الفقهاء: أنه لا قنوت خاص بصلاة الفجر ولا بأي صلاة من الصلوات الخمس، وإنما القنوت عند النوازل في الصلوات الخمس لا في صلاة دون صلاة، وهو المذهب الراجح.
فإن قيل: هل أقنت خلف إمام يقنت أو أفارقه؟
الجواب
تقنت خلفه رفعاً ودرءاً للفتنة والشقاق الذي يمكن أن يحدث ولا تقل شيئاً، بل ارفع يديك خلفه ولا تنزل يديك إلا عند نزول الإمام أو عند إنزال المصلين أيديهم لا لأنه دين، ولكن لأن الدين رفع الفتن عن المسلمين، ولو صح حديث أنس بن مالك: (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقنت حتى قبض) لزال الإشكال، ولكنه حديث صحيح عند الشافعية، منكر عند جمهور أهل العلم، والصواب: أنه منكر.(28/35)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - صفة الإتيان والمجيء لله عز وجل
صفتا الإتيان والمجيء لله عز وجل من الصفات الفعلية التي تخضع لمشيئته سبحانه وتعالى، وهما ثابتتان بالكتاب والسنة ثبوتاً يليق بالله سبحانه دون تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل، خلافاً للمؤولة الذين صرفوا النصوص عن ظاهرها ومرادها، فأولوا الإتيان والمجيء لله بأنه مجيء أمر الله سبحانه أو رحمته، لا مجيئه بذاته سبحانه وتعالى.(29/1)
صفات الله الذاتية والفعلية
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن صفات الله عز وجل، وصفات الله تعالى إما ذاتية وإما فعلية.
فالصفات الذاتية هي: الصفات اللازمة لذاته التي لا تنفك عنه.
بمعنى: أنها لا تخضع لمشيئته، إن شاء فعل وإن شاء ترك، بل هي صفة ذاتية لازمة لله عز وجل: كصفة اليد، والعين، والساق، والقدم، وغيرها من الصفات.
وأما الصفات التي تخضع لمشيئته فيسميها أهل العلم بصفات الأفعال، إن شاء فعل وإن شاء ترك، وفعله تبارك وتعالى لا منتهى له، وهو مع ذلك خاضع لمشيئته وإرادته، فإذا أخبر أنه استوى، فالاستواء فعل لله عز وجل، يستوي كيف شاء، في أي وقت شاء، وإذا أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو يدنو من عباده، أو يقترب منهم؛ فهذه كلها أفعال يفعلها في أي وقت شاء، وفي أي زمان ومكان شاء، وإن شاء ألا ينزل لا ينزل، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام حدد وقت النزول للمولى تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، وهذا يدل على أنه ليس في كل وقت ينزل، وإن أراد أن ينزل في كل وقت لفعل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنه ينزل في أوقات معلومة، وأعظم هذه الأوقات هو يوم عرفة، فيدنو من عباده في يوم عرفة فيغفر لهم، وينزل في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده الصالحين كذلك، بل وينزل كل ليلة إذا بقي الثلث الأخير من الليل، فينادي على عباده ويتودد ويتحنن إليهم، هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ ويظل ينادي على عباده حتى ينبلج الفجر.
والكلام عن صفة النزول قد تعرضنا له من قبل وكذا الاستواء، وقلنا: إن معتقد أهل السنة والجماعة في صفات الأفعال كمعتقدهم في صفات الذات، فكما أنهم أثبتوا اليدين والعينين لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى دون تشبيه ولا تعطيل، فكذلك قالوا في صفات أفعال ربنا تبارك وتعالى، فإنه يأتي، يجيء، لكن ليس كإتيان البشر، وليس كمجيء المخلوقين، وكما أن الله تعالى لا تُعلم كيفية ذاته، فكذلك لا تُعلم كيفية صفاته التي منها: المجيء والنزول والاستواء والغضب والرضا والفرح وغير ذلك من بقية صفات الأفعال، فلا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، لكننا نوقن أنه يفرح، وأنه يغضب إذا انتهكت محارمه، ويأتي وينزل إلى سماء الدنيا، فنوقن بكل ما ورد في الكتاب والسنة على ما أخبر به مالك وأم سلمة وربيعة الرأي أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
أي: السؤال عن كيفية الصفة.
ولذلك قال أحمد: من قال لك: كيف استوى؟ فقل له: كيف هو؟ لأن الصفات تصور عن الذات، والكلام في الصفات يستلزم الكلام في الذات، فإذا كنت تقر بأنك تجهل ذات الإله، فلا بد وأنك كذلك تجهل كيفية صفات ذلك الإله سبحانه وتعالى، فالذي لا يستطيع أن يتكلم، وأن يصف ذات الإله، لا بد وأن يلتزم الصمت في وصفه لأفعال الله عز وجل.(29/2)
إثبات صفة المجيء لله عز وجل
صفة الإتيان ثابتة بالكتاب والسنة، فيأتي الرب يوم القيامة للفصل بين العباد، وقد ثبت ذلك في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لكن المتأولة أبوا إلا أن يصرفوا مجيء الرب تبارك وتعالى إلى غير ظاهر النص، فقالوا في قوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
أي: جاء أمر ربك.
ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن تفسير مجيء الرب بالأمر ينفي صفة عن الله عز وجل أثبتها لنفسه، وهذا يصطدم مع معتقد أهل السنة من أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه، فإذا أثبت الله لنفسه أنه يجيء، وأنه يأتي؛ فلا بد من إثبات هذه الصفة على الوجه اللائق به عز وجل، فيجيء حيث شاء، وكيف شاء، وفي أي وقت شاء، ولا نسأل عن الكيفية.
والذي يتأول مجيء الرب بأنه مجيء الأمر لا بد وأن ينفي عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه، وكأنه يريد أن يقول: أنا أعلم بالله من الله، وأنا أعلم بالله من رسل الله؛ لأنهم أثبتوا جميع الصفات لله عز وجل، فأثبتوا صفات الكمال والجلال والعظمة، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه المجيء، وأثبت لنفسه الإتيان، فلم نتكلف نحن في صرف هذه النصوص عن ظاهرها؟ كما أولوا المجيء بالرحمة، فقالوا في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22].
أي: وجاءت رحمة ربك.
وهذا تأويل.
وهم مع ذلك يثبتون السمع والبصر والعلم والحياء وغيرها لله عز وجل، ويقولون: إن إثباتنا لصفة المجيء لله عز وجل يستلزم الحركة والانتقال، ويستلزم أنه في حيز، وأن السماء تحيطه، وأن العرش والكرسي من فوقه حين ينزل وحين يجيء، مع أنهم هم الذين ينكرون علو الله عز وجل، لكن المتأولة لا يثبتون على قدم واحدة، فيقولون في هذا الموطن كلاماً يردون على أنفسهم في موطن آخر، فهم الذين يقولون: إن القول بمجيء الرب يستلزم منه الحركة والانتقال.
كما أنهم يقولون: إنه لا ينزل؛ لأن نزوله يستلزم خلو العرش منه.
فنرد عليهم: بأنهم لم يثبتوا لله تبارك وتعالى الفوقية، وهم الذين يقولون بأن الله في كل مكان، فكيف الآن تعترفون؟! والنزاع ليس في الفوقية، وإنما النزاع في النزول، وهل الذي ينزل لا ينزل إلا من علو؟ فلا يتصور أنه يصعد من الدور الأرضي إلى الدور الثاني أو الثالث أو الرابع، ولا نقول: فلان نزل من الأرض إلى الدور الخامس، وإنما نقول: نزل من الدور الخامس إلى الدور الأرضي أو الرابع أو الثالث.
فالنزول في لغة العرب إلى أسفل، والارتفاع والعلو إلى علو، واستواء المولى تبارك وتعالى يختلف عن استواء المخلوقات، فاستواؤه لا يعلم كيفيته إلا هو، لكننا نعلم يقيناً أنه استوى؛ لأنه أخبرنا أنه استوى، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فالاستواء معلوم لدينا، لكن كيفية هذا الاستواء مجهول لا نعلمه؛ لأننا لا نعلم كيفية الذات، فكيف نعلم كيفية صفاته التي منها الاستواء؟ الذي نقوله في النزول والاستواء نقوله كذلك في المجيء والإتيان؛ فإن الله تعالى يأتي ويجيء حيث شاء، وبالكيفية التي يشاؤها ويريدها على الوجه الأكمل اللائق به تبارك وتعالى، ولا نقول: إنه يأتي كإتياننا، ويمشي كمشينا، ويهرول كهرولتنا، ويسارع كإسراعنا، بل كل ذلك بعيد عن الله عز وجل.
فصفة المجيء والإتيان جاءت في قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
والمتأولة يقولون: المجيء هو مجيء الملائكة، وليس مجيء الله عز وجل، وهذا كلام فاسد وباطل، يبطله قول ربنا تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210].
ومع هذا فسروا ذلك لياً لأعناق النصوص، وقالوا: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ملائكة الله في ظلل من الغمام؟ وكل ذلك حتى لا يفتروا -بزعمهم- على الله عز وجل أنه يجيء ويذهب، ويروح ويأتي، وغير ذلك، فإذا كان الله تعالى أثبت لنفسه ذلك، فلم أتكلف أن أصرف ذلك عن ظاهره؟ قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158].
فهذه الآية مفحمة؛ لأن الله تعالى أثبت فيها إتيانه، وأثبت فيها إتيان الملائكة، وأثبت فيها إتيان بعض أمر ربك.
فإذا قالوا: إن إتيان الله يعني إتيان بعض آياته؛ فقد أثبتته الآية.
وإذا قالوا: إنه إتيان الملائكة وإتيان الأمر؛ فقد أثبتته الآية، فيبقى إتيان الله عز وجل، فلابد وأن يقروا بأن الله تعالى يأتي إتياناً يليق بجلاله وكماله.
ومن التقاليد الموروثة لدى كثير من المفسرين الذين ينهجون منهج الخلف ومنهج المتأولة: أنهم يفسرون المجيء المذكور في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] بمجيء أمر الله تعالى.(29/3)
السؤال عن الله بـ (أين) لا يستلزم التحيز ولا الجهة
يبقى سؤال هنا للذين يقولون: إن أمر الله هو الذي ينزل، وهو الذي يجيء ويأتي، فنسألهم: أين الله؟ فلا يقبلون هذا السؤال، ولا يحبون الجواب عنه، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الجارية هذا السؤال بلفظه ومعناه: (أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
فقال لسيدها ومولاها الحكم بن معاوية السلمي: أعتقها فإنها مؤمنة).
فشهد لها النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان؛ لأنها تعتقد وتقر بلسانها أن الله تعالى في السماء، ولذلك لا بأس أبداً من توجيه هذا السؤال، فإذا سألنا الذين يصرفون آيات الله تعالى عن ظاهرها فراراً من التشبيه بزعمهم، فنقول لهم: أين الله الذي يأتي الأمر من جهته؟ فسيضطربون اضطراباً عظيماً جداً في الجواب عن هذا السؤال، لذا فأول ما يفعله النفاة في مثل هذا الموقف أن يقولوا: لا يسأل عن الله بـ (أين).
وهم الآن ينفون هذا السؤال، ويخطئون من يسأل ويقول: أين الله؟ إذاً: فهم أعلم من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي سأل هذا السؤال، وليست الحجة في قول الجارية، وإنما الحجة في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام للجارية، لكنهم يردون علينا بسؤالنا أين الله؟ بقولهم: هذا السؤال لا ينبغي أن يوجه، ولا يسأل عن الله بـ (أين)، مع أنه قد صح في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين الله؟) فيقولون: لأن إثبات الأينية لله عز وجل يستلزم الحيز والجهة، وإذا كان في حيز أو في جهة، فهذا يعني أنه داخل في بعض خلقه، وإذا كان داخلاً في بعض خلقه؛ فإن الخلق يحيط به، مع أن الله تعالى هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وليس في المخلوقات من أحاط الله عز وجل، أو ما أحاط بالله عز وجل، فهكذا تفلسفوا، وهكذا تمنطقوا.
وهذا كلام في غاية العجب.
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما السماوات والأرض بالنسبة للكرسي إلا كحلقة في فلاة).
أي: في صحراء، في برية، في بادية، فهل تظهر هذه الحلقة؟ لا تظهر، إذاً فالسماوات والأرض بهذا الحجم الذي نراه إذا سرنا فيه ما هي بالنسبة للكرسي إلا كحلقة ملقاة في صحراء.
قال: (وما الكرسي بالنسبة للعرش إلا كحلقة في فلاة، والله تعالى مستو على العرش، والكرسي موضع قدميه سبحانه وتعالى).
والكرسي يحيط بالسماوات والأرض وزيادة؛ لأن السماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء، وهذا الكرسي العظيم إنما هو موضع القدمين لله عز وجل، وهو بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، فما بالكم بالعرش كيف هو؟ لا يستطيع أحد أن يصف العرش، كما لا يستطيع أحد أن يصف الكرسي، مع أن الكرسي بالنسبة للعرش شيء قليل جداً، وشيء بسيط جداً، لكن هذا الشيء البسيط يحيط بالسماوات والأرض.
إذاً: فهل نحن مكلفون بأن نتفكر في ذات الله تبارك وتعالى؟ فإقحام العقول والأفكار والأفهام في البحث عن ذات الله عز وجل لا بد وأن يؤدي بالضرورة إلى ضلال صاحبه وتحيره وتيهه، وربما أدى به إلى الكفر بالله عز وجل، ولذلك أمرنا أن نتفكر في آيات الله، وألا نتفكر في ذاته تبارك وتعالى؛ لأن ذاته فوق كل فكر، وفوق العقول، وفوق الإدراك، ولا يمكن أبداً أن يحيط عقل بصفة من صفات الله، فضلاً أن يحيط بذات الله تبارك وتعالى.
وإذا كنا نعجز أن نصف الله عز وجل، فإننا بالتالي نعجز أن نتصور صفات المولى تبارك وتعالى التي منها: المجيء، بل علينا أن نسلم، وأن نؤمن بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنؤمن بذلك ولا نخوض فيه، لا بعقل ولا بفكر.
ومن فضل الله عز وجل: أنه لا يسألنا عن ذاته، ولا يسألنا عن كيفية صفاته، والمرء إنما يحرص على ما ينفعه، وإقحام العقل في صفات الله عز وجل وفي ذاته إنما هو أمر يؤدي إلى الضرر، والعبد غير مسئول عن هذا، فهل يعقل أن يدع ما يسأل عنه بين يدي الله عز وجل من أحكامه وفرائضه وسننه، ثم يقحم نفسه في مسألة لم يكلفه الله تبارك وتعالى بها؟ على كل حال إذا كان النفاة لا يثبتون علو الله على خلقه، فلا معنى لقولهم: جاء أمر ربك؛ لأنهم لا يدرون من أين يأتي الأمر، وهم يقولون: إن الله في كل مكان، اللهم إلا إذا زعموا أن الأمر يأتي من كل مكان، لتصورهم أن الله تعالى في كل مكان، ولا نعلم أحداً قال بهذا القول، حتى هم لم يقولوا: إن الأمر يأتي من كل مكان، فالله عز وجل قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22].
فنحن نعلم مجيء الرب تبارك وتعالى، ونعلم أنه يأتي من علو، وهؤلاء لا يثبتون العلو لله عز وجل، فنقول لهم: إذا فسرتم وأولتم مجيء الرب بأنه مجيء الأمر فمن أين يأتي الأمر؟ وهم يقولون: إن الله في كل مكان.
إذاً: يأتي الأمر من كل مكان، وهذا الكلام لم يقل به أحد، حتى هم لم يقولوا بذلك.
فليس لدى النفاة جواب بالنسبة لهذه الآيات ما لم يركبوا رءوسهم، إذ لم يبق هناك من يضيفون إليه المجيء؛ لأن الآية قطعت عليهم خط الرجعة كما يقولون، حيث ذ(29/4)
عدم إحاطة العباد بالله علماً
هل لأحد أن يدعي أنه يحيط علماً بالله؟
الجواب
لا.
لأن ذلك مستحيل شرعاً وعقلاً، والواقع أن الله تعالى هو الذي يحيط خلقه بعلمه، أما هو سبحانه يُعلم ولا يحاط به علماً، فهو معلوم الوجود، وأنه واجب الوجود، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].
فهم لا يحيطون بذاته ولا بصفاته ولا بأفعاله علماً، والنزول والمجيء من أفعال ربنا تبارك وتعالى، فينتهي علمنا فيهما وفي غيرهما من أفعال ربنا تبارك وتعالى بمعرفة المعنى العام أنه يأتي وأنه يجيء، أما كيف يأتي وكيف يجيء فهذه ليست لنا ولا نعرفها، بل ولا يعرفها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكيف يدعي هؤلاء صرف هذه النصوص عن ظاهرها؟ وتعطيل النصوص بالضرورة يستلزم تعطيل صفات المولى تبارك وتعالى.
ومما يؤمن به أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، ومما يحدثه في نهاية المطاف لهذه الدار: أن يأمر الشمس أن تطلع من مغربها بدلاً من طلوعها من مشرقها؛ إعلاناً وإعلاماً لنهاية هذه الحياة، وهنا يغلق باب التوبة، ولا يقبل إيمان ممن يريد أن يؤمن، أو عمل صالح ممن يريد أن يعمل عملاً صالحاً.
ثم إذا جمع الله الأولين والآخرين يأتي يوم القيامة ليحاسب عباده، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
وهناك يتميز المؤمن الصادق الذي كان يعمل بصدق ويقين {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، فيأتي الرب تبارك وتعالى فيعرفه المؤمنون بعلامته الخاصة، وهي ساقه تبارك وتعالى، فيسجدون له سبحانه سجود تعظيم وشكر في آن واحد، ويحاول المنافقون والمراءون أن يسجدوا كسجود المؤمنين، فيجعل الله تبارك وتعالى ظهورهم طبقاً واحداً، فإذا أرادوا أن يسجدوا لله خروا على ظهورهم؛ لأنهم لم يكونوا يسجدون لله في الدنيا، ومن سجد منهم إنما سجد مرائياً منافقاً، ولم يكن يسجد لله بصدق وإيمان ويقين.
إذاً: هذه الصفة ثابتة لله عز وجل على الوجه اللائق، ونقول فيها كما نقول في غيرها من بقية الصفات.(29/5)
إثبات أن لله هرولة تليق به سبحانه
قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الذي يقول فيه المولى عز وجل: (وإذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً).
فأثبت القرب من العباد لله عز وجل.
(وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة).
فأنا أهرول، والله تعالى يهرول، لكن هرولة الله ليست كهرولة المخلوقين، وإنما ذلك اتفاق في الاسم واختلاف في المسمى والمضمون، والمعنى معلوم، والكيف مجهول.
فهرولة الله تبارك وتعالى يقيناً معلومة لدينا؛ لأنه أخبرنا أنه يهرول، لكن كيف يهرول؟ هذه ليست لنا، ولو سألتني: كيف يهرول زيد أو عمرو؟ لقلدت لك هرولة زيد وعمرو؛ لأن الأمر لا يعلم إلا بشرطين: إما برؤيته له، فأستطيع أن أصفه، وإما بوجود المماثل له.
وأنت سألتني: كيف يهرول عمرو أو زيد؟ فهل عمرو سيأتي بهرولة جديدة؟ لا.
فنحن نهرول كبعضنا، ولكل واحد من البشر هرولة خاصة، وهو رمل واحد، وإسراع واحد، وجري واحد، وبطء واحد، ويستطيع المرء أن يصف ذلك في المخلوقات؛ لأنه رأى ذلك بنفسه ويستطيع أن يفعل ذلك، وهناك أمثلة عديدة في البشر يستطيع أن يقيس؛ لأني كزيد وكعمرو وكإبراهيم وكمحمد، لكن لا أقول: أنا كالله تعالى! لأننا إذا كنا نتفق على أن ذات المخلوقات تختلف عن ذات الله عز وجل فلا بد وأن نقول: إن صفاته تبعاً لهذه الذات تختلف عن صفات المخلوقين فهو يهرول كيف يشاء، ولا أستطيع أبداً أن أصف هرولة الله عز وجل؛ لأنني لم أر الله، ولم أر هرولة الله، ولذلك لا أستطيع أبداً أن أمثلها؛ لأنها غيب عني، وكل ما في الأمر: أن الله تعالى ألزمني الإيمان بأنه يهرول، وأنه يأتي، وأنه يجيء، وأنه يتقرب إلى عباده.
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرؤية قال: (فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم! فيقولون: لا، نبقى هنا حتى يأتينا ربنا كما نعرفه).
لأنهم قد رأوه أول مرة في المحشر، ولذا لما ظهر لهم في صورة أخرى وقال: أنا ربكم! قالوا: لا.
إنما لربنا علامات نعرفه بها، عينان، وساق، ويدان.
فهذه وغيرها جوارح في حق المخلوقين، لكنها ليست جارحة في حق الله عز وجل.
ولذلك لما ظهر الله تعالى لهم لم يروا له مثيلاً ولا نداً ولا شبيهاً في حياتهم قط، فعرفوا أن هذا هو الله عز وجل؛ لأنه واحد في ذاته، واحد في صفاته، لا يشبه أحداً، فلما بدا لهم وظهر لهم وكشف الحجب بينه وبينهم ورأوه على هذا النحو الذي لا يمكن لبشر أن يصفه قالوا: أنت ربنا.(29/6)
أقوال أهل العلم في إثبات صفتي الإتيان والمجيء(29/7)
قول ابن جرير في إثبات صفتي المجيء والاتيان
قال ابن جرير: اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره الله تعالى في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:210].
فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول.
أي: لا بد أن نسلم أنه يأتي مثلما قلنا في النزول والاستواء وغير ذلك، ونفوض علم الكيفية لله عز وجل، وغير جائز لأحد تكلف القول في ذلك إلا بخبر من الله عز وجل، أو من رسل الله تعالى.
ولذا عندما لم يأت الخبر بالكيفية؛ وجب أن نسكت عما سكت عنه الأنبياء، وعما سكت عنه أصحاب الأنبياء، ولذلك لم يرد في أثر -ولو باطل- أن واحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال له: يا رسول الله! كيف يأتي ربنا؟ كيف يستوي ربنا؟ كيف يتكلم ربنا؟ فلم يسألوا عن الكيفية قط؛ لأنهم يعلمون أن لله تبارك وتعالى ذاتاً تختلف عن ذواتنا، وهم لا يمكن أبداً أن يحيطوا بها علماً، ولذلك لم يتكلفوا السؤال عنها، وعن كيفية صفاتها.(29/8)
إثبات أبي الحسن الأشعري لصفتي المجيء والإتيان
وقال أبو الحسن الأشعري، وهو من أفراخ المعتزلة ورئيس الأشاعرة، لكن الله تعالى منَّ عليه بفضله؛ فانسلخ من معتقده الفاسد الأول، وجاء مقراً بعقيدة أحمد بن حنبل، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة قال: وأجمعوا -أي: أهل السنة- على أنه عز وجل يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً.
فإجماع السلف على أن الله تعالى يجيء، وأنه يأتي، وأنه يتقرب إلى عباده، ويقترب، ويدنو منهم، وكيفية ذلك لا يعلمها إلا هو سبحانه.(29/9)
قول الشيخ الهراس في إثبات صفتي المجيء والإتيان
وقال الشيخ الهراس في شرح الواسطية -بعد أن ذكر الآيات والأحاديث الثابتة في صفة الإتيان والمجيء -: وفي هذه الآيات إثبات صفتين من صفات الفعل -أي: من صفات فعل الله عز وجل- وهما: صفتا الإتيان والمجيء، والذي عليه أهل السنة والجماعة: الإيمان بذلك على حقيقته.
أي: نؤمن بأن الله تعالى يأتي حقيقة لا مجازاً، ويبتعدون عن التأويل الذي هو في الحقيقة إلحاد وتعطيل.(29/10)
تأويل الإمام النووي وابن الجوزي لصفتي الإتيان والمجيء والرد عليهما
وقد جاءت صفتا الإتيان والمجيء مقترنتين في حديث واحد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا تلقاني عبدي بشبر؛ تلقيته بذراع، وإذا تلقاني بذراع؛ تلقيته بباع، وإذا تلقاني بباع؛ جئته وأتيته بأسرع).
صفتان ثابتتان لله عز وجل: الإتيان والمجيء، لكن بعض أهل العلم لا يدعون هذه الآيات تمر هكذا، كـ ابن الجوزي عليه رحمة الله، والنووي عليه رحمة الله، وكلاهما لم يتمكن من دراسة العقيدة دراسة وافية مستفيضة على يد أهل السنة والجماعة؛ ولذلك وردت أخبار في ترجمة ابن الجوزي عليه رحمة الله، أنه شيخ الوعاظ وصاحب ورع وتقى وهدى، لكنه في باب الصفات لم يحكم ذلك إحكاماً، وإنما كان له تخبط، فتارة يقول بقول السلف، وتارة يقول بقول الخلف، وتارة يذكر الخلاف ولا يرجح، تماماً كما يفعل النووي، ولذلك عاب عليه الذهبي عليه رحمة الله في كتاب السير باعتبار ابن الجوزي حنبلي المذهب، فقال: ويا ليته سكت أو تبع إمامه.
أي: يا ليته ما تكلم في الصفات، ويا ليته إن تكلم اتبع إمامه أحمد بن حنبل.
فـ ابن الجوزي ممن دخل في هذا التأويل، وكذا النووي عليها رحمة الله، لكن تلاميذ النووي نقلوا عنه أنه لم يحكم دراسة العقيدة، بل كان يقلب فيها، وينقل من كتب القاضي عياض، والإمام المازري وكلاهما أشعري معروف بأشعريته وخلفيته، فذكر الإمام النووي هذه الآيات وهذه الأحاديث، وذكر فيها خلاف أهل العلم، ورجح فيها مذهب الخلف للأسف، فأثبت أن المجيء إنما هو مجيء الأمر لا مجيء الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يفهموا من صفات الله عز وجل إلا ما يفهمونه من صفاتهم البشرية، وقياسهم مجيء الرب على مجيئهم، وإتيان الرب على إتيانهم، وقرب الرب على قربهم ودنوهم، فهم لم يفهموا ولم يدركوا من صفات الله عز وجل إلا ما يدركون من صفاتهم التي يرونها ويعلمونها من أنفسهم، وهذا بلا شك خطأ عظيم جداً، والرد عليه من أوجه كثيرة: أولاً: أن النووي لما رجح مذهب الخلف ادعى أن هذا مذهب السلف، فإن كان يقصد مذهب الأشاعرة، وأنهم سلف بالنسبة له وأنه تابع لهم في بعض الصفات؛ فكلامه صحيح، وإن كان يقصد أن هذا مذهب السلف الصالح عامة؛ فكلامه مردود، إذ إن التأويل ليس هو مذهب السلف، وإنما هو مذهب الخلف.
ومذهب السلف رضي الله عنهم إنما هو إثبات المعاني، وتفويض علم الكيفية إلى الله تعالى، وقد فصلنا القول في ذلك مراراً ولا داعي لإعادته.
ثانياً: تأويله للإتيان والمجيء بالرؤية، أو ببعض ملائكة الله، ليس تأويلاً صحيحاً، بل هو يناقض العقيدة السلفية في صميمها، فنحن إذ نقول بإثبات صفة المجيء والإتيان للرب تبارك وتعالى لا يستلزم ذلك التشبيه والتجسيم؛ لأننا قلنا من قبل: ما من شيئين إلا وبينهما اشتراك وافتراق، فمن نفى القدر المشترك فقد مثل، ومن نفى القدر الفارق فقد عطل.
والله تعالى يأتي في صورة فيقول: أنا الجبار، وهو سبحانه قد صورني وخلقني على صورة معينة، فهل صورتي كصورة الله عز وجل؟
الجواب
لا.
لكن أوجه الشبه بيني وبين الله أن لي صورة ولله تعالى صورة.
فالخلق يتفقون مع الخالق في مجرد التسمية فقط، ومن نفى القدر المشترك فقد مثل، كأن يقول: صورتي كصورة الله عز وجل؛ لأنه أثبت لنفسه صورة، وأثبت لله صورة، فلا بد وأن تكون صورته كصورة الله، وهذا خطأ عظيم؛ لأننا إذا كنا نفرق بين ذات المخلوق وذات الله، فلا بد وأن المخلوق يقول بنفس الفارق بين صورته وصورة الله عز وجل، وإلا إذا لم يقم هذا الفارق بينه وبين الله فلا بد وأن يجعل نفسه أو ذاته كذات الله تعالى، وهذا إلحاد وكفر.
ومن نفى القدر الفارق فقد عطل.
أي: عطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته.
كما أن الله عز وجل يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، وكل ذلك على الحقيقة من غير أن يلزم فعله سبحانه وتعالى ما يلزم المخلوقين إذا فعل مثل ذلك.
ومن المؤكد أن النبي عليه الصلاة والسلام وسلف هذه الأمة وأئمتها يعلمون أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة، أو وصفه رسوله بصفة أن ذلك ثابتاً له على ما يليق به سبحانه وتعالى، فلا يشبه شيئاً من صفات خلقه، كما لا تشبه ذاته سبحانه ذواتهم، وكذلك القول بالنسبة لأفعاله سبحانه وتعالى.
ومن الجدير بالذكر هنا: أن في صفات الخلق ما يختلف فيما بينهم، فليس كل الخلق يتصفون بصفة واحدة، ولذلك الحيوانات لها صورة، والطيور لها صورة، وبنو آدم لهم صورة، والله تبارك وتعالى له صورة، فهل اتفاق الجميع في لفظ الصورة يستلزم المماثلة والمشابهة بين هذه المسميات؟
الجواب
لا، فتشابه الصفات في الاسم لا يستلزم تشابه الذوات.(29/11)
كلام ابن تيمية في إثبات صفتي المجيء والإتيان
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: وإذا قيل: الصعود والنزول، والمجيء والإتيان أنواع جنس حركة.
قيل: والحركة أيضاً أصناف مختلفة، فليست حركة الروح كحركة البدن، والروح تتحرك في البدن، ومع هذا لا يستطيع أحد أن يصف الروح التي هي بين جنبيك، وتتحرك فيك بالليل والنهار وأنت نائم ومستيقظ، فكيف تصف صفات المولى تبارك وتعالى؟! وكذلك الملائكة لها حركة، والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز، فالذين يقولون: إن إتيان الرب تبارك وتعالى يستلزم الحركة والانتقال والحيز، نقول لهم: ليس ذلك بلازم، فهناك بعض المخلوقات تتحرك دون حيز، كما يراد بالحركة أمور أخرى كما يقول كثير من الطبائعية والفلاسفة، منها: الحركة في الحكم كالحركة في النمو، فمثلاً تقول: فلان ينمو ويتحرك دائماً.
والحركة في الكيف كحركة الإنسان من جهل إلى علم، كأن تقول لابنك: يا بني! تحرك قليلاً؛ لما ترى ما يكتب له في الشهادة وهو راسب، أو درجاته قليلة، فتقول له: تحرك.
فأنت لا تقصد بقولك هذا أن ينتقل من حيز إلى حيز، أو من مكان إلى مكان، وإنما تقصد أن ينتقل بكيفية أخرى، وهي أنه يعلو من الجهل إلى العلم، وحركة اللون من سواد إلى بياض، والحركة في الأين فليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز، فإذا كانت حركة المخلوقات لا تستلزم الانتقال وخلو المكان الأول، فهي من باب أولى في جنب الله عز وجل، وفي نزول الله عز وجل، وقد قلنا فيما مضى: إن بعض الناس يتوهم أن نزول المولى تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل لا يستلزم خلو العرش منه، وأن العرش والسماوات من فوقه فيكون سبحانه محصوراً بين خلقه، فهذا كفر وضلال لمن قال به.
لكنهم أرادوا أن يلزموا أهل السنة الحجة بذكر هذا الكلام السخيف التافه؛ لأنهم يعلمون من أنفسهم أن الواحد منهم إذا كان في مكان عال ونزل يلزم من ذلك خلو المكان العالي منه، فقاسوا أنفسهم على الله عز وجل، وقاسوا الله تعالى عليهم، وهذا ضلال مبين.
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن يسكتوا عما سكت عنه الله تعالى، وسكت عنه رسله وأنبياؤه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب، ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وبالوجه واليد ونحو ذلك: إن هذا يقتضي التجسيم؛ لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فنحن لا نعرف واحداً يوصف بالاستواء والنزول، والإتيان والمجيء، وله وجه، وله يد وله عين وغير ذلك إلا أجسام محسوسة أمامنا.
ولذلك ينفون عن الله عز وجل هذه الصفات، فيقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، فينفون عن الله تعالى كل شيء أثبته لنفسه إلا سبع صفات، وهذا اضطراب؛ لأننا قلنا: إن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات، كما أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فالذي يريد أن يتكلم إما أن يتكلم بخير أو يسكت، فإذا سكت وآمن وسلم فهذا هو مذهب السلف، وإذا تكلم إما أن يتكلم بكلام السلف، وإما أن يتكلم بغير ذلك فيكون من الخلف.
والذين يقولون: ليس له يد، ولا عين، ولا ساق، ولا يأتي، ولا يجيء، هم النفاة، لكنهم يثبتون لله تعالى الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام.
لكن: يقال لهم: أنتم تقولون: ليس له يد، وليس له ساق، وليس له عين، ونفيتم عنه تبارك وتعالى جميع الصفات الذاتية، فكيف يتصور وجود ذات بلا صفات؟! فقالوا: نحن نثبت له صفات معينة، وهي: صفة الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام؛ لأنها قد وردت في القرآن والسنة.
فإن قيل لهم: والصفات الذي قلناها أيضاً في الكتاب والسنة؟ قالوا: لا.
لأن إثباتكم لهذا الكلام يستلزم التشبيه.
فنقول لهم: لا، فنحن وسط بينكم وبين غيركم، فأنتم تنفون صفات الله عز وجل وتقولون: هذا تنزيه لله عز وجل؛ حتى لا يكون شبيهاً بالمخلوقات.
وغيركم يقول: لا.
نحن نثبت لله تعالى هذه الصفات لكن لا نعلم منها إلا ما نعلمه من أنفسنا.
أي: أن له يداً كيدي، وعيناً كعيني، ثم في النهاية هو رجل مثلي، فإذا كانت صفات المولى عز وجل مثل صفاتي، ففي النهاية هو مثلي بالضبط؛ لأنني إذا تكلمت في الصفات فأنا أركبها في الذات، وهذه الذات لا يصلح أن تتركب إلا في ذات تدخل في تصورك أنت، وهو شخصك، وهب أن الذي تكلم بهذا الكلام امرأة -لا بد من هذا الطرح أيضاً- فإذا كنت لا تفهم من صفات الله إلا ما تفهمه من صفاتك أنت فلا بد أن هذا المعتقد سيسود الرجال والنساء، فهل تقبل أنت كرجل تثبت هذه الصفات بالمماثلة والمشابهة مع صفاتك أنت من امرأتك، أو أمك، أو أختك، أو ابنتك أن تقول: إن الله تعالى مثلي تماماً، فذاته كذاتي، وصفاته كصفاتي؟! معاذ الله! فأنت نفسك لا تقبل هذا، فلم تقبل أن تشبه الله تبارك وتعالى بذاتك ونفسك؟! لا بد أن تثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه على مراده هو، بالكيفية والوجه الأكمل اللائق به سبحانه وتعالى.
وهؤلاء المثبتة ردوا على النفاة، والذين ينفون عن الله صفاته ردوا عليهم بأنك(29/12)
الأسئلة(29/13)
حكم ما يقع بين الناس من التعصب لفريق معين من لاعبي كرة القدم
السؤال
ما حكم ما يقع بين الناس من التعصب للكرة أو لفريق معين؟
الجواب
قد بلغ التعصب للكرة حداً عند أبنائها وأهلها لم يبلغ هذا التعصب عند أتباع المذاهب لأصحاب المذاهب، بل نرى ونسمع من يقذف بنفسه من البلكونات من الأدوار العالية الشاهقة عندما يسمع بخسارة فريق معين! وربما يسقط في الطريق ميتاً! وهذه قصص نسمعها ونراها، وهي واقعة كثيرة جداً، مثل: أربعة عشر واحداً ماتوا عندما ماتت أم كلثوم، وأحد عشر شخصاً رموا بأنفسهم من البلكونات، أو إحدى عشرة امرأة لما مات عبد الحليم حافظ! ثم يأتي شخص ويسألني عن الغناء هل هو حلال أم حرام؟! أما كرة القدم باعتبارها رياضة، وهي مفيدة بدنياً وذهنياًً، لا يلزم فيها أن تضيع شيئاً من صلاتك، أو من دينك وعبادتك، وأن تتعصب لها، ذهبت أو جاءت، وأن تقع عينك على محرم، وأن تلهيك في الجملة عن ذكر الله عز وجل.
لكن الواقع الذي نراه الآن بخلاف ما أمر به الدين، فقد يضيع المسلم صلاته وهو جالس أمام التلفزيون، ناهيك عن الذي نسي نفسه حتى ضاعت منه كل الصلوات، ثم يقول لنفسه: أين سأصلي؟ وأين سأتوضأ؟ والناس هنا أمم والآف، وكل يلعب على ما يحلو له، فهذا يلعب على الموسيقى، وهذا على الرقص، وهذا على التمارين الرياضية، والكل يلعب إلا من رحم الله عز وجل، وطائفة قليلة جداً في الأمة تأخذ الأمر بجدية، وليس في يدها ما تفعل، ولا تقدر أن تتصرف؛ لأن بقية الأمة -وليس الكفار- يضيعون جهد هذه الطائفة ويبعثرونه، ثم تأتي وتسأل: الكرة حلال أم حرام؟(29/14)
حكم تشغيل إذاعة القرآن قبل صلاة الجمعة
السؤال
ما حكم تشغيل إذاعة القرآن الكريم قبل أي صلاة خاصة صلاة الجمعة، هل هذا وارد؟
الجواب
هذا ابتداع في الدين.(29/15)
حكم ذهاب الأولاد إلى القرية الفرعونية
السؤال
هل يجوز السماح لأولادنا بالذهاب في رحلة مع المدرسة إلى القرية الفرعونية الموجودة في السيد زكي؟ خاصة وأن ابنتي كلمتني اليوم، أنها ذهبت مرة إلى هناك فرأت نساءً عرايا ليس عليهن إلا طقوس الفراعنة، فوقفت على الباب من الخارج حتى انتهت الرحلة؟
الجواب
لا والله، لا يجوز، وإذا كان هذا الطفل علم حرمة هذا الأمر وهو طفل لم يبلغ ولم يكلف، فما بالك أنت؟(29/16)
حكم إعطاء الهدية بنية إرجاع هدية أخرى
السؤال
هل هدية العرس تدخل تحت حديث: (مثل الذي يرجع في هديته كمثل الكلب يرجع في قيئه).
مع ملاحظة أن النية هي أن المعطي يريد أن ترجع إليه مرة أخرى في مناسبة له، وهل يجوز إعطاؤها نقداً؟
الجواب
يجوز إعطاء الهدية على أي وجه من الوجوه ما لم تكن أصل الهدية حراماً.
يعني: لا يصلح أن تهديه زجاجة خمر مثلاً، فهذا حرام، وإن كانت عند قوم أعظم هدية، لكنها في الشرع غير مقومة، وغير ممولة.
أي: لا قيمة مالية لها؛ ولذلك يقول أهل العلم بالإجماع: إن من كسر زجاجة خمر لا يطالب بدفع قيمتها، لماذا؟ لأنها لا قيمة لها في الإسلام، مال غير مقوم.
وليس معنى كلامي أن تطلع على الخمارات والحانات تكسر وتخرب ثم تقول: الشيخ قال، أنا لم أقل هذا الكلام! أنا قلت: الخمر في الإسلام غير مقوم، لكن الهدية تجوز نقداً وتجوز عيناً وتجوز منقولات وتجوز عقارات، وتجوز كل شيء، فهي هدية وهبة، ومن خوارم المروءة صراحة: أنك تنتظر أن ترد إليك الهدية مرة أخرى، ومن أجل هذا هناك أناس كثيرون جداً جداً من إخواننا الفلاحين يحجم عن السفر، وقد أحجم كثير من أصحابي عن السفر، فعند السفر تلاحظ أن كل البلد عن بكرة أبيها تأتي إلى بيت أخينا المسافر كل واحد متحمل ما لذ وطاب هدية للمسافر، ثم ينتظرون العودة، وعيونهم مفتحة ينتظرون ماذا سيأتي لهم، فهذا يعطيه ثوباً يرجعه ويقول لك: هذا ضيق هذا واسع، أعطني شيئاً علي، فهو يعطي الهدية وينتظر هدية، والهدية بلا عوض، اسمها هبة، وعقد الهبة بلا عوض، فأنت تعطي ولا تنتظر، ومن خوارم المروءة أنك تنتظر العوض.(29/17)
حكم سماع الحكايات التي تذاع في الراديو
السؤال
هل يجوز سماع الحكايات التي تذاع في الراديو؟
الجواب
نعم.(29/18)
حكم سماع بعض التمثيليات التي تحكي قصصاً اجتماعية وتذاع في الراديو
السؤال
هل يجوز سماع بعض التمثيليات التي تذاع في الراديو، والتي تحكي قصصاً اجتماعية؟
الجواب
نعم يجوز، وذلك إذا كان على هذا النحو الذي تسأل عنه السائلة، والتي تفيد الإنسان في تكوينه الفكري والعقلي، أما سماع التمثيليات والقصص الخليعة التي تدعو إلى الرذيلة والفاحشة فلا يجوز ذلك.(29/19)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - رؤية المؤمنين لله عز وجل
تعد مسألة رؤية المؤمنين لربهم عز وجل من أشرف مسائل الدين وأجلها، إذ إنها تتعلق بالاعتقاد وأصول الدين، بل هي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وهي الزيادة التي أكرم الله بها عباده المؤمنين في الآخرة، وقد دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة قاطبة، خلافاً لبعض أهل الأهواء والبدع.(30/1)
ذكر الخلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج
الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي عن مدى إمكانية رؤية الله عز وجل بالعين، وقلنا: إن ذلك محال في حق البشر، وذكرنا الخلاف الذي حدث في حق النبي عليه الصلاة والسلام في رحلة المعراج: هل رآه بعيني رأسه أم رآه بفؤاده؟ وذكرنا أن هناك خلافاً شكلياً ظاهرياً، فـ ابن عباس خالف جمهور الصحابة فأثبت الرؤية لله عز وجل، إلا أنه لم يثبت عنه أنه قال: رآه بعيني رأسه، وإنما وردت عنه أقوال مطلقة، ومن ذلك: أنه سئل: [(هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقال: نعم)].
والتقييد الذي ورد في كلامه بأنه رآه بفؤاده لا بد وأن يحمل عليه كلامه المطلق، وبهذا ينضم قول ابن عباس إلى قول جمهور الصحابة، فلا يكون هناك في الحقيقة خلاف بينهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما رأى ربه بعيني رأسه، وإنما رآه بفؤاده، ولا أدل على ذلك من قول عائشة رضي الله عنها لـ مسروق: (من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وفي رواية أنها قالت: (لقد قف شعري مما أسمع، إني أسمع أقواماً يقولون: إن محمداً رأى ربه، فمن قال ذلك فقد أعظم الكذب على الله).
ثم مما يؤيد كلامها: كلام عبد الله بن مسعود، فإنه قال نفس الكلام، وفوق هذا الكلام كله: حديث النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر لما سأله: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه)، وفي رواية قال: (رأيت نوراً).
كما أثبتنا في الدرس الماضي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه مناماً لا يقظة؛ لما رواه أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في منامي في أحسن صورة، حتى وضع كفه بين كتفي فشعرت ببردها بين ثديي)، ورؤيا الأنبياء حق ووحي.
وبهذا يتبين خلاصة الأمر وخلاصة الكلام في هذا: أن رؤية الله تبارك وتعالى بعيني الرأس في الدنيا؛ سواء للمؤمنين أو للأنبياء لا تجوز، وعلى ذلك إجماع علماء الإسلام.
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فإنه قد رآه في منامه ولم يكن ذلك بعيني رأسه، وإنما رآه بفؤاده، وهذا مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة في مسألة الرؤية بالعين.(30/2)
رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
وأما رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة، فهل هي ممكنة وجائزة وثابتة أم منتفية؟ أردنا في هذا الدرس أن نكمل موضوع الرؤية، فكان لزاماً علينا حتى يتم الكلام في باب رؤية المولى عز وجل أن نتكلم عن هذه الجزئية، وهذه القضية خالفت فيها بعض الفرق أهل السنة والجماعة، كالجهمية والمعتزلة وغيرهم.(30/3)
كلام الإمام الطحاوي وغيره في إثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل
يقول الإمام الطحاوي عليه رحمة الله: والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وتفسيره -أي: تفسير الرؤية- على ما أراد الله تعالى وعلم، وما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، ولا ندخل بذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم أحد في دينه إلا من سلم لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه.
والمخالف في إثبات الرؤية -أي: رؤية الناس لله عز وجل- من الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج والإمامية على جهة الخصوص، قولهم باطل مردود في الكتاب والسنة؛ لأن مسألة الرؤية ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع.
وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، كـ أحمد والشافعي وأبي حنيفة ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة وحماد وغيرهم من أئمة الدين، وأهل الحديث عامة، وسائر طوائف أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، فكلهم أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة في الجنة.
وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي تتعلق بالاعتقاد وأصول الدين لا بفروعه، بل هي الغاية التي شمر إليها المشمرون؛ ولذلك قيل للشافعي: ماذا تقول في قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]؟ قال: تغشاهم نضرة بسبب نظرهم إلى الله عز وجل، فإنهم يلتمسون من نوره، وكل مسلم إنما تظهر على وجهه علامات الرضا وعلامات السخط نظراً لما يطلب.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها).
قال أحمد بن حنبل: (نضر الله امرأً) أي: جعل في وجهه النضرة، وهي البشر والسرور والفرح، فترى وجهه نير وإن كان أسود أو أسمر؛ لأنه استمد هذه النضرة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: ما رأيت عالماً من علماء الحديث إلا وقد عرفته، قيل له: كيف؟ قال: بالنضرة التي في وجهه، أي: بالبشر والفرح والسرور، والنور الذي يشع من وجهه بسبب طلبه لحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا تأويل لقوله: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها).
وهذا يدل على أن من سمع ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، أو تذاكره، أو درسه، أو اهتم، أو بثه في الخلق علماً وعملاً فإنه يحظى بهذا الوعد العظيم الذي وعد به النبي عليه الصلاة والسلام، وهي تحقيق النضرة في وجهه.
وقال محمد بن إدريس الشافعي في قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]: تغشاهم نضرة في وجوههم بسبب نضرهم لله تبارك وتعالى، قيل له: أأنت تقول بذلك؟ أي: أهذا معتقدك؟ قال: والله لو لم يكن ذلك لما عبد محمد بن إدريس ربه.
أي: لولا أني أعتقد أني ألقى الله عز وجل يوم القيامة، وأنظر إليه فما فائدة عبادتي الآن؟ أي: إذا لم أكن على يقين من أنني سأتزود بنور الله عز وجل يوم القيامة، وأتنعم وأتلذذ بالنظر إلى وجه الله تعالى، فإذا كنت أشك في ذلك فلم أعبد ربي إذاً؟! وهذا يدل على أن المرء يعبد ربه طمعاً في جنته، وطمعاً في التلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى.
قال: وهذه مسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون.(30/4)
أعظم الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم في الجنة
وقد ذكر الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى أن من الأدلة على رؤية المؤمنين لربهم في الجنة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وهي من أظهر الأدلة وأعظمها في إثبات النظر إلى الله تعالى.
وأما من أبى إلا أن يحرفها بما يسميه تأويلاً فقوله غير صحيح، فنصوص المعاد والجنة والنار والحساب سهل تأويلها على أرباب التأويل، يعني: من أراد أن يؤول فالتأويل وارد وليس عنه ببعيد، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص وأن يحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأولو هذه النصوص.
يريد أن يقول: إن الذي يريد أن ينحرف لا بد وأن يجد أمامه سبل الانحراف، بخلاف من عقد العزم من أول أمره على أن يكون متبعاً لا مبتدعاً، وعلى أن يكون له سلف في كل قول وفعل، لا من أراد أن ينخر في دين الله عز وجل بهواه، وبتأويل لم يثبت عن واحد من السلف.
وهذا هو الذي أفسد الدين والدنيا، وهو ما فعلته اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وقد حذرنا الله تعالى من أن نفعل فعلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية؟! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟ وجرى بسببه ما جرى في يوم الجمل وفي يوم صفين، وقتل بسببه الحسين رضي الله عنه، وجرى ما جرى يوم الحرة، وخروج الخوارج على علي بن أبي طالب، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كل ذلك بسبب التأويل الفاسد.(30/5)
استعمالات النظر في اللغة
وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديت الفعل بأداة (إلى) صريح في نظر العين المجردة، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أن الله تعالى أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله.
والنظر له عدة استعمالات في اللغة، ففي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، تعدى الفعل (ينظروا) بحرف (في)، وذلك يدل على أن النظر هنا ليس بالعين المجردة، وإنما هو بالتفكر والاعتبار، وإذا تعدى بنفسه كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ} [الحديد:13]، دل على التوقف والانتظار، وإن تعدى الفعل (نظر) بـ (إلى) دل على النظر بالعين المجردة، كقوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99]، فهنا تعدى الفعل (نظر) بحرف الجر (إلى)، فدل على أن العين هي التي قصدت، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر!!(30/6)
استدلال السلف الصالح بقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة) على إثبات الرؤية
روى ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ({وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من البهاء والحسن -فهي يومئذ بهية وحسنة وجميلة- {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: في وجه الله عز وجل).
إذاً: فالنظر لا بد وأن يكون إلى وجه الله عز وجل، ولا يمكن أن يكون عن طريق التفكر أو التدبر أو التوقف والاعتبار، وإنما هو عن طريق العين المجردة.
وعن الحسن قال: نظرت إلى ربها فنضرت بنوره عز وجل، أي: نظرت العين إلى ربها فأصابتها وغشيتها النضرة بسبب اقتباسها من نور الله عز وجل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل.
وقال عكرمة في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]: ناضرة من النعيم، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى ربها نظراً.
ثم حكى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثله، وهذا قول كل من فسر من أهل السنة والحديث هذه الآية؛ وكأن إجماع أهل السنة والجماعة قد انعقد في تفسير هذه الآية على أن المرء ينظر إلى ربه يوم القيامة بالعين المجردة.(30/7)
استدلال السلف بقوله تعالى: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) على إثبات الرؤية
وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك رضي الله عنهما: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.
قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق:35]، أي: من جميع أنواع النعيم، {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] أي: ولدينا نعمة زائدة على نعيم الجنة، وهو النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.(30/8)
استدلال السلف الصالح بقوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) على إثبات الرؤية
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، أي: للذين أحسنوا في هذه الدنيا بعمل الطاعات، والائتمار بالأوامر، والانتهاء عن النواهي، لهم الجنة وزيادة، والزيادة هي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.
وقد فسرها بذلك النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة من بعده، فقد جاء في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة -وهذا نعيم- وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب؟)، أي: فيكشف الله تبارك وتعالى الحجاب بينه وبين عباده فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي تلك الزيادة في الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، والزيادة هي النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم كما روى ابن جرير ذلك عن جماعة منهم: أبو بكر الصديق وحذيفة وأبو موسى الأشعري وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فهذه الآية في حق الكفار، فنفرق بين رؤية المؤمنين ورؤية الكفار، فالكفار محجوبون، ومفهوم المخالفة يدل على أن المؤمنين غير محجوبين عن رؤية الله عز وجل، فيكشف لهم الحجاب فيرونه عز وجل، فضلاً عن ورود الآية الصريحة في إثبات الرؤية وهي قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فهذه الآية في حق أهل الإيمان، وآية الحجب: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] في حق الكفار.
وقد احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، إذ أنها صريحة في ذلك، ومنطوقها يدل على حجب أهل الكفر عن الرؤية، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي.
وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان -وهو تلميذ الإمام الشافعي - قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وقد جاءته رقعة قماش من الصعيد فيها
السؤال
ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا.
فاحتج بهذه الآية التي منطوقها صريح في حجب الكفار عن الرؤية، واحتج بمفهوم المخالفة على إثبات الرؤية لأهل الإيمان.(30/9)
شبه المعتزلة في إنكار الرؤية والرد عليها
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى لموسى عليه السلام عندما طلب من ربه أن يره: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فقد احتجوا بالآية على نفي الرؤية، وأقول: لو كانت مسألة الرؤية ممكنة وجائزة لما منع الله عز وجل طلب نبيه موسى عليه السلام، وهذه قد تكون شبهة لا حجة.
والجواب عليها من وجوه: الأول: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم موسى عليه السلام -وهو أعلم الناس بربه في وقته- أن يسأل الله عز وجل ما لا يجوز عليه سبحانه.
الثاني: أن توقن بأن الأنبياء هم أعلم الخلق بالله عز وجل، وبما يجوز وما لا يجوز، وما ينبغي وما لا ينبغي، وما يستحيل وما هو ممكن في حق الله عز وجل، وأن النبي عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله وأتقاهم له، وكذلك كل نبي هو أعلم الخلق في زمانه بالله عز وجل، ولو كان موسى يعلم أن رؤية الله تبارك وتعالى مستحيلة لما سأل ذلك؛ لأنه يعلم ما يجوز وما لا يجوز على الله عز وجل.
ولما سأل ربه أن يراه وأن ينظر إليه منعه الله عز وجل فقال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولم ينكر الله عليه سؤاله كما أنكر على نوح عليه السلام عندما طلب من ربه الشفاعة لابنه، فقال الله عز وجل: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فهنا ربنا تبارك وتعالى أنكر على نوح، ولو أنك نظرت إلى سؤال موسى وجواب الله عز وجل عليه فستلمس منه المنع لا الإنكار، مع أنه قال لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] فرد عليه، ثم أنكر عليه بقوله: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] أي: حذاري أن تسألني ما أنت به جاهل، وما لا ينبغي ولا يجوز، فأنا أحذرك من ذلك؛ ولذلك تاب نوح عليه السلام واعتذر إلى ربه.
الثالث: أن الله تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولم يقل: إني لا أُرى، أي: أنت الآن على سطح هذه المعمورة لن تراني، ولم ينف الله عز وجل مبدأ الرؤية أبداً وأزلاً، وإنما قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، و (لن) تفيد النفي في المستقبل لا تأكيد النفي؛ ولذلك لو قلت لولدك: لن أعطيك مالاً؛ لا يدل على أنك ستمنعه المال ما حييت، لكنه إن طلب مرة أو مرتين أو ثلاثاً فإنك ستمنعه، لكن سيئول الأمر في النهاية إلى أنك ستعطيه، وكذلك قولك للآخر: لن أرضى عنك، لا يدل على أنك ساخط عليه مدى الحياة، وإنما هذا نفي للمستقبل أو لشيء من المستقبل، لا نفياً مؤبداً.
ولذا قال ربنا عز وجل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] ولم يقل: إني لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي، أو لست بمرئي.
والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً، فقال: أطعمنيه، فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل، إذاً فهو نفي للأكل مطلقاً؛ لأن الحجر لا يؤكل، وأما إذا كان الذي في كمه طعام فإنه يقول: إنك لن تأكله، وكذلك تدل الآية على أنه سبحانه وتعالى مرئي، لكنه لا يرى الآن، وموسى عليه السلام لا تحتمل قواه في هذه الدار رؤية ربه عز وجل.
ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت أمام تجلي الله عز وجل في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟! فالله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عنده سواء.
الرابع: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143]، فإذا جاز أن يتجلى الله عز وجل للجبل -وهو جماد لا ثواب له ولا عقاب- فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟! لكن الله تعالى أعلم موسى عليه السلام أن الجبل إذا لم يثبت برؤيته في هذه الدار فالبشر من باب أولى.
الخامس: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وأن يسمع مخاطبة كلامه بغير واسطة؛ فرؤيته أولى من باب الجواز.
ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، فمن أنكر الرؤية لا بد أن ينكر الكلام، ومن أثبت الكلام لا بد وأن يثبت الرؤية، وقد جمع أهل العلم بين الرؤية والكلام.
وأما دعواهم: تأكيد النفي بـ (لن)، وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة، فتأويل فاسد جداً؛ لأنها لو قيدت في التأكيد لا تدل على جواز النفي في الآخرة، فكيف إذا أسقطت، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، مع قوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فهم تمنوا أن يقضي الله عز وجل عليهم، مع أن الله تعالى قد قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}(30/10)
استدلال المعتزلة بقوله: (لا تدركه الأبصار)
وأما الآية الثانية التي يتمسك بها نفاة الرؤية لله عز وجل فهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فقد يقول لك قائل: أنت تعتقد أن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة؟ فتقول له: نعم، وفي الجنة.
فيرد عليك قائلاً: والآية التي تقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فهل ستقول: أنا رجعت عن كلامي ورأيي! لأدنى شبهة تلقى عليك، ولذلك فدروس العقيدة هي من أهم ما يمكن أن يحرص عليه المرء، وهذه شبهة يقول بها المعتزلة والجهمية والخوارج، وهي في الحقيقة حجة لأهل السنة في إثبات الرؤية مع أن ظاهرها يدل على نفي الرؤية، لكن أهل السنة استنبطوا منها أنها تثبت الرؤية، وهو أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية لا العدمية أو السلبية، فالله تبارك وتعالى يمدح نفسه دائماً بصفة المدح، ولا يمكن أن يكون هناك مدح إلا من جهة الثبوت لا من جهة السلب، وقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فالسنة والنوم صفات نقص لا يمكن أن يمدح الله تبارك وتعالى نفسه بها، لكن فهمنا منها المدح بإثبات النقيض والضد، فمدح الله عز وجل نفسه بإثبات كمال الحياة والقيومية.
إذاً فهو لم يتمدح بصفات النقص، وإنما مدح نفسه بما ينقض ويناقض ويناهز هذه الصفات، وهي إثبات الحياة والقيومية لله عز وجل، وهما صفتان معارضتان للسنة والنوم، ولذا نقول: إن الصفات العدمية أو السلبية لا مدح فيها، وإنما المدح في الصفات الوجودية الإيجابية، فيمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمر وجودياً، فأنت إذا نفيت عنه السنة والنوم فلا بد أن تثبت له الصفة المناقضة، وهي الحياة والقيومية.
إذاً فربنا تبارك وتعالى يمدح نفسه بشيء موجود، كمدحه نفسه بنفي السنة والنوم المتضمن لكمال القومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء -التعب والمشقة- لإثبات كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن لكمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن لكمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن لكمال العدل والعلم والغنى، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه -أي: غيابه- المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
وربنا سبحانه وتعالى لم ينف عن نفسه شيئاً ليس له أمر ثبوتي وجودي في المقابل، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه.
فالمعنى إذاً: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فأهل السنة يقولون: إن قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) ليس نفياً للرؤية، وإنما هو نفي للإدراك والإحاطة، فأنت نفسك ممكن ترى مخلوقاً فضلاً عن الله عز وجل، لكنك لا تحيط به ولا تدركه، ولذلك لما قال قوم موسى لما فروا من فرعون وتبعهم فرعون وجنوده: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال موسى: {قَالَ كَلَّا} [الشعراء:62]، فنفي موسى الإدراك، مع أن موسى وقومه كانوا يرون فرعون وجنوده، وموسى عليه السلام لما قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لم يقل: لم يرونا أو لن يرونا، وإنما قال: (كلا)، فالجواب هذا متعلق بكلام قوم موسى في الإدراك، أي: لن يدركنا فرعون، وقول موسى ونفيه الإدراك لا ينفي أن فرعون وقومه كانوا ينظرون ويرون موسى ومن معه، إذاً فنفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية، وهذا في حق المخلوق.
ولو أنك رأيت جبريل على صورته التي خلقه الله عز وجل عليها له (600) جناح، كل جناح يسد الأفق، فكيف ستحيط بجبريل وهو مخلوق؟! إنك لن تستطيع أن تحيط به، مع أنه مخلوق من مخلوقات الله.
وأيضاً: لو أنك وقفت أمامي وجهاً لوجه، ونظرت إليك ونظرت إلي، فهل سيحيط كل منا بصاحبه؟ لا؛ لأني إذا رأيت وجهك خفي علي ظهرك، وإذا رأيت ظهرك خفي علي وجهك، إذاً أنا أراك ولكني لا أدركك، فإذا كان هذا في المخلوق الإنسان الضعيف فكيف بالله عز وجل؟! إذاً فقوله (لا تدركه الأبصار) ليس نفياً للرؤية بقدر ما هو نفي للإدراك والإحاطة؛ ولذلك يقول الله عز وجل {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] أي: لا يمكن أبداً أن تقع منك الإحاطة بالله عز وجل؛ لأنه منزه عن ذلك؛ لإثبات كمال وحدانيته.
فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، فإذا كنت لا تدرك أنت الشيء الصغير المخلوق فالله تبارك وتعالى من باب أولى، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، إذ الإدراك أعم من الرؤية، والرؤية أخف، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62]، فلم ينف موسى عليه(30/11)
ما روي عن النبي والصحابة والتابعين في رؤية المؤمنين لربهم(30/12)
رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي عليه الصلاة والسلام
وأما الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقد بلغت حد التواتر، ورواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، منها [حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)]، وتأمل الدليل عندما يكون صحيحاً وصريحاً فإنه يطمئن، ويبطل النزاع، ومع ذلك فهذه الأدلة لم تنفع المعتزلة والجهمية، فإنهم لما كانوا أصحاب هوى وانحراف أضلهم الله عز وجل؛ لأنهم استحبوا العمى على الهدى، فأعماهم الله عز وجل في الدنيا والآخرة.
[قال: (إن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)]، وهذا سؤال واضح؛ لأنهم يعرفون أنهم لن يروه في الدنيا، والصحابة كانوا مجمعين على أن رؤية الله مستحيلة في الدنيا.
وعند ذلك سألوا عن شيء آخر وجديد، (هل نرى ربنا يوم القيامة؟)، والمقصود بيوم القيامة: يوم المحشر، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] المراد بقوله سبحانه: (يومئذ) أي: يوم المحشر، فإن أهل الإيمان هم الذين ينظرون إلى الله عز وجل، لكن هل ينظر إليه الكفار والمنافقون في المحشر؟ هذه الجزئية والفرعية سنتكلم عنها بإذن الله.
فقوله: (قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟)، وكان بإمكانه أن يقول: نعم، لكنه أراد أن يضرب لنا مثلاً ليكون أبلغ في إيصال هذا العلم، [فقال: (هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟)]، أي: عندما يكتمل القمر لا يكون بينكم وبينه ضير ولا ضيم، ولا يحجبكم عن رؤيته شيء.
قال: [(قالوا: لا يا رسول الله! قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟)]، أي: عندما تطلع الشمس وتكون صحواً، هل تعلمون علماً يقيناً حين النظر إليها أن هذه الشمس هي التي خلقها الله أم لا؟ [قال: (فإنكم ترونه كذلك)] أي: لا يمنعكم ضيم ولا شك ولا ريب من رؤية الله عز وجل كما ترون الشمس والقمر.
وهنا شبهة عظيمة جداً وقعت فيها المعتزلة والجهمية، فقالوا: إن هذا النص يفيد التشبيه، أي: تشبيه المولى تبارك وتعالى بخلقه، إذ أنكم لو أثبتم هذا للزمكم أن تقولوا بالتشبيه بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه من الشمس والقمر.
والجواب عن هذه الشبهة: أنه قد ورد في نفس الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (فإنكم ترونه كذلك)، فالضمير يعود إلى الله عز وجل، أي: كما ترون الشمس والقمر، إذاً ليس هنا تشبيه.
والمقصود من الحديث تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، فالنبي عليه الصلاة والسلام شبه رؤيتك في الوضوح لله عز وجل برؤيتك للشمس والقمر في الوضوح، بحيث لا يمنعك شيء؛ لأن الذي يمنعك عن الله عز وجل هو الحجاب، فإذا كشف الله تبارك وتعالى الحجاب هل يمنعك من رؤية الله عز وجل شيء؟ لا.
فالشمس إذا كان بينك وبينها سحاب تحجب، وإذا رفع هذا الحجاب، ولم يكن هناك سحاب فإنك ترى الشمس صحواً، وإذا نظرت إلى القمر ليلة البدر في تمامه ليس هناك غيم ولا ضوء عليك؛ فإنك ستراه على صورته الحقيقية.
لذا فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس)، فشبه الرؤية بالرؤية من جهة الوضوح، ولم يشبه المرئي -وهو الله عز وجل- بالمرئي -وهو الشمس والقمر-.
وحديث أبي سعيد الخدري بنفس سياق حديث أبي هريرة.(30/13)
رواية جرير بن عبد الله البجلي
[عن جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عياناً)]، أي: سترون ربكم بأعين رءوسكم، لكن لماذا موسى لم يره؟ لأن الله عز وجل سيركب فينا يوم القيامة بصراً شديداً حديداً نتمكن به من رؤيته، وأما الآن في الدنيا فلا؛ لأن نظرنا لا يحتمل.
[قال: (كما ترون هذا -وأشار إلى القمر- لا تضامون في رؤيته)].(30/14)
رواية أبي موسى الأشعري
وحديث صهيب الذي ذكرناه، [وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء)]، أي: أن الحجاب الذي بيننا وبين رؤية الله عز وجل هو رداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى في جنة عدن، فإذا كشف هذا الرداء رأيت الله سبحانه وتعالى.(30/15)
رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه
[وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه)]، واللقاء ثابت، فإذا كنت تلقى الله عز وجل لقاءً -واللقاء يقتضي المعاينة- فمعنى ذلك أنك ستراه بعينك، [قال: (ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب!) -ولو أنكر فإنه سيختم على فيه فتتكلم جوارحه- قال: (فيقول: بلى يا رب! فيقول: ألم أعطك مالاً، وأتفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب!)].
والشاهد في الحديث: أن اللقاء يوم القيامة سيكون وجهاً لوجه بين الخالق والمخلوق، وهذا يقتضي النظر إليه سبحانه وتعالى بالعين، وقد روى أحاديث الرؤية نحو من ثلاثين صحابياً، فهي قد بلغت حد التواتر، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب على سماع الأحاديث النبوية، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأت الخلق يوم القيامة لفصل القضاء، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك إليهم، إلى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية والمعتزلة بمنزلة الصواعق، بل أكره شيء على كل الفرق الضالة أن تسمعهم آيات وأحاديث الصفات؛ لأنهم مؤولون ومخالفون لها.
قال: [وكيف يعلم وصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله؟]، وهذا كلام جميل وقوي، ومعناه: من أين ستتعلم هذه الأصول من قول فلان وعلان؟! كما يقول ابن القيم: العلم قال الله وقال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول سفيه يعني: إذا ثبت الكلام في كتاب الله أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فليس لفقيه قول، وإذا تكلم الناس بخلاف ما في الكتاب والسنة فأقوالهم مردودة ومطروحة؛ ولذلك يقول هنا: وكيف نتعلم أصول ديننا الإسلامي من غير كتاب الله وسنة رسوله؟ وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسر به رسوله وأصحاب رسوله الذي نزل القرآن بلغتهم؟ والورع كل الورع ألا يتكلم امرؤ في دين الله عز وجل إلا بعلم، ولذلك يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما سئل عن معنى (الأب) في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلت في دين الله تعالى ما ليس لي به علم.
أي: اسألوا واحداً آخر غيري عن معنى الأب، فأنا لا أعرف معناها.
فتأمل كلام الصديق رضي الله عنه، والظن به أن يعلم ذلك، لكن لما كان المراد مرعى الإبل والماشية ربما يكون أهل البدو أعرف بهذا التأويل من أبي بكر الحضري، فقال: اسألوا عنه غيري، فأنا لا أستطيع أن أتكلم في دين الله عز وجل برأيي؛ لأني أخشى ألا تظلني السماء، ولا تقلني الأرض إن قلت في دين الله ما ليس لي به علم.
قال: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر، تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي].
ويقول: وفي هذا الحديث دليل آخر على علو الله على خلقه؛ لأنه قال لهم: (هل ترون القمر؟ هل ترون الشمس؟)، إذاً فأنتم سترون ربكم في جهة العلو؛ لأنه ضرب لك مثلاً بشيئين موجودين في السماء، فإذا كنت ترى الشمس أو القمر في العلو فلا بد وأن ترفع وجهك إلى السماء حتى ترى الله عز وجل.
قال: [فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟]، وأما الأشعرية فقالوا بأن الرؤية ستتم، لكن بشرطين: الأول: رؤية بلا مقابلة! وهذا كلام غير منطقي ولا يعقل.
الثاني: رؤية الفؤاد وليست رؤية العين.
ومنهم من قال: يرى لا في جهة، ولفظ (جهة) من الألفاظ المحدثة التي لم تكن معلومة في حياة السلف، ومنهج السلف أن الله سيُرى، لكن قولهم: ليس في جهة، مصطلح محدث، وأي مصطلح محدث وجديد لا يقول به السلف، وإنما يتوقفون عنده، ومن قال به ناقشوه: ماذا تريد بهذا اللفظ؟ لأن الكلام في الاعتقاد من أخطر ما يمكن، فكلمة فيه تأخذك إلى جهنم، وكلمة تدخلك الجنة.
فمن قال: إن الله يرى لا في جهة، سنقول له: هل لفظ (الجهة) قاله النبي عليه الصلاة والسلام؟ فسيقول: لا، فنقول: قاله أبو بكر؟ فسيقول: لا، فنقول: قاله عمر، أو عثمان، أو الصحابة والتابعون؟ فسيقول: لا، فنقول: إذن لماذا قلته؟ فسيقول: إنما قصدت به معنى عندي، فنقول له: ما هو هذا المعنى؟ قال: أنا أردت أن الله تعالى ليس محدود بحد؛ لأن وجوده في ناحية أو في جهة يدل على أنه محدود، أو على أنه جسم من الأجسام، فنقول له: أليس عندك في ذلك شيء قط من اعتقاد السلف؟ فإن قال: ما أردت بكلمة (الجهة) إلا العلو والفوقية لله عز وجل، فنقول له: نعم، لكن الأولى أن تلتزم في هذا الباب وفي هذه المسألة بما ورد من مصطلحات في الشرع.
فعندما تقول: إن الله تعالى في السماء، فسنقول لك: ليس هناك أي خلاف معك، وكونه في السماء لا يدل على أنه محدود بجهة، فقولك: إن الله في السماء خير من قولك: في جهة(30/16)
أقوال أهل العلم في رؤية الكفار والمنافقين لله عز وجل في المحشر
والرؤية حق لأهل الجنة، وهي تخصيص لأهل الجنة، فإن تخصيص أهل الجنة بالذكر يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة؛ لأن رؤية الله تبارك وتعالى تتم مرتين: مرة في المحشر أمام جميع الخلائق، وليس فقط للمؤمنين، فيكشف الحجاب سبحانه ويراه أهل الموقف في المحشر، بل ويكلمهم ويحاسبهم ويزن أعمالهم، ثم إما إلى الجنة وإما إلى النار، فهل يثبت من هذا رؤية أهل الكفر والنفاق لله عز وجل في المحشر؟ إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة مسلمة، ورؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الجنة ثابتة لا يزاحمهم فيها غيرهم؛ لأنه ليس هناك غير المؤمنين في الجنة، لكن القضية هنا محصورة في المحشر، فهل يرى الكافرون ربهم؟ وهل يخاطب الله تبارك وتعالى الكافرين والعصاة والمنافقين أم لا؟ قال: [(ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} [الأحزاب:44])]، أي: يوم يلقونه في المحشر.
قال: (واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال: القول الأول: لا يراه في المحشر إلا المؤمنون.
والقول الثاني: يراه أهل الموقف -يعني: جميع من يقف في الحساب والعرض يراه- المؤمن والكافر والمنافق، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك)، يعني: يرون الله عز وجل في وقت الحساب والعرض، ثم يحتجب عنهم بعد ذلك كما احتجب عنهم قبل ذلك.
(القول الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار)، وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف.
والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى رجح الرأي الأول، أي: أن المؤمنين فقط هم الذي يرون ربهم يوم القيامة في المحشر، كما يخصون برؤية المولى عز وجل في الجنة، واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعيني رأسه.
وأما قوله: (بغير إحاطة ولا كيفية) أي: لا تدركه الأبصار، فلا تحيط به علماً ولا كيفية؛ لأن الله تعالى لا يكيف من قبل خلقه، بل ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، وكما خفيت علينا كيفية الذات فلا بد وأن تخفى علينا كيفية الصفات، ومن صفاته الفعلية: الرؤية، والكلام مع خلقه من غير ترجمان، والإذن لخلقه بالنظر إليه ورؤيته.
فهذه من صفات أفعاله سبحانه وتعالى، وإن كانت الرؤية من فعل العبد، إلا أن الله تبارك وتعالى مكن منها عباده المؤمنين.
وأما تفسير قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما منكم) أي: ما منكم يا معشر الأمة، قال: (من أحد إلا سيكلمه ربه)، ولما تكون هناك مسألة تحتاج إلى أدلة، وهذا الدليل يفهم منه عدة أوجه؛ فإن الترجيح فيها يكون بناءً على شيء ينقدح في نفس العالم، ويأتي عالم آخر فينقدح في ذهنه وعقله ترجيح مذهب آخر، وبناءً عليه يصعب جداً أن تقطع فيه بقول فصل وتقول: وما عدا هذا القول باطل، لكن تقول: هذا أرجح من ذاك؛ لأنه عندما تقرأ الأقوال وتطلع عليها وأنت طالب علم فكيف ترجح القول هذا؟! ولو سألناك عن الدليل، فهل يكفي أنه شيء انقدح في نفس الجاهل؟ لا.
وأختم بأبيات جميلة في إثبات الرؤية للإمام ابن القيم عليه رحمة الله تعالى: فبينا هم في عيشهم وسرورهم وأرزاقهم تجري عليهم وتقسمُ تجلى لهم رب السموات جهرة فيضحك فوق العرش ثم يكلم سلام عليكم يسمعون جميعهم بآذانهم تسليمه إذ يسلم يقول: سلوني ما اشتهيتم فكل ما تريدون عندي أنني أنا أرحم فقالوا جميعاً نحن نسألك الرضا فأنت الذي تولي الجميل وترحم ولله أفراح المحبين عندما يخاطبهم من فوقهم ويسلم ولله أبصار ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة أمن بعدها يسلو المحب المتيم فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولله واديها الذي هو موعد المزيد لوفد الحب لو كنت منهم وحي على يوم المزيد الذي به زيارة رب العرش واليوم موسم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(30/17)
الأسئلة(30/18)
حكم التوفير في البنك الربوي
السؤال
دفتر التوفير في البنك يحدد آخر كل سنة مقدار الأرباح، وتختلف من سنة لأخرى، فهل يكون هذا ربا؟
الجواب
يا أخي! لا تذهب إلى البنك؛ لأن المسألة فيها لبس، والذي فهمته وأنا بعيد عن البنك، ألا يستطيع أن يفهمه المتخصصون في البنك، لو أعطاك كل سنة (10%) فستبقى النسبة معروفة ومحددة سلفاً، لكن لو أعطاك هذه السنة نسبة والسنة الآتية نسبة تختلف عنها، والسنة التي بعدها تختلف على الاثنتين، فهم ضابطون لحساباتهم جيداً، وحاسبون الربح جيداً، لكن على أية حال نقول: إذا أردت أن تضع أموالك فضعها في بنك فيصل، أو في المصرف الإسلامي الدولي.(30/19)
حكم تفضيل الأنبياء على بعضهم
السؤال
يقول البعض: إنه لا يجوز تفضيل نبي على نبي؛ كأن نقول: إن سيدنا محمد أفضل من سيدنا إبراهيم قولاً باللسان، وإن كان ذلك من المعلوم في النصوص، فهل هذا صحيح؟
الجواب
سؤال وجيه صراحة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) مع أنه هو القائل عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فالله أعطى نبيه السيادة والسؤدد والعلو والرفعة على ولد آدم ومنهم الأنبياء، ومعلوم قطعاً عند كل مسلم أن أفضل الخلق على الإطلاق منذ أن خلق الله الخلق إلى يوم القيامة هو محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يجمع بين ذلك؟
و
الجواب
أن معنى ذلك: أنه لا تفضيل بين نبي ونبي في الإيمان بنبوته، بل أنت ملزم بأن تؤمن بجميع الأنبياء كما آمنت بمحمد عليه الصلاة والسلام.
أما اعتقادك أنه خير الخلق، وأفضل الأنبياء؛ فهذا اعتقاد واجب ولازم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إليه بقوله: (أنا سيد ولد آدم).
وقوله هنا عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) أي: لا تفضلوني عليه من جهة اعتقادكم أنه نبي وأنا نبي.(30/20)
حكم إعطاء الوالد لبعض أولاده شيئاً دون الآخرين
السؤال
كتب رجل لاثنين من أولاده الذكور قطعة أرض اشتراها؛ بحجة أنهما بذلوا مجهوداً شاقاً في شراء الأرض، مع العلم بأنه ذو خمس بنات، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا يجوز ذلك، وقد أتى بشير إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشهد على أن ينحل أحد أولاده نحلة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنحلت كل ولدك مثلما نحلت هذا؟ -أي: هل أعطيت كل واحد من أولادك مثل ما أعطيت هذا؟ - قال: لا، قال: اذهب إلى غيري فأشهدهم على ذلك، فإني لا أشهد على زور)، وهذا من باب التغليظ والتوبيخ على سوء فعله، لا من باب أنه أجاز له ذلك الفعل، فيذهب يستشهد واحداً آخر.
ودائماً تبقى حقوق البنات مهضومة وكأنها سنة متفق عليها، وقد كنت في قضية في مدينة السلام منذ أيام، حيث قابلت رجلاً يملك أرضاً شاسعة جداً، وهو مليونير، وأولاده من الذكور والإناث كلهم ملتزمون، وقد أراد أن يقسم الميراث قبل موته، وبالفعل قسمه على أولاده الذكور، وأعطى لكل بنت ما تقوم به الحياة من أموال.
فولد من أولاده سألني عن حكم ذلك التقسيم؟ فقلت له: إنه غير جائز، ثم ذهبت أتكلم مع هذا الرجل فقال لي: يا شيخ! كلمة واحدة، ما فيه شيء اسمه بنت تأخذ أرض، فقلت له: ما فيه حاجة اسمها تقسيم الميراث في حياتك، اسمه ميراث؛ لأنه يوزع بعد موتك، والتوزيع هذا باطل، وأولاده كلهم جالسون، فقلت لهم: كل واحد تستهويه نفسه أن يأخذ عقد البيع والشراء الذي كتبه له أبوه هذا، ووالله العظيم إنه حطب جهنم وبئس المصير، فإذا أردتم أن تأخذوا هذه الأوراق فخذوها، فقالوا: كلهم: لا نريدها، فقال لهم أبوهم: سأحرمكم وأتزوج أخرى، وأكتب لها كل الأرض.
لذا دائماً في كل أسرة وبعد كل وفاة تطرح قضية الظلم في توزيع الميراث، وخاصة في الفلاحين، فحدث ولا حرج، فالبنت ليس لها عندهم أي شيء مطلقاً، فيقول لك: خسارة أن يرجع الميراث لزوج ابنتي! مع أن هذا شرع ربنا، ثم هل ربنا لما فرضه كان ينسى أن هذا سيئول إلى زوجها؟ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] فالله تبارك وتعالى كما قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، فلما شرع الشرع هذا ختمه بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] أي: أي إنسان يتعدى ما حدده له الميراث فهو معتدي.
وهذا العدوان لا ينفعه في قبره، ولو أراد أن يقسم الميراث قبل الموت فجائز، بل أحياناً المصلحة تستدعي ذلك.
فلو أن رجلاً عنده ولد طيب وموحد ومتسامح، ولا يريد المشاكل، وعنده ولد هو شيطان، فلو أنه ترك الأرض والبيت والسيارات للأولاد يقسموها بينهم بشرع الله، فإن هذا الولد لن يمكنهم من شرع ربنا، ولا حتى من شريعة نابليون، بل سيأخذ المال كله، والذي لا يريد يضرب رأسه في الرصيف، ففي هذه الحالة توزيع الميراث ربما يكون جائزاً مشروعاً؛ رفعاً للضرر، لكن لا بد أن يتم بشرع الله تبارك وتعالى، ويبقى الرجل صاحب حق في البيع والشراء؛ لأن هذا ماله، ولا بأس أن يكتب أوراقاً تضمن له الحق؛ لأننا نسمع بالليل والنهار أن الرجل ربما يريد أن أولاده لا يختلفون من بعده، فيكتب لهم كل شيء له، فأول ما كتب استلم كل واحد منهم الورقة في يده وطردوه من البيت، وصار شريداً يتكفف الناس حتى يأكل ويشرب، وهذا حاصل، فهذا الشعب المجرم انتشر الظلم فيه من كل وجه، حتى مع الآباء والأمهات.(30/21)
حكم المذي عند المرأة
السؤال
ما حكم المذي عند المرأة إذا كانت كثيرة المذي؟
الجواب
إذا خرج من الفرج وأصاب الثياب ببلل؛ وجب عليها أن تغسل الموضع، وأن تتوضأ.(30/22)
الرؤية يوم المحشر
السؤال
جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام بعد قراءته الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: (لما دخل أهل الجنة الجنة والنار النار) إلى آخر الحديث، قال: ففي الحديث أن أهل الجنة يقولون: (ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة).
إذاً فالرؤية زيادة لم تحدث من قبل، وهذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله؛ ولذلك جاءت بعد دخولهم الجنة، وكانت أفضل النعيم، فكيف الرؤية يوم المحشر؟
الجواب
لقوله تبارك وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، و (ما منكم من أحد إلا يلقى ربه فيحاسبه) وهذا في المحشر؛ لأن الجنة ليس فيها حساب، واللقاء لا يكون إلا برؤية.(30/23)
كيفية دفن النبي عليه الصلاة والسلام
السؤال
هل دفن النبي عليه الصلاة والسلام في شق أو في لحد؟
الجواب
دفن في لحد، وهو القائل: (اللحد لنا، والشق لغيرنا)، فكيف يخالف الأمة في قبره عليه الصلاة والسلام؟!(30/24)
موقف الإمام عند الصلاة على الجنازة
السؤال
أين يقف الإمام عند الصلاة على الجنازة؟
الجواب
يقف من المرأة عند وسطها، ويقف من الرجل عند رأسه.(30/25)
حكم من يسب الله أو دينه
السؤال
ما حكم الدين في معاملة الوالد الذي يسب دين الله، بل يسب الله تعالى، كما أنه كثير الكذب، وأنا لا آكل معه، ولا ألقي عليه السلام، كما أن نفسي لا تستريح إلى معاملته ومخالطته؟
الجواب
إن الذي يسب الله عز وجل كافر كفراً مخرجاً من الملة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، ولا يوجد أحد يجهل أن سب الله كفر، إذ إن ذلك مما فطر عليه الخلق، فلا يحتاج إلى علم؛ لأن العلم به قرن بالقلوب منذ أن خلق الله تعالى الخلق، وإذا ثبت كفره على هذا النحو فإنه يأخذ حكم الكافر في كل شيء.(30/26)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة - رؤية النبي لله عزوجل
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا بعينيه غير ثابتة، لكنه رآه بقلبه ورآه مناماً، هذا هو الراجح من كلام المحققين من العلماء، كما أن المؤمنين لن يروا ربهم في الدنيا حتى يموتوا، ورؤيتهم له في يوم القيامة وفي الجنة حق، ويحجب الكفار عن رؤيته في ذلك اليوم؛ عقوبة لهم من الله، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لما يعتقده أهل الفرق الضالة والمنحرفة.(31/1)
مباحث في رؤية النبي والمؤمنين لربهم في الدنيا والآخرة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سنتكلم الآن عن موضوع له علاقة بهذه الأيام وبهذا الشهر الجاري وهو شهر رجب، فالناس قد انطبع في أذهانهم أن الإسراء والمعراج كان في شهر رجب، مع أن هذه المسألة غير ثابتة وغير موثقة، وتحديد ليلة الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام والعروج به إلى السماء السابعة غير دقيق، وهو محل نزاع واختلاف بين أهل العلم، ولكن شاع وفشا وانتشر أن ذلك كان في رجب، حتى ظن العامة أن الإسراء والمعراج كانا في السابع والعشرين من شهر رجب، ثم انطبع في أذهانهم أن النبي عليه السلام قد رأى ربه بعيني رأسه في هذه الليلة.
وهذه المسألة محل نزاع كبير بين أهل العلم، وهذا الكلام قد نشأ في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ففي الوقت الذي يؤيد فيه ابن عباس الرؤية تنفي فيه عائشة وعبد الله بن مسعود وأبو ذر رضي الله عنهم أجمعين الرؤية كذلك.
فهذه المسألة لا يضلل فيها المخالف ولا يبدع؛ لأن الخلاف قد وسع الصحابة رضي الله عنهم في هذه القضية، مع أننا لو دققنا النظر لما وجدنا أي خلاف بين مذهب ابن عباس ومذهب عائشة وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، ولكن الخلاف وقع بعد ذلك بين أهل العلم، وعلى وجه التحديد وقع في القرن الثاني، وفي بداية القرن الثالث.
وهنا عدة أسئلة وهي: الأول: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء أم لا؟ السؤال الثاني: هل رآه بفؤاده وبقلبه أم لا؟ السؤال الثالث: هل رؤية الله عز وجل للمؤمنين -أي: من غير الأنبياء- بأعين رءوسهم ممكنة في الحياة الدنيا أم لا؟ السؤال الرابع: هل رأى النبي عليه الصلاة والسلام ربه في المنام أم لا؟ السؤال الخامس والخاتم لهذه الأسئلة في مسألة الرؤية: هل الكافرون والمنافقون يرون ربهم تبارك وتعالى؟ فهذه أسئلة أساسية في قضية الرؤية، ينبغي الإجابة عن كل سؤال بالتفصيل.(31/2)