ـ[أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية - عرض ونقد -]ـ
المؤلف: دكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري
دار النشر: بدون
سنة الطبع: 1414 هـ
عدد الأجزاء: 3
الطبعة: الأولى
__________
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي]
-أعده للشاملة: أسامة بن الزهراء؛ فريق عمل الشاملة -
(أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراة من قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - وقد أجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبعها وتبادلها بين الجامعات)(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها المؤلف لنيل درجة الدكتوراة من قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - وقد أجيزت هذه الرسالة بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبعها وتبادلها بين الجامعات(1/3)
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد..
فإن من أصول الإسلام العظيمة الاعتصام بحبل الله جميعاً وعدم التفرق قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2) .
وقد كان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، فلما قتل عثمان - رضي الله عنه وأرضاه - ووقعت الفتنة، فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة (3) . التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارق على حين فرقة من المسلمين، يقتلهم أولى الطائفتين بالحق" (4) وكان مروقها لما حكم الحكمان، وتفرق الناس على غير اتفاق.
ثم حدث بعد بدعة
__________
(1) آل عمران، آية: 103
(2) الأنعام، آية: 159
(3) المارقة: لقب من ألقاب الخوارج، والخوارج: هم الذين خرجوا على علي - رضي الله عنه - بعد التحكيم، فقاتلهم علي يوم النهروان، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة، ففي الصحيحين عشرة أحاديث فيهم، أخرج البخاري منها ثلاثة، وأخرج مسلم سائرها (شرح الطحاوية ص 530) وساقها جميعاً ابن القيم في تهذيب السنن: 4/148-153، وانظر في عقائدهم وفرقهم: الفرق بين الفرق، ص72 وما بعدها، الملل والنحل: 1/146 وما بعدها، الفصل: 5/51-56
(4) انظر: صحيح مسلم (بشرح النووي) كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم: 7/168(1/5)
الخوارج بدع التشيع (1) ، وتتابع خروج الفرق، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم (2) . وقد خرج التشيع من الكوفة (3) ، ولذلك جاء في أخبار الشيعة بأنه لم يقبل دعوتهم من أمصار المسلمين إلا الكوفة (4) . ثم انتشر بعد ذلك في غيرها، كما خرج الإرجاء أيضاً من الكوفة، وظهر القدر، والاعتزال، والنسك الفاسد من البصرة، ظهر التجهم من ناحية خراسان.
وكان ظهور هذه البدع بحسب البعد عن "الدار النبوية" (5) . لأن البدعة لا تنمو وتنتشر إلا في ظل الجهل، وغيبة أهل العلم والإيمان، ولذلك قال بعض السلف: من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله للعالم من أهل السنة (6) ؛ وذلك لسرعة تأثرها هؤلاء بأعاصير الفتنة والبدعة لضعف قدرتهم على معرفة ضلالها، واكتشاف عوارها، ولذا فإن خير منهج لمقاومة البدعة، ودرء الفرقة، هو نشر السنة بين الناس، وبين ضلال الخارجين عنها، ولذلك نهض أئمة السنة بهذا الأمر، وبينوا حال أهل البدعة، وردوا شبهاتها، كما فعل الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية، والإمام البخاري في الرد على الجهمية، وابن قتيبة في الرد على الجهمية والمشبهة، والدارمي في الرد على بشر المريسي وغيرهم.
ولا شك بأن بيان حال الفرق الخارجة عن الجماعة، والمجانبة للسنة ضروري لرفع الالتباس، وبيان الحق للناس، ونشر دين الله سبحانه، وإقامة الحجة على تلك الطوائف، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة، فإن الحق لا يكاد يخفى على أحد، وإنما يضلل هؤلاء أتباعهم بالشبهات والأقوال الموهمة، ولذلك فإن أتباع تلك الطوائف هم ما بين زنديق، أو جاهل، ومن الضروري تعليم الجاهل، وكشف حال الزنديق ليعرف ويحذر.
__________
(1) انظر: منهاج السنة لابن تيمية: 1/218-219
(2) انظر: ص (112) هامش رقم (4)
(3) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 20/301
(4) بحار الأنوار: 100/259
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 20/300-301
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/60، والقول لأيوب السختياني(1/6)
وبيان حال أئمة البدع المخالفة للكتاب والسنة واجب باتفاق المسلمين "حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟
فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل.
فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، دفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء" (1) .
وقد وجد العدو المتربص بالأمة في هذه الفرق الخارجة عن الجماعة، وسيلة لإيقاع الفتنة في الأمة، ولا يبعد أنه اليوم يريد أن يستثمر هذه المسألة لمواجهة بوادر البعث الإسلامي المتنامي في أرجاء المعمورة، والوقوف في وجه الصحوة الإسلامية التي امتدت إلى عقر داره، وهو يتخذ من تقارير مستشاريه - الذين يهتمون أبلغ الاهتمام بتاريخ تلك الطوائف وعقائدهم - منهجاً يحتذيه في علاقته مع المسلمين ودولهم.
ولذا نلحظ أنه يغذي بعض هذه الطوائف، ويهيئ الوسائل لوصولها لدفة الحكم والتوجيه.
ولا شك أن بيان الحق في أمر هذه الفرق فيه تفويت للفرصة أمام العدو لتوسيع رقعة الخلاف واستمراره؛ فإن ترك رؤوس زنادقة البدع يسعون لإضلال الناس، ويعملون على تكثير سوادهم، والتغرير بأتباعهم، ويدعون أن ما هم عليه هو الإسلام، هو من باب الصد عن دين الله وشرعه، حتى أن من أسباب خروج
__________
(1) ابن تيمية/ مجموعة الرسائل والمسائل: 5/110(1/7)
الملاحدة ظنهم أن الإسلام هو ما عليه فرق أهل البدعة، ورأوا أن ذلك فاسدٌ في العقل فكفروا بالدين أصلاً.
ومعظم الفرق التي خرجت عن الجماعة ضعف نشاطها اليوم، وفتر حماسها وتقلص أتباعها، وانكفأت على نفسها، وقلت منابذتها أهل السنة.
أما طائفة الشيعة فإن هجومها على أهل السنة، وتجريحها لرجالهم، وطعنها في مذهبهم، وسعيها لنشر التشيع بينهم يزداد يوماً بعد يوم.
ولعل طائفة الاثني عشرية هي أشد فرق الشيعة سعياً في هذا الباب لإضلال العباد إن لم تكن الفرقة الوحيدة التي تُكثر من التطاول على السنة، والكيد لها على الدوام مما لا تجده عند فرقة أخرى.
ولقد كانت صلتي بقضية الشيعة تعود إلى مرحلة "الماجستير"، حيث كان موضوعها "فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة" وبعد أن انتهيت من دراسة مسألة التقريب، رغبت أن أتجه في دراستي للدكتوراه إلى تحقيق بعض كتب التراث، وتقدمت إلى القسم بطلب الموافقة على تحقيق الجزء الأول "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن أشار عليّ بعض الأساتذة الفضلاء في القسم وخارجه بالاستمرار في دراسة قضية الشيعة؛ لأهميتها وضرورة دراستها دراسة علمية موضوعية.
وبعد الاستشارة والاستخارة عقدت العزم على أن أدرس العقائد الأساسية للمذهب الاثني عشري، وأنا على علم بأن الجهد الذي يتطلبه هذا الموضع يفوق الموضوع الأول كثيراً، لأنني - كما سيتبين - أمام دارسة دين بأكمله، لا كتاب شخص واحد.
وقد اخترت طائفة الاثني عشرية بالذات من بين طوائف الشيعة لعدة أسباب، منها:
أولاً: أن هذه الطائفة بمصادرها في التلقي وكتبها، وتراثها تمثل نحلة كبرى، حتى أنهم(1/8)
يسمون مسائل اعتقادهم "دين الإمامية" (1) . لا مذهب الإمامية، وذلك لانفصالها عن دين الأمة، وبحسبك أن تعرف أن أحد مصادرها في الحديث عن الأئمة يبلغ مائة وعشرة مجلدات وهو "بحار الأنوار" لشيخهم المجلسي (ت1111هـ) .
ثانياً: اهتمام هذه الطائفة بنشر مذهبها والدعوة إليه، وعندها دعاة متفرغون ومنظمون، ولها في كل مكان (غالباً) خلية ونشاط، وتوجه جل اهتمامها في الدعوة لنحلتها في أوساط أهل السنة، ولا أظن أن طائفة من طائف البدع تبلغ شأو هذه الطائفة في العمل لنشر معتقدها والاهتمام بذلك.
هي اليوم تسعى جاهدة لنشر "مذهبها" في العالم الإسلامي، وتصدير ثروتها، وإقامة دولتها الكبرى بمختلف الوسائل.
وقد تشيع بسبب الجهود التي يبذلها شيوخ الاثني عشرية الكثيرُ من شباب المسلمين.. ومن يطالع كتاب "عنوان المجد في تاريخ البصرة ونجد" يهوله الأمر، حيث يجد قبائل بأكملها قد تشيعت.
وقد تحولت سفارات دولة الشيعة في إيران إلى مركز للدعوة إلى مذهبها في صفف الطلبة، والعاملين المسلمين في العالم. وهي تهتم بدعوة المسلمين أكثر من اهتمامها بدعوة الكافرين (2) .
ولاشك أن المسؤولية كبيرة في إيضاح الحقيقة أمام المسلمين. ولاسيما الذين دخلوا في سلك التشيع حباً لأهل البيت واعتقادهاً منهم أن هذا الطريق عين الحق، وطريق الصدق.
__________
(1) الاعتقادات لابن بابويه يسمى "دين الإمامية" انظر: (الفهرست للطوسي: ص189، أغا بزرك/ الذريعة: 2/226)
(2) انظر سبب ذلك في ص (714-715) من هذه الرسالة، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 28/478(1/9)
ثالثاً: أن هذه هي الطائفة الشيعية الكبرى في عالم اليوم، وقد احتوت معظم الفرق الشيعية التي وجدت على مسرح التاريخ، تمثل مصادرها في التلقي، خلاصة أفكار الاتجاهات الشيعية المختلفة ومستقرها التي ظهرت على امتداد الزمن، حتى قيل بأن لقب الشيعة إذا أطلق لا ينصر إلا إليها.
رابعاً: هذه الفرقة لها اهتمام دعائي في الدعوة للتقارب مع أهل السنة، وقد أقامت المراكز، وأرسلت الدعاة، وأنشأت الجمعيات التي ترفع شار الوحدة الإسلامية (1) .
خامساً: هذه الطائفة تكثر من القول بأن مذهبها لا يختلف عن مذهب أهل السنة، وأنها مظلومة ومفترى عليها، ولها اهتمام كبير بالدفاع عن مذهبها، ونشر الكتب والرسائل الكثيرة للدعاية له، وتتبع كتب أهل السنة ومحاولة الرد عليها، مما لا يوجد مثله عند طائفة أخرى.
سادساً: كثرة مهاجمة هذه الطائفة لأهل السنة، ولا سيما صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنها في أمهات كتب المسلمين، عبر مؤلفاتهم التي يخرج سنوياً العشرات من الكتب.. كذلك مهاجمتها بعنف وضراوة لكل من يكتب عنها أو يتعرض لمذهبها بالنقد، تحت ستار أن هذه الكتابات تعيق التقريب، وتعرقل مساعي الوحدة الإسلامية، فانصرفت أكثر الأقلام عن الكتابة عنها.
سابعاً: استرعى انتباهي تضخم الخلاف حول حقيقة الاثني عشرية لدى الكتاب المعاصرين:
فمن فريق يرى أنهم كفرة، وأن غلهم تجاوز الحدود الإسلامية، كما في كتابات الأستاذ محب الدين الخطيب، وإحسان إلهي ظهير، وإبراهيم الجبهان (2) . وغيرهم.
__________
(1) انظر: "فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة": ص 511 وما بعدها
(2) انظر: الخطوط العريضة للخطيب، والشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير، وتبديل الظلام للجبهان(1/10)
وفريق يرى أن الاثني عشرية طائفة معتدلة لم تجنح إلى الغلو الذي وقعت فيه الفرق الباطنية، مثل: كتابات النشار، وسليمان دنيا، ومصطفى الشكعة (1) . وغيرهم.
وفريق ثالث التبس عليه الأمر حتى ذهب يستفتي شيوخ الشيعة الاثني عشرية فيما كتبه عنهم إحسان إلهي ظهير، ومحب الدين الخطيب، كما تجد ذلك فيما كتبه البهنساوي في "السنة المفترى عليها".
ومن خلال هذه الاختلافات قد تضيع الحقيقة، أو تخفى على الكثير.
ولذلك فقد راعيت في هذه الرسالة - ولا سيما في باب الشيعة المعاصرين - الاستماع إلى أصوات الشيعة المدافعين عن مذهبهم والناقدين لما كتبه بعض أهل السنة عن معتقدهم، ومناقشة ذلك.
ولقد كتب أسلافنا عن الاثني عشرية، وهي التي يسمونها بالرافضة، وكان لمصنفاتهم أثرها، كما في كتابات أبي نعيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، المقدسي، والفيروزآبادي، وما في كتب الفرق والعقيدة، ولكن تلك الكتابات كانت قبل شيوع كتب الشيعة وانتشارها، وجملة منها يحمل صفة الرد على بعض مؤلفات الشيعة، ولا تدرس الطائفة بعقائدها وأفكارها بشكل شامل.
كما أن الاثني عشرية لمهارتها في التقية، قد خفي أمرها؛ حتى نجد في شرح صحيح مسلم القول بأن الإمامية لا تكفر الصحابة، وإنما ترى أنهم أخطأوا في تقديم أبي بكر (2) . ونرى شيخ الإسلام ابن تيمية على اهتمامه بالمذهب الرافضي ونقده، يقول: حدثني الثقات أن فيهم من يرى الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله (3) .
__________
(1) نشأة الفكر الفلسفي للنشار، الجزء الثاني ص13، والشيعة وأهل السنة سليمان دنيا، وإسلام بلا مذاهب لمصطفى الشكعة ص 194
(2) شرح صحيح مسلم: 15/ 174
(3) منهاج السنة: 2/124(1/11)
بينما هذه القضية تجدها اليوم مقررة في أمهات كتبهم في عشرات الروايات والعديد من الأبواب.
كما أن أهم كتاب عند الشيعة وهو "أصول الكافي" لا تجد له ذكراً عند الأشعري، أو ابن حزام، أو ابن تيمية، وهو اليوم الأصل الأول المعتمد عند الطائفة في حديثها عن الأئمة الذي هو أساس مذهبها.
وأيضاً فإن طبيعة هذا المذهب أنه يتطور من وقت لآخر، ويتغير من جيل لجيل، حتى أن الممقاني أكبر شيوخهم في هذا العصر يقول: إن ما يعتبر غلواً عند الشيعة الماضين أصبح اليوم من ضرورات المذهب (1) . هذه الطبيعة المتغيرة تقتضي التعرف على الوجه الحقيقي للاثني عشرية في عصرنا.
كما أن جل الردود التي تسود المصنفات التي كتبها الأئمة السابقون - رحمة الله عليهم أجمعين - هي على شبهات يثيرها الشيعة من كتب السنة نفسها؛ فيرد عليها أهل السنة مبينين أن تلك النصوص التي يتمسك بها الشيعة إما موضوعة، وإما ضعيفة، أو بعيدة عن استدلالهم الفاسد.
ولكن الشيعة لا تؤمن بكتب أهل السنة كلها أصلاً، وهي تثير هذه الشبهات إلى اليوم لتحقيق أمرين:
الأول: إشغال أهل السنة بهذه الشبهات، حتى لا يتفرغوا لنقد كتبهم، ونصوصهم، ورجال رواياتهم.
الثاني: إقناع الحائرين والمتشككين من أهل طائفتهم بدعوى أن ما هم عليه من شذوذ وهو موضع اتفاق بين السنة والشيعة.
ولكن كتب الشيعة اليم قد توفرت بشكل لم يعهد من قبل.. فينبغي أن تكون من أهم ركائز الدراسة والنقد؛ لأن الحجة على كل طائفة إنما تقام بما
__________
(1) سيأتي بنصه في ص (373)(1/12)
تصدقه وتؤمن به.
أما الكتابات المعاصرة من قبل أهل السنة عن الاثني عشرية فهي قليلة بالنسبة لما يكتبه الشيعة عن أهل السنة.
وهي بالنسبة للاثني عشرية لا تكفي، فمذهبهم قائم على مئات الكتب التي تخدم المذهب، وتدعو إليه، وتمثل فكره ووجهته، ودراستها ونقدها يحتاج لجهد أكبر، وعمل أوسع.
ولقد رأيت في هذه المؤلفات أنها أغفلت جوانب مهمة في دراسة الاثني عشرية؛ كعقيدتهم - مثلاً - في أصول الدين، وهو ما حاولت القيام بدراسته في الباب الثاني من هذه الرسالة.
كذلك معرفة آراء المعاصرين من الشيعة وتوجهاتهم، وصلتهم بالفرق القديمة، وكتبهم السابقة، وهو ما يتحدث عنه الباب الرابع.
والموضوع - حقيقة - كان من السعة والتشعب، بحيث يحتاج إلى دراسات جديدة ترتاد آفاقاً مازالت مجهولة في المذهب الاثني عشري، ولذلك نحوت في دراسة الموضوع منحاً علمياً تكشفت فيه معالم جديدة، لعل من أبرزها ما يلي:
أولاً: دراسة مذهب الاثني عشرية في أصول الدين وهي منطقة في معظم مسائلها مجهولة، لأن الشيعة يتسترون عليها، والباحثين من أهل السنة لم يطرقوها. وقد شكل ذلك باباً كاملاً في الرسالة هو الباب الثاني.
ثانياً: أماطت هذه الدراسة اللثام عن عقائد لم يطرقها أحد من قبل - حسب علمي - كعقيدة أن القرآن ليس حجة إلا بقيم، وأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم، وعقيدة الظهور، والطينة (1) ، ودعوى تنزل كتب إلهية على الأئمة (2) .
__________
(1) قد أشار الشيخ تونسوي في كتابه "عقائد الشيعة" إلى هذه العقيدة إشارة مقتضبة، ونقل نصاً واحداً من الكافي لا يصور هذه العقيدة بكاملها
(2) والباحثون يخلطون بينها وبين عقدية التحريف عند الشيعة(1/13)
كما كشفت عن متى بدأت فرية التحريف في المذهب الاثني عشري، وأول كتاب سجلت فيه هذه الفرية، واكتشاف وضع هذا الكتاب ومتى وضع.
كذلك تم اكتشاف صلة شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهاج السنة، بأكبر تحول في تقويم النصوص عندهم وتقسيمها إلى صحيح، وضعيف وموثق.
وحققت القول بوجود المهدي الذي يقوم عليه مذهب الاثني عشرية اليوم وعرض شهادات مهمة صادرة من أسرة الحسن العسكري، وأهل البيت والحسن العسكري نفسه، ومأخوذة من كتب الشيعة ذاتها.
وغير ذلك مما قد يجده الباحث في هذه الرسالة.
وإنني أذكر هذه المسائل حتى تتضح للقارئ مواضع الإضافة التي يمكن أن يفيد منها.. ذلك أنني حاولت أن أكتفي في المسائل المبحوثة بالإشارة أو الإتيان بنصوص جديدة، كما في مسألة تكفيرهم للشيخين، التي تجد النصوص التي تكشف تورط الشيعة فيها من خلال ما كتبه الشيخ موسى جار الله وإحسان إلهي ظهير، وغيرهما، فحاولت أن أقدم نصوصاً شيعية تعبر عن الشيخين برموز خاصة، ثم أوردت تفسيرها من كتب الاثني عشرية نفسها.
أما عن المنهج الذي حكم أسلوب معالجتي للموضوع، والجديد الذي يحتمل إضافته، فإن أبواب هذا البحث خير من يتحدث عنه، وإذا كان لابد من إشارات في هذا التقديم فأقول:
قد عمدت في بداية رحلتي مع الشيعة وكتبها ألا أنظر في المصادر الناقلة عنهم، وأن أتعامل مباشرة مع الكتاب الشيعي حتى لا يتوجه البحث وجهة أخرى.(1/14)
وحاولت - جهد الطاقة - أن أكون موضوعياً، ضمن الإطار الذي يتطلبه موضوع له صلة وثيقة بالعقدية كموضعي هذا.
والموضوعية الصادقة أن تنقل من كتبهم بأمانة، أن تختار المصادر المعتمدة عندهم، وأن تعدل في الحكم، وأن تحرص على الروايات الموثقة عندهم أو المستفيضة في مصادرهم - ما أمكن -.
أما إنكار ما أقف عليه من منكر، بيان فساده، فهذا ليس خروجاً عن الموضوعية، بل هو جزء من واجب كل مسلم، فمن يتعرض لكتاب الله سبحانه، ويدعي فيه نقصاً وتحريفاً، أو يقول بأن علياً هو الأول والآخر والظاهر الباطن، وأمثال هذه الكفريات الظاهرة، لا تملك إلا أن تصمه بما يستحقه، وأن تظهر فداحة جرمه، وشناعة معتقده، وإلا كان في الأمر خداع وتغرير بالقارئ المسلم.
ولذلك فإنني أعرض لعقائدهم بمنهج نقدي، وحينما أجد أن المسألة تحتاج إلى دراسة نقدية أكثر تفصيلاً أعقد لذلك مبحثاً مستقلاً، ولا ألتزم ذلك دائماً؛ لأن في جملة من العقائد ما يكفي لمعرفة حقيقتها بمجرد عرضها، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن تصور المذهب الباطل يكفي في بيان فساده ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة؛ لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم لما فيه من الألفاظ المجملة المشتركة (1) .
ولذلك فإنني أحياناً أكتفي بمجرد تصوير حقيقة القول، والإشارة إلى بطلانه، ولا سيما في المسائل الجزئية، كما أنني في مسائل المذهب الكبار كمسألة النص أو الصحابة، أزيد على ذلك بنقد المقالة من خلال الكتاب والسنة، وأقوال أئمتهم، والأمور المعلومة، والمتفق عليها.
وأسلك بوجه عام في مناقشتهم منهج النقد الداخلي للنصوص؛ وذلك عن
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 2/138 (جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم)(1/15)
طريق مقارنة هذه النصوص بعضها ببعض وبيان ما بينها من تناقض ومفارقات - ما أمن ذلك -.
كما أنني أحياناً أناقشهم على وفق منطقهم، وبمقتضى مقرراتهم وقواعدهم، وعلى ضوء رواياتهم، ولا يعني هذا الموافقة على تلك الأصول، وقبول تلك الروايات؛ وإنما هو منهج في النقد، لكشف حقيقة المذهب، وخروجه عن أصوله، وعمله ببعض رواياته وترك الآخر.
ثم إنني في عرضي لعقائدهم ألتزم النقل من مصادرهم المعتمدة، لكن لا أغفل في الغالب ما قالته المصادر الأخرى. ووضع الأمرين أمام القارئ مفيد جداً للموازنة والمقارنة، ومعرفة مدى اطلاع الأوائل على معتقد الشيعة، ومقدار التغير في المذهب الشيعي عبر القرون.
كما قمت بتخريج ما يرد في البحث من الأحاديث والآثار، والتعريف بالفرق والملل، وبيان المصطلحات، وكذلك الترجمة للأعلام الذين لهم دور في تأسيس بعض عقائد الشيعة، أو ما تدعو حاجة البحث لمعرفته. أما الترجمة لكل عَلَمٍ يرد فهذا يشغل القارئ عن الموضوع الأساسي، وهو موضوع مكانه كتب التاريخ التراجم، ولذلك فإني التزمت التعريف بكل فرقة ترد؛ لأن هذا هو الأقرب للتخصص والموضوع.
ولقد اكتنفت دراستي عدة صعوبات:
أولها: أن كتب الرواية عند الشيعة لا تحظى بفهرسة، وليس لها تنظيم معين، كما هو الحال في كتب أهل السنة (1) ، ولذلك فإن الأمر اقتضى مني قراءة طويلة في كتب حديثهم، حتى تصفحت البحار بكامل مجلداته، وأحياناً أقرأ رواية رواية، وقرأت أصول الكافي، وتصفحت وسائل الشيعة، وكانت الروايات التي أحتاج إليها تبلغ المئات في كل مسألة في الغالب.
__________
(1) يوجد عندهم "مفتاح الكتب الأربعة" عندي منه اثنا عشر مجلداً، إلا أن طريقة مؤلفه في ترتيبه تجعله أشبه بكتاب لا بفهرس(1/16)
فلا تستطيع أن تكتب عن هذه المسألة حتى تستكمل قراءة هذه الأخبار.
وأرجع كثيراً إلى شروح الكافي كشرح جامع للمازندراني، لفهم وجهة نظر شيوخهم في الروايات.
ثانياً: رحلت في البحث عن الكتاب الشيعي إلى مصر، والعراق، والبحرين، والكويت، وباكستان، وحصلت من خلال ذلك على مصادر مهمة أفدت منها في أبواب هذا البحث وفصوله.
ثالثاً: طول المسافة الزمنية التي شملها البحث، والتي امتدت منذ نشأة الشيعة حتى اليوم، فأمامي عشرات الكتب الشيعية في مختلف العصور أمضيت وقتاً طويلاً في تتبعها، وملاحقة التطور العقدي للشيعة في امتدادها.
مصادر الرسالة:
وقد اعتمدت في دراستي عنهم على مصادرهم المعتبرة من كتب التفسير والحديث، والرجال، والعقائد، والفرق، والفقه، والأصول:
أ- ففي كتب التفسير رجعت إلى:
تفسير علي بن إبراهيم القمي، الذي قالوا عنه بأنه أصل أصول التفاسير عندهم (1) . ووثق رواياته شيخ مشايخهم في هذا العصر الذي يلقبونه "بالإمام الأكبر" وهو أبو القاسم الخوئي، فقال: "ولذا نحكم بوثاقة جميع مشايخ علي بن إبراهيم القمي الذي روى عنهم في تفسيره مع انتهاء السند إلى أحد المعصومين" (2) . والقمي عندهم ثقة في الحديث، ثبت معتمد (3) ، كان في عصر الإمام العسكري، وعاش إلى سنة (307هـ) (4) .
__________
(1) مقدمة تفسير القمي: ص 10
(2) أبو القاسم الخوئي/ معجم رجال الحديث: 1/63
(3) رجال النجاشي: ص 197
(4) الذريعة: 4/302، مقدمة تفسير القمي: ص 8(1/17)
وكذلك تفسير العياشي الذي قال فيه شيخهم المعاصر - محمد حسين الطبطبائي: "أحسن كتاب ألف قديماً في بابه، وأوثق ما ورثناه من قدماء مشايخنا من كتب التفسير بالمأثور، فقد تلقاه علماء هذا الشأن منذ ألف عام إلى يومنا هذا من غير أن يذكر بقدح، أو يغمض فيه بطرف" (1) .
والعياشي هو محمد بن مسعود أبو النضر، عاش في أواخر القرن الثالث، وهو عندهم جليل القدر، واسع الأخبار، بصير بالروايات (2) .
وتفسير فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، من شيوخهم في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع (3) . وقد وثقه شيخهم المجلسي فقال: "أخبار تفسير فرات موافقة لما وصل إلينا من الأحاديث المعتبرة" (4) .
هذه أهم كتب التفسير القديمة الموجودة اليوم بين أيديهم (5) . وقد رجعت إليها في أثناء عرض عقيدتهم في القرآن وغيره، ولم أكتف بتوثيق المنقول منها، بل شفعت ذلك بما كتبه شيوخهم المتأخرون المعتمدون عندهم، مثل:
تفسير الصافي لشيخهم محمد محسن المعروف بالفيض الكاشاني، والذي يصفونه بـ "العلامة المحقق، المدقق، جليل القدر، عظيم الشأن" (6) .
والبرهان في تفسير القرآن لشيخهم هاشم بن سليمان البحراني (المتوفى سنة 1107 أو 1109هـ) وهو عندهم العلامة الثقة الثبت المحدث الخبير والناقد البصير (7) .
__________
(1) الطبطائي/ مقدمة حل الكتاب ومؤلفة: صاج
(2) الطوسي/ الفهرست: ص 163 -165؟
(3) أغا بزرك الطهراني/ نوابع الرواة: ص 216
(4) بحار الأنوار: 1/ 37، وانظر في بيان أنه من مصادرهم المعتبرة عند القدامى والمعاصرين: مقدمة تفسير فرات، لمحمد علي الأوردبادي
(5) بالإضافة إلى تفسير التبيان للطوسي، ومجمع البيان للطبرسي، والتي قال فيهما بعض شيوخهم بأنهما وضعا على أسلوب التقية - كما سيأتي -
(6) الأردبيلي/ جامع الرواة: 2/42
(7) انظر: أمل الآمل: 2/341، يوسف البحراني/ لؤلؤة البحرين ص 63، البلادي/ أنوار البدرين ص 137(1/18)
* ومرآة الأنوار ومشكاة الأسرار، أو مقدمة البرهان لشيخهم أبي الحسن بن محمد العاملي الفتوني، تلميذ المجلسي صاحب البحار (ت 1140هـ) قال عنه صاحب لؤلؤة البحرين بأنه كان محققاً مدققاً (1) ، وقال عنه صاحب روضات الجنات: "من أعاظم فقهائنا المتأخرين" (2) ، ووصفه شيخهم النوري بالحجة وقال عن كتابه: "لم يعمل مثله" (3) . ومثل ذلك قال صاحب الذريعة (4) ، وغير ذلك من كتب التفسير عندهم التي رجعت إليها، وذكرتها تبعاً لما أشرت إليه ووثقته من كتبهم.
وأصحاب الكتب السابقة كلهم قالوا بتحريف القرآن، ولاشك أن من اعتقد ذلك فهو ليس من أهل القبلة، ولكني أنقل توثيقاتهم لشيوخهم.
ب- أما كتب حديثهم: (وهي رواياتهم عن الأئمة) فقد رجعت لمصادرهم المعتمدة عندهم وهي:
1- الكتب الأربعة: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، قال شيخهم المعاصر محمد صادق الصدر: "إن الشيعة (5) " (6) .
2- الكتب الأربعة المتأخرة وهي: الوافي، وبحار الأنوار، والوسائل، ومستدرك الوسائل، فتصبح مصادرهم الرئيسية ثمانية. قال عالمهم المعاصر محمد صالح الحائري: "وأما صحاح الإمامية فهي ثمانية، أربعة منها للمحمدين الثلاثة الأوائل، وثلاثة بعدها للمحمدين الثلاثة الأواخر، وثامنها لمحمد حسين المرحوم المعاصر النوري" (7) .
__________
(1) يوسف البحراني/ لؤلؤة البحرين: ص 107
(2) الخوانساري/ روضات الجنات: ص 658. ط: الثانية، الزرندي/ ترجمة المؤلف (المطبوع مع مقدمة مرآة الأنوار)
(3) مستدرك الوسائل: 3/385
(4) أغابزرك/ الذريعة: 20/264
(5) مجمعة على اعتبار الكتب الأربعة، وقائلة بصحة كل ما فيها من روايات
(6) الشيعة: ص 127
(7) منهاج عملي للتقريب (مقال للرافضي محمد الحائري ضمن كتاب الوحدة الإسلامية: ص 233)(1/19)
وقد تحدثت عن هذه المصادر في فصل (عقيدتهم في السنة) .
وأكثر ما رجعت إليه من هذه المصدر الثمانية كتابان هما: "أصول الكافي"، و"بحار الأنوار"؛ وذلك لأنهما أكثر اهتماماً بمسائل الاعتقاد، ولأن الشيعة تعلق عليهما أهمية بالغة.
قال الصدر عن الكافي: "ويعتبر (الكافي) عند الشيعة أوثق الكتب الأربعة" (1) . وتبلغ أخباره (16199) ، ولو لم يقم صاحب الكافي بجمع الروايات عن الأئمة في كتابه لما بقي منها إلا النزر اليسير.
وقال: يحكى أن الكافي عرض على المهدي فقال: "كاف لشيعتنا" (2) .
هذا ما يقوله الصدر، وينسبه للشيعة عموماً، ولهذا قال محب الدين الخطيب: "إن الكافي عند الشيعة هو كصحيح البخاري عند المسلمين" (3) .
وقد يكون في كلام الخطيب هذا بعض التسامح؛ لأن غلوهم في الكافي أكثر، ألا ترى أنهم يقولون: إن الكافي ألّف إبان الصلة المباشرة بمهديهم وإنه عرض على "المعصوم" عندهم، فهو كما لو قال بعض أهل السنة: إنه صحيح البخاري تم عرضه على الرسول صلى الله عليه وسلم.. لأن الإمام عندهم كالنبي، ولذا قالوا: "كانت منابع اطلاعات الكليني قطعية الاعتبار، لأن باب العلم واستعلام حال تلك الكتب (4) . بواسطة سفراء القائم (5) . كان مفتوحاً عليه لكونهم معه في بلد واحد، بغداد" (6) .
__________
(1) الشيعة: ص133
(2) المصدر السابق: ص123، روضات الجنات، للخوانساري: 6/116، ومقدمة الكافي، لحسين علي: ص25
(3) الخطوط العريضة: ص 28
(4) التي جمع من خلالها الكافي
(5) هو مهديهم المنتظر، وسفراؤهم: أبوابه الأربعة، كما سيأتي في فصل الغيبة
(6) الحائري/ منهاج عملي للتقريب (ضمن كتاب الوحدة الإسلامية ص333) . وانظر: ابن طاوس/ كشف المحجة ص 159(1/20)
أما البحار فقالوا بأنه: "المرجع الوحيد لتحقيق معارف المذهب" (1) . وعظموا من أمره، كما سيأتي من خلال صفحات هذه الرسالة (2) .
3- ورجعت إلى كتب شيوخهم المعتمدين عندهم، والتي يعدونها في الاعتبار والاعتماد كالكتب الأربعة، منها:
أ- كتاب سليم بن قيس، وهو أول كتاب ظهر للشيعة، كما يقول ابن النديم (3) ، وهو من أصولهم المعتبرة (4) ، ولنا وقفة مع هذا الكتاب ومؤلفه في أثناء الحديث عن فرية التحريف (5) .
ب- كتب شيخهم أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (المتوفى سنة 381هـ) مثل: إكمال الدين، والتوحيد، وثواب الأعمال، وعيون أخبار الرضا، ومعاني الأخبار، والأمالي وغيرها، وكتبه كلها "لا تقصر في الاشتهار عن الكتب الأربعة التي عليها المدار في هذه الأعصار" (6) ، ولا يستثنى من ذلك إلا خمسة كتب لم أرجع إليها (7) .
ج- كتب شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) وهي مثل كتب ابن بابويه في الاعتبار والاشتهار عندهم إلا كتاب واحد (8) . وغيرها من كتب شيوخهم، والتي تكلف شيخهم المجلي بتوثيقها في الجزء الأول من بحاره (9) ، كما قد ألمحت ببعض توثيقاتهم لهذه
__________
(1) البهبودي/ مقدمة البحار: ص 19
(2) انظر: ص (164)
(3) انظر: الفهرست ص219، الذريعة: 2/152، وفي رضات الجنات 4/67 زعم أنه "أول ما صنف ودوّن في الإسلام"
(4) انظر: بحار الأنوار: 1/32
(5) انظر: ص (221)
(6) بحار الأنوار: 1/26
(7) وهي: الهداية، وصفات الشيعة، وفضائل الشيعة، ومصادقة الإخوان، وفضائل الأشهر. (بحار الأنوار: 1/26)
(8) وهو الأمالي (بحار الأنوار: 1/27)
(9) ص: (29) وما بعدها(1/21)
الكتب في أثناء البحث، وأذكر توثيق الكتاب الذي لا أنقل منه إلا مرة واحدة في موضع النص المنقول.
د- رجعت إلى كتب العقيدة المعتمدة عندهم مثل:
1- اعتقادات ابن بابويه.
2- وأوائل المقالات للمفيد، وتصحيح الاعتقاد له أيضاً.
3- ونهج المسترشدين لابن المطهر الحلي.
4- والاعتقاد للمجلسي صاحب البحار.
5- وعقائد الإمامية للمظفر (من المعاصرين) .
6- عقائد الإمامية الاثني عشرية للزنجاني (معاصر) وغيرها.
وفي عقائدهم التي تفردوا بها رجعت - بالإضافة لما مضى - إلى ما كتب عن هذه العقائد مستقلاً، ففي الغيبة - مثلاً - رجعت إلى كتاب الغيبة لشيخهم محمد بن إبراهيم النعماني، من شيوخهم في القرن الثالث، وقد قال المجلسي عن كتابه هذا: "وكتاب النعماني من أجلّ الكتب" (1) ، ثم نقل عن المفيد ما يتضمن الثناء عليه وتوثيقه (2) .
وكذلك كتاب الغيبة للطوسي، وإكمال الدين لابن بابويه وغيرها.
وفي اعتقادهم في الرجعة، رجعت إلى ما كتبه شيخهم الحر العاملي في الرجعة وهو "الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة" وهكذا.
هـوكذلك رجعت إلى ما كتبه بعض شيوخهم في المقالات والفرق، وهما "المقالات والفرق" لشيخهم سعد بن عبد الله الأشعري القمي المتوفى سنة (301هـ) ، و"فرق الشيعة" لشيخهم الحسن بن موسى النوبختي من شيوخهم في القرن الثالث. "وهما كتابان وصلا إلينا من بين كتب فرق الشيعة الضائعة" (3) .
__________
(1) بحار الأنوار: 1/31
(2) الموضع نفسه من المصدر السابق
(3) محمد جواد مشكور، مقدمة كتاب المقالات والفرق للقمي: ص/ كا(1/22)
و وفي كتب الرجال رجعت إلى مصادرهم المعتمدة في ذلك، ولاسيما كتبهم الأربعة؛ لأنهم يقولون: "أهم الكتب في هذا الموضوع من مؤلفات المتقدمين هي أربعة كتب، عليها المعول في هذا الباب وهي:
1- معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي (من شيوخهم في القرن الرابع) الذي يعرف بـ "رجال الكشي".
2- كتاب الرجال لأبي العباس أحمد بن علي النجاشي المتوفى سنة (460هـ) المعروف بـ "رجال النجاشي".
3- كتاب الرجال لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفى سنة (460هـ) المعروف بـ "رجال الطوسي".
4- كتاب "الفهرسيت للشيخ الطوسي" (1) .
وقد أكثرت في النقل من رجال الكشي، لأنهم يعدونه أهم كتبهم في الرجال، وأقدمها، وأوثقها؛ فهو من تأليف الكشي وهو عندهم "ثقة بصير بالأخبار وبالرجال حسن الاعتقاد" (2) . ومن تهذيب واختصار شيخ الطائفة الطوسي.
ولذا قال شيخهم المصطفوي: "أقدم هذه الكتب: هو رجال الكشي الذي لخصه شيخ الطائفة.. فكفى لهذا لكتاب المنيف شرفاً واعتباراً" (3) .
والخلاصة: أنني لم أعمد إلا إلى كتبهم المعتمدة عندهم، في النقل والاقتباس لتصوير المذهب.
ولم أذكر من عقائدهم في هذه الرسالة إلا ما استفاضت أخبارهم به، وأقره شيوخهم.
__________
(1) أحمد الحسيني/ مقدمة رجال الكشي، ط: الأعلمي/ كربلاء، ص: 4، وانظر: حسن المصطفوى/ مقدمة رجال الكشي، ط: إيران ص12، أغابزرك/ الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 10/80-81
(2) فهرست الطوسي: ص 171-172
(3) مقدمة المصطفوي لرجال الكشي: ص 12(1/23)
وقد تكون الروايات من الكثرة فأشير إلى ذلك بذكر عدد الروايات وعناوين الأبواب في المسائل التي أتحدث عنها.
وأذكر ما أجد لهم من تصحيحات وحكم على الروايات بمقتضى مقاييسهم.
كل ذلك حتى لا يقال بأننا نتجه إلى بعض رواياتهم الشاذة، وأخبارهم الضعيفة التي لا تعبر عن حقيقة المذهب، فنأخذ بها.
واهتممت بالنقل "الحرفي" في الغالب رعاية للموضوعية، وضرورة الدقة في النقل والعزو، وهذا ما يفرضه المنهج العلمي في نقل كلام الخصوم.(1/24)
خطة البحث:
يتكون هذا البحث من: تمهيد، وخمسة أبواب.
في التمهيد: التعريف بالشيعة، ونشأتها، وجذورها التاريخية، وفرقها، وألقاب الاثني عشرية، وفرقها.
أما الباب الأول: فموضوعه: اعتقادهم في مصادر الإسلام، وينتظم في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: اعتقادهم في القرآن.
الفصل الثاني: اعتقادهم في السنة.
الفصل الثالث: اعتقادهم في الإجماع.
وفي الباب الثاني: درست اعتقادهم في أصول الدين في فصول أربعة:
الفصل الأول: اعتقادهم في توحيد الألوهية.
الفصل الثاني: اعتقادهم في توحيد الربوبية.
الفصل الثالث: اعتقادهم في توحيد الأسماء والصفات.
الفصل الرابع: اعتقادهم في الإيمان وأركانه.
أما الباب الثالث: فهو يتعلق بعقائدهم وأصولهم التي تفردوا بها.
ودرست فيه عقائدهم التالية:
1- الإمامية، وفيها عرضت لعقيدتهم في الصحابة، وأهل البيت، وحكام المسلمين، وقضاتهم، وعلمائهم، والأمصار الإسلامية وشعوبها، والفرق الإسلامية، والأمة.
2- العصمة.
3- التقية.
4- المهدية والغيبة.
5- الرجعة.(1/25)
6- الظهور.
7- البداء.
8- الطينة.
أما الباب الرابع: فهو يتصل بالشيعة المعاصرين وصلتهم بأسلافهم، ويقع في أربعة فصول:
الفصل الأول: صلتهم بمصادرهم القديمة.
الفصل الثاني: صلتهم بفرقهم القديمة.
الفصل الثالث: الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين.
الفصل الرابع: دولة الآيات.
أما الباب الخامس: فهو يتعلق بالحكم عليهم، وأثرهم في العالم الإسلامي، ويتكون من فصلين:
الفصل الأول: الحكم عليهم.
الفصل الثاني: أثرهم في العالم الإسلامي.
ومن ثم الخاتمة؛ وفيها عرض لأهم النتائج التي توصل إليها البحث.
وفي ختام هذه المقدمة أدعو الله العلي القدير أن يغفر لشيخي وأستاذي الدكتور/ محمد رشاد سالم (1) ، وأن ينزل عليه الرحمة والرضوان، ويتغمده بواسع عفوه وغفرانه، ويسكنه فسيح جناته، فقد تابع الرسالة منذ مراحلها الأولى إلى
__________
(1) هو العالم الفاضل الأستاذ الدكتور محمد رشاد بن محمد رفيق سالم، ولد في القاهرة عام 1347هـوحصل على شهادة الدكتوراه عام 1379هـفي موضوع "موافقة العقل للشرع عند ابن تيمية"، وقد اهتم بنشر تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ودراسة آرائه، وتبنى إخراج مكتبته العظيمة، وقد حقق منها كتاب "درء تعارض العقل والنقل" في أحد عشر مجلداً، وكتاب "منهاج السنة النبوية" في ثمان مجلدات، وكتاب "الصفدية" في مجلدين، و «الإستقامة» في مجلدين، وغيرها، وتوفي - رحمه الله - وهو يعمل في تحقيق كتاب "نقض التأسيس"، في القاهرة في شهر ربيع الآخر عام 1407هـ(1/26)
أن وصلت إلى مشارف النهاية، وأذن لي ببدء طبعها، ثم رحل عن هذه الدنيا - رحمه الله رحمة واسعة - وقد أفدت من توجيهه وعلمه، وغمرني بفضله وخلقه.
وقد قضى - رحمه الله - حياته في العلم والجهاد، وابتلي بالسجن مرتين، وترك آثاراً عظيمة النفع، وكان رحمه الله يؤمل أن يقيم مع تلامذته في القسم ما يسميه "مكتبة أهل السنة" وتتولى التعاون في إخراج كتب التراث في العقيدة، والتأليف في اعتقاد أهل السنة، والرد على الفرق الخارجة عن الجماعة.
وأسأل الله سبحانه أن يجزيه على نيته وعمله خير الجزاء، وأن يحقق آماله في تلامذته ليواصلوا الطريق بعده.
وأتوجه بالشكر والتقدير والعرفان بالجميل إلى شيخي الأستاذ الدكتور/ سالم بن عبد الله الدخيل، الذي وافق على استكمال الإشراف على الرسالة، وراجع مرحلها، وتابع خطواتها الأخيرة، واطمأن على سيرها.
وكانت توجيهاته وآراؤه خير رافد ومعين.
وأتقدم بأزكى الشكر وأطيبه لكلية أصول الدين ممثلة في عميدها ومجلسها، ولقسم العقيدة رئيساً وأعضاءً لرعايتهم للبحث، ومتابعة خطواته فجزاهم الله خير الجزاء.
وأدعو الله سبحانه أن يجزي بالخير كل من قدّم لي مساعدة في هذه الرسالة.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله أولاً وأخرًا.(1/27)
تمهيد:
ويشتمل على:
1- التعريف اللغوي للفظ الشيعة.
2- لفظ الشيعة في القرآن ومعناه.
3- لفظ الشيعة في السنة ومعناه.
4- لفظ الشيعة ومعناه في كتب الحديث عند الاثني عشرية.
5- لفظ الشيعة في التاريخ.
6- تعريف الشيعة في كتب الاثني عشرية.
7- تعريف الشيعة في كتب الإسماعيلية.
8- تعريف الشيعة في المصادر الأخرى.
9- التعريف المختار للشيعة.
10- نشأة الشيعة.
11- فرق الشيعة.
12- ألقاب الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
13- فرق الاثني عشرية.(1/29)
تعريف الشيعة
التعريف اللغوي:
يقول ابن دريد (المتوفى سنة 321هـ) : "فلان من شيعة فلان أي: ممن يرى رأيه، وشيعت الرجل على الأمر تشييعاً إذا أعنته عليه، وشايعت الرجل على الأمر مشايعة وشياعاً إذا مالأته عليه" (1) .
وقال الأزهري (المتوفى سنة 370هـ) : "والشيعة أنصار الرجل وأتباعه وكل قوم اجتمعوا على أمرهم شيعة. والجماعة شيع وأشياع، والشيعة: قوم يهوون هوى عترة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويوالونهم.
وشيّعت النار تشييعاً إذا لقيت عليها ما تذكيها به، ويقال: شيعت فلاناً أي: خرجت معه لأودعه، ويقال: شيعنا شهر رمضان بست من شوال أي: أتبعناه بها.. وتقول العرب: آتيك غداً، أو شَيعَهُ أي: اليوم الذي يتبعه، والشيعة التي يتبع بعضهم بعضاً، والشيع الفرق الذي يتبع بعضهم بعضاً وليس كلهم متفقين" (2) .
وقال الجوهري (المتوفى سنة 40هـ) : "تشيّع الرجل أي: ادعى دعوى الشيعة، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شِيَع قال ذو الرُّمة: استحدث الركب عن أشياعهم خبراً (3) .
يعني عن أصحابهم" (4) .
__________
(1) ابن دريد/ جمهرة اللغة: 3/63
(2) الأزهري/ تهذيب اللغة: 3/61
(3) ديوان ذي الرمة ص: 4
(4) الصحاح: 3/1240، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار(1/30)
وقال ابن منظور (المتوفى سنة 711هـ) : "والشيعة أتباع الرجل وأنصاره، وجمعها شِيَعٌ، وأشياع جمع الجمع، وأصل الشيعة: الفرقة من الناس، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكور والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته، حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل: فلان من الشيعة عرف أنه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي: عندهم، وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة.
والشيعة: قوم يرون رأي غيرهم، وتشايع القوم صاروا شيعاً، وشيّع الرجل إذا ادعى دعوى الشّيعة، وشايعه شياعاً وشيّعه تابعه، ويقال: فلان يشايعه على ذلك أي: يقويه" (1) .
وقال الزبيدي (المتوفى سنة 1205هـ) : "كل من عاون إنساناً وتحزب له فهو له شيعة، وأصل الشيعة من المشايعة وهي المتابعة، وقيل: عين الشيعة واو من شوع قومه إذا جمعهم. وقد غلب هذا الاسم (الشيعة) على كل من يتولى علياً وأهل بيته.. وهم أمة لا يحصون، مبتدعة، وغلاتهم الإمامية المنتظرية يسبون الشيخين، وغلاة غلاتهم يكفرون الشيخين، ومنهم من يرتقي إلى الزندقة" (2) .
فالشيعة، والتشيع، والمشايعة في اللغة تدور حول معنى المتابعة، والمناصرة، والموافقة بالرأي، والاجتماع على الأمر، أو الممالأة عليه. ثم غلب هذا الاسم - كما يقوله صاحب اللسان، والقاموس، وتاج العروس - على كل من يتولى علياً وأهل بيته. وهذه الغلبة.. محل نظر؛ لأنه إذا تأمل الباحث في المعنى اللغوي للشيعة والذي يدل على المتابعة، والمناصرة، ثم نظر إلى أكثر فرق الشيعة التي غلب إطلاق هذا الاسم عليها يجد أنه لا يصح تسميتها بالشيعة من الناحية اللغوية؛ لأنها غير متابعة لأهل البيت على الحقيقة بل هي مخالفة لهم ومجافية لطريقتهم..
ولعل هذا ما لاحظه
__________
(1) لسان العرب: مادة: شيع
(2) تاج العروس: 5/405، وانظر من كتب اللغة (مادة شاع) : القاموس: 3/47، البستاني/ قطر المحيط: 1/1100، وانظر: الطريحي/ مجمع البحرين: 4/355(1/31)
شريك بن عبد الله حينما سأله سائل: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي! فقال له: نعم من لم يقل هذا فليس شيعياً، الله لقد رقي هذه الأعواد علي، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، فكيف نرد قوله، وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً (1) .
فالإمام شريك لاحظ أن غير المتابع لعلي لا يستحق اسم التشيع، لأن معنى التشيع وحقيقته المتابعة.. ولهذا آثر بعض الأئمة أن يطلق عليهم اسم الرافضة (2) .
وقد لجأ المتابعون لأهل البيت على الحقيقة، والذين كانوا يلقبون بالشيعة، لجأوا إلى ترك هذا اللقب لما غلب إطلاقه على أهل البدع المخالفين لأهل البيت، كما يشير صاحب التحفة الاثني عشرية إلى ذلك فيقول: إن الشيعة الأولى تركوا اسم الشيعة لما صار لقباً للروافض والإسماعيلية، ولقبوا أنفسهم بـ "أهل السنة والجماعة" (3) .
لفظ الشيعة في القرآن ومعناه:
ومادة شيع وردت في كتاب الله العظيم في اثني عشر موضعاً (4) ، وقد أجمل ابن الجوزي (5) . معانيها بقوله: "وذكر أهل التفسير أن الشيع في القرآن على أربعة أوجه:
__________
(1) منهاج السنة: 1/7-8 تحقيق د. محمد رشاد السالم، وانظر: عبد الجبار الهمداني/ تثبيت دلائل النبوة: 1/63. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد روي عن علي من نحو ثمانين وجهاً أنه قال على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، ورواه البخاري وغيره. انظر: منهاج السنة: 4/137، وقد جاء ذلك في كتب الشيعة أيضاً. انظر: تلخيص الشافي: 2/428 عن إحسان إلهي ظهير: الشيعة أهل البيت ص: 52
(2) انظر - مثلاً - الملطي/ التنبيه والرد: ص18، البغدادي/ الفرق بين الفرق ص: 21، الإسفراييني/ التبصير في الدين ص 16، السكسكي/ البرهان ص 36، وانظر الفرماني/ رسالة في بيان مذاهب بعض الفرق الضالة: الورقة 2 أ (مخطوط) ، أبو الحسن العراقي/ ذكر الفرق الضوال: الورقة 12 أ (مخطوط)
(3) التحفة الاثنا عشرية: ص 25-26 (مخطوط)
(4) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ص 18
(5) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي التيمي البغدادي، المعروف بابن الجوزي، =(1/32)
أحدها: الفرق، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} (1) . وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ} (2) . وقوله: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} (3) . وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (4) .
والثاني: الأهل والنسب، ومنه قوله تعالى: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (5) . أراد من أهله في النسب إلى بني إسرائيل.
والثالث: أهل الملة، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} (6) ، وقوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} (7) ، وقوله: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} (8) . وقوله: {إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} (9) .
والرابع: الأهواء المختلفة، قال تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} (10) ." (11) .
__________
= صاحب التصانيف الكثيرة في التفسير والحديث والفقه وغيرها، منها: جامع المسانيد، والمنتظم وغيرهما، توفي عام 597هـ. انظر: ابن العماد/ شذرات الذهب: 4/329، اليافعي/ مرآة الجنان: 3/489 -492، معجم المؤلفين: 5/157
(1) الأنعام، آية: 159
(2) الحجر، آية: 1
(3) القصص، آية: 4، قال ابن جرير الطبري {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} يعني بالشيع: الفرق، تفسير الطبري: 20/27، وانظر أبو عبيدة/ مجاز القرآن: 1/194
(4) الروم، آية: 69
(5) القصص، آية: 15، قال ابن قتيبة: ومعنى {هَذَا مِن شِيعَتِهِ} أي: من أصحابه بني إسرائيل (تفسير غريب القرآن ص329) ، وانظر: أبو حيان/ تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب ص: 153
(6) مريم، آية: 69
(7) القمر، آية: 51
(8) سبأ، آية: 54
(9) الصافات، آية: 83
(10) الأنعام، آية: 65
(11) ابن الجوزي/ نزهة الأعين النواظر: 376-377، وزاد الدامغاني وجهاً خامساً وهو: الشيع والإشاعة، واستشهد لهذا بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} يعني أن تفشو الفاحشة، كما أن ابن الجوزي ذكر في الوجه الثاني أن من معاني الشيع الأهل والنسب، واستشهد لها بقوله سبحانه: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ، بينما نجد الدامغاني ذكر أن من معاني الشيعة: الجيش، واستدل لذلك بنفس الآية. وقد اتفقا فيما سوى ذلك من معاني التشيع. (انظر: الدامغاني / قاموس القرآن ص 271، تحقيق عبد العزيز الأهل)(1/33)
ويشير ابن القيم (1) - رحمه الله - في نص مهم له إلى أن لفظ الشيعة والأشياع غالباً ما يستعمل في الذم، ويقول: ولعله لم يرد في القرآن إلا كذلك، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} ، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} ، وقوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ} . ويعلل ابن القيم لذلك بقوله: "وذلك والله أعلم لما في لفظ الشيعة من الشياع، والإشاعة التي هي ضد الائتلاف والاجتماع، ولهذا لا يطلق لفظ الشيع إلا على فرق الضلال لتفرقهم واختلافهم" (2) .
هذه ألفاظ الشيعة في كتاب الله ومعانيها، وهي لا تدل على الاتجاه الشيعي المعروف، وهذا أمر يدرك بداهة، ولكن الغريب في الأمر أن نجد عند الشيعة اتجاهاً يحاول ما وسعته المحاولة أو الحيلة أن يفسر بعض ألفاظ الشيعة الواردة في كتاب الله بطائفته، ويؤول كتاب الله على غير تأويله، ويحمل الآيات ما لا تحتمل تحريفاً لكتاب الله وإلحاداً فيه، فقد جاء في أحاديثهم في تفسير قوله سبحانه: {إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} (3) . قالوا: أي إن إبراهيم من شيعة علي (4) ، وهذا مخالف لسياق القرآن، وأصول الإسلام، وهو نابع عن عقيدة غلاة الروافض الذين يفضلون الأئمة على الأنبياء (5) ، فهذا التأويل أو التحريف يجعل خليل الرحمن أفضل الرسل
__________
(1) محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، توفي سنة 751هـ، وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير، منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد
(2) بدائع الفوائد: 1/155. وهذا في الغالب لأنه ورد في القرآن: {إِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ}
(3) الصافات، آية: 83
(4) البحراني/ تفسير البرهان: 4/20، وانظر: تفسير القمي: 2/323، المجلسي/ بحار الأنوار: 68/12-13، عباس القمي/ سفينة البحار: 1/732، البحراني/ المعالم الزلفى ص: 304، الطريحي/ مجمع البحرين: 2/356، وقد نسبوا هذا التفسير - كذباً وافتراءً - إلى جعفر الصادق، ودينه وعلمه ينفيان ذلك
(5) انظر: البغدادي/ أصول الدين ص: 298، القاضي عياض/ الشفاء ص: 290، ابن تيمية/ منهاج السنة: 1/177(1/34)
والأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم، يجعله من شيعة علي.... وهو أمر يعرف بطلانه من الإسلام بالضرورة، كما هو باطل بالعقل، والتاريخ.. وهو من وَضع وضَّاع لا يحسن الوضع.. ولا يعرف كيف يضع.
والذي قاله أهل السنة في تفسير الآية والمنقول عن السلف أن إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام وعلى منهاجه وسنته (1) . وهذا التفسير هو الذي يتمشى مع سياق الآية (2) ، لأن الآيات التي قبل هذه الآية كانت في نوح عليه السلام، ويلاحظ أن مفسري الشيعة من أخذ بقول أهل السنة، وأعرض عما قاله قومه في تأويل الآية (3) .
لفظ الشيعة في السنة ومعناه:
ورد لفظ الشيعة في السنة المطهرة بمعنى الأتباع.. كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في الرجل (4) . الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "لم أرك عدلت.." قال فيه عليه الصلاة والسلام: "سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه".. الحديث (5) ، وكذلك في الحديث الذي أخرجه أبو داود في
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 23/69، تفسير ابن كثير: 4/13، تفسير القرطبي: 15/91، ابن الجوزي/ زاد المسير: 7/67
(2) وهناك قول ضعيف في الآية نسب إلى الفراء بأن المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم. قال الشوكاني: ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق (فتح القدير: 4/401) وقال الألوسي: "وذهب الفراء إلى أن ضمير (شيعته) لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والظاهر ما أشرنا إليه (وهو أن يعود على نوح عليه السلام) وهو المروي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وقلما يقال للمتقدم: هو شيعة للمتأخر (روح المعاني: 23/ 99-100) .
(3) الطبرسي / مجمع البيان: 5/67
(4) هو: ذو الخويصرة التميمي.. أصل الخوارج. (انظر: مسند أحمد: 12/4)
(5) مسند أحمد: 12/3-5 قال عبد الله بن الإمام أحمد: ولهذا الحديث طرق في هذا المعنى صحاح. وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح (المصدر السابق) ، ورواه ابن أبي عاصم في السنة: 2/454، قال الألباني: إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات(1/35)
المكذبين بالقدر.. وفيه: "وهم شيعة الدجال" (1) .
فالشيعة هنا مرادفة للفظ الأصحاب، والأتباع، والأنصار.
ومن خلال مراجعتي لمعاجم السنة لم أر استعمال لفظ الشيعة على الفرقة المعروفة بهذا الاسم إلا ما جاء في بعض الأخبار الضعيفة أو الموضوعة والتي جاء فيها لفظ الشيعة كدلالة على أتباع علي، مثل حديث: "فاستغفرت لعلي وشيعته" (2) ، وحديث: "مثلي مثل شجرة أنا أصلها وعلي فرعها.. والشيعة ورقها" (3) ، وحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت وشيعتك في الجنة" (4) .
وقد ورد في بعض الأخبار أنه سيظهر قوم يدعون الشيعة لعلي يقال لهم الرافضة (5) ، فقد روى الإمام ابن أبي عاصم أربع روايات في ذكر الرافضة (6) ، وقال الشيخ الألباني في تحقيقه لأسانيدها بأنها ضعيفة (7) .
وقد أخرج الطبراني - بإسناد حسن كما يقول الهيثمي - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت، لهم نبز، يسمون الرافضة، قاتلوهم فإنهم مشركون" (8) .
__________
(1) سنن أبي داود 5/67، فال المنذري: وفي إسناده عمر مولى غفرة لا يحتج بحديثه، ورجل من الأنصار مجهول (المنذري) مختصر أبي داود 6/61، ورواه أيضاً الإمام أحمد 5/407
(2) قال العقيلي: لا أصل له، وذكره الكناني من الأحاديث الموضوعة: (تنزيه الشريعة: 1/414)
(3) أورده ابن الجوزي في الموضوعات: 1/397، والشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص: 379
(4) وهو حديث موضوع، انظر: ابن الجوزي/ الموضوعات: 1/397، الذهبي/ ميزان الاعتدال: 1/421، ترجمة جميع بن عمر بن سوار، الشوكاني/ الفوائد المجموعة ص: 379
(5) سيأتي بيان معنى الرافضة
(6) مثل حديث: "بشر يا عليّ أنت وأصحابك في الجنة، ألا إن ممن يزعم أنه يحبك قوم يرفضون الإسلام يقال لهم: الرافضة، فإذا لقيتهم فجاهدهم فإنهم مشركون. قلت: يا رسول الله، ما العلامة فيهم؟ قال: لا يشهدون الجمعة، ولا جماعة ويطعنون على السلف" (السنة لابن أبي عاصم: 2/475) وهذا الحديث قد أورده الشوكاني في "لأحاديث الضعيفة"ص: 380-381
(7) انظر: السنة لابن أبي عاصم: 2/474-4766
(8) مجموع الزوائد: 10/22، وانظر الحديث في المعجم الكبير للطبراني: 12/242، رقم (12998) ولكن في اسناده الحجاج بن تميم وهو ضعيف (انظر: تقريب التهذيب:1/152)(1/36)
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تييمة إلى كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة، لأن اسم الرافضة لم يعرف إلا في القرن الثاني (1) ، وفي ظني أن هذا لا يكفي في الحكم بكذب الأحاديث، إذ لو صحت أسانيدها لكانت من باب الإخبار بما سيقع، وأن الله أخبر نبيه بما سيكون من ظهور الروافض، كما أوحى الله إليه بشأن ظهور فرقة الخوارج (2) ، وإن كانت بذرة الخوارج وجدت في حياته - عليه الصلاة والسلام - (3) .
لفظ الشيعة ومعناه في كتب الحديث الاثني عشرية:
وفي كتب الحديث عند الشيعة يتكرر في كثير من رواياتهم وأحاديثهم التي ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الإمام على والحسن والحسين وبقية أئمتهم الاثني عشر (4) . يتكرر لفظ الشيعة كمصطلح يدل على فرقتهم، وعقيدتهم، وأئمتهم، ذلك أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي غرس بذرة التشيع وتعهدها بالسقي حتى نمت وأينعت (5) . بل وصل بهم الأمر في هذا إلى وضع روايات تدل على أن لفظ الشيعة - كمصطلح لطائفتهم - معروف قبل زمن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في أحاديثهم تفسير قوله سبحانه: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ} أي: إن إبراهيم من شيعة علي (6) ، بل بلغ بهم الزعم إلى القول: "إن الله
__________
(1) منهاج السنة: 1/8
(2) ففي الصحيحين عشرة أحاديث فيهم، أخرج البخاري منها ثلاثة، وأخرج مسلم سائرها، وساقها جميعاً ابن القيم في تهذيب السنن: 7/148-153
(3) كما دلت على ذلك بعض الأحاديث في قصة الرجل الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوزع بعض الغنائم: اعدل يا محمد.. انظر الحديث في ذلك في صحيح البخاري (مع فتح الباري) ج12 ص290، وصحيح مسلم (بشرح النووي) جص 165
(4) لأن مفهوم السنة عندهم هي ما قاله الرسول والأئمة الاثنا عشرية - كما سيأتي -
(5) ففي أصول الكافي في مسألة النص على الأئمة من الله ورسوله والأئمة - كما يزعمون - ذكر ثلاثة عشر باباً ضمنها مائة وعشرة أحاديث. (أصول الكافي: 1/286-328)
(6) مضى تخرجيه من كتبهم في هامش رقم (2) ص41(1/37)
أخذ ميثاق النبيين على ولاية علي، وأخذ عهد النبيين على ولاية علي" (1) . وأن "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء" (2) . إلى آخر هذه الدعاوى وسيأتي بسط ذلك في نشأة التشيع.
لفظ الشيعة في التاريخ الإسلامي:
في الأحداث التاريخية في صدر الإسلام وردت لفظ الشيعة بمعناها اللغوي الصرف، وهو المناصرة والمتابعة، بل إننا نجد في وثيقة التحكيم بين الخليفة علي، ومعاوية - رضي الله عنهما - ورود لفظ الشيعة بهذا المعنى، حيث أطلق على أتباع علي شيعة، كما أطلق على أتباع معاوية شيعة، ولم يختص لفظ الشيعة بأتباع عليّ.
ومما جاء في صحيفة التحكيم: "هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وشيعتهما.. (ومنها) : وأن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس، ورضي معاوية وشيعته بعمرو بن العاص.. (ومنها) : فإذا توفي أحد الحكمين فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه. (ومنها) : وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية فلشيعته أن يختاروا مكانه رجلاً يرضون عدله" (3) .
وقال حكيم بن أفلح - رضي الله عنه -: "لأني نهيتها - يعني عائشة - أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً" (4) . وقد أورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا النص، ليأخذ منه دلالة تاريخية على عدم اختصاص عليّ باسم الشيعة في ذلك الوقت (5) .
__________
(1) البحراني/ تفسير البرهان: 1/26
(2) أصول الكافي: 1/437
(3) الدينوري/ الأخبار الطوال ص: 194-196، وانظر: تاريخ الطبري: 5/53 - 54، محمد حميد الله/ مجموعة الوثائق السياسية ص: 281-282
(4) هذا جزء من حديث طويل في صحيح مسلم في باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض: 2/168-170
(5) انظر: منهاج السنة: 2/67 (تحقيق د. محمد رشاد سالم)(1/38)
وجاء في التاريخ أن معاوية قال لبسر بن أرطأة حين وجهه إلى اليمن:
"امض حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة" (1) .؛ فإذن لم يظهر مصطلح الشيعة دلالة على أتباع عليّ فحسب حتى ذلك الوقت.
ويبدو أن بدء التجمع الفعلي لمن يدعون التشيع، وابتداء التميز بهذا الاسم بدأ بعد مقتل الحسين. يقول المسعودي: وفي سنة خمس وستين تحركت الشيعة في الكوفة (2) . وتكونت حركة التوابين، ثم حركة المحتار (الكيسانية) وبدأت الشيعة تتكون وتضع أصول مذهبها.. وأخذت تتميز بهذا الاسم.
من هنا يتضح أن اسم الشيعة كان لقباً يطلق على أية مجموعة تلتف حول قائدها، وإن كان بعض الشيعة يحاول أن يتجاهل الحقائق التاريخية ويدعي بأن الشيعة "هم أول من سموا باسم التشيع من هذه الأمة" (3) ، ويتناسى بأن معاوية أطلق أيضاً على أتباعه كلمة الشيعة، ولكن الوقائع التاريخية تقول بأن لقب الشيعة لم يختص إطلاقه على أتباع عليّ إلا بعد مقتل عليّ - رضي الله عنه - كما يرى البعض (4) ، أو بعد مقتل الحسين كما يرى آخرون (5) .
__________
(1) تاريخ اليعقوبي: 2/197
(2) مروج الذهب: 3/100
(3) القمي/ المقالات والفرق ص: 15، النوبختي/ فرق الشيعة ص: 18
(4) محمد أبو زهرة/ الميراث عند الجعفرية ص: 22
(5) علي سامي النشار/ نشأة الفكر الفلسفي: 2/35(1/39)
تعريف الشيعة اصطلاحاً
أ- تعريف الشيعة في كتب الإمامية الاثني عشرية:
1- يعرف شيخ الشيعة القمي (1) . (المتوفى سنة 301هـ) الشيعة بقوله: هم شيعة علي بن أبي طالب (2) . وفي موضع آخر يقول: "الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته" (3) .
ويوافقه على هذا التعريف شيخهم "النوبختي" (4) . حتى في الألفاظ نفسها (5) .
مناقشة التعريف الأول:
هذا هو تعريف الشيعة في أهم كتب الشيعة وأقدمها الخاصة بالفرق. وهذا التعريف لا يشير إلى أي أصل من أصول التشيع عندا الاثني عشرية، والتي تعتبر
__________
(1) سعد بن عبد الله القمي، هو عند الشيعة جليل القدر، واسع الأخبار، كثير التصنيف، ثقة. من كتبه: الضياء في الإمامة، ومقالات الإمامية، توفي سنة (301هـ) وقيل: (299هـ) .
انظر: الطوسي/ الفهرست ص: 105، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/355
(2) المقالات والفرق ص: 3
(3) المصدر السابق ص: 15
(4) الحسن بن موسى النوبختي: أبو محمد، متكلم، فيلسوف، قال الطوسي: كان إمامياً حسن الاعتقاد، له مصنفات كثيرة منها: كتاب الآراء والديانات. توفي بعد الثلاثمائة) .
انظر في ترجمته: الطوسي/ الفهرست ص: 75، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/228، ابن النديم/ الفهرست ص177، القمي/ الكنى والألقاب: 1/148، معجم المؤلفين: 3/298، الذهبي/ سير أعلام النبلاء: 15/327
(5) فرق الشيعة: ص 2، 17(1/40)
في نظرهم لب التشيع وأساسه؛ كمسألة النص على علي وولده وغيرها (باستثناء ذكره في الأخيرة لإمامة علي فقط بدون ذكر النص أو بقية الأئمة) .
- والتعريف الذي يغفل أصول التشيع التي أحدثها الشيعة فيما بعد هو من التعاريف السليمة لشيعة علي - رضي الله عنه - أو للشيعة الحقيقيين، وهو يخرج مدعي التشيع من حظيرة التشيع، لأنهم أحدثوا أصولاً لم يقلها أئمة أهل البيت، لكنه حسب مقاييس الاثني عشرية لا يعتبر تعريفاً للشيعة مع أن القمي والنوبختي من الشيعة الاثني عشرية.
- وهذا التعريف يدعي وجود "شيعة علي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم" (1) . ولا سند لهذه الدعوى من الكتاب والسنة، ووقائع التاريخ صادقة، والله سبحانه يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} (2) . لا التشيع ولا غيره، والصحابة كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم عصبة واحدة، وجماعة واحدة، وشيعة واحدة تشيعهم وولاؤهم لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
2- التعريف الثاني:
يقول شيخ الشيعة وعالمها في زمنه المفيد (3) ، بأن لفظ الشيعة يطلق على".. أتباع أمير المؤمنين صلوات الله عليه، على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد
__________
(1) ويسميهم فيقول: "منهم المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمار بن ياسر، ومن وافق مودته مودة علي، وهم أول من سمي باسم التشيع من هذه الأمة" المقالات والفرق ص: 15، فرق الشيعة ص: 18
(2) آل عمران، آية: 19
(3) محمد بن محمد النعمان الكعبري الملقب بالمفيد، نال في زعمهم شرف مكاتبة مهديهم المنتظر، وله قريب من مائتي مصنف. قال الخطيب البغدادي: كان أحد أئمة الضلال. هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه. ومات سنة (413هـ) . انظر في ترجمته: الطوسي/ الفهرست ص: 190، ابن النديم/ الفهرست، ص: 197، القمي/ الكنى والألقاب: 3/164، البحراني/ لؤلؤة البحرين ص: 356، وانظر: الخطيب البغدادي/ تاريخ بغداد: 3/231، ابن الجوزي/ المنتظم: 8/118(1/41)
الرسول صلوات الله عليه وآله بلا فصل، ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة، وجعله في الاعتقاد متبوعاً لهم غير تابع لأحد منهم على وجه الاقتداء" (1) . ثم ذكر أنه يدخل في هذا التعريف الإمامية والجارودية الزيدية، أما باقي فرق الزيدية فليسوا من الشيعة، ولا تشملهم سمة التشيع (2) .
مناقشة التعريف الثاني:
1- لا نجد في تعريف المفيد هذا ذكراً للإيمان بإمامة ولد علي، مع أن من لم يؤمن بهذا فليس من الشيعة عندهم، كما أن هذا التعريف أغفل التصريح ببعض الجوانب الأساسية في التشيع والتي يربط الشيعة وصف التشيع بها كمسألة النص، والعصمة وغيرها من أصول الإمامية.
2- يلاحظ أنه نص في تعريفه على: إخراج الفرق المعتدلة من الزيدية ولا يصدق وصف التشيع في نظره إلا على غلاة الزيدية وهم الجارودية (3) ، وليس ذلك فحسب، بل إنه فتح المجال في تعريفه لدخول الفرق الغالية كلها.
3- أما قوله في التعريف: "وجعله في الاعتقاد متبوعاً لهم غير تابع لأحد منهم
__________
(1) أوائل المقالات ص: 39
(2) أوائل المقالات ص: 39
(3) الجارودية: فرقة من فرق الزيدية وتنسب إلى أبي الجارود زياد بن المنذر الهمداني الأعمى الكوفي. قال عنه أبو حاتم: كان رافضياً، يضع الحديث في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، ومن مقالة الجارودية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على علي - رضي الله عنه - بالإشارة والوصف دون التسمية والتعيين، وأن الأمة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غيره.
انظر في أبي الجارود والجارودية: رجال الكشي ص: 151، 229، 230 (وهي ست روايات في ذمه تضمن بعضها كونه كذاباً كافراً، ومع ذلك فمفيدهم ينظمه في سلك التشيع، لأن التشيع في تعريفه هو هذا الغلو..) وانظر: الطوسي/ الفهرست ص: 192، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/339، القمي/ الكنى والألقاب: 1/30، وانظر: ابن حجر/ تهذيب التهذيب: 3/386. وراجع: القمي/ المقالات والفرق ص: 18، النوبختي/ فرق الشيعة ص: 21، نشوان/ الحور العين ص: 156، المقريزي/ الخطط: 2/352، الشهرستاني/ الملل والنحل: 1/159، الملطي/ التنبيه والرد ص: 23، أحمد بن المرتضى/ المنية والأمل ص 20، 90، البغدادي/ الفرق بين الفرق ص: 30، الرازي/ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص: 247، الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/140 ...(1/42)
على وجه الاقتداء" فهذا إشارة إلى أصل من أصول الاعتقاد عندهم وهو التقية، فعلي عند الشيعة في الظاهر تابع للخلفاء الثلاثة وفي الباطن متبوع لهم، فاتباعه للخلفاء - في نظر المفيد وشعيته - ليس على وجه الاقتداء وإنما على وجه التقية، وليس على وجه الاعتقاد وإنما على وجه الموافقة في الظاهر فقط.
4- أما قوله: " (1) وهو كتاب الإرشاد أحد المصادر المعتمدة عند الاثني عشرية "اعتمد عليه علماء الإمامية المتقدمين والمتأخرين، واعتبروه من أهم المصادر في موضوعه وأعاروه عناية فائقة وأهمية كبرى (2) . له؛ حيث قال: "وكانت إمامة أمير المؤمنين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة سنة منها أربع وعشرون سنة وستة أشهر ممنوعاً من التصرف في أحكامها مستعملاً للتقية والمداراة، ومنها خمس سنين وستة أشهر ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين (3) ، ومضطهداً بفتن الضالين، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة - كذا - سنة من نبوته ممنوعاً من أحكامها خائفاً ومحبوساً هارباً ومطروداً لا يتمكن من جهاد الكافرين ولا يستطيع دفعاً عن المؤمنين، ثم هاجر وأقام بعد الهجرة عشرة سنين مجاهداً للمشركين ممتحناً بالمنافقين إلى أن قبضه الله جل اسمه إليه، وأسكنه جنات النعيم" (4) .
فوصف التشيع لا يصدق - في نظر المفيد - إلا على من اعتقد
__________
(1) بالاعتقاد بإمامة علي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بلا فصل" فهذا مبني على إنكار الشيعة لصحة خلافة الخلفاء الثلاثة، وقد شرح مفيدهم هذه الجملة، وفصل القول فيها في كتاب آخر
(2) " مقدمة الإرشاد ص: 7، وانظر في توثيقه عندهم: بحار الأنوار 1/27
(3) ورد في "معاني الأخبار" لشيخهم ابن بابويه القمي: أن المراد بالناكثين: الذين بايعوا بالمدينة ونكثوا بيعته بالبصرة، والقاسطين: معاوية وأصحابه من أهل الشام، والمارقين: أصحاب النهروان. معاني الأخبار ص: 204
(4) الإرشاد ص: 12(1/43)
خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ممتدة من حين التحاق الرسول بالرفيق الأعلى إلى أن توفي علي (1) ، ولا صحة لخلاف الخلفاء الثلاثة، فلا يصدق - حسب تعريفه- وصف التشيع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ثلاثة من الصحابة، وباقي الصاحبة هم - في نظر الشيعة - كفار كالمشركين الذين عاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، والحكومة كافرة، وعلي يعيش بينهم متستراً بالتقية والنفاق (2) ، فأي إساءة إلى علي - رضي الله عنه - وإلى صحابة رسول الله - رضوان الله عليهم وإلى الإسلام أبلغ من هذا؟!.
3- التعريف الثالث للشيعة:
وإذا كان المفيد لا ينص في تعريفه للتشيع على مسألة النص والوصية، فإننا نرى في شيخهم الطوس (3) . يربط وصف التشيع بالاعتقاد بكون علي إماماً للمسلمين بوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم وبإرادة من الله (4) .
فالطوسي هنا يجعل الاعتقاد بالنص هو أساس التشيع، ولهذا يخرج الطوسي السليمانية (5) . الزيدية من فرق الشيعة؛ لأنهم
__________
(1) ونجد شيخهم عبد الله شبر يؤكد في تعريفه للشيعة على هذا المعنى فيقول: "اعلم أن لفظ الشيعة يطلق على من قال بخلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل" (حق اليقين: 1/195)
(2) وسيأتي - إن شاء الله - ذكر شواهد ذلك في مبحث حكم منكر إمامة الاثني عشر
(3) أبو جعفر محمد بن الحسين بن علي الطوسي هو عندهم شيخ الإمامية ورئيس الطائفة، وهو مؤلف كتابين من كتبهم الأربعة (التي هي كالكتب الستة عند أهل السنة) وهما: تهذيب الأحكام والاستبصار، توفي سنة (460هـ) وكانت ولادته سنة (385هـ) .
راجع ترجمته لنفسه في الفهرست ص: 88-190، البحراني/ لؤلؤة البحرين ص: 293-304، القمي/ الكنى والألقاب: 2/357، وانظر: لسان الميزان لابن حجر: 5/135
(4) تلخيص الشافي: 2/56
(5) السليمانية: فرقة من فرق الزيدية تُنسب إلى سليمان بن جرير الزيدي، وهي تسمى بالسليمانية عند كثير من أصحاب الفرق (انظر: مقالات الإسلاميين: 1/143، اعتقادات فرق المسلمين ص: 78، الملل والنحل: 1/159، التبصير في الدين ص 17) . =(1/44)
لا يقولون بالنص بل يقولون: إن الإمامة شورى، وإنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وإنها قد تصلح في المفضول.. ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر (1) ، ولم يخرجوهم من دائرة التشيع فحسب، بل اعتبروهم "نواصب" (2) . ولم يكتفوا بذلك، فقد جاء في رجال الكشي أن الزيدية شر من النواصب (3) ، ويجري هذا الحكم من الاثني عشرية على كل فرق الزيدية التي تقول برأي السليمانية كالصالحية والبترية (4) .
ويذهب بعض شيوخهم المعاصرين إلى ما ذهب إليه الطوسي، فيقصر وصف التشيع على من يؤمن بالنص على خلافة علي، فيقول بأن لفظ الشيعة: "علم من يؤمن بأن علياً هو الخليفة بنص النبي" (5) .
ويلاحظ أن مسألة النص هي محل اهتمام الشيعة البالغ في القديم والحديث؛ فنرى - مثلاً - في القديم شيخهم الكليني يعقد في كتابه الكافي ثلاثة عشر باباً في مسألة
__________
= ومن أصحاب الفرق من يسميها بالجريرية (الحور العين ص 156، الخطط/ المقريزي: 2/325) ، وقد نص صاحب الفرق بين الفرق أنها تسمى بـ "السليمانية أو الجريرية". (الفرق بين الفرق ص 32) ، ويسميها صاحب المنية والأمل أحياناً بالسليمانية ص: 90، وأحياناً بالجريرية ص: 90
(1) الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/143
(2) انظر: الطوسي/ التهذيب: 1/364، الحر العاملي/ الوسائل: 4/288.
والنواصب: هم قوم يدينون ببغض عليّ رضي الله عنه (ابن منظور / لسان العرب: 1/762) ولكن الرافضة تذهب في مفهوم النصب مذهبا آخر -كما ترى- حتى تجعل "من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا (مجموع الفتاوى شيخ الإسلام: 5/112) بل من قدم أبا بكر على عليّ فهو ناصبي (انظر: ابن ادريس/السرائر ص 471، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 6/341-342.
(3) انظر: رجال الكشي ص: 459
(4) الصالحية: أصحاب الحسن صالح بن حي.
والبترية: أصحاب كثير النوي الأبتر وقولهما في الإمامة كقول السليمانية واعتبرهما الشهرستاني فرقة واحدة، لأن مقالتهما واحدة، ولم يذكرهم الأشعري إلا البترية، وقال بأن مذهبهم: أنهم ينكرون رجعة الأموات، ولا يرون لعليّ إمامة إلا حين بويع (الأشعري / مقالات الإسلاميين: 1/144، الشهرستاني / الملل والنحل: 1/161) .
(5) محمد جواد مغنية/ الشيعة في الميزان ص: 15(1/45)
النص على الأئمة يضمنها مائة وتسعة أحاديث (1) ، ونرى في الحاضر أحد الروافض يؤلف كتاباً في ستة عشر مجلداً في حديث من أحاديثهم التي يستدلون بها على ثبوت النص على علي وهو حديث "الغدير" (2) . ويسمي كتابه باسم الغدير (3) ، فلا غرابة في أن يربط الشيعة وصف التشيع بقضية النص، لكن اللافت للنظر أن هذا الاهتمام والمبالغة يسري في كل عقائدهم التي هي محل استنكار وتكذيب من جمهور المسلمين، فتراهم في كل عقيدة من هذه العقائد التي هذا شأنها، يجعلونها هي عمود التشيع وأساسه، ويبالغون في إثباتها، ولكن حينما يعرف شيوخهم التشيع لا يذكرون هذه العقائد في التعريف مع أنهم يعلقون الوصف بالتشيع بالإيمان بها، ولا تشيع بدونها؛ كمسألة الرجعة مثلاً، قالوا في أحاديثهم: "ليس منا من لم يؤمن بكرتنا" (4) . ومع ذلك لا ترى لها ذكراً في تعريف التشيع، وكذلك مسألة العصمة، والإيمان بخلاف ولد علي وغيرها، بل تجد هذه المبالغة حتى في مسائل الفقه وقضايا الفروع كمسألة المتعة، قالوا: "ليس منا من لم.. يستحل متعتنا" (5) . فالقوم ليسوا على منهج واضح سليم في ذلك.
4- تعاريف أخرى للشيعة:
وهنالك تعريفات أخرى للشيعة متفرقة في كتب الشيعة القديم منها والحديث لا تخرج عما ذكرنا (6) . وهناك تعريفات أخرى اتجهت اتجاهاً خاصاً
__________
(1) انظر: أصول الكافي: 1/286-328
(2) سيأتي ذكره وتخريجه ومناقشته عند ذكر أدلة الشيعة في مسألة الإمامة
(3) كتاب الغدير لشيخهم المعاصر عبد الحسين الأميني النجفي، وهو مليء بالأكاذيب والطامات والكفر البواح. انظر: مسألة التقريب بين السنة والشيعة للمؤلف ص: 66 وما بعدها
(4) ابن بابويه/ من لا يحضره الفقيه: 3/291، الحر العاملي/ وسائل الشيعة 7/438، تفسير الصافي 1/347، المجلس/ بحار الأنوار: 53/92
(5) المصادر السابقة (نفس الصفحات)
(6) فمن هذا التعاريف ما يربط التشيع باتباع علي وتقديمه على غيره في الإمامة (انظر: شرح اللمعة: 2/228) . ومنها ما يزيد على ذلك بوجوب الاعتقاد أنه الإمام بوصية من رسول الله وبإرادة من الله تعالى نصاً، كما يرى الإمامية، ووصفاً كما يرى الجارودية (موسوعة العتبات المقدسة المدخل ص: 91، عن هوية التشيع ص: 12)(1/46)
- في التعريف - لا يشير إلى أصولهم في التشيع المعروفة؛ فهذا شيخهم النجاشي (1) . يعرف بالشيعة بقوله:
"الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله أخذوا بقول علي، وإذا اختلف الناس عن علي أخذوا بقول جعفر بن محمد" (2) .
وإذا اختلف النقل عن جعفر بن محمد بماذا يأخذون؟
لا نجد في التعريف جواباً على ذلك.. إلا إن كان هذا التعريف يشير في توقفه عند جعفر بن محمد إلى أن النقل عنه لا يختلف، وهذا خلاف الواقع وخلاف المأثور عن جعفر بن محمد حتى في كتب الشيعة نفسها.. أم إن هذا النص موضوع في حياة جعفر بن محمد فتوقف عنده ونقله النجاشي، وأيا كان فهو لا يشير إلى الأئمة الذين هم قبل جعفر، كما لا يشير إلى الأئمة بعده..
ثم إن في هذا التعرف خروجاً عن منهج الإسلام، فهو يقول بأن الناس إذا اختلفوا في النقل عن رسول الله لا يؤخذ بمقاييس الترجيح المعروفة في اختيار النقل الصحيح.. بل يؤخذ بقول علي. وإذا اختلف النقل عن علي يؤخذ بقول جعفر هكذا يقولون، ثم لماذا لا يختلف القول عن جعفر، ويختلف القول عن الله وعلي؟.. وهل جعفر أفضل منهما؟!
وثمة تعريفات أخرى في كتب الاثني عشرية تجعل التشيع والشيعة مرادفة للتقوى والصلاح والاستقامة. قال أبو عبد الله: "ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا بالتواضع والتجشع والأمانة" (3) . وقال: "إنما شيعة علي من
__________
(1) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد النجاسي، له كتاب الرجال الذي اعتمد عليها شيوخ الإمامية، توفي سنة (450هـ) .
(انظر: الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/54، القمي/ الكني: 3/199)
(2) رجال النجاشي ص: 9
(3) سفينة البحار: 1/733(1/47)
عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر" (1) . وقال أبو جعفر: "لا تذهب بكم المذاهب فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل" (2) . (3) .
ب- تعريف الشيعة في كتب الإسماعيلية:
ويقول أبو حاتم الرازي - وهو من أكبر الدعاة الإسماعيليين (4) . - في كتابه "الزينة": "الشيعة لقب لقوم كانوا قد ألفوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا به، مثل سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وكان يقال لهم: شيعة علي، وأصحاب علي.. ثم لزم هذا اللقب كل من قال بتفضيله بعده (5) . إلى يومنا، وتشعبت من هذه الفرقة فرق كثيرة سميت بأسماء متفرقة وألقاب شتى، مثل: الرافضة، والزيدية، والكيسانية وغير ذلك من الألقاب، وهم كلهم داخلون في جملة هذا اللقب الواحد الذي يسمي الشيعة على تباينهم في المذاهب وتفرقهم في الآراء" (6) .
__________
(1) المصدر السابق: 1/732
(2) أصول الكافي: 1/73
(3) وقد نقل الشيخ موسى جار الله في آخر الوشيعة ص: 230 مثل هذه العبارات عن كتب الشيعة، ثم عقب عليها بقول: "هؤلاء الشيعة هم شيعة علي كانوا يعرفون بالورع والاجتهاد، واجتناب الصغائر والعداوة، وكان لهم محبة أول الأمة، دين هؤلاء الشيعة كان هو التقوى لا التقية، دين هؤلاء الشيعة كان هو الولاية لله الحق، لنبيه، لأهل بيته، ولصحبه، وللمؤمنين والمؤمنات كافة. أما أولئك الذين دينهم التقية والنفاق وعداوة الصحابة وبعض آل البيت والغلو في البعض الآخر فليسوا بشيعة بشهادة من تعتبرهم الشيعة أئمتها، وباعتراف كتب الشيعة نفسها. ولهذا سماهم الإمام زيد بالرافضة، لا الشيعة"
(4) هو: أبو حاتم أحمد بن حمدان بن أحمد الرازي، من كتبه: أعلام النبوة، الزينة وغيرهما. توفي سنة (322هـ) .
انظر ترجته في: ابن حجر/ لسان الميزان: 1/164، وانظر: أعلام الإسماعيلية ص: 97
(5) قوله: "بعده" أي تفضيل علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر الصحابة، ويمكن أن يشمل هذا الإطلاق سائر الناس فيدخل فيهم الأنبياء، فيدخل في لقب الشيعة غلاة الروافض كما يدخل فيه من سواهم. ويتبادر معنى آخر وهو أنه يعني كل من قال بتفضيل علي مطلقاً بعده، أي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهو قريب
(6) الزينة: ص 259 (ضمن كتاب: "الغلو والفرق الغالية")(1/48)
ويلحظ في هذا التعريف أن المؤلف ادعى: أن لقب الشيعة أطلق على طائفة معينة من الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لم يثبت تاريخياً، وانفرد بادعائه الشيعة، محاولة لإثبات أصالة مذهبهم وشرعيته.
ولنا وقفة عند هذه المسألة في مبحث نشأة الشيعة، كما يلحظ أنه جعل علاقة هؤلاء الصحابة بعلي بن أبي طالب أساسها الإلف، ولم يدع كغيره النص من الله ورسوله - كما تزعم الشيعة -.
ج- تعريف الشيعة في المصادر الأخرى:
1- تعريف الأشعري للشيعة:
ولعل من أقدم من عرف الشيعة من أصحاب المقالات والفرق (من غير الشيعة) الإمام الأشعري، حيث قال:
"إنما قيل لهم: الشيعة، لأنهم شايعوا علياً - رضوان الله عليه - ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) .
مناقشة التعريف:
تعريف الأشعري هذا يتفق مع ما تذهب إليه المفضلة من الشيعة، وهم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والشيعة الاثنا عشرية لا يعتبرون مجرد تقديم علي على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كافياً في استحقاق وصف التشيع، بل لابد من الاعتقاد بأن خلافة علي بالنص.. وأنها بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.. ولهذا أخرج الطوسي، والمفيد بعض فرق الزيدية من دائرة التشيع - كما مر -، ويمكن القول بأن تعريف الأشعري يشمل جميع أقسام الشيعة أو معظمها، ولا يقتصر على من قال بالنص كما يزعم الرافضة.
__________
(1) مقالات الإسلاميين: 1/65(1/49)
2- تعريف ابن حزم:
ومن أدق التعاريف للشيعة - في رأي البعض - تعريف ابن حزام (1) . للشيعة حيث قال: "ومن وافق الشيعة في أن علياً - رضي الله عنه - أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي، وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً" (2) .
ويختار هذا التعريف أحد الروافض، ويعتبره من أدق التعاريف للشيعة، ويعرض عن تعاريف أهل نحلته، ويعلل الرافضي اختياره لتعريف ابن حزام على غيره بقوله: «ومما حدانا إلى تفضيل تعريف ابن حزم هو أن الاعتراف بأفضلية الإمام علي - رضي الله عنه - على الناس بعد رسول الله، وأنه الإمام والخليفة بعده، وأن الإمامة في ذريته هو أس التشيع وجوهره" (3) .
ولكن من يقرأ كلام الشيعة عن عقائدهم كالإمامة، والعصمة، والتقية وغيرها يرى أنهم يغالون في كل عقيدة من عقائدهم بحيث يربطون وصف التشيع بالإيمان بتلك العقيدة - كما سلف- ولعل هذا ما لاحظه الشهرستاني حينما قدّم لنا تعريفاً للشيعة يعتبر من أجمع التعاريف لأصول التشيع وأكثرها شمولاً.
3- تعريف الشهرستاني (4) :
يقول الشهرستاني: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً- رضي الله عنه - على
__________
(1) أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس في عصره، ولد بقرطبة سنة 384هـأو 383هـ، وتوفي في الأندلس سنة (456هـ) ومن آثاره: المحلى، والفصل وغيرهما.
انظر: المقري/ نفح الطيب: 2/283
(2) الفصل: 2/107
(3) عبد الله فياض/ تاريخ الإمامية ص: 33
(4) محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح المعروف بالشهرستاني. قال السبكي: كان إماماً مبرزاً مقدماً في علم الكلام والنظر، برع في الفقه والأصول والكلام، ومن تصانيفه: الممل والنحل، نهاية الإقدام، وغيرهما. =(1/50)
الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله.
ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر. والقول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك" (1) .
ومن هذا التعريف يتبين أن جميع فرق الشيعة - ما عدا بعض الزيدية - يتفقون على وجوب اعتقاد الإمامة، والعصمة، والتقية، وسنرى أن الاثني عشرية يقولون بعقائد أخرى كالغيبة، والرجعة، والبداء.. وغيرها.
كما ينبغي أن يلحظ أن الإمام زيداً وأتباعه لا يحكمون بعصمة الإمام، ولا يمنعون الأمة من تعيين من تختاره للإمامة، ولذا يجوّز الإمام زيد إمامة المفضول مع وجود الفاضل، ولا يقول بالتقية، وكأن الشهرستاني يشير إلى ذلك بقوله: "ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك". على أن هناك من الزيدية من يقول بعصمة فاطمة، وعلي، والحسين (2) ، ومن يقول بالنص على إمامة الثلاثة: علي وولديه" (3) . وأكثر الزيدية على خلاف ذلك (4) .
__________
= توفي سنة (548هـ) ، وكانت ولادته عام 467هـ، وقيل: 479هـ.
انظر: طبقات الشافعية: 6/128-130، مرآة الجنان: 3/284-290
(1) الملل والنحل: 6/146
(2) انظر: ابن المرتضى/ البحر الزخار ص: 96، المقبلي/ المعلم الشامخ ص: 386، ابن عباد/ نصرة مذاهب الزيدية ص: 164-196
(3) يحيى بن حمزة/ الرسالة الوازعة ص: 28
(4) انظر السمرقندي/ المعتقدات: الورقة 35 (مخطوط)(1/51)
التعريف المختار للشيعة
وفي نظري أن تعريف الشيعة مرتبط أساساً بأطوار نشأتهم، ومراحل التطور العقدي لهم، ذلك أن الملحوظ أن عقائد الشيعة وأفكارها في تغير وتطور مستمر؛ فالتشيع في العصر الأول غير التشيع فيما بعده، ولهذا كان في الصدر الأول لا يسمى شيعياً إلا من قدّم علياً على عثمان، ولذلك قيل: شيعي وعثماني، فالشيعي من قدم علياً على عثمان، والعثماني: من قدّم عثمان على علي (1) .
فعلى هذا يكون التعريف للشيعة في الصدر الأول: أنهم الذين يقدمون علياً على عثمان فقط (2) .
ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن: الشيعة الأولى كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر (3) . وقد منع شريك بن عبد الله - وهو ممن يوصف بالتشيع - إطلاق اسم التشيع على من يفضل علياً على أبي بكر وعمر؛ وذلك لمخالفته لما تواتر عن علي في ذلك، والتشيع يعني المناصرة والمتابعة لا المخالفة والمنابذة (4) .
__________
(1) انظر: نشوان الحميري/ الحور العين ص: 179، ابن المرتضى/ المنية والأمل ص: 81
(2) وهم وإن سموا بالشيعة فهم من أهل السنة؛ لأن مسألة عثمان وعلي ... ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها، لكن المسألة التي يضلل فيها مسألة الخلافة.. وقد كان بعض أهل السنة اختلفوا في عثمان وعلي - رضي الله عنهما - بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل -: فقدم قوم عثمان، وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم علياً، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان.
انظر: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 3/153، ابن حجر/ فتح الباري: 7/34.
(3) منهاج السنة: 2/60 (تحقيق د. محمد رشاد سالم)
(4) ومضى نص كلامه في ص: 32(1/53)
وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق قال: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا جرير، عن سفيان، عن عبد الله بن زياد بن جدير قال: قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة، قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه، فجلسنا إليه، فتحدثوا، فقال أبو إسحاق: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وقدمت الآن وهو يقولون، ويقولون، ولا الله ما أدري ما يقولون (1) .
قال محب الدين الخطيب: هذا نص تاريخي عظيم في تحديد تطور التشيع، فإن أبا إسحاق السبيعي كان شيخ الكوفة وعالمها (2) . ولد في خلافة أمير المؤمنين عثمان قبل شهادته بثلاث سنين، وعمّر حتى توفي سنة 127هـ، وكان طفلاً في خلافة أمير المؤمنين علي، وهو يقول عن نفسه: رفعني أبي حتى رأيت علي بن أبي طالب يخطب، أبيض الرأس واللحية. ولو عرفنا متى فارق الكوفة، ثم عاد فزارها، لتوصلنا إلى معرفة الزمن الذي كان فيه شيعة الكوفة علويين، يرون ما يراه إمامهم من تفضيل أبي بكر وعمر، ومتى أخذوا يفارقون علياً، ويخالفونه فيما كان يؤمن به، ويعلنه على منبر الكوفة من أفضلية أخويه صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وخليفتيه على أمته في أنقى وأطهر أزمانها (3) .
وقال ليث بن أبي سليم: أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحداً (4) .
وذكر صاحب مختصر التحفة: إن الذين كانوا في وقت خلافة الأمير رضي الله عنه من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، كلهم عرفوا
__________
(1) المنتقى ص: 360
(2) انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب: 8/63، الخلاصة ص: 291
(3) حاشية المنتقى ص: 360-361
(4) المنتقى ص: 360-361(1/54)
له حقه، وأحلوه من الفضل محله، ولم ينتقصوا أحداً من إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن إكفاره وسبه (1) .
ولكن لم يظل التشيع بهذا النقاء والصفاء، والسلامة والسمو.. بل إن مبدأ التشيع تغير، فأصبحت الشيعة شيعاً، وصار التشيع قناعاً يتستر به كل من أراد الكيد للإسلام والمسلمين من الأعداء الموتورين الحاسدين.. ولهذا نرى بعض الأئمة لا يسمون الطاعنين بالشيخين بالشيعة، بل يسمونهم الرافضة، لأنهم لا يستحقون وصف التشيع.
ومن عرف التطور العقدي لطائفة الشيعة لا يستغرب وجود طائفة من أعلام المحدثين، وغير المحدثين من العلماء الأعلام، أطلق عليهم لقب الشيعة، وقد يكونون من أعلام السنة، لأن للتشيع في زمن السلف مفهوماً وتعريفاً غير المفهوم والتعريف المتأخر للشيعة، ولهذا قال الإمام الذهبي في معرض الحديث عمن رمي ببدعة التشيع من المحدثين: قال: "إن البدعة على ضربين (فبدعة صغرى) كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، فهذا كثير في التابعين وأتباعهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة، ثم (بدعة كبرى) كالرفض الكامل، والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً، ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله؟ حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب علياً - رضي الله عنه - وتعرض لسبهم.
والغالي في زمننا وعُرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين فهذا ضال مفتر" (2) .
__________
(1) مختصر التحفة الاثني عشرية ص: 3
(2) الذهبي/ ميزان الاعتدال: 1/5-6، ابن حجر/ لسان الميزان: 1/9-10(1/55)
إذن التشيع درجات، وأطوار، ومراحل.. كما أنه فرق، وطوائف.
والفرقة التي سنخصها بالحديث هي الاثنا عشرية، والطور من التشيع الذي سندرسه هو الذي يستقي عقيدته ودينه من الأصول الأربعة عندهم: وهي: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، والتي يعتبرونها كالكتب الستة عند أهل السنة، وما ألحق بها في الاعتبار من المصادر الأربعة المتأخرة عندهم وهي: الوافي، والبحار، والوسائل، ومستدرك الوسائل. وكذلك ما رأى شيوخ الشيعة أنه بدرجة هذه الكتب من مؤلفاتهم وهي كثيرة.
وقبل أن ندع الحديث حول تعريف الشيعة نشير إلى أنه يلحظ على تعريفات الشيعة الواردة في معظم كتب المقالات، أنها دأبت على القول في التعريفات للشيعة (الإمامية) بأنهم أتباع علي.. إلخ، وهذا يؤدي إلى نتيجة خاطئة تخالف إجماع الأمة كلها. هذه النتيجة هي أن يكون علي شيعياً يرى ما يراه الشيعة، وعلي - رضي الله عنه - بريء مما تعتقده الشيعة فيه وفي بنيه. ولذلك لابد من وضع قيد واحتراز في التعريف رفعاً للإبهام، فيقال: هم الذين يزعمون اتباع عليّ؛ حيث إنهم لم يتبعوا علياً على الحقيقة، وليس أمير المؤمنين على ما يعتقدون.
أو يقال: بأنهم المدعون التشيع لعلي، أو الرافضة كما سبق، ولذلك عبر عنهم بعض أهل العلم بقوله: "الرافضة المنسوبون إلى شيعة علي" (1) . فهم أيضاً ليسوا على منهج شيعة علي المتبعين له، بل هم أدعياء ورافضة.
__________
(1) منهاج السنة: 2/106(1/56)
نشأة الشيعة وجذورها التاريخية
إن الشيعة بأصولها ومعتقداتها لم تولد فجأة، بل مرت بمراحل كثيرة ونشأت تدريجياً.. وانقسمت إلى فرق كثيرة. ولاشك أن التتبع التاريخي والفكري للمراحل والأطوار التي مر بها التشيع يحتاج إلى بحث مستقل، ولهذا سيكون الحديث هنا عن: أصل النشأة وجذورها التاريخية، ولا يعنينا تتبع مراحلها ونشوء فرقها.. وسنبدأ بعض رأي الشيعة من مصادرها المعتمدة عندها، ثم نذكر بعد ذلك آراء الآخرين.
فالمنهج العلمي والموضوعية توصي بأخذ آراء أصحاب الشأن فيما يخصهم أولاً.
رأي الشيعة في نشأة التشيع:
لم يكن لهم رأي موحد في هذا، ونستطيع أن نستخلص ثلاثة آراء في نشأة التشيع كلها جاءت في كتبهم المعتمدة، وسنتعقب كل رأي بالمناقشة والنقد.
الرأي الأول:
إن التشيع قديم ولد قبل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ما من نبي إلا وقد عرض عليه الإيمان بولاية علي.. وقد وضع الشيعة أساطير كثيرة لإثبات هذا الشأن، ومن ذلك ما جاء في الكافي عن أبي الحسن قال: "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد - صلى الله عليه وآله -، ووصية عليّ عليه السلام" (1) .
وعن أبي جعفر في قوله الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
__________
(1) الكليني/ أصول الكافي: 1/437(1/57)
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (1) . قال: "عهدنا إليه في محمد والأئمة من بعده فترك ولم يكن له عزم (2) ، وإنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنه عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده، والمهدي وسيرته، وأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك والإقرار به" (3) .
وجاء في البحار: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - كما يزعمون -: يا علي، ما بعث الله نبياً إلا وقد دعاه إلى ولايتك طائعاً أو كارهاً (4) . وفي رواية أخرى لهم عن أبي جعفر قال: إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيين بولاية علي (5) .
وعن أبي عبد الله قال: ولايتنا ولاية الله لم يبعث نبي قط إلا بها (6) . وعقد لذلك شيخهم البحراني باباً بعنوان: باب أن الأنبياء بعثوا على ولاية الأئمة (7) ، وقالوا: ثبت أن جميع أنبياء الله ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب مجيبين، وثبت أن المخالفين لهم كانوا له ولجميع أهل محبته مبغضين.. فلا يدخل الجنة إلا من أحبه من الأولين والآخرين فهو إذن قسيم الجنة والنار (8) .
__________
(1) طه، آية: 115
(2) وهذا التفسير بعيد عن الآية.. بل إلحاد في آيات الله. وقد جاء تفسير الآية عن السلف وغيرهم: "ولقد وصينا آدم وقلنا له: {إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} فنسي ما عهد إليه في ذلك (أي ترك) ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس الذي حسده. قال قتادة: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي صبراً". (تفسير الطبري: 16/220-222)
(3) الكليني/ الكافي: 1/416، وانظر: ابن بابويه القمي/ علل الشرائع: ص 122، الكاشاني/ الصافي: 2/80، تفسير القمي: 2/65، هاشم البحراني/ المحجة ص: 635-636، المجلسي/ البحار: 11/35، 26/278، الصفار/ بصائر الدرجات: ص 21
(4) انظر: البحار: 11/60، البحراني/ المعالم الزلفى ص: 303، وهذه الرواية موجودة في بصائر الدرجات للصفار، وفي الاختصاص للمفيد
(5) المعالم الزلفى ص: 303
(6) النوري الطبرسي/ مستدرك الوسائل: 2/195، المعالم الزلفى ص: 303
(7) المعالم الزلفى ص: 303
(8) الكاشاني/ تفسير الصافي: 1/16(1/58)
وجاءت رواياتهم في هذا المعنى في كثير من كتبهم المعتمدة عندهم: في الكافي (1) ، والوافي (2) ، والبحار (3) ، ومستدرك الوسائل (4) ، والخصال (5) ، وعلل الشرائع (6) ، والفصول المهمة (7) ، وتفسير فرات (8) ، والصافي (9) ، والبرهان (10) ، وغيرها كثير. حتى قال الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة - أحد مصادرهم المعتمدة في الحديث - بأن رواياتهم التي تقول: بأن الله حين خلق الخلق أخذ الميثاق على الأنبياء تزيد على ألف حديث (11) .
ولم تكتف مبالغات الشيعة بالقول بما سلف، بل قالت بأن: "الله عز اسمه عرض ولايتنا على السماوات والأرض والجبال والأمصار" (12) . ولهذا قال شيخهم هادي الطهراني - أحد آياتهم ومراجعهم في هذا العصر -: "تدل بعض الروايات على أن كل نبي أمر بالدعوة إلى ولاية علي - رضي الله عنه -، بل عرضت الولاية على جميع الأشياء فما قبل صلح، وما لم يقبل فسد" (13) .
نقد هذا الرأي:
هناك من الآراء والمعتقدات ما يكفي في بيان فسادها مجرد عرضها، وهذا
__________
(1) الكليني/ أصول الكافي: 2/8
(2) الكاشاني/ الوافي: المجلد ج2 ص 155، جص 10
(3) المجلسي/ البحار: 35: 151، القمي/ سفينة البحار: 1/729
(4) النوري/ مستدرك الوسائل: 2/195
(5) الصدوق/ الخصال: 1/270
(6) الصدوق/ علل الشرائع ص: 122، 135، 136، 143، 144، 174
(7) الحر العاملي/ الفصول المهمة ص: 158
(8) تفسير فرات: ص 11، 13
(9) تفسير الصافي: 2/80
(10) البحراني: 1/86
(11) الفصول المهمة ص: 159
(12) النوري/ مستدرك الوسائل: 2/195
(13) هادي الطهراني/ ودايع النبوة ص: 155(1/59)
الرأي من هذا الصنف، إذ إن فساده وبطلانه من الأمور المعلومة بالضرورة.. وكتاب الله بين أيدينا ليس فيه شيء من هذه المزاعم.
لقد كانت دعوة الرسل - عليهم السلام - إلى التوحيد لا إلى ولاية علي والأئمة - كما يفترون -.
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (2) . فكل رسل الله وأنبيائه كانوا يدعون قومهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
فقد قال نوح، وهود، وصالح، وشعيب - عليهم السلام - لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ... " (4) .
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل ... " (5) .
__________
(1) الأنبياء، آية: 25
(2) النحل، آية: 36
(3) الأعراف، آية: 59، 65، 73، 85
(4) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} (1/11) ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله (1/51-52) ، وغيرهما
(5) رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة، وما ذكر لفظ مسلم، انظر: صحيح البخاري كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (2/108) ، وصحيح مسلم كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين (1/50-51)(1/60)
فلم يرد في السنة الصحيحة إلا ما ينقض هذا الرأي. كما أن "أئمة السلف متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان" (1) .
فأين ما يزعمون من أمر ولاية عليّ؟
وإذا كانت ولاية عليّ مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، فلماذا ينفرد بنقلها الروافض، ولا يعلم بها أحد غيرهم؟ ولماذا لم يعلم بذلك أصحاب الديانات؟ بل لماذا لم تسجل هذه الولاية في القرآن وهو المهيمن على الكتب كلها، والمحفوظ من لدن رب العزة جل علاه؟!.
إن هي إلا دعوى بلا برهان، والدعاوى لا يعجز عن التنطع بها أحد إذا لم يكن له من دينه أو عقله أو حيائه ما يحميه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه كتب الأنبياء التي أخرج الناس ما فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس في شيء منها ذكر عليّ.. وهؤلاء الذين أسلموا من أهل الكتاب لم يذكر أحد منهم أنه ذكر عليّ عندهم، فكيف يجوز أن يقال: إن كلاً من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية علي، ولم يذكروا ذلك لأممهم، ولا نقله أحد منهم؟! " (2) .
وكيف تتطاول هذه الأساطير على الأنبياء فتزعم أن آدم - عليه السلام - وبقية الأنبياء - ما عدا أولي العزم - قد تركوا أمر الله في الولاية؟!، إن هذا إلا بهتان عظيم، فالولاية باطلة والافتراء على الأنبياء باطل.
ومن المفارقات العجيبة: ذلك الغلو الذي لا يقف عند حد في مسألة عصمة الأئمة.. وهذا الجفاء في حق صفوة الخلق وهم الأنبياء، أليس ذلك دليلاً على أن واضعي هذه الأساطير هم قوم قد فرغت عقولهم ونفوسهم من العلم والإيمان،
__________
(1) شرح الطحاوية ص: 75
(2) منهاج السنة: 4/64(1/61)
وشحنت بالحقد والتآمر على المصلحين والأخيار، وأرادوا الدخول على الناس لإفساد أمرهم من طريق التشيع؟، بلى: إنه لا يتجرأ على مثل هذه الافتراءات إلا زنديق، وكأنهم بهذه المقالة يجعلون أتباع الأئمة أفضل من أنبياء الله - ما عدا أولي العزم - لأن الأتباع اتبعوا، والأنبياء تركوا، إن هذا لهو الضلال المبين..
لقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء - عليهم السلام - لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، هكذا قال ابن عباس (1) . وغيره. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (2) .
فكأن هؤلاء أرادوا - كعادتهم - أن يجعلوا ما للنبي صلى الله عليه وسلم هو من حلق عليّ، ثم إن الإيمان بتفصيل ما بعث به محمد لم يؤخذ عليهم، فكيف يؤخذ عليهم موالاة واحد من الصحابة دون غيره من المؤمنين؟!.
وقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه، ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً لم يضره ذلك شيئاً، ولم يمنعه من دخول الجنة. فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقال: إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة (3) .؟!.
وأين عقول هؤلاء القوم الذين يصدقون بهذه الترهات! كيف يؤخذ على من قبلنا من الأنبياء وأممهم الميثاق على طاعة علي في إمامته "هذا - كما يقول شيخ الإسلام - كلام المجانين، فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله علياً فكيف يكون أميراً عليهم؟!، وغاية ما يمكن أن يكون أميراً على أهل زمانه، أما الإمارة على من خلق
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 6/557 وما بعدها (من الأجزاء المحققة)
(2) آل عمران، آية: 81
(3) انظر: منهاج السنة: 4/46(1/62)
قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي مما يقول.. وهذا من جنس قول ابن عربي الطائي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة الذين يقولون: إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء والذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة، فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية، وكلاهما يبني أمره على الكذب والغلو والشرك والدعاوى الباطلة، ومناقضة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة" (1) .
فما الغاية والهدف من هذه المقالة التي لا يخفى كذبها على أحد؟
هل الغاية صد الناس عن دين الله؟!
لأن هذا معلوم بطلانه بداهة، فإذا رفعوا هذه الدعوى ونسبوها للإسلام، واطلع عليها أصحاب تلك الديانات وغيرهم، ورأوا بطلانها في العقل والنقل شكوا في الإسلام نفسه!!
ثم ماذا يقول أهل العلم والعقل عن هذا التحليل الغريب لفساد الأشياء أو صلاحها من الجمادات والنباتات والمياه ... إلخ، وأن هذا بسبب موقفها من ولاية علي.
ماذا يقول العالم عن هذا..؟! هل هذا هو الدين الذي يريدون أن يقدموه للناس؟!
أو أن الهدف تشويه الإسلام والصد عنه!!
ولا يستغرب هذا الرأي من الشيعة، فهم أهل مبالغات غريبة، يكذبون بالحقائق الواضحات، والأخبار المتواترات، ويصدقون بما يشهد العقل والنقل بكذبه ... وإذا كانوا يقولون بهذا الرأي فيمن يدعون إمامته، فإنهم أيضاً يقولون في أعداء الأئمة وأعداء الشيعة - في اعتقادهم - ما يقارب هذا الرأي فقد قالوا في
__________
(1) منهاج السنة: 4/78(1/63)
الخليفتين الراشدين العظيمين: أبي بكر وعمر، قالوا - مثلاً -: "وقع في الخبر أن القائم - رضي الله عنه - إذا ظهر يحييهم ويلزمهم بكل ذنب وفساد وقع في الدنيا، حتى قَتْل قابيل وهابيل، ورَمْي إخوة يوسف له في الجب، ورمي إبراهيم في النار وسايرها"، وكذا روي عن الصادق: "أنه ما أزيل حجر من موضعه، ولا أريقت محجمة دم إلا وهو في أعناقهما - يعني الخليفة الأول والثاني-" (1) .
الرأي الثاني (من آراء الشيعة) :
ويزعم بعض الروافض في القديم والحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع بذرة التشيع، وأن الشيعة ظهرت في عصره، وأن هناك بعض الصحابة الذين يتشيعون لعليّ، ويوالونه في زمنه صلى الله عليه وسلم.
يقول القمي: "فأول الفرق الشيعة، وهي فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته، منهم المقداد بن الأسود الكندي، وسلمان الفارسي، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمار بن ياسر المذحجي.. وهم أول من سمو باسم التشيع من هذه الأمة (2) . ويشاركه في هذا الرأي النوبختي (3) ، والرازي (4) .
ويقول محمد حسين آل كاشف الغطا (المتوفى سنة 1373هـ) : إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة -؛ يعني أن بذرة التشيع وضعت في بذرة الإسلام (5) . جنباً إلى جنب، وسواء بسواء، ولم
__________
(1) البحراني/ درة نجفيه ص: 37، وانظر: رجال الكشي ص: 205-206، وانظر: الأنوار النعمانية: 1/82
(2) المقالات والفرق ص: 15
(3) فرق الشيعة ص: 17، وقد وَهِمَ الشيبي في نقله لرأي النوبختي، حيث نسب إليه أنه يقول بأن التشيع نشأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (انظر: الصلة بين التصوف والتشيع ص: 22)
(4) انظر: الرازي (من شيوخ الإسماعيلية) الزينة ص: 205 (مخطوط)
(5) لاحظ أن هذا اعتراف منه بأن بذرة التشيع غير بذرة الإسلام(1/64)
يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والري حتى نمت وازدهرت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته (1) . وقال بهذا الرأي طائفة من الشيعة المعاصرين (2) .
مناقشة هذا الرأي:
أولاً: يلاحظ أن أول من قال بهذا الرأي القمي في كتابه «المقالات والفرق» والنوبختي في كتابه "فرق الشيعة". وقد يكون من أهم الأسباب لنشوء هذا الرأي هو أن بعض علماء المسلمين أرجع التشيع في نشأته وجذوره إلى أصول أجنبية، وذلك لوجود ظواهر واضحة تثبت ذلك - سيأتي الحديث عنها (3) . -. فبسبب ذلك قام الشيعة بمحاولة إعطاء التشيع صفة الشرعية، والرد على دعوى خصومهم برد التشيع إلى أصل أجنبي، فادعوا هذه الدعوى، وحاولوا تأييدها وإثباتها بكل وسيلة؛ فوضعوا روايات كثيرة في ذلك (4) ، ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنها رويت من طرق أهل السنة، وهي روايات "لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة" (5) .
__________
(1) أصل الشيعة: ص 43
(2) انظر: محسن العاملي/ أعيان الشيعة: 1/13، 16، محمد جواد مغنية/ الاثنا عشرية وأهل البيت ص: 29، هاشم معروف/ تاريخ الفقه الجعفري ص: 105، الوابلي/ هوية التشيع ص: 27، الشيرازي/ هكذا الشيعة ص: 4، محمد الحسني/ في ظلال التشيع ص: 50-51، الزين/ الشيعة في التاريخ ص: 29، 30، المظفر/ تاريخ التشيع ص 18، الصدر/ بحث حول الولاية ص: 63، أحمد تفاحة/ أصول الدين: ص 18، 19
(3) انظر: ص (101) من هذا الكتاب
(4) في كتب الموضوعات عند أهل السنة روايات كثيرة من وضع الروافض في هذا الباب (انظر -مثلاً -: الموضوعات لابن الجوزي: 1/338 وما بعدها، الشوكاني/ الفوائد المجموعة ص 342 وما بعدها، الكتاني/ تنزيه الشريعة: 1/351 وما بعدها، ولهم وسائل الطرق ومسالك في الاستدلال والاحتجاج على أهل السنة كتبت عنها في رسالتي: فكرة التقريب ص: 51 وما بعدها
(5) ابن خلدون/ المقدمة: 2/527، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي(1/65)
ثانياً: إن هذا الرأي لا أصل له في الكتاب والسنة، وليس له سند تاريخي ثابت، بل هو رأي يجافي أصول الإسلام وينافي الحقائق الثابتة، فقد جاء الإسلام لجمع هذه الأمة على كلمة سواء، لا ليفرقها شيعاً وأحزاباً، ولم يكن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيعة ولا سنة، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} (1) . لا التشيع ولا غيره، وهم يعترفون في قولهم: "إن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنباً إلى جنب ... " إن التشيع غير الإسلام. والله يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) .
ومن الحقائق التاريخية المتواترة والتي تكشف خطأ هذا الرأي ومجانبته للحقيقة أنه لم يكن للشيعة وجود زمن أبي بكر وعمر وعثمان (3) . وقد اضطر بعض شيوخ الشيعة للإذعان لهذه الحقيقة وهم الذين مردوا على إنكار الحقائق المتواترات.
يقول آيتهم ومجتهدهم الأكبر في زمنه محمد حسين آل كاشف الغطاء: " ... ولم يكن للشيعة والتشيع يومئذ (في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) مجال للظهور؛ لأن الإسلام كان يجري على مناهجه القويمة ... " (4) . وبمثل هذا اعتراف شيخهم الآخر محمد حسين العاملي، فقال: "إن لفظ الشيعة قد أهمل بعد أن تمت الخلافة لأبي بكر، وصار المسلمون فرقة واحدة إلى أواخر أيام الخليفة الثالث" (5) .
ونحن نقول: إنه أهمل لأنه لم يوجد أصلاً، إذ كيف يهمل، ولا يظهر، والحكومة كافرة في نظركم، كما هو متواتر في كتبكم - كما سيأتي نقله وبيانه - وهل كان المسلمون شيعاً في عهد الرسول ... وفرقة واحدة في عهد الخلفاء الثلاثة؟!
__________
(1) آل عمران، آية: 19
(2) آل عمران، آية: 85 ...
(3) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ففي خلافة أبي بكر وعمر لم يكن أحد يسمى من الشيعة، ولا تضاف الشيعة إلى أحد» . (منهاج السنة: 2/64 تحقيق د. محمد رشاد سالم)
(4) أصل الشيعة: ص 48
(5) الشيعة في التاريخ ص: 39-40(1/66)
ثالثاً: زعموا أن الشيعة كانت تتألف من عمار، وأبي ذر، والمقداد، فهل قال هؤلاء بعقيدة من عقائد الشيعة من دعوة النص، وتكفير الشيخين: أبي بكر وعمر وأكثر الصحابة، أو أظهروا البراءة والسب لهم أو كراهيتهم..؟ كلا، لم يوجد شيء من ذلك.. وكل ما قاله الشيعة من دعاوى في هذا وملأوا به المجلدات لا يعدو أن يكون وهماً من الأوهام نسجته خيالات الحاقدين والأعداء (1) .
قال ابن المرتضى (وهو شعي زيدي) : "فإن زعموا أن عماراً، وأبا ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي كانوا سلفهم؛ لقولهم بإمامة علي - عليه السلام - أكذبهم كون هؤلاء لم يظهروا البراءة من الشيخين ولا السب لهم، ألا ترى أن عماراً كان عاملاً لعمر بن الخطاب في الكوفة (2) ، وسلمان الفارسي في المدائن" (3) . (4) . وهذه الحقائق التاريخية الثابتة تنسف كل ما شيده الشيعة من دعاوى في هذا عبر القرون.
رابعاً: يرى الشيخ موسى جار الله أن هذه المقالة من الشيعة مغالطة فاحشة خرجت من حدود كل أدب، وأنها افتراء على النبي صلى الله عليه وسلم ولعب بالكلمات، ويتعجب من قولهم: "إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة"، فيقول: "أي حبة بَذَرَ النبي حتى أنبتت سنابل اللعن والتكفير للصحابة وخير الأمة، وسنابل الاعتقاد بأن القرآن محرف بأيدي منافقي الصحابة، وأن وفاق الأمة ضلال، وأن الرشاد في خلافها، حتى توارت العقيدة الحقة في لجّ من ضلال الشيعة جم" (5) .
__________
(1) كقولهم: "إن الزبير والمقداد وسلمان حلقوا رؤوسهم ليقاتلوا أبا بكر.." (رجال الكشي رقم 210 ص: 133) . وأخبارهم في هذا تملأ مجلدات.. ويلاحظ في الرواية السابقة: أنهم ذكروا الزبير، والزبير كان ممن حارب علياً فيما بعد، ونسوا ذكر أبي ذر، وعمار، وآل البيت
(2) انظر: ابن الأثير/ أسد الغابة: 4/64، ابن حجر/ الإصابة: 2/506، ابن عبد البر/ الاستيعاب: 2/473
(3) طبقات ابن سعد: 4/87
(4) المنية والأمل ص: 124، 125
(5) الوشيعة ص: مه(1/67)
الرأي الثالث:
يجعل تاريخ ظهور الشيعة يوم الجمل. قال ابن النديم (1) : إن علياً قصد طلحة والزبير ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل اسمه، فسمى من اتبعه على ذلك الشيعة، فكان يقول: شيعتي، وسماهم - عليه السلام - الأصفياء الأولياء، شرطة الخميس، الأصحاب (2) .
هذا رأي انفرد به ابن النديم - حسب علمي - وهو فيما يبدو ويشير إلى تاريخ ظهور الشيعة بمعنى الأنصار والأتباع، وتاريخ إطلاق لقب الشيعة على أنصار علي - رضي الله عنه - وأن علياً - عليه السلام - هو الذي لقبهم بذلك حيث يقول: "شيعتي".
ولاشك أن هذا القول لا يدل على بداية الأصول الفكرية للتشيع، فهو يعني هنا المعنى اللغوي للشيعة وهو الأنصار، ولهذا استخدم أيضاً ألقاباً أخرى تدل على ذلك كالأصحاب والأولياء، كما أن الوثائق التاريخية - كما سلف - أثبتت أن لقب "شيعتي" والشيعة كما استعمله علي - رضي الله عنه - قد استعمله معاوية - رضي الله عنه -.
ويصف د. مصطفى كامل الشيبي - شيعي معاصر - رأي ابن النديم هذا بالغربة، حيث جعل التشيع لقباً أطلقه عليّ بنفسه على أصحابه (3) . وما أدري ما وجه الغرابة، في أن يدعو علي أنصاره بقوله: "شيعتي".
أما د. النشار فيرى في كلام ابن النديم بعض الغلو (4) . ولا يذكر النشار وجه الغلو الذي يصف به كلام ابن النديم.
__________
(1) محمد بن إسحاق بن محمد بن أبي يعقوب النديم، كان معتزلياً متشيعاً. من تصانيفه: الفهرست، توفي سنة (438هـ) .
(لسان الميزان: 5/72)
(2) ابن النديم/ الفهرست ص: 175
(3) الصلة بين التصوف والتشيع ص: 18
(4) نشأة الفكر الفلسفي: 2/32(1/68)
آراء غير الشيعة في نشأة التشيع:
القول الأول:
إن التشيع ظهر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث وجد من يرى أن أحقية علي - رضي الله عنه - بالإمامة. وهذا الرأي قال به طائفة من القدامى والمعاصرين، منهم العلامة ابن خلدون، وأحمد أمين، وبعض المستشرقين، وهذا القول منهم مبني على ما نقله البعض من وجود رأي يقول بأحقية قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة بعده.
يقول ابن خلدون: "اعلم أن مبدأ هذه الدولة - يعني دولة الشيعة - أن أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لرجالهم دون من سواهم" (1) .
ويقول أحمد أمين: "كانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه" (2) . كما قال بمثل ذلك بعض المستشرقين (3) .
مناقشة هذا الرأي:
وهذا الرأي يستند القائلون به إلى الرأي القائل بأحقية القرابة بالإمامة. ولا شك أنه إذا وجد من يرى أحقية عليّ بالإمامة، وأن الإمامة ينبغي أن تكون في القرابة، فقد وجد رأي يقول باستخلاف سعد بن عبادة، وأن الإمامة ينبغي أن تكون في الأنصار، وهذا لا دلالة فيه على ميلاد حزب معين، أو فرقة معينة، وتعدد الآراء أمر طبيعي، وهو من مقتضيات نظام الشورى في الإسلام، فهم في
__________
(1) العبر: 3/107-171
(2) فجر الإسلام ص: 266، وانظر: ضحى الإسلام: 3/209، وقال د. علي الخربوطلي: "ونحن نرى أن التشيع بدأ بعد أن آلت الخلافة إلى أبي بكر دون علي بن أبي طالب" (الإسلام والخلافة ص: 62) . كما يقول بهذا الرأي محمد عبد الله عنان (انظر: تاريخ الجمعيات السرية ص: 13)
(3) انظر: دائرة المعارف الإسلامية: 14/58(1/69)
مجلس واحد تعددت آراؤهم "وما انفصلوا حتى اتفقوا، ومثل هذا لا يعد نزاعاً" (1) ، "وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبي بكر - رضي الله عنه - وكان علي - رضي الله عنه - سامعاً لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بني حنيفة" (2) . "وكانوا - على حال ألفة، واجتماع كلمة - يبذلون في طاعة أئمتهم مهج أنفسهم، وكرائم أموالهم على السبيل التي كانوا عليها مع نبيهم.." (3) .
ولو كان هذا الرأي القائل بأحقية القرابة بالإمامة يمثل البذرة والنواة للتشيع لكان له ظهور وودود زمن أبي بكر وعمر، ولكنه رأي إن ثبت فهو كسائر الآراء التي أثيرت في اجتماع السقيفة، ما إن وجد حتى اختفى بعد أن تمت البيعة.. واجتمعت الكلمة.. واتفق الرأي من الجميع. وموقف أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ينفي استمرار مثل هذه الآراء أو بقائها بين الصحابة، فقد تواتر عنه - رضي الله عنه، من وجوه كثيرة - أنه قال على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" (4) . فكيف يرى غيره من الصحابة فيه ما لم يره في نفسه؟!
والشيعة ليس لها ذكر أو وجود في عهد أبي بكر ولا عمر ولا عثمان،
__________
(1) ابن تيمية/ منهاج السنة: 1/36
(2) الجويني/ الإرشاد ص: 428
(3) الناشئ الأكبر/ مسائل الإمامة ص: 15
(4) قال ابن تيمية: "روي عن علي من نحو ثمانين وجهاً وأكثر أنه قال على منبر الكوفة هذا القول - كما مر - وقد ثبت في صحيح البخاري من رواية رجال همدان خاصة التي يقول فيها علي: لو كنت بواباً على باب جنة لقلت لهمدان: ادخلي بسلام، من رواية سفيان الثوري عن منذر الثوري وكلاهما من همدان، قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، حدثنا جامع بن أبي راشد، حدثنا أبو يعلى عن محمد بن الحنفية قال: "قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: عمر. وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين". (صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر جص20) .
قال ابن تيمية: وهذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه.. (الفتاوى: 4/407-408، منهاج السنة: 4/137-138)(1/70)
فكيف يقال بنشأتها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (1) .؟! وقد أقر بهذه الحقيقة بعض شيوخ الشيعة كما سلف (2) .
القول الثاني:
أن التشيع لعلي بدأ بمقتل عثمان - رضي الله عنه، يقول ابن حزم: "ثم ولي عثمان، وبقي اثني عشر عاماً، وبموته حصل الاختلاف، وابتدأ أمر الروافض" (3) . والذي بدأ غرس بذرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي (4) ،
__________
(1) وما ذكره بعضهم من ظهور جماعة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ترى أحقية علي بالإمامة.. ليس له أصل تاريخي ثابت، ويبدو أن عمدته رواية اليعقوبي في تاريخه والتي تقول: بأن جماعة منهم سلمان وأبو ذر وعمار والمقداد تخلفوا عن بيعة أبي بكر ومالوا إلى علي. (تاريخ اليعقوبي: 2/124) . وروايات اليعقوبي، ومثله المسعودي يجب الاحتزازوالحذر منهما - لجنوحهما للرفض - ولاسيما فيما يوافق ميولهما المذهبية، وفيما ينفردان به من نقول. يقول القاضي أبو بكر بن العربي: "لا تسمعوا لمؤرخ كلاماً إلا للطبري، وغير ذلك هو الموت الأحمر والداء الأكبر". وقال في المسعودي المؤرخ: "إنه مبتدع محتال". (العواصم من القواصم ص: 248-249) .
وأيضاً لأن الطبري يروي بالسند فيسهل فحص رواياته والتحقق منها
(2) انظر: ص: (166)
(3) الفصل: 2/8، وبمثل قول ابن حزم هذا قال طائفة من العلماء والباحثين مثل: الشيخ عثمان بن عبد الله الحنفي صاحب الفرق المتفرقة بين أهل الزيغ والزندقة (انظر: الفرق المفترقة ص:6) ومثل المستشرق: فلهوزن (انظر: الخوارج والشيعة ص: 112)
(4) عبد الله بن سبأ رأس الطائفة السبئية وكانت تقول بألوهية علي، كما تقول برجعته وتطعن في الصحابة أصله من اليمن وكان يهودياً يتظاهر بالإسلام، رحل لنشر فتنته إلى الحجاز فالبصرة فالكوفة، ودخل دمشق في أيام عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأخرجه أهلها، فانصرف إلى مصر وجهر ببدعته. قال ابن حجر: "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ضال مضل، أحسب أن علياً حرقة بالنار" اه. وقد تكاثر ذكر أخبار فتنته وشذوذه وسعيه في التآمر هو وطائفته في كتب الفرق والرجال والتاريخ وغيرها من مصادر السنة والشيعة جميعاً.
انظر في ذلك: الملطي/ التنبيه والرد ص: 18، الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/86، البغدادي/ الفرق بين الفرق ص 233، الشهرستاني/ الملل والنحل: 1/174، الإسفراييني/ التبصير في الدين ص: 71-72، الرازي/ اعتقادات فرق المسلمين ص: 86، ابن المرتضى/ المنية والأمل ص: 29، ابن حجر/ لسان الميزان: 3/289، ابن عساكر/ تهذيب تاريخ دمشق: 7/431، السمعاني/ الأنساب: 7/46، ابن الأثير/ اللباب: 1/527، المقدسي/ البدء والتاريخ: 5/129، تاريخ الطبري: 4/340، ابن الأثير/ الكامل: 3/77، ابن كثير/ البداية والنهاية: 7/167، ابن خلدون/ العبر: 2/160،161، الطبري/ =(1/71)
والذي بدأ حركته في أواخر عهد عثمان، وأكد طائفة من الباحثين القدماء والمعاصرين على أن ابن سبأ هو أساس المذهب الشيعي والحجر الأول في بنائه (1) . وقد تواتر ذكره في كتب السنة والشيعة على حد سواء.
ونبتت نابتة من شيعة العصر الحاضر تحاول أن تنكر وجوده بجرة قلم دون مبرر واقعي، أو دليل قاطع (2) ، بل ادعى البعض منهم أن عبد الله بن سبأ هو عمار بن ياسر (3) . وهذه الدعوى هي محاولة أو حيلة لتبرئة يهود من التآمر على المسلمين.. كما هي محاولة أو حيلة لإضفاء صفة الشرعية على الرفض.. والرد على دعوى خصومهم برد أصل التشيع إلى أصل يهودي.
__________
= تبصير أولي النهى الورقة (14) (مخطوط) .
ومن مصادر الشيعة: الناشئ الأكبر/ مسائل الإمامة ص 22-23، القمي/ المقالات والفرق ص: 20، النوبختي/ فرق الشيعة ص: 22، وأورد الكشي عدة روايات في ابن سبأ (رجال الكشي، انظر الروايات رقم: 170-171، 172، 173، 174، من ص 106-108) ، ابن أبي الحديد/ شرح نهج البلاغة: 2/308.
(1) انظر - مثلاً -: ابن تيمية الذي يعتبر ابن سبأ أول من أحدث القول بالعصمة لعلي، وبالنص عليه في الخلافة، وأنه أراد إفساد دين الإسلام، كما أفسد بولس دين النصارى (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية/ جمع عبد الرحمن بن قاسم: 4/518) . وكذا ابن المرتضى في كتابه المنية والأمل ص: 125، ومن المعاصرين - مثلاً - أبو زهرة الذي ذكر أن عبد الله بن سبأ هو الطاغوت الأكبر الذي كان على رأس الطوائف الناقمين على الإسلام الذين يكيدون لأهله، وأنه قال برجعة علي، وأنه وصي محمد، ودعا إلى ذلك.
وذكر أبو زرهة أن فتنة ابن سبأ وزمرته كانت من أعظم الفتن التي نبت في ظلها المذهب الشيعي (انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية: 1/31-33) ، وسعيد الأفغاني الذي يرى أن ابن سبأ أحد أبطال جمعية سرية (تلمودية) غايتها تقويض الدولة الإسلامية، وأنها تعمل لحساب دولة الروم (انظر: عائشة والسياسة ص: 60) ، وانظر: القصيمي في الصراع: 1/41
(2) وهو: مرتضى العسكري في كتابه "عبد الله بن سبأ.." ص: 35 وما بعدها
(3) وهو: علي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين) ص: 274، وقلده في هذا الشيعي الآخر: مصطفى الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) ص: 40-41، ويرى الأستاذ علي البصري أن الوردي هذا مقلد للأستاذ هدايت الوحكيم الهلي أستاذ بجامعة لندن في تلك الآراء والذي نشرها في كتابه: "تخس إمام" أي: الإمام الأول. وأن الوردي قام بنشر ترجمتها تقريباً في كتابه "وعاظ السلاطين".
(انظر: مجلة الثقافة الإسلامية/ بغداد/ العدد (11) ، السنة الأولى، مقال علي البصري بعنوان "من طلاب الشهرة علي الوردي")(1/72)
وقد اتفق القدماء من أهل السنة والشيعة على السواء على اعتبار ابن سبأ حقيقة واقعية، وشخصية تاريخية، فكيف ينفى ما أجمع عليه الفريقان؟! أما القول بأن ابن سبأ هو عامر بن ياسر فهو قول يرده العقل والنقل والتاريخ، وكيف تلصق تلك العقائد التي قال بها ابن سبأ بعمار بن ياسر، وهل هذا إلا جزء من التجني على الصحابة والطعن فيهم؟!.
ولست بحاجة إلى دراسة هذه المسألة فقد خرجت دراسات موضوعية ومستوفية لهذه القضية (1) ، فلا حاجة للوقف عندها طويلاً.. ويكفي - هنا - الاستشهاد بما جاء في كتب الشيعة المعتمدة عن ابن سبأ تمشياً - أولاً - مع خطة البحث في الاعتماد على أصولهم، وثانياً: لأن الإنكار لوجود ابن سبأ جاء من جهة الشيعة، فالاحتجاج عليهم من كتبهم المعتمدة يسقط دعواهم من أساسها. وثالثاً: لأن في عرض آراء ابن سبأ من كتب الشيعة تصويراً لأهل الشيعة وجذورها من كلام الشيعة أنفسهم، وهو موضوع هذا البحث.
فماذا تقول كتب الشيعة عن ابن سبأ؟.. فالشيعي سعد بن عبد الله القمي شيخ الطائفة وفقيهها ووجهها، كما ينعته النجاشي (2) . (المتوفى سنة 229-301) يقر بوجود ابن سبأ، ويذكر أسماء بعض أصحابه الذين تآمروا معه، ويلقب فرقته بالسبئية، ويرى أنها أول فرقة في الإسلام قالت بالغلو، ويعتبر ابن سبأ "أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر
__________
(1) من أبرز هذه الدراسات وأهمها: رسالة "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة" للدكتور/ سليمان العودة، وقد توفرت لديه أدلة قاطعة على وجود ابن سبأ وسعيه في الفتنة. وهذه دراسة جادة ومستوفية وقد ناقش المشككين والمنكرين والقائلين أن ابن سبأ هو عمار بن ياسر، وأثبت زيف هذه الأقوال بالحجة والبرهان.
وكذلك د. عمار الطالبي أثبت بطلان هذه الأقوال في كتابه: "آراء الخوارج" ص: 74 -81. وللدكتور عزت عطية مناقشة لهؤلاء وتزييف لأقوالهم في كتابه "البدعة" ص: 64 وما بعدها. وقدم الدكتور سعدي الهاشمي محاضرة قيمة في هذا الموضوع أثبت فيها وجود ابن سبأ بالأدلة من الفريقين (انظر: محاضرات الجامعة الإسلامية عام 1398-1399هـ: "ابن سبأ حقيقة لا خيال" ص: 201-223)
(2) رجال النجاشي ص: 126(1/73)
وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وادعى أن علياً - رضي الله عنه - أمره بذلك"، ويذكر القمي أن علياً بلغه ذلك فأمر بقتله ثم ترك ذلك واكتفى بنفيه إلى المدائن (1) .
كما ينقل عن جماعة من أهل العلم - كما يصفهم -: "أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم، ووالى علياً وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بمثل ذلك، وهو أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي بن أبي طالب وأظهر البراءة من أعدائه.. وأكفرهم، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية (2) . ثم يذكر القمي موقف ابن سبأ حينما بلغه نعي علي حيث ادعى أنه لم يمت وقال برجعته، وغلا فيه (3) .
هذا ما يقوله القمي عن ابن سبأ، والقمي عند الشيعة ثقة واسع المعرفة بالأخبار (4) ، ومعلوماته - عندهم - مهمة نظراً لقدم فترتها الزمنية، ولأن سعداً القمي كما روى شيخهم الملقب عندهم بالصدوق قد لاقى في إمامهم المعصوم - في نظرهم - الحسن العسكري وسمع منه (5) . ونجد شيخهم الآخر النوبختي يتحدث عن ابن سبأ ويتفق فيما يقوله عن ابن سبأ مع القمي حتى في الألفاظ نفسها (6) ، والنوبختي ثقة معتمد عندهم (7) . وعالمهم الكشي (8) . يروي ست روايات في ذكر
__________
(1) المقالات والفرق ص: 20
(2) المقالات والفرق ص: 20
(3) المقالات والفرق ص: 21
(4) انظر: الطوسي/ الفهرست ص: 105، الأردبيلي / جامع الرواة: 1/352
(5) انظر: ابن بابويه القمي/ إكمال الدين ص: 425-453
(6) انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص: 22-23
(7) انظر: الطوسي/ الفهرست ص: 75، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/228، عباس القمي/ الكنى والألقاب: 1/148، الحائري/ متقبس الأثر: 16/125
(8) وهو عندهم "ثقة بصير بالأخبار والرجال" (الطوسي/ الفهرست: 171)(1/74)
ابن سبأ (1) . وذلك في كتابه المعروف "برجال الكشي" والذي هو من أقدم كتب الشيعة المعتمدة في علم الرجال، وتشير تلك الروايات إلى أن ابن سبأ ادعى النبوة وأنه زعم أن أمير المؤمنين هو الله - تعالى الله وتقدس - وأن علياً استتابه فلم يتب، فأحرقه بالنار، كما ينقل الكشي لعن الأئمة لعبد الله ابن سبأ، وأنه كان يكذب على علي، كقول علي بن الحسين: "لعن الله من كذب علينا إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي، لقد ادعى أمراً عظيماً، ما له لعنه الله، كان علي - رضي الله عنه - والله عبداً لله صالحاً أخو رسول الله ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته" (2) .
ثم قال الكشي بعد ذكر تلك الروايات: "ذكر أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي - رضي الله عنه - مثل ذلك، وكان أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وأكفرهم، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة: أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية" (3) . هذه مقالة الكشي وهي تتفق مع كلام القمي والنوبختي وكلهم يوثقون قولهم هذا بنسبته إلى أهل العلم.
ثم إن هذه الروايات الست كلها جاءت في رجال الكشي، والذي يعتبرونه أحد الأصول الأربعة التي عليها المعول في تراجم الرجال، وقام الطوسي شيخ الطائفة عندهم بتهذيب الكتاب، فصار عندهم أكثر ثقة وتحقيقاً حيث اجتمع في تأليفه الكشي الذي هو عندهم ثقة، بصير بالأخبار وبالرجال مع الطوسي وهو صاحب كتابين من صحاحهم الأربعة، ومؤلف كتابين من كتبهم الأربعة المعول
__________
(1) رجال الكشي ص: 106-108، 305
(2) المصدر السابق: ص: 108
(3) المصدر السابق ص: 108-109(1/75)
عليها في علم الرجال عندهم (1) .
ثم إن كثيراً من كتب الرجال الأخرى عندهم جاءت على ذكر ابن سبأ (2) ، كما جاء ذكر ابن سبأ في أهم وأوسع كتبهم الرجالية المعاصرة وهو تنقيح المقال (3) . لشيخهم عبد الله الممقاني (4) . (المتوفى سنة 1351هـ) .
ولهذا يلحظ أن ثمة اتجاهاً أخيراً لدى بعض شيوخ الشيعة المعاصرين إلى العدول عن إنكاره، يقول - مثلاً - محمد حسين الزين: "وعلى كل حال فإن الرجل - أي: ابن سبأ - كان في عالم الوجود، وأظهر الغلو، وإن شك بعضهم في وجوده وجعله شخصاً خيالياً.. أما نحن - بحسب الاستقراء الأخير - فلا نشك بوجوده وغلوه" (5) .
ذلك أن إنكار وجود ابن سبأ هو تكذيب منهم - وإن لم يصرحوا -
__________
(1) وما نقلناه عن الكشي هو من تذهيب الطوسي واختياره؛ لأن الأصل - كما يقولون - مفقود لا يعرف له أثر. (انظر: مقدمة رجال الكشي ص 17-18، يوسف البحراني/ لؤلؤة البحرين ص: 403)
(2) لعل أقدم مصدر عند الشيعة تحدث عن ابن سبأ والسبئية وهو كتاب: مسائل الإمامة ص: 22-23 لعبد الله الناشئ الأكبر (المتوفى سنة 293هـ) .
(راجع ترجمته في وفيات الأعيان: 3/91-92، أنباء الرواة: 2/128-129) .
ومن كتبهم في الرجال التي جاءت على ذكر ابن سبأ: المازندراني/ منتهى المقال (غير مرقم الصفحات) ، الاستراباذي/ منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال ص: 203-204، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/485، ابن داود الحلي/ الرجال: 2/71، التستري/ قاموس الرجال: 5/461 وما بعدها، رجال الطوسي ص: 51.
ومن كتبهم في الحديث والفقه التي جاء فيها ذكر ابن سبأ: ابن بابويه القمي/ من لا يحضره الفقيه: 1/213، الخصال ص: 628، الطوسي، تهذيب الأحكام: 2/322، المجلسي/ بحار الأنوار: 25/286 وما بعدها
(3) تنقيح المقال: 2/183
(4) انظر: الأعلمي/ مقتبس الأثر: 21/230
(5) الشيعة في التاريخ ص: 213(1/76)
لشيوخهم الذين ذكروا ابن سبأ، ولكتبهم في الرجال التي تكاثر فيها ذكره، وهو اعتراف منهم - وإن لم يشعروا - أن كتب الرجال لديهم ليست مرجعاً يوثق به وإجماعها لا يعتد به.
وهكذا تعترف كتب الشيعة بأن ابن سبأ هو أول من قال بالوصية لعلي ورجعته وطعن في الخلفاء الثلاثة والصحابة.. وهي آراء وعقائد أصبحت فيما بعد من أسس المذهب الشيعي، وذلك حينما صيغت هذه الآراء وغيرها على شكل روايات وأحاديث ونسبت لآل البيت زوراً وبهتاناً، فوجدت القبول لدى كثير من العوام وغيرهم ولا سيما العجم.
القول الثالث:
ويقول بأن منشأ التشيع كان سنة 37هـ، ومن أشهر القائلين بهذا الرأي صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية حيث يقول: "إن ظهور اسم الشيعة كان عام 37هـ" (1) . كما يقول بهذا الرأي الأستاذ وات منتوجمري (Montgomery Watt) حيث يذكر "أن بداية حركة الشيعة هي أحد أيام سنة 658م (37هـ) " (2) . ويبدو أن هذا القول يربط نشأة التشيع بموقعة صفين، حيث وقعت سنة 37هـبين الإمام علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وما صاحبها من أحداث، وما أعقبها من آثار، ولكن هذا الرأي لا يعني بداية الأصول الشيعية؛ حيث إننا لا نجد في أحداث هذه السنة فيما نقله المؤرخون من نادى بالوصية، أو قال بالرجعة، أو دعا إلى أصل من أصول الشيعة المعروفة، كما أن أنصار الإمام علي لا يمكن أن يقال بأنهم على مذهب الشيعة، أو أصل من أصول الشيعة، وإن كان في أصحاب الإمام علي كما في أصحاب معاوية من أعداء الإسلام الذين تظاهروا بالإسلام ليكيدوا له بالباطن ما لا ينكر، وقد كان للسبئيين أثر في إشعال الفتنة
__________
(1) مختصر التحفة ص: 5
(2) Montgomery Watt, Islam and the Integration of Society p,104(1/77)
لا يجحد، وهم وجدوا قبل ذلك، كما أننا نلحظ أنه بعد حادثة التحكيم وفي بنود التحكيم أطلق لفظ الشيعة على الجانبين بلا تخصيص - كما سبق - (1) .
القول الرابع:
بأن التشيع ولد إثر مثل الحسين. يقول شتروتمان (2) . (Strotnmann, R) "إن دم الحسين يعتبر البذرة الأولى للتشيع كعقيدة" (3) .
الرأي المختار:
عرضنا فيما سبق معظم الآراء في نشأة التشيع، وناقشنا ما يحتاج إلى مناقشة.. والذي أرى أن الشيعة كفكر وعقيدة لم تولد فجأة، بل إنها أخذت طوراً زمنياً، ومرت بمراحل.. ولكن طلائع العقيدة الشيعية وأصل أصولها ظهرت على يد السبئية باعتراف كتب الشيعة التي قالت بأن ابن سبأ أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي، وأن علياً وصي محمد - كما مر - وهذه عقيدة النص على علي بالإمامة، وهي أساس التشيع كما يراه شيوخ الشيعة كما أسلفنا ذكره في تعريف الشيعة. وشهدت كتب الشيعة بأن ابن سبأ وجماعته هم أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرحامه وخلفائه وأقرب الناس إليه - رضي الله عنهم - والطعن في الصحابة الآخرين، وهذه عقيدة الشيعة في الصحابة كما هي مسجلة في كتبهم المعتمدة. كما أن ابن سبأ قال برجعة
__________
(1) انظر: (ص 38)
(2) رودلف شتروتمان من المستشرقين المتخصصين في الفرق ومذاهبها، وله عنها مباحث. من آثاره: الزيدية، وأربعة كتب إسماعيلية.
(انظر: نجيب العقيقي/ المستشرقون: 2/788)
(3) دائرة المعارف الإسلامية: 14/59(1/78)
علي (1) . والرجعة من أصول الشيعة كما سيأتي. كما أن ابن سبأ قال بتخصيص علي وأهل البيت بعلوم سرية خاصة. كما أشار إلى ذلك الحسن بن محمد بن الحنفية (2) . (ت 95 أو 100هـ) في رسالة الإرجاء (3) .
وهذه المسألة أصبحت من أصول الاعتقاد عند الشيعة، وقد ثبت في صحيح البخاري ما يدل على أن هذه العقيدة ظهرت في وقت مبكر، وأن علياً - رضي الله عنه - سئل عنها، وقيل له: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن ومما ليس عند الناس؟، فنفى ذلك نفياً قاطعاً (4) .
هذه أهم الأصول التي تدين بها الشيعة (5) ، وقد وجدت إثر مقتل عثمان -
__________
(1) انظر: القمي/ المقالات والفرق ص: 21، النوبختي/ فرق الشيعة ص: 23، الناشئ الأكبر/ مسائل الإمامة ص: 22-23، الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/86، الملطي/ التبيه والرد ص: 18، البغدادي/ الفرق بين الفرق ص: 237، الإسفراييني/ التبصير في الدين ص: 72، الرازي/ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ص: 242، الإبجي / المواقف ص: 419
(2) قال ابن حجر: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، أبو محمد المدني، وأبوه يعرف بابن الحنفية. له رسالة في الإرجاء أخرجها محمد بن يحيى العدني في كتاب الإيمان. انظر تهذيب التهذيب: 2/32
(3) رسالة الإرجاء (ضمن كتاب الإيمان، لمحمد بن يحيى العدني ص 249-250)
(4) وقد أخرج الإمام البخاري هذا الحديث في باب كتابة العلم (البخاري مع الفتح: 1/204) وباب حرم المدينة (البخاري مع الفتح 4/81) وباب فكاك الأسير (6/167) ، وباب ذمة المسلمين وجوارهم (6/273) وباب إثم من عاهد ثم غدر (6/279-280) وباب إثم من تبرأ من مواليه (12/41-42) وباب العاقلة (12/246) وباب لا يقتل مسلم بكافر (12/260) ، وباب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو (13/275-276) . وأخرجه مسلم في باب فضل المدينة وبيان تحريمها (مسلم مع النووي: 9/143-144) وكتاب الذبائح (مسلم مع النووي 13/141) . وأخرجه النسائي (المجتبى: 8/19) . والترمذي (4/668) . وأحمد (المسند: 1/100)
(5) مما ينبغي أن يلحظ أن ربط نشأة التشيع بابن سبأ هو في التشيع المتضمن لهذه الأصول الغالية، أما "التشيع المتوسط والذي مضمونه تفضيل علي وتقديمه على غيره ونحو ذلك فلم يكن هذا من إحداث الزنادقة، بخلاف دعوى النص والعصمة فإن الذي ابتدع ذلك كان منافقاً زنديقاً". =(1/79)
رضي الله عنه - في عهد علي - رضي الله عنه - ولم تأخذ مكانها في نفوس فرقة معنية معروفة، بل إن السبئية ما كادت تطل برأسها حتى حاربها علي - رضي الله عنه - (1) ، ولكن ما تلا ذلك من أحداث هيأ جواً صالحاً لظهور هذه العقائد، وتمثلها في جماعة وذلك كمعركة صفين، وحادثة التحكيم التي أعقبتها، ومقتل علي، ومقتل الحسين.. كل هذه الأحداث دفعت القلوب والعواطف إلى التشيع لآل البيت، فتسلل الفكر الوافد من نافذة التشيع لعلي وآل بيته، وصار التشيع وسيلة لكل من أراد هدم الإسلام من ملحد ومنافق وطاغوت، ودخلت إلى المسلمين أفكار ومعتقدات أجنبية اكتست بثوب التشيع وتيسر دخولها تحت غطائه، وبمرور الأيام كانت تتسع البدعة ويتعاظم خطرها، حيث قد وجد لابن سبأ خلفاء كثيرون.
ولم يكن استعمال لقب "الشيعة" في عهد علي - رضي الله عنه - إلا بمعنى الموالاة والنصرة، ولا يعني بحال الإيمان بعقيدة من عقائد الشيعة اليوم.. ولم يكن يختص إطلاق هذا اللقب بعلي - رضي الله عنه - يدل على ذلك ما جاء في صحيفة التحكيم من إطلاق اسم الشيعة على كل من أتباع علي وأتباع معاوية كما سلف (2) .
فإذن كانت الأحداث التي جرت على آل البيت (مقتل علي، مقتل الحسين،
__________
= (ابن تيمية/ مجموعة الفتاوى: 20/466) وهو ابن سبأ وعصابته من اليهود والمنافقين والحاقدين والموتورين
(1) فقد أمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الألوهية. (انظر: ابن تيمية/ منهاج السنة: 1/219 تحقيق د. محمد رشاد سالم، فتح الباري: 2/270، الملطي/ التنبيه والرد ص: 18، الإسفراييني/ التبصير في الدين: ص 70) . وأما السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر فإن علياً لما بلغه ذلك طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنه أراد قتله، فهرب منه. وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر فروي أنه قال: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري". (منهاج السنة: 1/219-220)
(2) انظر ص: (38)(1/80)
إلخ) هي من العوامل المؤثرة للاندفاع إلى التشيع لآل البيت، وكان التعاطف والتأثر لما حل بالآل هو شعور كل مسلم، ولكن قد استغل هذا الأمر من قبل الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر فدخلوا من هذا المنفذ، وأشاعوا الفرقة في صفوف الأمة، وحققوا بالكيد والحيلة ماعجزوا عنه بالسلاح والسنان، ودخل أتباع الديانات الأخرى، والمتآمرون، والمتربصون في التشيع، وبدأوا يضعون أصولاً مستوحاة من دينهم، ألبسوها ثوب الإسلام.. كما سندرس هذا في أصل التشيع.(1/81)
أصل التشيع
(أو أثر الفلسفات القديمة في المذهب الشيعي)
اختلف أنظار العلماء والباحثين في مرجع الأصول العقدية للتشيع؛ فمن قائل بأنها ترجع لأصل يهودي، ومن قائل بأنها ترجع لأصل فارسي، ومن قائل بأن المذهب الشيعي كان مباءة للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية (1) . وغيرها:
القول بالأصل اليهودي:
من الباحثين من يرى أن أصل التشيع ذو صبغة يهودية وذلك باعتبارين:
الأول:
أن ابن سبأ كان أول من قال بالنص والوصية، والرجعة، وابن سبأ يهودي، وهذه الآراء صارت من أصول المذهب الشيعي، ولهذا أشار القمي، والنوبختي والكشي، وهم من شيوخ الشيعة القدامى إلى هذا، وذلك حينما استعرضوا آراء ابن سبأ والتي أصبحت فيما بعد من أصول الشيعة، قالوا: "فمن هنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض كان مأخوذاً من اليهودية" (2) .
__________
(1) البوذية: هم أتباع بوذا، ولها انتشار بين عدد من الشعوب الآسيوية، وتتباين عقائد الأتباع حول هذه النحلة؛ فتجعل البوذية اليابانية «بوذا» جوهراً إلهاً حالاً في الكون، وبوذية الهند - وهي الأصل - لا إله لها، وبوذية الصين مالت إلى الاعتقاد بفكرة كائن مطلق يتمثل في شخصيات مختلفة بوذا واحد منها. وانظر عن البوذية (محمد سيد كيلاني/ ذيل الملل والنحل ص 13، 26، 31، محمد أبو زهرة/ الديانات القديمة ص: 53، سليمان مظهر/ قصة الديانات ص: 73)
(2) انظر: القمي/ المقالات والفرق ص: 20 النوبختي/ فرق الشيعة ص: 22، رجال الكشي ص: 108(1/82)
الاعتبار الثاني:
هو وجود تشابه في الأصول الفكرية بين اليهود والشيعة، ولعل أول بيان لذلك وأشمله هو ما روي عن الشعبي (1) . في هذا الباب (2) . كما أشار ابن حزم إلى شيء من ذلك حينما قال: "سار هؤلاء الشيعة في سبيل اليهود القائلين.. إن إلياس -عليه السلام -، وفنحاس بن العازار بن هارون - عليه السلام - أحياء إلى اليوم" (3) . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن في الشيعة من الجهل والغلو واتباع الهوى ما أشبهوا فيه النصارى من وجه واليهود من وجه، وأن الناس مازالوا يصفونهم بذلك، ثم نقل ما روي عن الشعبي من مشابهة الشيعة لليهود والنصارى (4) . وقد قال بهذا الرأي جمع من الباحثين (5) ".
__________
(1) عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه، (ت 102هـ) . (تهذيب التهذيب: 5/5)
(2) رواه الخلال في كتابة السنة، قال محقق الكتاب: إسناده لا يصح، لأن فيه عبد الرحمن بن مالك بن مغول متروك، ولكن الأمور المذكورة واقعة من الرافضة (السنة للخلال: 2/563-565) ، وانظر: منهاج السنة لابن تيمية: 1/6-10، اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة. (انظر: كاشف الغمة في اعتقاد أهل السنة ص611) ، ابن الجوزي/ الموضوعات: 1/338، ابن بكر/ التمهيد والبيان: ص 233-234، (القسم المخطوط)
(3) الفصل: 5/37
(4) منهاج السنة: 1/6
(5) من هؤلاء الأستاذ أحمد أمين، حيث قال: "فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة، وقالت الشيعة: إن النار محرمة على الشيعي إلا قليلاً كما قال اليهود: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} . والنصرانية ظهرت في التشيع في قول بعضهم: إن نسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح إليه ... " انظر: فجر الإسلام ص: 276، ويرى جولد تسيهر أن فكرة الرجعة تسربت إلى التشيع من طريق المؤثرات اليهودية والنصرانية (انظر: العقيدة والشريعة ص 215) . وكذلك يرى فريد لندر أن التشيع قد استمد أفكاره الرئيسة من اليهودية. (انظر: المصدر السابق: ص 100 وما بعدها) ، ويقول فلهوزن بالأصل اليهودي، ويشير إلى بعض أوجه التشابه في الأفكار بين اليهود والشيعة (أحزاب المعارضة ص: 170) .(1/83)
القول بالأصل الفارسي (فارسية التشيع) :
يقرر بعض الباحثين أن التشيع نزعة فارسية، وذلك لعدة اعتبارات:
الأول: ما قاله ابن حزم والمقريزي من أن الفرس كانت من سعة الملك، وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسها بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، كان العرب عند الفرس أقل الأمم خطراً، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله الحق.. فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع، بإظهار محبة أهل البيت، واستبشاع ظلم علي - بزعمهم - ثم سلكوا بهم مسالك حتى أخرجوهم عن طريق الهدى (1) .
الثاني: أن العرب تدين بالحرية، والفرس يدينون بالملك والوراثة في البيت المالك، ولا يعرفون معنى الانتخاب للخليفة، وقد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يترك ولداً، فأولى الناس بعده ابن عمه علي بن أبي طالب، فمن أخذ الخلافة كأبي بكر وعمر وعثمان، فقد اغتصب الخلافة من مستحقها، وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى التقديس، فنظروا هذا النظر نفسه إلى علي وذريته، وقالوا: إن طاعة الإمام واجبة، وطاعته طاعة الله سبحانه وتعالى (2) . وكثير من الفرس دخلوا في الإسلام ولم يتجردوا من كل عقائدهم السابقة التي توارثوها أجيالاً، وبمرور الزمان صبغوا آراءهم القديمة بصبغة إسلامية، فنظرة الشيعة إلى علي وأبنائه هي نظرة آبائهم الأولين إلى الملوك الساسانيين.
__________
(1) ابن حزم/ الفصل: 2/273، وانظر: المقريزي/ الخطط: 2/362
(2) انظر: محمد أبو زهرة/ تاريخ المذاهب الإسلامية: 1/37، أحمد أمين/ فجر الإسلام: ص277، عرفان عبد الحميد/ دراسات في الفرق: 23، فلهوزن/ أحزاب المعارضة السياسية الدينية في صدر الإسلام: ص 168، فلوتن/ السيادة العربية: ص 76(1/84)
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "إنا نعتقد أن الشيعة قد تأثروا بالأفكار الفارسية حول الملك والوراثة، والتشابه بين مذهبهم ونظام الملك الفارسي واضح، ويزكي هذا أن أكثر أهل فارس من الشيعة، وأن الشيعة الأولين كانوا من فارس" (1) .
الثالث: حينما فتح المسلمون بلاد الفرس تزوج الحسين بن علي - رضي الله عنه - ابنه يزدجرد أحد ملوك إيران، بعدما جاءت مع الأسرى فولدت له علي بن الحسين، وقد رأى الفرس في أولادها من الحسين وارثين لملوكهم الأقدمين، ورأوا أن الدم الذي يجري في عرق علي بن الحسين وفي أولاده دم إيراني من قبل أمه ابنة يزدجرد والذي من هو من سلالة الملوك الساسانيين المقدسين عندهم (2) ، أضف إلى ذلك أن اسم فاطمة - فيما يقال - اسم مقدس عند الفرس، لأن لها مقاماً محموداً في تاريخ الفرس القديم (3) .
الرابع: وتلمح الأصل الفارسي أيضاً في روايات عديدة عند الاثني عشرية، تفرد سلمان الفارسي - رضي الله عنه وبرأه الله مما يفترون - بخصائص وصفات فوق مرتبة البشر، حيث جاء في أخبارهم: "أن سلمان باب الله في الأرض، من
__________
(1) محمد أبو زهرة/ تاريخ المذاهب الإسلامية: 1/38
(2) انظر في أن أم علي بن الحسين هي ابنة يزدجرد: تاريخ اليعقوبي: 2/247، صحيح الكافي: 1/53. وانظر في أثر ذلك: سميرة الليثي/ الزندقة والشعوبية: ص 56، عبد الله الغريب/ وجاء دور المحبوس: ص 77، النشار/ نشأة الفكر الفلسفي: 2/11، عبد الرزاق الحصان/ المهدي والمهدوية: ص 82، رونلدسن/ عقيدة الشيعة: ص101
(3) لأن لفاطمة أثراً جميلاً - كما يعتقدون - في الكشف عن سمرديس المجوسي الذي استولى على عرش الكيانيين، فكانت فاطمة بطلة، وكانت فاطمة مقدسة، ولولاها لما علم شيء من أمر سمرديس المجوسي هذا، ولولاها لما دبر أبوها أوتانس وصحبه مؤامرة عليه. (انظر: عبد الرزاق الحصان/ المهدي والمهدوية: ص 84، عن هيرودوتس: 2/462، المقدسي/ البدء والتاريخ: 4/134، 6/95)(1/85)
عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً" (1) . وهذا الوصف لسلمان اعتاد الشيعة في رواياتهم على إطلاقه على أئمتهم الاثني عشر، كما أثبتت رواياتهم بأن سلمان "يبعث الله إليه ملكاً ينقر في أذنه يقول كيت وكيت" (2) . و"عن الحسن عن منصور قال: قلت للصادق - عليه السلام -: أكان سلمان محدثاً؟ قال: نعم. قلت: من يحدثه؟ قال: ملك كريم. قلت: إذا كان سلمان كذا فصحابه أي شيء هو؟ قال: أقبل على شأنك" (3) . فهي تثبت الوحي لسلمان وتوحي بأن صاحبه وهو علي فوق ذلك؟! بل أثبتت أخبارهم لسلمان علم الأئمة والأنبياء، كما جعلت له أمر الإمام والنبي، فقالت: " ... سلمان أدرك علم الأول وعلم الآخر" ثم فسرت ذلك، فقالت: "يعني علم النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم علي، وأمرالنبي صلى الله عليه وسلم وأمر علي" (4) .
وجاء في رواياتهم أن سلمان أحد الشيعة الذين بهم - كما يفترون "ترزقون، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون" (5) . بل بلغ الغلو ببعض الفرق الشيعية أن قالت بتأليه سلمان، وقد وجدت هذه الفرقة في عصر أبي الحسن الأشعري (المتوفى سنة 330هـ) ، وأشار إليها في مقالاته حيث قال: "وقد قال في عصرنا هذا قائلون بألوهية سلمان الفارسي" (6) . وقد تكون هذه الروايات في كتب الاثني عشرية هي من آثار هذه الفرقة، لأن كتب الاثني عشرية قد استوعبت معظم آراء الفرق الشيعية بكل ما فيها من شذوذ.. وبقاؤها في كتبهم قد يؤذن بخروج طوائف منها مرة أخرى.
بل نلحظ أن هناك اتجاهاً داخل الدوائر الشيعية لتعظيم بعض العناصر
__________
(1) رجال الكشي: ص 15
(2) رجال الكشي: 16
(3) رجال الكشي: ص 19
(4) رجال الكشي: ص 16
(5) رجال الكشي: ص 6-7
(6) مقالات الإسلاميين: 1/80(1/86)
الفارسية التي شاركت في التآمر والكيد ضد دولة الخلافة الراشدة وهو أبو لؤلؤة الفارسي المجوسي قاتل الخليفة العظيم عمر بن الخطاب، فقد أطلق عليه عندهم "بابا شجاع الدين" (1) .، واعتبروا يقوم مقتل عمر - رضي الله عنه - بيد هذا المجوسي عيداً من أعيادهم، وقد ساق شيخهم الجزائري روايات لهم في ذلك (2) .، كما يعظمون يوم النيروز، كفعل المجوس (3) ، وقد اعترفت أخبارهم بأن يوم النيروز من أعياد الفرس (4) .
القول بأن المذهب الشيعي مباءة للعقائد الآسيوية القديمة:
ويضيف البعض أن المذهب الشيعي كان مباءة ومستقراً للعقائد الآسيوية القديمة كالبوذية وغيرها (5) . يقول الأستاذ أحمد أمين: "وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح (6) .، وتجسيم الله (7) ، والحلول (8) . ونحو ذلك من الأقوال التي كانت
__________
(1) انظر: عباس القمي/ الكنى والألقاب: 2/55
(2) انظر: الأنوار النعمانية: 1/108
(3) انظر: الأعلمي/ مقتبس الأثر: 29/202-203، المجلسي/ بحار الأنوار، باب عمل يوم النيروز: 98/419، وانظر: وسائل الشيعة، باب استحباب صوم يوم النيروز والغسل فيه، ولبس أنظف الثياب والطيب: 7/346
(4) انظر: بحار الأنوار: 48/108
(5) انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة: 1/37
(6) تناسخ الأرواح: انتقال الروح بعد الموت من بدن إلى آخر؛ إنساناً أو حيواناً. قال بهذه النظرية بعض الهنود، وفيثاغورس من اليونان، وتسربت للعالم الإسلامي. (انظر: المعجم الفلسفي ص 55، التعريفات للجرجاني: ص93)
(7) المقصود وصف الله جل شأنه بصفات المخلوقين، وقد وجد هذا عند طوائف من الشيعة كالهشامية أتباع هشام بن الحكم وغيرها - كما سيأتي - أما لفظ الجسم فإن للناس فيه أقوالاً متعددة اصطلاحاً غير معناه اللغوي.
انظر في ذلك: ابن تيمية/ التدمرية: ص 32-33 (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام - ج) منهاج السنة: 2/97 وما بعدها، 2/145 وما بعدها، درء تعارض العقل والنقل: 1/118-119، التعريفات للجرجاني: ص 103
(8) الحلول: هو الزعم بأن الإله قد يحل في جسم عدد من عباده، أو بعبارة أخرى أن اللاهوت يحل في الناسوت (المعجم الفلسفلي: ص 76)(1/87)
معروفة عند البراهمة (1) . والفلاسفة والمجوس (2) . قبل الإسلام" (3) . ويشير بعض المستشرقين إلى تسرب الكثير من العقائد غير الإسلامية إلى الشيعة ويقول: "إن تلك العقائد انتقلت إليها من المجوسية، والمانوية (4) .، والبوذية وغيرها من الديانات التي كانت سائدة في آسيا قبل ظهور الإسلام" (5) .
ويذكر صاحب مختصر التحفة: "أن مذهب الشيعة له مشابهة تامة مع فرق اليهود والنصارى والمشركين والمجوس"، ثم يذكر وجه شبه المذهب الشيعي بكل طائفة من هذه الطوائف (6) .
كما يذكر البعض أنه تتبع مذاهب الشيعة فوجد عندها كل المذاهب والأديان التي جاء الإسلام لمحاربتها (7) .
__________
(1) البراهمة: هم المنتسبون إلى رجل مهم يقال له: براهم (الملل والنحل: 2/251) أو: برهام من ملوك الفرس (المنية والأمل: ص 72) . يقرون بالله، ويجحدون الرسل.. وهم فرق مختلفة (انظر نفس الموضع من المصدرين السابقين)
(2) المجوس: هم عبدة النار، ويقولون بأصلين؛ أحدهما: النور، والآخر: الظلمة. والنور أزلي، والظلمة محدثة. ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين، إحداهما: بيان سبب امتزاج النور بالظلمة، والثانية: بيان سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاج مبدأ، والخلاص معاداً. (انظر: الملل والنحل: 1/232 وما بعدها، الرازي/ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 134، وانظر: أخبار أمم المجوس/ الكسندر سيبيل)
(3) فجر الإسلام: ص 277
(4) المانوية: أصحاب ماني بن فاتك، كان في الأصل مجوسياً، ثم أحدث ديناً بين المجوسية والنصرانية، وقد خالفته المجوس وسعت في قتله، حتى قتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى - عليه السلام - وبقي مذهبه في أتباعه. والمانوية يقولون بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما، وأن النور خير من الظلمة وهو الإله المحمود.
(انظر: الملل والنحل: 1/244 وما بعدها، المنية والأمل: ص 60، شرح الطحاوية: ص 18، الرازي/ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: ص 138)
(5) فلوتن/ السيادة العربية: ص 83-84
(6) انظر: مختصر التحفة ص 298 وما بعدها
(7) انظر: بركات عبد الفتاح/ الواحدانية: ص 125(1/88)
الرأي المختار في أصل التشيع:
والذي أرى أن التشيع المجرد من دعوى النص والوصية ليس هو وليد مؤثرات أجنبية، بل إن التشيع لآل البيت وحبهم أمر طبيعي، وهو حب لا يفرق بين الآل، ولا يغلو فيهم، ولا ينتقص أحداً من الصحابة، كما تفعل الفرق المنتسبة للتشيع، وقد نما الحب وزاد للآل بعدما جرى عليهم من المحن والآلام بدءاً من مقتل علي، ثم الحسين.. إلخ.
هذه الأحداث فجرت عواطف المسلمين، فدخل الحاقدون من هذا الباب، ذلك أن آراء ابن سبأ لم تجد الجو الملائم؛ لتنمو وتنتشر إلا بعد تلك الأحداث.. لكن التشيع بمعنى عقيدة النص على علي، والرجعة، والبداء، والغيبة، وعصمة الأئمة.. إلخ فلا شك أنها عقائد طارئة على الأمة، دخيلة على المسلمين، ترجع أصولها لعناصر مختلفة، ذلك أنه قد ركب مطية التشيع كل من أراد الكيد للإسلام، وأهله، وكل من احتال ليعيش في ظل عقيدته السابقة باسم الإسلام، من يهودي، ونصراني، ومجوسي، وغيرهم. فدخل في التشيع كثير من الأفكار الأجنبية والدخيلة - كما سيتبين في الدراسة الموسعة لأصولهم -، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن المنتسبين للتشيع قد أخذوا من مذاهب الفرس والروم، واليونان، والنصارى، واليهود، وغيرهم أموراً مزجوها بالتشيع، ويقول: وهذا تصديق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وساق بعض الأحاديث الواردة في أن هذه الأمة ستركب سنن من كان قبلها، وقال بأن هذا بعينه صار في المنتسبين للتشيع (1) .
__________
(1) منهاج السنة: 4/147، وانظر الأحاديث في ذلك في: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم": 8/151، وفي صحيح مسلم، كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" رقم (2669) ، المسند 2/450-511، 527.(1/89)
فرق الشيعة
حفلت كتب المقالات والفرق بذكر فرق الشيعة وطوائفهم (1) ، فبعد وفاة كل إمام من الأئمة عند الشيعة تظهر فرق جديدة، وكل طائفة تذهب في تعيين الإمام مذهباً خاصاً بها.. وتنفرد ببعض العقائد والآراء عن الطوائف الأخرى، وتدعي أنها هي الطائفة المحقة.
وهذا الاختلاف والتفرق كان محل شكوى وتذمر من الشيعة نفسها، قال أحد الشيعة لإمامه - كما في رجال الكشي -: "جعلني الله فداك، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ فقال: وأي الاختلاف؟. فقال: إني لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أشك في اختلافهم في حديثهم.. فقال: أبو عبد الله أجل هو كما ذكرت أن الناس أولعوا بالكذب علينا، وإني أحدث أحدهم بالحديث، فلا يخرج من عندي، حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله، وإنما يطلبون الدنيا، وكل يحب أن يدعى رأساً" (2) .
فيدل هذا النص على أن حب الرياسة، ومتاع الدنيا الزائل كان وراء تشيع الكثيرين، وأن هؤلاء أولعوا بالكذب على آل البيت.. ولهذا كثر الخلاف والتفرق.
وقد ذكر المسعودي وهو شيعي (3) . أن فرق الشيعة بلغت ثلاثاً وسبعين
__________
(1) والملفت للنظر هو كثرة هذه الفرق، وتعددها بدرجة كبيرة حتى تكاد تنفرد الشيعة بهذه السمة، أو قل: بهذا البلاء
(2) رجال الكشي: ص 135-136، بحار الأنوار: 2/246
(3) علي بن الحسين بن علي المسعودي المؤرخ. قال ابن حجر: كتبه طافحة بأنه كان شيعياً معتزلياً، ويعتبره الاثنا عشرية - في تراجمهم - من شيوخهم. توفي سنة (346هـ)(1/90)
فرقة (1) . وكل فرقة تكفر الأخرى، ولهذا زعم الرافضي مير باقر الداماد (2) . أن الفرق المذكورة في حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة (3) . هي فرق الشيعة وأن الناجية منها هي طائفته الإمامية (4) ، وأما أهل السنة والمعتزلة وغيرهم من سائر الفرق فجعلهم من أمة الدعوة، أي ليسوا من أمة الإجابة، فهم في اعتقاده
__________
(1) مروج الذهب: 3/221، وانظر: الرازي/ اعتقادات فرق المسلمين: ص 85
(2) محمد باقر بن محمد الاسترابادي الشهير بداماد، من شيوخ الشيعة في الدولة الصفوية. توفي سنة (1040هـ) مترجم له في: الكنى والألقاب: 2/206، المحبي/ خلاصة الأثر: ص 301، الحكيمي/ تاريخ العلماء: ص 83
(3) حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: حديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد (الفتاوى 3/345 جمع عبد الرحمن بن قاسم) . وقال المقبلي: حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة رواياته كثيرة يشد بعضها بعضاً بحيث لا يبقى ريبة في حاصل معناها (العلم الشامخ: ص 414) . ويلحظ أن أحاديث افتراق الأمة: منها ما لا نص فيه على الهالك، وهذه قد أخرجها أكثر المحدثين منهم أصحاب السنن إلا النسائي وغيرهم، ومنها ما فيه بيان أن واحدة ناجية والباقين هلكى، وهذه لم يخرجها من أصحاب السنن إلا أبو داود في كتاب السنة رقم (4573) وأخرجها الدارمي: 2/241، وأحمد: 4/102، والحاكم: 1/128، والآجري في الشريعة: ص18. ومنها: ما يحكم بنجاة كل الفرق سوى واحدة وهي الزنادقة، وهذه قد حكم عليها علماء الحديث بأنها موضوعة.
انظر: كشف الخفاء: 1/369، والأسرار المرفوعة: ص 161.
وكما أخرج أهل السنة حديث افتراق الأمة، فقد رواه الشيعة أيضاً بلفظ: "إن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون ويتخلص فرقة، قالوا: يا رسول الله، ومن تلك الفرقة؟ قال: الجماعة الجماعة الجماعة"، وبلفظ آخر: "إن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة ناجية، واثنتان وسبعون في النار" (انظر: ابن بابويه القمي/ الخصال: 2/584-585) .
وليس في رواياتهم هذا التصريح بأن هذه الفرق كلها من الشيعة، كما فيها تصريح بأن الناجية الجماعة وليست الشيعة
(4) جمال الدين الأفغاني/ التعليقات على شروح الدّوّاني للعقائد العضدية (ضمن كتاب الأعمال الكاملة للأفغاني دراسة وتحقيق: محمد عمارة: 1/215) ، وقد نسب رشيد رضا هذا الكتاب لمحمد عبده (تفسير المنار: 8/221) ، لكن حقق محمد عمارة أنه للأفغاني (انظر: محمد عمارة/ الأعمال الكاملة للأفغاني: 1/155-156، الأعمال الكاملة/ لمحمد عبده: 1/209)(1/91)
لم يدخلوا في الإسلام. وهذه المقالة قد قالها الشيعة من قبل وأشار إلى ذلك الشهرستاني (1) ، والرازي (2) .
وقد ورد في دائرة المعارف: أنه ظهر من فروع الفرق الشيعية ما يزيد كثيراً عن الفرق الاثنين والسبعين فرقة المشهورة (3) ، بينما يذكر المقريزي أن فرق الشيعة بلغت ثلاثمائة فرقة (4) .
ومرد هذا الاختلاف في الغالب هو اختلافهم حول الأئمة من آل البيت فيذهبون مذاهب شتى في أعيان الأئمة، وفي عددهم، وفي الوقف على أحدهم وانتظاره، أو المضي إلى آخر والقول بإمامته.. فضلاً عما تباينوا فيه من التفريع أو تنازعوا فيه من التأويل، ولهذا قال العلامة ابن خلدون بعدما ساق اختلافهم في تعيين الأئمة: "وهذا الاختلاف العظيم يدل على عدم النص" (5) . أي يدل على أنهم ليسوا على شيء فيما ذهبوا إليه من دعوى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على عليّ والأئمة الآخرين.. إذ لو كان من عند الله لما كان هذا الاختلاف والتباين، ولكن لما وجدوا اختلافاً كثيراً كان من أعظم الأدلة على عدم وجود نص صحيح، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (6) .
وأمر الإمامة عندهم هو أصل الدين، فلا يقبل فيها الخلاف، كما يقبل في الفروع. وقد عدّ شيخ الشيعة الزيدية في زمنه أحمد بن يحيى المترضى (7) . (المتوفى سنة 840هـ) اختلاف الشيعة عند موت كل إمام في القائم بعده أوضح
__________
(1) الملل والنحل: 1/165
(2) الرازي: اعتقادات فرق المسلمين: ص 85
(3) دائرة المعارف الإسلامية: 14/67
(4) الخطط: 2/315
(5) ابن خلدون/ لباب المحصل: ص 130
(6) النساء، آية: 82
(7) وهو من كبار شيوخ الشيعة الزيدية حتى كانت مصنفاته الفقهية عمدة زيدية اليمن، ومن المنتسبين لأهل البيت. (انظر: الشوكاني/ البدر الطالع: 1/122)(1/92)
دليل على إبطال ما يدعون من النص (1) .
وإذا رجعنا إلى كتب الفرق - أو غيرها - التي ذكرت طوائف الشيعة، فإننا نجد بينها اختلافاً في الأصول التي انبثقت منها صنوف الفرق الشيعية الكثيرة والمختلفة، فالجاحظ يرى أن الشيعة فرقتان: الزيدية والرافضة: يقول: "اعلم رحمك الله أن الشيعة رجلان: زيدي، ورافضي، وبقيتهم بدد لا نظام لهم" (2) . ويأخذ بهذا التقسيم شيخ الشيعة المفيد، ويقول: بأن الشيعة رجلان: إمامي، وزيدي (3) .
أما الإمام الأشعري - رحمه الله - فيجعل أصول فرق الشيعة ثلاث فرق: الغالية، والرافضة (الإمامية) ، والزيدية. ويبلغ مجموع الفرق الشيعية عنده خمساً وأربعين فرقة، حيث جعل الغالية خمس عشرة فرقة، والرافضة أربعاً وعشرين فرقة، والزيدية ست فرق (4) . وهو يعتبر الاثني عشرية من فرق الرافضة (الإمامية) ويسميها بالقطعية، ويصفهم بأنهم جمهور الشيعة (5) .
وقد سار على منهج الأشعري في تقسيم فرق الشيعة الرئيسة إلى ثلاث.. طائفة من كتاب الفرق وغيرهم مثل: الرازي حيث سماها زيدية، وإمامية، وكيسانية (6) . ومثل الإسفرايني، وكذلك ابن المرتضى حيث قال: والشيعة ثلاث: زيدية، وإمامية، وباطنية (7) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية الذي صنف الشيعة إلى ثلاث درجات، شرها الغالية، وهم الذين يجعلون لعلي شيئاً من الألوهية،
__________
(1) المنية والأمل: ص 21
(2) ثلاث رسائل للجاحظ (نشرها السندوبي) ص: 241. أو رسائل الجاحظ، رسالة استحقاق الإمامة ص 207 (تحقيق عبد السلام هارون)
(3) الإرشاد: ص 195
(4) مقالات الإسلاميين: 1/66، 88، 140
(5) المصدر السابق: 1 /90
(6) اعتقادات فرق المسلمين: ص 77
(7) المنية والأمل: ص 20، وانظر المقدسي/ البدء والتاريخ: 5/125(1/93)
أو يصفونه بالنبوة.. والدرجة الثانية وهم الرافضة.. والدرجة الثالثة المفضلة من الزيدية وغيرهم الذين يفضلون علياً على أبي بكر وعمر، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهما (1) . وغير هؤلاء من أهل العلم بالفرق والمقالات (2) .
أما عبد القاهر البغدادي فيرجع فرق الشيعة إلى أربع فرق: زيدية، وإمامية، وكيسانية، وغلاة، ويلقب الجميع بالرافضة (3) ، ويصل عدد فرق الشيعة عنده - باستثناء الفرق الغالية (4) . - إلى عشرين فرقة (5) . ويعتبر الاثني عشرية من فرق الإمامية، ويسميهم بالقطعية، كما يسميهم بالاثني عشرية (6) . وإن كان قبل ذلك ذكر القطعية والاثني عشرية كاسمين لفرقتين مختلفتين من فرق الإمامية (7) . لا فرقة واحدة (8) .
أما الشهرستاني فيرى أن الشيعة فرق كثيرة، لأنه يقول: "لهم في تعدية الإمام كلام وخلاف كثير، وعند كل تعدية وتوقف: مقالة، ومذهب، وخبط" (9) . ولكنه يرجعهم إلى خمس فرق: كيسانية، وزيدية، وإمامية، وغلاة، وإسماعيلية" (10) .
__________
(1) ابن تيمية / التسعينية: ص 40 ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام، المجلد (5) ط. كردستان 1329هـ
(2) انظر: زين العابدين بن يوسف الأسكوبي حيث قال: "أما الشيعة فهم اثنتان وعشرون فرقة، أصولهم ثلاث فرقة: غلاة، وزيدية، وإمامية" (الرد على الشيعة - الورقة 9 "مخطوط")
(3) الفرق بين الفرق: ص 21
(4) حيث وصل عدد الغلاة عنده إلى عشرين فرقة (الفرق بين الفرق: ص 232)
(5) الفرق بين الفرق: ص 23
(6) المصدر السابق: ص 64
(7) المصدر السابق: 53
(8) ولهذا أشار محيي الدين عبد الحميد إلى أن سرد البغدادي في الفرق بين الفرق يدل على أن الاثني عشرية غير القطعية (هامش مقالات الإسلاميين: 1/90) وفاته أن البغدادي نص على أن القطعية والاثني عشرية فرقة واحدة. (الفرق بين الفرق: ص 64)
(9) الملل والنحل: 1/147
(10) نفس الموضع من المصدر السابق(1/94)
أما صاحب الحور العين فيرجع الفرق الشيعية الكثيرة إلى ست فرق (1) ، ويصل عدد فرق الشيعة عند ابن قتيبة إلى ثمان (2) .
وأبو الحسين الملطي يرى أن الشيعة ثماني عشرة فرقة، ويلقبهم جميعاً بالرافضة (3) ، ويشايعه في هذا الرأي السكسكي في كتابه البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (4) . ولكن الغريب أن الملطي يسمي الاثني عشرية بالإسماعيلية (5) .
وابن الجوزي يعتبر الشيعة اثنتي عشرة فرقة، ويسميها بالرافضة (6) ، ويوافقه على هذا التقسيم الإمام القرطبي (7) .
والذي يلاحظ على إطلاق اسم الرافضة على كل فرق الشيعة هو أنه ينبغي استثناء الزيدية، أو بعبارة أدق استثناء الزيدية ما عدا فرقة الجارودية منها؛ لأن الجارودية سلكت مسلك الروافض، ولذلك فإن شيخ الشيعة المفيد اعتبر الجارودية هي الشيعة، وما عداها من فرق الزيدية، فليسوا بشيعة، وذلك لأن طائفة الجارودية هي التي تشاركه في أساس مذهبه في الرفض (8) .
أما كتب الفرق عند الشيعة الاثني عشرية فإنها تأخذ بمنهج آخر في ذكر الفرق، فهي تذكر فرق الشيعة حسب الأئمة حيث تجد أن الشيعة تفترق إلى فرق كثيرة بعد وفاة كل إمام، وقد وصل عدد فرق الشيعة في المقالات والفرق
__________
(1) الحور العين: ص 145
(2) ابن قتيبة/ المعارف: ص 622-623
(3) التنبيه والرد: ص 18
(4) البرهان: ص 36
(5) انظر: التنبيه والرد: ص 32-33
(6) تلبيس إبليس: ص 32 تحقيق خير الدين علي
(7) بيان الفرق/ الورقة 1 (مخطوط)
(8) انظر: المفيد/ أوائل المقالات ص: 39، وانظر عن الجارودية ص: (42) من هذه الرسالة هامش رقم (3)(1/95)
للقمي، وفرق الشيعة للنوبختي إلى ما يربو على ستين فرقة، ويلاحظ أن الاثني عشرية كانت عند النوبختي والقمي فرقة من أربع عشرة، أو خمس عشرة فرقة افترقت إليها الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري سنة (260هـ) (1) .
أما كتب الرواية عندهم فإن الكليني في الكافي يذكر رواية تجعل فرق الشيعة ثلاث عشرة فرقة كلها في النار إلا واحدة (2) .
هذا ودراسة نشأة الفرق الشيعية وتطورها يحتاج إلى بحث آخر، وهو أقرب إلى البحث التاريخي، فلا نستطرد في حكاية تفاصيله، ولكن من الملاحظ - كما سيأتي في عرض آراء وعقائد الاثني عشرية - أن طائفة الاثني عشرية قد استوعبت جل الآراء والعقائد التي قالت بها الفرق الشيعية الأخرى، وأنها كانت بمثابة النهر الذي انسكبت فيها كل الجداول والروافد الشيعية المختلفة، ودراسة هذه المسألة، دراسة مقارنة بين روايات الاثني عشرية وآراء الفرق الأخرى هو أيضاً يحتاج إلى دراسة مستقلة، وقد أشرت إلى بعض الوجوه في هذا الباب في رسالة الماجستير (3) .
فهذه الفرق لم تفن - كما يقال - بل إن أكثرها باق، وهو يطل علينا خلال الفكر الاثني عشري. وقد انحصرت الفرق الشيعية المعاصرة بثلاث فرق، هي (4) :
1- الاثنا عشرية.
__________
(1) انظر: النوبختي/ فرق الشيعة ص: 96 حيث ذكر أن أصحاب الحسن العسكري افترقوا أربع عشرة فرقة بعد وفاته، بينما ذكر القمي أنهم خمس عشرة فرقة. (القمي/ المقالات والفرق: ص102)
(2) أصول الكافي (المطبوع على هامش مرآة العقول) : 4/344، وقد حكم المجلسي على هذه الرواية - حسب مقاييسهم - بأنها ترتقي إلى درجة الحسن. (مرآة العقول: 4/344)
(3) انظر: فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة: ص 346 وما بعدها
(4) انظر: النشار/ نشأة الفكر الفلسفي: 2/12، العاملي/ أعيان الشيعة: 1/22، محمد مهدي شمس الدين/ نظام الحكم والإدارة في الإسلام: ص 61، هبة الدين الشهرستاني/ مقدمة فرق الشيعة: ص / كا(1/96)
2- الإسماعيلية (1) .
3-الزيدية (2) .
__________
(1) الإسماعيلية: وهم الذين قالوا: الإمام بعد جعفر إسماعيل بن جعفر، ثم قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنكروا أمامة سائر ولد جعفر، ومن الإسماعيلية انبثق القرامطة والحشاشون والفاطميون والدروز وغيرهم، وللإسماعيلية فرق متعددة وألقاب كثيرة تختلف باختلاف البلدان، إذ لهم - كما يقول الشهرستاني - دعوة في كل زمان، ومقالة جديدة بكل لسان، وأما مذهبهم فهو كما يقول الغزالي وغيره: "إنه مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض". أو كما يقول ابن الجوزي: "فمحصول قولهم تعطيل الصانع وإبطال النبوة والعبادات وإنكار البعث"، ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم. ولهم مراتب في الدعوة، وحقيقة المذهب لا تعطى إلا لمن وصل إلى الدرجة الأخيرة، وقد اطلع على أحوالهم وكشف أستارهم جملة من أهل العلم كالبغدادي الذي اطلع على كتاب لهم يسمى: "السياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأكبر" ورأى من خلاله أنهم دهرية زنادقة يتسترون بالتشيع، والحمادي اليماني الذي اندس بينهم وعرف حالهم وبين ذلك في كتابه: "كشف أسرار الباطنية"، وابن النديم الذي اطلع على "البلاغات السبعة" لهم وقرأ البلاغ السابع ورأى فيه أمراً عظيماً من إباحة المحظورات والوضع من الشرائع وأصحابها.. وغيرهم، ولهم نشاطهم اليوم، كما لهم كتبهم السرية. قال أحدهم: "إن لنا كتباً لا يقف على قراءتها غيرنا ولا يطلع على حقائقها سوانا" (مصطفى غالب/ الحركات الباطنية في الإسلام: ص 67، وانظر: أبو حاتم الرازي الإسماعيلي/ الزينة: ص 287 «ضمن كتاب الغلو والفرق الغالية» ، الغزالي/ فضائح الباطنية: ص 37 وما بعدها، الملل والنحل: 1/67، 191، البغدادي/ الفرق بين الفرق: ص294، 621، ابن النديم/ الفهرست: ص 267-268، الملطي/ التنبيه والرد: ص 218، المقدسي/ البدء والتاريخ: 5/124، الإسفرايني/ التبصير في الدين، ابن الجوزي/ تلبيس إبليس: ص 99، وانظر: الإسماعيلية: إحسان إلهي ظهير)
(2) الزيدية: وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (الملل والنحل: 1/154، مقدمة البحر الزخار: ص40) ، وسموا بالزيدية نسبة إليه (يحيى بن حمزة/ الرسالة الوازعة ص 28، السمعاني/ الأنساب: 6/340) ، وقد افترقوا عن الإمامية حينما سئل زيد عن أبي بكر وعمر فترضى عنهما فرفضه قوم فسموا رافضة.. وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدية لاتباعهم له وذلك في آخر خلافة هشام بن عبد الملك سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين (منهاج السنة: 1/21، الرسالة الوازعة: ص 87-88) والزيدية يوافقون المعتزلة في العقائد (انظر: المقبلي/ العلم الشامخ: ص 319، الملل والنحل: 1/162، الرازي/ المحصل: ص 247) . والزيدية فرق: منهم من لم يحمل من الانتساب إلى زيد إلا الاسم فهم روافض في الحقيقة =(1/97)
وطائفة الاثني عشرية هي أكبر الطوائف اليوم، كما كانت تمثل أكثرية الشيعة وجمهورها في بعض فترات التاريخ. فقد وصفهم طائفة من علماء الفرق ب"جمهور الشيعة"، وممن نعتهم بهذا: الأشعري (1) ، والمسعودي (2) ، وعبد الجبار الهمداني (3) ، وابن حزم (4) ، ونشوان الحميري (5) . وهذه الأغلبية للاثني عشرية ليست في كل العصور إذ نلاحظ - مثلاً - أن ابن خلدون يقرر أن شيعة محمد بن الحنفية كانت أكثر شيعة أهل البيت (6) . - أي: في عصرها - ثم لم تلبث أن تقلص أتباعها حتى اختفت، كذلك يقول البلخي - كما يحكي عنه صاحب الحور العين - أن الفطحية (7) . أعظم فرق الجعفرية وأكثرهم جمعاً (8) . - يعني في زمنه -.
__________
= يقولون: إن الأمة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غير علي، وهؤلاء الجارودية أتباع أبي الجارود - كما سبق -، ومنهم من يقترب من أهل السنة كثيراً وهم أصحاب الحسن بن صالح بن حي الفقيه القائلون بأن الإمامة في ولد علي - رضي الله عنه -، ويقول ابن حزم: "إن الثابت عن الحسن بن صالح هو أن الإمامة في جميع قريش، ويتولون جميع الصحابة إلا أنهم يفضلون علياً على جميعهم". (انظر: ابن حزم/ الفصل: 2/266، وانظر في اعتدال الزيدية الحقة في مسألة الصحابة: ابن الوزير/ الروض الباسم ص 49-50، المقبلي/ العلم الشامخ: ص 326) وانظر بحث عن الزيدية في: "فكرة التقريب" ص 146 وما بعدها
(1) مقالات الإسلاميين: 1/90
(2) مروج الذهب: 4/199
(3) المغني جالقسم الثاني ص 176
(4) الفصل: 5/38، 4/158
(5) الحور العين: ص 166
(6) تاريخ ابن خلدون: 3/172
(7) وهم أتباع عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق، وهو أكبر أولاد الصادق، وسموا الفطحية؛ لأن عبد الله كان أفطح الرأس، كما يدعون بالعمارية نسبة إلى رئيس لهم يعرف بعمار، وقد قال النوبختي بأنه مال إلى هذه الفرقة جل مشايخ الشيعة وفقهائها، ولكن عبد الله لم يعش بعد وفاة أبيه سوى سبعين يوماً فرجعوا عن القول بإمامته. (انظر: مسائل الإمامة ص 46، فرق الشيعة للنوبختي ص 77-78، مقالات الإسلاميين 1/102، الحور العين ص 163-164) . قال صاحب الزينة (أبو حاتم الرازي الإسماعيلي المتوفى سنة322هـ) : وقد انقرضت هذه الفرقة فليس أحد يقول بهذا القول، وعاش عبد الله بعد أبيه سبعين يوماً ولم يخلف ذكراً (الزينة: ص287) . ولعل هذا من أسباب انقراضها، وقد بقيت روايات أتباع هذا المذهب مدونة في كتب الاثني عشرية المعتمدة، كما سيأتي في فصل السنة
(8) الحور العين: ص 164(1/98)
ألقاب الشيعة الإمامية الاثني عشرية
من الألقاب التي يطلقها بعض كتاب الفرق والمقالات وغيرهم على الاثني عشرية ما يلي:
1- الشيعة:
لقب الشيعة في الأصل يطلق على فرق الشيعة كلها، ولكن هذا المصطلح اليوم إذا أطلق - في نظر جمع من الشيعة وغيرهم - لا ينصرف إلا إلى طائفة الاثني عشرية. وممن قال بهذا الرأي: شتروتمان (1) ، والطبرسي (2) ، وأمير علي (3) ، وكاشف الغطا (4) ، ومحمد حسين العاملي (5) ، وعرفان عبد الحميد (6) ، وغيرهم (7) .
وأقول بهذا الرأي، لا لأن الاثني عشرية يمثلون القاعدة الكبيرة من بين الفرق الشيعية فحسب، بل لسبب أهم - لم أر من تعرض بالدراسة والبيان، وبحثه يحتاج إلى دارسة مستقلة تعتمد على التحليل والمقارنة - وهو أن
__________
(1) انظر: دائرة المعارف الإسلامية: 14/68
(2) مستدرك الوسائل: 3/311
(3) يقول أمير علي: "أصبحت الاثنا عشرية مرادفة للشيعة". (روح الإسلام: 2/92)
(4) يقول الغطا: "يختص اسم الشيعة اليوم على إطلاقه بالإمامية"، وهو يعني بالإمامية الاثني عشرية، كما يدل عليه ما بعد هذه الجملة. (انظر: أصل الشيعة وأصولها: ص92)
(5) يقول العاملي: "بما أن الزيدية اليوم ومثلهم الإسماعيلية لا يعرفون إلا بهذين الانتسابين، وبما أن الفطحية والواقفية لا وجود لها في هذا العصر انحصر اسم الشيعة بالإمامية الاثني عشرية". (الشيعة في التاريخ ص 43)
(6) يقول عرفان: "مصطلح الشيعة إذا أطلق من غير تحديد وحصر لا يعني إلا المذهب الاثنا عشري". (مجلة كلية الدراسات الإسلامية، العدد الأول، 1387هـ ص 35)
(7) انظر مثلاً: السامرائي/ الغلو والفرق الغالية ص 82، أحمد زكي تفاحة/ أصول الدين وفروعه عند الشيعة: ص 21، إحسان إلهي ظهير/ الشيعة والتشيع ص 9(1/99)
مصادر الاثني عشرية في الحديث والرواية قد استوعبت معظم آراء الفرق الشيعية التي خرجت في فترات التاريخ المختلفة إن لم يكن كلها - كما سلف -، فأصبحت هذه الطائفة هي الوجه المعبر عن الفرق الشيعية الأخرى.
2- الإمامية:
هذا اللقب عند كثير من أصحاب الفرق والمقالات يطلق على مجموعة من الفرق الشيعية، ولكن تخصص فيما بعد عند جمع من المؤلفين وغيرهم بالاثني عشرية، ولعل من أول من ذهب إلى ذلك شيخ الاثني عشرية في زمنه "المفيد" في كتابه أوائل المقالات (1) ، وأشار السمعاني إلى أن ذلك هو المعروف في عصره فقال: "وعلى هذه الطائفة - يشير إلى الاثني عشرية - يطلق الآن الإمامية" (2) . وقال ابن خلدون: "وأما الاثنا عشرين فربما خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم" (3) . وأشار صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية إلى أن الاثني عشرية هي المتبادرة عند إطلاق لفظ الإمامية (4) . ويقول الشيخ زاهد الكوثري: "والمعروف أن الإمامية هم: الاثنا عشرية" (5) .
ويلاحظ أن كاشف الغطا - من شيوخ الشيعة المعاصرين - يستعمل لقب الإمامية بإطلاق على الاثني عشرية (6) ، ومن شيوخ الشيعة الآخرين من يرى أن الإمامية فرق، منهم الاثنا عشرية، والكيسانية، والزيدية، والإسماعيلية (7) . وبعدما عرفنا أن الإمامية صار لقباً من ألقاب الاثني عشرية نعرج على ما قيل في تعريفه:
__________
(1) أوائل المقالات: ص 44
(2) الأنساب: 1/344، ابن الأثير/ اللباب: 1/84، السيوطي/ لب الألباب في تحرير الأنساب، حرف الهمزة، لفظ إمامية
(3) تاريخ ابن خلدون: 1/201
(4) مختصر التحفة الاثني عشرية: ص 20
(5) الكوثري/ في تعليقاته على كتاب التنبيه والرد للملطي: ص 18
(6) أصل الشيعة وأصولها: ص 92
(7) محسن الأمين/ أعيان الشيعة: 1/21(1/100)
2- الإمامية:
ويقول شيخ الشيعة في زمنه المفيد: "الإمامية هم القائلون بوجوب الإمامة، والعصمة، ووجوب النص، وإنما حصل لهم هذا الاسم في الأصل لجمعها في المقالة هذه الأصول، فكل من جمعها فهو إمامي وإن ضم إليها حقاً في المذهب كان أم باطلاً، ثم إن من شمله هذا الاسم واستحقه لمعناه، قد افترقت كلمتهم في أعيان الأئمة وفي فروع ترجع إلى هذه الأصول وغير ذلك، فأول من شذ من فرق الإمامية الكيسانية" (1) .
فالمفيد هنا يجعل لقب الإمامية لقباً عاماً يشمل كل من قال بهذه الأركان الثلاثة التي ذكرها: الإمامة، العصمة، النص، ولكنه في كتاب آخر له يضيق نطاق هذا المصطلح حتى يكاد يقصره على طائفة الاثني عشرية حيث يقول: "الإمامية علم على من دان بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان، وأجب النص الجلي، والعصمة والكمال لكل إمام، ثم حصر الإمامة في ولد الحسين بن علي، وساقها إلى الرضا علي بن موسى - عليه السلام -" (2) .
فأنت تلاحظ أنه شرط هنا النص الجلي، بينما في الموضع السابق أطلق القول بالنص ليشمل الجلي والخفي، كما أنه أضاف هنا حصر الأئمة بولد الحسين، وسياق الإمامة فيهم إلى الرضا علي بن موسى، في حين أنه لم يشترط ذلك فيما سبق حتى أدخل فيهم الكيسانية (3) . وكأنه لاحظ هذا التغير في الرأي فقال: "لأنه وإن كان (أي لقب الإمامية) في الأصل علماً على من دان من الأصول بما ذكرناه دون التخصيص لمن قال في الأعيان بما وصفناه، فإنه قد انتقل عن أصله، لاستحقاق فرق من معتقديه ألقاباً، بأحاديث لهم بأقاويل أحدثوها، فغلبت عليهم
__________
(1) العيون والمحاسن: 2/91
(2) أوائل المقالات: ص 44
(3) سيأتي التعريف بها ص (180) من هذه الرسالة(1/101)
في الاستعمال، دون الوصف بالإمامية، وصار هذا الاسم في عرف المتكلمين وغيرهم من الفقهاء والعامة علماً على من ذكرناه" (1) .
وإذا تجاوزت تعريف المفيد هذا إلى كتب الفرق والمقالات الأخرى لاستطلاع آراء غير الشيعة في تعريف الإمامية نلاحظ أن أكثر مؤلفي الفرق لم يخصوا الإمامية بالاثني عشرية، بل كان لقب الإمامية عندهم أعم من ذلك وأشمل، فالشهرستاني يقول: "الإمامية هم القائلون بإمامة علي - رضي الله عنه - نصاً ظاهراً، وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين" (2) ، ومثله الأشعري حيث يقول: ".. وهم يدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي بن أبي طالب" (3) . ومن أصحاب الفرق من قال بأن "تسميتهم الإمامية" لأنهم يزعمون أن الدنيا لا تخلو عن إمام، إما ظاهراً مكشوفاً، وإما باطناً موصوفاً (4) . ولكن ابن المرتضى يقول: والإمامية "سميت بذلك لجعلها أمور الدين كلها للإمام، وأنه كالنبي، ولا يخلو وقت من إمام يُحتاج إليه في أمر الدين والدينا" (5) .
فمن هؤلاء من راعى في سبب التسمية مسألة النص، ومنهم من اعتبر في سبب التسمية قولهم بأن الدنيا لا تخلو من إمام، ومنهم من جمع إلى ذلك قولهم بأن أمور الدين كلها للإمام، وهي أقوال متقاربة يرجع بعضها إلى بعض.. ومصطلح الإمامية تظهر بعد شيوع مصطلح الشيعة، ويبدو أن ظهوره مرتبط ببدء الاهتمام الشيعي بمسألة الإمام والإمامة، وظهور الفرق الشيعية التي تقول بإمامة أفراد أهل البيت، وسيأتي بحث ذلك في موضوع الإمامة.
__________
(1) أوائل المقالات: ص 44
(2) الملل والنحل: 1/162
(3) مقالات الإسلاميين: 1/86
(4) عثمان بن عبد الله العراقي/ ذكر الفرق والضوال: ق 12 أ (مخطوط) ، وانظر مثل ذلك عند القرطبي في كتابه "بيان الفرق" ق2 ب (مخطوط) ، وانظر: شرح الاثنتين والسبعين فرقة: ق12 (مخطوط)
(5) المنية والأمل: 21(1/102)
وقد ذكر ابن أبي الحديد أن مقالة الإمامية - فضلاً عن لقبها - لم تشتهر إلا متأخرة. يقول ابن أبي الحديد: "لم تكن مقالة الإمامية ومن نحا نحوهم من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذ (يعني في العصر الأموي) على هذا النحو من الاشتهار" (1) .
3- الاثنا عشرية:
هذا المصطلح لا نجده في كتب الفرق والمقالات المتقدمة، فلم يذكره القمي (ت 299هـأو 301هـ) في "المقالات والفرق"، ولا النوبختي (ت 310هـ) في "فرق الشيعة"، ولا الأشعري (ت330هـ) في "مقالات الإسلاميين". ولعل أول من ذكره المسعودي (2) . . (ت349هـ) - (من الشيعة) . أما من غير الشيعة فلعله عبد القاهر البغدادي (ت429هـ) حيث ذكر أنهم سموا بالاثني عشرية لدعواهم أن الإمام المنتظر هو الثاني عشر من نسبه إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -" (3) .
قال الرافضي المعاصر محمد جواد مغنية: الاثنا عشرية نعت يطلق على الشيعة الإمامية القائلة باثني عشر إماماً تعينهم بأسمائهم (4) .
وظهور هذا الاسم كان بلا شك بعد ميلاد فكرة الأئمة الاثني عشر، والتي حدثت بعد وفاة الحسن العسكري (توفي سنة260هـ) حيث أنه: "قبل وفاة الحسن لم يكن أحد يقول بإمامة المنتظر إمامهم الثاني عشر، ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد ادعى إمامة الاثني عشر" (5) .
__________
(1) شرح نهج البلاغة: 4/522
(2) التنبيه والإشراف: ص 198
(3) الفرق بين الفرق: ص64
(4) الاثنا عشرية وأهل البيت: ص15
(5) منهاج السنة: 4/209(1/103)
ولكن يرى صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية أن زمن ظهور الإمامية الاثني عشرية، سنة مائتين وخمس وخمسين (1) .
ويبدو أنه عين هذا التاريخ بالذات، لأن تلك السنة (255هـ) هي التي زعمت الاثنا عشرية أنه ولد فيها إمامهم الثاني عشر (2) ، والذي يزعمون حياته إلى اليوم، وينتظرون خروجه، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يحدد التاريخ بسنة 260هـ؛ لأن دعوة وجود الإمام الثاني عشر المنتظر إنما ظهرت بعد وفاة الحسن العسكري (والذي توفي سنة 260هـ) .
أما الاثنا عشر الذي تقول الجعفرية بأنهم أئمتها، فهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والحسن والحسين، وذرية الحسين.
وفيما يلي بيان بأسمائهم وألقابهم، وكناهم، وسنة ميلاد كل إمام ووفاته:
__________
(1) انظر: مختصر التحفة: ص 21
(2) كما نص على ذلك الكل الكليني في الكافي: 1/514، والمفيد في الإرشاد ص390، والطبرسي في أعلام الورى: ص393. ونجد في الأعلام للزركلي: 2/215، والعقل عند الشيعة، رشدي عليان: ص56، وتاريخ الإمامية، عبد الله فياض: ص183، بأن الولادة المزعومة كانت سنة (256هـ)(1/104)
م ... اسم الإمام ... كنيته ... لقبه ... سنة ميلاده ووفاته
1 ... علي بن أبي طالب ... أبو الحسن ... المرتضى ... 23 قبل الهجرة، 40 بعد الهجرة
2-50هـ
2 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... الزكي ... 3-61هـ
3 ... الحسين بن علي ... أبو عبد الله ... الشهيد ... 38-95هـ
4 ... علي بن الحسين ... أبو محمد ... زين العابدين ... 57-114هـ
5 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الباقر ... 83-148هـ
6 ... جعفر بن محمد ... ابو عبد الله ... الصادق ... 128-183هـ
7 ... موسى بن جعفر ... أبو إبراهيم ... الكاظم ... 148-203هـ
8 ... علي بن موسى ... أبو الحسن ... الرضا ... 195-220هـ
9 ... محمد بن علي ... أبو جعفر ... الجواد ... 212-254هـ
10 ... علي بن محمد ... أبو الحسن ... الهادي ... 232-260هـ
11 ... الحسن بن علي ... أبو محمد ... العسكري ... يزعمون أنه ولد سنة 255 أو 256 هـ ويقولون بحياته إلى اليوم (1)
12 ... محمد بن الحسن ... أبو القاسم ... المهدي
__________
(1) انظر عن الاثنى عشر: الكليني/ أصول الكافي: 1/452 وما بعدها، المفيد/ الإرشاد، الطبري/ أعلام الورى، الأربلي/ كشف الغمة. وانظر: الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 90/91، الشهرستاني/ الملل والنحل: 1/169، ابن خلدون/ لباب المحصل: ص128 وغيرها.(1/105)
4- القطعية:
وهو من ألقاب الاثني عشرية عند طائفة من أصحاب الفرق، كالأشعري (1) . والشهرستاني (2) . والإسفراييني (3) . وغيرهم (4) . وهم يسمون بالقطعية؛ لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر الصادق (5) ، وهذا ما تذهب إليه الاثنا عشرية.
يقول المسعودي: "وفي سنة ستين ومائتين قبض أبو محمد الحسن بن علي.. وهو أبو المهدي المنتظر الإمام الثاني عشر عند القطعية من الإمامية" (6) ، ومنهم من يعتبر القطعية فرقة من فرق الإمامية وليس من ألقاب الاثني عشرية (7) .
5- أصحاب الانتظار:
يلقب الرازي الاثني عشرية بأصحاب الانتظار، وذلك لأنهم يقولون بأن الإمام بعد الحسن العسكري ولده محمد بن الحسن العسكري وهو غائب وسيحضر.. ويقول: وهذا المذهب هو الذي عليه إمامية زماننا (8) . والانتظار للإمام مما يشترك في القول به جمع من فرق الشيعة على اختلاف بينهم في تعيينه، ولا يختص به طائفة الاثني عشرية.
__________
(1) مقالات الإسلاميين: 1/90-91
(2) الملل والنحل: 1/169
(3) التبصير في الدين: 33
(4) انظر: الحور العين: ص 166
(5) انظر: القمي/ المقالات والفرق: ص 89، الناشئ الأكبر/ مسائل الإمامة ص47،الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/90، عبد الجبار الهمداني/ المغني ج20، القسم الثاني ص 176، المسعودي/ مروج الذهب: 3/221
(6) مروج الذهب: 4/199
(7) مختصر التحفة الاثني عشرية: ص 19-20. ولاشك أن القطعية هم أسلاف الاثني عشرية، وسموا بهذا بعد القطع بإمامة موسى، وافترقوا بذلك عن الإسماعيلية.. ولكن إذا لاحظنا أن الشيعة تختلف بعد موت كل إمام فإن فرقة القطعية قد حل بها هذا الانقسام.. وانفصل منها فرق لم تعتقد بالاثني عشر. أي أنه قد صار من فرق القطعية من لم يكن من الاثني عشرية، فالقطعية أعم من الاثني عشرية
(8) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: ص 84-85(1/106)
6- الرافضة:
ذهب جمع من العلماء إلى إطلاق اسم الرافضة على الاثني عشرية كالأشعري في المقالات (1) ، وابن حزم في الفصل (2) .
كما يلاحظ أن كتب الاثني عشرية تنص على أن هذا اللقب من ألقابها، وقد أورد شيخهم المجلسي في كتابه البحار - وهو أحد مراجعهم في الحديث - أربعة أحاديث من أحاديثهم في مدح التسمية بالرافضة (3) ، وكأنهم أرادوا تطييب نفوس أتباعهم بتحسين هذا الاسم لهم، ولكن في هذه الأحاديث ما يفيد أن الناس بدأوا يسمونهم بالرافضة من باب الذم لا المدح، ولا تجيب هذه المصادر الشيعية عن سبب تسمية الناس لهم بهذا الاسم على سبيل الذم والسب لهم (4) . ولكن
__________
(1) انظر: مقالات الإسلاميين: 1/88
(2) الفصل: 4/157-158
(3) ذكرها المجلسي في باب سماه: "باب فضل الرافضة ومدح والتسمية بها". ومن أمثلة ما ذكره في هذا الباب: عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر - عليه السلام -: جعلت فداك، اسم سمينا به استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا، قال: وما هو؟ قلت: الرافضة، فقال جعفر: إن سبعين رجلاً من عسكر موسى - عليهم السلام - فلم يكن في قوم موسى أشد اجتهاداً وأشد حباً لهارون منهم، فسماهم قوم موسى الرافضة، فأوحى الله إلى موسى أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني نحلتهم، وذلك اسم قد نحلكموه الله.
(البحار: 68/96-97، وانظر أيضاً: تفسير فرات: ص 139، البرقي/ المحاسن: ص157، الأعلمي/ دائرة المعارف: 18/200)
(4) هناك رأي يقول بأن أول من أطلق اسم الرافضة المغيرة بن سعيد، والذي تنسب إليه طائفة المغيرية، وقد قتله خالد القسري سنة (119هـ) وذلك أنه بعد وفاة محمد الباقر، مال إلى إمامة النفس الزكية (محمد بن عبد الله بن الحسن) وأظهر المقالة بذلك فبرئت منه شيعة جعفر بن محمد فسماهم الرافضة.
(انظر: القمي/ المقالات والفرق: ص 76-77، النوبختي/ فرقة الشيعة: ص62-63، القاضي عبد الجبار/ المغني جالقسم الثاني ص 179) .
ويبدو أن مصدر هذا الزعم هو الرافضة، وقد أشار إلى ذلك الطبري فقال: "فهم اليوم يزعمون أن الذي سماهم رافضة المغيرة حيث فارقوه" (تاريخ الطبري: 7/181) ، وقد عد عبد الله فياض الرواية المنسوبة للمغيرة من تسميته الشيعة بالرافضة ضعيفة لا تصمد للنقد، إذ لو كان الذي سماهم بذلك هو المغيرة لم يوجب =(1/107)
المصادر الأخرى تذكر أن ذلك لأسباب تتعلق بموقفهم من خلافة الشيخين، يقول أبو الحسن الأشعري: "وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر" (1) .
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية قول الأشعري هذا وعقب عليه بقوله: "قلت: الصحيح أنهم سموا رافضة لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك" (2) . وهذا الرأي لابن تيمية يعود لرأي الأشعري، لأنهم ما رفضوا زيداً إلا لما أظهر مقالته في الشيخين ومذهبه في خلافتهما (3) ، فالقول بأنهم سموا رافضة لرفضهم زيداً أو لرفضهم مذهبه ومقالته مؤداهما- في نظري - واحد. إلا أن شيخ الإسلام راعى الناحية التاريخية، في ملاحظته على الأشعري، ذلك أن رفض إمامة أبي بكر وعمر قد وجدت عند بعض فرق الشيعة كالسبئية ونحوها قبل خلافهم مع زيد، ولكن لم يلحقهم هذا الاسم (الرافضة) ولم يوجد إلا بعدما أعلنوا مفارقتهم لزيد لترضيه عن الشيخين وتسمية زيد لهم بالرافضة.
هذا وهناك أقوال أخرى في سبب تسميتهم بالرافضة (4) . على أن هناك من
__________
= ذلك حنق الشيعة، واستحلال الولاة لدمائهم كما تذكره رواية الشيعة (تاريخ الإمامية: ص75)
(1) مقالات الإسلاميين: 1/89، وانظر أيضاً في سبب التسمية بالرافضة: الشهرستاني/ الملل والنحل: 1/155، الرازي/ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص77، والإسفراييني/ التبصير في الدين ص34، الجيلاني/ الغنية: 1/76، ابن المرتضى/ المنية والأمل ص:21
(2) منهاج السنة: 2/130
(3) راجع: تاريخ الطبري: 7/180-181، ابن الأثير/ الكامل: 4/246، ابن كثير/ البداية والنهاية: 9/329-330، ابن العماد الحنبلي/ شذرات الذهب: 1/158، تاريخ ابن خلدون: 3/99
(4) فقيل: "سموا رافضة".. لتركهم نصرة النفس الزكية (ابن المرتضى/ المنية والأمل: ص21، وانظر هامش رقم 1 ص 111) ، وقيل: لتركهم محبة الصحابة (علي القاري/ شم العوارض في ذم الروافض، الورقة 254ب (مخطوطة) ، وقيل: لرفضهم دين الإسلام (انظر: الإسكوبي/ الرد على الشيعة: الورقة 23 (مخطوط) ، وانظر: محي الدين عبد الحميد/ هامش مقالات الإسلاميين: 1/89)(1/108)
أصحاب الفرق من أطلق اسم الرافضة على عموم فرق الشيعة (1) .
7- الجعفرية:
وتسمى الاثنا عشرية بالجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق إمامهم السادس - كما يزعمون - وهو من باب التسمية للعام باسم الخاص. روى الكشي أن: شعية جعفر في الكوفة (أو من يدعون التشيع لجعفر) سموا بالجعفرية، وأن هذه التسمية نقلت إلى جعفر فغضب ثم قال: "إن أصحاب جعفر منكم لقليل، إنما أصحاب جعفر من اشتد ورعه وعمل لخالقه" (2) .
وقد جاء في الكافي ما يدل على أن الناس كانوا يطلقون على من يدعي التشيع لجعفر الصادق "جعفري خبيث"، وأن بعض الشيعة اشتكى من ذلك لجعفر فأجابه: "ما أقل والله من يتبع جعفراً منكم، إنما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي" (3) . فهذا يدل - إن صحت الرواية - على أن اسم الجعفرية كان شائعاٌ ي زمن جعفر، وأن جعفر لا يرضى عنه الكثيرين منهم، كما يدل على أن لقب الجعفري كان يطلق على الإسماعيلية والاثني عشرية، لأن الافتراق بين الطائفتين تم بعد وفاة جعفر.
وقد أطلق اسم "الجعفرية" على طائفة من الشيعة انقرضت كانت تقول بأن الإمام بعد الحسن العسكري أخوه جعفر (4) . وهناك ألقاب أخرى للاثني عشرية تطلق عليهم في بعض البلدان (5) .
__________
(1) كالبغدادي في الفرق بين الفرق، والإسفرايين في التبصير في الدين، والملطي في التنبيه والرد، والسكسكي في البرهان في عقائد أهل الأديان وغيرهم. وانظر الملاحظة على ذلك: ص (117)
(2) رجال الكشي: ص 255
(3) أصول الكافي: 2/77
(4) الرازي/ اعتقادات فرق المسلمين ص: 84، مختصر التحفة الاثني عشرية: ص21
(5) مثل لقب "المتاولة" يطلق في الأعصار الأخيرة على شيعة جبل عامل وبلاد بعلبك وجبل لبنان وهو جمع متوالي إلى اسم فاعل من توالي، مأخوذ من الولاء والموالاة وهي الحب =(1/109)
الخاصة:
وهو لقب يطلقه شيوخ الشيعة على طائفتهم، ويلقبون أهل السنة والجماعة بالعامة.
جاء في دائرة المعارف الشيعية ما نصه: "الخاصة في اصطلاح بعض أهل الدارية: الإمامية الاثنا عشرية، والعامة: أهل السنة والجماعة" (1) .
ويجري كثيراً استعمال هذا اللقب في رواياتهم للأحاديث، فيقولون: هذا عن طريق العامة، وهذا عن طريق الخاصة (2) .
__________
= لموالاتهم- فيما يزعمون - أهل البيت وقيل: إنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يقولون في حروبهم: مت ولياً لعلي فسمي الواحد منهم متوالياً لذلك.
انظر: حاضر العالم الإسلامي: 1/193-194، أعيان الشيعة: 1/22.
ومثل لقاب "قزلباش" وهو لفظ تركي معناه ذو الرأس الأحمر ... والآن اسم قزلباش ي بلاد إيران مشهور، وفي بلاد الهند والروم والشام يسمون كل شيعي قزلباش.
انظر: أعيان الشيعة 1/23-24. وسيأتي في فرق الاثني عشرية أن القزلباشية من فرق الاثني عشرية.
(1) دائرة المعارف: 17/122
(2) انظر - مثلاً - غاية المرام لهاشم البحراني، ومن رواياتهم: "ما خالف العامة ففيه الرشاد" انظر: أصول الكافي: 1/68، وسائل الشيعة: 18/76(1/110)
فرق الاثني عشرية:
الاثنا عشرية امتدا للشيعة الإمامية (بمعناها العام) وفصيلة من فضائلها.. بل فرقة واحدة من خمس عشرة فرقة انقسمت إليها الشيعة بعد وفاة الحسن العسكري (1) . سنة (260هـ) ومع ذلك فقد انبثق من الاثني عشرية فرق كثيرة.
يقول الأستاذ محمود الملاح وهو من المعنيين بتتبع هذه الفرقة: "وفي عصرنا هذا نجد الاثني عشرية منقسمة إلى:
- أصولية (2) .
- وأخبارية (3) .
- وشيخية (4) .
__________
(1) انظر القمي/ فرق الشيعة: ص 120 وما بعدها
(2) سيأتي التعريف بهما
(3) سيأتي التعريف بهما
(4) الشيخية: وقد ياقل لها: الأحمدية، هم أتباع الشيخ أحمد الإحسائي (المولود سنة 1166هـ، والمتوفى سنة 1241هـ) . وهو من شيوخ الاثني عشرية.
وقد قال الألوسي - رحمه الله - (عن الإحسائي وأتباعه) : "ترشح كلماتهم بأنهم يعتقدون في أمير المؤمنين علي على نحو ما يعتقده الفلاسفة في العقل الأول" كما نسب إليه القول بالحلول، وتأليه الأئمة، وإنكار المعاد الجسماني، وأن من أصول الدين الاعتقاد بالرجل الكامل وهو المتمثل في شخصه، وقد اختلف الشيعة الاثنا عشرية في شأنه بين مادح كالخوانساري في روضات الجنات: 1/94، وقادح مثل محمد ممهدي القزويني في كتابه: ظهور الحقيقة على فرقة الشيخية، ومتوقف مثل علي البلادي في أنوار البدرين ص 408، ومنهم من زعم التوسط في شأنه فقال: "..اختلف الناس فيه بين من يقول بركنيته وبين من يقول بكفره، والتوسط خير الأمور، والحق أنه من أكابر علماء الإمامية" - ثم امتدحه بجملة كلمات - إلى أن قال: "نعم له كلمات في مؤلفاته بجملة - كذا - متشابهة لا يجوز من أجلها التهجم والجرأة على تفكيره". (محمد حسين آل كاشف الغطا/ (حاشية) المصدر السابق ص 408-409) . وهذا الاختلاف قد يدل على أن الكثير من الانثي عشرية تهون عندهم عظائم هذا الرجل =(1/111)
- وكشفية (1) .
- وركنية (2) .
__________
= وضلالاته.. (انظر في مذهب الشيخية: الألوسي/ نهج السلامة: ص 18-19 (مخطوط) ، مختصر التحفة: ص 22، الأعلمي الحائري/ مقتبس الأثر: 20/136، محمد حسن آل الطلقاني/ الشيخية نشأتها وتطورها، مجلة العرفان مجلد 33 ص 199، أعيان الشيعة: 8/390، محسن عبد الحميد/ حقيقة البابية والبهائية ص:36، مصطفى عمران/ تهافت البابية والبهائية ص 34، جولد تسيهر/ العقيدة والشريعة: ص270، مبارك إسماعيل/ التيارات الفكرية ص 110
(1) الكشفية: هم أصحاب كاظم بن قاسم الرشتي (المتوفى سنة 1259هـ) تلميذ الإحسائي (مؤسس الشيخية) والقائم مقامه من بعده، والآخذ بنهجه مع زيادة في الغلو والتطرف، وسيمت بالكشفية لما ينسب إلى زعيمها من الكشف والإلهام. يقول الشيخ الألوسي عن الكشفية: الكشفية لقب لقبهم به بعض وزراء الزوراء (علي رضا باشا) أعلى الله درجته، وهم أصحاب السيد كاظم الحسيني الرشتي وهو تلميذ الإحسائي وخريجه، لكن خالفه في بعض المسائل، وكلماته ترشح بما هو أدهى وأمر مما ترشح به كلمات شيخه، حتى إن الإثني عشرية يعدونه من الغلاة وهو يبرأ مما تشعر به ظواهر كلماته، وقد عاشرته كثيراً فلم أدرك منه ما يقول فيه مكفروه من علماء الاثني عشرية، نعم عنده على التحقيق غير ما عندهم في الأئمة وغيرهم مما يتعلق بالمبدأ والمعاد.. ولا أظن مخالفاته لشيخه تجعله وأصحابه القائلين بقوله فرقة غير الشيخية (نهج السلامة ص19) ، ومنهم من اعتبره فرقة مستقلة لتصريحه بذلك في قوله في كتابه دليل الحيران ص 136: "هذا مسلك لم يسبقني إليه أحد قبلي" (انظر: آل طعمة/ مدينة الحسين ص34) ولذلك يعتبره محمد حسين آل كاشف الغطا هو الذي خرج عن الجادة القويمة، وزاغ زيغاً عظيماً، وأنه أدخل على الشيعة الإمامية أشد فتنة وأعظم بلية، ومنه وأتباعه نشأت بلية البابية بخلاف شيخه الإحسائي: (محمد حسين آل كاشف الغطا/ حاشية علي أنوار البدرين ص 408-409، وانظر في الكشفية أيضاً: مصطفى عمران/ تهافت البابية ص 37- 39، آل طعمة/ مدينة الحسين، وفيه بحث مطول عن الكشفية من كتب زعيمها وتلامذته ص 24 وما بعدها، عبد الرزاق الحسين / البابيون والبهائيون ص 10)
(2) الركنية: أتباع مرزا محمد كريم بن إبراهيم خان الكرماني، من تلامذه الرشتي وعلى مذهبه، سميت بذلك؛ لقولها بالركن والشيعي الكامل، واعتباره من أصول الدين والمتمثل في شخص زعيمهم. =(1/112)
- وكريمخانية (1) .
- وقزلباشية (2) .
وكلها داخلة في المجموعة الاثني عشرية وأصولها مبثوثة في كتب الاثني عشرية، وهي بعد هذا يكفر بعضها بعضاً" (3) .
وزاد بعض الباحثين من الشيعة (4) . أسماء أخرى هي: القرتية (5) ،
__________
= (انظر: آل طعمة/ مدينة الحسين ص 56) .
ومنهم من يعتبر الركنية والكشفية من ألقاب الشيخية والجميع فرقة واحدة. (انظر: مجلة العرفان مجلد 33 ص199، محمد آل الطلقاني/ الشيخية ص 274)
(1) كريمخانية: هم أتباع محمد الفجري الكرماني كريمخان، وهو على مذهب الشيخية ولذلك قال فيه الحائري: "رئيس الطائفة الشيخية". (متقبس الأثر: 24/274-275)
(2) القزلباشية: هم صوفية متشيعة من أتباع الصفويين، ولفظ القزلباش معناه الرؤوس الحمر، لتغطية رؤوسهم بشعار أحمر، وهو عبارة عن قنلسوة يلبسونها كشعار لهم وقد وصفها بعضهم بقوله: "لقد أمر حيدر ابن جنيد الصفوي أتباعه بأن ترتفع من وسط عمامتهم، ذات الأكوار العديدة قطعة مدببة على هيئة الهرم مقسمة من قمتها إلى إطرافها إلى اثنتي عشرة شقة تذكر بعلي وأبنائه الاثني عشر، ومن هنا سمي الصوفية من أتباع الصفويين بالقزلباش اتصالاً بهذا الشعار الاثني عشري الأحمر". وقد زعم محسن الأمين أن القزلباش لقب للاثني عشرية في بعض البلدان - كما مر- ولعله أراد التستر على كثرة فرق طائفته وانقساماتها كعادته.
(انظر: مصطفى الشيبي/ الفكر الشيعي: ص405-406، أعيان الشيعة: 1/23، 24)
(3) الآراء الصريحة: ص81
(4) آل طعمة/ مدينة الحسين: ص55-56
(5) القرتية: أصحاب امرأة اسمها هند، وكنيتها أم سلمة، ولقبها قرة العين، لقبها بذلك كاظم الرشتي في مراسلاته إذ كانت من أصحابه، وهي ممن قلدت الباب بعد موت الرشتي ثم خالفته في عدة أشياء منها: التكاليف، فقيل: إنها كانت تقول بحل الفروج ورفع التكاليف بالكلية. قال الألوسي (أبو الثنا) : وأنا لم أحس منها بشيء من ذلك مع أنها حبست في بيتي نحو شهرين.. والذي تحقق عندي أن البابية والقرتية طائفة تعتقد في الأئمة نحو اعتقاد الكشفية فيهم، ويزعمون انتهاء التكليف بالصلوات الخمس وأن الوحي غير منقطع. (نهج السلامة: ص21، وانظر عن القرتية: آل طعمة/ مدينة الحسين ص56، 239، وما بعدها، وغالب الكتب التي ألفت في البابية تحدثت عن هذه المرأة وأتباعها (انظر مراجع هامش (4) من هذه الصفحة)(1/113)
البابية (1) ، والكوهرية (2) .
وزاد بعضهم أيضاً النوربخشية (3) ، ثم إنه كما يقول الألوسي: "ولا يبعد أن تظهر فرق أخرى من الإمامية بعد" (4) . نسأل الله تعالى العافية.
ومن خلال تتبعي لنصوص الاثني عشرية التي تنسبها للأئمة وترويها في
__________
(1) البابية: أتباع الباب ميرزا علي محمد الشيرازي (1235-1265هـ) وهو من الإمامية الاثني عشرية، ادعى أنه الباب للإمام الذي ينتظرونه، وأنه وحده الناطق عنه، ثم ادعى أنه هو إمامهم الغائب، ثم زعم أن الله - سبحانه - قد حل فيه، وله ضروب من الكفر والضلال. (انظر في مذهب البابية: محسن عبد الحميد/ حقيقة البابية والبهائية، مصطفى عمران/ تهافت البابية والبهائية، محمود الملاح/ البابية والبهائية، إحسان إلهي ظهير/ البابية)
(2) الكوهرية: هم أتباع الآخوند ملا حسن كوهر المروجون لنحلته في كربلاء حتى اليوم (آل طعمة/ مدينة الحسين: ص 55) وكان للكشفية أثر بليغ في ظهورها (المصدر السابق ص 239) يؤلهون الأئمة ويقولون بنفي العقاب عن مرتكب المعاصي (انظر: المصدر السابق ص 53-54)
(3) النوربخشية: نسبة إلى محمد نوربخش القوهستاني يكنى بأبي القاسم (المولود سنة 795هـ، والمتوفى سنة 869هـ) يدعي الاثنا عشرية أنها فرقة من فرقهم، وهي توجد في وديان هملايا، وكوهستان بلتستان المتصلة بتبت الصينية، وقد ادعى المهدية لنفسه، وطبق الأحاديث الواردة عن طريق أهل السنة في اسم المهدي وكنيته على شخصه، وأنكر مهدي الشيعة وانفصل عنها، وبهذا رأى بعضهم أنه ليس من فرق الاثني عشرية، بل هو من الصوفية أصحاب وحدة الوجود. (إحسان إلهي ظهير/ الشيعة ص: 316) .
ولكن لا يمنع هذا أن يكون من الاثني عشرية في الأصل وادعى دعوى المهدية، وأخذ بروايات أهل السنة لانطباقها عليه، لأنه كان يقول بالأئمة الاثني عشر، ولهذا اكتفى في يوم بيعته بالمهدية بقبول اثني عشر تيمناً بعدد الأئمة (الشيبي/ الفكر الشيعي: ص 332) .
كما زار - عندما قدم العراق - العتبات الشيعية المقدسة (المصدر السابق ص 333) . أما المنزع الصوفي فإن الصلة بين التصوف والتشيع قائمة ووثيقة.
(انظر في مذهب هذه الطائفة: الشيعة والتشيع: ص 314، مصطفى الشيبي/ الشيعي: ص 328 وما بعدها)
(4) أبو الثناء الألوسي/ نهج السلامة: ص22(1/114)
كتبها المعتمدة وجدت أنها تحمل في ثناياها بذور نحل مختلفة وأهواء متباينة.. يجد فيها كل صاحب هوى وغلو وبدعة، بغيته ومرامه.. فهي قد اتسعت بحكم معتقد التقية، وكثرة الكذب والافتراء على الأئمة، وانضواء الملحدين والمتآمرين في صفوفهم، وعجز شيوخ الشيعة عن تنقية المذهب مما علق به من كيد الملحدين عبر القرون، وفقدان الموازين الصحيحة الثابتة لتمحيص الروايات وتحقيقها، اتسعت بسبب ذلك وغيره لاحتواء تلك البذور السامة وذلك الركام الهائل من الأخبار المظلمة.
أما الحديث المفصل عن كل فرقة بذاتها فهذا موضوع يطول الحديث فيه، وقد لا يدخل في صل الموضوع الرئيسي لبحثنا والمعني بدارسة أصولهم لا نشأة فرقهم، وأخبار أصحابها وأقوالها وآرائهم. ولعلنا نكتفي بالحديث عن افتراق الشيعة إلى أصولية وأخبارية؛ لأن الأصولية هي أساس المذهب الاثني عشري، وتمثل الأكثرية، ويقابلها الإخبارية، وإن كانت أقل منها، أما ما سواها من فرق فهي ليست بذلك الحجم الذي تمثله الأصولية.. ولذلك اكتفينا بالتعريف الموجز عنها في الهوامش السابقة.
كما أن الخلاف الأصولي الأخباري يمثل خلافاً في بنية المذهب الاثني عشري، فهو خلاف بين رجال الشيعة الذين جمعوا تراث المذهب الاثني عشري؛ فتجد الحر العاملي صاحب وسائل الشيعة، والكاشاني صاحب الوافي، والنوري الطبرسي صاحب مستدرك الوسائل كلهم أخبارية مع أنهم مصنفو مصادرهم المعتمدة في الرواية عندهم. بل يعتبرون ابن بابويه صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد مصادرهم الأربعة المتقدمة هو رئيس الأخباريين (1) ، ويقابلهم
__________
(1) انظر: الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة: ص 4، كما أنك تلاحظ أن من شيوخ الأخبارية من ظهر واشتهر عندهم كمحمد حسين آل كائف الغطا صاحب أصل الشيعة وأصولها، وأيضاً تلاحظ كثرة الأخبارين في بعض الجهات مثل البحرين.. كما أن من كبار شيوخ الطائفة الأصولية الذين يمثلون الكثرة الغالبة.. محسن الحكيم، وشريعت مداري، والخوئي، والخميني وغيرهم(1/115)
الطوسي صاحب الاستبصار والتهذيب، والمرتضى المنسوب له (أو لأخيه) نهج البلاغة وغيرهما وهما من الأصوليين..
فإذن الخلاف بين الأصوليين والأخباريين هو خلاف بين أركان المذهب ومشيدي بنائه، فلنتوقف للتعريف بهاتين الفرقتين:
فالأخباريون يمنعون الاجتهاد، ويعملون بأخبارهم، ويرون أن ما في كتب الأخبار الأربعة عند الشيعة (1) . كلها صحيحة قطعية الصدور عن الأئمة، ويقتصرون على الكتاب والخبر، ولذلك عرفوا بالأخبارية نسبة إلى الأخبار وينكرون الإجماع (ودليل العقل) (2) ، ولا يرون حاجة إلى تعلم أصول الفقه، ولا يرون صحته، ويقابلهم الأصوليون أو المجتهدون، وهم القائلون بالاجتهاد، وبأن أدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع وليل العقل، ولا يحكمون بصحة كل ما في الكتب الأربعة.. ويمثلون الأكثرية (3) .
لكن شيخهم الأنصاري يكشف - حسب ما ينقله عن محققهم غلام رضا القمي - أن الأخباريين لا يعتمدون في الأدلة الشرعية إلا على أخبار الشيعة فقط، ويقبلونها على علاتها بلا تفريق بين صحيحها وسقيمها. يقول ما نصه: "ويعجبني في بيان وجه تسمية هذه الفرقة (الأخباريين) المرموقة بالأخبارية وهو أحد أمرين:
الأول: كونهم عاملين بتمام الأقسام من الأخبار من الصحيح والحسن والموثق والضعيف (4) . من غير أنها يفرقوا بينها في مقام العمل في قبال المجتهدين.
__________
(1) وهي: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وسيأتي الحديث عنها في فصل "السنة" عند الاثني عشرية
(2) انظر: العقل عند الشيعة الإمامية، رشدي عليان
(3) انظر: حسن الأمين/ دائرة المعارف: ص 107، عز الدين/ بحر العلوم/ التقليد في الشريعة: ص 92، فرج العمران/ الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة: ص 19
(4) سيأتي إيضاح لهذه المصطلحات في فصل "قولهم في السنة"(1/116)
الثاني: أنهم لما أنكروا الأدلة الثلاثة بما فيها القرآن الكريم وخصوا الدليل بالواحد منها، أعني الأخبار فلذلك سموا بالاسم المذكور" (1) .
فهم هنا استجابوا لأساطيرهم التي تقول بنقص القرآن فأعرضوا عن كتاب الله في مقام الاحتجاج، واعتمدوا على تلك الأساطير، فهم بهذا أخرجوا أنفسهم عن دائرة الإسلام، ومع ذلك فإن جملة من شيوخ الشيعة تدعي مع هذا الكفر البواح الذي أعلنته طائفة الأخبارية أن الخلاف بين الأصولين والأخبارين "يتقصر على بعض الوجوه البسيطة ككل خلاف يحدث بين أبناء الطائفة الواحدة تبعاً لاختلاف الرأي والنظر" (2) .
وقال صاحب "الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة": "إني بحسب تتبعي وفحصي كتب الأصوليين والأخباريين لم أجد فرقاً بين هاتين الطائفتين إلا في بعض الأمور الجزئية التي لا توجب تشنيعاً ولا قدحاً" (3) .
فهل هم إذن وجهان لعملة واحدة؟!
ولقد حاول بعض الشيعة المعاصرين أن يخفف من وقع الكلمة السابقة حول عملهم بالأخبار وردهم للقرآن، فقال: "كيف ينكر الأخباريون وهم المسلمين دليلية الكتاب" (4) ، ثم التمس لذلك مخرجاً بما ذكره شيخهم الاستراباذي من "أن القرآن ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية" (5) . فلا يجوز فهمه والعمل به إلا بمقتضى أخبارهم (6) . فكأن نهاية القولين واحدة، لأن أخبارهم قد حرفت معاني القرآن، وصرفتها عن مدلولها - كما سيأتي - ولا سيما وهذه الطائفة
__________
(1) القلائد على الفرائد، حاشية على رسائل الشيخ الأنصاري، مبحث حجة القطع.
انظر: التقليد في الشريعة الإسلامية: ص 93
(2) التقليد: ص 92، وانظر: البحراني/ الحدائق 1/169-170
(3) فرج العمران/ الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة ص: 2-3
(4) عز الدين/ التقليد: ص 93
(5) الفوائد المدنية: ص47-48، التقليد ص 94، الحدائق: 1/169
(6) الفوائد المدنية: ص47-48، التقليد ص 94، الحدائق: 1/169(1/117)
لا تفرق بين صحيح الأخبار وباطلها.
أما بداية افتراق الاثني عشرية إلى: أصولية، وأخبارية فيذكر البحراني أن شيخهم "محمد أمين الاستراباذي" (المتوفى سنة 1033هـ) "هو أول من فتح باب الطعن على المجتهدين، وتقسيم الفرقة.. إلى أخباري ومجتهد" (1) . ومنهم من يذكر أنه أقدم من ذلك وأن الاستراباذي هو الذي جدده (2) .
هذا وقد جرى بين هاتين الفرقتين ردود ومنازعات وتكفير وتشنيع حتى إن بعضهم يفتي بتحريم الصلاة خلف البعض الآخر (3) ، وكان من شيوخ طائفة الأخبارية من لا يلمس مؤلفات الأصوليين بيده تحاشياً من نجاستها، وإنما يقبضها من وراء ملابسه (4) .
وقد كفر الاستراباذي (الأخباري) بعض الأصوليين ونسبهم إلى تخريب الدين (5) . - على حد تعبيره - كما نسب الكاشاني (الأخباري) صاحب الوافي - إلى أحد مصادرهم الثمانية - جمعاً من علمائهم إلى الكفر (6) ، ورد عليه بعضهم بأن له من المقالات التي جرى فيها على مذهب الصوفية والفلاسفة ما يوجب الكفر كقوله بوحدة الوجود (7) . وهكذا يكفر بعضهم بعضاً كما كان أسلافهم من قبل، كما صورته جملة من رواياتهم - كما سيأتي (8) . - مع أن الطائفتين كلاهما من الاثني عشرية.
أما عناصر الخلاف بين الفريقين فقد ألف في شأنها شيخهم جعفر كاشف الغطا كتاباً بعنوان: "الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخبارين" (9) . أنهى
__________
(1) لؤلؤة البحرين: ص117
(2) انظر: الأصوليون والأخباريون فرقة واحدة: ص 4
(3) انظر: محمد جواد مغنية/ مع علماء النجف: ص 74
(4) محمد آل الطلقاني/ الشيخة: ص 9
(5) انظر: لؤلؤة البحرين/ للبحراني: ص 118
(6) انظر: لؤلؤة البحرين/ للبحراني: ص 121
(7) وهو البحراني/ انظر لؤلؤة البحرين: ص121
(8) انظر: مبحث الغيبة من هذه الرسالة
(9) طبع في طهران عام 1316هـ، انظر: الذريعة من 7/37-38(1/118)
فيه عناصر الخلاف إلى ثمانين، بينما نرى شيخهم البحراني يحاول أن يقلل من مسائل الخلاف بينهما فيهبط بها ليقصرها على ثمان (1) . أو أقل (2) .؛ لأنه يرى أن هذا الخلاف يؤدي إلى القدح في شيوخ الطرفين وفتح باب الطعن والتشنيع على الشيعة (3) . ومن بعده محسن الأمين الذي جعلها خمساً (4) ، وصنف ثالث توسط فجعلها ثلاثاً وأربعين (5) . أو أربعين (6) . أو تسعاً وعشرين (7) .
والتقليل من الخلاف يعود إلى أنهم يرجعون بعض المسائل إلى بعض، أو يحكمون بأن الأمر فيه خلاف عند هؤلاء وهؤلاء، فلا يعتبر حينئذ خلافاً بين طرفين، أو أن الخلاف ليس بخلاف حقيقي كخلافهم حول الإجماع الذي يثبته الأصوليون وينكره الأخباريون، ولكن شيخهم البحراني يعتبر هذا ليس بخلاف ثابت؛ لأن الإجماع وإن ذكره المجتهدون (الأصوليون) في المكتب الأصولية وعدوه في جملة الأدلة.. إلا أنك تراهم في مقام التحقيق في الكتب الاستدلالية يناقشون في ثبوته وحصوله وينازعون في تحققه ووجود مدلوله حتى يضمحل أثره بالكلية (8) .
وليس الغرض هنا بسط مسائل الخلاف بينهم (9) . وإنما الإشارة إلى انقسام
__________
(1) انظر: عز الدين بحر العلوم/ التقليد: ص 95
(2) لأني رجعت إليها في الحدائق فلم أجده أثبت أكثر من أربعة فروق، وانظر الحدائق: 1/167وما بعدها
(3) الحدائق: 1/167
(4) انظر: أعيان الشيعة: 17/453-458
(5) وهو شخيهم عبد الله بن صالح البحراني في كتابه منية الممارسين، انظر: الحدائق 1/167
(6) وهو شيخهم عدبالله السماهيجي (انظر: روضات الجنات: 1/36)
(7) وهو: الخوانساري. انظر: المصدر السابق 1/36 وما بعدها
(8) الحدائق: 1/168
(9) انظر هذه المسائل في: مقتبس الأثر للحائري: 3/296 وما بعدها، الخوانساري/ روضات الجنات: 1/36، البحراني/ الحدائق: 1/167 وما بعدها، الكشكول: 2/386-389، محمد صادق بحر العلوم/ دليل القضاء الشرعي أصوله وفروعه: 3/22-26، محسن الأمين/ أعيان الشيعة: 17/453-458، عز الدين بحر العلوم/ التقليد ص: 95 وما بعدها، الغريفي/ الاجتهاد والفتوى: ص 99.
هذا وقد ذكر بعضهم بأن أهم النقاط التي جرى فيها الخلاف هي أربع، إحداها: تنويع الحديث =(1/119)
الشيعة على نفسها إلى حزبين متعاديين متنازعين في أصول الاستدلال وغيرها، وإن حاول بعضهم أن يخفف من هذا.. وهنا أشير إلى أن الخلاف الذي وقع بين هاتين الفرقتين من الاثني عشرية قد كشف أموراً كثيرة من حقائق المذهب بحكم ارتفاع التقية في صولة النزاع، وما كانت لتبين لو لم يكن هذا الخلاف.
وإن دراسة واعية متأنية للخلف بين الطرفين لتكشف الكثير من أسرار المذهب (1) .
__________
= إلى صحيح، وحسن، وموثق، وضعيف، حيث قرره الأصوليون ومنعه الأخباريون، والثانية: مسألة التقليد فالأصوليون لا يجوزون تقليد الميت، ولكن الأخباريين يجوزونه، وثالثها، ورابعها: الإجماع والعقل حيث قال الأصوليون بالاحتجاج بهما بعد الكتاب والسنة، ومنع ممن ذلك الأخباريون (انظر: الغريفي/ الاجتهاد والفتوى: ص 99)
(1) وقد استفدت مما جرى من خلاف بينهما في فصل: قولهم في السنة، وفصل الإجماع(1/120)
الباب الأول: اعتقادهم في مصادر الإسلام
وفيه ثلاثة فصول:
وثلاثة فصول:
الفصل الأول: عقيدتهم في كتاب الله.
الفصل الثاني: عقيدتهم في السنة.
الفصل الثالث: عقيدتهم في الإجماع.(1/122)
الفصل الأول: اعتقادهم في القرآن الكريم
في هذا الفصل نتناول - بمشيئة الله - أقوال الشيعة التي تبين اعتقادهم في كتاب الله سبحانه، فنعرض - أولاً - لمذهبهم في حجية القرآن وخروجهم في هذا الأمر عما أجمع عليه المسلمون، وذلك بقولهم: إن القرآن ليس بحجة إلا بقيم (هو أحد الاثني عشر) ، وكذا قولهم: إن علم القرآن عند الأئمة، وقد اختصوا بمعرفته لا يشركهم فيه أحد، وكذا زعمهم بأن قول الإمام يخصص عام القرآن، ويقيد مطلقه.. إلخ.
ثم نعرض - ثانياً - لعقيدتهم في تأويل القرآن، ونتناول فيه قولهم: بأن للقرآن معاني باطنة لا يعرفها إلا الأئمة، وقولهم الآخر: بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم.
ثم نتناول - ثالثاً - عقيدتهم في نص القرآن وندرس هل الشيعة تقول بنقص القرآن وتغييره؟
هذا والشيعة تقول بأن القرآن مخلوق، حيث اقتفت أثر المعتزلة في ذلك، وسنتناول هذه المسألة في فصل عقيدتهم في الأسماء والصفات - إن شاء الله-.
كما أن للشيعة دعوى شائعة في كتبها، ولم أر من خصها بدراسة، أو إشارة، وهي دعواهم تنزّل كتب إلهية على الأئمة، وقد خفيت هذه المسألة حتى رأيت من الباحثين من خلط بينها وبين ما ينسب للشيعة من قولهم بتحريف القرآن كجولد سيهر، ومحب الدين الخطيب، وإحسان إلهي ظهير.
وكذلك تدعي الشيعة بأن عند أئمتها جميع الكتب التي نزلت على الأنبياء.(1/125)
وسنعرض لهذه المسألة والتي قبلها في مبحث «الإيمان بالكتب» والذي هو أحد أركان الإيمان. وإنما أشرت إليها هنا حتى يتسنى تصور عقائدهم المتعلقة بكتاب الله في مكان واحد، وقد أرجأت الحديث على المسائل الثلاث للموضعين المذكورين، لأنهما بهما أولى - فيما يظهر -.
هذا وعقائد الشيعة الاثني عشرية في كتاب الله بهذه الصورة لم تنل العناية ممن تناول مسألة الشيعة - حسب اطلاعي - وقد أكثر المعاصرون من الحديث عن مسألة واحدة وهي ما يقال عن الشيعة من قولهم بنقص القرآن وتغييره.
وسنرى أيضاً أن هذه القضية لم تسلم من الخلط والتعميم انسياقاً وراء ما قاله غلاة الشيعة في هذه المسألة؛ والله المستعان.(1/126)
المبحث الأول: اعتقادهم في حجية القرآن
سنقسم هذا المبحث إلى مسائل ثلاث: الأولى: قولهم: إن القرآن ليس بحجة إلا بقيم، والثانية: حصر علم القرآن ومعرفته بالأئمة، والثالثة: زعمهم بأن قول الإمام يخصص عام القرآن، ويقيد مطلقه.. إلخ.
المسألة الأولى: اعتقادهم أن القرآن ليس حجة إلا بقيم
أثناء مطالعتي في كتب الشيعة رأيت هذه المسألة يؤكد عليها في أكثر من كتاب من كتبهم المعتمدة عندهم، وما كان يخطر بالبال أن تذهب طائفة من الطوائف التي تزعم لنفسها الإسلام إلى القول: "بأن القرآن ليس حجة" والله يقول - لمن طلب آية تدل على صدق الرسول -: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (1) .
فالقرآن العظيم هو الشاهد والدليل والحجة، ولكن شيخ الشيعة ومن يسمونه بـ"ثقة الإسلام" (الكليني) يروي في كتابه: أصول الكافي والذي هو عندهم كصحيح البخاري عند أهل السنة (2) . يروي ما نصه: " ... أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم: وأن علياً كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله" (3) .
__________
(1) العنكبوت، آية: 51
(2) انظر: فصل "اعتقادهم في السنة" من هذا الكتاب
(3) أصول الكافي: 1/188(1/127)
كما توجد هذه المقالة أيضاً في طائفة من كتبهم المعتمدة كرجال الكشي (1) ، وعلل الشرائع (2) ، والمحاسن (3) ، ووسائل الشيعة (4) ، وغيرها.
فماذا يعنون بهذه العقيدة: أيعنون بذلك أن النص القرآني لا يمكن أن يحتج به إلا بالرجوع لقول الإمام؟ وهذا يعني أن الحجة هي في قول الإمام لا قول الرحمن، أم يعنوان أن القرآن لا يؤخذ بنظامه إلا بقوة السلطان وهو القيم على تنفيذه؟ ولكن ورد عندهم في تتمة النص ما ينفي هذا الاحتمال وهو قولهم: "فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ، والقدري، والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم" (5) .
ومعنى هذا أن قول الإمام هو أفصح من كلام الرحمن، ويظهر من هذا أنهم يرون أن الحجة في قول الإمام لأنه الأقدر على البيان من القرآن، ولهذا سموه بالقرآن الصامت وسمو الإمام بالقرآن الناطق، ويروون عن علي أنه قال: "هذا كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق" (6) . وقال: "ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم أخبركم عنه ... " (7) .
ويقولون - في رواياتهم -: "وعليٌّ تفسير كتاب الله" (8) ، ومرة أخرى يدعون بأن الائمة هم القرآن نفسه (9) ، وحيناً يزعمون بأن القرآن لم يفسر إلا لرجل
__________
(1) رجال الكشي: ص420
(2) الصدوق/ علل الشرائع: ص 192
(3) البرقي/ المحاسن: ص 268
(4) الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 18/141
(5) الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 18/141
(6) الحر العاملي/ الفصول المهمة: ص 235
(7) أصول الكافي: 1/61
(8) البحار: 37/209، الطبرسي/ الاحتجاج: ص 31-33، البروجودي/ تفسير الصراط المستقيم: 30/20
(9) ولهذا نجدهم يفسرون قوله سبحانه: {.. وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ..} يقولون: النور: علي والأئمة عليهم السلام (فالأئمة بناء على هذا أنزلوا من السماء إنزالاً) الكافي: 1/194، =(1/128)
واحد هو علي (1) . وما ندري لم يكون علي قيم القرآن وهو القرآن نفسه؟! وإذا كان هو القرآن أو القيم عليه فلماذا يفسر له، وكيف يفسر له وهو تفسيره؟! إنها أقوال يضرب بعضها بعضاً، وهي برهان أكيد على أنها من وضع زنديق أراد إفساد دين المسلمين، وكيف يقال مثل ذلك في كتاب أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون هداية للناس {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) .
قال الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه -: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل
__________
= ويفسرون قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} يونس: آية 15.
يقولون: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} يعني: أمير المؤمنين.
(انظر: تفسير العياشي: 2/120، أصول الكافي: 1/419، تفسير البرهان: 2/180، تفسير نور الثقلين: 2/296، تفسير القمي: 1/310، بحار الأنوار: 36/80) .
ومثل ذلك تفسيرهم لقولهم تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} .الطور: آية: 33، 34.
جاء في تفسير القمي: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} يعني: أمير المؤمنين {بَل لا يُؤْمِنُونَ} أنه لم يتقوله ولم يقمه برأيه، ثم قال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} أي: رجل مثله من عند الله {إِن كَانُوا صَادِقِينَ} . (انظر: تفسير القمي: 2/333، البحراني/ البرهان في تفسير القرآن: 4/242، بحار الأنوار: 36/85) ومثل ذلك كثير.
(1) أصول الكافي: 1/250
(2) الإسراء، آية: 9(1/129)
به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" (1) .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: تضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} (2) .
ومسألة أن كتاب الله هو الحجة والإمام لا تحتاج إلى بسط الأدلة، والتوسع في إقامة البراهين، ولقد آثرنا فيما عرضنا من دليل أن نأخذه من كتاب الله سبحانه، ومما جاء عن بعض أهل البيت في مصادر أهل السنة. وقبل أن ننهي الحديث في هذه القضية نشير إلى ما ينقضها من كتب الشيعة نفسها كبرهان على تناقضهم، كما نشير إلى الهدف من وضع تلك المقالة.
ففي بعض مصادرهم المعتمدة جاء النص التالي: "ذكر الرضا - رضي الله عنه - يوماً القرآن فعظم الحجة فيه.. فقال: هو حبل الله المتين وعروته الوثقى..
__________
(1) قال ابن كثير في تعليقه على هذا الخبر: "وقد وهم بعضهم في رفعه، وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -". (انظر: ابن كثير/ فضائل القرآن: ص 15) . وقد أخرجه مرفوعاً الترمذي، في ثواب القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن رقم (2906) : 4/172، والدارمي في سننه، كتاب فضائل القرآن، باب فضل القرآن ص:831، ورواه الإمام أحمد في مسنده: 2/703 رقم (704) ، (تحقيق أحمد شاكر) .
والحديث في سنده مقال. قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث (أحد رجال السند) مقال". (انظر: الترمذي: 4/172) ، وقال الحافظ ابن العربي المالكي: وحديث الحرث لا ينبغي أن يعول عليه. (انظر: عارضة الأحوذي: 11/30) . قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده ضعيف جداً من أجل الحارث. (انظر: المسند 2/704) وقال الشيخ الألباني: إسناده ضعيف، فيه الحارث الأعور، وهو لين، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب، ولعل أصله موقوف على علي - رضي الله عنه - فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (انظر: اشرح الطحاوي، الطبعة التي خرج أحاديثها الألباني ص: 68) وهذا الأثر مروي عن علي في كتب الشيعة: انظر: تفسير العياشي: 1/3، البرهان: 1/7، تفسير الصافي: 1/15، بحار الأنوار: 19/7
(2) انظر: تفسير ابن جرير الطبري: 16/225(1/130)
جعل دليل البرهان (1) . وحجة على كل إنسان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" (2) .
وفي نص آخر لهم: ".. فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل.." (3) .
وفي نهج البلاغة المنسوب لعلي (4) . - رضي الله عنه - والذي هو عند الشيعة: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (5) . جاء النص التالي: "فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه.." (6) .
ولهذه النصوص شواهد أخرى وهي تكشف لنا مدى التناقض والاضطراب الواقع في مصادر هؤلاء القوم؛ فرواياتهم - كما ترى - يعارض بعضها بعضاً، لكنهم في حالة التناقض تلك قد وضعوا لهم منهجاً خطيراً وهو الأخذ بما خالف العامة - وهم أهل السنة عندهم - كما سيأتي تفصيل ذلك في معتقدهم في الإجماع - فيأخذون بالجانب الشاذ عن الجماعة، وإن جاء نص يخالفه، وإن استيقظ شيخ
__________
(1) كذا وردت في المصدر المنقول عنه، وقد تكون صوابها «الحيران» لأن البرهان لا يحتاج إلى دليل
(2) انظر: (المجلسي/ البحار: 92/14، ابن بابويه/ عيون أخبار الرضا: 2/130
(3) انظر: تفسير العياشي: 1/2، البحار: 92/17
(4) لقد شك في صحة نسبة الكتاب إلى علي النقاد قديماً وحديثاً. قال الذهبي: "ومن طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه -"، ثم بين علامات ذلك. (انظر: ميزان الاعتدال: 3/124، ترجمة الشريف المرتضى) . وسيأتي - إن شاء الله - حديث عنه في فصل السنة، وذكر للمصادر الناقدة له
(5) ذكر الهادي كاشف الغطا (أحد شيوخ الشيعة المعاصرين) أن إنكار نسبته إلى علي يعد عندهم من إنكار الضروريات. وقال: "إن جميع ما فيه حاله كحال ما يروى عنه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -". انظر: مدارك نهج البلاغة ص: 190
(6) نهج البلاغة ص:265، تحقيق صبحي الصالح، البحار: 92/20(1/131)
من شيوخهم واستمع إلى نداء الحق وأعلن مخالفته لضلالهم قالوا في ذلك كله: تقية - كما سيأتي في مبحث التقية -.
والمتأمل لتلك المقالة التي تواترت في كتب الشيعة يلاحظ أنها من وضع عدو حاقد أراد أن يصد الشيعة عن كتاب الله سبحانه، ويضلهم عن هدى الله، فما دامت تلك المقالة ربطت حجية القرآن بوجود القيم، والقيم هو أحد الأئمة الاثني عشر؛ لأن القرآن فسر لرجل واحد وهو علي، وقد انتقل علم القرآن من علي إلى سائر الأئمة الاثني عشر، كل إمام يعهد بهذا العلم إلى من بعده، حتى انتهى إلى الإمام الثاني عشر (1) . وهو غائب مفقد عند الاثني عشرية منذ ما يزيد على أحد عشر قرناً، ومعدوم عند طوائف من الشيعة وغيرهم..
فما دامت هذه المقالة ربطت حجية القرآن بهذا الغائب أو المعدوم فكأن نهايتها أن الاحتجاج بالقرآن متوقف لغياب قيمه أو عدمه، وأنه لا يرجع إلى كتاب الله، ولا يعرج عليه في مقام الاستدلال؛ لأن الحجة في قول الإمام فقط، وهو غائب فلا حجة فيه حينئذ، ولذلك فإن طائفة الأخبارية من الاثني عشرية "أنكروا- كما يعترف شيوخ الاثني عشرية - الأدلة الثلاثة (2) . بما فيها القرآن الكريم، وخصوا الدليل بالواحد أعني الأخبار فلذلك سمو بالاسم المذكور" (3) .
وحسبك بهذا ضلال، وإضلال عن صراط الله ... وتلك ليست هي نهاية التآمر على كتاب الله، وعلى الشيعة، ولكنها حلقة من حلقات، ومؤامرة ضمن سلسلة مؤامرات طوحت بالشيعة بعيداً عن جماعة المسلمين، وهي مقدمة، أو إرهاص لبدء المحاولة في تفسير كتاب الله على غير وجهه، وزعمهم أن هذا هو ما جاء عن القيم والإمام من أهل البيت، والحجة فيه لا في غيره، وهو الناطق عن القرآن، والمبين له.. ولا حجة في القرآن إلا به.
__________
(1) سنبين هذا بالتفصيل - إن شاء الله - في فصل السنة
(2) يعني: الإجماع، والعقل، والقرآن الكريم
(3) انظر: التقليد في الشريعة الإسلامية ص: 93، وقد مضى الحديث عن ذلك ص: (143) من هذه الرسالة(1/132)
المسألة الثانية: اعتقادهم بأن الأئمة اختصوا بمعرفة القرآن لا يشركهم فيه أحد
فإنه مما علم من الإسلام بالضرورة أن علم القرآن لم يكن سراً تتوارثه سلالة معينة، ولم يكن لعلي اختصاص بهذا دون سائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابة رضوان الله عليهم هم الطليعة الأولى الذين حازوا شرف تلقي هذا القرآن عن رسول البشرية محمد بن عبد الله ونقله إلى الأجيال كافة.. ولكن الشيعة تخالف هذا الأصل وتعتقد أن الله سبحانه قد اختص أئمتهم الاثني عشرية بعلم القرآن كله، وأنهم اختصوا بتأويله، وأن من طلب علم القرآن من غيرهم فقد ضل.
وتذكر بعض مصادر أهل السنة بأن بداية هذه المقالة، وجذورها الأولى ترجع لابن سبأ فهو القائل: "بأن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي" (1) . وقد استفاض ذكر هذه المقالة في كتب الاثني عشرية بألوان الأخبار وصنوف الروايات:
1- جاء في أصول الكافي في خبر طويل عن أبي عبد الله قال: "إن الناس يكفيهم القرآن ولو وجدوا له مفسراً، وإن رسول الله - صلى الله عليه وآله - فسره لرجل واحد، وفسر للأمة شأن ذلك الرجل وهو علي بن أبي طالب (2) .
2- وجاء في طائفة من مصادر الشيعة المعتمدة لديهم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: "إن الله أنزل علي القرآن وهو الذي من خالفه ضل، ومن يبتغي علمه عند غير علي هلك" (3) .
3- وزعمت أيضاً كتب الشيعة أن أبا جعفر قال: يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر - رضي الله عنه -: "بلغني أنك تفسر
__________
(1) الجوزجاني/ أحوال الرجال ص: 38
(2) أصول الكافي: 1/25، وسائل الشيعة: 18/131
(3) وسائل الشيعة: 18/138، وانظر: بحار الأنوار: 7/302، 19/23، الطبري (الرافضي) / بشارة المصطفى ص: 16، أمالي الصدوق ص: 40(1/133)
القرآن؟ فقال له قتادة: نعم - إلى أن قال:- ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به" (1) .
4- وفي تفسير فرات: ".. إنما على الناس أن يقرأوا القرآن كما أنزل، فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا" (2) .
ورواياتهم في هذا الباب كثيرة جداً، ولو ذهبت أنقل ما بين يدي منها لاستغرق مجلداً.
ففي الكافي مجموعة من الأبواب كل باب يتضمن طائفة من أخبارهم في هذا الموضوع مثل:
باب "أن الأئمة - رضي الله عنهم - ولاة أمر الله وخزتة علمه" (3) .
باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (4) .
باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هم الأئمة (5) .
باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة (6) .
باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم (7) .
أما صاحب البحار فقد ضرب بسهم وافر - كعادته - في هذا المضار، ومن أبوابه في ذلك:
__________
(1) الكافي، كتاب الروضة: 12/415، رقم (485) (المطبوع مع شرح جامع للمازنداني) ، وسائل الشيعة: 18/136، تفسير الصافي: 1/21-22، البرهان في تفسير القرآن: 1/18، بحار الأنوار: 24/237-238
(2) تفسير فرات ص:91، وسائل الشيعة: 18/149
(3) أصول الكافي: 1/192
(4) المصدر السابق: 1/210
(5) المصدر السابق: 1/212
(6) المصدر السابق: 1/213
(7) المصدر السابق: 1/213(1/134)
باب أنهم أهل علم القرآن، وذكر في هذا الباب (54) رواية (1) .
وباب أنهم خزان الله على علمه وفيه (14) رواية (2) .
كما ذكر أيضاً طائفة من روايات هذا الموضوع ضمن:
"باب أنهم لا يحجب عنهم علم السماء والأرض" (3) .
وباب أنهم لا يحجب عنهم شيء (4) .
وفي وسائل الشيعة للحر العاملي "باب عدم جواز استنباط الأحكام من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من كلام الأئمة - رضي الله عنهم - فيه ثمانون حديثاً من أحاديثهم" (5) .
وفي الفصول المهمة في أصول الأئمة "باب أنه لا يعرف تفسير القرآن إلا الأئمة" (6) .
وفي تفسير الصافي يخصص إحدى مقدمات تفسيره لهذه القضية وهي: "المقدمة الثانية في نُبَذْ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو عند أهل البيت - رضي الله عنهم -" (7) .
أما صاحب مقدمة البرهان فيقول: "الفصل الخامس في بيان ما يدل على أن علم تأويل القرآن بل كله عند أهل البيت - عليهم السلام -" (8) . ويذكر في هذا الفصل طائفة من أخبارهم في هذه المسألة، ثم يقول: "أقول: والأخبار في
__________
(1) البحار: 23/188-205
(2) المصدر السابق: 26/105
(3) المصدر السابق: 26/109
(4) المصدر السابق: 26/137
(5) وسائل الشيعة: 18/129-152
(6) الحر العاملي/ الفصول المهمة ص: 173
(7) تفسير الصافي: 1/19
(8) مقدمة البرهان: ص15(1/135)
هذا الباب أكثر من أن تحصى" (1) .
ولو ذهبنا نستقصي الكتب الشيعية التي تعرضت لهذا لطال بنا المقام؛ لأن هذا من أصولهم، قال أحد آياتهم (2) : "اعلم أن علم القرآن مخزون عند أهل البيت وهو مما قضت به ضرورة المذهب" (3) .
ومن العجب أنهم بدعواهم أن علم القرآن عند الأئمة نسبوا إلى الأئمة علم كل شئ، فيقول أبو عبد الله - كما يزعمون -: "إني لأعلم ما في السموات وأعلم ما في الأرضين، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون، ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه فقال: علمت ذلك من كتاب الله أن الله يقول: فيه تبيان كل شيء" (4) .
لاحظ أن هذا النص الذي يزعم صاحبه - ونبرئ جعفراً منه، فإمامته ودينه ينفيان ذلك عنه - العلم بكل شيء يجهل أقرب الأشياء لديه.. حيث إن القرآن ليس فيه (تبيان كل شيء) وإنما هذا تحريف لقول تعالى: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (5) . وهو يزعم أن هذه آية من القرآن، ففضحه الله بذلك.. وهذا برهان أن هذه النصوص من وضع ملحد اندسَّ في صفوف المسلمين للكيد للإسلام وأهله.
مناقشة هذه المقالة ونقدها:
أ- مناقشة النصوص:
كما يلاحظ القارئ أنه لا يسمح المقام بجمع نصوصهم في هذه المسألة لكثرتها، إذ جمعها ونقدها يستغرق صحفات كثيرة.. وحسبنا أننا ذكرنا بعض
__________
(1) المصدر السابق: ص16
(2) وهو حسين البروجردي من شيوخهم المعاصرين
(3) تفسير الصراط المستقيم
(4) البحار: 26/111
(5) النحل، آية: 89(1/136)
الأمثلة عليها، إذ كلها تحوم حول معنى واحد، هو اختصاص الأئمة الاثني عشرية بعلم القرآن، وأنه مخزون عندهم، وبه يعلمون كل شيء..
وسنتوقف عند كل نص عرضناه لنناقشه ونحلله.. ثم نعود لأصل المقالة وننقدها:
النص الأول: (الذي يقول بأن الرسول لم يبين القرآن إلا لعلي ... )
الله سبحانه يقول: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) . وكتب الشيعة تقول - كما سلف -: ليست من وظيفة الرسول بيان القرآن للناس، وإنما مهمته بيان "شأن ذلك الرجل وهو علي بن أبي طالب" أما بيان القرآن للناس وتفسيره فهو رسالة علي لا محمد (2) .
وكلام الاثني عشرية هنا يذكر بكلام فرقة من فرقة الغلاة وهم الغرابية التي قالت: إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب، وأن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل عليه السلام وأنزل الوحي على محمد (3) .
ما الفرق بين هذه المقالة، ونص الاثني عشرية؟! إن الاثني عشرية أعطوا علياً الرسالة بدون دعوى الغلط، وزعموا أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم التعريف بعلي فقط.
وأترك للقارئ تدبر بقية المعاني، فهي ناطقة بذاتها.
__________
(1) النحل، آية: 44.
(2) انظر نص ص: (162)
(3) ابن حزم/ الفصل: 5/42، وانظر: البغدادي/ الفرق بين الفرق ص: 250، الإسفراييني/ التبصير في الدين: ص 74، ابن المرتضى/ المنية والأمل ص: 30، الملطي/ التنبيه والرد ص: 158 وسماها (الجمهورية)(1/137)
النص الثاني:
يقول بأن من ابتغى علم القرآن عند غير علي فقد هلك (1) .
أقول: من ابتغى علم القرآن من القرآن، أو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم علي فقد اهتدى، والقول بأن من طلب علم القرآن عند غير علي هلك ليس من دين الإسلام، وهو مما علم بطلاته من الإسلام بالضرورة، فلم يخص النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من الصحابة بعلم من الشريعة دون الآخرين. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فالآية تدل على أن البيان للناس وليس لفرد أو طائفة منهم ولو كان أهل بيته.
وقد نفى أمير المؤمنين علي أن يكون قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم دون الناس (2) .
وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، ومن بعدهم، ورغبهم في تبليغ سنته ولم يخص أحداً منهم فقال - كما يروي زيد بن ثابت وغيره -: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ... " (3) . وقد روت هذا الحديث كتب الاثني
__________
(1) انظر نصه ص: (163)
(2) تقدم الإشارة لهذا الحديث، وتخريجه من كتب السنة: ص: (79)
(3) أخرجه أحمد: 5/183، واللفظ له، والدارمي/ مقدمة، باب الاقتداء بالعلماء: 1/73، وأبو داود، كتاب العلم، باب فضل نشر العلم، 4/68-69، وابن ماجه، المقدمة، باب من بلغ علماً: 1/84، والترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع: 5/33-34، وابن حبان في صحيحه (انظر: موارد الظمآن، كتاب العلم، باب رواية الحديث لمن فهمه ولمن لم يفهمه ص: 47) ، قال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث زيد بن ثابت هذا صحيح خرجه أحمد وأبو داود، وابن حبان، وابن أبي حاتم، والخطيب، وأبو نعيم، والطيالسي، والترمذي، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وأنس وغيرهم.
(انظر: فيض القدير: 6/285) . وقد ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1/689-690، وللشيخ عبد المحسن العباد دراسة حول هذا الحديث بعنوان: "دراسة حديث نضر الله امرءاً سمع مقالتي" رواية ودراية(1/138)
عشرية المعتمدة (1) . فيكون حجة عليها.
أما النص الثالث:
فهو يدعي أن القول لم يخاطب به سوى الأئمة الاثني عشر، ومن هنا فلا يعرف القرآن سواهم (إنما يعرف القرآن من خوطب به) (2) ، ولهذا يعتبر صحابة رسول الله، والتابعون وأئمة الإسلام على امتداد العصور قد (هلكوا وأهلكوا) بقيامهم بتفسير القرآن وفق أصوله، أو اعتقادهم أن في كتاب الله ما لا يعذر أحد بجهالته، ومنه ما تعرفه العرب من كلامها، ومنه ما لا يعرفه إلا العلماء، ومنه ما لا يعلمه إلا الله (3) .
فالشيعة تزعم أنه لا يعرف القرآن سوى الأئمة، وأنهم يعرفون القرآن كله.
وهذه دعوى تفتقر إلى الدليل، وزعم يكذبه العقل والنقل، وينقضه واقع التفسير عندهم - كما سيأتي -.
النص الرابع:
يبين أن وظيفة الناس جميعاً سوى الأئمة الاثني عشر هو قراءة القرآن فقط.
ولا يجوز لأحد أن يتولى منصب تفسير القرآن (4) ، حتى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن وظيفته بيان "شأن ذلك الرجل.."، كما أنه من باب أولى ليس لأحد من الصحابة والسلف والأئمة أن يتولى شيئاً من ذلك، وإن احتاج أحد لتفسير آية فليرجع إلى من عنده علم القرآن: إلى أئمتهم.. وماذا سيجد من يرجع إلى تفاسير الشيعة كتفسير القمي والعياشي، والبرهان، وتفسير الصافي، أو ما في الكافي، والبحار
__________
(1) انظر: أصول الكافي: 1/403، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 18/63
(2) انظر: ص (133-134)
(3) روي هذا المعنى عن ابن عباس (انظر: تفسير الطبري: 1/76 تحقيق وتخريج أحمد شاكر، ومحمود شاكر، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/5)
(4) انظر نصه: (134)(1/139)
من تفسير لآيات القرآن يزعمون نسبتها لأئمتهم؟!. سيجد تأويلات باطنية ليس لها صلة بنص القرآن، ولا سياق الآيات ولا معانيها ومفهوماتها.. كما سنرى نماذج من ذلك.
إن أوضح برهان في هذه الدعاوى هو واقع التفسير عند هؤلاء القوم، ثم إن النص المذكور يدعو إلى الإعراض عن تدبر القرآن وفهم معانيه وهذا من الصد عن دين الله وشرعه.. ولعل الدافع لوضع مثل هذه الروايات هو محاولة منع جمهور الشيعة من قراءة كتاب الله وتدبره وفهمه لأن في ذلك افتضاحاً لكذب مؤسسي هذا المذهب وكشفاً لأضاليلهم وتعرية لمناهجهم الباطنية في تأويل كتاب الله.
ب- نقد هذه المقالة:
تقوم هذه المقالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أودع علياً علم القرآن، وقد وجد لهذه المقالة أصل في حياة أمير المؤمنين، وأظهرت السبئية القول بأن عند علي غير ما عند الناس، فنفىأمير المؤمنين ذلك نفياً قاطعاً وقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهماً يعطى رجل في كتابه ... " (1) . - كما مر-.
ومما يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه معاني القرآن، كما بيّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) . يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي (3) : "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن
__________
(1) تقدم تخرجه ص: (79)
(2) النحل، آية: 44
(3) مقرئ الكوفة الإمام العلم عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي، من أولاد الصحابة، مولده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ القراءات عن عثمان، وعلي، وزيد، وأبيّ، وابن مسعود.
(انظر: الذهبي/ سير أعلام النبلاء: 4/267، السيوطي/ طبقات الحفاظ: ص19) .
وهو غير أبي عبد الرحمن السلمي شيخ الصوفية، صاحب حقاق التفسير (ت412) الذي نسب إلى جعفر الصادق أقوالاً في تأويل القرآن على طريقة الباطنية.
وجعفر بريء من ذلك (انظر: ابن تميمة/ منهاج السنة: 4/146، والفتاوى: 13/242-243، وانظر في ترجمة السلمي الأخير: الخطيب البغدادي/ تاريخ بغداد: 2/248-249، الذهبي ميزان الاعتدال: 3/523)(1/140)
عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً" (1) . ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (2) . وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (3) . وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (4) . وتدبر القرآن بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (5) . وعقل القرآن متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
ولهذا لم تعد فئة من الشيعة تهضم هذه المقالة. وخرجت عن القول بكل
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13/331، وقد أخرجه الطبري في تفسيره: 1/80، وقال المحقق في تعليقه على هذا الأثر: "هذا إسناد صحيح متصل". انظر: تفسير الطبري، تحقيق وتعليق محمود شاكر، وأحمد شاكر. وأخرجه الطبري: 1/80 عن طريق الحسين بن واقد، حدثنا الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
قال المحقق: "هذا إسناد صحيح". وهو موقوف على ابن مسعود، ولكنه مرفوع معنى؛ لأن ابن مسعود إنما تعلم القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهو يحكي ما كان في ذلك العهد النبوي المنير (المصدر السابق 1/80) وقال شعيب الأرناؤوط: "رجاله ثقات". انظر تعليقه على سير أعلام النبلاء: 4/270
(2) سورة ص، آية: 29
(3) النساء، آية: 82، محمد، آية: 24
(4) المؤمنون، آية: 68
(5) يوسف، آية: 2(1/141)
ما فيها، فقالت بأن ظواهر القرآن لا يختص بعلمها الاثنا عشر، بل يشركهم غيرهم فيها، أما بواطن الآيات فمن اختصاص الأئمة. وقام خلاف كبير حول حجية ظواهر القرآن بين الأخبارين والأصوليين، فالفئة الأولى ترى أنه لا يعلم تفسير القرآن كله ظاهره وباطنه إلا الأئمة، والأخرى ترى حجية ظواهر القرآن لعموم الأدلة في الدعوة لتدبر القرآن وفهمه (1) .
إن دعوى أن القرآن لم يفسر إلا لعلي هي مخالفة لقول الله سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) . فالبيان للناس لا لعلي وحده - كما سبق -. فليس لمن قال بهذه المقالة إلا أحد طريقين: إما القول بأن الرسول لم يبلغ ما أنزل إليه، وإما أن يكذب القرآن، وهي مخالفة للعقل وما علم من الإسلام بالضرورة، ودعوى أن علم القرآن اختص به الأئمة ينافيه اشتهار عدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير القرآن كالخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت وغيرهم. "وكان علي - رضي الله عنه - يثني على تفسير ابن عباس" (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا ابن عباس نقل عنه من التفسير ما شاء الله بالأسانيد الثابتة ليس في شيء منها ذكر علي، وابن عباس يروي من غير واحد من الصحابة؛ يروي عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعن زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وأسامة بن زيد وغير واحد من المهاجرين والأنصار. وروايته عن علي قليلة جداً، ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئاً من حديثه عن
__________
(1) تعرضت لهذه المسألة كثير من كتب التفسير وأصول الفقه عندهم. انظر: الخوئي/ البيان: ص 263 وما بعدها، البروجردي/ تفسير الصراط المستقيم: 2/175 وما بعدها، المظفر/ أصول الفقه: 3/130، الحكيم/ الأصول العامة للفقه المقارن: ص 102-105، الميثمي/ قوامع الفضول: ص 298
(2) النحل، آية: 44
(3) انظر: ابن عطية/ المحرر الوجيز: 1/19، ابن جزي/ التسهيل: 1/9(1/142)
علي، وخرجوا حديثه عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم.. وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عن علي، وهذه كتب الحديث والتفسير مملوءة بالآثار عن الصحابة والتابعين، والذي منها عن علي قليل جداً، وما ينقل من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر" (1) .
ثم إن تعميم القول بأن الأئمة يعلمون القرآن كله غلو فاحش، ذلك أنه كما يقول ابن جرير الطبري: "إن مما أنزل الله من القرآن ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك تفصيل ما هو مجمل في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة، من شرائع الدين؛ كأوامره، ونواهيه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه. فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله إلا بوحي الله. ومنه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار، وذلك ما فيه من أمور استأثر الله بعلمها؛ كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور.. ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان العربي الذي نزل به القرآن" (2) .
هذا وقولهم: إن علم القرآن انفرد بنقله علي يفضي إلى الطعن في تواتر شريعة القرآن من الصحابة إلى سائر الأجيال، لأنه لم ينقلها - على حد زعمهم- عن رسول الله إلا واحد هو علي..
وبعد: فهذه المقالة مؤامرة، الهدف منها الصد عن كتاب الله سبحانه والإعراض عن تدبره، واستلهام هديه، والتفكر في عبره، والتأمل في معانيه ومقاصده. فالقرآن في دين الشيعة لا وسيلة لفهم معانيه إلا من طريقة الأئمة الاثني عشر، أما غيرهم فمحروم من الانتفاع به، وهي محاولة - أو حيلة - مكشوفة الهدف، مفضوحة القصد؛ لأن كتاب الله نزل بلسان عربي مبين وخوطب به الناس أجمعون {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) ، {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ
__________
(1) منهاج السنة: 4/155.
(2) تفسير الطبري: 1/73-74، 87-88
(3) يوسف، آية: 2(1/143)
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} (1) . وأمر الله عباده بتدبره، والاعتبار بأمثاله، والاتعاظ بمواعظه، ومحال أن يقال لمن لا يفهم ما يقال له ولا يعقل تأويله: اعتبر بما لا فهم لك به ولا معرفة من البيان والكلام (2) .
وهي محاولة للصد عن ذلك العلم العظيم في تفسير القرآن، والذي نقله إلينا صحابة رسول الله والسلف والأئمة.. فهذه الكنوز العظيمة لا عبرة بها ولا قيمة لها في دين الشيعة، لأنها ليست واردة عن الأئمة الاثني عشرية، وقد صرح بذلك بعض شيوخهم المعاصرين فقال: "إن جميع التفاسير الواردة عن غير أهل البيت لا قيمة لها ولا يعتد بها" (3) .
والقيمة في كتب التفسير عندهم وحدها.
وإذا ذهبنا نبحث عن هذه القيمة في كتبهم فماذا نجد؟
لقد حولت كتب التفسير المعتمدة عندهم كتفسير القمي والعياشي والصافي والبرهان وكتب الحديث كالكافي والبحار تأويلات لكتاب الله منسوبة لآل البيت تكشف في الكثير الغالب عن جهل فاضح بكتاب الله، وتأويل منحرف لآياته، وتعسف بالغ في تفسيره، ولا يمكن أن تصح نسبتها لعلماء آل البيت، فهي تأويلات لا تتصل بمدلولات الألفاظ، ولا بمفهومها، ولا بالسياق القرآني - كما سيأتي أمثلة ذلك - ومعنى ذلك - بناء على هذه العقيدة - أن هذا هو مبلغ علم علماء آل البيت، وفي ذلك من الزراية عليهم، ونسبة الجهل إليهم الشيء الكثير من قوم يزعمون محبتهم والتشيع لهم.
وأمر آخر أكبر وأخطر وهي أن تلك التأويلات.. هي علم القرآن، ومعانيه، وأنه لا معنى للقرآن أعظم منها، لأنها خرجت من المصدر الأصيل
__________
(1) آل عمران، آية: 138
(2) انظر: تفسير الطبري: 1/82
(3) محمد رضا النجفي/ الشيعة والرجعة: ص 19(1/144)
والوحيد والصحيح للتلقي. وهذا تهوين من أمر القرآن وشأنه، بل محاربة له وصد عنه بوسيلة ماكرة خبيثة.
المسألة الثالثة: اعتقادهم بأن قول الإمام ينسخ القرآن ويقيد مطلقه ويخصص عامه.
بناءً على اعتقاد الشيعة بأن الإمام هو قيم القرآن، وهو القرآن الناطق (1) . وأنهم هم خزنة علم الله وعيبة (2) . وحيه (3) ، وأنه بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكمل التشريع، بل إن بقية الشريعة أودعها الرسول لعلي، وأخرج علي منها ما يحتاجه عصره، ثم أودع ما بقي لمن بعده، وهكذا إلى أن بقيت عند إمامهم الغائب (4) .
بناءً على ذلك فإن مسألة تخصيص عام القرآن، أو تقييد مطلقة، أو نسخه هي مسألة لم تنته بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النص النبوي، والتشريع الإلهي استمر ولم ينقطع بوفاة الرسول، بل استمر عندهم إلى بداية القرن الرابع الهجري وذلك بوقوع الغيبة الكبرى (5) . والتي انتهت بها صلتهم بالإمام، وانقطع تلقي الوحي الإلهي عنه؛ لأنهم يعتقدون "أن حديث كل واحد من الأئمة الطاهرين قول الله عز وجل، ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى" (6) .
وقالوا: يجوز لمن سمع حديثاً عن أبي عبد الله (يعنون جعفر بن محمد الصادق) أن يرويه عن أبيه أو أحد أجداده؛ بل يجوز أن يقول: قال الله تعالى (7) . فكان
__________
(1) انظر: مسألة أن القرآن ليس بحجة إلا بقيم ص: (127)
(2) العيبة: زبيل من أدم، ومن الرجل موضع سره. (انظر: أصول الكافي: (الهامش) : 1/192)
(3) انظر: أصول الكافي: باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه: 1/192
(4) انظر: فصل السنة
(5) انظر: مسألة الغيبة في موضعها من هذه الرسالة
(6) المازندراني/ شرح جامع (علي الكافي) : 2/272
(7) المصدر السابق: 2/272(1/145)
للإمام - في اعتقادهم - تخصيص القرآن أو تقييده أو نسخه، وهو تخصيص أو تقييد أو نسخ للقرآن بالقرآن، لأن قول الإمام كقول الله - كما يفترون -!!.
ذلك أنهم يرون - كما يقول أحد آياتهم في هذا العصر -: "أن حكمة التدريج اقتضت بيان جملة من الأحكام وكتمان جملة، ولكنه - سلام الله عليه - أودعها عند أوصيائه: كل وصي يعهد بها إلى الآخر، لينشرها في الوقت المناسب لها حسب الحكمة: من عام مخصص، أو مطلق، أو مقيد، أو مجمل مبين إلى أمثال ذلك، فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصة بعد برهة من حياته، ولا قد يذكره أصلاً، بل يودعه عند وصية إلى وقته" (1) .
ومسألة النسخ والتخصيص والتقييد ... ليست إلا جزءاً من وظيفة الأمئة الكبرى وهي (التفويض في أمر الدين) والتي يقررها صاحب الكافي في باب يعقده في هذا الشأن بعنوان: "باب التفويض إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإلى الأئمة - عليهم السلام - في أمر الدين" (2) .
فالأئمة قد فوضوا في أمر هذا الدين، كما فوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم حق التشريع. تقول كتب الشيعة عن الأئمة: "إن الله عز مجل.. فوض إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (3) . فما فوض إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - قد فوضه إلينا" (4) .
وقال أبو عبد الله - كما تزعم كتب الشيعة -: "لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإلى الأئمة. قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (5) . وهي جارية في الأوصياء" (6) .
__________
(1) محمد حسين آل كاشف الغطا/ أصول الشيعة ص: 77
(2) أصول الكافي: 1/265
(3) الحشر، آية: 7
(4) أصول الكافي: 1/266
(5) النساء، آية: 105
(6) أصول الكافي: 1/268(1/146)
ثم إن الأئمة هم مستودع علوم الملائكة والأنبياء والرسل، وعندهم جميع الكتب التي نزلت من السماء، كما تقرره كتبهم المعتمدة في روايات كثيرة كما سيأتي (1) . فهذه المهام التشريعية هي من فيض هذه العلوم المخزونة عند الأئمة.
أما التطبيق العلمي لهذه العقيدة فهو ذلك الكم الهائل من الروايات في مسائل العقيدة وغيرها، والتي شذوا بها عن أئمة الإسلام. فمثلاً ألفاظ الكفر والكفار والشرك والمشركين الواردة في كتاب الله سبحانه، والتي تعم كل من كفر بالله وأشرك.. جاءت عندهم روايات كثيرة تخص هذا العموم بالكفر بولاية علي والشرك باتخاذ إمام معه - كما سيأتي - (2) . فخصصوا عموم الكتاب بلا مخصص، أو حرفوا النصوص وزعموا أنه تخصيص، واعتبروا مسألة الإمامة أخطر من الشرك والكفر، بلا دليل من عقل أو نقل صحيح، وخرجوا عن إجماع المسلمين، وما تواتر من نصوص الدين، وتجاهلوا حتى اللغة التي نزل بها القرآن العظيم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) .
وسنرى أمثلة كثيرة فيما سيأتي لهذا الضرب من التحريف.
نقد هذه العقيدة:
قد ختم الله سبحانه بمحمد صلى الله عليه وسلم الرسالات، وأكمل برسالته الدين، وانقطع بموته الوحي. وهذه أمور معلومة من دين الإسلام بالضرورة. وهذه المقالة تقوم على إنكار هذه الأركان، أو تنتهي بقائلها إلى ذلك، وهذا بلا شك نقض لحقيقة "شهادة أن محمداً رسول الله" والتي لا يتم إسلام أحد إلا بالإيمان بها.
ولعل المتأمل لهذه المقالة، والمحلل لأبعادها يدرك أن الهدف من هذه المقالة تبديل دين الإسلام، وتغيير شريعة سيد الأنام؛ إذ إن كلام الله سبحانه عرضة
__________
(1) انظر: فصل السنة، ومبحث "الإيمان بالكتب"
(2) سيأتي شواهد لذلك في مبحث: أمثلة من تأويلات الشيعة لآيات القرآن، ومبحث توحيد الألوهية
(3) يوسف، آية: 2(1/147)
للتبديل والتغيير بناسخ، أو مخصص، أو مقيد، أو مبين، أو عام يزعم شيوخ الشيعة نقله عن أئمتهم.
ولعل صورة التغيير تبدو بشكل أوضح وأجلى، إذا أدركنا ما جبل عليه هؤلاء القوم من الكذب حتى جعلوه ديناً وقربة - كما سيأتي (1) . - "ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف" (2) . وقد شهد طائفة من أئمة المسلمين بأنه لم ير أكذب وأشهد بالزور منهم، وأنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً، وأن الناس كانوا يسمونهم بالكذابين، ونهى أهل العلم عن أخذ الحديث عن هؤلاء الروافض (3) ، "بل في كتب هؤلاء نصوص تتضمن شكوى آل البيت من كذب هؤلاء وبهتانهم" (4) .
وهذه الدعوى تقوم على أن دين الإسلام ناقص ويحتاج إلى الأئمة الاثني عشر لإكماله، وأن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يكمل بهما التشريع.. إذ إن بقية الشريعة مودعة عند الأئمة، وأن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وإنما كتم بعض ما أنزله إليه وأسره لعلي.. وكل ذلك كفر بالله ورسوله، ومناقضة لأصول الإسلام، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (5) .
ويقول سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (6) ، وقال تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (7) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن
__________
(1) انظر: مسألة التقية
(2) انظر: المنتقى: ص 22
(3) انظر: منهاج السنة: 1/16، 17، السيوطي/ تدريب الراوي: 1/327
(4) انظر: البحار: 25/263، الممقاني/ تنقيح المقال: 1/174 (المقام الثالث من المقدمة) ، وانظر: رجال الكشي رقم: 174، 216، 541، 542، 544، 549، 588، 659، 741، 909، 1007، 1047، 1048، وسيأتي ذكر بعض ذلك في "اعتقادهم في السنة"
(5) المائدة، آية: 3
(6) النحل، آية: 89
(7) آل عمران، آية: 187(1/148)
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} ... (1) .
وقد نسب الإمام الأشعري هذه المقالة إلى الصنف الخامس عشر من أصناف الغالية من الشيعة - حسب تقسيمه - فهم الذين "يزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة، وتظهر عليهم الأعلام والمعجزات ويوحى إليهم" (2) .
وهذه العقائد أصبحت من أصول الاثني عشرية (3) ، لأنها شربت مذاهب الغلاة حتى الثمالة.
وقد أشار أبو جعفر النحاس (المتوفى سنة 338هـ) إلى هذه المقالة ولم ينسبها لأحد فقال: "وقال آخرون: باب الناسخ والمنسوخ إلى الإمام، ينسخ ما يشاء" (4) . وعدّ ذلك من عظيم الكفر، ثم بين بطلانه بقوله: "لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي من الله - جل وعز - إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن (5) ، فلما ارتفع هذان بموت النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع النسخ (6) .
__________
(1) البقرة، الآيتان: 159، 160
(2) مقالات الإسلاميين: 1/88
(3) انظر في دعوى الاثني عشرية أن الأئمة يوحى إليهم وتهبط عليهم الملائكة: فصل السنة من هذا الكتاب، وانظر في قول الاثني عشرية بأن الأئمة تظهر عليهم المعجزات: مبحث الإيمان بالأنبياء من هذا الكتاب
(4) الناسخ والمنسوخ: ص 8
(5) يعني سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم، آية:3-4 ...
(6) الناسخ والمنسوخ: ص 8-9(1/149)
المبحث الثاني: اعتقادهم في تأويل القرآن
وفيه مسألتان: الأولى: اعتقادهم بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر، والثانية: قولهم بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم.
المسألة الأولى: اعتقادهم بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر
وهذه المسألة قد أخذت بعداً كبيراً وخطيراً عند الشيعة، حيث تحول كتاب الله عندهم بتأثير هذا المعتقد إلى كتاب آخر غير ما في أيدي المسلمين، وقد ذهب شيوخ الشيعة وفي تطبيق هذا المبدأ شوطاً بعيداً، وقدم الشيعة مئات الروايات والتي تؤول آيات الله على غير تأويلها.. ونسبوها للأئمة الاثني عشر. وليس لهذا التأويل الباطني من ضابط، ولا له قاعدة يعتمد عليها.. وسيجد القارئ في تأويلهم لآيات القرآن محاولة يائسة لتغيير هذا الدين وتحوير معالمه وطمس أركانه.
فأركان الدين تفسر بالأئمة، وآيات الشرك والكفر تؤول بالشرك بولاية علي وإمامته، وآيات الحلال والحرام تفسير بالأئمة وأعدائهم، وهكذا يخرج القارئ لهذه التأويلات بدين غير دين الإسلام. وهذا الدين له ركنان أساسيان هما: الإيمان بإمامة الاثني عشر، والكفر واللعن لأعدائهم.
جاء في أصول الكافي للكليني ما نصه: ".. عن محمد بن منصور قال: سألت عبداً صالحاً (1) . عن قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (2) . قال: فقال: إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما
__________
(1) يعنون به موسى الكاظم والذي يعتبرونه إمامهم السابع (انظر: أصول الكافي: الهامش: 1/374)
(2) الأعراف، آية: 33(1/150)
حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق" (1) .
تقرر هذه الرواية الواردة في أصح كتبهم الأربعة مبدأ أن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر مخالفة تامة، وتضرب المثل بما أحل الله وحرم في كتابه من الطيبات، والخبائث، وأن المقصود بذلك رجال بأعيانهم هم الأئمة الاثنا عشرية، وأعداؤهم وهم كل خلفاء المسلمين.. وهذا التأويل لا أصل له من لغة أو عقل، أو دين، وهو محاولة لتغيير دين الإسلام من أساسه ودعوة إلى التحلل والإباحية!!
وفي هذا النص الوارد في أصح كتبهم يظهر من خلاله الدافع إلى القول بأن القرآن له ظهر وبطن، وهو أن كتاب الله سبحانه خلا من ذكر أئمتهم الاثني عشر، ومن النص على أعدائهم، وهذا الأمر أقضَّ مضاجعهم، وأفسد عليهم أمرهم، وقد صرحوا بأن كتاب الله قد خلا من ذكر الأئمة فقالوا: "لو قرئ القرآن كما أنزل لألفينا مسلمين" (2) . فلما لم يكن لأصل مذهبهم وهو (الإمامة) والأئمة ذكر في كتاب الله قالوا بهذه المقالة لإقناع أتباعهم، وترويج مذهبهم بين الأغرار والجهلة، وحتى يجعلوا لهذه المقالة القبول أسندوها - كعادتهم - لبعض آل البيت.
ومسألة القول بأن لنصوص القرآن باطناً يخالف ظاهرها شاعت في كتب القوم وأصبحت أصلاً من أصولهم، لأنه لا بقاء لمذهبهم إلا بها أو ما في حكمها، ولهذا عقد صاحب البحار باباً لهذا بعنوان: "باب أن للقرآن ظهراً وبطناً" (3) . وقد ذكر في هذا الباب (84) رواية، وهذه الروايات هي قليل من كثير مما أورده في كتابه في هذا الموضوع.. فقد قال في صدر هذا الباب إنه: "قد مضى كثير من تلك الأخبار في أبواب كتاب الإمامة ونورد هنا مختصراً من بعضها" (4) ، ثم ساق
__________
(1) أصول الكافي: 1/374، النعماني/ الغيبة: ص 83، تفسير العياشي: 2/16
(2) انظر: تفسير العياشي: 1/13، المجلي/ البحار: 19/30، هاشم البحراني/ البرهان: جص22
(3) انظر: البحار: 92/78-106
(4) المصدر السابق: 92/87(1/151)
الروايات الأربع والثمانين.
وفي تفسير البرهان عقد باباً مماثلاً لما في البحار بعنوان: «باب في أن القرآن له ظهر وبطن" (1) .
وفي مقدمة تفسير البرهان أفاض القول في هذه المسألة، فقد ذكر خمسة فصول حشر فيها روايات أئمته في هذا الباب انتخبها من مجموعة كبيرة من كتبهم المعتمدة (2) . وقد قرر كثير من كتب التفسير عندهم في مقدماتها هذه المسألة كأصل من أصولهم كتفسير القمي (3) ، والعياشي (4) ، والصافي (5) . وغيرها.
ومن نصوصهم في هذه المسألة: "أن للقرآن ظهراً وبطناً، وببطنه بطن إلى سبعة أبطن" (6) .
وعن جابر الجعفي قال: "سألت أبا جعفر عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألت ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟ فقال لي: يا جابر: إن للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً، يا جابر، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية لتكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه" (7) .
وتقرر نصوص الشيعة أن لكل آية معنى باطنياً، بل قالوا أكثر من ذلك؛
__________
(1) البرهان: 1/19
(2) مرآة الأنوار: ص 4-19
(3) انظر: تفسير القمي: 1/14، 16
(4) انظر: تفسير العياشي: 1/11
(5) تفسير الصافي: 1/29
(6) المصدر السابق: 1/31
(7) تفسير العياشي: 1/11، البرقي/ المحاسن: ص 300، البرهان في تفسير القرآن: 1/20-21، تفسير الصافي: 1/29، بحار الأنوار: 92/95، وسائل الشيعة: 18/142(1/152)
فقالوا: لكل آية سبعة بطون. ثم طاشت تقديراتهم فقالت: بأن لكل آية سبعين باطناً، واستفاضت بشأن ذلك أخبارهم؛ قال أحد شيوخهم: ".. لكل آية من كلام الله ظهر وبطن.. بل لكل واحدة منها كما يظهر من الأخبار المستفيضة سبعة وسبعون بطناً" (1) . وما ندري ما كنه هذه البطون؟! والمعنى الذي يحاولون إثباته لا يعدو أحد أمرين: إثبات إمامة الاثني عشر، أو الطعن في مخالفيهم وتكفيرهم، فلماذا تتعدد هذه البطون ... ؟! والناظر في رواياتهم التي تذهب هذا المذهب الباطني والتي تتسع لعرضها المجلدات يجد أنها لا تعدو هذين الموضوعين. قالوا: «وقد دلت أحاديث متكاثرة كادت أن تكون متواترة على أن بطونها وتأويلها بل كثير من تنزيلها وتفسيرها في فضل شأن السادة الأطهار ... بل الحق المتبين أن أكثر آيات الفضل والإنعام والمدح والإكرام، بل كلها فيهم وفي أوليائهم نزلت، وأن جل فقرات التوبيخ والتشنيع والتهديد والتفظيع؛ بل جملتها في مخالفيهم وأعدائهم ... إن الله عز وجل جعل جملة بطن القرآن في دعوة الإمامة والولاية، كما جعل جل ظهره في دعوة التوحيد والنبوة والرسالة.." (2) . وسيأتي تفصيل ذلك في مسألة "أن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم".
نقد هذه المقالة:
لا شك أن للقرآن العظيم أسراره ولفتاته، وإيماءاته وإيحاءاته، وهو بحر عظيم لا تنفذ كنوزه ولا تنقضي عجائبه، ولا ينتهي إعجازه.. وكل ذلك مما يتسع له اللفظ ولا يخرج عن إطار المعنى العام.. ولكن دعوى أولئك الباطنيين غريبة عن هذا المقصد، وهي تأويلات - كما سيأتي - لا تتصل بمدلولات الألفاظ ولا بمفهومها، ولا بالسياق القرآن، بل هي مخالفة للنص القرآني تماماً، هدفها هو
__________
(1) أبو الحسن الشريف/ مرآة الأنوار: ص 3
(2) المصدر السابق: ص 3.(1/153)
البحث في كتاب الله من أصل يؤيد شذوذهم، وغايتها الصد عن كتاب الله ودينه، وحاصل هذا الاتجاه الباطني في تأويل نصوص الشريعة هو الانحلال عن الدين (1) .
وعموم البشر على اختلاف لغاتهم يعتبرون ظاهر الكلام هو العمدة في المعنى، وأسلوب الأحاجي والألغاز لا وجود له إلا في الفكر الباطني، ولو اتخذ هذا الأسلوب قاعدة لما أمكن التفاهم بحال، ولما حصل الثقة بمقال؛ لأن المعاني الباطنية لا ضابط لها ولا نظام.
والمتأمل لهذه المقالة يدرك خطورة هذا الاتجاه الباطني في تفسير القرآن، وأنه يقتضي بطلان الثقة بالألفاظ، ويسقط الانتفاع بكلام الله وكلام رسوله، فإن ما يسبق إلى الفهم لا يوثق به، والباطن لا ضابط له، بل تتعارض فيه الخواطر، ويمكن تنزيله على وجوه شتى، وبهذا الطريق يحاول الباطنية التوصل إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها، وتنزيلها على رأيهم. ولو كانت تلك التأويلات الباطنية هي معاني القرآن، ودلالاتها لما تحقق به الإعجاز، ولكن من قبيل الألغاز، والعرب كانت تفهم القرآن من خلال معانيه الظاهرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من ادعى علماً باطناً، أو علماً بباطن وذلك يخالف العالم الظاهر كان مخطئاً، إما ملحداً زنديقاً، وإما جاهلاً ضالاً ... وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم، فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم" ثم يقول: "وهؤلاء الباطنية قد يفسرون: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (2) . أنه علي.. وقوله: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (3) . أنهم طلحة والزبير،
__________
(1) انظر: ابن حجر/ فتح الباري: 1/216
(2) يس، آية: 12
(3) التوبة، آية: 12(1/154)
{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} (1) . بأنها بنو أمية" (2) .
هذه التأويلات التي ينقلها ابن تيمية وينسبها للباطنية موجودة بعينها عند الاثني عشرية، فالتأويل المذكور للآية الأولى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} جاء عندهم في خمس روايات أو أكثر (3) ، وسجل في طائفة من كتبهم المعتمدة (4) ، وليس في الآية أية دلالة على هذا التأويل (5) . وكذلك الآية الثانية: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ورد تأويلها بذلك في طائفة من كتبهم المعتمدة (6) . وبلغت رواياتها عندهم أكثر من ثمان روايات (7) ، ومثلها الآية الثالثة: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} جاء تأويلها عند الاثني عشرية بما قاله شيخ الإسلام في أكثر من اثنتي عشرة رواية (8) ، وتناقل هذا التأويل مجموعة من مصادرهم المعتمدة (9) .
وسنجد أنهم قالوا بأكثر من هذا، وأعظم من هذا، ولكن نقلنا هذا لنبين أن ما يذكره علماء الإسلام عن الباطنية من تأويلات منحرفة قد ورثته طائفة الاثني عشرية، وأصبح منهجاً من مناهجها. وكان علماء الإسلام يستنكرون هذا
__________
(1) الإسراء، آية: 60
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 13/236-237
(3) انظر: اللوامع النورانية في أمساء علي وأهل بيته القرآنية: هاشم البحراني: ص321-323
(4) انظر من ذلك: تفسير القمي: 2/212، ابن بابويه القمي/ معاني الأخبار: ص95، هاشم البحراني/ تفسير البرهان: 4/6-7 الكاشاني/ تفسير الصافي: 4/247، تفسير شبر: ص416
(5) قال السلف في تفسير الآية: إن الإمام المبين ها هنا هو أم الكتاب، أي: وجميع الكائنات مكتوبة في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ. (انظر: تفسير ابن كثير: 3/591)
(6) انظر: البرهان: 2/106، 107، تفسير الصافي: 2/324، تفسير العياشي: 2/77-78، وانظر: تفسير القمي: 1/283
(7) راجع المصادر السابقة
(8) انظر: البرهان 2/424-425
(9) انظر: تفسير القمي: 2/21، تفسير العياشي: 2/297، تفسير الصافي: 3/199-202، البرهان: 2/424-425، تفسير شبر ص: 284، وانظر: مقتبس الأثر (دائرة المعارف الشيعية) : 20/21(1/155)
التأويل الباطني، لأن "من فسر القرآن وتأوله على غير التفسير المعروف من الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله، ملحد في آيات الله، محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام" (1) .
وما وصل لعلماء الإسلام السابقين من تأويلات باطنية هي قليل من كثير مما كشفته اليوم مطابع النجف وطهران، وما استجد بعدهم من مقالات صنعتها يد التلبيس والتزوير والتي لم تتوقف إلى اليوم، حيث فسروا كثيراً من آيات القرآن على هذا النحو من التأويل الباطني، وزعموا أن جل آيات القرآن العظيم نزل فيهم وفي أعدائهم، كما سيتبين هذا في المسألة التالية:
المسألة الثانية: قولهم بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم
يقول الشيعة بأن: "جل القرآن إنما نزل فيهم (يعني في الأئمة الاثني عشرية) وفي أوليائهم وأعدائهم" (2) ، مع أنك لو فتشت في كتاب الله وأخذت معك قواميس اللغة العربية كلها وبحثت عن اسم من أسماء هؤلاء الاثني عشرية فلن تجد لها ذكراً، ومع ذلك فإن شيخهم البحراني يزعم بأن علياً وحده ذكر في القرآن (1154) مرة ويؤلف في هذا الشأن كتاباً سماه: "اللوامع النورانية في أسماء علي وأهل بيته القرآنية" (3) . يحطم فيه كل مقاييس لغة العرب، ويتجاوز فيه أصول العقل والمنطق، ويفضح من خلاله قومه على رؤوس الأشهاد بتحريفاته التي سطرها في هذا الكتاب وجمعها - وقد كانت متفرقة قد لا تعرف - من طائفة من مصادرهم هم المعتبرة عندهم.
وتأتي بعض رواياتهم لتقول: "إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع
__________
(1) الفتاوى: 13/243
(2) تفسير الصافي: 1/24، وهذا النص جعله صاحب الصافي عنواناً للمقدمة الثانية
(3) وقد طبع في المطبعة العلمية بقم 1394هـ(1/156)
حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم" (1) . وهذا يعني أنه ليس للأئمة ذكر صريح في القرآن.
ولكن تأتي رواية أخرى لهم بتقسيم آخر لكتاب الله تجعل فيه نصيب الأئمة وأعدائهم ثلث القرآن، وكأنها تحاول أن تتلافى ما في الرواية السابقة من نسيان لذكر الأئمة، إلا أنها لم تجعل للأئمة وأعدائهم إلا ثلث القرآن لا جله، تقول الرواية: "نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام" (2) . ولكن تأتي رواية ثالثة يزيد فيها نصيب الأئمة ومخالفيهم من الثلث إلى النصف؛ تقول الرواية: "نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع في فرائض وأحكام" (3) .
ويلاحظ أنه ليس للأمة ميزة ينفردون بها في القرآن عن مخالفيهم بالنسبة للتقسيم المذكور، وقد تفطن بعضهم لهذا فوضع رواية رابعة بنفس النص السابق، إلا أنه زاد فيها: "ولنا كرائم القرآن" (4) . وقد أشار إلى ذلك صاحب تفسير الصافي فقال: "وزاد العياشي ولنا كرائم القرآن" (5) . فانتهوا بهذا إلى القول بأن أكثر القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم.
يقول شيخهم الفيض الكاشاني (مؤلف الوافي أحد مصادرهم المعتمدة عندهم في الحديث) يقول: "وردت أخبار جمة عن أهل البيت في تأويل كثير من آيات القرآن وبأوليائهم، وبأعدائهم، حتى أن جماعة من أصحابنا صنفوا كتباً في تأويل القرآن على هذا النحو جمعوا فيها ما ورد عنهم في تأويل القرآن آية آية، إما بهم أو بشيعتهم، أو بعدوهم، على ترتيب القرآن. وقد رأيت منها كتاباً
__________
(1) أصول الكافي: 2/627
(2) أصول الكافي: 2/627، البرهان: 1/21 تفسير الصافي: 1/24، اللوامح النورانية: ص 6
(3) أصول الكافي: 2/627، البرهان: 1/21
(4) تفسير العياشي: 1/9، تفسير فرات: 1، 2، بحار الأنوار: 24/305، الكراجكي/ كنز الفوائد: ص 2، البرهان: 1/21، اللوامح النورانية: ص 7
(5) تفسير الصافي: 1/24(1/157)
كاد يقرب من عشرين ألف بيت، وقد روي في الكافي، وفي تفسير العياشي، وعلي بن إبراهيم القمي، والتفسير المسموع من أبي محمد الزكي أخباراً كثيرة من هذا القبيل (1) .
هذه شهادة أو اعتراف من أحد أساطينهم تؤكد شيوع هذه المقالة بينهم، وأنها أصبحت هي القاعدة المتبعة في كتب التفسير المعتمدة عندهم، وفي أصح كتب الحديث لديهم.. فهم بهذا صرفوا كتاب الله عن معانيه، وحرفوه عن تنزيله، وجعلوا منه كتاباً غير ما في أيدي الناس.
وهم يعتبرون هذا هو الأصل والقاعدة حتى قال بعض شيوخهم: "إن الأصل في تنزيل آيات القرآن.. إنما هو الإرشاد إلى ولاية النبي والأئمة - صلوات الله عليهم - بحيث لا خير خبّر به إلا وهو فيهم وفي أتباعهم، وعارفيهم، ولا سوء ذكر فيه إلا وهو صادق على أعدائهم وفي مخالفيهم" (2) . ولهذا نرى شيوخهم يتسابقون في تحريف آيات القرآن العظيم، وتطبيق هذه العقيدة.
يعقد شيخهم الحر العاملي في كتابه: الفصول المهمة في أصول الأئمة باباً في هذا الشأن بعنوان: "باب أن كل ما في القرآن من آيات التحليل والتحريم، فالمراد بها ظاهرها، والمراد بباطنها أئمة العدل والجور" (3) ، فهو يعتبر آيات أحكام الحلال المقصود بها أئمتهم، وآيات الحرام المقصود بها خلفاء المسلمين باستثناء الإمام علي وبقية الأئمة الاثني عشرة، وهذا بلا شك باب من أبواب الإباحية، وهو ما عليه طوائف الباطنية، ولكنه يعد هذه المقالة أصلاً من أصول الأئمة.
وفي كتاب الكافي - أصح كتاب عندهم - روايات كثيرة في هذا.
وحسبك أن تقرأ: "باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية" لتفاجأ بإحدى
__________
(1) الكاشاني/ تفسير الصافي: 1/24-25
(2) أبو الحسن الشريف/ مرآة الأنوار (مقدمة البرهان) ص 4، وانظر: اللوامح النورانية: ص 548
(3) الفصول المهمة في أصول الائمة: ص 256(1/158)
وتسعين رواية حشدها في هذا الباب، وحرف بها آيات القرآن عن معانيها (1) . وهذا باب من مجموعة أبواب (2) . على هذا النهج وكلها تضمنت عشرات الروايات التي تجعل من كتاب الله كتاباً شيعياً لا موضوع له سوى أئمة الشيعة وأتباعهم، وأعدائهم.
وفي كتاب "البحار" أحد مصادرهم المعتمدة عندهم في الحديث أبواب كثيرة هي بمثابة قواعد وأصول في تفسير القرآن عندهم، وقد حشر في هذه الأبواب روايات كثيرة كلها تذهب هذا المذهب في كتاب الله سبحانه. ولعله يكفي أن تقرأ عناوين بعض هذه الأبواب لتدرك مدى مجافاتها للغة العرب، ومناقضتها للعقل، ومنافاتها لأصول الإسلام، وأنها من أعظم الإلحادة في كتاب الله، والتحريف لمعانيه.
ولنستعرض قسماً من هذه العناوين فيما يلي: قال المجلسي:
باب "تأويل المؤمنين والإيمان والمسلمين والإسلام بهم وبولايتهم عليهم والسلام، والكفار والمشركين، والكفر والشرك، والجبت والطاغوت واللات والعزى، والأصنام بأعدائهم ومخالفيهم" (3) . وقد ذكرت تحت هذا الباب مائة حديث لهم.
باب "أنهم عليهم السلام الأبرار والمتقون، والسابقون والمقربون، وشيعتهم أصحاب اليمين، وأعداؤهم الفجار والأشرار وأصحاب الشمال" (4) ، وذكر فيه (25) رواية لهم.
باب "أنهم عليهم السلام وولايتهم العدل والمعروف والإحسان والقسط
__________
(1) انظر: أصول الكافي: 1/412 وما بعدها
(2) مثل: باب أن الأئمة - رضي الله عنهم - العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه (أصول الكافي: 1/206) ، باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة (المصدر السابق: 1 /207) ، باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة (المصدر السابق: 1/210) وغيرها من الأبواب
(3) بحار الأنوار: 23/354-390
(4) المصدر السابق: 24/1-9(1/159)
والميزان، وترك ولايتهم وأعدائهم الكفر والفسوق والعصيان والفحشاء والمنكر والبغي" (1) . وأورد فيه (14) حديثاً من أحاديثهم.
وأبواب أخرى على هذا النمط - كما سيأتي - تكشف عن محاولة لتغيير دين الإسلام؛ حيث حصرت كل معاني الإسلام في بيعه رجل، وغيرت مفهوم الشرك في عبادة الله، والكفر به، والطواغيت والأصنام إلى مفاهيم غريبة تكشف هوية واضع هذه "المفتريات"، فأعداء الأئمة كل خليفة من خلفاء المسلمين - باستثناء الاثني عشر - من أبي بكر إلى أن تقوم الساعة، وكل من بايع هؤلاء الخلفاء من الصحابة ومن بعدهم إلى نهاية الدنيا، هؤلاء هم الأعداء الذين تؤول بهم ألفاظ الكفر والشرك كما سيأتي في مبحث "الإمامة".
فأين أركان الإيمان، وأصول الإسلام، وشرائعه وأحكامه؟! كلها انحصرت في الإمامة، وأصبح الشرك والكفر والأصنام من المعروف، إذ لا شرك ولا كفر إلا الشرك مع الإمام أو الكفر بولايته.. كما تدل عليه هذه الروايات. أليس هذا من أعظم الكفر والزندقة؟، وهل يبلغ كيد عدو حاقد أبلغ من هذا؟!.. وهو وإن كان كيد جاهل لوضوح فساده، وظهور بطلانه، لكن لا ينقضي عجب المسلم العاقل كيف تعيش أمة تعد بالملايين أسيرة لهذه الترهات والأباطيل؟!
ونمضي في استعراضنا لعناوين بعض الأبواب من البحار، يقول صاحب البحار:
باب أنهم الصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر الطاعات، وأعداؤهم الفواحش والمعاصي، وتضمن هذا الباب (17) رواية (2) ، وهذا هو عين مذهب الباطنية الذين «يجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها: لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها.. والتي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء
__________
(1) بحار الأنوار: 24/187-191
(2) البحار: 24/286-304(1/160)
على الرسل - صلوات الله عليهم -، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله" (1) .
ويستمر صاحب البحار ليقدم لنا الاثني عشرية على حقيقتها من خلال أبوابه، لأنه يكتب كتابه في ظل الدولة الصفوية والتي ارتفعت فيها التقية إلى حد ما، فيقول:
باب أنهم عليهم السلام آيات الله وبيناته وكتابه.. وفيه (20) رواية (2) .
وباب أنهم السبع المثاني، وفيه (10) روايات (3) .
وباب أنهم عليهم السلام الصافون والمسبحون وصاحب المقام المعلوم وحملة عرش الرحمن، وأنهم السفرة الكرام البررة، وفيه (11) رواية (4) .
وباب أنهم كلمات الله، وفيه (25) رواية (5) .
وباب أنهم حرمات الله، وفيه (6) روايات (6) .
وباب انهم الذكر وأهل الذكر، وفيه (65) رواية (7) .
وباب أنهم أنوار الله، وفيه (42) رواية (8) .
وباب أنهم خير أمة وخير أئمة أخرجت للناس، وفيه (24) رواية (9) .
وباب أنهم المظلومون، وفيه (37) رواية (10) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 3/29
(2) انظر: بحار الأنوار: 23/206-211
(3) بحار الأنوار: 24/114-118
(4) بحار الأنوار: 24/87-91
(5) بحار الأنوار: 24/173-184
(6) بحار الأنوار: 24/185-186
(7) بحار الأنوار: 23/172-188
(8) بحار الأنوار: 23/304-325
(9) بحار الأنوار: 24/153-158
(10) بحار الأنوار: 24/221-231(1/161)
وباب أنهم المستضعفون، وفيه (13) رواية (1) .
وباب أنهم أهل الأعراف الذين ذكرهم الله في القرآن، وفيه (20) رواية (2) .
وباب تأويل الوالدين والولد والأرحام وذوي القربى بهم - عليهم السلام - وفيه (23) رواية (3) .
فالأئمة كما ترى في هذه الأبواب يكونون أحياناً ملائكة، وأحياناً كتباً سماوية، أو أنوارًا إلهية.. إلخ، ومع ذلك فهم المظلومون والمستضعفون، وهي دعاوي لا تحتاج إلى نقد فهي مرفوضة لغة وعقلاً، فضلاً عن الشرع وأصول الإسلام، وهي عناوين يناقض بعضها بعضاً.. ولكنه يمضي في هذا النهج حتى يفسر الجمادات ويؤولها بالأئمة، يقول: باب أنهم الماء المعين، والبئر المعطلة، والقصر المشيد، وتأويل السحاب، والمطر، والظل، والفواكه وسائر المنافع بعلمهم وبركاتهم. وقد أورد في هذا الباب إحدى وعشرين رواية (4) . انتخبها - كعادته - من طائفة من كتبهم المعتمدة.
ويغلو ويشتط، ويتجاوز الحد، ليصل إلى أوصاف الرب جل جلاله فيقول: باب أنهم جنب الله وروحه ويد الله، وأمثالها، ويذكر فيه ستاً وثلاثون رواية (5) .
ويجعلهم هم الكعبة والقبلة.. ويعقد باباً لهذا بعنوان: باب أنهم - رضي الله عنهم - حزب الله وبقيته وكعبته (6) . وقبلته، وأن الأثارة من العلم علم الأوصياء،
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 24/167-173
(2) بحار الأنوار: 24/247-256
(3) بحار الأنوار: 24-257-272
(4) البحار: 24/100-110
(5) البحار: 24/191-203
(6) ربما أن البهرة (إسماعيلية الهند واليمن) الذين يذهبون للحج، لأن الكعبة - كما يقولون- رمز علي الإمام (إسلام بلا مذاهب: ص240) ، قد استقوا هذا «الإلحاد» من هذه الروايات، فإن الروافض هم الباب والوسيلة لغلو الفرق الباطنية(1/162)
ويقدم في هذا الباب سبع روايات (1) .
ويمضي في هذا الشطط في طائفة من الأبواب عرضها يمثل في الحقيقة أبلغ رد وأعظم نقد لمذهب الشيعة، وهو ينسف بنيانهم من القواعد، وهو يؤكد عظمة هذا الدين الإسلامي، فبضدها تتميز الأشياء - فلولا المر ما عرف طعم الحلو - فهذه التأويلات أشبه ما تكون بمحاولات مسيلمة الكذاب، وهي تعطي الدليل القاطع على أنها ليست من عند الله سبحانه، يعرف هذا من له أدنى صلة بلغة العرب فضلاً عن دين الإسلام وقواعده وأصوله، لأن الله سبحانه أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين.
وكتاب البحار المعتمد عند الشيعة يكاد يجعل الأئمة هم كل شيء ورد به القرآن.. فيمضي في هذه الأبواب ليقرر ما شاء له هواه وتعصبه، ويصل به الأمر ليلقي كل ما في نفسه وما يخطر بباله بلا خلاف من انكشاف فضيحته، ولا حياء من زيادة وقاحته فيقول:
باب أنهم البحر واللؤلؤ والمرجان، ويضمن هذا الباب سبع روايات (2) .
فهل هم جماد؟ أو هذا عندهم رمز باطني، وإشارة سرية إليهم!! ولكنهم ليسوا بجماد، فهو يعقد باباً بعنوان:
باب أنهم الناس، ولا يذكر فيه سوى ثلاث روايات (3) . ويقرر في هذا الباب بأن غير الأئمة ليسوا من الناس.. ويعود ليتابع بسط مذهبهم الغريب الشاذ، والذي لم يكن معروفاً عن الاثني عشرية عند علماء المسلمين السابقين، بل هذا المذهب مشتهر عن الباطنية (4) . يعود ليعقد باباً بعنوان: باب نادر في تأويل
__________
(1) البحار: 24/211-213
(2) المصدر السابق: 24/97-99
(3) المصدر السابق: 24/94-96
(4) وقد أشار بعض شيوخهم إلى أن المذهب يتطور ويتغير من زمن لآخر، كما سيأتي الحديث عن ذلك في باب "الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم"(1/163)
النحل بهم، وذكر في هذا سبع روايات (1) .
وباباً آخر بعنوان: باب في تأويل الأيام والشهور بالأئمة، ويتضمن هذا الباب أربعة أحاديث (2) .
ولو ذهبنا ننقل أحاديث تلك الأبواب، ونتعقبها بالتحليل والنقد لاستوعب ذلك مجلدات.
وقد اخترنا هنا ذكر الأبواب حتى لا يقال بأننا نعمد إلى الروايات الشاذة عندهم فنذكرها، كما أننا سنذكر بعد هذا أمثلة من روايات هذه الأبواب ونختار منها - في الغالب - ما يشترك في ذكرها مجموعة من كتبهم المعتمدة. وهذه الأبواب التي أوردناها هي قليل من كثير، وقد جاءت في أكبر موسوعة حديثية عند الشيعة وهو كتاب البحار، والذي قال شيوخهم المعاصرون في وصفه: "أجمع كتاب في فنون الحديث" (3) ، "لم يكتب قبله ولا بعده جامع مثله" (4) ، "وقد صار مصدراً لكل من طلب باباً من أبواب علوم آل محمد صلى الله عليه وسلم" (5) ، "هو المرجع الوحيد في تحقيق معارف المذهب" (6) . أما مؤلفه فهو عندهم: "شيخ الإسلام والمسلمين" (7) ، "رئيس الفقهاء والمحدثين، آية الله في العالمين، ملاذ المحدثين في كل الأعصار، ومعاذ المجتهدين في جميع الأمصار" (8) . إلى آخر الألقاب التي خلعوها عليه.
وتلك الروايات مصدرها طائفة من كتبهم المعتمدة، لأنه يقول: «اجتمع
__________
(1) البحار: 24/110-113
(2) المصدر السابق: 24/238-243
(3) محسن الأمين/ أعيان الشيعة: 1/293
(4) أغابزرك الطهراني/ الذريعة: 3/26
(5) المصدر السابق: 3/26-27
(6) البهبودي/ مقدمة البحار: ص 19
(7) الأردبيلي/ جامع الرواة: 2/78
(8) مقدمة البحار: ص39(1/164)
عندنا بحمد الله سوى الكتب الأربعة (1) . نحو مائتي كتاب ولقد جمعتها في بحار الأنوار" (2) . ويقول صاحب الذريعة: "وأكثر مآخذ البحار من الكتب المعتمدة والأصول المعتبرة" (3) .
وإن من له أدنى صلة باللسان العربي - كما قلت - يدرك أن هذه الأبواب وتلك الروايات إلحاد في كتاب الله، وتحريف لكلامه سبحانه عن مواضعه. وأن مثل هذه التحريفات لا تلتبس إلا على أعجمي جاهل بالإسلام ولغة العرب، ولعلها برهان واقعي على أن من حاول المساس بكتاب الله سبحانه سقط إلى هذا الدرك الهابط، وليس هذا النهج في كتب الروايات والأحاديث فحسب، فأنت إذا طالعت عمدة التفسير عند الطائفة "وأصل أصول التفاسير" (4) . لديها، وهو تفسير القمي ألفيته قد أخذ من تلك التفاسير الباطنية بنصيب وافر، ومثله تفسير العياشي وهو من كتب التفسير القديمة المعتمدة عندهم، وعلى نفس الطريق تجد تفسير البرهان، وتفسير الصافي وغيرها، وهي تعتمد على تفسير الآيات - بما زعموا - أنه المأثور عن جعفر الصادق أو بقية الانثي عشر. ولو ذهنا ندرس ونعرض كل كتاب تفسير على حدة لطال الموضوع وخرجنا عن المقام، وحسبنا أن نذكر أمثلة من رواياتهم في هذا الباب.
__________
(1) الكتب الأربعة هي: الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، وسيأتي إن شاء الله حديث عنها في مبحث: "عقيدتهم في السنة"
(2) اعتقادات المجلسي ص: 24 (عن كتاب الفكر الشيعي/ مصطفى الشيبي ص: 61)
(3) الذريعة: 3/26-27
(4) انظر: مقدمة تفسير القمي: 1/16(1/165)
أصل هذه التأويلات وجذورها، وأمثلة لها:
أ- أصل هذه التأويلات:
مضى القول بأن كتب الشيعة تزعم أن القرآن لا يحتج به إلا بقيم، وأن هذا القيم - والمتمثل بالاثني عشر - عنده علم القرآن كله ولا يشركه في ذلك أحد، ثم جعلت لهذا القيم وظيفة "المشرع" في تخصيص عام النصوص، وتقييد مطلقها، وبيان مجملها، ونسخ ما شاء منها، لأنه مفوض في أمر الدين كله، ثم بررت ضرورة وجود هذا القيم لتأويل القرآن بقولها: بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر، ثم كشفت عن علم هذا الباطن المدخر عند الأئمة بأنه يعني الأئمة الاثني عشر وأعداءهم (وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان) ، ومعظم موضوعات القرآن لا تتعدى - عندهم - هذا الشأن، ثم وضعت هذه النظريات موضع التنفيذ، حيث قام شيوخ الشيعة بوضع مئات الروايات في تفسير معاني القرآن بالأئمة أو مخالفيهم، أو بعقيدة أخرى من عقائدهم التي شذوا بها عن جماعة المسلمين.
ويرى بعض الباحثين (1) . أن أول كتاب وضع الأساس لهذا اللون من تفسير الشيعة هو تفسير القرآن الذي وضعه في القرن الثاني للهجرة (جابر الجعفي) (2) .
__________
(1) جولد سيهر/ مذاهب التفسير الإسلامي ص: 303-404
(2) جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي، توفي سنة (127هـ) ، قال ابن حبان: كان سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ. كان يقول: إن علياً يرجع إلى الدنيا، وروى العقيلي بسنده عن زائدة أنه قال: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النسائي وغيره: متروك. وقال يحيى: لا يكتب حديثه ولا كرامة، قال ابن حجر: ضعيف رافضي. =(1/166)
وقد أشار إلى هذا التفسير طائفة من شيوخ الشيعة (1) ، وكان هذا التفسير - كما تشير بعض رواياتهم - موضع التداول السري، فيروي الكشي بسنده عن المفضل بن عمر الجعفي، قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن تفسير جابر؟ فقال: لا تحدث به السفلة فيذيعوه" (2) .
وتجد روايات كثيرة متفرقة في كتب الشيعة مروية عن هذا الجعفي، وينسبها لجعفر بن محمد أو أبيه (3) . ويبدو أن الشيعة لا يمكن أن تثبت لها قدم، أو تحتج بدليل من كتاب الله إلا بمثل هذه التأويلات الباطنية، ولهذا بدأ هذا النهج مبكراً كما نلاحظ، بل يمكن أن يقال: إن جذور هذه العقيدة قد نبتت في أروقة السبئية.. لأن ابن سبأ هو الذي حاول أن يجد لقوله بالرجعة مستنداً من كتاب الله بالتأويل الباطل وذلك حينماً قال: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع. وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى
__________
= (انظر: ميزان الاعتدال: 1/379-380، تقريب التهذيب 1/123، الضعفاء للعقيلي: 1/191-196) .
أما هذا الجعفي في كتب الشيعة فأخبارهم في شأنه متناقضة، فأخبار تجعله ممن انتهى إليه علم أهل البيت، وتضفي عليه صفات أسطورية من علم الغيب ونحوه، وأخبار تطعن فيه.. لكنهم يحملون أخبار الطعن فيه على التقية، ويقولون بتوثيقه كعادتهم في توثيق من على مذهبهم، وإن كان كاذباً (انظر: وسائل الشيعة: 20/51، رجال الكشي: ص 191، جامع الرواة: 1/144) . وانظر تفصيل ذلك في: "فصل عقيدتهم في السنة"
(1) الطوسي/ الفهرست ص: 70، أغا برزك/ الذريعة: 4/268، العاملي/ أعيان الشعية: 1/196
(2) رجال الكشي: ص192
(3) قال المظفر (من شيوخ الشيعة المعاصرين) : "روي عن الباقر خاصة سبعين ألف حديث.. وقيل: إنه ممن انتهى إليه علم الأئمة". (محمد المظفر/ الإمام الصادق ص 143) . ولكن في رجال الكشي عند ترجمته لجابر الجعفي. قال زرارة: سألت أبا عبد الله - رضي الله عنه - عن أحاديث جابر فقال: "ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة، وما دخل علي قط" (رجال الكشي: ص 191) وهذه شهادة منهم تثبت كذب جابر في مروياته عن الصادق وأبيه، وسيأتي مزيد بيان لهذا في فصل السنة(1/167)
مَعَادٍ} (1) .
وقد نقلت لنا بعض كتب أهل السنة نماذج من تأويلات الشيعة لكتاب الله، ولكن ما انكشف لنا اليوم أمر لا يخطر على البال. ويبدو أن ما نسبه بعض أئمة السنة لغلاة الشيعة من تأويلات قد ورثتها الاثنا عشرية. فالإمام الأشعري (2) ، وكذلك البغدادي (3) ، والشهرستاني (4) . وغيرهم يحكون عن المغيرة بن سعيد أحد الغلاة باتفاق السنة والشيعة والذي تنسب إليه طائفة المغيرية (5) . أنه ذهب في تأويل الشيطان في قول الله جل شأنه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ} (6) . بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
وهذا التأويل بعينه قد ورثته الاثنا عشرية، ودونته في مصادرها المعتمدة، حيث جاء في تفسير العياشي (7) ، والصافي (8) ، والقمي (9) ، والبرهان (10) ، وبحار
__________
(1) القصص، آية: 85، وهذا النص في: تاريخ الطبري 4/34، تاريخ ابن الأثير (3/77)
(2) مقالات الإسلاميين: 1/73
(3) الفرق بين الفرق: ص 240
(4) الملل والنحل: 1/177
(5) المغيرية: أتباع المغيرة بن سعيد، عدّهم أصحاب الفرق من غلاة الشيعة، نسب إليه القول بألوهية علي، ودعوة النبوة، والتجسيم، وضلالات أخرى، وقد جاء في كتب الاثني عشرية ذمة ولعنة عن الأئمة.. قتله خالد بن عبد الله القسري سنة (119هـ) .
انظر: تاريخ الطبري: 7/128-130، الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/69-74، البغدادي/ الفرق بين الفرق ص: 238-242، ابن حزم/ الفصل: 5/43-44، الشهرستاني/ الملل والنحل: 176-178، نشوان الحميري/ الحور العين: ص 168، الذهبي/ ميزان الاعتدال: 4/160-162، المقريزي/ الخطط: 2/353.
وانظر من كتب الشيعة: القمي/ المقالات والفرق: ص 55، رجال الكشي، الروايات رقم: 336، 339، 400، 402، 403، 404، 405، 406، 407، 408، 511، 542، 543، 544، 549
(6) الحشر، آية: 16
(7) تفسير العياشي: 2/223
(8) الكاشاني/ تفسير الصافي: 3/84
(9) تفسير القمي (انظر: المصدر السابق: 3/84) ، ولم أجده في الطبعة التي عندي من تفسير القمي
(10) البحراني/ البرهان: 2/309(1/168)
الأنوار (1) ، عن أبي جعفر في قول الله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} (2) . قال: "هو الثاني، وليس في القرآن شيء: "وقال الشيطان" إلا وهو الثاني" فكأن كتب الاثني عشرية تزيد على المغيرة بوضع هذا الإلحاد في كتاب الله قاعدة مطردة.
وفي الكافي عن أبي عبد الله قال: "وكان فلاناً شيطاناً (3) ، قال المجلسي في شرحه على الكافي: المراد بفلان عمر" (4) .
فهذه الروايات التي تسندها كتب الشيعة الاثني عشرية إلى أبي جعفر الباقر هي من أكاذيب المغيرة بن سيعد وأمثاله، فقد ذكر الذهبي عن كثير النواء (5) . أن أبا جعفر قال: "برئ الله ورسوله من المغيرة بن سعيد، وبيان بن سمعان فإنهما كذبا علينا أهل البيت" (6) ، وروى الكشي في رجاله عن أبي عبد الله قال: "لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا" (7) . وساق الكشي روايات عديدة في هذا الباب (8) . وأشارت روايات الكشي إلى أن المغيرة بن سعيد كان يأخذ ضلاله من مصدر يهودي، ففي رجال الكشي أن أبا عبد الله قال يوماً لأصحابه: "لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن يهودية كان يختلف إليها يتعلم منها السحر والشعبذة (كذا) والمخاريق" (9) .
ويلاحظ أنه اتفق كل من الأشعري، والبغدادي، وابن حزم، ونشوان
__________
(1) بحار الأنوار: 3/378 (ط. كمباني)
(2) إبراهيم، آية: 22
(3) الكليني/ الكافي (المطبوع بهامش مرآة العقول) : 4/416
(4) مرآة العقول: 4/416
(5) كثير النواء: شيعي (وروي أنه رجع عن تشيعه، قال الذهبي: ضعفوه، ومشاه ابن حبان: الكاشف: 3/3)
(6) ميزان الاعتدال: 4/161
(7) رجال الكشي: رقم 336
(8) مضى الإشارة إليها في ص: (250) هامش رقم: (5)
(9) رجال الكشي: رقم 403(1/169)
الحميري على أن جابر الجعفي الذي وضع أول تفسير للشيعة على ذلك النهج الباطني كان خليفة المغيرة بن سعيد (1) . الذي قال: بأن المراد بالشيطان في القرآن هو أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -، فهي عناصر خطرة يستقي بعضها من بعض عملت على إفساد التشيع.
ب- أمثلة من تأويلات الشيعة لآيات القرآن:
حين احتج شيخ الشيعة في زمنه - والذي إذا أطلق لقب "العلامة" عندهم انصرف إليه (ابن المطهر الحلي) - على استحقاق علي للإمامة بقوله: "البرهان الثلاثة قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} قال: علي وفاطمة، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} النبي صلى الله عليه وسلم، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، الحسن والحسين".
حينما احتج ابن المطهر بذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول، وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن، بل هو شر من كثير منه. والتفسير بمثل هذا طريق الملاحدة، بل هو شر من كثير منه، والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح والطعن فيه" (2) .
وأقول: كيف لو رأى شيخ الإسلام ما أودع في الكافي والبحار، وتفسير العياشي، والقمي، والبرهان، وتفسير الصافي وغيرها من تحريف لمعاني القرآن سموه تفسيراً؟!.
وبين يدي مجموعة كبيرة من هذا اللون.. يستغرق عرضها المجلدات (3) ،
__________
(1) الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/73، البغدادي/ الفرق بين الفرق ص: 242، ابن حزم/ المحلى: 5/44، نشوان/ الحور العين ص 168
(2) منهاج السنة: 4/66
(3) كنت عملت قائمة من هذه التأويلات رتبت موادها على حروف المعجم، فأذكر في كل مادة: عدد المواضع التي ذكرت فيها في كتاب الله، وتأويلات الشيعة لها في هذه المواضع.. وخرجت من ذلك بمادة كبيرة جداً، إلا أن المشرف رأى - ووافقته على ذلك - الاستغناء عنها =(1/170)
ركام هائل من الروايات.. حجبت الشيعة عن نور القرآن وهديه.. فالتوحيد الذي هو أصل دعوة الرسل.. وجوهر رسالتهم.. هو عندهم ولاية الإمام، فيرون عن أبي جعفر أنه قال: "ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتنا والبراءة من عدونا، وذلك قول الله في كتابه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (1) . (2) . ورواياتهم في هذا الباب كثيرة - كما سيأتي - (3) .
والإله في كتاب الله هو الإمام، فقوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} (4) . قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: "يعني بذلك لا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد" (5) . والرب هو الإمام عندهم. وقد يلتمس لهم في هذا التأويل عذر؛ لأن للرب في اللغة استعمالات أخرى كرب البيت، ورب المال بمعنى صاحب، ولكن يمنع من ذلك أن تأويلهم للرب في الإمام جرى في آيات هي نص في الله سبحانه ولا تحتمل وجهاً آخر. وفي قوله سبحانه عن المشركين: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} (6) . قال القمي في تفسيره: "الكافر: الثاني (يعني عمر - رضي الله عنه وأرضاه -) كان على أمير المؤمنين عليه السلام ظهيراًط (7) . فاعتبر أمير المؤمنين علياً هو الرب. وقال الكاشاني "في البصائر" (8) . عن الباقر - عليه السلام - أنه سئل عن تفسيرها فقال (كما يفترون) : "إن تفسيرها في بطن القرآن: عليّ هو ربه في الولاية،
__________
= بما عرضنا هنا لأسباب منهجية
(1) النحل، آية: 23
(2) تفسير العياشي: 2/261، البرهان: 2/343، تفسير الصافي: 3/134 تفسير نور الثقلين: 3/60
(3) في مبحث: عقيدتهم في توحيد الألوهية
(4) النحل، آية: 51
(5) تفسير العياشي: 2/261، البرهان في تفسير القرآن: 2/373، تفسير نور الثقلين: 3/60
(6) الفرقان، آية: 55
(7) تفسير القمي: 2/115
(8) يعني بصائر الدرجات لشيخهم الصفار(1/171)
والرب هو الخالق الذي لا يوصف"، فهذا قد يفهم منه أن علياً هو الرب الذي لا يوصف (1) . - كما يفترون -، لأن الآية نص في حق الباري سبحانه؟!
وقد حاول صاحب تفسير الصافي تفادي هذا الأمر فقال في توضيح النص السالف: "يعني أن الرب على الإطلاق الغير المقيد بالولاية هو الخالق جل شأنه" (2) . ولكن نص الآية لا يؤيده فيما ذهب إليه؛ إذ إن "الرب" الوارد في الآية لم يقيد بالولاية.. فهو لا ينصرف إلا إلى الحق جل شأنه، وليس هناك أية قرينة صارفة للفظ عن معناه؛ ولهذا قال طائفة من السلف في تفسيرها: "وكان الكافر معيناً للشيطان على ربه مظاهراً له على معصيته" (3) .
وفي قوله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (4) . قال المفسرون: أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء (5) . ولكن شيخ المفسرين عند الشيعة (إبراهيم القمي) يروي بسنده عن المفضل بن عمر أنه سمع أبا عبد الله - رضي الله عنه - يقول في قوله: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} قال: رب الأرض يعني إمام الأرض، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون (كذا) بنور الإمام (6) .
ويؤولون الآيات المتعلقة بصفات الله سبحانه بالأئمة، وعلى سبيل المثال قالوا: "إن الأخبار المستفيضة تدل على تأويل وجه الله بالأئمة عليهم السلام" (7) .
__________
(1) لاحظ في هذا النص إشارة إلى مذهبهم في تعطيل الله من صفاته - كما سيأتي-، وانظر النص في: تفسير الصافي: 4/20، البرهان: 3/172، تفسير نور الثقلين: 4/25، مرآة الأنوار: ص59
(2) تفسير الصافي: 4/20، مرآة الأنوار: ص 59
(3) تفسير الطبري: 19/26-27، تفسير ابن كثير: 3/338
(4) الزمر، آية: 69
(5) تفسير ابن كثير: 4/70
(6) تفسير القمي: 2/253، البرهان: 4/87، تفسير الصافي: 4/331
(7) مرآة الأنوار: ص 324(1/172)
يعنون أخبار الشيعة، وقد ذكر المجلسي جملة من هذه الأخبار في باب عقده بعنوان: "باب أنهم عليهم السلام جنب الله ووجه الله ويد الله وأمثالها" (1) .
فهل يعني أنهم يفسرون قوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} (2) ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (3) . بهذا المعنى -، وأن الأئمة لهم البقاء الدائم، بل ينفردون بذلك؟! ما كنت أظن أن الأمر يصل بهم إلى هذا حتى وقعت عيني على رواياته في كتبهم المعتمدة، ففي الآية الأولى يقول الصادق - كما يزعمون -: "نحن وجه الله" (4) ، وفي الآية الثانية يقول: "نحن الوجه الذي يؤتى الله منه" (5) . ولكن الأئمة ماتوا كالآخرين: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (6) . وقد حاول صاحب الكافي أن يجعل لأئمة الشيعة ميزة ينفردون بها في حكم الموت العام فقال: "إن الأئمة يعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيار منهم" (7) . ولكنهم ماتوا على كل حال، ولو كان الموت حسب اختيارهم لما كان للتقية وجود.. ويقولون: إن الأسماء الحسنى الواردة في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (8) . هي الأئمة، ويروون عن أبي عبد الله أنه قال: نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يقبل من أحد إلا بمعرفتنا، قال: {فَادْعُوهُ بِهَا} (9) .
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 24/191
(2) القصص، آية: 88
(3) الرحمن، آية: 27
(4) انظر: تفسير القمي: 2/147، الكراجكي/ كنز الفوائد ص 219، ابن شهراشوب/ مناقب آل أبي طالب: 3/63، بحار الأنوار: 24/193، تفسير شبر: ص378
(5) تفسير القمي: 2/345، ابن شهراشوب/ مناقب آل أبي طالب: 3/343، الكاشاني/ تفسير الصافي: 5/110، بحار الأنوار: 24/192
(6) الرحمن، آية: 26
(7) أصول الكافي: 1/258
(8) الأعراف، آية: 180
(9) تفسير العياشي: 2/42، تفسير الصافي: 2/254-255، البرهان: 2/51(1/173)
وسيأتي المزيد من الشواهد في مبحث عقيدتهم في الأسماء والصفات - إن شاء الله -.
وهذه التأويلات التي تفسر الإله والرب و"الله" وصفاته بالإمام هي من آثار السبئية التي تذهب إلى القول بألوهية علي، وهذا الأثر السام لا يزال ينخر في كيان الاثني عشرية، ولهذا لا يزال إلى اليوم بعض شيوخ هذه الطائفة يصرح ويجاهر بهذه المقالة (كما سيأتي) (1) . وقد جاء في رجال الكشي بعض الروايات التي تفيد استنكار جعفر لهذه التأويلات الباطنية التي تؤله الأئمة، فقد ذكر عند جعفر - كما يروي الكشي - أن بعض الشيعة قال في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (2) . قال: هو الإمام، فقال أبو عبد الله: "لا والله لا يأويني وإياه سقف بيت أبدًا، هم شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا، والله ما صغّر عظمة الله تصغيرهم شيء قط.. والله لو أقررت بما يقول في أهل الكوفة لأخذتني الأرض وما أنا إلا عبد مملوك لا أقدر على شيء ضر ولا نفع" (3) .
وكما يسمى الإمام بالرب والإله عندهم، فهو أيضاً يعبر عنه بالرسول. قال صاحب مرآة الأنوار: "قد ورد تأويل الرسول بالإمام، والرسل بالأئمة في بعض الآيات بحيث يمكن سحبه إلى غيرها" (4) . أي أنه يمكن اعتبار الرسل حينما وقعت في القرآن يراد بها الأئمة.. ومما يدل على ذلك قولهم: "إن عمدة بعثة الرسل لأجل الولاية فيصح تأويل رسالة الرسل بما يتعلق بها" (5) . وهذا ليس بدليل؛ لأنه مبني على تأويل باطني لا يسلم لهم، ذلك أن عمدة بعثة الرسل هي التوحيد؛ لأن الله
__________
(1) انظر: الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم من هذه الرسالة
(2) الزخرف، آية: 84
(3) رجال الكشي: ص 300
(4) مرآة الأنوار ص: 163
(5) المصدر السابق: ص 163(1/174)
يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (1) ، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (2) .
ومن أمثله تأويلهم للرسول بالإمام ما يرونه عن الصادق في تفسير قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} (3) . قال: أي في كل قرن إمام يدعوهم إلى طريق الحق (4) . والأئمة أيضاً يعبر عنهم بالملائكة في القرآن، جاء في أخبارهم - كما يقولون - ما يدل على أن المراد بالملائكة بحسب البطن في القرآن الأئمة سواء كان المذكر بلفظ الملائكة أو غيرها مما يفيد معناه كالذين يحملون العرش وأمثاله (5) .
والأئمة هم القرآن - كما مر (6) . - وهم الكتاب، ففي تفسير القمي عن الصادق في قوله سبحانه: {الم~، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (7) . قال: الكتاب علي ولا شك فيه (8) . وهم الكلمة في قوله سبحانه: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (9) . قالوا: الكلمة الإمام (10) ، وقوله سبحانه: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (11) . قالوا: لا تغيير للإمامة (12) . وفي قوله سبحانه: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (13) . قال إمامهم (أبو الحسن علي بن محمد) : نحن الكلمات التي
__________
(1) النحل، آية: 36
(2) الأنبياء، آية: 25
(3) يونس، آية: 47
(4) مرآة الأنوار ص: 164، وانظر: تفسير العياشي: 2/123، البرهان: 2/186، تفسير الصافي: 2/405، بحار الأنوار: 24/306-307
(5) مرآة الأنوار: ص 303
(6) انظر: ص (128-129) من هذه الرسالة
(7) البقرة، آية: 1، 2
(8) تفسير القمي: 1/30، تفسير العياشي: 1/26، البرهان: 1/53، تفسير الصافي: 1/91-92
(9) الشورى، آية: 21
(10) تفسير القمي: 2/274، البرهان: 4/121، بحار الأنوار: 24/174
(11) يونس، آية: 64
(12) تفسير القمي: 1/314، بحار الأنوار: 24/175
(13) لقمان، آية: 27.(1/175)
لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى (1) . وأخبارهم في هذا كثيرة أورد منها المجلسي في البحار (25) رواية (2) .
وإطلاق الكلمة على الإمام قد يوضح مدى التأثر بالنصرانية في إطلاق الكلمة على المسيح - عليه السلام - لكن تسمية المسيح كلمة الله؛ لأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، فهو مخلوق بالكلمة، وأما علي فهو مخلوق كما خلق سائر الناس (3) .
والصراط المستقيم - في قوله تعالى -: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (4) . هو أمير المؤمنين (5) . عندهم.
والشمس هي علي، فيروون عن الصادق في قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (6) . قال: "الشمس أمير المؤمنين، وضحاها: قيام القائم" (7) . فهل يعني هذا أنه لما مات أمير المؤمنين اختفت الشمس من الوجود؟!، والناس في ظلمة حتى يشرق ضحى القائم المنتظر؟ !
والمسجد، والمساجد، والكعبة، والقبلة هي الإمام والأئمة، فيروون عن الصادق في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (8) . قال: يعني
__________
(1) بحار الأنوار: 24/174، تحف العقول ص: 355، ابن شهراشوب/ مناقب آل أبي طالب: 3/508، الاحتجاج ص 552
(2) انظر: بحار الأنوار: باب أنهم كلمات الله: 24/173-185
(3) منهاج السنة: 3/18
(4) الفاتحة، آية: 6
(5) تفسير القمي: 1/28، تفسير العياشي: 1/42، البرهان: 1/89، تفسير الصافي: 1/85، بحار الأنوار: 23/211
(6) الشمس، آية: 1
(7) البرهان: 4/467، مرآة الأنوار ص: 200، وانظر: تفسير القمي: 2/242، وفيه أن النهار هم الأئمة
(8) الأعراف، آية: 29(1/176)
الأئمة (1) . وفي رواية أخرى عنه في قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2) . قال: يعني الأئمة (3) . وفي قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4) . قال: إن الإمام من آل محمد فلا تتخذوا من غيرهم إماماً (5) ، ويقول الصادق- عندهم -: "..نحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله، ونحن قبلة الله" (6) .
والسجود: هو ولاية الأئمة وبهذا يفسرون قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} (7) . حيث قالوا: "أي يدعون إلى ولاية علي في الدنيا" (8) .
ولعل مثل هذه الروايات هي السبب في شيوع عبادة الأئمة، وأضرحتهم، وعمارة المشاهد وتعطيل المساجد، لأن المشاهد هي المساجد، والإمام هو كعبة الله وقبلته، ولهذا صنفوا كتباً سموها: "مناسك المشاهد" أو "مناسك الزيارات"، أو "المزار" (9) ، واعتنوا ببيان فضائلها وآدابها، وأخذت هذه المسائل في كتبهم
__________
(1) تفسير العياشي: 2/12، البرهان: 2/8، تفسير الصافي: 2/188، مرآة الأنوار: ص175، نور الثقلين: 2/17
(2) الأعراف، آية: 31
(3) تفسير العياشي: 2/13، البرهان: 2/9
(4) الجن، آية: 18
(5) البرهان: 4/393
(6) انظر: الكراجكي / كنز الفوائد ص: 2، بحار الأنوار: 24/303، مرآة الأنوار: ص 213
(7) القلم، آية: 43
(8) تفسير القمي: 2/383، البرهان: 4/372، تفسير الصافي: 5/214-215، مرآة الأنوار: ص 176
(9) مثل كتاب: مناسك الزيارات للمفيد، وكتاب المزار لمحمد علي بن الفضل، والمزار لمحمد المشهدي، والمزار لمحمد بن همام، والمزار لمحمد بن أحمد. ذكرها العاملي في وسائل الشيعة ونقل عنها.
انظر: وسائل الشيعة: 20/48-49، وانظر: ابن تيمية: منهاج السنة: 1/175، الفتاوى: 17/498(1/177)
المعتمدة قسماً كبيراً (1) . - كما سيأتي تفصيله - (2) .
والتوبة ومعناها معروف (الرجوع من المعاصي إلى طاعة الله) ولكن الشيعة تفسر التوبة بالرجوع من ولاية أبي بكر وعمر وبني أمية إلى ولاية علي، ففي قوله سبحانه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} (3) . جاء تأويلها عندهم في ثلاث روايات، تقول الأولى: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من ولاية فلان وفلان (يعنون أبا بكر وعمر) وبني أمية، وتقول الرواية الثانية: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من ولاية الطواغيت الثلاثة (يعنون أبا بكر وعمر وعثمان) ومن بني أمية، {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} يعني ولاية علي، وتقول الثالثة: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} من ولاية هؤلاء وبني أمية {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} هو أمير المؤمنين (4) .
وكل الروايات الثلاث المذكورة منسوبة لأبي جعفر محمد الباقر، وعلمه ودينه ينفيان صحة ذلك عنه.
وهذه الأخبار تقدّم لنا مفهوماً جديداً للتوبة، إذ هي في حقيقتها موالاة رجل، ومعاداة آخر، وليس هناك بُعْدٌ آخر غير هذا.. فالتوبة لا تكون إلا في مسألة ولاية الإمام، وغيرها لا يستحق الإنابة والرجوع، ولهذا لم يرد له ذكر، وكأن الشيعة بهذا تجعل من والى علياً ليس عليه ذنب، وإن بلغت ذنوبه مثل قراب الأرض، وتجعل موالاة أفضل الخلق بعد النبيين أبي بكر وعمر وعثمان هو الكفر الذي لا ينفع معه عمل.
فهل هذا هو الإسلام.. وهل الرسول وصحبه لم يجاهدوا إلا لإقرار هذا الأمر؟!
__________
(1) كما في أصول الكافي، والوافي، والبحار، ووسائل الشيعة وغيرها، وسيأتي ذكر مواضعها وشيء من نصوصها
(2) انظر: "فصل عقيدتهم في توحيد الألوهية"
(3) غافر، آية: 7
(4) البرهان: 4/92-93، تفسير الصافي: 4/335، وانظر: تفسير القمي: 2/255(1/178)
ثم ما تأثير مثل هذه الروايات على من يؤمن بها ويعتقد أنها صادرة من محمد الباقر؟ ألا تهون في نفسه المعصية، وتدفعه إلى ارتكاب كل موبقة.. وتثبطه عن عمل الخير، واصطناع المعروف.. بلى، إن هذا وراد، بل وراد، بل قد يكون حاصلاً، فقد اطلعت في الكافي على شهادة هامة في هذا الباب تتضمن شكوى أحد الشيعة لإمامه من سوء أخلاق أبناء طائفته، وأنه ليعجب من البون الشاسع بين ما يجده عند أصحابه وبين ما يراه عند أهل السنة (1) ، وقد نقل لنا الشوكاني ملاحظات قيمة في هذا سجلها أثناء خلطته مع الشيعة (2) ، وسيأتي حديث في هذا الشأن في فصل "أثرهم في العالم الإسلامي".
والصلاة، والزكاة، الحج، والصيام.. أركان الإسلام ومبانيه العظام هي عند الشيعة بمعنى الأئمة في القرآن، فيروون عن أبي عبد الله: "نحن الصلاة في كتاب الله عز وجل ونحن الزكاة ونحن الصيام ونحن الحج" (3) . بل إن الدين كله هو عندهم ولاية علي، ويروون عن جعفر الصادق في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} (4) . قال: "ولاية علي - رضي الله عنه - {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ
__________
(1) نصه ما يلي:
عن عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله - رضي الله عنه -: إني أخالط الناس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولونكم ويتولون فلاناً وفلاناً (يعني أبا بكر وعمر، وهو يشير بهذا لأهل السنة) لهم أمانة وصدق ووفاء، وأقوام يتولونكم (يعني الشيعة) ليس لهم تلك الأمانة ولا الوفاء والصدق؟ فاستوى أبو عبد الله - رضي الله عنه - جالساً فأقبل علي كالغضبان، ثم قال: لا دين لمن دان الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عتب على من دان بولاية إمام عادل من الله قلت: لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء، ثم قال: ألا تسمع لقول الله عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} ... البقرة: 257 ... يعني من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كل إمام عادل من الله.. (أصول الكافي: 1/375)
(2) يقول الشوكاني: "جربنا وجرب غيرنا فلم يجدوا رافضياً يتنزه عن شيء من محرمات الدين كائناً ما كان" (طلب العلم ص 73) ، وستأتي - إن شاء الله - بقية ملاحظاته في فصل: "أثرهم في العالم الإسلامي"
(3) بحار الأنوار: 24/303
(4) البقرة، آية: 132(1/179)
وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} لولاية علي" (1) . وفي تفسير القمي في قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ..} (2) . قال: الإمام، {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، كناية عن أمير المؤمنين - رضي الله عنه -، {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من أمر ولاية علي، {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ} كناية عن علي - عليه السلام - (3) .
وإذا كان الأمر كذلك لماذا لا يسمى دين (المنتظر) أو دين الولاية، أو الولاية نفسها.. وحقيقة الأمر أن هذا دين آخر غير دين الإسلام، هذا الدين معناه طاعة رجل وقد ورثته الاثنا عشرية - فيما يظهر - عن الكيسانية (4) . - حيث إنهم - كما يقول الشهرستاني: "يجمعهم القول بأن الدين طاعة رجل، حتى حملهم ذلك على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك على الرجال ... ومن اعتقد أن الدين
__________
(1) البرهان: 1/156، مرآة الأنوار ص: 148
(2) الشورى، آية: 13
(3) تفسير القمي: 2/274، البرهان: 4/120، تفسير الصافي (4/368-369) ، بحار الأنوار: 36/84
(4) الكيسانية: من غلاة الشيعة، تقول بإمامة محمدين بن الحنفية، وسميت بالكيسانية نسبة للمختار بن أبي عبيد الثقفي؛ لأن لقبة كيسان، وكذلك تسمى بالمختارية عند بعض أصحاب الفرق، وقد ادعى المختار نزل الوحي عليه، وقال بالبداء، وضلالات أخرى، وقيل: إن الكيسانية سميت بذلك نسبة إلى رجل يقال له: كيسان، وهو مولى لبطن من جبيلة في الكوفة، وقيل: مولى لعلي بن أبي طالب.
والكيسانية فرق بلغت عند الأشعري إحدى عشرة فرقة. ويرجع محصّلها - كما يرى البغدادي - إلى فرقتين: فرقة تقول: إن محمد بن الحنفية لم يمت وهو المهدي المنتظر، وفرقة أخرى ينقلون الإمامة بعد موته إلى غيره، ويختلفون بعد ذلك في المنقول إليه.
انظر عن الكيسانية: الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/91، البغدادي/ الفرق بين الفرق: ص 23، 38، 53، ابن حزم/ الفصل 5/35-36، 40، 41، 43، الرازي/ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 93-95، نشوان الحميري/ الحور العين ص 157 وما بعدها، ابن المرتضى/ المنية والأمل: ص 82-83. وانظر: الناشئ الأكبر/ مسائل الشيعة ص 23-24، 27. وانظر: وداود القاضي/ الكيسانية في التاريخ والأدب(1/180)
طاعة رجل ولا رجل له، لأنه (غائب في سردابه) فلا دين له.." (1) . فقد انحصر الدين عندهم بولاية رجل هو علي، وأصبح ما يدل عليه من الطاعة لله ورسوله واتباع المعروف والانتهاء عن المنكر.. خارجاً عن معنى الدين حسب رواياتهم.
ولفظ الأمة - ومعناه معروف - وقد ورد هذا اللفظ (49) مرة في كتاب الله، والشيعة تفسره بالأئمة أو بالشيعة. قال في مرآة الأنوار: "إن الله يستفاد من رواياتنا على اختلاف ألفاظها تأويل الأمة فيما يناسب بالأئمة عليهما السلام وبأهل الحق والشيعة المحقة وإن قلوا ... " (2) . ثم ساق طائفة من رواياتهم في هذا التأويل نقلها من مجموعة من كتبهم المعتمدة، وإذا كانت الأمة بمعنى الأئمة فهذا يعني أن القرآن نزل للأئمة فقط، وأن الأمة غير مخاطبة بالقرآن ولا مكلفة به.
وليس ذلك فحسب بل إن الجمادات تفسر بالأئمة.
فالبئر - ومعناه واضح - ولكن الشيعة تفسره في القرآن "بعلي-رضي الله عنه-، وبولايته، وبالإمام الصامت - يعنون القرآن - والإمام الغائب، وبفاطمة وولدها المعطلين من الملك (3) ، وبذلك يفسرون قوله تعالى: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (4) . وقد جاء في تفسير البرهان خمس روايات لهم في هذا المعنى (5) .
والبحر - وقد ورد في كتاب الله في أكثر من ثلاثة وثلاثين موضعاً بالمعنى المعروف -، ولكن الشيعة تفسر البحر والبحار بالإمام والأئمة وأعدائهم. وقد أورد
__________
(1) الملل والنحل: 1/147
(2) مرآة الأنوار: ص 81
(3) بحار الأنوار: 36/104-105، مرآة الأنوار: 94، وانظر: تفسير القمي: 2/85، البرهان: 3/96-97، أصول الكافي: 1/427، معاني الأخبار: ص 111
(4) الحج، آية: 45
(5) البرهان: 3/96-97(1/181)
صاحب مرآة الأنوار جملة من روايات طائفته في هذا التأويل، ثم قال: "ولا يخفى أن المستفاد من ذلك جواز تأويل البحر والبحار العذبة.. المشتملة على المدح والنفع بالإمام والأئمة، بل بفاطمة.. وتأويل البحر والبحار المالحة بأعدائهم (1) . وقد جاء في تفسير القمي وغيره عن أبي عبد الله في قوله سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (2) . قال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الحسن والحسين (3) .
وتفسير المعاني والمثل العليا بالإمامة والأئمة.
فالخير هو الولاية. يقول الكاظم - كما يدعون - في قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (4) . قال: الولاية (5) . وفي قوله سبحانه: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} (6) ، قال أبو جعفر: {الْخَيْرَاتِ} الولاية (7) .
والآيات الكونية تؤول بالأئمة، فالأئمة هم العلامات في قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (8) . قال أبو عبد الله - كما يروون -: "النجم رسول الله، والعلامات هم الأئمة عليهم السلام" (9) . وعقد الكليني باباً في هذا
__________
(1) مرآة الأنوار: ص 94
(2) الرحمن، آية: 19
(3) تفسير القمي: 2/344، تفسير فرات ص: 177، وابن بابويه/ الخصال ص 65، تفسير الصافي: 5/109، البرهان، وقد ذكر اثنتي عشرة رواية في هذا التأويل: 4/265، بحار الأنوار، وقد عقد لذلك باباً مستقلاً بعنوان: باب أنهم - عليهم السلام - (البحر واللؤلؤ والمرجان) : 24/97، وانظر ما مضى من كلام ابن تيمية حول هذا التأويل ص: 175
(4) الحج، آية: 77
(5) مرآة الأنوار: ص 139
(6) البقرة، آية: 148
(7) البرهان: 1/163، تفسير الصافي: 1/200
(8) النحل، آية: 16
(9) تفسير القمي: 1/383، تفسير العياشي: 2/255، أصول الكافي: 1/206، البرهان: 2/362، تفسير الصافي: 3/129، تفسير فرات: ص 84، مجمع البيان: 4/62(1/182)
بعنوان: "باب أن الأئمة هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه" (1) . وتبعه المجلسي وعنون لبابه بقوله: "باب أنهم عليهم السلام النجوم والعلامات" (2) . وسياق الآية، وما ورد عن السلف ينفي ما ذهبوا إليه في تأويل الآية (3) .
وأحوال اليوم الآخر يفسرونها برجعة الأئمة أو الولاية، فالساعة، والقيامة، والنشور وغيرها من الأسماء التي تتعلق باليوم الآخر تفسر في الغالب عند هؤلاء برجعة الأئمة. ويقدم صاحب مرآة الأنوار قاعدة في هذا فيقول: "كل ما عبر به بيوم القيامة في ظاهر التنزيل فتأويله بالرجعة" (4) .
ويقول المجلسي عن لفظ الساعة في القرآن: إن الساعة ظهرها القيامة، وبطنها الرجعة (5) . وقد ورد أيضاً عندهم تأويل الساعة بالولاية، فيروون عن الرضا في قوله سبحانه: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} (6) . قال: يعني كذبوا بولاية علي (7) .
والحياة الدنيا: هي الرجعة، قال صاحب مرآة الأنوار: جاء ما يدل على تأويل الدنيا بالرجعة، وبولاية أبي بكر وعمر (8) ، ففي قوله سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (9) . قال جعفر: يعني في الرجعة (10) ، وفي قوله
__________
(1) أصول الكافي: 1/206
(2) بحار الأنوار: 24/67-82
(3) انظر: تفسير الطبري: 14/92، تفسير ابن كثير: 2/612
(4) مرآة الأنوار: ص 303
(5) بحار الأنوار: 24/334
(6) الفرقان، آية: 11
(7) النعماني/ الغيبة: ص 54، البرهان: 3/157، مرآة الأنوار: ص 182
(8) مرآة الأنوار: ص 150
(9) غافر، آية: 51
(10) تفسير القممي: 2/258-259، تفسير الصافي: 4/345، البرهان: 4/100(1/183)
سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (1) . قال: ولايتهم (2) . (يعني ولاية أبي بكر وعمر وعثمان) . والتأويلات الباطنية لا ضابط لها، فأنت ترى "أن الآخرة تؤول بالرجعة، والحياة الدنيا تؤول بها كذلك على ما بينهما من تفاوت، كما تلحظ أن الحياة الدنيا فسرتها تأويلاتهم مرة بالرجعة، ومرة بالولاية على ما بينهما من اختلاف.. فهي أقوال عشوائية لا تستند إلى أصل ولا فرع، بل ولا عقل".
وتأويلهم لكثير من آيات القرآن بالإمامة والأئمة يربو على الحصر وكأن القرآن لم ينزل إلا فيهم، ولقد تجاوزوا في هذه الدعاوى كل معقول، وأسفوا في تأويلاتهم إلى ما يشبه هذيان المعتوهين حتى قالوا: إن النحل في قوله سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} (3) . هم الأئمة، وروى القمي بإسناده إلى عبد الله قال: نحن النحل التي أوحى الله إليها {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة {وَمِنَ الشَّجَرِ} يقول: من العجم {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يقول: من الموالي.." (4) .
وجمع المجلسي رواياتهم في هذا المعنى في باب بعنوان: "باب نادر في تأويل النحل بهم عليهم السلام" (5) ، كما جاء بروايات تقول: "إن الأئمة هم الماء المعين والقصر المشيد السحاب والمطر والفواكه وسائر المنافع الظاهرة" (6) .
وفي الباب الذي عقده بعنوان: «باب تأويل الأيام والشهور بالأئمة (7) . جاء فيه: "نحن الأيام؛ فالسبت اسم رسول الله، والأحد كناية عن أمير المؤمنين،
__________
(1) الأعلى، آية: 16
(2) أصول الكافي: 1/418، البرهان: 4/451
(3) النحل، آية: 68
(4) تفسير القمي: 1/387
(5) بحار الأنوار: 24/110-113
(6) انظر: بحار الأنوار: 24/100-110
(7) بحار الأنوار: 24/238-243(1/184)
والاثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر، وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس، ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني.." (1) .
ومن الطريف أن بعض الأيام حظيت في أخبار الشيعة بالذم كيوم الاثنين (2) ، فهل يتوجه هذا الذم إلى بعض الأئمة؛ لأن الأئمة هم الأيام؟!
ويروي جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر عن تأويل قول الله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ..} (3) . قال: فتنفس سيدي الصعداء ثم قال: "يا جابر، أما السنة فهي جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهورها اثنا عشر شهراً فهو أمير المؤمنين إلي (4) . وإلى ابني جعفر وابنه موسى وابنه علي وابنه محمد وابنه علي، وإلى ابنه الحسن وإلى ابنه محمد الهادي المهدي اثنا عشر إماماً ... والأربعة الحرم الذين هم الدين القيم أربعة منهم يخرجون باسم واحد: علي أمير المؤمنين - رضي الله عنه - وأبي علي بن الحسين، وعلي بن موسى، وعلي بن محمد، فالإقرار بهؤلاء هو الدين القيم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} أي: قولوا بهم جميعاً تهتدوا" (5) .
والبعوضة (وهي حشرة صغيرة معروفة) ورد ذكرها في سورة البقرة (6) .
__________
(1) البحار: 24/239، الصدوق/ الخصال: ص395-396، والنص منسوب لإمامهم العاشر علي الهادي
(2) انظر: سفينة البحار: 1/137
(3) التوبة، آية: 36
(4) أي هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن بعده من الأئمة حتى يصل إليّ، (المجلسي/ بحار الأنوار: 24/240)
(5) الطوسي/ الغيبة: ص96، ابن شهراشوب/ مناقب آل أبي طالب: 1/244، بحار الأنوار: 24/240، البرهان: 2/122-123، نور الثقلين: 2/214-215، اللوامع النورانية: ص141.
(6) الآية: 26(1/185)
هي علي عندهم (1) .
ولفظ (الذباب) يؤول بعلي في تفسير الشيعة (2) ، كما أولوا البعوضة وحاول بعضهم أن يلطف من هذا التأويل فزعم أنه ذباب العسل (3) ، وفاته أنهم يؤولون به قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (4) . وما أدري ما السر في إطلاق أسماء أحط الحشرات على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه وأرضاه - من طائفة تزعم محبته والتشيع له؟!. ولكن قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، وتاريخهم الفعلي مع آل البيت أشد وأشنع.
وقبور الأئمة لها نصيب من تأويلاتهم، فالبقعة المباركة في قوله سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} (5) . هي كربلاء (6) ، ومن المعروف أنها كانت في طور سيناء بنص القرآن في الآية التي قبلها: {مِن جَانِبِ الطُّورِ} .
وكما خصت هذه الروايات أئمة الشيعة بهذه الآيات كذلك تخص أتباعها بآيات من كتاب الله حتى تذهب إلى أن الشيعة هي الشيء (7) . في قوله سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (8) . لتقصر رحمة الله الواسعة على الشيعة، وتضيق ما وسعه الله على عباده.
ولفظ "الشر" و"الكفر" و"الردة" و"الضلال" في كتاب الله يؤولونه بغير
__________
(1) تفسير القمي: 1/35، البرهان: 1/70
(2) انظر: مرآة الأنوار: ص 150
(3) نفس الموضع من المصدر السابق
(4) الحج، آية: 73
(5) القصص، آية: 30
(6) ابن قولويه/ كامل الزيارات: ص 48-49، البرهان: 3/336، مرآة الأنوار: ص99
(7) انظر: أصول الكافي: 1/429، البرهان: 2/40، مرآة الأنوار: ص 192
(8) الأعراف، آية: 156(1/186)
ما يعرفه المسلمون من هذه "الألفاظ"؛ حيث يفسرون هذه الألفاظ بترك بيعة الاثني عشر (على الرغم من أنهم لم يتولوا الحكم ما عدا أمير المؤمنين علي) ، وشواهد هذا كثيرة بلغت عشرات الروايات، وقد أشرنا فيما سلف إلى أن شيخهم المجلسي عقد أبواباً في بحاره تحمل عناوين في التأويل الباطني تضمن بعضها مائة رواية، ولكن هنا نذكر مجرد أمثلة لهذه الأحاديث، فقد روت كتب الشيعة في قوله سبحانه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (1) .
قالت: "لئن أشركت في إمامة علي ولاية غيره" (2) .
قال صاحب مرآة الأنوار: "فعلى هذا جميع المخالفين مشركون" (3) . وقال: "إن الأخبار (أخبار الشيعة) متضافرة في تأويل الشرك بالله، والشرك بعبادته بالشرك في الولاية والإمامة" (4) ، ولذلك حكموا على صحابة رسول الله بالردة - كما سيأتي (5) . - لمبايعتهم لأبي بكر دون علي.
وكذلك يؤولون الكفر بذلك، جاء في الكافي: "عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (6) . قال: نزلت في فلان وفلان وفلان (7) . آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وآله - في أول الأمر، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية.. ثم آمنوا
__________
(1) الزمر، آية: 65
(2) انظر: تفسير القمي: 2/251، تفسير فرات: ص 133، البرهان: 4/83، تفسير الصافي: 4/328
(3) أبو الحسن الشريف/ مرآة الأنوار: ص 202
(4) نفس الموضع من المصدر السابق
(5) في فصل الإمامة
(6) لاحظ أنه جمع آيتين من سورتين على أنهما آية واحدة، مما يشير إلى أن واضع هذه الأساطير، ومفتريها على أهل البيت أحد الزنادقة الجهلة؛ حيث إن قوله: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من آل عمران، آية: 90، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ..} إلخ من النساء، آية: 137
(7) يعنون: أبا بكر وعمر وعثمان كما جاء تفسير ذلك على لسان بعض شيوخهم كما سيأتي في فصل: "الإمامة"(1/187)
بالبيعة لأمير المؤمنين - عليه السلام - ثم كفروا حيث مضى رسول الله - صلى الله عليه وآله - فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء (1) .
فأنت ترى أنهم خصوا أفضل الخلق بعد النبيين بهذا الحكم، فما بالك بمن دونهم من سائر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أشار بعض شيوخهم إلى وجه هذا التخصيص فقال: "ورد في بعض الروايات تأويل الكفر برؤساء المخالفين، لاسيما الثلاثة: (يعنون الخلفاء الراشدين) مبالغة بزيادة كفرهم وجحدهم" (2) .
ولفظ: "الردة" يعني الردة عن بيعة أحد الاثنى عشر. جاء في أصول الكافي وغيره عن أبي عبد الله في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى..} (3) . (قال) فلان وفلان وفلان ارتدوا من الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين.. (4) .
والضلال هو عدم معرفة الإمام، ففي قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ ... } (5) . قال: "يعني ضلوا في أمير المؤمنين" (6) . وفي قوله سبحانه: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (7) . قال:
__________
(1) أصول الكافي: «1/420، تفسير القمي: 1/159، تفسير العياشي: 1/276، البرهان: 1/421، تفسير الصافي: 1/511، بحار الأنوار: 23/375، مرآة الأنوار: ص 289
(2) مرآة الأنوار: ص 187
(3) محمد، آية: 25
(4) أصول الكافي: 1/420، بحار الأنوار: 23/375، وانظر: تفسير القمي: 2/308، البرهان: 4/186، تفسير الصافي: 5/28
(5) النساء، آية: 44
(6) تفسير القمي: 1/139
(7) الفاتحة، آية: 7(1/188)
"الضالين: الذين لا يعرفون الإمام" (1) .
إن تفسير الكفر والشرك، والردة والضلال بترك بيعة الاثني عشر فضلاً عن أنه لا سند له من نقل أو عقل أو لغة أو شرع فإنه - ولعل ذلك هو هدف واضع الروايات - ينتهي بالمؤمن به إلى تفضيل الكفر والكافرين على سائر المسلمين من غير الشيعة، (لأن رأس الكفر ترك الولاية) ، وهذا ما يصدقه تاريخ الشيعة مع المسلمين، كما أنه يهون أمر الشرك والإلحاد، وهذا هدم لأصول الإسلام، ومحاربة لرسالة محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - الذي بعث لمحاربة الشرك والكفر والضلال، وإرساء قواعد التوحيد وشريعة الإسلام.
والكبائر وسائر المحرمات هي عندهم أعداء الأئمة. يقول أبو عبد الله - كما يزعمون -: "..وعدونا في كتاب الله عز وجل: الفحشاء والمنكر والبغي والخمر والميسر والأنصاب والأزلام والأصنام، والأوثان والجبت والطاغوت والميتة والدم ولحم الخنزير.." (2) . وقد أشرنا من قبل إلى أن تأويل المحرمات بأعداء الأئمة قد جاء في أبواب عدة في البحار تضمنت عشرات الأحاديث.
وقد جاء في بعض مصادرهم المعتمدة عندهم ما يكشف واضع هذه الأسطورة، ويبين أن أصل تأويل المحرمات بأعداء الأئمة، وتأويل الفرائض بالأئمة هو: أبو الخطاب الذي تبرأ منه الأئمة ولعنوه، وففي رجال الكشي: "كتب أبو عبد الله إلى أبي الخطاب: بلغني أنك تزعم أن الزنا رجل وأن الخمر رجل وأن الصلاة رجل وأن الصيام رجل وأن الفواحش رجل، وليس هو كما تقول.." (3) .
وتذكر كتب المقالات عن بعض غلاة الشيعة القول بأن المحرمات كلها أسماء رجال أمرنا الله تعالى بمعاداتهم، وأن الفرائض أسماء رجال أمرنا بموالاتهم (4) .
__________
(1) تفسير القمي: 1/29
(2) بحار الأنوار: 24/303
(3) رجال الكشي: ص 291، بحار الأنوار: 24/299
(4) الملل والنحل: 1/179(1/189)
ويقول الشهرستاني: "إنما مقصودهم من حمل الفرائض والمحرمات على أسماء رجال: هو أن من ظفر بذلك الرجل وعرفه فقد سقط عنه التكليف وارتفع الخطاب" (1) . وكل ذلك ورثته الاثنا عشرية وأحيته وتولى كبر نشره القمي (صاحب التفسير) ، والكليني، والعياشي، والكاشاني، والمجلسي، وغيرهم من شيوخ الدولة الصفوية الذين "أحيوا" كل أساطير غلاة الفرق الشيعية، وأدخلوه في المعتقد الاثني عشري كروايات عن الأئمة.
هذا وتأويلاتهم في هذا الباب يستغرق ذكرها مجلدات، ولهم في كل عقيدة شذوا بها كالرجعة، والغيبة، والتقية وغيرها تأويلات وافتراءات تربو على الحصر، وسنأتي - إن شاء الله - على شيء منها عند بحثنا لهذه المسائل. وما ذكرناه هنا جزء قليل مما جمعناه ولم نذكره خشيه الإطالة.. وما جمعناه هو كقطرة من بحر مظلم.. عرضه ونقده يستوعب المجلدات.. وكل مثال من هذه الأمثلة - في الغالب - يكشف لنا عن عقيدة من عقائد القوم في الألوهية والنبوة، والأسماء والصفات، وأركان الإسلام وغيرها.
هذا وقبل أن أرفع القلم عن هذا الموضوع أسجل الملاحظات التالية:
1- فيما مضى من مباحث ذكرنا ما يقوله الشيعة من أن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم، ثم قدمت أمثلة لتحريف الشيعة لمعاني القرآن.. وكل ذلك يؤكد ما تذهب إليه الشيعة من القول بأن أكثر القرآن قد اشتمل على ذكر الأئمة الاثني عشر ومخالفيهم.. فهذه المسألة حشد لها شيوخ الشيعة آلاف النصوص كما أسلفنا الإشارة إلى شيء منها.. وبعد ذلك كله نجد من نصوصهم نفسها ما ينقض هذه الدعاوى كلها جملة واحدة.
يقول هذا النص الذي يروونه عن أبي عبد الله جعفر الصادق: "لو قرئ
__________
(1) الملل والنحل: 1/179(1/190)
القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين" (1) . فهذا اعتراف منهم بأنه ليس لأئمتهم ذكر في كتاب الله، ولم يرد لهم تسمية فيه.. فكأنهم يخربون بيوتهم بأيديهم. ولعل السر في ذلك أن واضع هذا النص قد اهتم بتأييد مسألة التحريف - وسيأتي بحثها - ونسي ما وضع من قبل، والاختلاف والتناقض قد يكون عقوبة إلهية لمن يضع في الدين ما ليس منه، كما يؤخذ ذلك من قوله سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (2) . فهو برهان أكيد على أنه ليس من عند الله سبحانه.. وقد مضى من قبل الإشارة إلى نص آخر لهم يجعل من كتاب الله سبحانه أربعة أقسام وليس في قسم منها ذكر للأئمة (3) .
وجاء في رجال الكشي نص هام ينسف كل ما بنوه من هذا التفسير الباطني، فقد نقل لأبي عبد الله جعفر ما يقوله أولئك الزنادقة من تأويل آيات الله سبحانه بتلك التأويلات الباطنية "حيث قيل له: روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال: ما كان الله عز وجل ليخاطب خلقه بما لا يعملون" (4) . أي يستحيل أن يخاطب الله سبحانه عباده بما لا سبيل لهم إلى معرفته والاهتداء إلى معناه؛ لأن هذا يتنافى مع الحكمة في إنزال القرآن لهداية الناس والدعوة إلى عبادة الله، ويتنزه الله سبحانه أن يأمر عباده بتدبر القرآن وهو غير قابل للتدبر والفهم، ويتقدس سبحانه أن يخاطب عباده بألغاز وطلاسم. وهذا القول من أبي عبد الله الذي ورد في أوثق كتب الرجال عند الشيعة يهدم كل ما بنوه من تلك التحريفات وذلك الإلحاد في كتاب الله وآياته.
هذا نقض للمسالة من نصوصهم نفسها، أو ما يسمى بالنقد الداخلي للنصوص، وإلا فإن المتأمل لآيات القرآن بمقتضى اللغة العربية التي نزل بها: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ
__________
(1) تفسير العياشي: 1/13، بحار الأنوار: 92/55، تفسير الصافي: 1/41، اللوامع النورانية: ص 547
(2) النساء، آية: 82
(3) انظر: ص (156-157)
(4) رجال الكشي: ص 291(1/191)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) لا يجد فيه ذكراً لما يدعون، والروايات التي يذكرونها يكفي في بيان فسادها مجرد عرضها، فهي تحمل بنفسها ما يهدم بنيانها من الأساس، فهل يصدق أحد أن لعلي في القرآن (1154) اسماً؟ وهل يدخل عقل أحد أن من أسماء علي البعوضة والذباب؟ وهل يوافق مؤمن على القول بأن ما ورد من آيات عن اليوم الآخر هي خاصة بعقيدة رجعة الأئمة؟ وكيف تناقش من يقول بأن آيات الإيمان والمؤمنين هي في الأئمة الاثني عشر، وآيات الكفر والكافرين هي في الصحابة؟!
وإنني هنا أذهب إلى القول بأن هذا المستوى الذي هبط إليه هؤلاء هو من معجزات هذا الدين العظيم، فما من أحد ادعى نبوة أو وحياً وأراد أن يضع في الدين ما ليس منه إلا وفضحه الله على روؤس الأشهاد، وتالله إن هذه المقالات التي لا يمكن بحال أن تتفق مع العقل والنقل ولا اللغة والدين هي من أعظم فضائح القوم وعوراتهم.. وبها يكشف الله سبحانه وتعالى كذبهم وبهتانهم.
إن مطابع النجف وطهران وقم وبمبي قد أخرجت لنا تراثاً شيعياً ضخماً يمثل ديناً بأكمله، لعل أقرب تسمية له هو دين الولاية، أو الإمامة، ولم تتوفر هذه الكتب للمسلم كما توفرت اليوم.. دين وضعه المجلسي والكليني وغيرهما من أساطين التشيع، وسينكشف من خلاله أمور كثيرة لم تكن معروفة من قبل.. ويبدو من الاطلاع عليه عظمة هذا الدين الإلهي وسر خلوده، إذ بضدها تتميز الأشياء فلولا المر ما عرف طعم الحلو.
ولعلي أقول إن هذا الإحياء لهذا التراث الشيعي الضخم دليل على قرب نهايته فقد عاشوا يبشرون بمعتقدهم بتقية ومصانعة انخدع بها الكثير وهاهي كتبهم اليوم المعتمدة تظهر بشكل وفير في وقت تطلع الناس لمعرفة ما عندهم، لتسهم في كشف عوارهم.
__________
(1) يوسف، آية: 2(1/192)
2- هذه التأويلات الباطنية المستفيضة في كتب الاثني عشرية هي مجهولة للكثير ممن يكتب عن هذه الطائفة.. وحسبك أن تجد ممن كتب عن الاثني عشرية من يعتبرها بعيدة كل البعد عن الاتجاه الباطني، ويظن أن التأويل الباطني مقصور أمره على طائفة الإسماعيلية. يقول بعض من كتب عن الفرق: "جعل الإسماعيلية للأئمة صفات لم تعرفها فرق الشيعة الأخرى، ذلك أنهم يقولون ظاهراً: إن الأئمة بشر كسائر الناس يأكلون وينامون ويموتون، ولكنهم في تأويلاتهم الباطنية يقولون: إن الإمام هو: "وجه الله" "ويد الله" "وجنب الله" (1) .
ويلاحظ أن هذا هو عين ما تذهب إليه طائفة الاثني عشرية، وجاءت أخبار كثيرة عندهم في إقرار هذا الغلو، وخصص المجلس لذلك باباً من أبواب بحاره - كما أسلفنا - وهو «باب أنهم - عليهم السلام - جنب الله ووجه الله ويد الله وأمثالها" (2) .
والسر في هذا الجهل المتفشي بين طبقة من الكتاب هو أن كتب الاثني عشرية نوعان: كتب للدعاية للمذهب وضعت بأسلوب التقية.. والنوع الثاني:- وهو المعتبر عندهم - كتب الحديث الثمانية المعتمدة عندهم وكتب الرجال الأربعة، وما في درجة هذه الكتب من كتب شيوخهم. فمن يعتمد على الأول وحده يفوته الكثير من أمورهم، والتي قد تشير إليها كتب الدعاية إشارة لا يفهمها إلا شيوخهم، أو من هو على صلة وفهم لكتبهم المعتمدة.
3- يلاحظ أن هذه التأويلات ليست عندهم آراء اجتهادية في تأويل القرآن قابلة للأخذ والرد والمناقشة والتعديل، بل هي في مقاييسهم نصوص شرعية لها سمة الوحي وأهميته، وقدسية النص النبوي وشرعيته. وقد جاءت عندهم نصوص كثيرة تحذر وتنذر من رد أمثال هذه النصوص التي لا تتفق مع العمل والفطرة، ولا مع المنطق واللغة. وأن الواجب التسليم وعدم الاعتراض، على لغة: "أطفئ مصباح عقلك واعتقد"، وقد حاولوا توطين أتباعهم على قبول أمثال هذه النصوص فقالوا: "إن حديثنا
__________
(1) مصطفى الشكعة/ إسلام بلا مذاهب: ص 247-248
(2) بحار الأنوار: 24/191-203(1/193)
تشمئز منه القلوب فمن عرف فزيدوهم، ومن أنكر فذروهم" (1) . "وعن سفيان السمط قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: جعلت فداك، إن رجلاً يأتينا من قبلكم يعرف بالكذب فيحدث بالحديث فنستبشعه، فقال أبو عبد الله: يقول لك: إني قلت لليل إنه نهار أو للنهار إنه ليل؟ قال: فإن قال لك هذا إني قلته فلا تكذب به فإنك إنما تكذبني (2) .
وأمثال هذه الروايات كثيرة، ويلاحظ أن في الرواية الأخيرة ما يدل على أن من الشيعة من يستبشع رواياتهم، ولكن يلزمون بالإيمان الأعمى بها، بل يعتبر من توقف في رواية من هذه الروايات وقال: "كيف جاء هذا، وكيف كان، وكيف هو؟، فإن هذا والله الشرك بالله العظيم (3) . وقد اهتم بهذه القضية صاحب البحار وذكر لها (116) حديثاً من أحاديثهم في باب عقده بعنوان: "باب أن حديثهم - عليهم السلام - صعب مستصعب، وأن كلامهم ذو وجوه كثيرة وفضيلة التدبر في أخبارهم - عليهم السلام - والتسليم لهم والنهي عن رد أخبارهم" (4) .
ولعل أول من أرسى دعائم هذا المعتقد صاحب الكافي والذي خصه بباب مستقل بعنوان: "باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب" وذكر فيه خمس روايات (5) . ولعل هذا الأسلوب هو الذي ساعد على تفشي تلك المقالات الأسطورية، وغياب الصوت العاقل الذي يجهر بالحق.. ويعري الباطل ويفضحه. وهذا نوع من الاستهواء الذي يطالب فيه الأتباع بالإيمان بأقوال الأئمة وإن خالفت العقل والنقل، وهو قريب من موقف الصوفية الذي يطالب فيه الشيوخ مريديهم بالتسليم لهم حتى إنهم قالوا: إن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي غاسله، وهذا الاستهواء هو الذي لجأ
__________
(1) البحار: 2/129
(2) البحار: 2/211-212، البحراني/ اللوامع النورانية ص 549-550
(3) انظر: رجال الكشي: ص194
(4) انظر: بحار الأنوار: 2/182 وما بعدها
(5) انظر: أصول الكافي: 1/401-402(1/194)
إليه فرعون مع قومه، وأشار إليه الله سبحانه بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (1) . (2) .
4- إن للتفسير عندهم وجوهاً: ظاهرة، وباطنة، والجميع معتبر. قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: إن قوماً آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم شيء، وجاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن وكفروا بالظاهر فلم ينفهم ذلك شيئاً، ولا إيمان بظاهر إلا بباطن، ولا باطن إلا بظاهر، ولهذا يلاحظ أن بعض تفاسير الشيعة لم تذكر هذا التأويل، أو ذاك، وإنما ذكرت ما ظهر من الآية الذي قد يوافق اللغة أو ما جاء عن السلف، ولكن قد لا يعني هذا مخالفتهم لذلك التأويل الباطني لأنهم يقولون بأن لكل آية معنى باطناً ومعنى ظاهراً، والكل مراد، فقد يكتفي بعضهم بذكر الظاهر وحده، أو الباطن فقط، أو يذكر الوجهين جميعاً؛ لأن رواياتهم جاءت على نفس المنهج كما تدل على ذلك رواية صاحب الكافي في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (3) .
قال: " ... عن عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال: قلت لأبي عبد الله: إن الله أمرني في كتابه بأمر فأحب أن أعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الإمام، {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك، قال عبد الله بن سنان: فأتيت أبا عبد الله - عليه السلام - فقلت: جعلت فداك، قول الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال: أخذ الشارب وقص الأظفار وما أشبه ذلك. قال: قلت: جعلت فداك، إن ذريحاً المحاربي حدثني عنك بأنك قلت له: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} لقاء الإمام {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} تلك المناسك، فقال: صدق ذريح وصدقت، إن للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح" (4) . ففي هذا
__________
(1) الزخرف، آية: 54
(2) انظر: المدخل إلى الثقافة الإسلامية: ص 113-115
(3) الحج، آية: ص 29
(4) الكليني/ فروع الكافي: 4/549، وانظر: ابن بابويه/ من لا يحضره الفقيه: 2/290-291، =(1/195)
النص - الذي أورده صاحب الكافي، وذكره أيضاً صاحب من لا يحضره الفقيه وغيره - التصريح بأن للقرآن معاني ظاهرة تقال لعامة الناس، وله معانٍ باطنة لا تذكر إلا للخاصة ممن يستطيع احتمالها، وهم قلة لا توجد "فمن يحتمل ما يحتمل ذريح". وإذا كان الأئمة يضنون بهذا العلم الباطني، ويتحاشون ذكره عند شيعتهم إلا من كان على مستوى ذريح فماذا خالفت كتب الاثني عشرية نهج أئمتها وأشاعت هذا "العلم" المضنون به على غير أهله للخاص والعام؟!
هذا ما يؤخذ من أقوال هؤلاء القوم.. ولعل قائلاً يقول: لماذا لا يكون هذا التأويل الذي يتفق وظاهر النص، وسياق القرآن، ولغة العرب، وما أثر من السلف، وما اتفق عليه جماعة المسلمين هو الذي يعتقد صدوره عن أمثال محمد الباقر، وجعفر الصادق وغيرهما من أئمة العلم والدين واللغة، وأن تلك التأويلات الباطنية التي لا تستند إلى أصل معتبر من نقل أو عقل أو لغة هي من وضع زنديق ملحد أراد الإساءة إلى كتاب الله ودينه، وإلى أهل البيت، ولاسيما أن تلك الأقوال الباطنية لا تذكر إلا خلسة وفي الظلام، ولا ينقلها إلا قلة كما يشير إليه نهاية الخبر، وتفسير القرآن لا يمكن أن يكون علماً سرياً لا يتحمله إلا خاصة الناس، فالله سبحانه أنزل كتابه لعباده كافة لا لفئة معينة، وهؤلاء الأئمة كان عصرهم يمثل العصر الذهبي للأمة في وقت عزة الإسلام والمسلمين، فهل يصبح تفسير القرآن في عصرهم "سرياً" وفي هذا العصر يعلن هذا التفسير؟!
وأئمة أهل البيت هم أجرأ وأشجع من أن يجبنوا عن بيان الحق، وأن يتخلوا عن الصدع بأمر الله وشرعه.
5- هذه التأويلات الباطنية هي من باب الإلحاد في كتاب الله وآياته - وقد قال
__________
= معاني الأخبار: ص 340، عيون أخبار الرضا: ص 366، الكاشاني/ تفسير الصافي: 3/376، الحويزي/ تفسير نور الثقلين: 2/492، البحراني/ البرهان: 3/88-89، المجلسي/ بحار الأنوار: 92/83-84، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 10/253، الموسوي/ مفتاح الكتب الأبعة: 5/228-229(1/196)
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (1) . قال ابن عباس: هو أن يوضع الكلام في غير موضعه (2) . وذلك بالانحراف في تأويله (3) .
قال في الإكليل: "ففيها الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ كما يفعله والاتحادية والملاحدة" (4) . وهؤلاء الذين يلحدون في آيات الله ويحرفونها عن معانيها وإن كتموا كفرهم وتستروا بالباطل وأرادوا الإخفاء لكنهم لا يخفون على الله كما قال تعالى: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} (5) .
6- ربط شيوخ الشيعة هذه التأويلات أو التحريفات بأئمة أهل البيت لتحظى بالقبول عند الناس، ولأنها تأويلات غير عاقلة قالوا: بأن السياق القرآني غير منسجم مع النظر العقلي، ونسبوا هذا القول لجعفر الصادق كما يروي ذلك جابر الجعفي أنه قال له: "يا جابر، إن للقرآن بطناً وللبطن ظهراً، ثم قال: وليس شيء أبعد من عقول الرجال منه، إن الآية لينزل أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه" (6) . ولاشك أن هذا الحكم هو برواياتهم أليق وأوفق، ولا يتصل من قريب أو بعيد بكتاب الله وتفسيره الصحيح.
7- قامت مصادرهم في التفسير - غالباً - على هذا المنهج الباطني في التأويل الذي استقته من أبي الخطاب وجابر الجعفي والمغيرة بن سعيد وغيرهم من الغلاة. ويلاحظ أنه في القرن الخامس بدأ اتجاه التفسير عندهم يحاول التخلص من تلك النزعة المغرقة في التأويل الباطني؛ حيث بدأ شيخ الطائفة عندهم أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى سنة 460هـ) يؤلف لهم كتاباً في تفسير القرآن
__________
(1) فصلت، آية: 40
(2) تفسير الطبري: 24/123، فتح القدير: 4/520
(3) انظر: القاسمي/ محاسن التأويل: 14/211، الألوسي/ روح المعاني: 24/126
(4) السيوطي/ الإكليل: ص 354 (المطبوع على هامش جامع البيان في تفسير القرآن)
(5) محمد شاه الكشميري/ إكفار الملحدين: ص 2
(6) تقدم تخريج هذا النص من كتب الشيعة: ص (152)(1/197)
يستضيء في تأليفه بأقوال أهل السنة، ويأخذ من مصادرهم في التفسير، ويحاول فيه أن يتخلص أو يخفف من ذلك الغلو الظاهر في تفسير القمي والعياشي وفي أصول الكافي وغيرها، وهو وإن كان يدافع عن أصول طائفته ويقرر مبادئهم المبتدعة، إلا أنه لا يهبط ذلك الهبوط الذي نزل إليه القمي ومن تأثر به. ومثل الطوسي في هذا النهج الفضل بن الحسن الطبرسي في "مجمع البيان" وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ذلك حيث قال: "الطوسي ومن معه في تفسيرهم يأخذون من تفاسير السنة، وما في تفسيرهم من علم يستفاد إنما هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة" (1) .
ولكن قد كشف لنا شيخ الشيعة في زمنه ومحدثها وخبير رجالها وصاحب آخر مجموع من مجاميعهم الحديثية، وأستاذ كثير من علمائهم الكبار عندهم كمحمد حسين آل كاشف الغطا، وأغا بزرك الطهراني وغيرهما وعالم الشيعة حسين النوري الطبرسي قد كشف لنا سراً عندهم بقي دفيناً، وأماط اللثام عن حقيقة كانت مجهولة لدينا وهي أن كتاب «التبيان» للطوسي إنما وضع على أسلوب التقية والمداراة للخصوم وإليك نص كلامه:
"ثم لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان أن طريقته فيه على نهاية المداراة والمماشاة مع المخالفين، فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج، وابن زيد وأمثالهم. ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية، ولم يذكر خبراً عن أحد من الأئمة - عليهم السلام - إلا قليلاً في بعض المواضع لعله وافقه في نقله المخالفون. بل عد الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذين حمدت طرائقهم ومدحت مذاهبهم. وهو بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه المماشاة.. ومما يؤكد كون وضع هذا الكتاب على التقية ما ذكره السيد الجيل علي بن طاوس في سعد السعود وهذا لفظه: "ونحن نذكر ما حكاه جدي أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب
__________
(1) انظر: منهاج السنة: ص 3/246(1/198)
«التبيان» وحملته التقية على الاقتصار عليه من تفضيل المكي على المدني والخلاف في أوقاته.. الخ. (هكذا لم يكمل النوري النص) " ثم قال هذا النوري معقباً على ما نقله على ابن طاوس: "وهو - يعني ابن طاوس - أعرف بما قال من وجوه لا يخفى على من اطلع على مقامه فتأمل" (1) .
فمن هذا النص يتبين أن التبيان للطوسي قد وضع على أسلوب التقية - كما هو رأي شيخ الشيعة المعاصر - أو أن يكون التبيان قد صدر من الطوسي نتيجة اقتناع عقلي بإسفاف ما عليه القوم من تحريف لمعاني القرآن سموه تفسيراً، وبتأثير نزعة معتدلة لاختلاطه مع بعض علماء السنة في بغداد.. ومعنى هذا أن شيعة اليوم - والذي يمثلهم هذا النوري الطبرسي والذي ارتضوا كتابه (مستدرك الوسائل) مصدراً لهم في الحديث (2) ، كدليل على كبير مقامهم عندهم - هم أشد غلواً وتطرفاً، ولذا تراهم يعتبرون تفسير الطوسي ومن سار على منهجه إنما ألفت للخصوم، والتزمت بروح التقية (لتبشر) بالعقيدة الشيعية مع غير الشيعة.
ولعل القارئ يدرك من خلال هذا الرأي لشيخ الشيعة حول كتاب «التبيان» - أن التقية أسهمت في (تكريس) الغلو عند هذه الطائفة، وفي وأد كل صوت عاقل ورأي معتدل بحمله على التقية لأنه يوافق - بزعمهم - ما عند أهل السنة، فبقيت هذه الطائفة في هذه الدائرة المغلقة، قد جعلت من التقية حصناً تلجأ إليه كلما هبت عليها نسمات الإصلاح، ورياح التغيير - كما سيأتي في مبحث التقية -.
ثم لا ننسى أن نشير إلى أن ما قلناه عن كتاب الطوسي ينطبق على تفسير مجمع البيان للطبرسي لأنه سار على نهج الطوسي وأشار إلى ذلك في مقدمة تفسيره حيث قال: ".. إلا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق ويلوح عليه رواء الصدق.. وهو القدوة أستضيء بأنواره وأطأ مواقع آثاره" (3) .
__________
(1) فصل الخطاب: ص 35 (والورقة 17 من النسخة المخطوطة من الكتاب المذكور)
(2) انظر: فصل "السنة" من هذه الرسالة
(3) مجمع البيان: 1/20(1/199)
المبحث الثالث: هل الشيعة تقول بأن في كتاب الله نقصاً أو تغييراً
مدخل للموضوع:
وجاء في هذا المبحث بهذه الصيغة الاستفهامية لثلاث أسباب:
أولاً: أن طائفة من أعلام الاثني عشرية يتبرأون من هذه المقالة - مثل الشريف المرتضى، وابن بابويه القمي وغيرهما -.
ثانيا: إن إجماع المسلمين كلهم قام على أن كتاب الله سبحانه محفوظ بحفظ الله له {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} . ومن قال بأن في القرآن نقصاً وتحريفاً فليس من أهل القبلة وليس من الإسلام في شيء، ومن هنا فإن العدل يقتضي أن نحتاط في دراستنا لهذه المسألة أبلغ الاحتياط، وأن نعدل في القول، فلا نرمي طائفة بهذه المقالة إلا بعد الدراسة والتثبت.
ثالثاً: إن هناك طائفة من المفكرين يرمون الشيعة بالقول بهذا الكفر، ويعممون ذلك، ولاشك بأن الشيعة فرقٌ، والشيعة طبقات، فلا يصح أن يقال مثلاً بأن متقدمي الشيعة يقولون بهذه المقالة (1) ، ولا يقبل أن يقال بأن الزيدية تقول بهذه الفرية.. فأسلوب التعميم غير مرضي ولا مقبول.
__________
(1) وقد انساق "إحسان إلهي ظهير" وراء مقالة صاحب فصل الخطاب بأنه لا يوجد من أنكر مقالة التحريف من الشيعة في القرون المتقدمة إلا هؤلاء الأربعة (يعني ابن بابويه القمي، والمرتضى، والطبرسي، والطوسي) فقال إحسان: "والحاصل أن متقدمي الشيعة ومتأخريهم تقريباً جميعهم متفقون على أن القرآن محرف، مغير فيه". (الشيعة والسنة ص 122) (ط. دار الأنصار) . الحقيقة أن هذه القضية بدأت عند الشيعة متأخرة عن نشأة الشيعة نفسها، وأن أوائل الشيعة ليسوا على هذا الضلال، وأن فرقاً من الشيعة ليست على هذا "الباطل"(1/200)
وبعد: فإن الباحث المسلم يعاني بلا شك من قراءة تلك الحروف السوداء، ومن الاستماع لأولئك الأقزام الذين يتطاولون على كلام الله سبحانه، يعاني من ذلك أبلغ المعاناة. وليعلم القارئ أن دراسة هذا الموضوع ليست من أجل الرد والدفاع، فكتاب الله لا تصل إلى مقامه بغاث الأحلام، ولا تنال من عظمته دعوى حاقد، ومزاعم مغرض. فهل تستر الشمس، أو تحجب القمر كف إنسان؟! ثم ما أسهل الادعاء الكاذب على حاقد مَوْتور، ومن ثم فليس علينا أن نتتبع كل دعوى كاذبة لنردها:
لو أن كل كلب عوى ألقمته حجراً لكان كل مثقال بدينار
كما أن إهمال القول الكاذب قد يكون أحرى لإماتته وانصراف الأنظار عنه، ما لم يتفش هذا القول ويشتهر وتحمله طائفة، وتسير به كتب، فحينئذ يجب كشف المطبل وباطله.
وأقول: إن دراسة هذه المسألة ليست من أجل الرد والنقض، إنما هي لبيان هل الشيعة تقول بهذه المقالة أو لا؟ -، وفي ثبوت ذلك أكبر فضيحة للشيعة يهدم بنيانها من الأساس ويزلزل كيانها من القواعد، ولن يقبل منها قول ولا يسمع منها كلمة.. ومن ذا الذي يمس كتاب الله ويقبل منه مسلم قولاً أو يرتضي منه حكماً (1) . ومن ثم فنحن نكتب هذه الدارسة لبيان حقيقة نسبة هذه المسألة للشيعة؛ لأن من حاول المساس بكتاب الله والنيل من قدسيته فإنه بعيد عن الإسلام وإن تسمى به، وأنه يجب كشفه لتعرف الأمة عدواته؛ لأنه يحارب الإسلام في أصله العظيم وركنه المتين.
ثم إن حكاية قول من قال ذلك - كما يقول أبو بكر الباقلاني - يغني عن
__________
(1) ولهذا رأينا الإمام بن احزم - رحمه الله - حينما احتج النصارى بما ينسب إلى الرافضة من القول بنقص القرآن وتغييره.. أجابهم ابن حزم بأن هؤلاء ليسوا من المسلمين وإنما هي فرقة طارئة على الإسلام والمسلمين حدث أولها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. (انظر: الفصل: 2/80)(1/201)
الرد عليه (1) .؛ لما توافر لكتاب الله من وسائل الحفظ وأسباب الضبط التي يستحيل معها أن يتطرق إليه نقص أو تغيير تحقيقاً لوعد الله سبحانه في حفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) . هذا ومن أمر هذه الدعوى والتي وجدت في محيط الشيعة (وسندرس مدى موافقة الشيعة لها أو رفضها) أنها ولدت وفي أحشائها أسباب فنائها، وبراهين زيفها وكذبها، لم يحكم واضعها الصنعة في صياغتها، ولم يجد الحيلة في حبكها، فجاءت على صورة مفضوحة، وبطريقة مكشوفة، ولذلك نقضت نفسها بنفسها، فهي تقوم على دعوى أن القرآن ناقص ومغير.. وأن القرآن الكامل المحفوظ من أي تغيير هو عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم أورثه الأئمة من بعده وهو اليوم عند مهديهم المنتظر.
فهذه الدعوى ربطوها بأمير المؤمنين علي، ولكن علياً هو الذي حكّم القرآن في خلافته وقرأه وتعبد به، ولو كان لديه غيره لأخرجه للناس ولم يجز أن يتعبد الله بكتاب محرف وناقص، ولو كان شيء مما يدعون لأخرج علي القرآن الكامل الذي جمعه، وعارض به هذا القرآن المحرف - كما يدعون - ولتدارك الأمر حين أفضت إليه الخلافة، لأن من أقر الخائن على خيانته كان كفاعلها.. وقد حارب علي معاوية على أقل من هذا الأمر، فكيف لم يفعل ذلك أمير المؤمنين؟!!
لم يجد أصحاب هذا الافتراء ما يجيبون به عن هذا السؤال الكبير الذي ينسف بنيانهم من القواعد سوى قولهم على لسان عالمهم نعمة الله الجزائري (3) : "ولما جلس أمير المؤمنين - عليه السلام - على سرير الخلافة لم يتمكن من إظهار
__________
(1) إعجاز القرآن: ص 24، تحقيق أحمد صقر
(2) الحجر، آية: 9
(3) وله منزلته عندهم، وصفوه بأنه السيد السند، والركن المعتمد، المحدث النبيه، المحقق، النحرير، المدقق العزيز النظير، وقالوا بأنه من أكابر متأخري علماء الإمامية، محدث جليل القدر، ومحقق عظيم الشأن، إلى آخر أوصافهم، توفي سنة (1112هـ) (انظر: أمل الآمل: 2/336، الكنى والألقاب: 3/298، سفينة البحار: 2/601، مقدمة الأنوار النعمانية)(1/202)
ذلك القرآن وإخفاء هذا لما فيه من إظهار الشنعة على ما سبقه" (1) .
هكذا يجيبون وبهذا يعتذرون.. وأي قدح وسب لأمير المؤمنين ممن يزعم التشيع له أبلغ من هذا وأشد.. إنهم يتهمون علياً - رضي الله عنه - بأنه راعى المجاملة لمن سبقه على هداية الأمة، ولهذا لم يخرج ما عنده من القرآن.. سبحانك هذا بهتان عظيم!.
كما أنهم ربطوا وجود المصحف بإمامهم المنتظر الذي لم يولد أصلاً ولا وجود له - كما سيأتي - والإمام الغائب والمصحف الغائب كلاهما وهم وخيال.
والكلمات المفتراة والتي قدموها على أنها آيات ساقطة من المصحف انكشف بها كذبهم وظهر بها بهتانهم، فهي أشبه ما تكون بمفتريات مسيلمة المتنبئ الكذاب وادعاءاته.. لا تربطها بلغة العرب، وبلاغة اللسان العربي أدنى رابطة - كما سيأتي -، ثم إنهم رجعوا على أنفسهم وقالوا: لا اعتماد على تلك الكلمات ولا تعتبر من القرآن، ولا يجوز القراءة بها، لأن طريقها آحاد، والأئمة قرأوا هذا القرآن واستعملوه فلا يترك ما أجمعوا عليه بمثل هذه الروايات.. ثم انفصل منهم طائفة عاقلة تبرأت من هذا الكفر لما رأت من تناقضه ووضوح بطلانه.. وهاجمت من قال به من أصحابها وكشفت كذبه وكفى الله المؤمنين القتال.. وهذا الصراع الدائر بين الطائفتين ينكشف من خلال كتاب فصل الخطاب كما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فحملت هذه المقالة أسباب فنائها في أحشائها، وانكشف عوارها وكذبها بكلمات أصحابها، وفي هذا آيات للمؤمنين، وبرهان من براهين عظمة هذا القرآن، وسر من أسرار إعجازه والتي لا تحيط بها العقول، وشاهد من شواهد تحقيق وعد الله بحفظه لكتابه العزيز.
وفيما يلي نبدأ بدراسة هذه القضية عند الشيعة، ومتى بدأت، وكيف امتدت، ومن الذي تولى كبر وضعها، وهل تقول الشيعة كلها بذلك أو فيها من
__________
(1) الأنوار النعمانية: 2/362(1/203)
أنكر وتبرأ؟ وسنذكر أولاً ما تقوله كتب السنة، ثم نرجع لتحقيق ذلك من كتب الشيعة الاثني عشرية نفسها:
بداية هذا الافتراء - كما تقوله مصادر أهل السنة:
يقول الإمام أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (1) : "لم يزل أهل الفضل والعقل يعرفون شرف القرآن وعلو منزلته.. حتى نبغ في زماننا هذا زائع عن الملة وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة.. فزعم أن المصحف الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - باتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تصويبه فيما فعل لا يشتمل على جميع القرآن، إذا كان قد سقط منه خمسمائة حرف.. (ثم ذكر ابن الأبناري) أن هذا الزنديق أخذ يقرأ آيات من القرآن على غير وجهها زندقة وإلحاداً، فكان يقرأ: (ولقد نصركم الله ببدر بسيف علي وأنتم أذلة) " (2) .
هذا النص قاله ابن الأنباري المولود سنة (271هـ) والمتوفى سنة (328هـ) وهو يشير إلى أن هذا الافتراء بدأ في زمنه في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع. ويدل النص المذكور أيضاً على: أن مصدر هذا الافتراء من طائفة الشيعة كما تفيده تلك الزيادة المفتراة (بسيف علي) كما يدل على أنه لم يكن للأمة المسلمة في ماضيها عهد بهذه المفتريات حتى ظهر هذا الزائغ عن الملة، وكأن ابن الأنباري بهذا يشير إلى شخص بعينه إلا أنه لم يذكره باسمه.. ولكن بدت هويته المذهبية من خلال افتراءاته.
بينما نجد المطلي (ت 377هـ) يشير إلى أن هذا الشخص صاحب هذه
__________
(1) محمد بن القاسم بن محمد.. أبو بكر بن الأنباري، قال الخطيب البغدادي: "كان صدوقاً فاضلاً ديناً خيراً من أهل السنة، وصنف كتباً كثيرة في علوم القرآن.. والوقف والابتداء والرد على من خالف مصحف العامة.. وكان من أحفظ الناس للغة وتفسير القرآن". (انظر: تاريخ بغداد: 3/181-186)
(2) تفسير القرطبي: 1/28(1/204)
الفرية هو هشام بن الحكم (1) . فإنه زعم أن القرآن الذي في أيدي الناس وضع أيام عثمان، وأما القرآن فقد صعد به إلى السماء لردة الصحابة بزعمه (2) .
ولكن هشام بن الحكم توفي سنة (190هـ) وهذا يعني أن هذا الافتراء أقدم مما يذكره ابن الأنباري، وإذا لاحظنا أن هذه الفرية مرتبطة أشد الارتباط بمسألة الإمامة والأئمة عند الشيعة، وذلك حينما بدأ شيوخ الشيعة في الاستدلال عليها فلم يجدوا في كتاب الله ما يثبت مزاعمهم في ذلك فأدى بهم هذا إلى القول بهذه الفرية وغيرها.. إذا أدركنا ذلك فإنه لا يبعد أن يكون ما يقوله المطلي في أن هشاماً هو الذي تولى كبر هذا الافتراء.. لا يبعد أن يكون هذا واقعاً لاسيماً أن هشاماً كان من أول من تكلم في الإمامة، حتى قال ابن النديم: "إن هشام بن الحكم ممن فتق الكلام في الإمامة، وله من الكتب كتاب الإمامة" (3) ، وقال ابن المطهر الحلي: "وكان ممن فتق الكلام في الإمامة وهذب المذهب بالنظر" (4) .
ويشفع لتأهيل هشام بن الحكم - أيضاً - لهذه الفرية ما جاء في رجال الكشي- عمدة الشيعة في كتب الرجال - ونصه: "هشان بن الحكم من غلمان أبي شاكر، وأبو شاكر زنديق" (5) . وقال القاضي عبد الجبار (المعتزلي) : "هشام.. ليس من أهل القبلة، وهو معروف بعداوة الأنبياء، وقد أخذ مع أبي شاكر الديصاني (6) . صاحب الديصانية (7) . وكان
__________
(1) هشام بن الحكم: أصله كوفي، وسكن بغداد، وتربى في أحضان بعض الزنادقة، وكان في الأصل على مذهب الجهمية، ثم قال بالتجسيم.. نقلت عنه مقالات ضالة وتنسب له كتب الفرق فرقة "الهشامية" من الشيعة. توفي سنة (179هـ) كما في رجال الكشي، وقيل: (190هـ) انظر: رجال الكشي: ص 255-280، رجال النجاشي: ص 338، وانظر: ابن حجر/ لسان الميزان: 6/194، وانظر عن الهشامية: الملطي/ التنبيه والرد: ص 24، الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/106، البغدادي الفرق بين الفرق: ص 65، الشهرستاني/ الملل والنحل: 1/184وغيرها
(2) التنبيه والرد: ص 25
(3) الفهرست: ص175
(4) رجال الحلي: ص 178
(5) رجال الكشي: ص 278
(6) انظر: ابن النديم/ الفهرست: ص 338
(7) الديصانية: إحدى فرق الثنوية القائلين بالأصلين النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما، وتعتبر أصلاً للمانوية، وإنما اختلفت الفرقتان في كيفية اختلاط النور بالظلمة (الملل والنحل: 1/250، الفهرست لابن النديم: ص 338-339)(1/205)
معروفاً به وبصحبته، فادعى أنه من الشيعة، فخلصه بعض أصحاب المهدي حين ادعى أنه يتشيع لبني هاشم فلم يصلبه مع أبي شاكر (1) ، فهو قد تربى في أحضان الزنادقة، والشيء من معدنه لا يستغرب.. وقد أوعز إليه - كما في رجال الكشي - بلزوم الصمت حين جدّ المهدي العباسي بتتبع الزنادقة" (2) . قال هشام: "فكففت عن الكلام حتى مات المهدي" (3) .
فتشير القرائن - كما ترى - إلى هشام وشيعته، فهذا يدل على أقل الافتراضات أن هذه "الفرية" وجدت في عصر هشام، ومما يدل على وجود هذه الدعوى في تلك الفترة ما ذكره ابن حزم عن الجاحظ قال: "أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قالا لمحمد بن جعفر (4) . الرافضي المعروف بشيطان الطاق: ويحك! أما استحيت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة: إن الله تعالى لم يقل قط في القرآن: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (5) . قالا: فضحك والله شيطان الطاق طويلاً حتى كأنّا نحن الذي أذنبنا" (6) .
هذه الحكاية أوردها ابن حزم عن الجاحظ، وقد قال ابن حزم عن الجاحظ بأنه رغم مجونه وضلاله: "فإننا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها، وإن
__________
(1) انظر: تثبيت دلائل النبوة: ص 225
(2) انظر: رجال الكشي: ص 265-266
(3) رجال الكشي: ص 266
(4) كذا في الطبعة المحققة من "الفصل" ولعل الصواب أبو جعفر، لأن أباه علي كما هو المشهور في كتب التراجم
(5) التوبة، آية: 40
(6) الفصل: 5/39(1/206)
كان كثيراً لإيراد كذب غيره" (1) . وشيطان الطاق وهو محمد بن علي ابن النعمان أو جعفر الأحول توفي سنة (160هـ) (2) ، والمعروف أن شيطان الطاق معاصر لهشام بن الحكم، قال ابن حجر: "قيل إن هشام بن الحكم شيخ الرافضة لما بلغه أنهم لقبوه شيطان الطاق سماه هو مؤمن الطاق" فقد يكون أحد الشركاء في هذه "الجريمة" مع هشام بن الحكم، فهو شريك في التأليف حول مسألة الإمامة والتي هي السبب والأصل للقول بهذا الافتراء كما تدل عليه نصوص هذه الفرية.
شيوع هذه المقالة عندهم كما تقول كتب أهل السنة:
ثم فشت هذه المقالة في الشيعة الاثني عشرية والذي يلقبهم الأشعري وغيره بالرافضة كما أسلفنا حتى أصبحت - كما يذكر الأشعري - (المتوفى سنة 330هـ) مقالة لطائفة من هؤلاء الروافض زعموا: "أن القرآن قد نقص منه، وأما الزيادة فذلك غير جائز أن يكون قد كان، وكذلك لا يجوز أن يكون قد غير منه شيء عما كان عليه، فأما ذهاب كثير منه فقد ذهب كثير منه، والإمام يحيط علماً به" (3) ، بينما اتجهت فرقة أخرى من هؤلاء يصفهم الأشعري بأنه ممن جمع القول بالاعتزال والإمامة إلى إنكار هذا القول وقالت: "إن القرآن ما نقص منه، ولا زيد فيه، وإنه على ما أنزل الله تعالى على نبيه - عليه الصلاة والسلام - لم يغير ولم يبدل، ولا زال على ما كان عليه" (4) . وهناك فرقة ثالثة سقط - فيما يظهر- ذكر
__________
(1) الفصل: 5/39
(2) نسب إليه أنه يقول: إن الله لا يعلم شيئاً حتى يكون، وضلالات أخرى، تنسب له فرقة "الشيطانية" أو النعمانية من غلاة الشيعة.
(انظر: رجال الكشي: ص 185، رجال النجاشي: ص 249، لسان الميزان: 5/300-301، فرق الشيعة للنوبختي: ص 78، سفينة البحار: 1/333، مقالات الإسلاميين: 1/111، الملل والنحل: 1/186، الانتصار لابن الخياط: ص14-48)
(3) مقالات الإسلاميين: 1/119-120
(4) مقالات الإسلاميين: 1/119-120(1/207)
مذهبها (1) .
كما يشير البغدادي (المتوفى سنة 429هـ) إلى أن من الرافضة من زعم أن الصحابة غيروا بعض القرآن، وحرفوا بعضه، واعتبر ذلك من موجبات الحكم بكفرها وخروجهم عن الإسلام (2) .
ويبدو أن هذا المنكر زاد انتشاره بين هؤلاء القوم حتى إننا نجد ابن حزم (المتوفى 456هـ) ينسب هذه المقالة إلى طائفة الإمام كلها، ولم يستثن من أعلام الإمامية إلا ثلاثة نجوا من الوقوع في هذه الهاوية (3) .
وكذلك القاضي أبو يعلى (المتوفى سنة 458هـ) ينسب هذه المقالة إلى طائفة الرافضة (4) . والتي هي من ألقاب الاثني عشرية - كما سبق -، بينما نجد شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة 728هـ) يعزو هذه المقالة - فيما يظهر - للباطنية حيث قال: "وكذلك - أي يحكم بكفره - من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء
__________
(1) كما يبدو من خلال النسخة المطبوعة من مقالات الإسلاميين تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (جص120) وفي المطبوعة الأخرى للمقالات تحقيق هلموت ريتر ذكر في تحقيقه للكتاب بأنه قد وجد في بعض النسخ الخطية تعليقة في الهامش تقول: "سقط فرقة من الترتيب والعدد وهم الذين يجوزون الزيادة ولا يجوزون النقص منه (انظر: هامش مقالات الإسلاميين: ص 47 تحقيق هلموت ريتر) وقد يكون هذا استنتاج من الناسخ؛ حيث لا يوجد من الشيعة قائل بذلك، فقد ذكر الطوسي في التبيان (1/15) ، والطبرسي في مجمع البيان (1/30) أن الزيادة مجمع على بطلانها عندهم"
(2) انظر: الفرق بين الفرق: ص327
(3) انظر: الفصل: 5/40
(4) المعتمد في أصول الدين: ص 258، ويشير القاضي أبو يعلى إلى جهل هؤلاء الروافض وإنكارهم للقضايا الضرورية ومكابرتهم في ذلك للحقاق المتواترة؛ حيث إن القرآن قد جمع بمحضر من الصحابة - بما فيهم علي رضي الله عنه - وأجمعوا عليه، ولم ينكره منكر، وإن مثل هذا لو كان لاستحال كتمانه في مستقر العادة، ولوجب على عليّ وغيره إنكاره، وقد كان علي - رضي الله عنه - يقرأه ويستعمله.. (المعتمد: ص258)(1/208)
يسمون القرامطة والباطنية" (1) .
فهل شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر الاثني عشرية في عداد الباطنية، أو غاب عنه أنهم يذهبون هذا المذهب فلم يذكرهم، أو أن الشيخ في هذه النسبة ركز على المعنى الأخير وهو التأويل الباطني الذي تعتمده القرامطة الباطنية؟
علي أي الأحوال فإني لم أجد - فيما قرأت - لشيخ الإسلام أنه ينسب هذه الفرية لطائفة الاثني عشرية، لا في منهاج السنة الذي رد فيه على شيخهم ابن المطهر الحلي ولا في غيره من كتبه المنشورة التي اطلعت عليها.
ويكشف - ميرزا مخدوم الشيرازي (من القرن العاشر) وقد عاش بين الشيعة وقرأ الكثير من كتبهم - كما يقول (2) .- "أنهم ذكروا في كتب حديثهم وكلامهم أن عثمان - رضي الله عنه - نقص من آيات القرآن - بزعمهم - ويشير إلى أمثلة مما قالوه في القرآن كقولهم: إنه كان في سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} بعد قوله سبحانه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} كان بعدها - كما يفترون - "وعلياً صهرك" (3) .
ويذكر مطهر بن عبد الرحمن بن علي بن إسماعيل في كتابه: "تكفير الشيعة" والذي ألفه سنة (990هـ) يذكر ما صنعه شيعة زمانه من إحراق المصاحف
__________
(1) الصارم المسلول: ص 586
(2) حيث يذكر أنه اضطر للبقاء بين ظهرانيهم، ولزمته مخالطتهم ومطالعة كتبهم.. وقد اطلع بسبب ذلك على الكثير من ضلالاتهم وأباطيلهم.
(انظر: النواقض: الورقة 110، 115، 165) (مخطوط) حتى قال: «لم يطلع أحد على تفصيل كتبهم وأقوالهم وشروح عاداتهم وأعمالهم كما اطلعت عليه، فلا يقدرون على أن يقولوا قد افترى علينا مثل ما يقولون في مقابلة ما نسبه سلفنا في كتبهم الكلامية إلى الرافضة (المصدر السابق الورقة: 87-أ)
(3) النواقض/ الورقة 103 (مخطوط) قال الشيخ محب الدين الخطيب: «وهم لا يخجلون من هذا الزعم مع عملمهم بأن سورة (أَلَمْ نَشْرَحْ (مكية وإنما كان صهره الوحيد العاص بن الربيع الأموي» (الخطوط العريضة: ص 15)(1/209)
وإهانتها واختراعهم - كما يقول - مصحفاً محدثاً (1) .
ويشير الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ) إلى ما ذكرته كتب الشيعة من القول بنقص القرآن، ويذكر بأن شيعة زمنه - على ما قيل - أظهروا سورتين يزعمون أنهما من القرآن الذي أخفاه عثمان، كل سورة مقدار جزء وألحقوهما بآخر المصحف إحداهما سورة النورين والأخرى سورة الولاء (2) .
كما أن الصورة تتضح أكثر عند صاحب التحفة الاثني عشرية شاه عبد العزيز الدهلوي المتوفى سنة (1239هـ) الذي يذكر بأن الاثني عشرية تقول بأن الصحابة قد غيروا ونقصوا في كتاب الله ما يتصل بفضل علي وأئمتهم الاثني عشر وذلك أعدائهم، وينقل بعض الشواهد على ذلك من كتبهم، ويبين أنهم خالفوا بذلك المنقول والمعقول، وما علم من الدين بالضرورة، وما تواترت به التواريخ والوقائع، كما يبين براءة أهل البيت من هذه العقيدة، وأن من شيوخ الشيعة أنفسهم من بدأ يتبرأ من هذه العقيدة كابن بابويه (3) .
كما يتعرض أبو الثناء الألوسي (المتوفى سنة 1270هـ) لهذه الفرية في تفسيره، ويذكر بعض شواهدها من كتبهم، ويبين فسادها؛ لما توافر لهذا الكتاب العظيم من أسباب الحفظ بما لا يبقى في ذهن مؤمن احتمال سقوط شيء بعد من القرآن، وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين.
ثم يقول: بأنه لما تفطن بعض علمائهم لما في قولهم هذا من الفساد جعله قولاً لبعض أصحابه، واستشهد على ذلك بما قاله شيخ الشيعة الطبرسي في مجمع البيان من أن الشيعة تنكر هذه المقالة، وأنها قول لقوم من أصحابها،
__________
(1) تكفير الشيعة: الورقة 58 (مخطوط) ذكر ذلك في الفصل الذي عقده بعنوان: "فصل في أحوال طهماسب الزنيم وزندقته وبيان كفره وإلحاده" وطهماسب هذا هو: طهماسب بن الشاه إسماعيل بن حيدر الصفوي المولود سنة (919هـ) وهو أحد سلاطين الدولة الصفوية، وتولى الحكم بعد وفاة أبيه سنة (930هـ) وهو من الشيعة الاثني عشرية (انظر: دائرة المعارف (الشيعية) جص321)
(2) انظر: رسالة في الرد على الرافضة: ص14
(3) انظر: مختصر التحفة الأثني عشرية: ص 82، وانظر أيضاً: ص 30، 50، 52(1/210)
والصحيح خلافه، ثم قال الألوسي: وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال (1) .
ولعل الألوسي (أبا الثناء) أول من كتب بالعربية عن هذه القضية بذلك الاستيعاب (النسبي) ؛ حيث عرض لهذه الفرية مقرونة بالاستشهاد المباشر من كتبهم، وعرض أحاديثهم كما جاءت في أصول الكافي وغيره، وذكر الجناح الآخر من الشيعة الذي أنكر هذه الفرية واستشهد بكلامه، وناقشه.
وكذلك قام حفيده علامة العراق أبو المعالي الألوسي (ت1342هـ) ببيان وقوع الشيعة في هذا الكفر عبر رسائله التي ألفها أو لخصها حول الشيعة.
هذا ويتولى الشيخ محمد رشيد رضا (المتوفى سنة 1354هـ) بعد ذلك إثارة هذه المسألة، وفضح الشيعة في هذا عبر مجلة المنار (2) ، ثم في رسالته "السنة والشيعة" وذلك حينما ألجأه إلى ذلك تعصب بعض شيوخ الشيعة وعدوانهم - كم يقول - فيذكر أن رافضة الشيعة تزعم أن ما بين الدفتين ليس كلام الله بل حذف منه الصحابة - بزعمهم - بعض الآيات وسورة الولاية (3) .
ومن بعد هؤلاء يأتي الشيخ موسى جار الله (ت1369هـ) والذي عاش بين الشيعة فترة، وتجول في مدنها، وحضر حلقات دروسها في البيوت والمساجد والمدارس، وقرأ في العديد من أمهات كتبها (4) . ورأى أن "القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات قد نزلت، وبتغيير ترتيب الكلمات والآيات، أجمعت عليه كتب الشيعة" (5) . وأن هذه الكلمات والآيات كانت كما يزعمون في علي وأولاده،
__________
(1) روح المعاني: 1/23 وما بعدها
(2) انظر: المجلد 29 ص 436
(3) السنة والشيعة: ص 43
(4) الوشيعة: ص 25-26
(5) المصدر السابق: ص 104(1/211)
وأن الذي حذف ذلك هم صحابة رسول الله، وينقل عن بعض شيوخ الشيعة أنهم قالوا بأن أخبار هذه الفرية متواترة عندهم ويلزم من ردها رد سائر أخبارهم في الإمامة والرجعة وغيرها، والحكم ببطلانها" (1) .
وقد لاحظ من خلال حياته مع الشيعة في تلك الفترة تأثر المجتمع الشيعي بهذه العقيدة؛ حيث إنه لم يجد من التلاميذ ولا من العلماء من يحفظ القرآن، ولا من يعرف وجوه القرآن الأدائية، بل ولا من يقيم القرآن بعض الإقامة بلسانه وأنهم اتخذوا القرآن مهجوراً (2) ، ويقول: هل هذا بسبب أنهم ينتظرون ما وعدَتْهم به أساطيرهم من ظهور القرآن الكامل مع منتظرهم الموعود؟ (3) .
ثم يقوم الأستاذ محب الدين الخطيب (ت1389هـ) بمناسبة إنشاء دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أنشأها الشيعة في أرض الكنانة لبث عقيدة "الرفض" بين أهلها يقوم بالكتابة عن الشيعة في مجلة الفتح، وفي رسالته "الخطوط العريضة" ويتحدث عن هذه الفرية، ويستشهد بما جاء في كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" الذي ألفه ميرزا حسين ابن محمد تقي النوري الطبرسي أحد كبار علماء النجف، والذي بلغ من إجلال الشيعة له عند وفاته سنة (1320هـ) أنهم دفنوه في أشرف بقعة عندهم، ويقول بأن هذا الكتاب ينطوي على مئات النصوص عن علمائهم في كتبهم المعتبرة يثبت بها أنهم جازمون
__________
(1) انظر: المصدر السابق: ص 138
(2) وقد استفهم عن هذه الظاهرة الخطيرة بعض شيوخ الشيعة في ورقة صغيرة كتب فيها هذه المسألة مع مسائل أخر فلم يجد إجابة (انظر: الوشيعة ص: 27-28) ، ثم كتب بعد ذلك رسالة ضمنها مجموعة من عقائد الشيعة الباطلة وقدمها لشيخ مجتهدي الكاظمية ببغداد، ثم نسخت في كراريس، ووزعتها الرابطة العلمية لأساتذة النجف، ثم يذكر بأنه بعدما راجع بهذه المسائل مجتهدي الشيعة انتظر سنة وزيادة ولم يسمع جواباً من أحد إلا من كبير مجتهدي الشيعة بالبصرة، فقد أجابه بكتاب من تسعين صفحة بكلمات في الطعن على العصر الأول أشد وأجرح من كلمات كتب الشيعة. (الوشيعة: ص 98، 117-118)
(3) انظر: ص 30-31، 112(1/212)
بالتحريف ومؤمنون به، ويستشهد بما جاء في كتاب الكافي للكليني والذي يقول بأنه كصحيح البخاري عند أهل السنة.
كما ينشر صورة لما يسمى: "سورة الولاية" ويقول بأنها منقولة فوتوغرافياً عن أحد مصاحف إيران، ثم قال: ويبقى أن هناك قرآنين أحدهما عام ومعلوم، والآخر خاص مكتوم ومنه سورة الولاية، ثم يستشهد بما جاء في بعض نصوصهم من الفتوى بقراءة المصحف العثماني، ولكن يقول: إن خاصة الشيعة يعلم بعضهم بعضاً ما يخالف ذلك مما يزعمون وجوده عند أئمتهم من أهل البيت" (1) .
كما أن الشيخ محمود الملاح (ت1389هـ) في العراق فضح الشيعة في هذه المسألة لمواجهة محاولة شيخ الشيعة الخالصي في نشر الرفض باسم الوحدة الإسلامية (2) .
ومن بعد هؤلاء نرى الشيخ إحسان إلهي ظهير يكتب عن هذه القضية في كتابه: "الشيعة والسنة" ويذهب إلى القول بأن الشيعة كلها على هذا الكفر، وينقل الشواهد الكثيرة من كتبهم التي تتضمن أخبار هذه الأسطورة، ويعد إنكار المنكرين لهذه المسألة تقية لا حقيقة، ويرى أنه قام بدراسة هذه المسألة ببيان واضح، مستند، مفصل لم يسبق إليه (3) .
ثم يحاول أن يتوسع أكثر في هذه المسألة فيخصص لها كتاباً مفرداً بعنوان "الشيعة والقرآن" ينتهي فيه إلى نفس الحكم الذي انتهى إليه في كتابه السابق، ومعظم هذا الكتاب هو عبارة عن نقل حرفي بدون أدنى تعليق لكتاب لا يوجد من كتب الشيعة أجمع لنصوص الفرية منه وهو كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب"، والغريب أن إحسان ينتهي إلى نفس النهاية التي انتهى إليها
__________
(1) الخطوط العريضة: ص 10-19
(2) انظر كتابه: "الوحدة الإسلامية بين الأخذ والرد"
(3) السنة والشيعة: ص14(1/213)
صاحب فصل الخطاب، مع أن صاحب فصل الخطاب ألف كتابه - كما سيأتي - لإقناع طائفة من قومه أنكرت هذا الكفر وأبت أن تهضمه، واحتجت بما قاله بعض شيوخها السابقين من إنكار هذه الفرية، فرد عليها صاحب فصل الخطاب بكتابه هذا، وعزا الإنكار من شيوخه السابقين إلى التقية أو إلى عدم توفير المصادر عندهم - كما سيأتي - فذهب إحسان إلى مذهب صاحب فصل الخطاب نفسه (1) ، ونعمة الله الجزائري من أن إنكار المنكرين على سبيل التقية كما سيأتي بحثه ودراسته.
كما أن للأستاذ محمد مال الله كتاباً بعنوان: «الشيعة وتحريف القرآن» انتهى فيه إلى أن شيوخ الشيعة اتفقوا على القول بهذه الفرية، واستشهد على ذلك بكلام اثني عشر شيخاً من شيوخهم يقولون بهذا الافتراء، ولم يشر إلى وجود خلاف بينهم في هذا مع أن طائفة من شيوخهم أنكروه، كما قام بالاستشهاد بأكثر من مائتي رواية لهم قال بأنها نماذج من تحريفات الشيعة للقرآن، كما قام بإعداد جدول لهذا في تعليقه على كتاب الخطوط العريضة ووضعه في نهاية الكتاب، واستخرج ذلك من طائفة من كتب الشيعة في التفسير والحديث، إلا أن فيها ما ليس بصريح في هذا الأمر بل هو يندرج بشكل واضح في باب التأويل.
كما أنه وقع - كما وقع إحسان من قبله - بذكر بعض الروايات للشيعة والتي فيها ذكر قراءة للآية مروية عن السلف واعتبرها - بجهل - من قبيل التحريف. والسبب في ذلك هو اعتمادهم بدون تدبر على كتاب فصل الخطاب، وهناك كتابات أخرى تشابه
__________
(1) في فصل الخطاب يتبين أن هناك جناحين من الشيعة، جناح يقول بالتحريف، ويعتبر إنكار من أنكر تقية ويدعي إجماع الشيعة على ذلك الكفر، ويشايع هذا الجناح صاحب فصل الخطاب والذي ألف هذا الكتاب كما قلنا من أجل الرد على من أنكر ذلك.
والجناح الآخر المنكر لرأي أولئك ويدعي الإجماع على خلافه ويسرد الأدلة القوية التي تؤيد مذهبه، إلا أن صاحب الشيعة والقرآن أغفل ذكر أدلة هذه الطائفة واكتفى بسرد ما عند الطائفة الأخرى بدون أي تعليق، وكأنه اعتبر هذا الإنكار تقية فلا لزوم لذكره، ولا شك أن الأمانة تقتضي ذكر المذهبين، كما أن بذكرهما يتبين أمور كثيرة تتصل باضطراب المذهب الشيعي وفساده(1/214)
ما ذكرناه (1) ، لكن الدكتور علي أحمد السالوس وهو أحد المهتمين بقضية الشيعة، لا يتفق مع الأستاذ محب الدين الخطيب وغيره في نسبة هذا الجرم الشنيع إلى الإمامية عامة ويرى أن ذلك خاص بالإخباريين فقط، أما الأصوليين منهم فهم يتبرؤون من هذه المقالة، لكن هذا التقسيم لم يكد يسلم له بطريقة جازمة، حيث قام بمقابلة أحد مراجع الشيعة الأخبارية وسأله عن رأيه في ذلك فقال: إن التحريف وقع في القرآن الكريم من جهة المعنى فقط.
يقول الدكتور السالوس: وأعطاني كتيباً كتبه تعليقاً على مقال يهاجم الشيعة، ومما جاء في هذا الكتيب: "مذهبنا - ومذهب كل مسلم - بأن القرآن الكريم المتداول بين أيدينا ليس فيه أي تحريف بزيادة أو نقصان، وما ذكر في بعض الأحاديث بأن فيه تحريفاً ونقصاناً فهو مخالف لعقيدتنا في القرآن الكريم الذي هو الذكر الحكيم، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
وقال الدكتور: لعل القائلين بهذه الفرية هم فريق من الأخباريين لا كلهم، أو يكون الكلام في ذلك الكتيب مبعثه التقية، ويستدل على ذلك بأنه قال في نفس ذلك الكتيب: "لم يقل الشيعة وأئمتهم بما يحط من كرامة الخلفاء المرضيين.. وقد أجري الفتح والخير للمسلمين على يد أولئك الصالحين - عليهم سلام الله ورحمته ورضوانه أجمعين - ويقول بأنه من الواضح البين أن هذا ليس رأي الشيعة" (2) .
هذا ولعلماء الهند وباكستان جهود في كشف هذه الفرية في كتب الشيعة وإعلانها للمسلمين بغير اللغة العربية (3) .
__________
(1) مثل كتاب: وجاء دور المجوس (ص114) الذي يرى أنه إنكارهم للتحريف تقية، لأنهم يعتقدون خيانة الخلفاء الثلاثة ونفاقهم، وغيرهم من جلة الصحابة، والقرآن وصلنا عن طريقهم، كما أنهم يترحمون على شيوخهم المجاهرين بهذه الفرية ويجلونهم. (ص117)
(2) انظر: فقه الشيعة: ص148
(3) انظر- مثلاً - ما كتبه الشيخ عبد الشكور فاروقي الكهنوي بعنوان: «إفسانة تحريف قرآن. ومعنى إفسانة: حكاية أو رواية(1/215)
هذا ونكتفي بهذه الإشارة للدراسات التي قامت حول هذه "الفرية" وندع الجانب التفصيلي من التقييم، والملاحظات على بعض هذه الدراسات حتى لا نخرج من موضوعنا الأساسي؛ لأنني سأحاول أن أكتب عن هذه القضية وفق منهج آخر، وذلك بدارسة أصولها وجذورها الأساسية، وتتبع مسارها التاريخي، وإفساح المجال للصوت المنكر لهذه الأسطورة، لسماعه وتحليله، فلم أر من اعتنى بمثل ذلك. بالإضافة لمسائل أخرى قد تكون جديدة تتعلق بهذه القضية.
وقبل أن أرفع القلم أشير إلى أن تلك الدراسات والأقوال قوبلت من طائفة من شيوخ الشيعة بالإنكار، وأخذوا ينادون ويصرخون بأنهم قد ظلموا في هذه القضية وأنهم أبرياء من هذه التهمة، فما حقيقة الأمر؟ لقد رأينا من المنتمين لأهل السنة (1) . من بلغ به الحماس إلى أن يجمع ما جاء في كتاب إحسان إلهي ظهير ومحب الدين الخطيب من نصوص حول هذه الفرية، مقروناً بمصادره التي نقلت عنها ويعرضه على أحد شيوخ الشيعة (2) . ويطلب منه الإجابة على ذلك.. فكان من جواب هذا الشيعي أن: سلامة القرآن الكريم من التحريف موضع اتفاق وإجماع علماء الشيعة الإمامية، ومن شذ منهم في هذه المسألة فلا يعبأ برأيه كما من شذ عن هذا الإجماع من علماء السنة" (3) .
ثم استدل ببعض أقوال شيوخهم في إنكار هذه الفرية، كما ذكر أن في كتب الحديث عندهم الصحيح وغيره، وأن الروايات التي ذكرها في رسالته غير معتبرة إجمالاً وقال: "وقد عرفنا إجماع الطائفة واتفاقها قائم على رفض التحريف في كتاب الله، فهذه الروايات إذن مهما كثرت فهي مردودة عندنا، ولا تسل لماذا تثبت هذه الروايات في المجاميع عندنا،
__________
(1) سالم البهنساوي في كتابه: "السنة المفترى عليها"
(2) وهو كما قال "محمد مهدي الآصفي" ووصفه بأنه: "الأخ الصديق الإمام" وهو يقيم في الكويت
(3) لاحظ الكذب على علماء السنة، فلا يوجد من علمائهم من قال بهذا الافتراء.
ولكن هذه إشارة لها مغزى سيأتي الوقوف عندها وعند سائر أخطائه وتناقضاته في مبحث «الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم» إن شاء الله(1/216)
فهي مجاميع خاضعة للنقد والاجتهاد، وليست صحاحاً للأخذ والعمل" (1) .
ولكثرة إنكار الشيعة وشيوخها لهذا الفرية - إن حقيقة أو تقية - قال الدكتور رشدي عليان: "وأرى مادام المعتمدون من علماء الطائفة يذهبون إلى أنه لا تبديل ولا تحريف ولا نقص ولا زيادة في كتاب الله أن نكتفي بذلك ولا داعي لترديد بعض الآراء الشاذة وذكر الروايات الواهية الموضوعة في ذلك" (2) .
وقال الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق بعد نقله لكلام طائفة من شيوخهم في إنكار هذه الفرية: "فظهر أن المذهب المحقق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشرية أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه هو ما بين الدفتين وهو مما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.." (3) .
وبعدما عرفنا ما جاء في كتب المنتمين لأهل السنة، ولاحظنا أن المتقدمين من أهل السنة كالأشعري يرى أن الشيعة فريقان: فريق يقول بهذا الكفر وفريق ينكره، ثم نرى هذه الفرية عند البغدادي وأبي يعلي تنسب إلى الرافضة عموماً، ولكن نلاحظ في بعض كتابات المتأخرين كأبي الثناء الألوسي، والدكتور السالوس وغيرهما أن الشيعة في هذا طائفتان، ويميز بينهما الدكتور السالسوس بالاسم فيرى بأن الأصوليين قد ردوا أخبار هذه الأسطورة بحكم منهجهم في نقد النصوص، بينما قبلها الأخباريون لأنهم يقبلون كل ما نسب لأئمتهم من روايات، كما ترى إشارة إلى شيء من الخلاف فيما جاء على لسان الشيخ رحمه الله الهندي، بينما يرى د. رشدي عليان ألا يذكر سوى هذا القول عن الشيعة؛ لأن ما سواه عندهم رأي شاذ موضوع. بينما نرى صنفاً آخر من المعاصرين كالشيخ محب الدين
__________
(1) الآصفى/ البيان التوضيحي حول دعوى تحريف القرآن، ضمن كتاب: "السنة المفترى عليها": ص 68-75
(2) العقل عند الشيعة الإمامية: ص 49
(3) إظهار الحق: ص 77(1/217)
الخطيب وإحسان إلهي ظهير وغيرهما يرى أن الاثني عشرية كلها على هذا، ومن أنكر منهم ذلك فإنكاره من قبيل التقية وليس بحقيقة.
وبعد هذا نرجع إلى مصادر الشيعة المعتمدة عندها نستنطقها علّنا نعرف جلية الخبر عندها، هل ما يقال عنهم ليس بثابت عندهم؟ فلقد وجد من الطوائف ومن العلماء من افترى عليه وظلم وقيل عنه ما ليس فيه، وما ورد في كتب الفرق والمقالات نقول عن المخالف، وقد تكون تخريجات وإلزامات بعيدة عما يقتضيه المذهب، أو تكون ليست بثابتة، أو لها تأويل آخر عندهم، ولذا قبل: "إن نقل المخالف لا يعتد به" (1) .
والعدل والإنصاف واجب ولازم {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (2) ، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (3) .
ما تقوله مصادر الشيعة في هذه الفرية:
وقبل أن نأخذ بيد القارئ في رحلة تبدأ من نقطة الصفر من أول كتاب وضعه الشيعة وألفوه، نعرض لصوتين مختلفتين ومتعارضين، هذان الصوتان المتعارضان كان لهما - في الغالب - وجود وصدى في كل الكتب الشيعية التي تعرضت لهذه القضية، فلنستمع إليهما ليتسنى إدراك وتصور هذه المسألة عند هؤلاء حتى لا يحصل غبش في تصورها في رحلة قد تطول مراحلها بين محطات الكتب الشيعية المختلفة.
يقول شيخ الشيعة في زمنه ابن بابويه القمي (ت381هـ) صاحب من لا يحضره الفقيه.. وهو واحد من أهم كتبهم الأربعة المعتمدة في الحديث، يقول: "اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد وهو ما بين الدفتين
__________
(1) القاسمي/ تاريخ الجهمية والمعتزلة: ص 22
(2) النساء، آية: 58
(3) المائدة، آية: 8(1/218)
وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك.. ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب" (1) .
هذا قول شيخهم الملقب عندهم بالصدوق، ويشايعه في قوله هذا آخرون من شيعته. ويقول المفيد (ت413هـ) : "إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الطاعنين فيه من الحذف والنقصان" (2) . ويقول: "واتفقوا - أي الإمامية - على أن أئمة الضلال (3) . خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم" (4) . ويقول بما قاله مفيدهم - الذي يلقبونه بركن الإسلام وآية الله الملك العلام - طائفة من شيوخهم.
هذان قولان مختلفان ومتعارضان صدرا من شيخين من شيوخهم يجمعهما وحدة الزمان والمكان، ويتفقان في الهوية المذهبية، بل إن هذا المفيد هو تلميذ لابن بابويه القمي. فمن نصدق منهما؟ وأي القولين يعبر عن مذهب الشيعة؟ ونجد أن تلميذين من تلامذة المفيد ومن أكبر شيوخ الشيعة - وهما الطوسي، وابن المرتضى - يقولان بما قاله ابن بابويه وأن مذهب أهل التحقيق من الشيعة إنكار هذه الفرية - كما سيأتي -، وكل قول من هذين القولين يؤيده جناح من الشيعة، بل يدعي حيناً أن لا قول للشيعة سواه وغيره افتراء على الشيعة وكذب.. والتعرف على الحقيقة وسط هذا الركام من الأقوال المتعارضة والمتناقضة ليس بسهل المنال..
وإذا لاحظنا أن من أركان الدين عند هؤلاء «التقية» ولادين لمن لا تقية له؛ أدركنا أن الحقيقة محجوبة بغيوم من الكذب والتزوير، وركام من التناقضات والتعارضات،
__________
(1) الاعتقادات: ص 101-102
(2) أوائل المقالات: ص 54
(3) يعني بهم كبار صحابة رسول صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنه ورضوا عنه، وعلى رأسهم الخلفاء الثلاثة قبل علي رضي الله عنهم
(4) أوائل المقالات: ص 13(1/219)
وعقبات من التقية والكتمان.. ولهذا سنرى في مبحث التقية أن الحقيقة التي تعبر عن مذهب الأئمة قد تخفى على شيوخ الشيعة أنفسهم فلا يعلمون أي القولين تقية، فكان هذا من أسباب ضياع مذهب الأئمة واستمرار الغلو.
ولهذا سنبدأ بدراسة هذه القضية من بدايتها، والتحري في صدق الأقوال من تقيتها، بتحليل الأقوال ومقارنتها مما صدر عن صاحبها في كتبه الأخرى، وأسأل الله سبحانه أن يعصمنا من اتهام الآخرين بما ليس فيهم، وأن يجنبنا مواضع الزلل في أقوالنا وأحكامنا.
وسنتناول هذه القضية الخطيرة التي يترتب على رمي الشيعة بها انفصالها عن المسلمين لمفارقتها للأصل الذي يتفقون عليه - سنتناولها فيما يلي وفق التصوير التالي:
أقوم أولاً بتتبع الكتب التي شاركت في وضع هذا الكفر بين الشيعة، وأعرض لها، وأتوقف في أول الأمر لدراسة أول كتاب تسجل فيه هذه الفرية، ومن الذي وضعه، ورأى شيوخ الشيعة فيه؛ لما في ذلك من أهمية في بيان جذور هذا البلاء، واكتشاف الأيدي السبئية التي شاركت في هذه الجريمة، ثم نتحدث كيف امتدت منه إلى سائر كتب الشيعة.
وبعد ذلك نعرض لمضامين هذه الكتب ونصوصها المتصلة بقضية التحريف، وحجمها ووزنها عندهم، وما يقولونه في مصحف علي، وما يقال بأن عندهم مصحفاً سرياً يتداولونه فيما بينهم، وإنكار جملة من شيوخ الشيعة لهذا الكفر، وهل هذا الإنكار تقية أو حقيقة. كل ذلك نعرض له من كتب الشيعة نفسها، إلا ما جاء عرضاً في مناقشة بعض المسائل، وإن رأيت شيئاً من الإطالة في هذا المبحث فللخطورة الكبرى له، واختلاف الناس حول رمي الشيعة به - كما سلف الإشارة إلى ذلك -.(1/220)
بداية الافتراء كما يؤخذ من كتب الشيعة:
أول كتاب تسجل فيه هذه الفرية هو: "كتاب سليم بن قيس (1) . الذي رواه عنه أبان بن أبي عياش (2) ، لم يروه عنه غيره (3) ، وهو: "أول كتاب ظهر للشيعة" كما يقول ابن النديم (4) . وغيره.
وقد أكثر الشيعة من مدحه وتوثيقه والثناء على كتابه (5) . رغم أنني لم أجد
__________
(1) تقول كتب الشيعة: "سليم بن قيس الهلالي يكنى أبا صادق، كان من أصحاب أمير المؤمنين وكان هارباً من الحجاج لأنه طلبه ليقتله ولجأ إلى أبان بن أبي عياش فأواه، فلما حضرته الوفاة أعطاه (سليم) كتاباً وهو كتاب سليم بن قيس. توفي سنة (90هـ) ". (البرقي/ الرجال: ص 3-4، الطوسي/ الفهرست: ص 111، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/374، رجال الكشي: ص 167، رجال الحلي: ص 82، 83)
(2) أبان بن أبي عياش فيروز أبو إسماعيل، قال الإمام أحمد: متروك الحديث ترك الناس حديثه منذ دهر، وقال: لا يكتب حديثه كان منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال ابن المديني: كان ضعيفاً، وقال شعبة: ابن أبي عياش كان يكذب في الحديث. توفي سنة (138هـ) .
(انظر: تهذيب التهذيب: 1/97-101، العقيلي/ الضعفاء: 1/38-41، ابن أبي حاتم/ الجرح والتعديل: 2/295-296) هذا بعض ما قاله أئمة أهل السنة، وفي كتب الشيعة. يقول ابن المطهر الحلي: أبان بن أبي عياش ضعيف جداً، وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه، ومثل ذلك قال الأردبيلي (انظر: رجال الحلي: ص 206، جامع الرواة: 1/9)
(3) انظر: الفهرست: ص 219، الخوانساري/ روضات الجنات: 4/67، رجال الحلي: ص83، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/374، البروجردي/ البرهان: ص104
(4) الفهرست: ص 219، وانظر: الذريعة: 2/152
(5) يروون عن أبي عبد الله أنه قال فيه: "من لم يكن عنده من شيعتنا ومحبينا كتاب سليم ابن قيس الهلالي فليس عنده من أمرنا شيء ولا يعلم من أسبابنا شيئاً، وهو أبجد الشيعة وهو سر من أسرار آل محمد صلى الله عليه وآله" مقدمة كتاب سليم بن قيس ص: 4، أغا بزرك الطهراني/ الذريعة: 2/152، وانظر: هامش وسائل الشيعة: 2/42 رقم (4) .
وقال النعماني: "وليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم ورواه عن الأئمة - عليهم السلام - خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأصول التي رواه أهل العلم وحملة حديث أهل البيت - عليهم السلام وأقدمها، لأن جميع ما اشتمل عليه الأصل إنما هو عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمير المؤمنين، والمقداد، وسلمان الفارسي، =(1/221)
لمؤلفه ذكراً فيما رجعت إليه من مصادر (1) ، ولو صدق بعض ما تذكره الشيعة فيه لكان شيئاً مذكوراً، ولكنه لم يذكر إلا في كتب الشيعة وحدها، بل إن من متقدمي الشيعة من قال: "إن سليماً لا يعرف ولا ذكر في خبر" (2) . وإن كان هذا ليس بمرضي عند متأخري الشيعة. ورغم أن الكتاب يحمل أخطر آراء السبئية وهو تأليه علي ووصفه بأوصاف لا يوصف بها إلا رب العالمين (3) . فإن كل ذلك لم يحد من مبالغات الشيعة في مدحه وتوثيقه في روايات ينسبونها لآل البيت،
__________
= وأبي ذر ومن جرى مجراهم ممن شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام وسمع منهما، وهو من الأصول التي ترجع الشيعة إليها وتعول عليها". (انظر: النعماني/ الغيبية ص 61ط. الأعلمي بيروت، وص47 ط. إيران، وانظر: وسائل الشيعة: 20-210) .
وقال المجلسي: "وهو أصل من أصول الشيعة وأقدم كتاب صنف في الإسلام"، ثم أورد المجلسي أربع روايات لهم تفيد أن علياً ابن الحسين - برأه الله مما يفترون - قرئ عليه الكتاب وقال: "صدق سليم" (بحار الأنوار: 1/156-158، وانظر في بعض الروايات التي أشرنا إليها: رجال الكشي: ص 104-105)
(1) رجعت في البحث عنه إلى مصادر كثيرة من كتب أهل السنة فلم أجد له ذكراً، فلم أجده مثلاً في تاريخ الطبري كما يظهر ذلك من خلال فهرس الأعلام الذي وضعه أبو الفضل إبراهيم، وكذلك تاريخ ابن الأثير كما يبدو من فهارسه التي وضعها إحسان عباس (أو سيف الدين الكاتب) وليس له ذكر في شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي، والبداية والنهاية لابن كثير، وطبقات ابن سعد، ولا في مجموعة من كتب الرجال مثل: لسان الميزان، أو التاريخ الكبير والصغير للبخاري، أو تهذيب الكمال للمزي.. إلخ مع أنه مؤلف أول كتاب في الإسلام، ولاحقه الحجاج لقتله.. إلخ فمن برز في هذين الاتجاهين الفكري، والسياسي يستبعد أن ينسى، ونسيانه دليل على أن ما تقوله الشيعة عنه مجرد دعوى، فقد يكون شخصية خيالية، أو نكرة من النكرات
(2) رجال الحلي: ص83
(3) جاء في بعض روايات الكتاب مخاطبة علي هذه الألقاب: "يا أول، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن، يا من هو بكل شيء عليم"، ويقول: "إن هذا الوصف صدر من الشمس لعلي وأنه سمعه أبو بكر وعمر والمهاجرون والأنصار فصعقوا ثم أفاقوا بعد ساعات" (كتاب سليم بن قيس ص 38 ط: الأعلمي، وص 31-32 ط: النجف) ، وهذه الأوصاف هي آثار السبئية التي تؤله =(1/222)
وأقوال صدرت من كبار شيوخهم (1) . حتى اعتبروه أصلاً من أصول آل محمد وسراً من أسرارهم، رغم أنه يحمل برهان وضعه سنداً ومتناً فهو من روايات أبان وهو متروك أو ضعيف عند أهل السنة، وضعيف في كتب الرجال عند الشيعة (2) . أيضاً، وسليم الذي يزعمون أنه مؤلف الكتاب مجهول، وقد لا يكون له وجود في إلا في خيالات الشيعة (3) ، والكتاب مضطربة طرقه ولكنهم يقولون: "ما يتراءى من الاضطراب في الطريق غير قادح وهو واقع في أكثر طرق كتب أصحابنا" (4) . وجملة من متون الكتاب تجعله في عداد الكتب الباطنية الإلحادية، ومع ذلك فقد اعتمد النقل عنه أصحاب الكتب الأربعة المعتمدة عندهم وآخرون من شيوخهم (5) . وسجل في هذا الكتاب جملة من عقائد غلاة الشيعة.
والمفاجأة في هذا الموضوع أن بعض شيوخ الشيعة أماط اللثام عن حقيقة هذا الكتاب، وكشف النقاب عن هويته؛ إذ قد رابهم شيء في هذا الكتاب فرأوا من الواجب كشفه قبل أن يقوض أساس التشيع الاثني عشري نفسه، ولا يظن القارئ أن هذا الذي رابهم وأشكل عليهم هو تأليه علي، أو الطعن في القرآن
__________
= علياً، والتي ورثتها الاثنا عشرية، واستبقت أقوالها في مصادرها، ونسبتها لآل البيت، فأزرت على الآل بهذا وأمثاله، وهي تدعي التشيع لهم.. وهذه أوصاف لرب العالمين: قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد، آية: 3.
(1) انظر: ص (270) هامش رقم: (5)
(2) انظر: ص (270) هامش رقم: (2)
(3) انظر: ص (271) هامش رقم: (1)
(4) الخوانساري/ روضات الجنات: 4/68
(5) الكليني يعتمد عليه وأخرج له في عدة أبواب؛ كباب ما جاء في الاثني عشرية (انظر أصول الكافي: 1/252) وباب دعائم الكفر (انظر: المصدر السابق: 2/391) وغيرها. ومثله شيخهم ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق في من لا يحضره الفقيه (انظر: روضات الجنات 4/68، الذريعة: 2/154) ومثله الاحتجاج للطبرسي، والاختصاص للمفيد، وتفسير فرات وغيرها. انظر: مقدمة كتاب سليم ابن قيس ص 6(1/223)
أو غير ذلك من المطاعن في الإسلام نفسه، إنما الخطر الذي اكتشفوه في الكتاب: "هو أنه جعل الأئمة ثلاث عشر" وهذه طامة كبرى تهدد بنيان الاثني عشرية بالسقوط، ولاسيما أن هذا وجد في كتاب يعتبر أبجد الشيعة، وأول كتاب ظهر لهم، ولهذا كفونا مؤنة نقض هذا الكتاب. فقرر فريق منهم أن "الكتاب موضوع لا مرية فيه" (1) .
وبدأوا يبينون عيوب الكتاب وأمارات وضعه فقالوا: إنه خالف التاريخ بقوله: "إن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت لأنه غصب الإمامة من علي" مع أن محمد بن أبي بكر ولد في سنة حجة الوداع فكيف يعظ أباه وعمره ثلاث سنوات (2) ، كما أنه جعل الأئمة ثلاث عشر، وقالوا: بأن سليماً لا يعرف ولا ذكر في خبر، وأن أسانيد الكتاب مختلفة مضطربة (3) ، واتهموا في وضع الكتاب أبان بن أبي عياش (4) .
وحدد بعض المعاصرين تاريخ وضعه فقال: إنه موضوع في آخر الدولة الأموية لغرض صحيح (5) .- ولم يبين دليله فيما ذهب إليه - وفريق منهم عزّ عليهم - فيما يبدو - أنه يفقدوا هذا الكتاب جملة واحدة مع أنه أصل من أصولهم وعمدة لشيوخهم.. فقال هذا الفريق: "والوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه والتوقف في الفاسد من كتابه" (6) . مع أن هذا الفاسد ينقض بنيان الاثني عشرية من الأساس وذلك في جعله الأئمة ثلاثة عشر.
ولهذا لم يرتض هذا القول من الدوائر الشيعية فرأى فريق منهم القيام بعمل جذري ينهي المشكلة التي أقلقتهم من أساسها فقاموا بتعديل الكتاب ليتلاءم والمنطق الشيعي.
وأشار الخوانساري إلى التغير في الكتاب فقال: "إن ما وصل إلينا من
__________
(1) انظر: رجال الحلي: ص 83، ابن داود/ الرجال: ص 413، 414
(2) انظر: الخوانساري/ روضات الجنات: 4/67، رجال الحلي: ص83
(3) انظر: رجال الحلي: ص83، الخوانساري/ روضات الجنات: 4/67، ابن داود/ الرجال: ص 413-414
(4) انظر: رجال الحلي: ص206، ابن داود/ الرجال: ص413-414
(5) هو: أبو الحسن الشعراني/ في تعليقه على الكافي مع شرحه للمازندراني: 2/373-374
(6) رجال الحلي: ص83، وسائل الشيعة: 20/210(1/224)
نسخ الكتاب هو أن عبد الله بن عمر وعظ أباه عند الموت" (1) . وقال الحر العاملي: "والذي وصل إلينا من نسخه ليس فيه شيء فاسد، ولا شيء مما استدل به على الوضع" (2) . وقد بحثت عن عيوب الكتاب في نظر الشيعة والتي أشار إليها الفرق الأول في طبعتين من طبعات الكتاب (3) . فلم أجد لها ذكراً فيه، وهذا يدل على أنهم يغيرون في كتبهم ويزيدون وينقصون. ومع هذا فقد أصبح هذا الكتاب عمدة عند متأخري الشيعة كما قرره المجلسي في البحار (4) ، والحر العاملي في الوسائل (5) . وغيرهما.
هذه الوقفة عند كتاب سليم بن قيس أرى أنها ضرورية لمحاولة اكتشاف الأيدي السبئية التي افترت هذه الفرية، إذ إننا نلاحظ أن الفرية بدأت من كتاب سليم بن قيس الذي اتهموا في وضعه أبان، وحدد بعضهم تاريخ وضعه بأنه في آخر الدولة الأموية. أما من تولى كبر هذا الوضع لهذه الفرية فإن بعض شيوخ الشيعة يتهم فيه أبان، وقد سبق أن ذكرنا أن الملطي يتهم فيه هشان بن الحكم، يعني أن هذه الفرية لم يكن لها وجود قبل القرن الثاني، وقد تتبعت الآراء المنسوبة لابن سبأ وطائفة السبئية فلم أجد أن هذه المقالة قد نقلت عن ابن سبأ لأنها - فيما يبدو - لم تخطر على باله لوضوح بطلانها أمام الجيل الذي عاصر التنزيل، ولأنها وسيلة سريعة لانكشاف كذبه، فلم يتجرأ ابن سبأ على إشاعة هذه الفرية. لم يقل إن الصحابة حرفوا القرآن ولكن عدل عن ذلك إلى القول: "بأن هذا القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي" (6) ، وهي مقالة مجملة لم يفصح فيها عن مراده، وقد يوضحها ما جاء في رسالة الحسن بن محمد بن الحنفية (ت95هـ) وهو قوله: "ومن خصومه هذه السبئية
__________
(1) روضات الجنات: 4/69
(2) وسائل الشيعة: 20/210
(3) ط: النجف بالمطبعة الحيدرية، وطبعة الأعلمي ببيروت
(4) بحار الأنوار: 1/32
(5) وسائل الشيعة: 20/210
(6) الجوزجاني/ أحوال الرجال: ص38(1/225)
التي أدركنا يقولوا (كذا) هدينا لوحي ضل عنه الناس وعلم خفي ويزعمون أن نبي الله كتم تسعة أعشار القرآن، ولو كان نبي الله كاتماً شيئاً مما أنزل الله لكتم شأن امرأة زيد {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (1) .
فإذن لم تكن هذه القضية من مقالات السبئية بل حدثت فيما بعد، أما من هو الذي تولى كبر وضع هذا الكفر بين الشيعة؟ فإن الإجابة الجازمة المحددة قد لا تكون ميسرة، ولا يجدي في هذا تتبع أسانيد روايات التحريف؛ لأن في أخبارها ما هو عار من السند كالروايات التي جاءت في كتاب الاحتجاج للطبرسي، ولأن مسألة الإسناد عندهم قد وجدت بعض القرائن - كما سيأتي - التي تدل على أنها صنعت متأخرة، كما أن من أساليبهم وضع الأسانيد الصحيحة لمتون مكذوبة فلا يعطي سلوك هذا المنهج نتيجة جازمة.
شيوع هذه الفرية في كتب الشيعة:
قد لاحظنا أن البداية - إذا أخذنا بأقوالهم - كانت بكتاب سُليم وبدأت القضية بروايتين فقط، وليس فيها الصراحة التي نجدها عند من بعده - كما سترى أثناء عرضنا لروايات التحريف بعد نهاية هذه المسألة - فكأن المسألة في كتابه لا تزال في بدايتها لم يكثر الوضع والكذب حولها، ولكنها بداية في كتاب قوبل بالرفض من بعض الشيعة؛ فهذا يعني الحكم بالموت على هذه المقالة، لولا أنه جاء في القرن الثالث من تلقف هذه الأسطورة وزاد عليها، وأرسى دعائمها الباطلة.
جاء شيخهم علي بن إبراهيم القمي هو شيخ الكليني صاحب الكافي وحشا تفسيره بهذه الأسطورة (2) . وصرح بها في مقدمة تفسيره (3) . ولهذا قال شيخهم الكاشاني: "فإن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه" (4) . وكذلك قال شيخهم
__________
(1) كتاب الإيمان لمحمد بن أبي عمر المكي العدني: ص249-250 (مخطوط) والآية رقم (37) من سورة الأحزاب
(2) انظر - على سبيل المثال -: تفسير القمي: 1/48، 100، 110، 118، 122، 123، 142، 159، جص21، 111، 125، وغيرها كثير، وسيأتي ذكر بعضها
(3) تفسير القمي: 1/10
(4) تفسير الصافي: 1/52(1/226)
الآخر النوري الطبرسي: "وقد صرح (يعني القمي) بهذا المعتقد في أول تفسيره وملأ كتابه من أخباره مع التزامه في أوله ألا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته" (1) . ومع أن هذا الكتاب قد ملئ بهذه الزندقة فإن كبير علماء الشيعة اليوم "الخوئي" يوثق روايات القمي كلها - كلما سلف - (2) .
ومن بعد القمي جاء تلميذه الكليني المتوفى سنة (328هـ) أو (329هـ) الملقب عند الشيعة بـ"ثقة الإسلام" ومؤلف أصح كتاب من كتبهم الأربعة المعتمدة في الرواية عندهم.
وقد روى الكليني في الكافي من أخبار هذه الأسطورة الشيء الكثير (3) . مع أنه التزم الصحة فيما يرويه (4) ، ولهذا قرر الكاتبون عنه عن الشيعة: "أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها مع أنه ذكر في أول كتابه أنه يثق بما رواه" (5) . والكافي للكليني عند شيوخ الرافضة في أعلى درجات الصحة، لأن الكليني كان معاصراً للسفراء الأربعة الذين يدعون الصلة بمهديهم الغائب المنتظر، ولهذا كان التحقيق من صحة مدوناته أمر ميسوراً له لأنه يعيش معهم في بلد
__________
(1) الطبرسي/ فصل الخطاب الورقة (13) (النسخة المخطوطة) وص 26 من المطبوعة
(2) انظر نص ذلك عن الخوئي في مقدمة هذه الرسالة، أو معجم رجال الحديث للخوئي: 1/63
(3) انظر: أصول الكافي، باب فيه نكت ونتف في التنزيل في الولاية من الجزء الأول ص 413 وما بعدها، وأرقام هذه الروايات كالتالي: 8، 23، 25، 26، 27، 28، 31، 32، 45، 58، 59، 60، 64.
وانظر: الجزء الثاني من الكافي باب أن القرآن يرفع كما أنزل ص 619 رقم 2، وباب النوادر ص627 وما بعدها رقم: 2، 3، 4، 23، 28، وهذه الروايات المشار إليها صريحة في القول بهذا الافتراء ويبعد حملها أو يتعذر على أنها من قبيل التفسير أو القراءات
(4) انظر: مقدمة الكافي: ص9، وتفسير الصافي المقدمة السادسة ص 52، ط: الأعلمي بيروت، وص14 ط: المكتبة الإسلامية بطهران
(5) الكاشاني/ تفسير الصافي/ المقدمة السادسة ص 52، ط: الأعلمي، وص14 ط: طهران(1/227)
واحد هو بغداد (1) .
ولكن يلاحظ أن ابن بابويه القمي حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن مع وجودها في الكافي الذي يصفونه بهذا الوصف، ويوثقونه هذا التوثيق.
وقد رجعت إلى مرآة العقول للمجلسي فرأيته يحكم على بعض أحاديث الكافي بالضعف، ولكنه حكم على روايات في التحريف بالصحة (2) ، وكذلك الشافي شرح أصول الكافي (3) ، وقد صدر حديثاً كتاب اسمه: "صحيح الكافي" (4) . وقد راجعته فوجدت صاحبه قد جرده من الروايات التي تمس كتاب الله، وليس ذلك فحسب بل حذف أبواباً بكاملها مع أحاديثها (5) . في ذلك، كما حذف أبواباً
__________
(1) انظر: محمد صالح الحائري/ منهاج عملي للتقريب ضمن كتاب: "الوحدة الإسلامية" ص: 233، وبمثل هذا قال قدماء شيوخهم. انظر: ابن طاوس/ كشف المحجة ص159، وراجع ما جاء في مقدمة الرسالة
(2) كحكمه بصحة رواية: "أن القرآن الذي جاء به جبرائيل - عليه السلام - إلى محمد صلى الله عليه وسلم وآله وسلم سبعة عشر ألف آية". وآيات القرآن كما هو معروف لا تتجاوز ستة آلاف آية إلا قليلاً. (انظر: مرآة العقول: 2/536)
(3) انظر: حكمه بالصحة على الرواية التي ذكرنها في الهامش السابق، الشافي شرح أصول الكافي: 7/227
(4) طبع سنة 1401هـمن تأليف أحد شيوخهم المعاصرين "محمد الباقر البهبودي" ويقع في ثلاثة أجزاء
(5) مثل: باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وهو من أبواب الكافي الصريحة في هذا الافتراء، حتى استظهر بعش الشيعة مذهبه في هذا من خلال عنوان هذا الباب (انظر: فصل الخطاب: ص26-27) وأبواب أخرى، كما حذف كل روايات "باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية" والبالغة (92) رواية، ما عدا روايتين فقط ليس فيهما الطعن في نص القرآن فيما انحراف في تأويله أي تحريف لمعناه وفق المنهج الباطني في التفسير عندهم، وهذا الباب المشار إليه هو أكثر أبواب الكافي جمعاً لأخبار هذه الأسطورة، حتى خصصه بذلك صاحب فصل الخطاب. (انظر: ص 26 من فصل الخطاب)(1/228)
تمثل جملة من العقائد التي تنتقد فيها الشيعة (1) . وما ندري تصرفه هذا تقية أم حقيقة.. لاسيما وأنه قد حذف أحاديث كثيرة لهم قد حكم عليهم بالصحة المجلسي في مرآة العقول، وصاحب الشافي.
ومن طبقة الكليني أيضاً العياشي له تفسير يسمى: "تفسير العياشي" وقد وجدت أسطورة التحريف مكانها في هذا التفسير في مواضع كثيرة ومتفرقة فيه (2) . وهو من كتبهم المعتمدة - كما سلف (3) .- رغم أن رواياته لا سند لها ولا زمام، وزعم صاحب البحار أن الذي حذف أسانيده أحد النساخ (4) .
ومن القرن الثالث أيضاً فرات بن إبراهيم الكوفي له تفسير يسمى: "تفسير فرات" (5) . وقد ارتضى لنفسه أن ينقل من أخبار هذه الأسطورة (6) . وهو من كتبهم المعتبرة (7) . عندهم. ومن هذا القرن أيضاً محمد بن إبراهيم النعماني (8) . روى في كتابه: "الغيبة" طائفة من الروايات في هذا الافتراء (9) . وهو عندهم من أجلّ
__________
(1) مثل باب أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا، وباب أن الأئمة يعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيار منهم، وباب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم، وغيرها.
(قارن في هذا كتاب الحجة من صحيح الكافي، وكتاب الحجة من أصول الكافي)
(2) انظر من ذلك المواضع التالية: 1/13، 168، 169، 206 وغيرها
(3) انظر مقدمة الرسالة
(4) بحار الأنوار: 1/128
(5) طبع في المطبعة الحيدرية بالنجف وكتب على صفحة العنوان "التفسير القيم الذي طالما تشوقت لرؤيته نفوس العلماء، ضم (على صغر حجمه) ما لم تضمه التفاسير الكبيرة، مطابق تمام المطابقة لأحاديث وأخبار النبي والأئمة - رضي الله عنهم -"
(6) انظر من تفسير فرات: ص 18، 85 وغيرها
(7) انظر مقدمة الرسالة
(8) قالوا: كان في عصر السفراء الأربعة لمهديهم المنتظر، وهو من تلامذة شيخهم الكليني صاحب الكافي، ولعله تلقى عنه هذا الكفر، بل قالوا بأنه هو الذي كتب الكافي، وساعد الكليني في تأليفه.
(انظر: رجال النجاشي: ص298، أمل الآمل: ص232، رجال الحلي: ص162)
(9) انظر ص 218 من كتاب الغيبة(1/229)
الكتب وأثبتها (1) .
ومن هذه الزمرة الحاقدة التي وجدت في هذه الفترة أبو القاسم الكوفي، وقد نسبته بعض كتب الانثي عشرية إلى الغلو (2) ، وشهد على نفسه في كتابه: "الاستغاثة" بأنه على هذا المنهج الضال (3) . وقد نسب له النجاشي كتاباً سماه: "التبديل والتحريف" (4) . وقد فقد هذا الكتاب مع نظائر له، كما أشار إلى ذلك صاحب فصل الخطاب (5) . وهو يروي عن القمي مباشرة (6) . بعض روايات التحريف، فقد يكون تلقى عنه هذا الكفر.
ومن بعد هؤلاء نرى شيخهم المفيد (ت413هـ) سجل في كتابه "أوائل المقالات" إجماع طائفته على هذا المنكر (7) ، ونقل بعض أخباره في بعض كتبه كالإرشاد (8) . وهو من كتبهم المعتبرة (9) .
هذا الزخم من المصنفات وغيرها لتأييد هذا الكفر وإثباته لا يشك مسلم أنه كيد زنديق حاقد على كتاب الله ودينه وأتباعه، وقد دفع هذا الفئة إليه - كما سيأتي في تحليل نصوص هذه الأسطورة ورواياتها - خلو كتاب الله مما يثبت
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 1/30
(2) قال النجاشي: "علي بن أحمد أبو القاسم الكوفي رجل من أهل كوفة كان يقول أنه من آل أبي طالب، وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه وصنف كتباً كثيرة أكثرها على الفساد: كتاب الأنبياء، كتاب الأوصياء، كتاب البدع المحدثة، كتاب التبديل والتحريف"، كما ذكر النجاشي بأن الغلاة يدعون فيه منازل عظيمة. توفي سنة (352هـ) .
(رجال النجاشي ص: 203، رجال الحلي: ص233) وقد حاول الرافضي المعاصر المقدّم لكتاب الاستغاثة والذي لم يفصح عن اسمه أن يدفع عنه صفة الغلو (انظر: ص ب من المقدمة)
(3) انظر: الاستغاثة (أو البدع المحدثة) ص: 25
(4) انظر: رجال النجاشي: ص203
(5) انظر: فصل الخطاب: ص 30-31
(6) انظر: الاستغاثة ص 29
(7) انظر: أوائل المقالات ص 51
(8) انظر: الإرشاد ص 365
(9) انظر: بحار الأنوار: 1/27(1/230)
شذوذهم، وما ذهبوا إليه من عقائد ليس لها أصل في كتاب الله، وليس في مقدورهم أن يفعلوا شيئاً لتغيير بعض آيات الله، كما فعلوا في السنة المطهرة حينما دسوا بعض الروايات والتي كشفها صيارفة هذا العلم وأربابه، فلما لم يستطيعوا أن يحدثوا في كتاب الله أمراً لأنه فوق منالهم حينئذ ادعوا أن في كتاب الله نقصاً وتغييراً - وما أسهل الدعوى على حاقد موتور -.
وهي محاولة فيما يبدو لإقناع أتباعهم الذين ضجوا من خلو كتاب الله من ذكر أئمتهم وعقائدهم والتي لها تلك المكانة التي يسمعونها من رؤسائهم (1) ، فادعوا هذه الدعوى ونشط شيوخهم في القرن الثالث والرابع في الحديث عنها، ولكنهم فيما يبدو لم يحسبوا لهذه الدعوى حسابها فارتدت عليهم بأسوأ العواقب؛ فقد فضحتهم أمام الملأ وكشفت القناع عن وجوههم وأبانت عن عداوتهم ونفاقهم، وقطعت صلتهم بالإسلام والقرآن وأهل البيت.
ولهذا في القرن الرابع أعلن كبير شيوخهم ابن بابويه القمي صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد صحاحهم الأربعة في الحديث والموصوف عندهم بـ"رئيس المحدثين" المتوفى سنة (381هـ) أعلن براءة الشيعة من هذه العقيدة (2) ، وكذلك الشريف المرتضى المتوفى سنة (436هـ) كان ينكر هذه المقالة، ويكفر من قال بها كما ذكر ذلك ابن حزم (3) ، وقد نقل إنكاره أيضاً شيوخ الشيعة كالطوسي (4) . والطبرسي (5) ، وكذلك استنكر هذه المقالة وصلة الشيعة بها الطوسي صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم، وصاحب كتابين من كتب الرجال الأربعة المعتمدة عندهم (6) ، وكذلك الطبرسي (7) . صاحب "مجمع البيان".
__________
(1) كما سيأتي بيان ذلك في الإمامة وغيرها من عقائدهم
(2) انظر: كتاب الاعتقادات: ص101-102، وسيأتي نص كلامه إن شاء الله
(3) الفصل: 5/22
(4) التبيان: 1/3
(5) مجمع البيان: 1/31
(6) التبيان: 1/3
(7) مجمع البيان: 1/31(1/231)
وسننقل - بمشيئة الله - كلماتهم في ذلك ونقدم دراسة مقارنة لها مع ما قالوه في كتبهم الأخرى، وما قاله الشيعة في إنكارهم، ولكن رغم هذا الإنكار من هؤلاء فإن القضية ما تمت، ففي القرن السادس تولى إثارة هذه القضية مرة أخرى الطبرسي صاحب الاحتجاج فحشا كتبه الاحتجاج من هذا الكفر (1) ، وسطر مجموعة من رواياتهم في ذلك وجاء بها مجردة منكل إسناد، وزعم في مقدمة كتابه أنه لم يذكر إسناداً في أكثر رواياته لأنها محل إجماع قومه، أو مشهورة عندهم فقال: "ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناد، إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف" (2) ، وقد كان هذا الطبرسي المجاهر بهذا الكفر من معاصري أبي الفضل الطبرسي صاحب مجمع البيان الذي ينكر هذه المقالة ويبرئ الشيعة منها (3) .
ويبدو أن إنكار أولئك الأربعة كان له وقعه، أو أن القضية أصبحت سرية التداول، فلم نشاهد نشاطاً ملحوظاً لبعثها وترويجها بشكل ظاهر وكبير إلا في ظل الحكم الصفوي الذي شهد إثارة لهذه الأسطورة واختراع روايات لها، وترويجها أشد مما كان في القرن الثالث، كان ذلك على يد مجموعة من شيوخ الدولة الصفوية الذين نشطوا في بعث هذا الكفر، حتى يلاحظ أن هذه الأسطورة التي بدأت بروايتين في كتاب سليم بن قيس أصبحت كما يعترف شيخهم نعمة الله
__________
(1) انظر: فصل الخطاب الورقة (32) النسخة المخطوطة
(2) الاحتجاج: ص 14
(3) وقد خلط بعض الكاتبين بينهما فنسب كتاب الاحتجاج لصاحب مجمع البيان مع أن صاحب الاحتجاج يجاهر بهذا الكفر، وصاحب مجمع البيان يتبرأ منه. وممن اشتبه عليه التفريق بين الرجلين: نبيلة عبيد في كتابها "نشأة الشيعة" ص 39-40، على الرغم من أنها شيعية.
كما اشتبه على بعضهم التفريق بين الطبرسي صاحب الاحتجاج والطبرسي صاحب فصل الخطاب فظنهما شخصية واحدة مع أن بينهما أكثر من ستة قرون. وممن اشتبه عليه ذلك: عبد المتعال الجبري/ حوار مع الشيعة: ص 187(1/232)
الجزائري أكثر من ألفي رواية (1) ، حيث إن شيوخ الدولة الصفوية كالمجسلي في بحاره (2) ، والكاشاني في تفسير الصافي (3) ، والبحراني في البرهان (4) ، ونعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية (5) ، وما سواها من كتبه، وأبي الحسن الشريف في مرآة الأنوار (6) ، والمازنداني (7) . شارح الكافي وغيرهم تولوا نشر هذه الفرية على نطاق واسع في ظل الحكم الصفوي الذي ارتفعت فيه التقية إلى حد ما.
وفي آخر القرن الثالث عشر وقعت الفضيحة الكبرى للشيعة في هذا الباب؛ فقد ألف شيخهم حسين النوري الطبرسي الذي يحظى بتعظيمهم (8) . مؤلفاً في هذا الكفر جمع فيه كل ما لهم من "أساطير" في هذا الباب وسماه "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" (9) ، فأصبح هذا الكتاب عاراً على الشيعة
__________
(1) انظر: فصل الخطاب/ الورقة (125) (النسخة المخطوطة)
(2) انظر: بحار الأنوار: كتاب القرآن، باب تأليف القرآن وأنه على غير ما أنزل الله عز وجل: 92/66 وما بعدها
(3) انظر: تفسير الصافي: المقدمة السادسة: ص 40-55، 136، 163، 399، 420
(4) البرهان في مواضع كثيرة، انظر - مثلاً - جص15 باب أن القرآن لم يجمعه كما أنزل إلا الأئمة، وص34، 70، 102، 140، 170، 277، 294، 295، 308 وغيرها كثير
(5) انظر: الأنوار النعمانية: ص2/357-358
(6) انظر: مرآة الأنوار لأبي الحسن الشريف، المقدمة الثانية: ص 36-49
(7) فقد شرح الكافي ووافق مؤلفه على بلاياه حتى قال: وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى.. (انظر: شرح جامع الكافي: 11/76) ولك أن تعرف أن هذا التواتر المزعوم هو عند صنف آخر من شيوخ الشيعة نفسها من الكذب المعلوم
(8) يحظى بتعظيم الشيعة حتى جعلوا كتابه "مستدرك الوسائل" مصدراً من مصادرهم المعتمدة في الحديث، كما سيأتي عند الحديث عن عقيدتهم في السنة، وبعد أن مات هذا الطبرسي وضعوه في أشرف بقعة عندهم "بين العترة والكتاب - كذا - يعني في الإيوان الثالث عن يمين الداخل إلى الصحن الشريف من باب القبلة (في النجفة) .
(أغا بزرك الطهراني/ أعلام الشيعة، القسم الثاني من الجزء الأول ص553)
(9) وقد ارتكب جريمة تأليفه سنة 1292هـوطبع في إيران سنة 1298هـ، ولديّ صورة من النسخة المخطوطة مصورة من المتحف العراقي، ونسخة من المطبوعة. وسيأتي - إن شاء الله - حديث عنه في الباب الرابع(1/233)
أبد الدهر، فقد جمع فيه صاحبه رواياتهم المتفرقة وأقوال شيوخهم المتناثرة لإثبات أن الشيعة برواياتها وأقوال المحققين من شيوخها تقول بهذا الكفر.. وهو يؤلف كتابه هذا لمواجه جناح من الشيعة أبى أن يهضم هذه الأسطورة، ورفض قبول هذه المقالة كما يظهر واضحاً في رده عليهم في آخر كتابه المذكور (1) .
وقد كشف بهذا الكتاب ما كان خفياً وأبان ما كان مستوراً. لقد وضع "المجهر" الذي كشف ما في زوايا كتب القوم وخباياها من كيد حاقد، وعداوة مبيتة للقرآن وأهله، وقد أبان هذا الملحد المسمى بالطبرسي عن غرضه المبيت ضد كتاب الله في مقدمة كتابه فقال:
"فيقول العبد المذنب المسيء حسين بن محمد تفي الدين الطبرسي جعله الله من الواقفين ببابه المتمسكين بكتابه (!) : هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان، وسميته فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب.. وأودعت فيه من بدايع الحكمة ما تقر به كل عين، وأرجو ممن ينتظر رحمته المسيئون أن ينفعني به في يوم لا ينفع مال ولا بنون" (2) .
انظر كيف تتقنع "المجوسية" بمسوح الرياء والكذب لخداع الأغرار والبسطاء عن الهدف الخبيث الذي تسعى إليه، وقد رام بعضهم أن يتستر على هذا "الهدف" فقال: "وقد يقال: إن نظره في تأليف ذلك الكتاب إلى جمع تلك الأخبار والشواذ والنوادر ولم يكن غرضه اعتقاد التحريف" (3) ، ولكن هذه الدعوى ما تلبث أن تتلاشى بمجرد قراءة العنوان فضلاً عن المقدمة والكتاب، فلا يجدى شيئاً مثل هذا الدفاع فهي تقية مكشوفة (4) ، هذا وبعد هذا العار الأكبر الذي كساه صاحب فصل الخطاب على الشيعة وكتبها.
وبعد هذه الفضيحة والخزي قام فئة من شيوخ الشيعة المعاصرين يتبرؤون من هذه المقالة وينكرونها كالبلاغي في آلاء الرحمن (5) ،
__________
(1) انظر: فصل الخطاب ص 360
(2) فصل الخطاب: ص 2
(3) محمد الطبطبائي/ هامش الأنوار النعمانية: 2/364
(4) سيأتي - إن شاء الله - عرض لموضوعات الكتاب ونقض لمزاعمه وشبهاته وكشف لمفترياته في باب الشيعة المعاصرين
(5) آلاء الرحمن: 1/17-32(1/234)
ومحسن الأمين في الشيعة بين الحقائق والأوهام (1) ، وعبد الحسين شرف الدين في أجوبة مسائل جار الله (2) ، والخوئي في تفسيره البيان (3) ، ومحمد حسين آل كاشف الغطا في أصل الشيعة وأصولها (4) ، ومحمد جواد مغنية في الشيعة في الميزان (5) ، وفي عدد من كتبه، وغيرهم، وسنتوقف في مناقشة أقوالهم في فصل: "الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم".
فهل ننتهي من هذا كله إلى أن ما قاله الأشعري في المقالات من أن للشيعة في هذه المسألة أكثر من قول وأنهم لم يتفقوا على هذا الضلال هو الواقع، وأن الاثني عشرية فئتان: فئة تغلو في هذا وتشتط، وفئة تقول الحق كما ذكر ذلك بعض المنتمين لأهل السنة - كما سبق - وبعض الكاتبين من الشيعة (6) . أو أن القول الحق هو تقية من الشيعة كما قال بذلك بعض أهل السنة كما سلف، وكما يزعمه من يقول بالتحريف من الشيعة كنعمة الله الجزائري (7) ، هذا كله سنتناوله بالدراسة والبيان في مبحث تالٍ.
مضامين روايات التحريف في كتب الشيعة:
بعد ما عرضنا للكتب التي نقلت هذه الأسطورة نبدأ الآن في بيان بعض مضامينها، وصورة البداية لهذه الفرية، وكيف تطورت وبماذا انتهت.
ونبدأ في ما تضمنه أول كتاب للشيعة، وأول كتاب تعرض لهذه الفرية وهو كتاب سليم بن قيس؛ حيث نجد الصورة لهذه الفرية في بدايتها فترد هذه المسألة في أثناء روايتين طويلتين يتعلقان بموضوع إمامة علي، فتذكر الراوية الأولى والتي يرويها أبان بن
__________
(1) الشيعة بين الحقائق والأوهام: ص 160
(2) أجوبة مسائل جار الله: ص 27-37
(3) البيان: ص 226
(4) أصل الشيعة وأصولها: ص 88
(5) الشيعة في الميزان: ص58
(6) تفسير الصافي: 1/52-53 قوامع الفضول: ص298
(7) الأنوار النعمانية: 2/358-359، وسيأتي نص كلامه -إن شاء الله -(1/235)
عياش المتفق على ضعفه - كما أسلفنا - عن سليم وفيها: "أن علياً لزم بيته حتى جمعه وكان في الصحف والرقاع" (1) . واعتذر عن المسارعة إلى بيعة أبي بكر بانشغاله بجمع القرآن فقال - لما بعث إليه أبو بكر لطلب البيعة -: "إني آليت على نفسي يميناً ألا أرتدي رداءً إلا للصلاة حتى أولف القرآن وأجمعه" (2) . ومثل هذه الدعوى وردت في بعض كتب أهل السنة ولكنها لم تثبت بسند صحيح، ولهذا قال ابن حجر: وما يروى عن علي أنه قال: "آليت ألا آخذ ردائي إلا للصلاة حتى أجمع القرآن"، فجمعه فإسناده ضعيف لانقطاعه، وعلى تقدير أن يكون محفوظاً فمراده بجمعه حفظه في صدره، وما وقع في بعض طرقه: "حتى جمعته بين اللوحين" فوهم من روايه" (3) .
قال ابن حجر: "وأصح منه وهو المعتمد ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال: سمعت علياً يقول: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر - رحمة الله على أبي بكر - وهو أول من جمع كتاب الله" (4) .
هذا وتصف رواية سليم جمع علي للقرآن بأنه لم يكن كله قرآناً بل جمع "تنزيله وتأويله والناسخ والمنسوخ منه" (5) ، وهذا رغم أنه لم يصح من أصله إلا أنه يدل على أنه ليس وفق الأصول التي أمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- لجمع
__________
(1) كتاب سليم بن قيس: ص81
(2) كتاب سليم بن قيس: ص81، ولاحظ في هذا النص المنقول أن علياً لم يعتذر عن المبادرة لبيعة أبي بكر إلا بانشغاله بجمع القرآن، ولم يعتذر بشيء آخر، فكأن الواضع لهذه الحكاية نسي القضية الأساسية عندهم وهي مسألة الإمامة، وأن علياً لم يبايع في نظرهم بسبب أنه يرى أنه هو الوصي المنصوص عليه وهذه سمة مطردة في كثير من المسائل التي يريدون إثباتها.. حيث يثبتونها من وجه تنتفي معه العقيدة الأخرى، وهذه سمة الوضع والكذب على الدوام: الاختلاف والتناقض، كما قال سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (النساء، آية: 82) . فهذه الآية تدل على أن كل من يزعم أنه من عند الله وهو ليس من عند الله فلا محيص من وقوعه في فخ الاختلاف والتناقض ...
(3) فتح الباري: 9/12-13. وانظر كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 16
(4) فتح الباري: ص 9/12
(5) كتاب سليم بن قيس: ص81(1/236)
القرآن، ومنها قوله: "لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن" (1) . فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابة القرآن ونهى أن يكتب معه غيره خشية أن يختلط بشيء آخر، وعلى أي الأحوال فإن قصارى ما في هذه الدعوى أن يكون لعلي مصحف مثل بعض الصحابة كابن مسعود وغيره (2) . وهذا لا يتضمن الطعن في كتاب الله سبحانه.
ولكن الرواية لم تكتف بهذه الدعوى، بل قالت بأنه جاء به إلى الصحابة ودعاهم إليه فقال عمر - كما يزعمون -: "ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا إليه" (3) . وما دام قرآن علي المزعوم لم يكن كله قرآناً بل اشتمل على التفسير والآيات المنسوخة فإن الأصل الرجوع إلى المصحف الإمام فهو يغني عن غيره. لذا عادت هذه الزمرة التي وضعت في هذا الأسطورة لتتوسع في سبكها، وعرضها، ولعب فيها الخيال الحاقد دوره أكثر وأكثر فتحولت هذه الزيادة الأخيرة عند الطبرسي (من القرن السادس) في الاحتجاج إلى صورة أخرى كطبيعة الكذب الذي يزيد وينقص، تحولت إلى صراع بين علي وصحابة رسول الله - رضي الله عن الجميع وبرأهم الله مما يفتري المفترون -.
فإذا كانت رواية سليم تقول بأنهم ردوا مصحف علي حينما جاء به لأول وهلة، فإن رواية الطبرسي تشير إلى أنهم أخذوه "فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحه فضائح القوم" (4) . وهي هنا تقدم لنا موضوعاً من موضوعات مصحف علي وهو فضائح القوم يعني الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين أن رواية سليم لا تتعرض لكتاب الله بطعن صريح، وهذا لا يطفئ الحقد الذي أكل قلوب هذه الزمرة الحاقدة تجاه الرعيل الأول
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الزهد رقم 72 ص2298-2299، والدارمي، مقدمة رقم 42 ص 119، وأحمد في مسنده: 3/12، 21، 39. قال أهل العلم: إن النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط. (النووي/ شرح صحيح مسلم: 18/130، الأبي/ إكمال إكمال المعلم: 7/305)
(2) انظر: ابن أبي داود/ كتاب المصاحف: ص 60 وما بعدها
(3) كتاب سليم بن قيس: ص 82
(4) الاحتجاج ص 156(1/237)
الذين فتحوا ديارهم ونشروا الإسلام بينهم، بل لا تتغذى قلوبهم الحاقدة إلا على موائد سب الصحابة، ولا ترتوي نفوسهم السوداء إلا بالطعن فيهم. وآيات القرآن التي تثني عليهم وتعلي من شأنهم هي قوارع من حديد على رؤوسهم، وشهب من نار تهوي على أفئدتهم، فكان من الطبيعي أن يدعوا مثل هذه الدعوى..
وإذا كانت رواية سليم تكتفي بما أسلفنا فإن رواية الاحتجاج تضيف إليها فصلاً جديداً يقول: "ثم أحضروا زيد بن ثابت - وكان قارئاً للقرآن - فقال له عمر: إن علياً جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار وقد رأينا أن نؤلف القرآن (في حين أن رواية سليم تشير إلى أن القرآن كان مجموعاً عند أبي بكر وعمر) ونسقط منه ما كان فضيحة وهتكاً للمهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك ثم قال: فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتهم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل كل ما عملتهم؟ فقال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: ما حيلته دون أن نقتله ونستريح منه، فدبر في قتله" (1) .
ثم يشرح في موضع آخر محاولة القتل المزعومة وتكليف خالد بذلك وأن أبا بكر تأسف وتراجع عن هذه المؤامرة خشية عواقبها فقال وهو في الصلاة: "لا تقتله يا خالد" إلى آخر هذه المسرحية المصنوعة (2) .
ثم تواصل هذه الأسطورة فصولها فتذكر محاولة عمر لاستدراج علي وخداعه بدعوته إحضار القرآن حتى يعملوا به، وذلك محاولة عن عمر لتحريف مصحف علي، وأن علياً رفض ذلك، وأن عمر سأله متى أوان ظهوره؟ فقال: إنه سيظهر مع القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه فتجري السنة به - صلوات الله عليه - (3) .
والسؤال الذي لا تجيب عنه رواية الطبرسي، ولا كتب الشيعة الأخرى هو مادامت محاولتهم لقتل علي أخفقت، وتدبيرهم لتحريف مصحفه قد فشلت،
__________
(1) الاحتجاج: ص 156 ط: الأعلمي
(2) الاحتجاج: ص 89-90 ط: الأعلمي
(3) الاحتجاج: 1/255-228 ط: النجف، أو ص: 155-156من ط: الأعلمي بيروت(1/238)
فلماذا لم يخرج علي القرآن الذي معه؟!، وإذا كان يخشى منهم لأن السلطة بأيديهم فلماذا لم يخرجه أثناء خلافته، لماذا يتسبب في بقاء الأمة تائهة حائرة، ولماذا يتستر على خيانة الخائن وتحريف المحرف، ومن أقر خائناً على خيانته كان كفاعلها؟ لم تجد هذه الزمرة ما تجيب به إلا ما قالته على لسان عالمها نعمة الله الجزائري من أنه فضّل مجاملة من سبقه على هداية الأمة (1) ، وهذا فوق أنه طعن في كتاب الله وهو من أبلغ القدح في علي - كما سبق - وأقول أيضاً: إذا كانت مجاملة علي تبلغ هذا المبلغ فلماذا لم يقتد الشيعة بإمامهم ويدعوا السب والطعن الذي سوّد صفحات المجلدات من كتبهم، فإما أن يكونوا كاذبين في اعتذارهم أو مجانبين لخطى إمامهم، وما ندري أي الأمرين يطوّح بهما أكثر من الآخر.
وأعود لذكر الرواية الأخرى في كتاب سليم بن قيس وهي تشبه الرواية الأولى وتزيد عليها بسؤال وجه من طلحة -رضي الله عنه - لعلي لماذا لم يخرج القرآن الذي معه؟، وسكوت علي عن الإجابة ومضيه في حديث عن أحقيته بالإمامة، ولكن طلحة يسأله مرة أخرى عن هذا فيقول: "ما أراك يا أبا الحسن أجبتني عما سألتك عنه عن القرآن ألا تظهر للناس، قال: يا طلحة، عمداً كففت عن جوابك، قال: فأخبرني عما في كتب عمر وعثمان - كذا - أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن، قال طلحة: بل قرآن كله. قال: إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا وبيان حقنا وفرض طاعتنا، فقال طلحة: حسبي، أما إذ هو قرآن فحسبي" (2) .
فهذه الراوية عند سليم تعرض عن الطعن في كتاب الله بطريقة صريحة، بل تؤكد بأن كل ما فيه قرآن، وأن فيه بيان حق أهل البيت وفرض طاعتهم، على حين أننا نجد روايات عندهم تناقض هذا، وتقول: "لولا أنه زيد في كتاب الله
__________
(1) وسبق نقل النص ص: (202-203)
(2) كتاب سليم بن قيس: ص 124(1/239)
ونقص منه لما خفي حقنا على ذي حجى" (1) ، وتقول: "لو قرئ القرآن كما أنزل لألفينا فيه مسمين" (2) . فهذا تطور آخر في هذه الأسطورة ينكشف من خلاله بعض الدوافع لوضعها وهي أن الأئمة الاثني عشر الذين جعلوا الإيمان بهم هو الإسلام.. وإنكار واحد منهم هو الكفر لا ذكر لهم في كتاب الله، وهذا يهدد جمعهم بالفشل وبنيانهم بالانهيار، ففزعوا يبحثون عن حيلة لمواجهة هذه المعضلة عندهم فلجؤوا إلى وسائل شتى، أخطرها هذه المقالة.
هذا وفي تطور آخر بدأت هذه الأسطورة تتخذ شكلاً عملياً ويزاد في أخبارها ورواياتها على يد علي بن إبراهيم القمي صاحب التفسير وتلميذه الكليني صاحب الكافي، وهذان الرجلان هما ممن أرسى دعائم هذه العقيدة الباطلة وعملا على ترويجها ونشرها والإكثار من الحديث عنها، وقد اكتملت صورة هذه الأسطورة على أيديهما فبدأت الروايات عند القمي والكليني تأخذ بهذه الأسطورة إلى مرحلة عملية فبدؤوا بإقحام كلمة "في علي" بعد أي آية فيها لفظ: "أنزل الله إليك"، "وأنزلنا إليك"، وزيادة لفظ: "آل محمد حقهم" بعد لفظ: "ظلموا" حيثما وقع في القرآن، وزيادة لفظ: "في ولاية علي" بعد لفظ: "أشركوا" حيثما جاء في القرآن، وتغيير كلمة "أمة" بكلمة أئمة حيثما وقعت.
وعلى هذا المنوال نسج القوم في القرآن كله، ومن شواهد هذا ما يروي الكليني عن القمي بسنده إلى جابر الجعفي عن أبي جعفر قال: نزل جبرائيل بهذه الآية على محمد "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله (في علي) بغياً" (3) .
وكذلك يقولون: "نزل جبرائيل بهذه الآية على محمد هكذا: "وإن كنتم في
__________
(1) البرهان: مقدمة ص 37، بحار الأنوار: 19/30، تفسير الصافي: 1/41
(2) تفسير العياشي: 1/13، بحار الأنوار: 92/55، تفسير الصافي: 1/41، اللوامع النورانية: ص 547
(3) الآية 90 من سورة البقرة والكلام المحرف الذي ذكرته أعلاه في أصول الكافي: 1/417(1/240)
ريب مما نزلنا (في علي) فأتوا بسورة من مثله" (1) .
ويروون عن أبي عبد الله أنه قال: "نزل جبرائيل - عليه السلام - على محمد بهذه الآية هكذا: "يا أيها الذين أتوا الكاب آمنوا بما نزلنا (في علي) نوراً مبيناً" (2) . ويلاحظ هنا أنه خلط بين أكثر من آية (3) .
وقال القمي: "وأما ما هو محرف فمنه قوله: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك (في علي) أنزله بعلمه والملائكة يشهدون" (4) ، وقوله: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك (في علي) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" (5) ، وقوله: "إن الذين كفروا وظلموا (آل محمد حقهم) لم يكن الله ليغفر لهم" (6) . وقوله: "وسيعلم الذين ظلموا (آل محمد حقهم) في غمرات الموت" (7) . قال هذا القمي ومثله كثير
__________
(1) الآية 23 من سورة البقرة، والكلام المحرف المذكور في أصول الكافي: 1/417
(2) أصول الكافي: 1/417
(3) فأول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} هي الآية 47 من سورة النساء، فأقحم مع هذه الآية قوله: {نُورًا مُّبِينًا} ، وهي جزء من آية أخرى في نفس السورة وهي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} الآية 174 من سورة النساء
(4) النساء، آية: 166
(5) المائدة، آية: 67
(6) النساء، آية: 168، والكلام المقحم في تفسير القمي: 1/159
(7) لاحظ أن هؤلاء بعيدون عن كتاب الله روحاً وحساً فيخطئون حتى في نقل الآيات أو يتعمدون وينسبون ذلك لأهل البيت زوراً وبهتاناً، فتأمل كيف خلط بين آيتين بطريقة غبية جاهلة بين قوله سبحانه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ... الشعراء، آية: 227، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} (الأنعام، آية: 93) فجعلها "وسيعلم الذين ظلموا في غمرات الموت".
ولاشك أن رؤية الظالمين في غمرات الموت يعانون من سكراته وآلامه هي محل للعبرة والذكرى، وهي أبلغ وأعظم من القول بأنهم سيعلمون في غيمرات الموت؛ لأنه سيأتي من يقول بأنهم في غمرات الموت قد ذهلوا فهم لا يكادون يفقهون شيئاً ولا يعلمون، ولا نسترسل أكثر من هذا فمثل هذه الأساطير لا تستحق المناقشة.(1/241)
نذكره في مواضعه (1) ، وقد حشى كتابه بهذا الكفر كما وعد (2) . وعلى نفس النسق الذي أشرنا إليه.
كما تزيد رواية أخرى له على قوله سبحانه: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} (3) . تزيد كالعادة عبارة "آل محمد" (4) .
ويروي هذا القمي أيضاً عن أبي عبد الله أنه قرأ عنده قوله سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (5) . قال أبو عبد الله: "خير أمة" يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين - عليهم السلام -؟ فقال القارئ: جعلت فداك كيف نزلت؟ قال: نزلت (كنتم خير أئمة أخرجت للناس) ، ألا ترى مدح الله لهم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} " (6) . وهذا يعني أن الأمة بما فيها الشيعة لا خير فيها ماعدا الأئمة الاثني عشر. كما يلاحظ أن رواياتهم في تأويل القرآن، أثبتت الأمة، وأولتها بالأئمة - كما سلف - وروايات التحريف زعمت أن الأصل الأئمة لا الأمة أليس هذا تناقضاً؟!
ويروي الكليني عن الرضا في قول الله - عز وجل -: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ} (يزيدون) بولاية علي {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (7) . (يزيدون) يا محمد من ولاية علي، هكذا في الكتاب مخطوطة (8) ، وفي قول الله عز وجل: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (9) . (يزيدون) : يا معشر المكذبين حيث أنبأتكم رسالة ربي في ولاية
__________
(1) تفسير القمي: 1/10-11
(2) انظر مثلاً: ج1 ص48، 100، 110، 122، 142، 159، 118، 123، 125، وغيرها
(3) البقرة، آية: 59
(4) تفسير القمي: 1/48
(5) آل عمران، آية: 110
(6) تفسير القمي: 1/110
(7) الشورى، آية: 13
(8) أصول الكافي: 1/418
(9) الملك، آية: 29(1/242)
علي - عليه السلام - والأئمة من بعده، من هو في ضلال مبين.
ثم يؤكدون هذا التحريف والكفر بقولهم: "هكذا نزلت" (1) ، وفي قوله سبحانه: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (يزيدون) : (بتركهم ولاية أمير المؤمنين عليه السلام) عذاباً شديداً في الدنيا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون (2) .
والأمثلة في هذه كثيرة. وإذا قارنت بين ما جاء في تفسير القمي والكافي من هذه الروايات، وبين ما ذكره شيوخهم المتأخرون كالمجلسي والجزائري، والنوري الطبرسي منها، لاحظت أن روايات التحريف زادت عند المتأخرين بشكل ملحوظ مما يدل على أن العمل يجري في كل فترة على الزيادة في هذه المفتريات.
وهذه "الإضافات" التي تزعم الشيعة نقصها من كتاب الله ألا يلاحظ القارئ العربي أن السياق لا يتقبلها، وأنها مقحمة إقحاماً بلا أدنى مناسبة، ولذلك يكاد النص يلفظها، وأنها من وضع أعجمي لا صلة له بلغة العرب، ولا معرفة له بأساليب العربية، ولا ذوق له في اختيار الألفاظ، وإدراك المعاني.
إن الكلمات المفتراة التي قدمها أولئك المفترون أمثلة للآيات الساقطة بزعمهم، قد كشفت القناع عن كفرهم، كما أنها فضحت كذبهم، وكشف افتراءهم، فهي محاولات أشبه بمحاولات مسيلمة الكذاب في تقليد القرآن العظيم، كما ترى ذلك في الأمثلة التي قدمناها، وكما تراه في الألف مثال أو أكثر، والذي قدمها صاحب فصل الخطاب (3) .
وتكفي فصاحة القرآن وإعجازه البلاغي الذي سحر أساتذة البيان وفرسان العربية وأعياهم وأعجزهم أن يأتوا بسورة من مثله أو آية من مثله يكفي في كشف هذه المفتريات والأكاذيب، بل إن أغلب هذه المفتريات تنزل على مستوى أداء الإنسان العادي، وبها يتبين عظمة القرآن وسحره،
__________
(1) أصول الكافي: 1/421
(2) فصلت، آية: 27، والتحريف من الكافي: 1/421
(3) انظر: فصل الخطاب ص 253 وما بعدها(1/243)
فلولا المر ما عرف طعم الحلو، ولولا الملوحة ما تبين طعم العذوبة، وبضدها تتميز الأشياء، ولذلك فهي ناطقة بذاتها على كذب واضعيها بغض النظر عن البراهين والأدلة الأخرى على حفظ القرآن وسلامته.
إن هذه المحاولات الغبية لإقحام كلام البشر في كلام الله سبحانه وتعالى عملت شرذمة من هذه الطائفة قروناً متواصلةً.. عملت جاهد لإيجاد أكبر قدر ممكن منها، وهناك أمثلة عديدة لهذه المحاولات - بالإضافة لما مضى- ذكر المجلسي جزءاً منها في باب عقده بعنوان (باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله عز وجل مما رواه مشايخنا..) (1) ، كما أن كتب التفسير عندهم حوت من هذا الغثاء الشيء الكثير - كما أشرنا من قبل (2) .- وجمعها كلها صاحب فصل الخطاب (3) .
وعدّ الرافضة هذه المفتريات جزءاً مما سقط من كتاب الله، فقد روى الكليني في الكافي "أن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد (ص) وآله وسلم سبعة عشر ألف آية" (4) ، وآيات القرآن - كما هو معروف - لا تتجاوز ستة آلاف آية إلا قليلاً، فهذا يقتضي سقوط ما يقارب ثلثي القرآن، فما أعظم هذا الافتراء! وهذه الرواية وردت في الكافي أصح كتاب عندهم، ولكن من الشيعة من يقول: ليس كل ما في الكافي صحيحاً (5) .
وإذا حملنا مثل هذا القول على الحقيقة لا على التقية، وإذا تجاوزنا ما يلاحظ على الإسناد عندهم، وما يلاحظ على ضوابط وأصول التصحيح والتضعيف لديهم، وما يرى من اختلافهم في هذا الشأن
__________
(1) بحار الأنوار: 92/60 وما بعدها
(2) انظر: ص (266) من هذه الرسالة
(3) فصل الخطاب: ص 253 وما بعدها
(4) أصول الكافي: كتاب فضل القرآن، باب النوادر: 2/134
(5) انظر - مثلاً - محمد جواد مغنية/ العمل بالحديث وشروطه عند الإمامية ضمن كتاب دعوة التقريب ص 383، محسن الأمين/ الشيعة بين الحقائق والأوهام ص 419-420(1/244)
واضطرابهم فيه (1) ، وأن الحكم بالضعف قد يكون على الإسناد فقط حيث قالوا: "إن أكثر أحاديث الأصول في الكافي غير صحيحة الإسناد ولكنها معتمدة لاعتبار متونها، وموافقتها للعقائد الحقة ولا ينظر في مثلها إلى الإسناد" (2) ، إذا تجاوزنا ذلك كله وذهبنا نبتغي الإجابة من شيوخهم عن صحة إسناد هذه الرواية وذلك لنكون أكثر حيدة من قيامنا بمثل هذا عن طريق النظر في الإسناد على ضوء كتب "الرجال" عندهم - نجد أن شيخهم المجلسي يقول عن الرواية السابقة: "فالخبر صحيح" (3) . وشهادة المجلسي هذا في غاية الاعتبار عندهم، لأنه "الشارح المتتبع للكافي الذي بين صحيحه من ضعيفه" (4) .
وإذا أردنا شهادة من شيوخهم المعاصرين على صحة هذه الرواية عندهم فإننا نجد شيخهم عبد الحسين المظفر يقول: "إنه موثق كالصحيح" (5) . ومن الإنصاف أن نذكر بأن صاحب "صحيح الكافي" وهو من شيوخهم المعاصرين - أيضاً - قد أغفل ذكر هذه الرواية (6) . فهل يعني إغفاله لها أنها ليست بصحيحة في نظره؟ هذا ما يظهر من صنيعه حسب منهجه الذي ألمح إليه في مقدمة كتابه، وقد يسلك مثل هذا العمل وأكثر وهو غير صادق بحكم عقيدة التقية عندهم، حتى قال أحد شيوخهم المعاصرين: "لكل مجتهد إمامي أن يرفض أي حديث لا يرتضيه في الكافي وغيره ويأخذ بحديث موجود في البخاري ومسلم، ولا يحق لأحد أن يحتج عليه من وجهة دينية أو مذهبية" (7) ، لأن التقية تسمح له بذلك
__________
(1) سيأتي إيضاح هذا في فصل "عقيدتهم في السنة"
(2) الشعراني/ مقدمة شرح جامع: ص/ يب
(3) مرآة العقول: 2/536
(4) راجع: مرآة العقول، وانظر: محمد جواد مغنية/ العمل بالحديث وشروطه عند الإمامية ضمن كتاب دعوة التقريب: ص 383
(5) الشافي شرح أصول الكافي: 7/227
(6) انظر: صحيح الكافي/ البهبودي: كتاب فضل القرآن، باب النوادر: 1/156-157
(7) محمد جواد مغنية/ العمل بالحديث وشروطه عند الإمامية (ضمن كتاب دعوة التقريب ص384)(1/245)
وإلا فالحقيقة غير هذا، ولهذا فإن شيخهم المجلسي يعقد باباً بعنوان: "الباب الثامن والعشرون ما ترويه العامة (أهل السنة) من أخبار الرسول صلى الله عليه وآله، وأن الصحيح من ذلك عندهم (يعني شيعته) والنهي عن الرجوع إلى أخبار المخالفين إلا في حالة الاحتجاج عليهم من كتبهم" (1) .
هذا عن صحة الرواية عندهم، أما عن معنى الرواية المذكورة عندهم فقد قال "المازندراني" (2) . شارح الكافي: "إن القرآن ستة آلاف وخمسمائة" (3) . والزائد على ذلك مما سقط بالتحريف" (4) . وقال المجلسي: "إن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره" (5) .
هذا قول شيوخ الدولة الصفوية في تفسير هذه الرواية، والذين ساروا في التشيع أشواطاً حثيثة في الغلو، وبلغوا بها "الأوج" في ذلك، ولعلك تعجب إذا قارنت هذه التفسيرات لهذه الأسطورة والتي تجسم هذا الكفر وتنشر هذا الغلو عن شيوخ وجدوا في القرن الثاني إبان الحكم الصفوي، إذا قارنت هذه التفسيرات بما قاله ابن بابويه القمي من القرن الرابع الهجري عن هذه الرواية في كتابه "الاعتقادات" وهو بشهادة شيوخهم المعاصرين "من الكتب المعتبرة الموثقة" (6) . عندهم، حيث قال: ".. إنه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبعة عشرة ألف آية، وذلك مثل قول جبرائيل.. عش ما شئت فإنك ميت، وأحب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت
__________
(1) بحار الأنوار: 2/214
(2) محمد صالح بن أحمد المازندراني توفي سنة (1081هـ) أو (1086هـ)
(3) هذا العدد الذي ذكره لآيات القرآن لم أجد له ذكراً ضمن الأقوال المأثورة في عدد الآي وذلك فيما رجعت إليه. انظر: تفسير القرطبي: 1/64-65، الإتقان: 1/89، الفيروزآبادي/ بصائر ذوي التمييز: 1/559-560
(4) شرح جامع (للكافي) : 11/76
(5) مرآة العقول: 2/536
(6) الذريعة: 13/101(1/246)
فإنك ملاقيه.." (1) . ثم ذكر طائفة من أمثال هذه الأقوال.
فانظر إلى هذا الاختلاف والتباين بين نص الكليني، ونص ابن بابويه، هذا يقول: "نزل من الوحي الذي ليس بقرآن" وذاك يقول: "إن القرآن الذي جاء به جبرائيل.." أي إن ابن بابويه يقول: إن النقص في غير القرآن، والكليني يصرح بأن النقص في القرآن، ولذلك جاء تفسير المجلسي والمازندراني للرواية بما يتمشى مع ظاهر النص الإلحادي، بينما نلاحظ أن ابن بابويه حمل زيادة العدد المذكور في الرواية عن عدد آيات القرآن حمل ذلك على الأحاديث القدسية؛ لأن ذلك يمكن أن يتمشى مع ظاهر القول الذي ذكره، ولكن الجميع جبن عن رد الرواية وتكذيبها.
وأقول: هل لرواية الكليني وجهٌ يمكن قبوله خلافاً لما يراه ويفتريه المجلسي والمازندراني وأضرابهما؟ لعله من الممكن لو كان لهؤلاء إرادة خير لمذهبهم وأتباعهم أن يحملوا ما زاد عن عدد آيات القرآن مما ذكرته الرواية أن يحملوا ذلك على منسوخ التلاوة إذا لم يكن لديهم الشجاعة على رد هذه الرواية وأمثالها، إذ لابد من تأويلها وأمثالها بنحو من الاعتبار وإلا فليضرب بها الجدار.
ثم إني رأيت صاحب الوافي ذكر هذا التأويل للرواية، حيث قال بعد ذكره لبعض الاحتمالات التي تؤيد ذلك الكفر قال بعد ذلك: "أو يكون - أي العد والزائد عما في القرآن - مما نسخ تلاوته" (2) . ولكن شيخ الشيعة اليوم "الخوئي" (3) . ومرجعها الأكبر - وهو يتظاهر بالدفاع عن القرآن - يرى أن القول بنسخ التلاوة هو قول بالتحريف (4) ، وكأنه أراد أن يوصد هذا الباب، ويرد هذه
__________
(1) الاعتقادات: ص 102
(2) الكاشاني / الوافي، المجلد الثاني: 1/274
(3) أبو القاسم الموسوي الخوئي يلقبونه بالإمام الأكبر والآية العظمى، زعيم الحوزة العلمية، يعيش حالياً في العراق، من تآليفه معجم رجال الحديث، البيان في تفسير القرآن
(4) الخوئي/ البيان: ص 210(1/247)
القاعدة الثابتة ليثبت بطريق ملتو عقيدة في نفسه يكاد يخفيها.. والفرق واضح بين النسخ والتحريف، فالتحريف من صنع البشر وقد ذم الله فاعله، والنسخ من الله. قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) . وهو لا يستلزم مس كتاب الله سبحانه بأي حال.
وإذا كانت رواية الكليني تذهب إلى سقوط قرابة الثلثين فيعني هذا أنه لم يبق لدينا من كتاب الله إلا ما يتجاوزك الثلث بقليل، وإذا عرضنا روايته الأخرى التي تقول: "نزل القرآن أثلاثاً، ثلث فينا وفي عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام" (2) . فأي الأثلاث الذي بقي لنا في نظرهم؟ أثلث السنن والأمثال أم ثلث الفرائض والأحكام؛ إذ لا ريب عند هذه الزمرة الملحدة إن ثلث الأولياء والأعداء قد أسقط لأنهم قالوا: "لو قرئ القرآن كما أنزل لألفينا مسمين"، وهو بيت القصيد والهدف الظاهر من كل هذه المحاولات.
ومعنى هذا أن الأمة ضائعة كل هذه القرون الطويلة.. منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ليس معها سوى ثلث كتابها.. والأئمة تقف موقف المتفرج.. لديها القرآن الكامل - كما يزعمون - ولا تبلغه للأمة، لتتركها أسيرة ضلالها، لا تعرف وليها من عدوها، وتعدهم بظهوره مع منتظرهم، وتمر آلاف السنين ولا غائب يعود، ولا مصحف يظهر، فإن كانت الأمة تهتدي بدونه فما فائدة ظهوره مع المنتظر، وإن كان أساساً في هدايتها فلماذا يحول الأئمة بينه وبين الأمة، لتبقى الأمة في نظر هؤلاء حائرة ضالة تائهة، وهل أنزل الله سبحانه كتابه ليبقى أسيراً مع المنتظر لا سبيل للأمة للوصول إليه؟ مع أن الله سبحانه لم يترك حفظ كتابه لا لنبي معصوم ولا لمنتظر موهوم، بل تكفل بحفظه سبحانه.
تقول رواياتهم - كما تقدم - بأن علياً لم يستطع إخراجه خشية تحريفه، وهذا
__________
(1) البقرة، آية: 106
(2) أصول الكافي: 2/627(1/248)
يعني أن الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس كتب عليها الشقاء والضلال لا يستثنى من ذلك إلا أصحاب المنتظر، لأنها ستبقى في معزل عن مصدر هدايتها، وأصل سعادتها وخيرها.
مع أن الأئمة يملكون من وسائل التبليغ ما لا يملكه حتى الأنبياء، فعلي بزعمهم يملك قدرات خارقة وكان بإمكانه بهذه القدرات نشر القرآن الكامل. فقد قال المجلسي في الباب الذي عقده بعنوان باب "جوامع معجزاته رضي الله عنه": "إن علياً مر برجل يخبط: هو هو، فقال: يا شاب، لو قرأت القرآن لكان خيراً لك. فقال: إني لا أحسنه ولوددت أن أحسن منه شيئاً. فقال: ادن مني، فدنا منه فتكلم بشيء خفي، فصور الله القرآن كله في قلبه فحفظه كله" (1) .
فإذن علي يستطيع إبلاغ القرآن بهذه الطريقة "السحرية" إلى كل من يريد، ويستطيع أن يتخذ كل التدابير الكفيلة بمنع أي محاولة ضده، لأنه كما تقول أبواب الكافي: "يعلم ما كان وما يكون ولا يخفي عليه الشيء" (2) ، كما أن الوصول إلى قتله بغير رضاه واختياره أمر ممتنع، لأن الأئمة كما تقول أبواب الكافي أيضاً: "يعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيارهم" (3) .
فلماذا لم يفعل؟ ! جاء في بعض رواياتهم أن أمير المؤمنين قال: "لو ثني لي الوسادة وعرف لي حقي لأخرجت لهم مصحفاً كتبته وأملاه علي رسول الله صلى الله عليه وسلم" (4) .
ونقف أولاً عند قوله: "لو ثني لي الوسادة" وهذا كناية عن توليه الحكم - كما قرره المجلسي (5) .- فكيف لم يخرج ما عنده بعد توليه الخلافة وهو يعد بهذا أم
__________
(1) بحار الأنوار: 42/17
(2) انظر: أصول الكافي: 1/260
(3) أصول الكافي: 1/258
(4) بحار الأنوار: 92/52
(5) بحار الأنوار: 92/52(1/249)
قد أخلف وعده كما يفتري واضح هذه "الأساطير"؟!.
ثم قوله: "وعرف لي حقي" كيف يعرف حقه ومصدر هذه المعرفة لم يظهر للناس؟
أما قوله: "أملاه علي رسول الله" فهذا يناقض أساطيرهم الأخرى التي تقول: إن الجمع تم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أن كل هذه النصوص حول هذه الفرية هي من أبلغ الطعون في أهل البيت، ولا يبلغ مفتر ضد أهل البيت مبلغ هذه المفتريات، حتى لقد صدق فيهم قول إمامهم - كما تعترف بذلك كتبهم -: "لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا" (1) .
ومن أعجب الروايات لهذه الأسطورة أن عمالمهم في القرن السادس "الطبرسي" في كتابه "الاحتجاج" جعل القول بهذه الفرية هي الإجابة المقنعة من أمير المؤمنين علي على اعتراض أحد الزنادقة، فقد روى في كتابه الاحتجاج وهو من كتبهم المعتبرة - كما قدمنا - أن عليا قال لأحد الزنادقة في محاورة طويلة منها " ... إن الكناية عن أسماء الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست من فعله تعالى، وأنها من فعل المغيرين والمبدلين.
وليس يسوغ مع عموم التقية التصريح بأسماء المبدلين، ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر، والملل المنحرفة عن قبلتنا، وإبطال هذا العلم الظاهر الذي قد استكان له الموافق والمخالف بوقوع الاصطلاح على الائتمار لهم، والرضا بهم.. فلأن الصبر على ولاة الأمر مفروض لقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (2) . فحسبك من الجواب عن هذا الموضوع ما سمعت، فإن شريعة التقية تحظر التصريح بأكثر منه.
وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ
__________
(1) رجال الكشي: ص 307
(2) الأحقاف، الآية: 35(1/250)
وَجْهَهُ} (1) . فإنما نزلت كل شيء هالك إلا دينه لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء ويبق الوجه، هو أجل وأعظم من ذلك، إنما يهلك من ليس منه، ألا ترى أنه قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (2) . ففصل بين خلقه ووجه.
وأما ظهورك على تناكر قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} (3) ، وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتام، فهو مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين (4) . القول في اليتامى، وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن، وهذا وما أشبهه مما ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمل، ووجد المعطلون وأهل الملل المخالفة للإسلام مساغاً إلى القدح في القرآن، ولو شرحت لك كل مما أسقط وحرّف وبدّل مما يجري هذا المجرى لطال، وظهر ما تحظر التقية إظهاره من مناقب الأولياء ومثالب الأعداء" (5) .
هذا النص رغم طوله هو جزء من محاورة طويلة يزعم صاحب الاحتجاج أنها جرت بين أمير المؤمنين علي، وزنديق من الزنادقة، وأن علياً يناظره ويحاول أن يهديه إلى الحق، فهل يمكن أن يكون أحد أشد زندقة، ممن يقول في كتاب الله سبحانه وصحابة رسول الله مثل هذا القول، وهل يبلغ كيد حاقد أكثر من هذا..؟ يقول موسى جار الله: "هل يجد أشد الناس عداوة مساغاً أَهْدَم للقرآن وأهْدَم للدين من مثل هذا القول الذي يسنده شيوخ الشيعة إلى أمير المؤمنين علي" (6) .
__________
(1) القصص، آية: 88
(2) الرحمن، آية: 26، 27
(3) النساء، آية: 3
(4) كذا في الاحتجاج
(5) الاحتجاج: ص 249-254
(6) الوشيعة: ص 123(1/251)
ولاحظ في هذه الرواية ذلك الحقد الأسود ضد خير جيل عرفته البشرية ضد صحابة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حيث كنّت عنهم هذه الرواية بأنهم: "أصحاب الجرائر العظيمة من المنافقين" لأن تلك الزمرة الحاقدة التي قد أكل الغيظ قلوبها، وملأ الحقد نفوسها ضد ذلك الجيل القرآني الفريد، لم تجد في كتاب الله ما يطفئ هذا الحقد فقالت: بأن القرآن مليء بأسماء المنافقين - وتعني بهم صحابة رسول الله - وإسقاطهم من فعل المبدلين. ورواياتهم في هذا الاتجاه كثيرة.
ثم تقول تلك الرواية إنه لا يسوغ التصريح بأسماء المبدلين بسبب التقية مع أنه في نفس الكتاب رواية تقول بأن الذين غيّروا - بزعمهم - هم: أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت (1) ، وشيخهم النوري الطبرسي يزيد آخرين فيقول: "والذين باشروا هذا الأمر الجسيم هم أصحاب الصحيفة أبو بكر وعمر وعثمان أبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، واستعانوا بزيد بن ثابت" (2) .
هؤلاء هم رواد الفتح الإسلامي، والطليعة من الرعيل الأول الذين بنوا حضارة لم تعرف لها الدنيا مثيلاً، فهم قذى في عيون هؤلاء، وشجى في حلوقهم، فلهذا خصتهم هذه الزمرة بهذا الافتراء.
ثم تقول هذه الأسطورة: ولا يسوغ بحكم التقية الزيادة في آيات القرآن.
هل يعني هذا أن الخوف هو الذي قعد بهم عن إخراج مصحف مفترى وأنه لولا الخوف لفعلوا مثل هذا، وأنه يحتمل عند ارتفاع الخوف أن يفعلوا ذلك ويجاهروا به، ومع وجود الخوف قد يكون موضع التداول السري بينهم..؟!
لكن صاحب فصل الخطاب قدّم من كتب قومه أكثر من ألف "شاهد" زعم أنها آيات من كتاب الله أسقطت، واثبت تواطؤ معظم كتب الشيعة المعتمدة
__________
(1) انظر: الاحتجاج: ص 156
(2) فصل الخطاب: الورقة (73)(1/252)
على هذا، وسجل بهذا أكبر فضيحة لقومه، وكشف أكبر جريمة ارتكبتها طائفته، فهل ارتفعت التقية، مع أن في نصوصهم أن التقية ملازمة لهم حتى رجعة مهديهم (1) ، أو هو قد خالف بهذا وصية إمامه، وخطة قومه؟ إنها أوهام يضرب بعضها بعضاً، وسيأتي بعد قليل تحقيق القول في هل للشيعة مصحف سري متداول؟
ثم تذكر رواية الاحتجاج بأن علياً واصل حديثه مع الزنديق وقال بأنه بسبب ظروف التقية لا يستطيع أن يصرح بأكثر من هذا لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل.
فمعنى هذا أن الخطاب مع الزنادقة ترتفع فيه التقية، وتتم فيه المصارحة بالكفر، وأما مع المؤمنين فالتقية واجبة، فهل تريد هذه الفئة أن تجعل أمير المؤمنين من حزب هذا الزنديق يتقى صحابة رسول الله ويصارح بأمر كتاب الله الزنادقة الملحدين؟! وبعد هذا التصريح بالكفر يقول: إن الزيادة على هذا فيه تقوية لحجج أهل التعطيل، إذا كان المراد بأهل التعطيل هم أهل الإيمان من الصحب الكرام، ومن تبعهم، فلا شك أن هذا يكفي لكشف ما عليه هذه الزمرة الحاقدة، وإن كانت الأخرى فكيف يكون الكفر بكتاب الله إذن؟!
ثم تزعم هذه "الزمرة" أن علياً قال للزنديق بأنه لا يستطيع أن يعلن ذلك ويفصله "لأن الصبر على ولاة الأمر مفروض.." إن مذهب الشيعة قائم على إنكار إمامة ما سوى الاثني عشر. وهذا النص يثبت بأن هناك ولاة أمر غيرهم مفروضة طاعتهم، وهذا ينقض المذهب من أصله، ويكشف أن الوضع والافتراء لا محالة له من التناقض والاختلاف.
ومن أعظم الافتراء على أمير المؤمنين علي القول بأنه يطيع غيره في معصية الله، ويرى أن هذا الأمر مفروض!! ومن المعلوم في الإسلام أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
__________
(1) انظر: فصل التقية في هذه الرسالة(1/253)
تُطِعْهُمَا} (1) .
وهؤلاء يزعمون أن علياً وافقهم وأطاعهم في تغيير القرآن بحكم شريعة التقية، وهذا سب لعلي وتكفير له قبل أن يكون ذلك لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا ندرك أن هؤلاء أعداء لأهل البيت قبل أن يكونوا أعداء لسائر المسلمين.
ولاحظ كيف يستدل على طاعة الحاكم في الكفر بقوله سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ} فهذا يدل على أن واضع هذا النص من الجهلة؛ لأن هذه الآية تأمر بخلاف ما يدعو إليه تماماً، ونسبة هذا الاستدلال لعلي تجهيل له وافتراء عليه.
ويظهر من قوله: "وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} فإنما نزلت كل شيء هالك إلا دينه، لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء ويبقى الوجه.. إلخ" (2) . يظهر من النص أن واضعه أعجمي لا صله له بلغة العرب، ولا معرفة له بدلالات ألفاظها.. أو زنديق يتجاهل.
ثم زعم صاحب الاحتجاج أن علياً قال للزنديق بأنه "سقط أكثر من ثلث القرآن في موضع من سورة النساء، وأنه لو شرح كل ما أسقط وحرّف وبدّل مما يجري هذا المجرى لطال، وظهر ما تمنع التقية إظهاره"، وهذا من أعظم الكذب على أمير المؤمنين، بدليل أنه لم يعلن في مدة خلافته على المسلمين هذا الثلث الساقط من القرآن، ولم يأمر المسلمين بإثباته والاهتداء بهديه والعمل بأحكامه. فهؤلاء الذين يدعون التشيع لأمير المؤمنين، وينسبون له هذه الأباطيل هم بهذا أشد عداوة لأمير المؤمنين من النصاب، لأنهم ينسبون له الرضا بالكفر والإقرار به.
وهم كلما أعيتهم الحيلة لإثبات الحجة لجأوا إلى التقية، فهو هنا يستر عجزه
__________
(1) لقمان، آية: 15
(2) الخطوط العريضة: ص6(1/254)
عن شرح ما أسقِط وبُدّل، بالتعلق بالتقية، وهي حيلة مكشوفة، وفرار من المواجهة، ثم إن غيره ممن حاول أن يقدم شيئاً من النموذج الساقط بزعمه افتضح أمره، وانكشف كيده، لأن هذا "النموذج" بالنسبة لآيات القرآن أشبه ما يكون بعبث الصبيان ولعب الأطفال، وأنى لهم أن يصلوا إلى شيء من محاكاة القرآن العظيم.
هذا وما دامت شريعة هذه الزمرة تخص الزنادقة بهذه المقالات الملحدة حلول كتاب الله كما في الرواية السابقة، فهل نصدق ما قيل بأن عند المستشرق "براين" مصحفاً إيرانياً فيه زيادات على كتاب الله، ومن هذه الزيادات "سورة" يسمونها "الولاية" (1) . وهذا يعني أن عند هؤلاء القوم مصاحف سرية يتداولونها.
هل لدى الشيعة مصحف سري يتداولونه؟
هل عند الشيعة مصحف يحوي كل هذه المتفريات وتكون فيه قراءة الشيعة عوضاً عن كتاب الله سبحانه؟ ماذا تقول أساطيرهم، وماذا يقول واقعهم بهذا الخصوص؟ هل قول الشيخ محب الدين الخطيب بأن "للشيعة مصاحف خاصة تختلف عن المصحف المتداول.." (2) . هل هذا واقع؟ وقد نشر محب الدين صورة "لسورة مفتراة" يسمونها سورة "الولاية" (3) . وقال بأنها مصورة من مصحف إيراني مخطوط عند المستشرق مستر براين (4) ، وقبل ذلك أثبتها شيخ الرافضة في كتابه "فصل الخطاب" (5) . ومن قبل قال صاحب تكفير الشيعة: إنهم أحدثوا
__________
(1) انظر: الخطوط العريضة: ص11
(2) انظر: هامش "مختصر التحفة الاثني عشرية" ص 32
(3) وقد نشر صورتها في: الخطوط العريضة ص 12، ومختصر التحفة ص 31، ومجلة الفتح العدد (842) ص9، وقد نشرها قبله الشيعي الأصل الأستاذ أحمد الكسروي في كتابه: "الشيعة والتشيع"
(4) قال الشيخ محب الدين بأنه قد اطلع عليه وصورها منه من وصفه بـ"الثقة المأمون" محمد علي سعودي الذي كان - كما يقول الشيخ - كبير خبراء وزراء العدل بمصر (هامش مختصر التحفة: ص 32، الخطوط العريضة ص 11)
(5) ص 180(1/255)
مصحفاً - كما سلف -، فعل للشيعة مصحف سري يتداولونه كما يقول هؤلاء؟
سأجيب من خلال استقراء نصوصهم وأقوال شيوخهم.. فأقول: لقد جاءت نصوص عندهم تأمرهم بالعمل بالقرآن ريثما يخرج مصحفهم مع إمامهم المنتظر. قال الكليني في الكافي ما نصه: ".. عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن - رضي الله عنه - قال: قلت: جعلت فداك إنا نسمع الآيات في القرآن، ليس هي عندنا كما نسمعها، ولا نحسن أن نقرأها كما بغلنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: لا، اقرؤوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم" (1) .
ومن هذا النص نأخذ أنهم فيما بينهم يتلون مفترياتهم كما يدل عليه قوله: "كما نسمعها"، "كما بلغنا عنكم" (2) ، ثم إنهم اشتكوا أنهم لا يحسنون قراءة ما يسمعون أو ما يبلغهم فوعدهم إمامهم بأنه سيأتيهم من يعلمهم، وهذا الوعد كان في عهد إمامهم أبي الحسن - كما يفترون -. وعبارة "سيأتيكم" توحي بأن هذا المعلّم سيأتي هؤلاء الذين لا يحسنون القراءة، ولكن هذا المعلّم لم يأت ومرّ ذلك الجيل ومرت بعده قرون متطاولة.. وقد فسر شيوخ الشيعة فيما بعد المقصودَ بالمعلم بأنهم مهديهم المنتظر (3) .
والشيعة مأمورة بقراءة القرآن، وانتظر ما يأتي به منتظرهم وعدم قراءة تلك المفتريات لأنهم لا يحسنون قراءتها كما يدل النص المذكور، وبالتالي لا تجعل
__________
(1) أصول الكافي: 2/619
(2) وهناك روايات كثيرة تزعم أن أئمتهم يقرأون بغير ما في القرآن، كما جاء في تفسيرات فرات "عن حمران قال: سمعت أبا جعفر يقرأ هذه الآية: "إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمد على العالمين" قلت: ليس يقرأ كذا، قال: أدخل حرف مكان حرف" (تفسير فرات ص 18، بحار الأنوار: 92/56) ومثله نصوص كثيرة تدل على أنهم ينسبون للأئمة أنهم يقرأون بغير ما أنزل الله، وبخلاف ما يقرأ المسلمون، فهل هؤلاء شيعة لأهل البيت؟!
(3) انظر: المازندراني / شرح جامع (على الكافي) : 11/47، وهناك نصوص كثيرة للرافضة تصرح بأنه القائم أو المهدي كما سنذكر بعد قليل(1/256)
في مصحف متداول بينهم، هذا ما تدل عليه رواية الكافي.
ويقول مفيدهم: "إن الخبر قد صح من أئمتنا - عيلهم السلام - أنهم أمروا بقراءة ما بين الدفتين، وأن لا نتعداه، بلا زيادة فيه ولا نقصان منه، حتى يقوم القائم -عليه السلام - فيقرأ الناس القرآن على ما أنزله الله تعالى وجمعه أمير المؤمنين - عليه السلام -" (1) .
وقال شيخهم نعمة الله الجزائري: "قد روي في الأخبار أنهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود من القرآن في الصلاة وغيرها والعمل بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء، ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين فيقرأ ويعمل بأحكامه" (2) . فمادام الأمر كذلك، لماذا تروى عن كل إمام طائفة من الزيادات على كتاب الله؟ ثم ما دام قد غير كيف يصبح العمل به؟!
وهذه النصوص التي تدعو إلى العمل بالقرآن يكاد يقابلها نصوص أخرى تدعو بأسلوب "مقنع" وغير صريح إلى إهمال حفظ القرآن لأنه مغير - بزعمهم - ومن حفظه على تحريفه يصعب عليه حفظه إذا جاء به منتظرهم. فقد روى مفيدهم بإسناده إلى جابر الجعفي عن أبي جعفر أنه قال: إذا قام قائم آل محمد صلى الله عليه وآله ضرب فساطيط، ويعلم الناس القرآن على ما أنزل الله عز وجل، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف (3) .
هذه الرواية لمفيدهم الذي يقدسونه ويعظمونه حتى زعموا أنه فوق مستوى البشر، لأن إمامهم المنتظر خاطبه بالأخ السديد والمولى الرشيد (4) .
__________
(1) بحار الأنوار: 92: 74
(2) الأنوار النعمانية: 2/363-364
(3) المفيد/ الإرشاد: ص413
(4) مقدمة الكتاب التي أحالت نصوص مخاطبة المهدي لمفيدهم، لكتاب الاحتجاج ص277(1/257)
وهذه الرواية جاءت في كتابه الإرشاد وهو في قمة كتبهم المعتبرة حتى قال شيخهم المجلسي: "كتاب الإرشاد أشهر من مؤلفه" (1) . وكذلك روى النعماني في الغيبة ما يشبه الرواية السابقة، فقد روى بإسناده (الكاذب) إلى أمير المؤمنين علي قال: "كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلمون الناس القرآن كما أنزل، قلت: يا أمير أو ليس هو كما أنزل؟ فقال: لا، محي منه سبعون من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، وما ترك أبو لهب إلا إزراء على رسول الله - صلى الله عليه وآله - لأنه عمه" (2) .
وأورد النعماني روايتين (3) . بمعنى هذه الرواية.
ويبدو أن واضع هذه الأسطورة هو أعجمي زنديق، فهو يخص العجم بأسطورة التعليم الموعودة، كما أن الحقد المرير الذي يحمله إزاء صحابة رسول الله - رضوان الله عليهم - الذين فتحوا ديار قومه ونشروا الإسلام بينهم واضح في هذه الرواية، ولذلك فإن دعوى التغيير عنده تكمن في عدم وجود أسمائهم مع اسم أبي لهب.
ولقد كان لهذه الأساطير التي تدعو إلى إهمال حفظ كتاب الله أثرها في مجتمعات الشيعة كما شهد بذلك الشيخ موسى جار الله والذي عاش بين الشيعة فترة من الزمن فلم ير من تلاميذ الشيعة وعلمائهم من يحفظ القرآن، ولا من يقيم القرآن بعض الإقامة بلسانه فضلاً عن أن يعرف وجوه قراءاته، ورأى أن هذا قد يكون من أثر انتظار الشيعة مصحف علي الذي غاب بيد قائم آل محمد (4) .- فهل يقوم الشيعة بجمع أساطيرهم في مصحف ليسهل
__________
(1) المجلسي/ بحار الأنوار: 1/27
(2) النعماني/ الغيبة ص 171- 172، فصل الخطاب الونرقة (7) ، بحار الأنوار: 92/60
(3) انظر: الغيبة ص 194، بحار الأنوار: 25/364
(4) الوشيعة: ص 116، وقد جاءت نصوص أخرى عندهم تدعو لتعلم هذا القرآن وحفظه، وتذكر ثواب من فعل ذلك؛ كقول أبي جعفر لأحد أصحابه ويدعى سعد الخفاف: "يا سعد، تعلموا القرآن.." (أصول الكافي: 2/596) . وعقد صاحب الكافي باباً بعنوان: "باب من حفظ القرآن ثم نسيه" وذكر فيه ست روايات تتحدث عن الثواب الذي يضيع على من نسي شيئاً =(1/258)
حفظ المصحف الموعود حين ظهوره؟ يقول المجلسي نقلاً عن المفيد:
".. نهونا عليهم السلام عن قراءة مما وردت به الأخبار من أحرف يزيد على الثابت في المصحف، لأنه لم يأت على التواتر وإنما جاء بالآحاد، وقد يلغط الواحد فيما ينقله، ولأنه متى قرأ الإنسان بما يخالف ما بين الدفتين غرر بنفسه مع أهل الخلاف، وأغرى به الجبارين، وعرض نفسه للهلاك، فمنعونا عليهم السلام من قراءة القرآن بخلاف ما يثبت بين الدفتين لما ذكرناه" (1) .
فهذا يعني أن (الآيات المفتراة) والمتفرقة في كتبهم، والمخالفة لكتاب الله لم تصل عندهم إلى وضعها في مصحف متداول بينهم لسببين: أحدهما: الخوف من المسلمين، والآخر: أن الطريق لثبوتها عندهم طريق آحاد، والواحد قد يغلط فيما ينقله، ويلاحظ أن عدم قبول الروايات التي طريقها أحاد مما يختص به "الأصوليون"، أما الأخباريون من الشيعة فإنهم يرون صحة ما رواه شيوخهم عن الأئمة في العشرات من الكتب التي صنفوها، وتواترها وثبوتها عن مؤلفيها، وثبوت
__________
= من كتاب الله (أصول الكافي: 2/607-609) وعقد باباً آخر بعنوان "باب في قراءته" وفيه عن أبي عبد الله قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية" (المصدر السابق: 2/609) .
كما عقد باباً بعنوان: "باب البيوت التي يقرا فيها القرآن" وجاء فيه: "عن ليث بن أبي سليم رفعه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: "نوروا بيوتكم بتلاوة القرآن ولا تتخذوها قبوراً" (المصدر السابق: 2/610) .
وكذلك ذكر من الأبواب "باب ثواب قراءة القرآن" وجاء فيه سبع روايات تتحدث عن عظيم ثواب من قرأ القرآن وتعلمه.. (المصدر السابق: 2/611-613) وباب قراءة القرآن في المصحف، وذكر فيه خمس روايات تبين ثواب القراءة في المصحف (المصدر السابق: 2/ 613-614) .
وأبواب أخرى في هذا الموضوع، وهذه تنقض تلك الروايات، بل تثبت من كتبهم زيف وكذب ما يفترونه على آل البيت من تلك "الأكاذيب" إذ كيف يأمرون بقراءة القرآن، ويذكرون الثواب العظيم لمن قرأه، وأنه ينبغي للمسلم أن يقرأه في كل يوم، وأن ينور بيته به. وهو يقولون: إنه مغير مبدل، ألي هذا يدل على عظيم التناقض في هذا المذهب؟!
(1) بحار الأنوار: 92/74 - 75(1/259)
أحاديثها عن أهل العصمة" (1) .
فهم يقرون بكل نص ورد في هذه "الفرية" في كتب شيوخهم، ولذلك قال شيخ الشيعة الذي يصفونه بـ"إمام الفقهاء العظام رئيس الإسلام" جعفر كاشف الغطا: "وصدرت منهم - يعني من الأخباريين - أحكام غريبة وأقوال منكرة، منها قولهم بنقص القرآن مستندين إلى روايات تقضي البديهة بتأويلها وطرحها.." (2) .
إذن الأخباريون يرون ثبوت هذه الأساطير في كتب شيوخهم (ولك أن تعجب كيف يؤمنون بكل حرف ورد في هذه الكتب المنسوبة لشيوخهم، والمنكرة في أسانيدها ومتونها، ويشكون في كتاب الله سبحانه؟! يصدقون بالأكاذيب الواضحة، ويكذبون بالحقائق الثابتة، فأي عقوبة أعظم من هذا المسخ، والانتكاس في الفطر والعقول والمقاييس.
وعلى ذلك فإن مسألة رد هذه الروايات لأنها أخبار آحاد مما لم يتفق عليه الشيعة، وأن السبب المانع الذي يتفق عليه الجميع هو الخوف، ومعنى هذا أن مسألة التداول السري لمصحف مفترى من الإخباريين أمر وارد، ولعل هذا يفسر ما نشره محب الدين الخطيب وأحمد الكسروي (الشيعي الأصل) من صورة "لسورة" تسمى الولاية مأخوذة من حصف إيراني" (3) .
ولكن هذا يبقى مجرد جمع لتلك المفتريات، التي جاءت عندهم كأمثلة لما في مصحف علي المزعوم، أما مصحف علي فهو غائب منتظر، كالمهدي المنتظر عندهم،
__________
(1) وسائل الشيعة: 20/61
(2) جعفر كاشف الغطا/ حق المبين عن: الطباطائي/ الأنوار النعمانية (الهامش) 2/359
(3) وهذه المفتريات جمعها صاحب فصل الخطاب ورتبها على سور القرآن ولكن ليست كهيئة مصحف، وقد وصلني مصحف من باكستان طبعه الشيعة وقد حشاه طابعه بتلك المفتريات، ولكن لم تمتد أيديهم إلى الأصل، فقد طبع كطبعة تفسير الجلالين حيث وضع نص القرآن في الوسط، والتفسير في الحواشي(1/260)
لم يخرج إلى الآن، والعمل بالقرآن إلى أن يظهر، ولكن جمع هذه المفتريات هو محاولة لإقناع المتشككين والحائرين من بني قومهم. والذي لاحظته من كلام شيوخهم أن قولهم بموجود مصحف لعلي أمر لا يختلفون فيه، حتى ليقول بذلك من يتظاهر بإنكار التحريف من القدامى والمعاصرين كابن بابويه القمي في الاعتقادات كما سيأتي نص كلامه، والخوئي في البيان (1) .
لكن يبقى القول في زيادة مصحف علي المزعوم عما في كتاب الله وهل هي زيادة في النص أو من قبيل التأويل أو الترتيب؟ كما سيأتي.
مصحف علي:
تقدم الإشارة إلى أن مصحف علي "المزعوم": جاء الحديث عنه في أول كتاب وضعه الشيعة، وأنه قد جاءت بعض الروايات عنه عند أهل السنة ولكنها كما قال ابن حجر لا تصح، ولكن ما في كتب الشيعة صورة أخرى - كما سلف - وقد أكثر القوم من الحديث عن مصحف علي المزعوم والذي يحتوي - كما يزعمون - على زيادات على كتاب الله.
وقد اهتم بإشاعة هذه الفرية الكليني ثقة دينهم في كتابه الكافي وعقد لها باباً خاصاً بعنوان: "باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام" وذكر فيه ست روايات لهم، منها ما رواه عن جابر الجعفي إنه سمع أبا جعفر يقول: "ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده" (2) .
__________
(1) البيان: ص 223
(2) أصول الكافي: 1/228، لاحظ أن هذه الرواية رواها جابر الجعفي وهو كذاب عن أهل السنة، كما أن كتب الشيعة اعترفت بأنه ليس على صلة معروفة بأبي جعفر (انظر: رجال الكشي ص191) فهذه الرواية من أكاذيبه، وتلقفها الكليني الذي يعمل إشاعة هذا الكفر.
وإذا كان لم يجمع القرآن إلا علي فأين ما جمعه؟ وإذا كان قد جمعه علي فما الحاجة لجمع =(1/261)
وفي تفسير القمي - عمدة كتب التفسير عندهم - عن أبي جعفر - رضي الله عنه - قال: "ما أحد من هذه الأمة جمع القرآن إلا وصي محمد صلى الله عليه وآله" (1) .
ويفهم من رواية الكليني أن كل إمام جمع القرآن، وكأننا أمام كتب متعددة لا كتاب واحد، بينما تعارضها رواية القمي وتذكر بصيغة الحصر أنه لم يجمعه سوى علي، ثم هم يقولون في رواياتهم وأبوابهم: من ادعى أنه جمع القرآن غير الأئمة فهو كذاب. مع أنهم زعموا أن القرآن كان مدوناً مجموعاً من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ويستدلون على هذا برواية جاءت في البحار (2) . فهل كان الحسن والحسين وبقية الأئمة هم الذين يتولون جمعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وتذكر بعض هذه الأساطير أن بعض الشيعة اطلع على هذا المصحف المزعوم فتقول: ".. عن ابن الحميد قال: دخلت على أبي عبد الله - رضي الله عنه- فأخرج إليّ مصحفاً، قال: فتصفحته فوقع بصري على موضع منه فإذا فيه مكتوب: "هذه جنهم التي كنتم بها تكذبان. فاصليا فيها لا تموتان فيها ولا تحييان" قال المجلسي: "يعني الأولين" (3) . يعنون حبيبي رسول الله، وصهريه وخليفتيه ووزيريه، وأفضل الخلق بعد النبيين أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -.
وإذا كانت هذه الرواية تسمح لخواص الأئمة بالاطلاع على ذلك المصحف
__________
= الأئمة من بعده؟ إلا إذا كانوا يرون أنهم قد شاركوا في الجمع وهم لم يوجدوا.
ولماذا لم ير هذا الكتاب المجموع ولم يعرفه أحد من المسلمين؟
وكيف يصدق مثل هذا الإفك الذي نقله شرذمة من الكذابين وينكر إجماع الصحابة بما فيهم علي - رضي الله عنه - على العمل بهذا القرآن العظيم وتحكيمه وعلى نهجهم أئمة المسلمين بما فيهم علماء أهل البيت؟ إنها خرافات لا يصدقها عقل بريء من الهوى والغرض، ولا تدخل قلباً خالطته بشاشة الإيمان
(1) تفسير القمي: ص 744 ط: إيران، بحار الأنوار: 92/48
(2) انظر: المرعشي/ المعارف الجلية: ص7
(3) بحار الأنوار: 92/48(1/262)
المزعوم، فإن في الكافي رواية أخرى تخالف ذلك حيث جاء فيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إليّ أبو الحسن مصحفاً وقال: "لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه: لم يكن الذين كفروا؛ فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم قال: فعبث إليّ: ابعث بالمصحف" (1) .
ففي هذه الرواية: الإمام يستودع المصحف أحد خواصه ويحظر عليه النظر فيه، ولكن يخالف أمر إمامه، ويخونه فيما استودعه ويقرأ في هذا المصحف، ويكشف بعض محتوياته. فهذا المصحف الذي تتحدث عنه هذه الرواية مصحف سري محجوب عن الخاص والعام لا يطلع عليه سوى الإمام، وهو يشير إلى أن من موضوعاته تكفير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ليس كتاب الله الذي نزل للناس كافة، والذي أثنى على الصحابة في جمل من آياته.. بل هو مصحف تتداوله الأيدي الباطنية بصفة سرية وتنسب بعض أخباره لأهل البيت لتسيء إليهم.
وهذه الأسطورة أراها تعرض مرة أخرى بصيغة مغايرة لتلك الرواية السابقة، حيث جاء في بصائر الدرجات عن البزنطي (2) . أن الرضا عليه السلام أودع عنده ذلك المصحف المزعوم فقال هذا البنزنطي: وكنت يوماً وحدي ففتحت المصحف لأقرأ فيه، فلما نشرته نظرت فيه في "لم يكن" فإذا فيها أكثر مما في أيدينا أضعافه، فقدمت على قراءتها فلم أعرف شيئاً فأخذت الدواة والقرطاس فأردت أن أكتبها لكي أسأل عنها، فأتاني مسافر قبل أن أكتب منها شيئاً، معه منديل وخيط وخاتمه فقال: مولاي يأمرك أن تضع المصحف في المنديل وتختمه
__________
(1) أصول الكافي: 2/631
(2) البزنطي هو نفسه الراوي للأسطورة السابقة، وهذا الذي يروي هذه الأساطير، ويفتري على كتاب الله وعلى الصحابة والقرابة، هو ثقة عندهم (مع أنه قد خان إمامه وخالف أمره) . جاء في معجم رجال الحديث للخوئي: "أحمد بن محمد بن أبي نصر زيد مولى السكوني أبو جعفر، وقيل: أبو علي المعروف بالبزنطي، كوفي ثقة لقي الرضا، وكان عظيم المنزلة عنده، روى عنه كتاباً، ومات سنة 221هـ".
(معجم رجال الحديث: 2/231)(1/263)
وتبعث إليه بالخاتم، قال: ففعلت (1) .
هذا البزنطي يقول في هذه الرواية: لم أعرف منها شيئاً، وفي الرواية التي قبلها يقول إنه وجد فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم!!
وتأتي رواية أخرى له في رجال الكشي لتصوغ هذه الأسطورة بصورة ثالثة فتقول: "عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: لما أتي بأبي الحسن رضي الله عنه أخذ به على القادسية، ولم يدخل الكوفة، أخذ به على برّاني البصرة، قال: فبعث إليّ مصحفاً وأنا بالقادسية ففتحته فوقعت بين يديّ سورة "لم يكن" فإذا هي أطول وأكثر مما يقرأها الناس، قال فحفظت منه أشياء قال: فأتى مسافر ومعه منديل وطين وخاتم فقال: هات: فدفعته إليه فجعله في المنديل، ووضع عليه الطين وختمه فذهب عني ما كنت حفظت منه، فجهدت أن أذكر منه حرفاً واحداً فلم أذكره" (2) .
هذه روايات ثلاث كلها عن هذا البزنطي في رواية بصائر الدرجات يزعم أنه لم يفهم شيئاً مما قرأ وحاول أن يكتب ما قرأ فاستعجله رسول إمامه قبل أن يكتب، وفي رواية الكشيء يزعم أنه حفظ جزءاً مما قرأ، ولكن هذا المحفوظ فارقه بمفارقة المصحف، وفي رواية الكافي نراه يعرف ما قرأه ويستذكر ما حفظ، وأن ذلك يتعلق بأعداء الأئمة من قريش. نصوص متناقضة كالعادة في كل أسطورة.
وإذا كان يصعب كتابة شيء منه، أو حفظ جزء منه، فكيف حفظت وكتبت تلك "الأساطي"؟ أنها أوهام يناقض بعضها بعضاً.
وروايات الشيعة تقول بأن هذا المصحف عند إمامهم المنتظر. قال شيخهم نعمة الله الجزائري: "إنه قد استفاض في الأخبار أن القرآن كما أنزل لم يؤلفه إلا أمير المؤمنين - إلى أن قال: -وهو الآن موجود عند مولانا المهدي رضي الله عنه
__________
(1) بصائر الدرجات: ص 246، عن بحار الأنوار: 92/51
(2) رجال الكشي: ص 588-589(1/264)
مع الكتب السماوية ومواريث الأنبياء" (1) ، ومع ذلك فقد ارتبطت مصاحف قديمة عند الشيعة أيضاً بعقيدة أنها مكتوبة بخط علي، ويذكر ابن النديم - وهو شيعي - أنه رأى قرآناً بخط علي يتوارثه بيت من البيوت المنتسبة للحسن (2) .
ويشير ابن عنبة - وهو ممن يدعي النسب العلوي - إلى وجود مصحفين بخط أمير المؤمنين علي، أحدهما يقع في ثلاثة مجلدات، والآخر يقع في مجلد واحد، قد رآه بنفسه، ولكنهما احترقا - كما يذكر - حين احترق المشهد (3) .
وقال أبو عبد الله الزنجاني - من كبار شيوخ الشيعة المعاصرين -: ورأيت في شهر ذي الحجة سنة 1353هـ في دار الكتب العلوية في النجف مصحفاً بالخط الكوفي كتب على آخره: كتبه علي بن أبي طالب في سنة أربعين من الهجرة (4) ، ولهذا قال ميرزا مخدوم الشيرازي - وهو ممن عاش بين الشيعة، وقرأ الكثير من كتبها كما سلف - قال: "ومن الطرائف أنهم مع هذا (أي مع ما يدعونه من التحريف) يعتقدون في مصاحف كثيرة كونها مكتوب علي والأئمة من ولده، وليس فيها إلا ما في سائر المصاحف المتواترة والتي لا تحصى كثرة (5) .
كما أن هذه المشاهدات المزعومة لمصحف علي، تناقض دعواهم أن المصحف الذي كتبه علي عند مهديهم المنتظر.
ولاشك بأن أمير المؤمنين علي ما كان يقرأ ويحكم إلا بالمصحف الذي أجمع عليه الصحابة، وهذا ما تعترف به كتب الشيعة نفسها - كما سلف (6) .- ولهذا أخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي:
__________
(1) الأنوار النعمانية: 2/360-362
(2) الفهرست: ص28
(3) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: ص 130-131
(4) الزنجاني/ تاريخ القرآن: ص67-68
(5) النواقض: الورقة 104 (مخطوط)
(6) انظر: ص (203)(1/265)
"لا تقولوا في عثمان إلا خيراً، فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا" (1) . وقد نقلت ذلك كتب الشيعة كما سيأتي بعد قليل. وقد جاء في صحيح البخاري بأن أمير المؤمنين عثمان - حين جمع القرآن - أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق (2) . ولعل هذا ينفي وجود مصحف بخط علي - كما يدعون -.
ويلاحظ أن من بين القراء المشهورين ما يرجع سند قراءته إلى أئمة أهل البيت، ولهذا استدل الدكتور عبد الصبور شاهين على براءة أهل البيت، وزيف ادعاءات الشيعة أن من بين القراء السبعة المشهورين حمزة الزيات، وسند قراءته هو: حمزة الزيات، عن جعفر الصادق، وهو قرأ على محمد الباقر، وهو قرأ على زين العابدين، وهو قرأ على أبيه الحسين، وهو قرأ على أبيه علي بن أبي طالب -كرم الله وجه - (3) ، فهؤلاء الأبرار من آل البيت لم يخرجوا على إجماع المسلمين على المصحف الإمام، وآية رضاهم به، إقراؤهم الناس بمحتواه دون زيادة أو نقص أو ادعاء يمس كمال كتاب الله سبحانه (4) .
وقال الدكتور محمد بلتاجي: "ونضيف إلى ذلك أن قراءة علي بن أبي طالب للقرآن قد رويت أيضاً بطريق زيد بن علي أخي الإمام الباقر وعم الإمام الصادق- وهذا ما يسلم به الإمامية الاثنا عشرية أنفسهم -" (5) .
قلت: أضيف - أيضاً - إقراراً واعترافاً آخر من شيخ الشيعة المجلسي حيث يقول: "والقراء السبعة إلى قراءته (يعني قراءة علي) يرجعون، فأما حمزة والكسائي
__________
(1) فتح الباري: 13/18
(2) صحيح البخاري - مع فتح الباري: 13/11
(3) عبد الصبور شاهين/ تاريخ القرآن: ص 170
(4) عبد الصبور شاهين/ تاريخ القرآن: ص 165
(5) مناهج التشريع الإسلامي: 1/189، وأحال في هذا الاعتراف إلى كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: ص 285، 343، والفهرست للطوسي ص 115(1/266)
فيعولان على قراءة علي.. وأما نافع وابن كثير وأبو عمرو فمعظم قراءاتهم يرجع إلى ابن عباس، وابن عباس قرأ على أبي بن كعب وعلي، والذي قرأ هؤلاء القراء يخالف قراءة أبي فهو إذاً مأخوذ عن علي - عليه السلام -.
وأما عاصم فقراه على أبي الرحمن السلمي وقال أبو عبد الرحمن: قرأت القرآن كله على علي بن أبي طالب عليه السلام، فقالوا: أفصح القراءات قراءة عاصم لأنه أتى بالأصل وذلك أنه يظهر ما أدغمه غيره، ويحقق من الهمز ما لينه غيره.. والعدد الكوفي في القرآن منسوب إلى علي عليه السلام وليس في الصحابة من ينسب إليه العدد غيره، وإنما كتب عدد ذلك كل مصر عن بعض التابعين" (1) .
بل يقولون - كما ذكره شيخهم علي بن محمد الطاووسي العلوي الفاطمي في كتابه سعد السعود: "ثم عاد عثمان فجمع المصحف برأي مونا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -" (2) . يقولون: وقال علي أيضا: "أيها الناس الله الله إياكم والغلو في أمر عثمان وقولكم حراق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3) . بل قالوا أكثر من ذلك، قالوا: إنه ورد عن أهل البيت عليهم السلام أن عثمان بن عفان لما رأى اختلاف الصحابة في قراءة القرآن طلب من علي عليه السلام مصحف فاطمة الذي كانت هي - سلام الله عليها - دونته بإشارة أبيها، وطابقه مع المصاحف الأخرى التي كانت بيد الصحابة، فما طابق منها مصحف فاطمة نشره وما لم يطابقه أحرقه. فعلى هذا يكون المصحف الذي بأيدينا مصحف فاطمة لا مصحف عثمان، وعثمان كان ناشره لا مدونه ومرتبه (4) .
أليس هذا كله ينقض كل ما ادعوه، ويهدم كل ما بنوه.. وهو دليل على اختلاف
__________
(1) بحار الأنوار: 92/ 53-54، مناقب آل آبي طالب: 2/ 42-43
(2) عن تاريخ القرآن/ للزنجاني (وهو من الاثني عشرية المعاصرين) : ص67
(3) عن تاريخ القرآن/ للزنجاني: ص 68
(4) المرعشي/ المعارف الجلية: ص 27(1/267)
أخبارهم وتناقضها، والتناقض أمارة بطلان المذهب.
ويبدو من خلال النص الأخير أن ذلك محاولة منهم للرجوع عن تلك المقالة بعدما جلبت عليهم العار، وأورثتهم الذي والشماتة، وضرت مذهبهم ولم تنل من كتاب الله شيئاً، لكن الرجوع عن هذه المقالة يوقعهم في تناقض آخر وهو أن هذا القرآن العظيم وصل إلينا عن طريق أبي بكر وعثمان وإخوانهم، وهؤلاء لهم في مذهب الشيعة النصيب الأوفى من اللعن والتكفير، وكيف يجتمع حينئذ في قلب واحد وعقل واحد الاعتقاد بسلامة القرآن وخيانة جامعيه، ولعلهم وضعوا المقالة الأخيرة التي تقول إن عثمان قابل القرآن على مصحف فاطمة المزعوم، وضعوها للخروج من هذا المأزق، ولكن هذا يوقعهم في تناقض ثالث وهو مخالفة أخبارهم التي تقول إن مصحف فاطمة غير القرآن - كما سيأتي - (1) . والثابت عن عثمان أنه أرسل إلى حفصة "أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف.. إلخ" (2) .
وهؤلاء جعلوا ذلك لفاطمة كعادتهم في نسبة فضائل الأنبياء، والصحابة إلى الاثني عشر، عن طريق تحوير الأحاديث، وصياغتها في كتبهم وتركيبها على الأئمة، أما في آيات القرآن فطريق ذلك التأويل الباطني أو دعوى التحريف، كما رأينا.
حجم أخبار هذه الأسطورة في كتب الشيعة ووزنها عندهم:
لقد رأينا أن معظم كتب الشيعة انغمست في هذا المستنقع الآسن، وسقطت في تلك الهوة الخطيرة، فما مقدار هذا السقوط وما مستواه؟ هل تلك الروايات السوداء التي وجدت طريقها إلى كتب القوم، وتسللت إلى مراجعهم الحديثية لتكسو من يركن إليها ثوباً من الخزي والعار، وتسلب من يده آخر علاقة له بالإسلام.. هل تلك الروايات مجرد روايات شاذة مندسة في كتب القوم لم
__________
(1) انظر الحديث عن فاطمة في مبحث (الإيمان بالكتب)
(2) انظر: صحيح البخاري - مع فتح الباري -: 13/11(1/268)
تحظ برضى عقلائهم، ولا قبول محققيهم، وأنها قد تسربت إلى كتب هؤلاء، لأن الكذابين على الأئمة - كما تقول كتب الشيعة - قد كثروا في صفوف الشيعة، وكان التشيع مطية لكل من أراد الكيد للإسلام وأهله، كما أثبتته الأحداث والوقائع؟
قد لاحظنا أن هذه الأسطورة بدأت بروايتين اثنتين في كتاب سليم بن قيس حسب النسخة المطبوعة التي بين أيدينا، وما لبثت أن أخذت بعداً أكبر وزادت أخبارها. وقد تولى كبر هذه الفرية ووزر هذا الكفر شيخ الشيعة علي بن إبراهيم القمي، فقد أكثر من الروايات في هذا الباب، ونص في مقدمته على أنها كثيرة، وبدأت عنده محاولة التطبيق العملي لهذه الخرافة كما سبق. ويلاحظ أن معظم روايات الكليني صاحب الكافي هي عن هذا القمي الذي تلقف هذه الروايات عن كل أفاك أثيم وسجلها في تفسيره الذي يحظى بتقدير الشيعة كلها (1) ، وقد قال الذهبي وابن حجر عن تفسيره هذا: "وله تفسير فيه مصائب" (2) .
كانت دوائر الغلاة في القرن الثالث تعمل على الإكثار من صنع الروايات في هذا حتى أن شيخهم المفيد الذي يلقبونه بركن الإسلام وآية الله الملك العلام والمتوفى سنة (413هـ) يشهد باستفاضتها عند طائفته (الاثنا عشرية) يقول: "إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان" (3) .
هذه الاستفاضة هي ثمرة الوضع والكذب على أهل البيت والذي نشط في القرن الثالث على يد شرذمة من شيوخهم.
ولو كان عند أهل البيت شيء لقرؤوا به دون ما سواه، ولأخرجوه للناس ولم يسعهم كتمانه. ولكن أهل البيت باعتراف الشيعة لم يقرؤوا إلا بكتاب الله،
__________
(1) انظر مقدمة الرسالة
(2) انظر: ميزان الاعتدال: 3/111، ولسان الميزان: 4/191
(3) أوائل المقالات: ص 98(1/269)
فعلم براءتهم من هذا الافتراء.. وثبت أن ديناً يستفيض فيه الباطل باطل.
هذا والمفيد يقول باستفاضة هذا الكفر بين طائفته، رغم أن شيخه ابن بابويه يقول: إن من نسب إلى الشيعة مثل هذا القول فهو كاذب - كما سبق (1) .- وسلالة أهل البيت (الشريف المرتضى وهو من معاصري المفيد بل من تلامذته يقول: إن أخبارهم في هذا لا يعتد بها، لأنها أخبار ضعيفة لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته) (2) . فهل كل شيخ من هؤلاء يمثل ومدرسة ونحلة والتشيع يجمعهم، أو هم يتلونون تلون الحرباء بحكم التقية، أو أنهم قد أحكموا خطتهم، وأزمعوا أمرهم على أن يظهر منهم حسب المناسبات والظروف صوتان مختلفان متعارضان حتى لا يتمكن أحد من الوقوف على حقيقة المذهب؟!
ولهذا نجد أيضاً في القرن السادس ظهور الطبرسي صاحب التفسير وإنكاره هذه المقالة كما سيأتي، ومعاصره الطبرسي الآخر صاحب الاحتجاج يصرح بهذا الكفر ويروي فيه عشر روايات، ويرى أن ما ذكره هو محل إجماع أو اشتهار بين طائفته كما سلف.
أم أن الوضع لهذا الروايات إنما وقع في العصور المتأخرة ونسب لشيوخهم القدامى ليحظى بثقة الأتباع الأغرار؟ سيأتي إن شاء الله دراسة هل الإنكار تقية أو حقيقة؟.. هذا وفي ظل الدولة الصفوة كثر الوضع الأخبار هذه الأسطورة فتجاوزت مرحلة ما سجله القمي أو الكليني، أو المفيد، أو فرات الكوفي، وغيرهم من شيوخهم في القرن الثالث والرابع تجاوزت الحجم الذي سجلته هذه الزمرة إلى درجة أن شهد شيخهم المجلسي صاحب بحار الأنوار بأن أخبارهم في هذا أصبحت تضاهي أخبار الإمامة؛ يقول: "وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأساً؛ بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة" (3) .
هذه شهادة من المجلسي المتوفى سنة (1111هـ) على تضخم أخبار هذه الأسطورة، والتي كانت مجرد روايتين
__________
(1) انظر: ص (218-219)
(2) انظر: مجمع البيان: 1/31
(3) مرأة العقول: 2/536(1/270)
في كتاب سليم بن قيس، وكانت عند ابن بابويه القمي المتوفى سنة (381هـ) لا تكاد توجد حتى قال: إن من نسب للشيعة مثل هذا القول فهو كاذب، وشيخ الشيعة الطوسي أنكر نسبة هذا إلى الشيعة (1) ، وقد أرهق نفسه النوري الطبرسي صاحب فصل الخطاب ليجد وسيلة يتخلص بها من كلام الطوسي فقال: "والطوسي في إنكاره (يعني لتحريف القرآن) معذور لقلة تتبعه الناشئ من قلة تلك الكتب عنده" (2) .
وهذا الاعتذار لا يمكن أن يوافق عليه صاحب فصل الخطاب الذي يصر على أن يجعل كل الشيعة على مذهبه في القول بتحريف القرآن، ذلك لأن الطوسي هو شيخ الشيعة في زمنه، وهو مؤلف كتابين من كتبهم الأربعة المعتمدة في الحديث، وكتابين من كتبهم المعتمدة في الرجال، فلا يتصور أن يوصف بقلة التتبع، أو بقلة الكتب عنده، كما يقول هذا الطبرسي. بل نحن نأخذ منقول الطوسي هذا شهادة هامة أو وثيقة تاريخية تثبت أن الوضع لهذه الأسطورة لم يتسع ويصل إلى هذا المستوى الموجود اليوم إلا في ظل الحكم الصفوي، ولا يستبعد أن تضاف روايات من هذه الروايات إلى شيوخهم القدامى لخدمة هذه الأسطورة، ولاسيما والشواهد قائمة على أن الكذب في الشيعة كثير، كما تشهد بهذا كتب أهل السنة وتقر بذلك كتب الشيعة نفسها - كما سيأتي - (3) .
هذا وشهادة شيوخ الدولة الصفوية بكثرة هذه الأخبار في زمنهم كثيرة، فكما شهد المجلسي يشهد شيخهم الآخر نعمة الله الجزائري وهو من معاصري المجلسي، ومن تلامذته (4) . وموضع ثقة الشيعة وتقديرهم (5) . يقول: "إن الأخبار
__________
(1) انظر: تفسير التبيان: 1/3
(2) فصل الخطاب الورقة 175 (النسخة المخطوطة)
(3) انظر: فصل "اعتقادهم في السنة"
(4) أشار إلى ذلك في الأنوار النعمانية: 4/232
(5) انظر: ص (202) من هذه الرسالة(1/271)
الدالة على ذلك تزيد على ألفي حديث" (1) ، كما أنه يضع أساطيره، وكتاب الله سبحانه في كفة ميزان، ويرى أن القول بسلامة القرآن يؤدي إلى انعدام الثقة في أخبارهم فيقول - وهو يرد على شيوخهم المتقدمين - في قولهم بتواتر القراءات السبع.. يقول: "إن تسليم تواترها عن الوحي الإلهي، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة، بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن" (2) .
يعني والمحافظة على حرمة وسلامة أخباره وأساطيره أولى من القول بصيانة القرآن وحفظه! وهذا هو نفس ما قاله شيخهم المجلسي حينما قال - كما مر -: "وطرح جميعها (يعني جميع أخبار التحريف) يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأساً".
هذا هو الخيار الصعب في نظر هذه الزمرة، هل تفقد أخبارها وبها قوام دينها، ومنها تقتات رزقها باسم الخمس، وبها تستمد قداستها باسم النيابة عن الإمام أتخسر كل هذه المكاسب التي تجنيها.. أم تقول بتغير القرآن فتجني تكفير المسلمين لها، وصعوبة التبشير بدينها، وتقلص أتباعها وضمور مكاسبها من بعد ذلك؟ إنه خيار صعب أمام هؤلاء (الشيوخ) .. هل يخرجون منه بالظهور أمام الناس بوجهين وقولين أو يرجعون إلى التقية والكتمان، أو يراعون الظروف والمناسبات والأجواء؟
الملاحظ أن شيوخ الدولة الصفوية هم أجرأ على التصريح بهذا الكفر بحكم ووجود قوة تسندهم فتخف التقية لديهم، ولهذا كثرت أقوالهم بتواتر هذا الكفر عندهم حتى زعم شيخهم أبو الحسن الشريف وهو من تلامذة المجلسي بأنه: "يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع" (3) .
وقال ثقتهم محمد صالح المازندراني (ت1081هـ) : ".. وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى كلما يظهر لمن تأمل كتب الأحاديث
__________
(1) انظر: فصل الخطاب، الورقة 125 (النسخة المخطوطة) وص 251 من المطبوعة
(2) الأنوار النعمانية: 2/ 356-357
(3) مرآة الأنوار: ص49(1/272)
(يعني كتب أحاديثهم) من أولها إلى آخرها" (1) .
ويقول شيخهم محسن الكاشاني: "المستفاد.. من الروايات من طريق أهل البيت - عليهم السلام - أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه، كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف عنه أشياء كثيرة منها اسم علي - عليه السلام - في كثير من المواضع، ومنها غير ذلك، وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم" (2) .
هذا بعض ما قاله شيوخهم في تلك الفترة عن حجم الروايات والأخبار عندهم، وهي شهادة خطيرة تؤكد هذه الفرية عندهم، واستفاضتها في كتبهم، وهذا بلا شك دليل بطلان أخبارهم كلها، فما دام الكذب عندهم يصل إلى حد التواتر فلا ثقة بسائر أخبارهم، وكل من يذهب هذا المذهب فإنه ليس من الإسلام في شيء، وإن دين هؤلاء ليس دين الأئمة، بل هو دين المجلسي أو القمي أو الكليني أو العياشي أو غيرها. وإن مثل هؤلاء كمثل سائر الزنادقة الذين ظهروا في التاريخ الإسلامي، وإن ذلك القناع الذي أضفوه على حقيقتهم المعادية للإسلام وأهله قد انكشف بهذه الدعوى، وإن أخبارهم التي نسبوها زوراً وكذباً لأهل البيت قد ظهر كذبها واستبان زيفها بهذا الكفر المعلن.
وبناءً على حركة الوضع المستمرة عبر القرون، ولاسيما في إبان الدولة الصفوية رأينا شيخ الشيعة ومحدثها، وخبير رجالها، وصاحب آخر مجموع من مجاميعهم الحديثية (مستدرك الوسائل) وأستاذ كثير من شيوخهم المعتبرين كمحمد حسين آل كاشف الغطا، وأغا بزرك الطهراني وغيرهما.. شيخ الشيعة حسين النوري الطبرسي يرى أنه لا ينبغي عندهم النظر في أسانيد تلك الأساطير لتواترها
__________
(1) المازندراني/ شرح جامع (على الكافي) : 11/76
(2) تفسير الصافي: 1/49(1/273)
من طرقهم؛ يقول: "إن ملاحظة السند في تلك الأخبار الكثيرة توجب سد باب التواتر المعنوي فيها بل هو أشبه بالوسواس الذي ينبغي الاستعاذة منه" (1) .
والخوئي مرجع الشيعة في العراق وغيره اليوم يقول: "إن كثرة الرويات (رواياتهم في تحريف القرآن) من طريق أهل البيت تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين، ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر" (2) .
وبعد هذه الاعترافات من أساطين التشيع وشيوخه هل يشك أحد يقرأ هذه الدعاوى العريضة في أن القوم قد وقعوا في درك مظلوم وفي مستنقع آسن؟ وكم يتألم المسلم وهو يقرأ مثل هذه الكلمات المظلمة، وكم يشفق على قوم اعتمدوا في دينهم على كتب حَوَتْ هذا "الغثاء" وركنوا في أمرهم على شيوخ يجاهرون بهذا الكفر قد باعوا أنفسهم للشيطان، وجعلوا نواصيهم بيده. ولكن هل الشيعة كلهم على هذا الطريق المظلم؟ وهل هم جميعاً قالوا بهذا الكفر والإلحاد؟ هذا ما سنتحدث عنه في الفقرة التالية:
هل الشيعة جميعاً تعتقد صحة هذه الروايات وتقول بتواترها؟
وبعدما رأينا أن معظم كتب الشيعة سقطت في هذه الهوة المظلمة، وعرضنا لشيء من مضامين هذه الروايات مما تتضح به صورتها وتتبين به حقيقتها، ثم حاولنا التعرف على القدر الكمي، والوزن الإسنادي لهذه الروايات، ورأينا أن مهندسي التشيع عملوا جاهدين على الوضع والزيادة لأخبار هذه الأسطورة عبر القرون، حتى اعترف طائفة من شيوخهم المعتبرين عندهم باستفاضتها وتواترها، وأنه لا ينبغي لذلك النظر في أسانيدها.. فهل جميع شيوخ الاثني عشرية يتفقون معهم في هذا الحكم؟
يقول شيخهم المفيد (ت413هـ) في كتابه أوائل المقالات وهو من كتبهم
__________
(1) فصل الخطاب - الورقة 124 (النسخة المخطوطة)
(2) الخوئي/ البيان ص 226(1/274)
المعتبرة عندهم باعتراف شيوخهم المعاصرين (1) ، يقول: "واتفقوا - أي الإمامية - على أن أئمة الضلال خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت المعتزلة، والخوارج، والزيدية، والمرجئة، وأصحاب الحديث على خلاف الإمامية" (2) .
وهذه شهادة مهمة واعتراف صريح من مفيد الشيعة بأن سائر الفرق الإسلامية لم تقع في هذا الكفر الذي وقعت فيه طائفته. وهي شهادة تلجم أولئك الروافض الذين يحاولون من منطلق جبان أن يصموا أهل السنة من هذه الفرية؛ كمحاولة مكشوفة لإثبات هذا الكفر بطريق النسبة الكاذبة لأهل السنة. وعصمة أهل السنة من هذا الضلال لا تحتاج إلى هذا الاعتراف، ولكن ذكرناه هنا لأنه صادر من المخالف وإنصاف المخالف أشد وقعاً في النفس من إنصاف الموافق، ولأن في هذا وأمثاله ما يسكت أولئك المفترين الذين يفترون الكذب ولا يؤمنون.
كما أن مفيدهم يعترف أيضاً بأن إجماع طائفته قائم على هذا الكفر البين، ولم يذكر مفيدهم وجود خلاف بين علمائهم في هذا!! مع أن شيخه ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق (ت381هـ) قد أنكر هذا في رسالته في "الاعتقادات" (3) . وأنكر نسبة الاعتقاد بالتحريف إليهم - كما مر -، وتبعه على ذلك الشريف المرتضى (4) . (ت436هـ) ، والطوسي (5) . (ت450هـ) وهما من تلامذة المفيد، ورابعهم الطبرسي (ت548 أو561هـ) فلِمَ لَمْ يشر المفيد إلى خلاف شيخه القمي؟ هل تجاهل المفيد لذلك من قبيل اقتناعه بأن مخالفته بسبب التقية أو ماذا؟! وليس ذلك فحسب بل إن المفيد نفسه، وفي الكتاب ذاته ذكر أن طائفة
__________
(1) محمد جواد مغنية: الشيعة في الميزان: ص 14
(2) أوائل المقالات: ص13
(3) الاعتقادات: ص 101-102
(4) انظر: التبيان: 1/3، مجمع البيان: 1/31
(5) انظر: التبيان: 1/3(1/275)
من أهل الإمامة أنكرت ذلك (1) .
ومثل دعوى المفيد يدعي النوري الطبرسي أن إجماع الشيعة قائم على هذا الكفر، إلى أن جاء ابن بابويه القمي فخالف ذلك حتى قال: "إن ابن بابويه القمي أول من أحدث هذا القول في الشيعة في عقائده" (2) .
ولعل القارئ يدرك محاولة هذا الطبرسي، لأن يجعل الشيعة منذ نشأتها كانت على مذهبه، وأن مخالفة هذا المذهب كانت طارئة، والحقيقة التي لا يماري فيها مسلم، ولا يشك فيها من سبر التطور العقدي عند هؤلاء القوم أن أوائل الشيعة ما كانت على هذا الكفر، ما كان خلاف الشيعة في أول الأمر إلا في مسألة الإمامة ومن أحق بالإمامة، ثم ما لبثت أن انجرت من بدعة إلى أخرى حتى رأينا شيوخهم في القرن الثالث يتسابقون للوقوع في هذا الكفر، فأورثهم ذلك ذلاً وعاراً ومقتاً من المسلمين، فأراد ابن بابويه الرجوع بهم إلى الأصل - كما هو الظاهر - ولكن عقيدة التقية لديهم جعلت محاولة ابن بابويه لا تثمر ثمارها، وتبع ابن بابويه ثلاثة آخرون من شيوخهم، كلهم أنكروا هذا - كما مر -.
ويذكر النوري الطبرسي بأنه لا يوجد من القرن الرابع إلى القرن السادس خامس لهؤلاء الأربعة الذين ذكرناهم، ويقول إنه: "لم يعرف الخلاف صريحاً إلا من هؤلاء الأربعة" (3) .
إذن بعدما استشرى هذا البلاء في الإمامية لم نجد من شيوخهم من يعلن إنكاره
__________
(1) حيث ذكر أن "جماعة من أهل الإمامة (قالت) : إنه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة" (انظر: أوائل المقالات: ص 55) ، وسنرى في مبحث "عقيدتهم في الإجماع " اضطرابهم في أمر الإجماع حيث تجد الإجماعات المتعارضة، ودعوى الشخص منهم للإجماع مع نقله للخلاف فيه
(2) فصل الخطاب، الورقة 111 (النسخة المخطوطة)
(3) فصل الخطاب: 15 (المخطوط) وص 34(1/276)
لهذا إلا هؤلاء الأربعة (1) . وقد أشرنا من قبل إلى أن ابن حزم يذكر بأن الإمامية كلها على هذا الباطل إلا ثلاثة، ومن هؤلاء الثلاثة الشريف المرتضى.
وقد تحدث شيوخهم أن الإمامية لم تتفق على هذا الكفر. يقول صاحب "قوامع الفضول": "إن المحكي عن ظاهر الكليني وشيخه عليّ بن إبراهيم القمي والشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج وقوع التحريف والزيادة والنقصان فيه، بل وحكي ذلك عن أكثر الأخباريين، وعن السيد الصدوق (2) . والمحقق (3) . إنكار ذلك، بل وحكي عن جمهور المجتهدين، وظاهر الصدوق في اعتقاداته أن المراد بما ورد في الأخبار الدالة على أن في القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين - رضي الله عنه - كان زيادة لم يكن في غيرها أنها كانت من باب الأحاديث القدسية لا القرآن" (4) .
__________
(1) وقد نقل الشيخ إحسان إلهي ظهير هذا القول، وتحدى الشيعة أن تأتي بخامس لهؤلاء (الشيعة والسنة ص 124) . والذي يجب ملاحظته في هذا الأمر ما يلي:
أولاً: أن مفيدهم ذكر أن الخلافة لهذا الكفر قد ذهب إليه جماعة من أهل الإمامة (انظر: أوائل المقالات ص 55) ، فهل هو يشير بهذا إلى خلاف الثلاثة (لأن الطبرسي من القرن السادس) أو يشير إلى أكثر من ذلك ولاسيما أن وصفهم بأنهم جماعة، يشعر بكثرتهم؟.
وقد شك في هذا صاحب فصل الخطاب نفسه وقال: "ولم يعرف من القدماء موافق لهم إلا ما حكاه المفيد من جماعة من أهل الإمامة، والظاهر أنه أراد منها الصدوق وأتباعه" (انظر: فصل الخطاب ص 33) .
ثانياً: أن أوائل الشيعة كلهم على خلاف هذا الكفر، وقد استحدث هذا القول فئة من الزنادقة قد اندسوا في الروافض، فقول النوري: "لم يعرف من القدماء موافق لهم" هو كذب ظاهر؛ إذ إن كل أوائل الشيعة وقدمائها معهم.
ثالثاً: أن الأشعري في مقالات الإسلاميين نسب الإنكار لهذه الفرية إلى طائفة منهم، وهو يشعر بأنهم ليسوا بثلاثة فقط (انظر مقالات الإسلاميين: 1/ 119-120)
(2) لقب يطلقونه على ابن بابويه القمي صاحب من لا يحضره الفقيه
(3) يطلق لقب المحقق على محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، وعلى جعفر بن الحسن ابن يحيى المتوفى سنة (676هـ) (انظر: أغابزرك/ الأنوار الساطعة ص 146) وهو هنا يريد الأول (الطوسي)
(4) قوامع الفصول: ص 298(1/277)
وكذلك أشار الطبرسي في فصل الخطاب إلى مثل ذلك وتوسع في ذكر الذاهبين إلى التحريف فمما قاله: "اعلم أن لهم في ذلك أقوالاً مشورها اثنان: الأول وقع التغيير والنقصان فيه"، ثم ذكر من قال بذلك من شيوخهم، ونقل كلمات بعضهم في هذا، ويلاحظ أنه يحاول المبالغة في جعل معظم رجالات طائفته على هذا القول، بل إنه ذكر مصنفات لا يوجد لها عين ولا أثر، وذكر أنها تسمى باسم "التحريف" أو "التبديل"، واستظهر أن أصحابها كانوا على مذهبه (1) ، ولمعارضه أن يقول: ما المانع أن تكون هذه المصنفات لنقد تحريف الشيعة لمعاني القرآن، أو لنقد دعواهم تحريف ألفاظه وأخذت ذلك الاسم.
ثم ذكر القول الثاني فقال: "الثاني: عدم وقوع التغيير والنقصان فيه وأن جميع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله هو الموجود بأيدي الناس فيما بين الدفتين، وإليه ذهب الصدوق في عقائده والسيد المرتضى، وشيخ الطائفة في التبيان، ولم يعرف من القدماء موافق لهم إلا ما حكاه المفيد عن جماعة من أهل الإمامة، والظاهر أنه أراد منها الصدوق وأتباعه" (2) .
وقوله: "لم يعرف من القدماء موافق لهم" يعني قدماء شيوخه الإمامية، الرافضة، أم أسلافهم من الشيعة فلم يصل بهم الأمر إلى هذا الحد - كما تقدم -.
ثم قال هذا النوري: "ثم شاع هذا المذهب (يعني إنكار التحريف) بين الأصوليين من أصحابنا واشتهر بينهم حتى قال المحقق الكاظمي في شرح الوافية: إنه حكي عليه الإجماع" (3) . ثم حاول رد دعوى الإجماع.. ليجعل جل الشيعة الاثني عشرية على مذهبه.
فإذن هل ننتهي من هذا إلى أن الاثني عشرية لم يتفقوا على هذا الكفر،
__________
(1) انظر: فصل الخطاب: 30-31
(2) فصل الخطاب: ص 33
(3) فصل الخطاب: ص 38(1/278)
بل لهم قولان في هذه المسألة، كما أشار إلى ذلك الأشعري في مقالاته كما سلف، أو أنه قول واحد والإنكار تقية؟ هذا ما سنعرض له في المسألة التالية:
هل إنكار المنكرين لهذا الكفر (من الشيعة) من قبيل التقية؟
بعدما بيّنا أن الأمامية لم تتفق على هذا الضلال، وأنه قد أنكر ذلك كبار محققيهم كالشريف المترضى، وابن بابويه القمي والطوسي والطبرسي، ومن اتبعهم من المتأخرين، فإنه مع ذلك قد برز ناعق من شيوخ الدولة الصفوية يقول: إن إنكار هؤلاء كان على سبيل التقية.
يقول شيخهم نعمة الله الجزائري (وهو من الأخبارين) (1) . والذي قال عنه الخوانساري: "كان من أعاظم علمائنا المتأخرين وأفاخم فضلائنا المتبحرين.." (2) : "والظاهر أن هذا القول إنما صدر منهم لأجل مصالح كثيرة، منها سد باب الطعن عليهم بأنه إذا جاز هذا في القرآن فكيف جاز العمل بقواعده وأحكامه مع جواز لحوق التحريف لها" (3) .
ثم قدم برهان دعواه بقوله: "كيف وهؤلاء الأعلام رووا في مؤلفاتهم أخباراً تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن، وأن الآية هكذا أنزلت ثم غيرت إلى هذا" (4) .
وكذلك يرى هذا صاحب فصل الخطاب؛ فإنه نقل كلام الجزائري المذكور مؤيداً له، كما نقل ما ذكره شيخهم ابن طاوس من أن كتاب التبيان الذي أنكر فيه الطوسي هذا الضلال موضوع على غاية الحذر والمدارة للمخالفين (5) .
__________
(1) ولهذا قال الخوانساري: "كان مع شرب الإخبارية كثير الاعتناء والاعتداد بأرباب الاجتهاد.." (روضات الجنات: 8/150)
(2) روضات الجنات: 8/150
(3) الجزائري/ الأنوار النعمانية: 2/358
(4) الجزائري/ الأنوار النعمانية: 2/358-359
(5) فصل الخطاب: ص38 (النسخة المخطوطة)(1/279)
وقد نقلنا النص بتمامه فيما سبق (1) . فهل ما يقوله هؤلاء حقيقة؟
أقول: لا شك أن الجزائري وصحاب فصل الخطاب وغيرهما هم ممن يجاهر بهذا الكفر ويعلنه، ومن يفعل ذلك فليس من الإسلام في شيء، وإذا كنا نتثبت في خبر الفاسق، فما بالك بأخبار هؤلاء، فهم يودون أن يجعلوا كل شيعي على هذا الكفر فليس بغريب أن يحملوا آراء المعارضين على التقية. وأرى خطأ من يأخذ كلام هذا الجزائري ومن على شاكلته بإطلاق، ويحكم على طائفة بأكملها بهذا الكفر من غير دراسة وتحقيق.
وإذا كنا لا نأخذ بكلام هؤلاء الأفاكين الآثمين فهذا لا يعني أيضاً أن نتقبل بسذاجة ظاهرة، وبسطحية غافلة ما يقوله أصحاب الرأي الآخر بإطلاق، ونحن نعلم أن التقية من أصولهم، وأنها عندهم تسعة أعشار الدين، ولا دين لمن لا تقية له - كما سيأتي -.
وعلى هذا فلابد من دراسة متأنية وأمينة لهذا القضية، فأقول: كما نقل شيخهم المفيد إجماع طائفته على هذا الكفر كما أسلفنا، فإن من كبار شيوخهم المتأخرين من نقل إجماع الأصوليين من الشيعة على إنكار هذا الكفر (2) .
واعترف صاحب فصل الخطاب بأن مذهب إنكار التحريف قد شاع واشتهر بين أصحابه فقال: ".. شاع هذا المذهب بين الأصوليين من أصحابنا واشتهر بينهم حتى قال المحقق الكاظمي في شرح الوافية: إنه حكي عليه الإجماع" (3) .
وقد غضب من هذا الأمر صاحب فصل الخطاب، لأنه - كما أسلفت - يريد أن يجعل مذهبه هو الأشهر والأكثر.. فقال: ".. إن دعواه - يعني دعوى
__________
(1) انظر: ص (197-198)
(2) فصل الخطاب: ص38 (النسخة المخطوطة)
(3) فصل الخطاب: ص38 (النسخة المخطوطة)(1/280)
الإجماع - جرأة عظيمة (!) وكيف يمكن دعوى الإجماع بل الشهرة المطلقة على مسألة خالفها جمهور القدماء وجل المحدثين وأساطين المتأخرين، بل رأينا كثيراً من كتب الأصول خالية عن ذكر هذه المسألة، ولعل المتتبع يجد صدق ما قلناه، ومع ذلك كله فالمتبع هو الدليل، وإن لم يذهب إليه إلا قليل كما قال السيد المرتضى - رحمه الله - في بعض مسائله: لا يجب أن يوحش من المذهب قلة الذاهب إليه والعاثر عليه، بل ينبغي ألا يوحش منه إلا ما لا دلالة له تعضده ولا حجة تعمده، وقال المفيد في موضع من المقالات: ولم يوحشني من خالف فيه؛ إذ بالحجة له أتم أنس ولا وحشة من حق" (1) .
نلاحظ من خلال هذه الكلمات أن هناك وميض نار مشتعلة بين فريقين وكل يدعي الشهرة والأحقية لمذهبه.. وأن هذا الرجل قد ارتدى ثوب الواعظ كما يصنع الشيطان أحياناً وراح يدعو قومه إلى نار جنهم وبئس المصير، وينادي بأن قوله هو الذي عليه الدليل من كتبهم، وهو الأصل الذي عليه قدماء الشيعة، وخلافه قول طارئ على مذهبهم، ودعوى الإجماع عليه أو الشهرة في نظره جرأة عظيمة.
إذن هناك - بلاشك - فئة من الشيعة لم تعد تهضم هذا المعتقد، وقد كثر أتباعها، ولهؤلاء - فيما يظهر - ألَّف صاحب فصل الخطاب كتابه ليردهم عن هذا الطريق الذي سلكوه، ويرفع عنهم تلك العماوة التي غشيتهم في نظره ويقول: إن الدليل أحق أن يتبع، وإن لم يذهب إليه أحد. وكأنه استوحش من مذهبه، والكفر كهف موحش مخيف، وخاف تقلص أتباعه واندراس أشياعه فراح يدعو إلى عدم الوحشة عند القلة فهي في نظره عنوان الحق على هذا القول، ومن الغريب أن يستعير كلمات الشريف المرتضى الذي يتبرأ من هذا الكفر، ويكفر من قاله، ويعظ بها قومه ويدعوهم إلى هذا الإلحاد.
__________
(1) فصل الخطاب: ص 38-39(1/281)
ومن خلال قراءتي لكتاب فصل الخطاب تبين لي أن فئة من الشيعة لم تعد تصدق بهذه الخرافة، وقد هاجمهم صاحب فصل الخطاب في مواضع متعددة، وقال معلقاً على كلام بعضهم: "ليس لداء قلة التتبع دواء إلا تعب المراجعة" (1) .
كما ضاق ذرعاً بأمر الصدوق صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد كتبهم الأربعة المعتمدة في إنكاره لهذه الخرافة، وقال: إن أمره مضطرب، ويغير بعض الروايات لتوافق مذهبه في نفي هذه الخرافة، وأنه غير في بعض الروايات تغييرات تورث سوء الظن (2) . به، كما سيأتي بعد قليل إيراد نصوصه في هذا، مع العلم بأن كتابه "من لا يحضره الفقيه" هو أحد جوامعهم المعتمدة عندهم.
كما يعتذر أحياناً عن المنكرين من أصحابه لهذا الاعتقاد - الذي يؤكد أنه متواتر من طرقهم الكاذبة - بقوله: "إن أخبار التحريف متفرقة فلهذا لم يعرفوها" (3) .
ولقائل أن يقول: إنها لم تكن موجودة فلهذا لم يعرفوها ولدت فيما بعد، ونمت أخبارها وكثرت أساطيرها فأخذت بها أنت ومن معك اغتراراً أو تغريراً؛ إذ كيف يعقل أن تخفى على أمثال ابن بابويه وغيره من مؤسسي مذهبكم ومؤلفي مجاميعكم المعتمدة، وكذلك اعتذر عن الطوسي بنحو هذا - كما سيأتي - وحتى نعمة الله الجزائري الذي قال: إن إنكارهم تقية لم يكن على يقين من هذا، فتراه في شرح الصحيفة السجادية يتعجب من صنيعهم، ويحاول أن يرد على حجتهم، حيث يقول: "وأخبارنا متواترة بوقوع التحريف والسقط منه بحيث لا يسعنا إنكاره، والعجب العجيب من الصدوق وأمين الإسلام الطبرسي، والمرتضى في بعض كتبه كيف أنكروه وزعموا أن ما أنزله الله تعالى هو هذا المكتوب مع أن فيه رد متواتر الأخبار (يعني أساطيرهم) ".
ثم حاول أن يجيب عما اعترض به عقلاء قومه من أن القول بتحريف
__________
(1) فصل الخطاب: الورقة 84 (النسخة المخطوطة) وص 169 (من المطبوعة)
(2) فصل الخطاب: الورقة 120 (من المخطوطة) وص 240 (من المطبوعة)
(3) فصل الخطاب: الورقة 176 (النسخة المخطوطة)(1/282)
القرآن يلزم منه ألا يعمل به لارتفاع الثقة عنه، وهذا مخالف لما عليه الشيعة والأئمة.. فقال: "وما قيل من طرفهم أنه يلزم عليه ارتفاع الموثوق بالآيات الأحكامية، وينتفي جواز الاستدلال بها لمكان جواز التحريف عليها. فجوابه: أنهم عليهم السلام أمرونا في هذه الأعصار بتلاوة هذا القرآن والعمل بما تضمنته آياته لأنه زمن هدنة، فإذا قامت دولتهم وظهر القرآن كما أنزل الذي ألفه أمير المؤمنين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وشده في ردائه وأتى إلى أبي بكر وعمر وهما في المسجد في جماعة من الناس فعرضه عليهم فقالوا: لا حاجة لنا في قرآنك ولا فيك عندنا من القرآن ما يكفينا. فقال: لن تروه بعد هذا اليوم حتى يقوم قائمنا. فعند ذلك يكون ذلك القرآن هو المتداول بين الناس مع أن ما وقع من التحريف في الآيات الأحكامية أظهروه عليهم السلام، فيقوم الظن بأن ما لم يعرفونا تحريفه لم يكن فيه تحريف" (1) .
وبعد هذا هل يحق لأحد أن يجزم بالقول: إن إنكار هؤلاء كان على سبيل التقية، والخلاف جاري بينهم وبين قومهم على أشده، والصراع واضح من خلال ما كتبه صاحب فصل الخطاب وغيره؟!
ولكن بقي أن ندرس البرهان الذي قدمه نعمة الله الجزائري في أن إنكار هؤلاء المنكرين كان على سبيل التقية بدليل أنهم "رووا في مؤلفاتهم أخباراً كثيرة تشتمل على وقوع تلك الأمور في القرآن، وأن الآية هكذا أنزلت ثم غيرت إلى هذا" (2) . كما سبق نقله، فهل هذا حقيقي بالنسبة لأولئك المنكرين؟
نبدأ بابن بابويه القمي "الصدوق" (ت381هـ) باعتباره أول من أنكر على هؤلاء الغلاة، وأعلن أن هذا لا يمثل مذهب الشيعة وذلك في رسالته "الاعتقادات".
__________
(1) شرح الصحيفة السجادية: ص 43
(2) الأنوار النعمانية: 2/358-359(1/283)
1- ابن بابويه وإنكاره لما ينسب لطائفته:
يقول: "اعتقادنا أن القرآن الذي أنزل الله تعالى على نبيه محمد وهو ما بين الدفتين وهو ما في أيدي الناس، وليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربعة عشر (1) . سورة، وعندنا أن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب"، ثم استدل بما جاء في رواياتهم في ثواب من قرأ سورة من القرآن، وثواب من ختم القرآن كله، وأن هذا ينفي تلك الدعاوى الباطلة.
ثم قال: "بل نقول: إنه قد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدراً سبع عشرة ألف آية". واستشهد على ذلك ببعض الأحاديث القدسية الواردة عندهم، ثم قال: "ومثل هذا كثير كله وحي ليس بقرآن، ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه كما قال أمير المؤمنين لما جمعه، فلما جاء به فقال لهم: هذا كتاب الله ربكم كما أنزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف، فقالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك. فانصرف وهو يقول: فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون" (2) .
هذا ما قاله ابن بابويه نقلته بطوله لندرة المصدر المنقول عنه، ولأن معظم من ينقل عنه من كتب الشيعة وغيرها يكتفي بنقل صدر كلامه مما لا يعطي تصوراً كاملاً عن مذهب الرجل.
ومن خلال الكلمات السابقة يلاحظ ما يلي:
أولاً: إن الرجل يعد هذا القول مذهب الشيعة الإمامية كلها، ولهذا قال صاحب فصل الخطاب بعد نقله لهذا النص: "وظاهر قوله: اعتقادنا، وقوله: نسب إلينا، اعتقاد الإمامية" (3) . ثم انتقده في ذلك وقال: "وقد ذكر في هذا الكتاب ما لم يقل به
__________
(1) كذا في الأصل وهو خطأ لغوي، والصحيح "أربعة عشرة سورة"
(2) الاعتقادات: ص 101-103
(3) فصل الخطاب: ص33(1/284)
غيره أو قال به قليل" (1) .
وقد سبق أن قلت: إن صاحب فصل الخطاب متحمس لأن يجعل جميع الشيعة على مذهبه.
ثانياً: في قوله: "ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب" تكذيب للكليني صاحب الكافي وشيخه القمي صاحب التفسير والنعماني صاحب الغيبة وغيرهم الذين يجاهرون بهذا المعتقد، ويعدونه من مذهب الإمامية، أو كأنه يعتبر من يقول بهذا ليس في عداد الشيعة.
ثالثاً: لا نرى إشارة منه إلى وجود رأي آخر في هذا عندهم، كما أشار إلى ذلك الأشعري وغيره، وكأنه يعتبر من يخالف في هذا خارج نطاق التشيع إلا إن كان في الأمر تقية.
رابعاً: كأنه في قوله: " ... ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه سبع عشرة ألف آية" يفسر فيه رواية الكليني والتي تقول: "إن القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبعة عشر ألف آية" وآيات القرآن كما هو معروف لا تتجاوز ستة آلاف آية إلا قليلاً، لكن الكليني ينص كما ترى على أنها من القرآن، بينما ابن بابويه ينص على أنها ليست من القرآن ويحملها على الأحاديث القدسية - كما سلف -.
خامساً: لم يتحرر - كما ترى - من رواسب وآثاره الروايات الأسطورية والتي علقت في ذهنه في هذا الباب.. فتراه يكاد ينقص ما قرره.. بالرواية الأخيرة التي ذكرها في عرض علي المصحف على الصحابة وردهم له.. إن إقراره لهذه الخرافة يفتح الباب لأن يقال فيه بأن إنكاره كان على سبيل التقية وهو ما قيل فعلاً من قبل بعض الشيعة، ومن لدن بعض أهل السنة، ولكنه على أية حال لم يتجرأ أن يقول
__________
(1) فصل الخطاب: ص33(1/285)
في كتاب الله شيئاً وأراد إنقاذ سمعة طائفته من العار الذي لحقها، ولم يستطع أن يجابه قومه بإنكار روايتهم رأساً، أو لم يتمكن من الخلاص النهائي عن تلك السموم، أو أراد الإنكار على سبيل التقية وزرع في كلامه ما ينبئ عن ذلك. الله أعلم بالسرائر.
لكن أرى من الشيعة من يذهب إلى القول بأن إنكاره تقية كنعمة الله الجزائري، ولكن لا يقدم دليلاً معيناً على هذا القول، ويكتفي بمجرد الدعوى بأنه روى في كتبه بأن الآية هكذا أنزلت ثم غيرت إلى هذا.. وبالرجوع إلى بعض كتب ابن بابويه المعروف عندهم بالصدوق للبحث عن روايات هذه الأسطورة في كتبه، فنجد من روايات هذه الأسطورة حكاية الزنديق الذي جاء لسؤال علي بن أبي طالب - كما يزعمون - والذي مر بنا نقل بعض نصوصه، والذي رواه شيخهم الطبرسي (من القرن السادس) في كتابه الاحتجاج وفيه تسعة مواضع كلها تدل على هذا الكفر (1) . كما شهد بذلك النوري الطبرسي (2) ، نجد أن هذا الخبر يورده صدوقهم هذا في كتابه التوحيد وليس فيه ما يدل على أسطورة التحريف (3) . فهل هذه الأسطورة زادت بعد قرنين من عصر ابن بابويه لتحشى بهذا الكفر، أو أن ابن بابويه نفسه حذف ذلك.. على آية حال هي تشهد بسلامته من التلبس بحكاية هذا الكفر الذي حملته رواية الطبرسي.
وقد احتار صاحب فصل الخطاب في تعليل هذا فقال: "وساق (يعني صدوقهم) الخبر (خبر الزنديق) مع نقصان كثير عما في الاحتجاج، منه ما يتعلق بنقصان القرآن وتغييره، إما لعدم الحاجة إليه كما يفعل ذلك كثيراً، أو لعدم موافقته لمذهبه" (4) . ولكن ألا يحتمل أن يكون الأصل هو ما في كتاب التوحيد، وأن تلك
__________
(1) انظر: الاحتجاج ص 240
(2) النوري/ فصل الخطاب: ص 240
(3) انظر: التوحيد ص 255 وما بعدها
(4) فصل الخطاب: ص 240(1/286)
المفتريات المتعلقة بالتحريف زيادة بعد الصدوق من صاحب الاحتجاج أو غيرها، هذا احتمال وارد ولاسيما أن صدوقهم لم يشر إلى أن حذف منه شيئاً.
ولقد اغتاظ - فيما يبدو - صاحب فصل الخطاب من صدوقهم بسبب ذلك وقال - نقلاً عن بعض شيوخه -: ".. وبالجملة فأمر الصدوق مضطرب جداً، ولا يحصل من فتواه علم ولا ظن لا يحصل من فتاوى وأساطين المتأخرين وكذلك الحال في تصحيحه وترجيحه" (1) ، ثم قال: "وقد ذكر صاحب البحار حديثاً عنه في كتاب التوحيد.. ثم قال: هذا الخبر مأخوذ من الكافي وفيه تغييرات عجيبة تورث سوء الظن بالصدوق" (2) . كل ذلك بسبب أن صدوقهم لم ينقل ذلك الكفر الذي نقله صاحب الكافي. وساق هذه "الانتقادات" صاحب فصل الخطاب، لأن ابن بابويه لم يوافقه في مشربه.
ولكن لم تسلم كل كتب الصدوق من هذا "الإلحاد" فقد جاء في كتابه "ثواب الأعمال" في ثواب من قرأ سورة الأحزاب، عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: "من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب كان يوم القيامة في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه - إلى أن قال: - إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة ولكن نقصوها وحرفوها" (3) .
وفي كتاب الخصال جاء برواية تقول: "يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف يا رب حرقوني ومزقوني.." (4) .
__________
(1) فصل الخطاب: ص 240
(2) فصل الخطاب: ص 240، والمجلسي يقول هذا عن صدوقهم مع أنه يعتبر جميع كتبه ما عدا أربعة "لا تقصر في الاشتهار عن الكتب الأربعة التي عليها المدار في جميع الأعصار" (البحار: 1/26) وقد أخرج له في بحاره عن سبعة عشر منها (البحار: 1/73) وكتابه من لا يحضره الفقيه، أحد كتبهم الأربعة المعتمدة، فما هذا التناقض؟!
(3) ثواب الأعمال: ص 139، وانظر: بحار الأنوار: 92/50
(4) الخصال: 1/174-175(1/287)
وقد وردت في بحار الأنوار (1) . وعند بعض الناقلين (2) . "حرفوني" وهي أدل على الوقوع في هذا الكفر، ولكنها خلاف الأصل.
وقد وردت بنحو ذلك في كتابه الأمالي، تقول الرواية التي يرويها صدوقهم بسنده عن جعفر الصادق عن أبيه عن آبائه رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ... اذكروا وقوفكم بين يدي الله.. فإنه لابد سائلكم عما عملتم بالثقلين من بعدي: كتاب الله، وعترتي، فانظروا أن لا تقولوا: أما الكتاب فغيرنا وحرفنا.." (3) . وهذه الرواية لا تدل على فعلهم ولكنها تحذرهم، ولكن إذا قرنتها بما قبلها، وأنهم قد فعلوا - كما يزعمون - صارت من ذلك الكفر، وهناك روايات أخرى مماثلة نقلها صاحب فصل الخطاب بالواسطة أدع نقلها لعدم وقوفي عليها في كتب الصدوق (4) .
كما أن ثمة روايات أخرى أوردها صاحب فصل الخطاب من كتب صدوقهم وهي قراءة واردة لا تدين الرجل وحدها (5) ، فليس هذا بغريب من ذلك الطبرسي، ولكن قد اغتر بصنيعه هذا بعض الكاتبين
__________
(1) بحار الأنوار: 92/49
(2) إحسان إلهي/ الشيعة والقرآن: ص 68
(3) أمالي الصدوق: ص 231
(4) مثل ما نقله عن بشارة المصطفى للصدوق، بواسطة تفسير البرهان لمحدثهم "التوبلي" (فصل الخطاب: ص 157-158)
(5) مثل الروايات الثلاث التي أوردها صاحب فصل الخطاب (ص 259) عن معاني الأخبار (انظر: معاني الأخبار: ص 331) بأن في مصحف عائشة وحفصة "حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر" وهذه قراءة ورادة. انظرهما في مصحف عائشة - تفسير الطبري: 5/173 وما بعدها رقم 5393، 5394، 5397، 5466، 5467 (تحقيق الأخوين أحمد ومحمود شاكر) وانظر: تفسير ابن كثير: 1/304، قال الشيخ أحمد شاكر: والخبر نقله الحافظ في الفتح: 8/146، والسيوطي: 1/304، ولم ينسباه لغير الطبري، وذكره ابن حزم في المحلى: 4/354، ورواه عبد الرزاق في المصنف: 1/128 (تفسير الطبري ص 176الهامش ج) وانظر عن وجود هذه القراءة في مصحف حفصة: تفسير الطبري: 5/209، 210 رقم 5406، 5462، 5463، تفسير ابن كثير: 1/304.
وقد جاء في صحيح مسلم ما يدل على نسخ هذه التلاوة (صحيح مسلم: 1/438، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر)(1/288)
من السنة، وسلك مسلكه بلا تدبر (1) .
وننتهي من هذا إلى أنه جاء في كتب صدوقهم بعض روايات هذه الفرية، ومع ذلك فلا نجزم بالقول أنه هذه عقيدته وأن الإنكار تقية كما قال بعضهم، ذلك لأنه لا يوثق بخلو كتبه من الدس والزيادة عليه، وليس ذلك مجرد تخمين لا دليل عليه؛ بل إن الزيادة أمر ميسور عندهم، كما بدا لنا ذلك في كتاب: "سليم بن قيس" والذي اعترف بوضعه والتغيير فيه شيوخهم - كما سلف - وكما زادوا في روايات كتاب: "من لا يحضره الفقيه" لابن بابويه نفسه أكثر من الضعف كما سيأتي في فصل: "اعتقادهم في السنة".
2- الطوسي وإنكاره للتحريف:
أما شيخهم الطوسي (ت450هـ) فقد قال: "وأما الكلام في زيادته ونقصانه مما لا يليق به أيضاً؛ لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، ورويت روايات كثيرة من جهة العامة والخاصة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، لكن طريقها الآحاد التي لا توجب علماً، فالأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها، ولو صحت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته لا يعترضه أحد من الأئمة ولا يدفعه، ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته والتمسك بما فيه ورد ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه وعرضها عليه، فما وافقه عمل عليه، وما يخالفه يجتنب ولم يتلفت إليه، وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وآله رواية لا يدفعها أحد أنه قال: إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر، لأنه
__________
(1) مثل: إحسان إلهي ظهير/ الشيعة والقرآن ص 96، محمد مال الله/ الشيعة وتحريف القرآن: ص 122(1/289)
لا يجوز أن يأمر الأمة بالتمسك بما لا تقدر على التمسك به، كما أن أهل البيت ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت، وإذا كان الموجود بيننا مجمعاً على صحته فينبغي أن نتشاغل بتفسيره وبيان معانيه وترك ما سواه" (1) .
هذا كلام شيخهم الطوسي صاحب كتابين من كتبهم المعتمدة في الحديث عندهم، وكتابين من كتبهم المعتمدة في الرجال، فهل هذا الإنكار تقية..؟.
أقول: إن مسألة التقية من أماراتها التناقض والاختلاف، ولكن التناقض صار قاعدة مطردة في رواياتهم، بل وجد مثل ذلك في إجماعاتهم، كما وجد في كلام شيوخهم، وأصبح معرفة حقيقة المذهب ليست متيسرة حتى على شيوخهم الذين لا يجدون دليلاً على التمييز بين ما هو تقية وما حقيقة إلا بالاستناد إلى أصل وضعه زنديق ملحد وهو قولهم: "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم" (2) . يعني أهل السنة، فأوشك أن ينتهي بهم هذا المهذب إلى مفارقة الدين رأساً (3) .
وعليه، فإن قضية الاختلاف هي ظاهرة طبيعية لكل دين ليس من شرع الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} : فهو حينما ينقل رواياتهم في كتبه فمن الطبيعي وجود مثل هذا الاختلاف، وبالتالي فإنه لا يدين الرجل إدانة أكيدة بعد إنكاره، ولا سيما أن العبرة بالنسبة لبيان مذهبه بما رأى لا بما روى.
لقد لوحظ أن الطوسي هذا نقل في تهذيبه لرجال الكشي بعض روايات هذه الأسطورة كنقله للرواية التي تقول: "لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أماناتهم، إنهم اؤتمنوا على كتاب الله جل وعلا فحرّفوا وبدّلوه.." (4) . كما أنه قد
__________
(1) التبيان: 1/3
(2) البحار: 2/233
(3) سيأتي إن شاء الله بحث في هذه المسألة في: "فصل الإجماع"
(4) رجال الكشي: ص4(1/290)
نقل بعض أخبار هذه الأسطورة على أنها قراءة في تفسيره التبيان (1) .
ولكن يرى أن كل هذه الروايات من قبيل روايات الآحاد التي لا يعتمد عليها - كما ذكره في إنكاره - ولا تدفع ما تضافر من رواياتهم التي توجب العمل بالقرآن والرجوع إليه عند التنازع.
أما صاحب فصل الخاطب فقد اختلفت أقواله في توجيه هذا الإنكار الذي يقلقه لمخالفته لمذهبه؛ فهو مرة يرى أن هذا القول لا يمثل إلا رأي الطوسي وفئة قليلة من الشيعة معه يقول: ".. إنه ليس فيه حكاية إجماع عليه، بل قوله: نصره المرتضى صريح في عدمه، بل في قلة الذاهبين إليه" (2) ، ثم يرجع ويقول: بأن هذا القول منه تقية، لأن هذا الإنكار جاء في تفسير التبيان و"لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان أن طريقته فيه على نهاية المدارة والمماشاة مع المخالفين" (3) . ويعلل ذلك باستناده لأقوال أئمة أهل السنة في التفسير (4) ، ولا يكاد يجزم بهذا الحكم كما يشعر به قوله: " وهو - أي نقل الطوسي لأقوال أئمة السنة - بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه المماشاة، فمن المحتمل أن يكون هذا القول - يعني
__________
(1) كما في تفسيره قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: وفي قراءة أهل البيت: {وآل محمد على العالمين} وهذا تلطف في التعبير، أو محاولة للتغير في أساطيرهم التي تنص على أن هذه ليست قراءة، وإنما هي من باب التحريف بفعل الصحابة كما يفترون، (وسيأتي ذكر نصوصها بعد قليل في مناقشة الطبرسي) . وهذا التغيير قد يكون الهدف منه التستر على الفضيحة، أو محاولة لانتشال طائفة من قومه من تلك الوهدة التي تردوا فيها بفعل ذلك الأساطير، وربما يكون ما عند الطوسي هو الأصل والزيادات التي تصرح بالتحريف هو ما جعل شيوخ الدولة الصفوية.
لكن يرد على ذلك أن تلك الروايات موجودة في كتب معاصرة للطوسي أو أقدم، كتفسير القمي والعياشي وفرات، إلا إذا قلنا إن الشيعة يغيرون في كتب قدمائهم كما فعلوا في كتاب سليم بن قيس
(2) فصل الخطاب: ص 38
(3) فصل الخطاب: ص 38
(4) وقد مضى نقل النص بتمامه ص: (198-199)(1/291)
إنكار التحريف - منه (من الطوسي) فيه (في تفسير البيان) على نحو ذلك (أي من المدارة والتقية) ".
وثم يتجه وجهة أخرى ويشير إلى أن في كلام الطوسي تناقضاً يشعر أنه تقية فقال: "إن إخباره بأن ما دل على النقصان روايات كثيرة يناقض قوله: لكن طريقه الآحاد، إلا أن يحمل ما ذكرنا" (1) . أي من التقية.
ثم يعرض عن هذا كله ويقول: إن الطوسي "معذور (في إنكاره) لقلة تتبعه من قلة تلك الكتب عنده" (2) .
هذا جانب من حيرة الطبرسي في أمر الطوسي وغيره من المنكرين لهذه الفرية، فإذا كان هذا أمر شيوخهم لا يكادون يقفون على حقيقة مذهب أئمتهم وشيوخهم القدامى بسبب أمر التقية فنحن أعذر في عدم الوصول إليه نتيجة جازمة يقينية.
والطوسي كما يلاحظ في إنكاره قد دس في الشهد سماً، وتناقض في حكاية مذهبه كما لا يخفى (3) .
__________
(1) فصل الخطاب: ص 38
(2) فصل الخطاب: ص 351
(3) من ذلك زعمه أن العامة - يعني بهم أهل السنة - قد شاركوا طائفته في رواية هذا الكفر. وهذا كذب، وقد شهد شيخهم المفيد بتفرد طائفته بهذا البلاء (أوائل المقالات ص 13) . وأجمل أهل السنة، بل المسلمون جميعاً على صيانة كتاب الله عز وجل وسلامته من التحريف أو الزيادة أو النقص، محفوظ بحفظ الله له. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر، آية: 9....
وانظر ما قاله في هذا علماء التفسير من أهل السنة حول هذه الآية (انظر: القرطبي/ جامع أحكام القرآن: 10/65، النسفي/ مدارك التأويل: 2/179، تفسير الخازن: 4/47، تفسير ابن كثير: 2/592، تفسير البغوي: 3/44، البيضاوي/ أنوار التنزيل: 1/538، الألوسي/ روح المعاني: 14/16، صديق خان/ فتح البيان: 5/168، 169، الشنقيطي/ أضواء البيان: 3/120، سيد قطب/ في ظلال القرآن: 5/194 وغيرها.
وانظر في نقل أئمة السنة لإجماع المسلمين على حفظ كتاب الله وسلامته، وتكفيرهم لمن خالف ذلك: انظر: القاضي عياض/ الشفاء: 2/304-305، ابن قدامة/ لمعة الاعتقاد: ص20، البغدادي/ الفرق بين الفرق: ص 327، ابن حزم/ الفصل: 5/22 وغيرها.(1/292)
3- الشريف المترضى (ت 436هـ) وإنكاره لهذه الفرية:
يقول: "إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه فيما (1) . ذكرناه، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد".
ثم ذكر أنه لو رام أحد الزيادة أو النقص من كتاب مشهور ككتاب سيبوبه والمزني لعرف ونقل، لأن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتى لو أن مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعرف وميز وعلم أنه ملحق وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني.
ومعلوم أن العناية بالقرآن وضبطه أصدق من العناية بنقل كتاب سيبويه ودواوين الشعراء..
وإن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته (2) .
وكأن الجملة الأخيرة تشير إلى ما ذهب إليه الإخباريون من الشيعة من القول بهذا الضلال (3) .
__________
(1) لعلها "ما ذكرناه"
(2) انظر: مجمع البيان: 1/31
(3) ويرى الألوسي أنه يلمز بهذا القول أهل السنة، ويعقب عليه بقوله: وهو كذب أوسوء فهم، لأنهم أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآناً كما هو موجود بين الدفتين اليوم.. (روح المعاني: 1/24-25)(1/293)
وهذه كلمات شيخهم الشريف المرتضى (الذي استثناه ابن حزم من القائلين بهذا الكفر كما تقدم) نقلها عنه صاحب مجمع البيان وقال: إن المرتضى "قد استوفى في الكلام في نصرة هذا المذهب الحق في جواب المسائل الطرابلسيات" (1) . ولم يقع لنا هذا الكتاب، وأغفل متأخرو الشيعة النقل عنه كما فعل الكاشاني في تفسير الصافي، والبحراني في البرهان، والمجلسي في البحار وغيرهم، ولم أجد منه - فيما اطلعت عليه - إلا هذا النص الذي حفظه الطبرسي في مجمع البيان.
ولكن قيل: إن هذه الإنكار تقية، لأنه كما قال صاحب فصل الخطاب: "قد عدّ هو في الشافعي من مطاعن عثمان ومن عظيم ما أقدم عليه جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه وإبطاله ما شك أنه من القرآن" (2) .
وهذا بلا شك يناقض إنكاره لهذه الفرية، وبيانه بالدليل العقلي والتاريخي استحالة حصولهم، فإما أن يكون هذا النص مدسوساً عليه، فقد رأينا كيف يغيرون في كتبهم كما صنعوا بكتاب سليم بن قيس وغيره، لا سيماً أنه لو كانت هذه عقيدة الرجل لكثر حديثه عنها، ولكن لم يجد صاحب فصل الخطاب عليه سوى هذا النص.
وإما أن يكون الإنكار على سبيل التقية، وهذا احتمال أضعف مما قبله لما ذكرنا، وهذا النص علاوة على أنه طعن في كتاب الله سبحانه، فهو حكم بالضلال على الأمة عامة بما فيها علي - رضي الله عنه - من قوم يزعمون التشيع له وموالاته!!.
وكيف يتصور مسلم مثل هذا في ذلك الجيل القرآني الفريد الذين بذلوا المهج وهجروا الأهل الولد، وفارقوا الأوطان في سبيل الله وحده، ولمصلحة من، وفي سبيل من يضحون بسابقتهم، وجهادهم، ويبيعون دينهم ودنياهم
__________
(1) انظر: مجمع البيان: 1/31
(2) فصل الخطاب: ص33(1/294)
فيوافقون أحداً على المساس بدينهم وكتابهم؟! إن هذا لبهتان عظيم؛ بل الحق أن عمل عثمان هذا من أعظم مناقبه، ووقع بإجماع من الأمة، كما قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -: "لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملأ منها" (1) . فجزاه الله عن الأمة خيراً.
4- الطبرسي وإنكاره لهذه الفرية:
أما الطبرسي فيقول: ".. ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنه لا يليق بالتفسير، فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله وروحه، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات" ثم ساق بعض كلامه في ذلك (2) .
فهو يشير هنا إلى أن جماعة من أصحابه رووا روايات في نقص كتاب الله وتغييره، وأن مذهب محققي الشيعة على خلافه، ويحاول - كعادة هؤلاء - أن يشرك بعض أهل السنة الذي عبر عنهم "بحشوية العامة" في هذا الكفر كنوع من الدفاع عن المذهب، وحفظ ماء الوجه، ولون من النقد المبطن لأهل السنة، وهو كما قال الألوسي: "كذب أو سوء فهم، لأنهم أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآناً كما هو موجود بين الدفتين اليوم.
نعم أسقط زمن الصديق ما لم يتواتر ونسخت تلاوته - وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ - وما لم يكن في العرضة الأخيرة ولم يأل جهداً رضي الله عنه في تحقيق ذلك إلا أنه لم ينتشر نوره في الآفاق إلا زمن ذي النورين.." (3) . وقد ناقش الألوسي ما قاله الطبرسي وبين أوهامه (4) .
__________
(1) أخرجه ابن أبي داود بسند صحيح كما قاله ابن حجر في فتح الباري: 13/18
(2) تقدم ذكره ص (358)
(3) روح المعاني: 1/25
(4) روح المعاني: 1/24-25(1/295)
وقد ذكر الألوسي أن كلامه هذا في إنكار هذه الفرية دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال، والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال (1) .
وقد اكتشفت أثناء قراءتي في مجمع البيان أن الطبرسي قد قام بحيلة أو محاولة لستر هذا العار، فأتى إلى بعض روايات أصحابه في هذه الأسطورة والتي فيها أن الآية كذا ثم غيرت إلى كذا، فغير صورة عرضها بما ينخدع به أهل السنة، أو بما لا تتضح به صورة هذا الخزي، فعبر عن بعض هذه الأساطير بأنها قراءة ورادة.
ولنعرض على سبيل المثال بعض الأمثلة لأساطيرهم في التحريف كما جاءت في مصادرهم، وتغيير الطبرسي لها:
جاء في تفسير القمي في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (2) . قال العالم (3) .- رضي الله عنه - نزل: "وآل عمران وآل محمد على العالمين" فأسقطوا آل محمد من الكتاب (4) .
وفي تفسير فرات عن حمران قال: سمعت أبا جعفر يقرأ هذه الآية: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمد على العالمين: قلت: ليس يقرأ هكذا، قال أدخل حرف مكان حرف) (5) .
وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله عن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} قال: "هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين فوضوا اسماً مكان اسم" (6) .
والهدف من
__________
(1) روح المعاني: 1/24
(2) آل عمران، آية: 33
(3) كناية عن الإمام
(4) تفسير القمي: 1/100
(5) تفسير فرات: ص18، بحار الأنوار: 92/56
(6) تفسير العياشي: 1/168، البرهان: 1/278، فصل الخطاب: ص 244(1/296)
هذا الافتراء والتزوير هو محاولة إثبات قولهم باثني عشر إماماً من كتاب الله، وفاتهم أن آل محمد لفظ عام، والاثني عشر عندهم هم عليّ وابناه وأولاد أحد أبنائه فقط، وما سواهم ينالون السب أو التفكير - كما سيأتي - فلم يتحقق الهدف لهم من التزوير ولا من التأويل، وهذه الأساطير التي تفتري على كتاب الله، وصحابة رسول الله بما فيهم أهل بيته، والتي تناقلتها كتب التفسير عندهم، نلاحظ أن صاحب مجمع البيان يعبر عنها بقوله: "وفي قراءة أهل البيت: وآل محمد على العالمين" (1) . وكذلك فعل في عدة من مفترياتهم جعلها قراءات (2) .
وأحياناً يجعل تلك الفرية معنى للآية؛ ففي أسطورتهم حول قوله جل شأنه:
__________
(1) مجمع البيان: 2/62
(2) كما في قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} ... التوبة، آية: 73.... جاء في تفسير القمي: "إنما نزلت: "جاهد الكفار بالمنافقين" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاهد المنافقين بالسيف". (تفسير القمي: 1/301) ، وهي أسطورة وضعت لتوافق مذهب الرافضة في الصحابة في رميهم بالنفاق، وزعمت أن الله يأمر رسوله بالاعتماد على المنافقين في الجهاد، وجعلت الجهاد في الإسلام قائماً على أكتاف المنافقين، فهي جهل فاضح بالإسلام، وتاريخ المسلمين، وتفسير القرآن، أو زندقة إلحاد، ومع ذلك فإن الطبرسي يعبر عن هذه الأسطورة بقوله: "وروي في قراءة أهل البيت: جاهد الكفار بالمنافقين"، وحاول أن يوجه الآية بقوله: "وإنما كان يتألفهم لأن المنافقين لا يظهرون الكفر، وعلم الله تعالى بكفرهم لا يبيح قتلهم، إذ كانوا يظهرون الإيمان" (مجمع البيان: 3/100) ، ولكن هذا التعليل لا ينسجم بحال مع معنى الآية، فالله يأمر نبيه بجاهد الكفار والمنافقين، فكيف تجعل تألف المنافقين هو جهاد للكفار بهم، ولم يقم الجهاد في الإسلام بالمنافقين {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} ... التوبة، آية: 47....
وقد قال السلف في تفسير الآية: جاهد الكفار بالسيف والقتل، وكذلك جاهد المنافقين باللسان وترك الرفق، كما قال ابن عباس، أو باليد أو اللسان أو القلب على حسب القدرة، ولا تلقهم إلا بوجه مكفهر كما قال ابن مسعود، أو بإقامة الحدود عليهم كما قال الحسن وقتادة. وكلها معان تدل على مجاهد المنافقين وعدم العفو عنهم.
ولهذا قال عطاء: نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح (انظر: تفسير الطبري: 12/183-174، تفسير البغوي: 2/311) وأنت ترى الفرق الكبير بين نص الآية الذي يأمر بجهاد المنافقين، وبين تلك القراءة المفتراة التي تأمر بالجهاد بهم(1/297)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (1) . قالت الأسطورة: "عن أبي جعفر نزل جبرائيل على رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه الآية هكذا: "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله (في علي) فأحبط أعمالهم" انظر إلى هذه الزيادة التي افتروها وهي قولهم: "في علي" (2) . تجدها تتحول عند الطبرسي إلى معنى للآية يقول: "كرهوا ما أنزل الله في حق علي رضي الله عنه" (3) .
هذا بعض ما جاء في كتاب مجمع البيان، الذي سار في تأليفه على منهج الطوسي في التبيان، وقرر ثقة الشيعة في العصور المتأخرة "النوري الطبرسي" أن كتاب التبيان موضوع على أسلوب المداراة وتقية الخصوم، فإن صدق هذا الوصف انطبق على الاثنين معاً، لأن منهجهما واحد، وقد انخدع بأسلوب "مجمع البيان" قلة من المنتسبين لأهل السنة ممن ينتمي لدار التقريب في القاهرة، والتي كانت حية إلى وقت قريب قبل أن تتبين حقيقتها.. فقاموا بإخراج هذا الكتاب باسم التقريب وعمل على مراجعته وتصحيحه وضبطه ستة من الشيوخ المنتسبين لأهل السنة (4) ، وذلك لأن من لم يتعرف على نصوصهم لا يدرك "الخدعة" التي انطوى عليها هذا التفسير.. ويبدو أن ذلك الأسلوب هو الذي جعل بعض الشيعة يعتبر إنكار الطبرسي تقية.
هؤلاء هم الأربعة الذين نقلت أقوالهم، وقد يكون هناك من أنكر غيرهم ولم تصلنا أقوالهم، فإن المفيد في أوائل المقالات نسب الإنكار إلى جماعة من الإمامية - كما سلف - ولا نجزم بأن هؤلاء الأربعة لا يوجد لهم خامس في القرون المتقدمة كصاحب فصل الخطاب الذي يريد أن يخنق هذا الصوت، ويجعل جل الشيعة على مذهبه (5) .
__________
(1) سورة محمد، آية: 9
(2) انظر: فصل الخطاب: 330 - 331
(3) مجمع البيان: 6/32
(4) انظر: مجمع البيان: 10/575 (كلمة ختامية) ط. دار التقريب
(5) انظر: ص (338) هامش (2) من هذه الرسالة(1/298)
وفي النهاية أقول: بأن هذا الموقف من كبار علماء الشيعة في رد وإنكار ما ورد في كتبهم مما يمس كتاب الله - سبحانه - لا نقول: إنه تقية فلا سبيل إلى معرفة ذلك على وجه اليقين، وإن كان البعض من السنة (1) . والشيعة (2) . قد ذهب إلى ذلك، فقد لاحظت الصراع الدائر بين الطائفتين في فصل الخطاب، كما تبين شيوع الكذب والدس فيكتبهم كما بينا، ثم إن من يتبرأ من هذا الكفر (بعد إيمانه بالله ورسوله) نقبل ذلك منه والله يتولى السرائر.
وهذا الإنكار خطوة يجب أن تتلوها خطوات، وذلك بأن يعيدوا النظر في سائر ما شذوا به عن جماعة المسلمين، وقد أشار شيخهم المجلسي - كما مر - إلى أنهم يجب أن يسلكوا هذا المسلك، إذ يترتب في رأيه على إنكار أخبار التحريف التي تواترت من طرقهم بالكذب والافتراء يترتب على ذلك رفع الثقة والاعتماد في سائر أخبارهم.. وهذا حق، فإن تواتر هذا الكذب في كتبهم من أكبر الأدلة على وضعها وفشو الكذب فيها.
نتائج الموضوع:
أولاً: يحتمل أن هذه الأسطورة نشأت عند الشيعة في القرن الثاني، والذي تولى كبرها بعض الغلاة (وقد مر ذكر بعض أسمائهم) ، وكان من أسبابها خلو كتاب الله مما يثبت بدعهم في الإمامة، والصحابة وغيرهما.
ثانياً: أكثر كتب الشيعة المعتمدة عندهم قد روت هذا الكفر، وجاءت معظم هذه الروايات صريحة في ذلك لا يمكن حملها على أنهم يقصدون تأويل الآية، أو بيان القراءات التي وردت فيها، بل جاءت تصرح بأن الآية هكذا والصحابة -
__________
(1) انظر: ص (213)
(2) انظر: ص (279)(1/299)
بزعمها - غيرت ذلك، مثل الألفاظ التالية: "هذه الآية مما غيروا وحروفوا.." (1) . يعنون الصحابة، وقولهم: "أنزل الله سبعة بأسمائهم فمحت قريش ستة وتركوا أبا لهب" (2) ، "كانت فيه أسماء رجال فألقيت" (3) ، وقولهم: "هكذا والله نزل به جبرائيل على محمد ولكنه فيما حرف من كتاب الله" (4) ، وقولهم: "بلى والله إنه لمثبت فيها وإن أول من غير ذلك لابن أروى" (5) . ومثل ذلك كثير.
فمن يقل من الشيعة: إن رواياتهم الواردة في كتبهم من جنس روايات القراءات، ونسخ التلاوة فهو يتستر على هذا الكفر، ويساوي بين الحق والباطل.
ثالثاً: ادعى جمع من شيوخهم استفاضة هذه "الأساطير" وكثرتها في كتبهم المعتمدة، وهذا طعن في كتبهم لا في كتاب الله سبحانه، ولهذا حاول بعض عقلائهم الخروج بالمذهب من هذا "المأزق" الذي وقع فيه، أو التستر على هذه الفضيحة.. ولكن هذه الأسطورة كانت رواياتها تزيد - عبر القرون - رغم إنكار المنكرين، وتبنى إشاعتها طائفة من الزنادقة الذين اندسوا في الشيعة.. ولا ريب بأن من يقل بهذه الأسطورة فليس من الإسلام في شيء، ولا علاقة له بكتاب الله ودينه، ولا برسول الإسلام وأهل بيته، بل له دين آخر غير دين الإسلام.
لكن هؤلاء القائلون بتغير القرآن الناقلون لتلك الأساطير كالمجلسي في بحار الأنوار، والطبرسي في فصل الخطاب نراهم يستشهدون من كتاب الله، ويفتتحون كل باب من أبواب كتبهم بآيات من القرآن، كما يفعل المجلسي في بحاره، والطبرسي في "مستدرك الوسائل" وغيرهما، بل إن الطبرسي الذي كتب في فصل الخطاب ما كتب قد عقد في كتابه: "مستدرك الوسائل" باباً بعنوان: "باب استحباب الوضوء
__________
(1) بحار الأنوار: 92/ 55
(2) رجال الكشي: ص290، بحار الأنوار: 92/54
(3) تفسير العياشي: 1/12 بحار الأنوار: 92/55
(4) بحار الأنوار: 92/56
(5) تفسير فرات: ص 177، بحار الأنوار: 91/56(1/300)
لمس كتابة القرآن ونسخه، وعدم جواز مس المحدث والجنب كتابة القرآن" (1) ، بل إن شيخ الشيعة المجلسي الذي قال - كما سلف - باستفاضة تلك الأساطير وأنها لا تقصر عن أخبار الإمامة يقول مع ذلك: "بأن الذي بين الدفتين كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان" (2) .
ثم استشعر التناقض بين هذا القول وبين أساطيرهم في تحريف القرآن فقال: "فإن قال قائل: كيف يصحّ القول بأن الذي بين الدفتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان، وأنتم تروون عن الأئمة عليهم السلام أنهم قرؤوا: "كنتم خير أئمة أخرجت للناس" أو "كذلك جعلناكم أئمة وسطاً" وقرؤوا: "يسألونك الأنفال" وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟ قيل له:.. إن الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله بصحتها، فلذلك وقفنا فيها، ولم نعدل عما في المصحف الظاهر على ما أمرنا به.. مع أنه لا ننكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلتين أحدهما ما تضمنه المصحف، والثاني ما جاء به الخبر، كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على وجوه شتى" ثم أشار إلى بعض القراءات (3) .
فما دام هذه نهاية الذين أثاروا تلك العقائد الكفرية، فلماذا أثاروا تلك المفتريات وتناقلوها.. والجواب واضح من خلال ما سبق أن عرضناه وهو إقناع قومهم وأتباعهم بصحة ما هم عليه من معتقدات، وأن آيات من القرآن قد حذفها الصحابة تشهد لمذهبهم، ولهذا لاحظنا أنهم أيضاً ادعوا نزول كتب إلهية غير القرآن، وفزعوا إلى التفسير الباطني؛ كل ذلك لإثبات شذوذهم.. فإذن تحولت تلك الدعاوى إلى مجرد محاولات للتخلص من الإلزامات الواردة عليهم بخلو كتاب الله مما يثبت عقائدهم، ولكن تلك الروايات كان لها آثارها على فرق
__________
(1) مستدرك الوسائل: 1/43
(2) بحار الأنوار: 92/75
(3) بحار الأنوار: 92/75(1/301)
الشيعة (1) ، بل على الاثني عشرية نفسها، فإن الأخباريين منهم يقدّمون أخبارهم على كتاب الله كما سلف (2) . حتى أشيع بأن الاثني عشرية لهم مصحف خاص بهم.
رابعاً: كما أن لديهم روايات تقول بالتحريف، فإن عندهم روايات أخرى تنفي هذا الباطل وتنكره مثل قول إمامهم: "واجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاحتجاج عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (3) . ومثل ما جاء عندهم في ثواب قراءة القرآن (4) ، وفضل حامل القرآن (5) ، ووجوب عرض أحاديثهم عليه (6) ، والتمسك به إلى قيام الساعة، وهذا يبطل أن يكون محرفاً أو مخفياً عند منتظرهم.
خامساً: تبين لنا أن هذه الأسطورة حملت بذاتها باطلها، وتبين من عناصر تكوينها فسادها، وكان مجرد عرضها كافياً في الرد عليها. ويكفي في بيان كذب الروافض.. أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق، وعند بعضهم نبي ناطق، وعند سائرهم إمام معصوم ولي الأمر وملك، فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر.. والقرآن يقرا في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به، والمصاحف معه وبين يديه. فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك؟
__________
(1) كالدروز الذين اتخذوا لهم مصحفاً سموه: "مصحف المنفرد بذاته".
(انظر: مصطفى الشكعة، إسلام بلا مذاهب، مقدمة الطبعة الخامسة، الخطيب/ عقيدة الدروز ص138-184)
(2) انظر: ص (116)
(3) انظر: الشعراني/ تعاليق علمية (على شرح الكافي للمازندراني) 2/414، وراجع تتمة النص في فصل: اعتقادهم في الإجماع
(4) انظر: أصول الكافي، كتاب فضل القرآن: 2/611
(5) أصول الكافي: 3/603
(6) أصول الكافي / باب الرد إلى الكتاب والسنة: 1/59(1/302)
ثم أتى ابنه الحسن وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك.
فكيف يسوغ لهؤلاء النوكى أن يقولوا إن في المصحف حرفاً زائداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا؟!
ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في رأي يسير رأوه ورأى خلافة فقط، فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه. والحمد لله رب العالمين (1) .
__________
(1) ابن حزم/ الفصل: 2/216-217(1/303)
الفصل الثاني: اعتقادهم في السنة
اعتبر الإمام عبد القاهر البغدادي الشيعة من المنكرين للسنة لرفضهم قبول مرويات صحابة رسول الهدى - عليه الصلاة والسلام (1) .- على حين نجد أن السيوطي يشير في كتابه "الاحتجاج بالسنة" إلى ظهور دعوة شاذة في عصره تدعو إلى نبذ السنة، والإعراض عن الاحتجاج بها والاكتفاء بالقرآن، ويذكر أن مصدر هذه الدعوة رجل رافضي، وقد كتب كتابه المذكور لنقض هذا الاتجاه وإبطاله.
إذاً فالشيعة تحارب السنة، ولهذا فإن أهل السنة اختصوا بهذا الاسم لاتباعهم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم (2) .
هذا ما جاء في بعض مصادر أهل السنة؛ ولكن الشيعة تروي عن أئمتها "أن كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف" (3) . وبهذا المعنى روايات أخر (4) . عندهم. وهو يفيد أن الشيعة لا تنكر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل تعتمد عليها، وتجعلها مع كتاب الله الميزان والحكم.
غير أن الدارس لنصوص الشيعة ورواياتها قد ينتهي إلى الحكم بأن الشيعة تقول بالسنة ظاهراً وتنكرها باطناً؛ إذ إن معظم رواياتهم وأقوالهم تتجه اتجاهاً مجانفاً للسنة التي يعرفها المسلمون، في الفهم والتطبيق، وفي الأسانيد، والمتون، ويتبين
__________
(1) انظر: الفرق بين الفرق ص: 322، 327، 346
(2) المنتقى ص 189، منهاج السنة: 2/175
(3) البهبودي/ صحيح الكافي: 1/11
(4) انظر: أصول الكافي مع شرحه، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب 2/417، وصحيح الكافي: 1/11(1/307)
ذلك فيما يلي:
قول الإمام كقول الله ورسوله:
فالسنة عندهم هي: "كل ما يصدر عن المعصوم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ" (1) ، ومن لا يعرف طبيعة مذهبهم لا يلمح مدى مجانبتهم للسنة في هذا القول؛ إذ إن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الشيعة تعطي صفة العصمة لآخرين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعل كلامهم مثل كلام الله وكلام رسوله، وهم الأئمة الاثنا عشر، لا فرق عندهم في هذا بين هؤلاء الاثني عشر وبين من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
فهم "ليسوا من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه، ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية؛ بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي" (2) .
ولا فرق في كلام هؤلاء الاثني عشر بين سن الطفولة، وسن النضج العقلي؛ إذ إنهم - في نظرهم - لا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم - كما سيأتي في مسألة العصمة -، ولهاذ قال أحد شيوخهم المعاصرين: "إن الاعتقاد بعصمة الأئمة جعل الأحاديث التي تصدر عنهم صحيحة دون أن يشترطوا إيصال سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الحال عند أهل السنة" (3) ، ذلك إن الإمامة عندهم "استمرار للنبوة" (4) ، وأن الأئمة كالرسل "قولهم قول الله وأمرهم أمر الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله وإنهم لم ينطقوا إلا عن الله تعالى وعن وحيه" (5) .
وقد جاء في الكافي ما يعدونه حجة لهم في هذا المذهب وهو قول
__________
(1) محمد تقي الحكيم/ الأصول العامة للفقه المقارن ص: 122
(2) المظفر/ أصول الفقه المقارن: 3/51، وانظر: السالوس/ أثر الإمامة ص274
(3) عبد الله فياض/ تاريخ الإمامية ص: 140
(4) محمد رضا المظفر/ عقائد الإمامية ص: 166
(5) ابن بابويه/ الاعتقادات ص: 106(1/308)
أبي عبد الله - كما يزعم صاحب الكافي - "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث رسول الله قول الله عز وجل" (1) .
وذكر شارح الكافي أن هذا القول يدل على "أن حديث كل واحد من الأئمة الظاهرين قول الله عز وجل، ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى" (2) .
بل قال: "يجوز من سمع حديثاً عن أبي عبد الله - رضي الله عنه - أن يرويه عن أبيه أو عن أحد من أجداده، بل يجوز أن يقول: قال الله تعالى" (3) ، وهذا صريح في جواز نسبة أقوال البشر إلى الله سبحانه. ثم ذكر أن بعض رواياتهم تدل على جواز ذلك بل أولويته (4) ، كما جاء في الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله - رضي الله عنه -: الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه عن أبيك أرويه عنك؟ قال: سواء، إلا أنك ترويه عن أبي أحب إليّ. وقال أبو عبد الله - رضي الله عنه - لجميل: ما سمعت مني فاروه عن أبي" (5) .
هذه الروايات صريحة في استساغتهم الكذب البواح الصراح حيث ينسبون - مثلاً - لأمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ما لم يقله، بل قاله بعض أحفاده ممن لم يشتهر عنه العلم، وحتى ما ينسب لمنتظره من أقوال يجوز نسبتها إلى أمير المؤمنين علي؛ بل النسبة إلى الأعلى أولى كما يدل عليه صريح الرواية السابقة،
__________
(1) أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث: 1/53، وسائل الشيعة: 18/58
(2) المازندراني/ شرح جامع (على الكافي) 2/272
(3) المازندراني/ شرح جامع (على الكافي) 2/272
(4) المازندراني/ شرح جامع (على الكافي) 2/272
(5) أصول الكافي (مع شرح جامع) : 2/259(1/309)
وقد أخذ من ذلك شارح الكافي أولوية نسبة أقوال الأئمة إلى الله عز وجل، وهذا في غاية الجرأة على الله عز وجل، فالسنة عندهم ليست سنة النبي فحسب؛ بل سنة الأئمة، وأقوال هؤلاء الأئمة كأقوال الله ورسوله، ولهذا اعترفوا بأن هذا مما ألحقته الشيعة بالسنة المطهرة، قالوا: "وألحق الشيعة الإمامية كل ما يصدر عن أئمتهم الاثني عشر من قول أو فعل أو تقرير بالسنة الشريفة" (1) .
وهم يقولون بهذا القول من منطلقين خطيرين، وقاعدتين أساسيتين عندهم في هذه المسألة. وقد أشار أحد شيوخهم المعاصرين إليهما حينما ذكر أن قول الإمام عندهم يجري مجرى قول النبي، من كونه حجة على العباد واجب الاتباع، وأنهم لا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي.
فبين أن ذلك يتحقق لهم من طريقين "من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق التلقي عن المعصوم قبله كما قال مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -: "علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب" (2) ، فعلم الأئمة نوعان: علم حادث وهذا يتحقق عن طريق الإلهام وغيره، وعلم مستودع عندهم ورثوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والكل يعتبر من السنة.
وفيما يلي توضيح لهذين الأصلين الخطيرين عند الشيعة:
الأصل الأول: علم الأئمة يتحقق عن طريق الإلهام والوحي:
علم الأئمة يتحقق - في نظرهم - عن طريق الإلهام، وحقيقته كما قال صاحب الكافي في روايته عن أئمته: "النكت في القلوب" (3) ، وفي لفظ آخر له: "فقذف في القلوب" وصرح أن ذلك هو الإلهام حيث قال: "وأما النكت في القلوب فإلهام" (4) ، أي أن العلم ينقدح في قلب الإمام فيلهم القول الذي لا يتصور فيه
__________
(1) محمد تقي الحكيم/ سنة أهل البيت ص: 9
(2) محمد رضا المظفر/ أصول الفقه: 3/51
(3) أصول الكافي: 1/264
(4) أصول الكافي: 1/264(1/310)
الخطأ لأن الإمام معصوم.
والإلهام ليس هو الوسيلة الوحيدة في هذا، كما حاول أن يلطف من الأمر ذلك الشيعي المعاصر الذي نقلنا كلامه آنفاً، بل صرح صاحب الكافي في أن هناك طرقاً أخرى غيره، حيث ذكر في بعض رواياته أن من وجوه علوم الأئمة "النقر في الأسماع" من قبل الملك، وفرّق بين هذا والإلهام حيث قال: "وأما النكت في القلوب فإلهام، وأما النقر في الأسماع فأمر الملك" (1) .
إذن هناك وسيلة أخرى غير الإلهام، وهو نقر في الأسماع بتحديث الملك (2) ، وهو يسمع الصوت ولا يرى الملك كما جاء في الروايات الأربع في باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث من أصول الكافي، وكلها قالت: إن "الإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص" (3) . وذكر صاحب البحار (15) رواية في هذا المعنى في باب عقدة بعنوان: "باب أنهم محدثون مفهمون" (4) .
ولكن كيف يعلم أنه كلام الملك وهو لا يراه؟ قال إمامهم: "إنه يعطى السكنية والوقار حتى يعلم أنه كلام الملك" (5) .
ثم بعد أبوابٍ عدة يعود صاحب الكافي ينقض ما قرره في الروايات السابقة، ويثبت تحقيق رؤية الإمام للملك في روايات أربع في باب عقده بعنوان: "باب الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بسطهم، وتأتيهم بالأخبار عليهم السلام" (6) ، ثم ما تلبث أن تزيد هذه الروايات الأربع، لتصل إلى ست وعشرين رواية عند
__________
(1) أصول الكافي: 1/264
(2) المازندراني/ شرح جامع (على الكافي) : 6/44
(3) انظر: أصول الكافي: 1/176-177، وقد صحح هذه الروايات صاحب الشافي شرح الكافي: 3/29
(4) المجلسي: 26/73 وما بعدها
(5) أصول الكافي: 1/271، بحار الأنوار: 26/68، الصفار/ بصائر الدرجات ص: 93
(6) أصول الكافي: 1/393-394(1/311)
صاحب بحار الأنوار ليجمعها في باب أكثر صراحة على التأكيد على رؤية الإمام للملك حيث جعل عنوانه "باب أن الملائكة تأتيهم وتطأ فرشهم وأنهم يرونهم" (1) .
وتتحدث رواية أخرى لهم عن أنواع الوحي للإمام فتذكر أن جعفراً قال: "إن منا لمن ينكت في أذنه، وإن منا لمن يؤتى في منامه، وإن منا لمن يسمع صوت السلسلة تقع على الطشت (كذا) ، وإن منا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرائيل وميكائيل" (2) .
وثمة روايات أخرى في البحار بهذا المعنى (3) . وكأنهم بهذا المقام أرفع من النبي الذي لا يأتيه إلا جبرائيل، وتأتي روايات تبين هذه الصورة التي أعظم من جبرائيل وميكائيل بأنها الروح (4) . عندهم، وقد خصها صاحب الكافي بباب مستقل بعنوان: "باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة"، وذكر فيها ست روايات (5) ، منها: "عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله - صلى الله عليه وآله - يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده" (6) .
ومعلوم أن الروح في هذه الآية المراد بها القرآن، كما يدل عليه لفظ الآية {أَوْحَيْنَا} ، وقد سماه الله سبحانه روحاً لتوقف الحياة الحقيقية على الاهتداء به (7) . وكأن هذه
__________
(1) بحار الأنوار: 26/355 وما بعدها
(2) بحار الأنوار: 26/358، بصائر الدرجات ص: 63
(3) انظر: بحار الأنوار: 26/35 وما بعدها، الروايات رقم: 110، 111، 112، 130
(4) وقد ورد في معاني الأخبار لابن بابويه تفسير للروح بأنها - كما يقول إمامهم -: "عمود من نور بيننا وبين الله عز وجل". عيون الأخبار ص: 354
(5) أصول الكافي: 1/273-274
(6) أصول الكافي: 1/273
(7) شرح الطحاوية: ص 4(1/312)
الدعاوى حول الوحي للإمام قد غابت عن مفيدهم (المتوفى سنة 413هـ) أو أنها صنعت فيما بعد؛ إذ رأينا المفيد يقرر الاتفاق والإجماع على "أنه من يزعم أن أحداً بعد نبينا يوحى إليه فقد أخطأ وكفر.." (1) ، أو يكون قولهُ هذا تقية.
إذن الإمام يلهم، ويسمع صوت الملك، ويأتيه الملك في المنام واليقظة، وفي بيته ومجلسه، أو يرسل له ما هو أعظم من جبرائيل يخبره ويسدده، وليس ذلك نهاية الأمر، بل لدى الأئمة أرواح أخرى، ووسائل أخرى؛ لديهم خمسة أرواح: روح القدس، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح القوة، وروح الشهوة.
ذكر ذلك صاحب الكافي في باب بعنوان: "باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة عليهم السلام" (2) . فذكر في ذلك ست روايات، بينما تطورت هذه المسألة عند صاحب البحار فبلغت رواياتها (74) رواية (3) .
وقد ركزت رواياتهم على روح القدس، فذكرت أن هذه الروح تنتقل إلى الأئمة بعد موت الأنبياء "فإذا قبض النبي - صلى الله عليه وآله - انتقل روح القدس إلى الإمام" (4) . "وبروح القدس" عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى" (5) ، "وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو" (6) ، وبروح القدس يستطيع أن يرى الإمام "ما غاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى" (7) .
بل إن الأئمة تذهب إلى عرش الرحمن - كما يزعمون - كل جمعة لتطوف
__________
(1) أوائل المقالات: ص39
(2) أصول الكافي: 1/271
(3) بحار الأنوار: 25/47-99
(4) أصول الكافي: 1/272
(5) أصول الكافي: 1/272
(6) أصول الكافي: 1/272، والزهو: الرجاء الباطل والكذب والاستخفاف (هامش الكافي: 1/272)
(7) الغفاري/ تعاليق على أصول الكافي: 1/272 (الهامش)(1/313)
به فتأخذ من العلم ما شاءت.
قال أبو عبد الله: "إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله - صلى الله عليه وآله- العرش ووافى الأئمة - عليهم السلام - معه ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفذنا" (1) .
وجاءت روايات أخرى بهذا المعنى ذكرها الكليني في باب خصصه لهذه الدعوى بعنوان: "باب في أن الأئمة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة". وذكر فيه ثلاث روايات (2) ، ثم جاء صاحب البحار فذكر في هذا الموضوع (37) رواية في باب عقده في هذا الشأن بعنوان: "باب أنهم يزدادون وأرواحهم تعرج إلى السماء" (3) .
بل جاء في البحار تسع عشرة رواية تذكر بأن الله تعالى ناجى علياً، وأن جبرائيل يملي عليه.. (4) . كما جاءت فيه سبع عشرة رواية تتحدث عن تحف الله تعالى وهداياه إلى علي (5) . كما ذكر المجلسي: "أن الله - بزعمهم - يرفع للإمام عموداً ينظر به إلى أعمال العباد" واستشهد لذلك بست عشرة رواية (6) .
كل هذه العلوم التي تتحقق لهم بهذه الوسائل يسمونها: "العلم الحادث" (7) . وتحققها موقوف على مشيئة الأئمة، كما أكدت ذلك روايات صاحب الكافي التي جاءت في الباب الذي عقده بعنوان: "باب أن الأئمة عليهم السلام إذا شاؤوا أن يعلموا علموا" (8) ، وذكر فيه روايات ثلاثاً كلها تنطق بـ"أن الإمام إذا شاء أن يعلم أعلم" (9) ، وفي لفظ آخر: "إذ أراد الإمام أن يعلم شيئاً
__________
(1) أصول الكافي: 1/254، بحار الأنوار: 26/88-89، بصائر الدرجات: ص36
(2) انظر: أصول الكافي: 1/253
(3) انظر: بحار الأنوار: 26/86-97
(4) بحار الأنوار: 39/151-157
(5) بحار الأنوار: 39/118-129
(6) بحار الأنوار: 26/132-136
(7) انظر: أصول الكافي: 1/264
(8) أصول الكافي: 1/258
(9) أصول الكافي: 1/258(1/314)
أعلمه الله ذلك" (1) . فالوحي للأئمة ليس بمشيئة الله وحده كما هو الحال مع الرسل - عليهم السلام - بل تابع لمشيئة الإمام!!
وهذا العلم الحادث الذي يحدث للأئمة متى شاؤوا فيجعل كلامهم مثل كلام الله ورسوله، ليس هو كل ما عند الأئمة، بل لديهم ما تسميه رواياتهم بالعلم الغابر، العلم المزبور (2) ، وهو ما أودع الأئمة من علوم ومن كتب وصحف، وهي الأساس الثاني لقولهم بأن كلام الإمام يجري مجرى كلام الله ورسوله، وهو ما سنبينه في المبحث التالي.
الأصل الثاني: خزن العلم وإيداع الشريعة عند الأئمة:
جاء في الكافي عن موسى جعفر قال - كما يزعمون -: "مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأما الماضي فمفسّر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبيا" (3) . وفي البحار وبصائر الدرجات ثلاث روايات بهذا اللفظ (4) .
العلم الحادث هو ما تقدم بيانه، وهو كما أشارت الرواية يعد من أفضل علومهم، لأنه كما يقول بعض شيوخهم: حصل لهم من الله بلا واسطة (5) .؛ أي من الله مباشرة بلا واسطة ملك من الملائكة، وهذا يشبه قول غلاة الصوفية مثل ابن عربي.
__________
(1) أصول الكافي: 1/258
(2) انظر: باب جهات علوم الأئمة، من أصول الكافي: 1/264
(3) أصول الكافي: 1/264.
وقد جاء في رواية أخرى لهم قول إمامهم: ".. أما الغابر فالعلم بما يكون، وأما المزبور فالعلم بما كان" (انظر: بحار الأنوار: 26/18، المفيد/ الإرشاد ص 257، الطبرسي/ الاحتجاج ص:203) وهذا التفسير كأنه يشير إلى موضوع كل نوع، فنوع يتعلق بالحوادث الماضية، وآخر يتعلق بالحوادث المستقبلة
(4) بحار الأنوار: 26/59، بصائر الدرجات ص 92
(5) المازندراني/ شرح جامع: 6/44(1/315)
أما الماضي المفسّر والغابر المزور فقد أوضح شارح الكافي معناهما بقوله: "يعني: الماضي الذي تعلق علمنا به وهو كل ما كان مفسراً لنا بالتفسير النبوي، والغابر المزبور الذي تعلق علمنا به هو كل ما يكون مزبوراً مكتوباً عندنا بخط علي - رضي الله عنه - وإملاء الرسول وإملاء الملائكة مثل الجامعة وغيرها".
فبهذا يتبين أن العلم المستودع عند الأئمة نوعان: كتب ورثوها عن النبي، أو علم تلقوه مشافهة منه صلى الله عليه وسلم. وفحوى هذا الاعتقاد الذي يعتبر من ضرورات مذهبهم وأركان دينهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ جزءاً من الشريعة وكتم الباقي وأودعه الإمام علياً فأظهر علي منه جزءاً في حياته، وعند موته أودعه الحسن وهكذا كل إمام يظهر منه جزءاً حسب الحاجة ثم يعهد الباقي لمن يليه إلى أن صار عند إمامهم المنتظر.
وقد مر بنا ما قاله شيخهم وآيتهم محمد بن حسين آل كاشف الغطا (ت1376هـ) من أن الأحكام في الإسلام قسمان: قسم أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وقسم كتمه أودعه أوصياءه، كل وصي يخرج منه ما يحتاجه الناس في وقته ثم يعهد به إلى من بعده، حتى زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يذكر حكماً عاماً ولا يذكر مخصصه أصلاً؛ بل يودعه عند وصيه إلى وقته (1) .
وقال شيخهم المعاصر بحر العلوم: "لما كان الكتاب العزيز متكفلاً بالقواعد العامة دون الدخول في تفصيلاتها، احتاجوا إلى سنة النبي.. والسنة لم يكمل بها التشريع!!، لأن كثيراً من الحوادث المستجدة لم تكن على عهده صلى الله عليه وسلم احتاج أن يدخر علمها عند أوصيائه ليؤدوها عنه في أوقاتها" (2) .
__________
(1) انظر: أصل الشيعة: ص77، وانظر ص 146 من هذه الرسالة
(2) بحر العلوم/ مصابيح الأصول: ص 4، وأقوال شيوخهم في هذا المعنى كثيرة، فيقول - مثلاً - آيتهم العظمى شهاب الدين النجفي: "إن النبي صلى الله عليه وسلم ضاقت عليه الفرصة ولم يسعه المجال لتعليم جميع أحكام الدين.. وقد قدّم الاشتغال بالحروب على التمحص (كذا) ببيان تفاصل الأحكام.. لاسيما مع عدم كفاية استعداد الناس في زمنه لتلقي جميع ما يحتاج =(1/316)
هذه بعض الخطوط العامة لهذه العقيدة الخطيرة في مذهب الشيعة، أما شواهدها فإن المقام سيطول لو عرضت لها كلها فكيف بتحليها ونقدها.. فلنذكر على سبيل الإجمال..
فهم يزعمون أن الأئمة هو خزنة علم الله ووحيه، وقد عقد صاحب الكافي باباً لهذا بعنوان: "باب أن الأئمة - عليهم السلام - ولاة أمر الله وخزنة علمه" (1) . وضمن هذا الباب ست روايات في هذا المعنى، وباباً آخر بعنوان: "أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم" (2) ، وفيه سبع روايات، وباباً ثالثاً بعنوان: "أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل - عليهم السلام -" (3) . وفيه أربع روايات.
وهذا العلم المستودع نوعان - كما سبق - (مفسر، ومزبور) ، أما المفسر فمما ذكروه فيه ما جاء في أصول الكافي: "باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه علماً إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم"، وذكر فيه ثلاث روايات (4) ، وقريب من هذا ما جاء في البحار في باب بعنوان: "باب أنه صلوات الله عليه كان شريك النبي - صلى الله عليه وآله - في العلم دون النبوة،
__________
= إليه طول قرون" (النجفي/ تعليقاته على إحقاق الحق: 2/28-289) .
انظر: كيف يطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قدّم الاشتغال بالحروب على تبليغ شريعة الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} .. فهل أعرض رسول الهدى عن أمر ربه؟ ! وهل أمثال هؤلاء من أتباع الرسول.. فضلاً عن أن يكونوا من أنصار أهل بيته؟! أليس إقراراهم لهذه العقيدة هو تكذيب لقول الله جل شأنه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} فالله سبحانه أكمل لنا الدين، وكل قول خلاف هذا كفر وضلال.. ولكن الدين لم يكمل ولن يكمل هو دين الشيعة الذي يزيد فيه شيوخهم على مر الدهور ولا يزال في نقص واختلاف لأنه من وضع البشر
(1) أصول الكافي: 1/192-193
(2) أصول الكافي: 1/223-226
(3) أصول الكافي: 1/225-256
(4) انظر: أصول الكافي: 1/263(1/317)
وأنه علم كلما علم صلى الله عليه وآله وأنه أعلم من سائر الأنبياء عليهم السلام" وقد استشهد لذلك باثنتي عشرة رواية من رواياتهم (1) .
كما قدم المجلسي اثنتين وثمانيني رواية تتحدث عن علم علي وأن النبي صلى الله عليه وسلم عمله ألف باب من العلم.. في باب عقده لهذه الموضوع (2) ، قالت إحدى رواياته بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى علي ألف حديث لم تعلمه الأمة، وزعمت أن علياً أعلن ذلك للناس فقال: "أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إليّ ألف حديث، في كل حديث ألف باب، لكل باب ألف مفتاح" (3) .
ومرة أخرى زعمت أن أبا عبد الله قال: "أوصى رسول الله - صلى الله عليه وآله - إلى علي - عليه السلام - بألف باب كل باب يفتح ألف باب" (4) . ثم زعمت أن علياً قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وآله علمني ألف باب من الحلال والحرام، ومما كان ومما يكون إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب فذلك ألف ألف باب، حتى علمت المنايا والبلايا، وفصل الخطاب" (5) . كما قالت بأن رسول صلى الله عليه وسلم جلل علياً بثوبه - عند موته - وأنه حدثه بألف حديث كل حديث يفتح ألف باب (6) .
وهذا كله ليس بذاك العلم في نظر الأئمة بالقياس لما عندهم من علوم، فقد قال أبو بصير: "دخلت على أبي عبد الله فقلت له: إن الشيعة يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله علم علياً باباً يفتح منه ألف باب، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد، علم والله رسول الله صلى الله عليه وآله علياً ألف باب
__________
(1) بحار الأنوار: 40/208-212
(2) بحار الأنوار: 40/127-200
(3) بحار الأنوار: 40/127، ابن بابويه/ الخصال: 2/174
(4) بحار الأنوار: 40/129، الخصال: 2/175-176
(5) بحار الأنوار: 40/130، الخصال:2/175، بصائر الدرجات ص87
(6) بحار الأنوار: 40/215، بصائر الدرجات ص: 89-90(1/318)
يفتح له من كل باب ألف باب: قلت له: هذا والله هو العلم. قال: إنه لعلم وليس بذاك" (1) .
وقد استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته - كما تزعم روايات الشيعة - يعلم علياً علوماً وأسراراً لا يطلع عليها أحد سواه، وقد وصلت مبالغات الشيعة في هذه الدعاوى إلى مرحلة لا يصدقها عقل.. حتى قالوا بأن علياً استمر في تلقي العلم من فم الرسول حتى بعد موته - عليه الصلاة والسلام -، وعقد المجلسي لهذا باباً بعنوان: "باب ما علمه الرسول صلى الله عليه وآله عند وفاته وبعده.." (2) .
وقالت الرواية الأولى في هذا الباب إن علياً قال: "أوصاني النبي صلى الله عليه وآله فقال: إذا أنا متّ فغسلني بست قرب من بئر غرس (3) ، فإذا فرغت من غسلي فأدرجني في أكفاني، ثم ضع فاك على فمي، قال: ففعلت وأنبأني بما هو كائن إلى يوم القيامة" (4) . وقالت الرواية الثانية بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال - كما يفترون -: "يا علي، إذا أنا متّ فاغسلني وكفني ثم أقعدني وسائلني واكتب" (5) .
ومضت بقية الروايات على هذا النسق المظلم، حتى قالوا بأن علياً كان إذا أخبر بشيء قال: "هذا مما أخبرني به النبي صلى الله عليه وآله بعد موته" (6) . وهكذا يخربون بيوتهم بأيديهم، ويكشفون كذبهم بأنفسهم عبر مبالغتهم التي لا تكاد تنتهي، وهذا جزء من رواياتهم عن العلم الذي خصه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأورثه الأئمة من بعده.
ولم يكتف الخيال الشيعي بهذا؛ بل زعم أن عند الائمة العلم المزبور، أو
__________
(1) وهي رواية طويلة تتحدث عن العلوم الوهمية التي عند الأئمة. انظرها في أصول الكافي: 1/238 وما بعدها، وانظر: بحار الأنوار: 40/130، الخصال: 2/176-177
(2) بحار الأنوار: 40/213-218
(3) بئر غرس: بئر بالمدينة. (انظر: معجم البلدان: 4/193، معجم ما استعجم: 2/994، المراصد: 2/988)
(4) بحار الأنوار: 40/213، بصائر الدرجات: ص80
(5) بحار الأنوار: 40/213، بصائر الدرجات: ص80
(6) بحار الأنوار: 40/215، الخرائج والجرائح: ص132(1/319)
الكتب التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء على ذكر بعضها صاحب الكافي في باب عقده بعنوان" باب فيه ذكر الصحيفة، والجفر والجامعة ومصحف فاطمة - عليها السلام -" (1) ، وفي باب آخر بعنوان: "ما أعطى الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم" (2) ، وفي باب ثالث بعنوان: "باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء عليهم السلام" (3) .
أما شيخهم المجلسي فقد أكثر من الروايات في هذا الباب، وجمع ما في معظم كتب شيوخهم المعتمدة عندهم، وسجل ذلك في بحاره في أبواب متعددة تضمنت روايات يصعب حصرها، مثل: "باب جهات علومهم عليهم السلام وما عندهم من الكتب.."، وقد بلغت أخبار هذا الباب (149) خبراً انتخبها كعادته من مجموعة من كتبهم المعتمدة لديهم (4) ، وباب "في أن عندهم كتباً فيها أسماء الملوك الذين يملكون في الأرض" (5) ، وباب "في أن عندهم صلوات الله عليهم كتب الأنبياء عليهم السلام يقرءونها على اختلاف لغاتها" (6) ، وباب "أن عندهم جميع علوم الملائكة والأنبياء وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء عليهم السلام، وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله ولا تبقى الأرض بغير عالم" (7) ، وباب "أنهم عليهم السلام.. عندهم كتاب فيه أسماء أهل الجنة وأسماء شيعتهم وأعدائهم" (8) .
وتحدثت روايات هذه الأبواب عما ورثه الأئمة من صحف وغيرها، أو عن المصادر الوهمية التي تزعم الرافضة عند أئمتهم الاثني عشر والتي فيها -
__________
(1) أصول الكافي: 1/238-242
(2) أصول الكافي: 1/230
(3) أصول الكافي: 1/231-232
(4) بحار الأنوار: 26/18-66
(5) بحار الأنوار: 26/155-156 (وفيه 7 روايات)
(6) بحار الأنوار: 26/180-189 (وفيه 27 رواية)
(7) بحار الأنوار: 26/159-179 (وفيه 63رواية)
(8) بحار الأنوار: 26/117-132 (وفيه 40 رواية)(1/320)
كما يزعمون - كل ما يحتاجه الناس، ولو ذهبنا نعرض ونفصل ما احتوته هذه الأبواب، ونحلل معلوماتها، ونبين ضروب تناقضاتها وأوهامها لكان بذاته بحثاً مستقلاً؛ ولكن نكتفي بالإشارة والمثال.
لقد كان مما تضمنته هذه الأبواب روايات عديدة عن صحيفة تسمى الجامعة أو الصحيفة، وصفوها بأنها "سبعون ذراعاً بخط علي عليه السلام، وإملاء رسول الله صلى الله عليهما وعلى أولادهما - كذا - فيها من كل حلال وحرام" (1) ، وليس من قضية إلا هي فيها حتى أرش الخدش (2) ، وتكرر ذكر هذه المعلومات وما في معناها في روايات كثيرة (3) .
ومن العجب أن أئمتهم يعدون أتباعهم بأنهم سيحكمون بما في هذه الصحيفة لو تمكنوا من الحكم حيث قالوا: "لو ولينا الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة" (4) .
أما القرآن فليس له ذكر، كما يخبرون بأنها هي دستورهم الذي يتبعون، حيث قالوا: ".. فنحن نتبع ما فيها ولا نعدوها" (5) . وزعم أبو بصير (أحد رواتهم) بأنه رآها عند أبي جعفر (6) ، كما زعم زرارة أنه استمع إلى نص من نصوصها يقول: "إن ما يحدث به المرسلون كصوت السلسلة أو كمناجاة الرجل صاحبه" (7) .
كما نقلت رواياتهم أخباراً عن كتاب يسمونه كتاب علي، ووصفوا شكله
__________
(1) أصول الكافي: 1/239، بحار الأنوار: 26/22
(2) أصول الكافي: 1/239، بحار الأنوار: 26/22
(3) انظر: بحار الأنوار: 26/22 وما بعدها، الروايات التالية: رقم 11، 13، 15، 17، 18، 22، 23، 25، 61، 65، 78، 80، 90 وغيرها
(4) بحار الأنوار: 26/22-23، بصائر الدرجات: ص39
(5) بحار الأنوار: 26/22-23، بصائر الدرجات: ص39
(6) بحار الأنوار: 26/23، بصائر الدرجات: ص39
(7) بحار الأنوار: 26/24، بصائر الدرجات: ص 39-40(1/321)
بأنه "مثل فخذي الرجل مطوّى" (1) . وأنه "خط علي بيده وإملاء رسول الله" (2) ، ولم ينقلوا لنا من نصوصه وأحكامه إلا هذا الحكم الجائر الذي يقول: "إن النساء ليس لهن من عقار الرجل إذا هو توفي عنها شيء، هذا والله خط علي بيده وإملاء رسول الله" (3) ، وهم يأخذون بهذا النص من ذلك الكتاب الموهوم، ويعرضون عن نصوص القرآن العامة والتي لم تفرق بين العقار وغيره. ثم إن هذا يناقض ما يدّعونه بأن لفاطمة نصيباً في فدك (4) .
ويبدو من خلالهم رواياتهم أن هذا الكتاب لا يظهر له صوت إلا في جو من الإلحاد والزندقة؛ إذ إنه ما إن قتل المغيرة (5) . والذي تعترف كتب الرافضة بغلوه حتى زاد حصرهم على إخفاء الكتاب، فقد قال جعفرهم حينما نقل له نص في ولاية علي: " ... هذا مكتوب عندي في كتاب عليّ ولكن دفعته أمس حين كان هذا الخوف وهو حين صلب المغيرة" (6) .
كما تتحدث رواياتهم عن صحيفة فيها تسع عشرة صحيفة قد حباها أو خباها (7) . رسول الله صلى الله عليه وآله عند الأئمة (8) ، ولا تفصح عن شيء أكثر من هذا.
وتذكر أخبارهم بأنه: "في ذؤابة سيف علي صحيفة صغيرة، وأن علياً عليه السلام دعا إليه الحسن فدفعها إليه ودفع إليه سكيناً وقال له: افتحها، فلم يستطيع
__________
(1) بحار الأنوار: 26/51، بصائر الدرجات: ص45
(2) بحار الأنوار: 26/51، بصائر الدرجات: ص45
(3) بحار الأنوار: 26/51، بصائر الدرجات: ص45
(4) وحاولوا التخلص من ذلك بزعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خصها بذلك في حياته. (انظر: مقتبس الأثر: 23/179)
(5) المغيرة بن سعيد البجلي الكوفي، أحد الزنادقة، تقدم التعريف به ص: (168)
(6) بحار الأنوار: 26/52-53، بصائر الدرجات: ص 45، وانظر الحديث عن كتاب علي المزعوم في: البحار: 26/24 رقم: 54، 55، 59.
(7) على اختلاف نسخهم ما بين اللفظين
(8) بحار الأنوار: 26/24، بصائر الدرجات: ص39(1/322)
أن يفتحها ففتحها له، ثم قال له: اقرأ، فقرأ الحسن - عليه السلام - الألف والباء والسين واللام وحرفاً بعد حرف، ثم طواها فدفعها إلى الحسين عليه السلام فلم يقدر أن يفتحها، ففتحها له ثم قال له: اقرأ يا بُنَيَّ، فقرأها كما قرأ الحسن عليه السلام، ثم طواها فدفعها إلى ابن الحنفية فلم يقدر على أن يفتحها ففتحها له فقال له: اقرأ، فلم يستخرج منها شيئاً، فأخذها وطواها ثم علقها بذؤابة السيف" (1) .
وقد سئل أبو عبد الله عن ما في هذه الصحفية فقال: "هي الأحرف التي يفتح كل حرف ألف باب" (2) . وقال أبو عبد الله - عليه السلام -: "فما خرج منها إلا حرفان الساعة" (3) . ولم يفصح هذا النص عن معاني هذه الحروف المبهمة، والتي يفتح بها آلاف من الأبواب المغلقة - كم يزعمون -، ولماذا لم يستفد منها الأئمة، وهم في أخبار الشيعة تتناوبهم المحن، ويعيشون في ظل الخوف والتقية، حتى ظل آخرهم قابعاً في سردابه - فيما يزعمون - يمنعه الخوف من أعدائه كل هذه القرون المتطاولة؟!
وقد أشار شيخ الإسلام إلى ما يشبه هذه الدعوى حيث أشار إلى لون من استكشاف المستقبل بواسطة "حساب الجمل من حروف المعجم" وأشار إلى أن هذا مما ورث عن اليهود، وأن طائفة حاولت به استخرج مدة بقاء هذه الأمة" (4) . فقد تكون تلك الدعوى السابقة كشبيهتها هذه ذات أصل يهودي.. وهي على العموم ضرب من الهوس والجنون، أو لون من الكيد للأمة وإلهائها عن مهمتها في هذه الحياة، ونوع من التلبيس على عوام الشيعة وخداعها، وإغراقها في جو من الطلاسم والألغاز لا تبصر من خلاله طريقها، ولا تهتدي بسبب ظلماته إلى الصراط المستقيم.
ومزاعمهم في هذا الباب لا تكاد تنتهي.
__________
(1) بحار الأنوار: 26/56، بصائر الدرجات: ص89، المفيد/ الاختصاص ص284
(2) بحار الأنوار: 26/56، بصائر الدرجات: ص89، المفيد/ الاختصاص ص284
(3) بحار الأنوار: 26/56، بصائر الدرجات: ص89، المفيد/ الاختصاص ص284
(4) فتاوى شيخ الإسلام: 4/82 (جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم)(1/323)
فقد افتروا بأن علياً قال: "إن عندي صحفاً كثيرة.. وإن فيها لصحيفة يقال لها العبيطة، وما ورد عن العرب أشد عليهم منها، وإن فيها لستين قبيلة من العرب بهرجة (1) . ما لها في دين الله من نصيب" (2) .
ولعل القارئ يلاحظ من خلال قراءة هذا النص وأمثاله هوية واضع هذه النصوص.. وأنهم صنف من الشعوبية الذين يكنون كل حقد وكراهية للعرب، لا لمجرد جنسيتهم؛ ولكن للدين الذي يحملونه ويسعون في نشره، وأن هذا الصنف استغل التشيع ليحقق من خلاله كيده وعدوانه ضد الأمة ودينها.. ولقد انْطَلَت الخدعة على طوائف الشيعة فأوسعوا مصادرهم لأخبار هذا الصنف الحاقد، أو تعمدوا ذلك، والضحية هم الأتباع الجهلة الذين ينخدعون بهذه الأساطير، لأنها منسوبة لآل البيت، ولم يعلموا أن وراء الأكمة ما وراءها.
ومن الكتب التي عند أئمتهم - كما يزعمون - كتاب يسمى: "ديوان الشيعة" أو الناموس أو السمط على اختلاف رواياتهم في تسميته، قد سُجل فيه الشيعة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وكان أتباع الأئمة - كما تزعم روايات الشيعة - يذهبون إلى الأئمة ليقفوا على أسمائهم في هذا الديوان؛ لأن وجود الاسم فيه هو برهان النجاة (3) .
فمثلاً هذه امرأة تدعى حبابة الوالبية - كما تقول روايتهم - جاءت لأبي عبد الله وقالت له: "إن لي ابن أخ وهو يعرف فضلكم وإني أحب أن تعلمني أمن شيعتكم؟ قال: وما اسمه؟ قالت: فلان ابن فلان، قالت: فقال: يا فلانه، هاتي الناموس، فجاءت بصحيفة تحملها كبيرة فنشرها ثم نظر فيها فقال: نعم هو ذا اسمه واسم أبيه ها هنا" (4) .
ومن ليس له اسم في هذا الديوان فليس عندهم من
__________
(1) في القاموس: المبهرج: الباطل الرديء.. والمبهرج من المياه: المهمل الذي لا يمنع عنه، ومن الدماء: المهدر (القاموس: 1/180)
(2) بحار الأنوار: 26/37، بصائر الدرجات: ص41
(3) انظر رواياتهم في هذا في: بحار الأنوار: 26/117-132
(4) بحار الأنوار: 26/121، بصائر الدرجات: ص46(1/324)
أهل الإسلام؛ لأن إمامهم قال: "إن شيعتنا مكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم.. ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم" (1) . وأحياناً يقولون في رواياتهم بأنهم ورثوا ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه دُفع إليه - حينما أسري به - صحيفتان: صحيفة فيها أصحاب اليمين، وأخرى فيها أصحاب الشمال، وفيهما أسماء أهل الجنة، وأسماء أهل النار. وقد دفعهما الرسول - كما يزعمون - إلى عليّ، وتوارثها الأئمة من عليّ، وهما اليوم عند منتظرهم (2) .
كما أن لدى الأئمة كتاباً يقولون عنه بأنه: "وصية الحسين" وفيها ما يحتاج الناس (3) . أو "ما يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا إلى أن تفنى" (4) .
كما أن لدى الأئمة الجفر الأبيض (5) . وفيه كما تقول رواياتهم: "زبور داود،
__________
(1) بحار الأنوار: 26/123، بصائر الدرجات: ص47
(2) انظر: بحار الأنوار: 26/124-125، بصائر الدرجات: ص52، وإذا لاحظنا أنهم يزعمون بأن لكبار شيوخهم صلة بالمنتظر المزعمون، وهذا المنتظر عنده كل هذه العلوم، والتي منها سجل أسماء أهل الجنة وأهل النار، فلا يستبعد ما يقال بأن بعض آياتهم في دولتهم الحاضرة يصدرون صكوك الغفران والحرمان، ويغررون بأولئك المغفلين ويزجون بهم في أتون الحرب تحت تأثير هذه الأماني والوعود الكاذبة
(3) بحار الأنوار: 26/54، بصائر الدرجات: ص54
(4) أصول الكافي: 1/304
(5) الجفر: تقول رواياتهم في تفسيره بأنه: "وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل" (أصول الكافي 1/239) ومرة تنعته بأنه: "جلد ثور ملئ علماً" (المصدر السابق: 1/241) . وهل المسلمون بحاجة في دينهم إلى غير شريعة القرآن؟! لقد أكمل الله سبحانه لنا الدين، وختم بكتابه الكتاب، ونسخ بالإسلام الأديان كلها {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} ... آل عمران، آية: 85....
وتأتي روايات أخرى عندهم تجعل من هذه الجفر ألواناً؛ لكل لون مضمون يتناسب مع لونه، ونكهة توافق شكله، فنهاك الجفر الأبيض، وهناك الجفر الأحمر، والذي يحمل الموت الأحمر والذي "سيبعث" به منتظرها، وتتوعد الرافضة بهذا "الجفر" الصالحين من مسلف هذه الأمة وخلفها، لأنه يحكي أسطورة الانتقام الموعودة (انظر في الجفر الأحمر: أصول الكافي 1/240) ، وراجع: فصل المهدية والغيبة(1/325)
وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة، وفيه ما يتحاج الناس؛ حتى إن فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وثلث الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش" (1) .
النقد:
هذا، ونكتفي بهذا لقدر من المصادر الوهمية التي تزعمها الرافضة، والتي يغني في بيان فسادها مجرد عرضها وتصورها.. والتي لو كان شيء منها موجوداً لتغير وجه التاريخ، ولما عجز الأئمة - حسب منطق الروافض - عن الوصول إلى سدة الحكم، ولما عصفت بهن المحن، ومات كل واحد منهم مقتولاً أو مسموماً - كما يزعمون -، ولما غاب غائبهم في سردابه، وظل مختفياً قابعًا في مكمنه خوف القتل!! وهذه المزاعم الخطيرة التي دونها الروافض في المعتمد من كتبهم تحمل أمورًا خطيرة:
تحمل دعوى استمرار الوحي الإلهي، وهو باطل.. قامت الأدلة النقلية والعقلية على بطلانه، وأجمع المسلمون على أن "الوحي قد انقطع منذ مات النبي صلى الله عليه وسلم، والوحي لا يكون إلا لنبي، وقد قال الله سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) . وقد جاء في نهج البلاغة عن علي قال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله على حين فترة من الرسل.. فقفّى به الرسل، وختم به الوحي" (3) .
فهذا قد يدل على أن هذه الدعاوي التي مضى عرضها من صنيع شيوخ الشيعة المتأخرين، وقد لوحظ - كما سلف - أن مفيدهم (ت413هـ) يكفر من يذهب إلى القول بنسبة الوحي لغير الأنبياء.
ثم هي تدعي أن الدين لم يكمل وهي مخالفة صريحة لقول الله سبحانه:
__________
(1) بحار الأنوار: 26/37، بصائر الدرجات: ص41
(2) الأحزاب، آية: 40
(3) نهج البلاغة: ص191(1/326)
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..} (1) ، كما تزعم بأن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم لم يبلغ جميع ماأنزل إليه، وأنه لم يتمثل أمر ربه في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2) . وهذا إزراء بحق رسول الله، ولهذا وجد من فرق الشيعة من يقع في رسول الله (3) .
وقد بلَّغ النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وبيَّن الدين، وأقام الحجة على العالمين، وأعلن ذلك بين المسلمين، ولم يسر لأحد بشيء من الشريعة ويستكتمه إياه، قال تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (4) . فهو بيان للناس وليس لفئة معينة من أهل البيت، وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} (5) ، وقال: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ} (6) .
"فالدين قد تم وكمل لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يبدل" (7) . لا من إمام مزعوم، ولا من غائب موهوم.
وقد ودع المصطفى الدنيا بعد أن بلغ الدين كله وبين جميعه كما أمره ربه، وأعلم بذلك المسلمين أجمع "فلا سر في الدين عند أحد" (8) .
قال صلى الله عليه وسلم: "تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي
__________
(1) المائدة، آية: 3
(2) المائدة، آية: 67
(3) وهي طائفة العلبائية، سيأتي التعريف بها ص (619)
(4) آل عمران، آية: 187
(5) البقرة، آية: 159-160
(6) النحل، آية: 64
(7) ابن حزام/ المحلي: 1/26
(8) ابن حزام/ المحلي: 1/15(1/327)
إلا هالك" (1) .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "صدق الله ورسوله فقد تركنا على مثل البيضاء (2) .
وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد تركنا محمد صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً" (3) . وقال عمر رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه" (4) .
وقال الإمام الشافعي: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (5) ، بل قال جعفر الصادق - كما تنقل كتب الشيعة نفسها -: "إن الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزل الله فيه" (6) ، فكل ما تنسبه الشيعة بعد هذا كذب.
والرافضة ليست على شيء في مخالفتها في هذا الأصل العظيم الذي "هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصاماً بهذا الأصل كان أولى بالحق علماً وعملاً" (7) .
__________
(1) هذا جزء من حديث رواة ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب اتباع الخلفاء الراشدين: 1/16، وأحمد في مسنده: 4/126، والحاكم في مستدركه: 1/96، وابن أبي عاصم في كتاب السنة باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على مثل البيضاء"، وروى عدة روايات في هذا المعنى صحح الألباني معظمها
(2) رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/26
(3) روى هذا الأثر الإمام أحمد في مسنده 5/153
(4) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ج/73
(5) الرسالة: ص20
(6) أصول الكافي: 1/59
(7) معارج الوصول: ص2، وانظر: موافقة صحيح المنقول: 1/13(1/328)
وأين هذه "المصادر" اليوم؟ وماذا ينتظر "منتظرهم" حتى يخرج بها إلى الناس؟ وهل الناس بحاجة إليها في دينهم؟ فإن كان الناس بحاجة فلم تبقى الأمة منذ اختفاء الإمام "المزعوم" منذ أكثر من أحد عشر قرناً بعيدة عن مصدر هدايتها؟ وما ذنب كل هذه الأجيال المتعاقبة لتحرم من هذه "الفيوضات" والكنوز؟!
وإن لم تكن الأمة في حاجة إليها فلم كل هذه الدعاوى، ولم يصرف هؤلاء الشيعة عن مصدر هدايتهم وهو كتاب الله وسنة نبيه؟!
إن الحق الذي لا ريب فيه أن الله أكمل لنا ديننا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..} وكل دعوى بعد ذلك فهي باطل من القول وزور.
وكل هذه الدعاوى أرادت منها هذه الزمرة إثبات ما تزعمه في الأئمة.. فزادت وغلت في ذلك.. فانكشف بذلك أمرها.. والشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده.
ولو كان عند علي مثل هذه العلوم.. لأخرجها للناس أيام خلافته، ولرواها عنه أئمة أهل السنة ولم يختص بها شرذمة من الرافضة.
بل إن هذه الدعاوى وجد لها أصل في عهد أمير المؤمنين وتولى كبرها بعض العناصر السبئية، كما جاء في رسالة الإرجاء للحسن بن محمد بن الحنفية - كما سلف -، وقد نفى أمير المؤمنين علي هذه المزاعم نفياً قاطعاً، وأعلن ذلك للمسلمين، ونفى أن يكون عندهم شيء أسره الرسول لهم واختصوا به دون المسلمين.. وأقسم على ذلك قسماً مؤكداً، وكأنه - رضي الله عنه - خشي أن يأتي من يقول بأن هذا الإنكار تقية، فأقسم على نفي ذلك ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة، وهذا من فراسة الرعيل الأول ببركة صحبة النبي والتلقي عنه والجهاد معه.. وقد جاء الحديث عن علي في نفي تلك المزاعم في الصحاح والسنن والمسانيد (1) .
__________
(1) وقد مر تخريجه ص: (79)(1/329)
وقد وقفت على هذا النص في بعض كتب الشيعة، فقد جاء في تفسير الصافي: "أنه عليه السلام سئل هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء من الوحي سوى القرآن؟ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطى العبد فهماً في كتابه" (1) .
ثم تطورت هذه المزاعم وكثرت في عصر جعفر الصادق وأبيه - رحمهما الله - وكان لكل اتجاه شيعي نصيبه من هذه المزاعم، ولكن الاثني عشرية استوعبت كل ما عند هذه الفرق وزادت عليها على مر السنين، وقد أشار شيخ السلام ابن تيمية إلى هذا الاتجاه عند الشيعة في نسبة هذه الأوهام كالجفر ونحوه لبعض أهل البيت ولم يحدد فرقة الاثني عشرية بذاتها إلا أنه نسب القول بأن علياً أعطي علماً باطناً مخالفاً للظاهر نسب ذلك إلى القرامطة الباطنية (2) ، كما نسب القول بأن علياً يعلم المستقبلات إلى الغلاة من الشيعة (3) ، ويرى الشيخ أبو زهرة "بأن الخطابية هم أول من تكلم بالجفر واستنبط ذلك من كلام للمقريزي" (4) .
وأضيف بأنه جاء في كتب الشيعة أيضاً ما يوافق ذلك وهو أن أبا الخطاب هو الذي نسب علم الغيب إلى جعفر الصادق، وأن جعفراً كذبه في ذلك وتبرأ منه، وقدّم من حياته أمثلة لجهله بما غاب عنه، وإن كان من أقرب الأشياء إليه شأنه في ذلك شأن سائر البشر، وسيأتي نص كلامه.
وهذه الدعاوى ينفيها واقع الأئمة، فقد تلقوا العلم كغيرهم من بني البشر.. ومن يراجع تراجمهم يجد هذا واضحاً جلياً (5) .
وقد أقرت الشيعة في أوثق كتاب
__________
(1) تفسير الصافي: 1/19
(2) منهاج السنة: 4/179
(3) منهاج السنة: 4/179
(4) الإمام الصادق: ص126
(5) فقد أخذ - مثلاً - علي بن الحسين العلم عن جابر وأنس (منهاج السنة: 2/153) ، وأخذ عن أمهات المؤمنين عائشة وأم سلمة وصفية، وأخذ عن ابن عباس والمسور بن مخرمة، =(1/330)
عندها في علم الرجال وهو "رجال الكشي" أقرت بأن محمد بن علي بن الحسين يروي عن جابر بن عبد الله، واعتذرت عن ذلك باعتذار غريب، حيث قالت: إنه يروي عنه ليصدقه الناس (1) . وهذا الاعتذار لا يقبل بالنظر إلى دعاوى الشيعة في أئمتها، وأن عندهم من المعجزات والعلوم والكتب ما يجعلهم يستولون على العقول والقلوب، كما أنهم من سلالة الرسول فكيف لا يصدقهم الناس حينئذ؟!
ولو كان لأمير المؤمنين بعض ما يدعون لدبر الأمر في خلافته على غير ما دبر، ولقد ندم على أشياء مما فعلها (2) ، والشيعة يذكرون أن مسيرة الحسين إلى أهل الكوفة، وخذلانهم له، وقتله كانت سبب ردة الناس إلا ثلاثة" (3) ، ولو كان يعلم المستقبل وأنهم سيرتدون ما سار إليهم أو سار إلى غيرهم.
وقد تبرأ جعفر من ذلك الغلو ومن الغلاة وروت ذلك كتب الشيعة نفسها، فقد نفى ما نسبه إليه أبو الخطاب من العلم بالغيب وأقسم على ذلك يميناً مؤكداً، وقدم من واقع حياته مثالاً عملياً على ذلك فقال: ".. لقد قاسمت مع عبد الله بن الحسن حائطاً بيني وبينه فأصابه السهل والشرب، وأصابني الجبل" (4) . وقال: "يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما عملت في أي بيوت الدار هي" (5) . ولقد كان واقع حياتهم العملية - كما قلت - يكشف كل هذه الدعاوى حيث كانوا كسائر البشر يسهون، ويخطئون.
__________
=وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ومروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وغيرهم من علماء أهل المدينة. (منهاج السنة: 4/144) ، وكان الحسن - رضي الله عنه - يأخذ عن أبيه وعن غيره حتى أخذ عن التابعين، وهذا من علمه ودينه - رضي الله عنه - (نفس الموضع من المصدر السابق) وهكذا سائر علماء أهل البيت
(1) رجال الكشي: ص28
(2) منهاج السنة: 4/180
(3) أصول الكافي: 2/280، رجال الكشي: ص123
(4) رجال الكشي: ص188-189ط: إيران، بحار الأنوار: 25/322
(5) أصول الكافي: 1/257(1/331)
وقد اخترع مهندسو التشيع عقيدتين للخروج من هذا هما عقيدة التقية، والبداء، فإذا أجاب الإمام بخلاف الصواب قالوا: التقية، وإذا أخبر بأمر ووقع خلافة قالوا: قد بدا الله سبحانه (1) .
وقد يقال بأن هذه الدعاوى مجرد حكايات لا رصيد لها من الواقع وقد حفظتها كتب الشيعة ليبقى عارها عليها إلى الأبد، وليس لها أثر في واقع الحياة؛ لأنه لا وجود للأئمة.. وأقول: إن هذه الأساطير المكشوفة لها آثارها الخطيرة على نفسية وعقلية أولئك الأتباع الأغرار، وقد تؤدي بمن يؤمن بها ويعطي لعقله فرصة التأمل والتفكر فيها إلى متاهات الإلحاد، كما أن هذا الغلو قد تحول إلى واقع عملي واضح وهو الغول في قبور الأئمة - كما سلف -.
وجانب ثالث وهو أن في عقيدة هؤلاء - كما سيأتي في الإمامة - أن آياتهم ومراجعهم لهم حق النيابة عن الغائب وتمثيله بين الناس، وأنهم على صلة بهذا الغائب، وقد يظهر لبضعهم كما يزعمون.
إذن هذه الدعاوى عادت بشكل واقعي، وارتدت بصورة خطيرة متمثلة في المرجع الشيعي وهذا ما سنفصله في مبحث حكايات الرقع:
حكايات الرقاع:
مات الحسن العسكري (سنة260هـ) والذي تزعم الشيعة أنه إمامها الحادي عشر "ولم يعرف له خلف ولم ير له ولد ظاهر" (2) ، كما تعترف كتب الشيعة، وقال ثقات المؤرخين بأنه مات عقيماً (3) . فكانت هذه الواقعة قاصمة الظهر للتشيع، لأن هذا مؤذن بنهايتهم، إذ إن أساس دينهم هو الإمام الذي يزعمون أن قوله قول الله ورسوله والإمام توفي ولم يخلف ولداً يتعلقون به، وحينئذ توقف النص المقدس سنة (260هـ) وانقطع سيل الأموال الجارية التي تؤخذ
__________
(1) انظر: فصلي التقية، والبداء
(2) المقالات والفرق: ص102
(3) انظر: المنتقى ص 31(1/332)
من الأتباع باسم الإمام، فافترق الشيعة، وتشتت أمرهم، وعظم الخطب عليهم، وضاقت بهم السبل- كما سيأتي (1) .-.
إلا أن تلك الزمرة التي أخذت على عاتقها تفرقة الأمة أخذت تنسج خيوطها وأوهامها، وتضع شباك مؤامراتها للبحث عن وسيلة لاستمرار دعوى التشيع ليستمر من خلال ذلك كيدهم للأمة ودينها، والاستيلاء على أموال الجهلة والمغفلين بأيسر طريق، والحصول على وجاهة ومنزلة عندهم؛ فادعت دعوى في غاية الغرابة، ادعت أن للحسن ولداً قد اختفى فلم يعرفه أحد، وكان سبب اختفائه خوف القتل، مع أنه لم يقتل أبوه وأجداده - من قِبَلِ دولة الخلافة - وهم كبار فكيف يقتل وهو طفل رضيع؟!، إلا أن هذه الفكرة رغم سذاجتها، وظهور زيفها راقت لشيوخ الشيعة، وأخذوا يشيعونها بين أتباعهم، وبدأت تتسلل للأوساط الشيعية الشعبية بشرية تامة.. واختلف الشيوخ على النيابة، وكل يخرج "توقيعاً" أي: ورقة من الطفل يلعن بها الآخر ويزعم فيها أنه هو نائب الطفل.
وكثر الذين يدعون النيابة وذلك بغية الاستيلاء على الأموال التي تجبى باسم هذا "المنتظر"، وقد ارتضت طائفة الاثني عشرية أربعة من هؤلاء واعتبرتهم هم النواب عن الإمام. وكان هؤلاء الوكلاء عن هذا الطفل الصغر يأخذون الأموال، ويتلقون الأسئلة والطلبات ويخرجون لأصحابها بطريقة سرية أجوبة وإيصالات يزعمون أنها بخط هذا "الطفل" الذي قالوا عنه بأنه سيظهر ووقتوا لظهوره وقتاً حتى لا يسارع في تكذيبهم، ثم لما مضى ذلك الجيل قالوا: إنا الله بدا له وأنه لا توقيت لخروجه - كما سيأتي - (2) .
وكانت تلك الخطوط المجهولة، والتي خرجت على يد تلك الزمرة المتآمرة، والمنسوبة لذلك الطفل المدعى.. هي عندهم من أوثق السنن وأقوى النصوص. ويسمونها "التوقيعات"، "والتوقيعات هي خطوط الأئمة بزعمهم في جواب مسائل الشيعة".
__________
(1) سيأتي نقل صورة لذلك في فصل الغيبة
(2) انظر: فصل الغيبة(1/333)
ويبدو أنه في ظل التحزب والتعصب يفقد العقل وظيفته، ويصاب الفكر بالشلل والتعطل.. فقد جعل هؤلاء المفترون لهذا الطفل المزعوم وظيفة "المشرع" أي منصب الأنبياء والرسل، مع أن مكانه - لو وجد - في حضانة وليه، وكانت بداية النقل الشرعي عن هذا الرضيع منذ ولادته، وهو ما لا يكون إلا في خيالاته المعتوهين.
استمع لابن بابويه الملقب عندهم بالصدوق يروي عمن سموها "نسيماً" وزعموا أنها خادمة هذا الرضيع، أنها قالت:
"قال لي صاحب الزمان وقد دخلت عليه بعد مولده بليلة فعطست عنده فقال لي: رحمك الله، قالت نسيم: ففرحت بذلك، فقال لي - عليه السلام -: ألا أبشرك في العطاس؟ قلت: بلى يا مولاي، قال: هو أمان من الموت ثلاثة أيام" (1) . فهذا النص ينقله واحد من أكبر شيوخهم ويعتبره من سنة المعصومين والتي هي كقول الله ورسوله..
وقد تولى بث هذه الأخبار مجموعة من هؤلاء الأفاكين الذين يدعون الصلة بهذا المنتظر وارتضت هذه الطائفة أربعة منهم - كما سبق -، وسميت فترة النيابة التي تعاقبوا عليها بالغيبة الصغرى والتي استمرت زهاء سبعين سنة، كما كان في بلدان العالم الإسلامي مجموعة تمثل هؤلاء النواب، وكانوا يستلمون الأوال ويخرجون للناس التوقيعات المزعومة.
وقد اهتم شيوخ الشيعة بهذه التوقيعات ودونوها في كتبهم الأساسية، على أنها من الوحي الذي لا يأتيه الباطل (!) كما فعل الكليني في أصول الكافي (2) . وابن بابويه في إكمال الدين (3) ، والطوسي في الغيبة (4) ، والطبرسي في الاحتجاج (5) ، والمجلسي في البحار (6) ، وقد جمع شيخهم عبد الله بن جعفر الحميري الأخبار
__________
(1) إكمال الدين: ص 406،-407، 416
(2) أصول الكافي: 1/517 وما بعدها (باب مولد الصاحب)
(3) إكمال الدين: ص450 وما بعدها (الباب التاسع والأربعون ذكر التوقيعات الوراردة عن القائم)
(4) الغيبة ص 172 وما بعدها
(5) الاحتجاج: 2/277 وما بعدها
(6) بحار الأنوار: 53/150-246 (باب ما خرج من توقيعاته)(1/334)
المروية عن منتظرهم في كتاب سماه: "قرب الإسناد" (1) .
وذكر صاحب الذريعة كتابين لهم في هذا باسم: "التوقيعات الخارجة من الناحية المقدسة" (2) .
وتحكي هذه "التوقيعات" رأي الإمام المزعوم في كثير من أمور الدين والحياة، وتصور قدرته على علم الغيب المجهول.. وتحقيقه لأماني شيعته وشفائه لأمراضهم، وحل لمشاكلهم، وإجابته لأسئلتهم واستلامه لما يقدمونه من أموال، وقد تصاغ أحداث ذلك أحياناً بثوب قصصي.
والمتأمل للفتاوى المنسوبة إليه في أمور الدين يرى في الكثير منها الجهل في أبسط مسائل الشيعة، مما يدل على أن واضع هذه "التوقيعات" هو من المتآمرين الجهلة الذين لا يحسنون الوضع، أو أن الله سبحانه شاء كشفهم وفضحهم على رؤوس الخلائق.. فجاءت محاولتهم في الكذب كمحاولة مسيلمة في محاكاة القرآن.
استمع إلى شيء من هذه التوقيعات:
"وكتب إليه صلوات الله عليه أيضاً في سنة ثمان وثلاثمائة كتاباً سأله فيه عن مسائل.. سأل عن الأبرص والمجذوم وصاحب الفالج هل يجوز شهادتهم؟ فأجاب عليه السلام: إن كان ما بهم حادث جازت شهادتهم، وإن كانت ولادة لم تجز" (3) .
فهل للبرص ونحوه أثر في قبول الشهادة وردها، وهل للتفريق بين ما هو أصلي وحادث وجه معقول.. وهل تستحق مثل هذه الفتاوى مناقشة.. وكيف ينسب مثل ذلك لأهل البيت، بل وللإسلام؟!
__________
(1) وقد طبع في المطبعة الإسلامية بطهران
(2) أغا برزك الطهراني/ الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 4/500-501
(3) بحار الأنوار: 53/164(1/335)
وسأل هل يجوز أن يسبح الرجل بطين القبر وهل فيه فضل؟ فأجاب عليه السلام: يسبح به فما من شيء من التسبيح أفضل منه، ومن فضله أن الرجل ينسى التسبيح ويدير السبحة فيكتب له التسبيح" (1) .
فهذا المبدأ من دين الوثنين، لا من دين التوحيد.. وله يكتب التسبيح بالعبث بالمسبحة.. فأي شرعة هذه وأي فقيه يفتي بذلك؟!
والأمثلة على هذا اللون من الفتاوى الجاهلة الغبية كثيرة (2) .
وهذه "السنة" التي تخرج من المنتظر تحمل الأخبار بالمغيبات، والقدرات الخارقة على تحقيق الأمنيات.. فهذا الشيعي الذي أصيب بمرض عضال أعيا الأطباء شفاؤه.. يتوجه لهذا المنتظر عن طريق نوابه فيكتب رقعة يطلب فيها الشفاء فيأتي التوقيع بالدعوة له بالشفاء فما تأتي جمعة حتى يشفى (3) .
__________
(1) بحار الأنوار: 53/165
(2) فهو يفتي لمن سأله هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا؟ فيقول: "والذي عليه العمل أن يضع خده الأيمن على القبر، وأما الصلاة فإنها خلفه ويجعل القبر أمامه. (بحار الأنوار: 53/165) .
فكيف يجعل القبر قبلة؟ ولم يعفر خده بطين القبر؟!، والمسلم مأمور بالتوجه لبيت الله، والسجود لله وحده. وقد جاء اللعن لمن اتخذ القبور مساجد.
ومن الأمثلة أيضاً التي وجهت بزعمهم للطفل المنتظر وجاء التوقيع بجوابها السؤال التالي: "قد اختلف أصحابنا في مهر المرأة فقال بعضهم: إذا دخل بها سقط المهر، ولا شيء لها، وقال بعضهم: هو لازم في الدنيا والآخرة، فكيف ذلك؟ وما الذي يجب فيه؟ فأجاب عليه السلام: إن كان عليه بالمهر كتاب فيه دين، فهو لازم له في الدنيا والآخرة، وإن كان عليه كتاب فيه ذكر الصدقات سقط إذا دخل بها، وإن لم يكن عليه كتاب فإذا دخل بها سقط في الصداق. (بحار الأنوار: 53/169) .
فهل هذا الجواب يخرج من فيّ عالم، بل من جاهل يملك ذرة من عقل؟ وهل هذا المبدأ من دين الإسلام؟ كيف يقرر مثل هذا المبدأ الذي يبيح أخذ مال الغير إذا لم يكتب.. فيسقط الصداق إذا لم يكن فيه كتاب.. هذه شرعة اللصوص والإباحيين لا دين الإسلام. هذا ومن أراد التوسع في هذه الأمثلة فليرجع لبحار الانوار ج، وإكمال الدين لابن بابويه، والغيبة للطوسي وغيرها
(3) أصول الكافي: 1/519(1/336)
وهذا الرجل الذي لا تحمل زوجته، وقد بلغ به الحنين والشوق إلى الولد ما بلغ، فما أن يكتب إلى الناحية المقدسة (1) . حتى يخرج التوقيع بأنه سيحمل له قبل الأربعة أشهر وسيولد له ابن (2) .
وعن طريق هذا الطفل الغائب يعرفون متى يموتون، فهذا شيعي يكتب إليه يسأله كفناً فيأتي التوقيع "إنك تحتاج إليه في سنة ثمانين، فمات في سنة ثمانين وبعث إليه بالكفن قبل موته بأيام" (3) .
وقد جاءت توقيعات من المنتظر يؤخذ منها أن العمل بسنن الإسلام وشرائعه يتوقف على إذن "القائم المنتظر"، فكأن "سنة" هذه "الرقاع" المزورة أبلغ من نصوص الإسلام عندهم، كما قد يؤخذ من النصوص التالية: "ولد لي مولود فكتبت أستأذن في تطهيره يوم السابع. فلم يكتب شيئاً فمات المولود يوم الثامن.." (4) .
فهو يتوقف في ختان ابنه حتى يأتي له الإذن من القائم.
والزواج مرتبط بأمر القائم في الغالب، قال أحدهم: "زوجت بأمره سراً فلما وطئتها علقت وجاءت بابنة فاغتممت وضاق صدري فكتبت أشكو ذلك (يعني في رسالة إلى هذا الطفل المنتظر) فورد: ستكفاها، فعاشت أربع سنين ثم ماتت فورد: الله ذو أناة وأنتم تستعجلون (5) .
__________
(1) كناية عن مهديهم المنتظر
(2) إكمال الدين: ص460
(3) أصول الكافي: 1/524، إكمال الدين: ص465، 467
(4) ابن بابويه/ إكمال الدين: ص 456
(5) نفس الموضع من المصدر السابق. ويلاحظ أن هذا المنتظر المعصوم - بزعمهم - أقر هذا المشتكي على غمه وحزنه مع أن ذلك سنة أهل الجاهلية الذين {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} ... النحل، آية: 58....
وقد اهتم بأمر رزقها مع أن الله سبحانه هو المتكفل بالرزق: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} ... الإسراء، آية: 31 ... ولكن النص عن هذا المنتظر اعتبر الموت هو الكافي(1/337)
والحج متوقف على إذن هذا الطفل المزعوم، فهذا شيعي يقول: "تهيأت للحج، وودعت الناس، وكنت - كذا - على الخروج فورد: نحن لذلك كارهون، والأمر إليك، قال: فضاق صدري واغتممت وكتبت: أنا مقيم على السمع والطاعة غير أني مغتم بتخلفي عن الحج، فوقع: لا يضيقن صدرك فإنك ستحج من قابل إن شاء الله، قال: ولما كان من قابل كتبت أستأذن، فورد الإذن" (1) . فهل أمر قائمهم فوق أمر الله وشرعه حتى يستأذن في ركن من أركان الإسلام؟!!
وهذا التوقيعات التي تحمل كل هذه الأباطيل، لها عند شيوخ الشيعة مكانة خاصة، ومزية ظاهرة حتى إنهم رجحوا هذه التوقيعات على ما روي بإسناد صحيح عندهم في حال التعارض.
قال ابن بابويه في كتابه "من لا يحضره الفقيه" بعدما ذكر التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في باب "الرجلين يوصى إليهما.." قال: هذا التوقيع عندي بخط أبي محمد الحسن بن علي، ثم ذكر أن في الكافي للكليني رواية بخلاف ذلك التوقيع عن الصادق، ثم قال: "لست أفتي بهذا الحديث بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي.."، وعقب على ذلك الحر العاملي فقال: ".. فإن خط المعصوم أقوى من النقل بوسائط".
وكيف يجزمون بأن هذا هو خط الحسن أو "المنتظر" (الذي لم يولد) مع أن الخطوط تتشابه، والكذب والتزوير على أهل البيت كثير؟ وكيف يعتمدون في هذا على قول واحد غير معصوم هو "نائب المنتظر" مع أن العصمة من أصولهم؟ كما أن هذا النائب محل شك كبير، لأن مسألة "النيابة" يتصارع كثير من رؤسائهم على الفوز بها لأنها وسيلة سهلة لجمع الأموال.
فصار من المحتمل أن الذي فتح على الشيعة هذا الباب لص ماهر محتال لبس ثوب الكذب وارتدى زي النفاق للكسب الحرام والتآمر والإضلال.. لكن صار نقل هذا الواحد وغير المعصوم؛ بل والمشبوه هو عمدة عند شيوخهم، فهو يرجحون ما في هذه التوقيعات على
__________
(1) أصول الكافي: 1/522(1/338)
ما جاء في أصح كتبهم. ومن يزعم الصلة بهذا المنتظر، أو يزعم أنه قد أرسل له برسالة يحظى بثقة القوم، كما نجد ذلك في تراجم رجالهم (1) ، مع أن هذا بدلالة العقل والتاريخ من أكبر البراهين على كذبهم.
كما يجري في هذه التوقيعات توثيق الرجال أو ذمهم، ويجعل ذلك أصلاً عندهم في جرحه وتعديله (2) ، فهي مصدر من مصادر دينهم.
قال الألوسي - رحمه الله -: "إنهم أخذوا مذهبهم من الرقاع المزورة التي لا يشك عاقل أنها افتراء على الله تعالى ولا يصدق بها إلا من أعمى الله بصره وبصيرته" (3) .
ثم تحدث الألوسي عن أحد رجال الرافضة الذي يدعي أنه اتصل بهذا المنتظر في غيبته المزعومة ويدعى علي بن الحسين من موسى بن بابويه القمي، والذي زعم أنه وصلته رقاع من هذا المنتظر وتعجب كيف تلقبه الرافضة بالصدوق (4) ، وقال: "لا يخفى عليك أن هذا من قبيل تسمية الشيء باسم ضده، وهو وإن كان يظهر الإسلام فهو كافر في نفس الأمر"، ثم بين أن دعواه لا يخفى كذبها على عاقل فهل يزعم أنه يكتب مسألة في رقعة فيضعها في ثقب شجرة ليلاً فيكتب الجواب عنها صاحب الزمان (5) .
ثم ذكر أن الرافضة لم تكتف بمجرد تصديق هذه "الخرافة" بل جعلوا هذه الرقاع من أقوى دلائلهم، وأوثق حججهم وتعجب كيف يزعمون بعد هذا أنهم أتباع البيت وقد أثبتوا أحكام دينهم بمثل هذه الترهات، واستنبطوا الحرام
__________
(1) انظر: رجال الحلي: ص100 (ترجمة علي بن الجهم) ، ووسائل الشيعة: 20/332، ترجمة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، وكذلك ترجمة علي بن الحسين بن بابويه في المصدر السابق: 20/262
(2) انظر: رجال الحلي ص 90
(3) كشف غياهب الجهالات: ص 12 (مخطوط)
(4) الملقب بالصدوق بإطلاق - عندهم - هو ابنه "صاحب من لا يحضره الفقيه"
(5) انظر نص الشيعة على أن ابن بابويه ممن كاتب منتظرهم: وسائل الشيعة: 20/262(1/339)
والحلال من نظائر هذه الخزعبلات، وقال: إنهم في الحقيقة أتباع الشياطين وأهل البيت بريئون منهم (1) .
ذلك أن مثل هذه الرقاع لا يقام لها وزن في قضاء ولا في منطق ولا في عقل من عقول البشر، فهي "رقاع " منسوبة لطفل مشكوك في وجوده أصلاً - حتى عند طوائف من الشيعة، بل وينكر بعضهم وجوده، وهو متيقن عدمه عند أهل التحقيق كما سيأتي - عليها خط مجهول ووصلت بوسائط مجهولة، فهل يبنى على مثل ذلك حكم فضلاً عن أن تكون مصدراً من مصادر التشريع؟! إن ذلك لعار على الرافضة إلى الأبد، وبرهان دائم على كذبهم.. وفضيحة من الله سبحانه لمن أراد أن ينسب إلى الدين ما ليس منه..
وهذه التوقيعات جرت في فترة الغيبة الصغرى - كما يسمونها - والتي استمرت قرابة سبعين سنة، تعاقب على دعوى النيابة عن الإمام الغائب فيها أربعة ممن يسمونهم بالسفراء والنواب - كما سبق -.. وقد أعلن رابعهم وهو "السمريّ" انتهاء الصلة بالإمام وانقطاع فترة النيابة. قالوا: "خرج التوقيع إلى أبي الحسن السمريّ: (يعني خرجت ورقة من المنتظر المزعوم) يا علي بن محمد السمريّ، اسمع أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فأجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره.. وسيأتي من شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر" (2) . وهذا يعني أن النص المعصوم -عندهم - قد انقطع بالغيبة الكبرى سنة (329هـ) ولكن شيوخ الشيعة - فيما بعد - لم تقتنع بالإعلان عن الانقطاع التام عن المنتظر، وكثرت الدعاوى عندهم في الاتصال بالمنتظر، ولقائه والأخذ عنه (مع أن منتظرهم
__________
(1) كشف غياهب الجهالات: ص 12 (مخطوط)
(2) ابن بابويه/ إكمال الدين: 2/193، الطوسي/ الغيبة: ص257(1/340)
يقول: بأن من ادعى ذلك فهو كذاب) ، وهذا يعني استمرار النص المقدس وأنه لم يتوقف، كما أعلن ذلك الشيعة بعد وفاة السمريّ.. فها هو شيخهم ابن المطهر الملقب بالعلامة يدّعي اللقاء بالمهدي وأنه نسخ له كتاباً في ليلة واحدة (1) .
ويفسر شيخهم النوري الطبرسي نص الكافي الذي يقول: "لابد لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولابد له في غيبته من عزلة، وما بثلاثين من وحشة" (2) . بأنه في "كل عصر يوجد ثلاثون مؤمناً ولياً يتشرفون بلقائه" (3) ، بل قالوا: إن بعض المجتهدين يتمكن من لقاء الغائب ويأخذ منه بعض الأحكام الشرعية، وقد لا يستطيع أن يعلن عن هذا اللقاء لأمر الإمام له بالكتمان فهو حينئذ يدعي حصول الإجماع على هذا الحكم، وإن لم يوجد إجماع في الحقيقة (4) .
وبهذا يفسرون دعاوى بعض شيوخهم الإجماع على مسائل لم يقل بها سوى هؤلاء الشيوخ، وسيأتي في مبحث الإجماع عندهم قولهم بتحقق الإجماع بقول فئة يوجد فيها "عالم مجهول النسب غير معروف" وأنه بقولها يحصل الإجماع مهما خالف من خالف على اعتبار أن هذا المجهول قد يكون الإمام.
وقرر شيوخهم بأن هذا المنتظر الذي لم يوجد "كان يجتمع بجملة من أهل العلم والتقوى الذين كانوا يستحقون المقابلة كالعلامة السيد مهدي بحر العلوم النجفي فيما اشتهر عنه، والشيخ ميثم البحراني فيما ينقل عنه.." (5) ، وقد ألف بعض شيوخهم مصنفات في حكايات وأحداث من اجتمع بهذا المنتظر، كما فعل المجلسي (ت1111هـ) في البحار، ثم جاء بعده النوري الطبرسي (ت1320هـ) فكتب في ذلك كتاباً سماه "جنة المأوى فيمن فاز بلقاء الحجة ومعجزاته في الغيبة
__________
(1) بحار الأنوار: 51/361
(2) النوري الطبرسي/ جنة المأوى:53/320 (المطبوع مع بحار الأنوار)
(3) النوري الطبرسي/ جنة المأوى:53/320 (المطبوع مع بحار الأنوار)
(4) جنة المأوى: 53/320-321 (ضمن بحار الأنوار)
(5) محمد صالح/ حصائل الفكر: ص 123(1/341)
الكبرى"، وقد أورد فيه تسعاً وخمسين حكاية، وذكر من كان بعد المجلسي ممن ادعى اللقاء بالمنتظر (1) .
وهكذا صار بإمكان كل شيطان رجيم من الإنس والجن أن يحتال على هؤلاء، ويتظاهر بأنه المنتظر ويدس في دينهم ما يبعدهم عن الحق ما داموا فتحوا هذا الباب على أنفسهم ويعتبرون ذلك من السنة، وبإمكان كل شيخ زنديق متلفع برداء الدروشة ومتوشح بالسواد متظاهر بالعلم مدعٍ للسيادة - وما أكثر هؤلاء عندهم - أن يزعم اللقاء بالمنتظر ليحظى بالتعظيم، وليغير من دينهم ما شاء له إلحاده، ولاسيما أن هؤلاء يزعمون أن هذا المنتظر يتصور بصور مختلفة، ويظهر بأشكال وأردية متنوعة (2) . فهذه اللقاءات المزعومة لا تخلو من حالتين: إما أن مدعيها كاذب أراد السمعة، أو قصد الإضلال، أو أراد كلا الأمرين، أو أنه صادق والذي مثل الدور أمامه شيطان من الشياطن (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".. وكذا منتظر الرافضة قد يراه أحدهم ويكون المرئي جنباً" (4) .
وقد ضلت النصارى - كما يقول شيخ الإسلام - بمثل هذا حيث اعتقدوا أن المسيح بعد أن صلب - كما يظنون - أتى إلى الحواريين وكلمهم ووصاهم وهذا مذكور في أناجيهم وذاك الذي جاء كان شيطاناً قال: أنا المسيح ولم يكن هو المسيح نفسه (5) .
__________
(1) انظر: أغا بزرك/ الذريعة: 5/159
(2) انظر: تاريخ الغيبة الكبرى للصدر: ص 40
(3) راجع للتعرف على هذا المعنى، وبيان كيد الشيطان لبني آدم، وتمثله لبعض الشيوخ المضلين لإغرائهم: (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13/95
(5) ويجوز أن يشتبه مثل هذا على الحواريين، كما اشتبه على كثير من شيوخ المسلمين، ولكن ما أخبرهم المسيح قبل أن يرفع بتبليغه فهو الحق الذي يجب عليهم تبليغه، ولم يرفع حتى بلغ رسالات ربه، فلا حاجة إلى مجيئه بعد أن رفع إلى السماء (المصدر السابق: 13/94)(1/342)
كما قال شيخ الإسلام: إن أصحاب الحلاج لما قتل كان يأتيهم من يقول: أنا الحلاج، فيرونه في صورته عياناً، وكذلك شيخ بمصر يقال له الدسوقي بعد أن مات كان يأتي أصحابه من جهته رسائل وكتب مكتوبة، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه اطلع على هذا الكتاب المنسوب للدسوقي حيث أطلعه عليه بعض الصادقين من أتباع الدسوقي.
يقول شيخ الإسلام: فرأيته بخط الجن، وقد رأيت خط الجن غير مرة. ثمر ذكر شيخ الإسلام نماذج أخرى من هذا القبيل ثم قال: وهكذا الذين كانوا يعتقدون بقاء علي أو بقاء محمد بن الحنفية قد كان يأتي إلى بعض أصحابهم جنى في صورته.. ثم قال: وهذا باب واسع واقع كثيراً وكلما كان القوم أجهل كان عندهم أكثر (1) .
مرويات الصحابة:
وبعدما لاحظنا أن الاثني عشرية حصرت نفسها في نطاق ضيق، وهو ما ينقل عن بعض أهل البيت من روايات، ولم تكتف بأهل العلم منهم؛ بل أدخلت فيهم من لم يشتهر بعلم - كما سيأتي - حتى عملت برقاع منسوبة لطفل مختلف في وجوده، وجعلت ما ينقل عن هؤلاء ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها أيضاً حرمت نفسها من مصدر عظيم للعلم والإيمان هو: "روايات الصحابة" رضوان الله عليهم، الذين فازوا بصحبة رسول الله، وشهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل وأنثى الله عليهم ورسوله.
يقول محمد حسين آل كاشف الغطا - أحد مراجع شيعة هذا العصر - في تقرير مذهب طائفته في ذلك: "إن الشيعة لا يعتبرون من السنة (أعني الأحاديث النبوية) إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت.. أما ما يرويه مثل أبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص ونظائرهم فليس لهم عند الإمامية مقدار بعوضة" (2) ، فهو هنا يقرر أن مذهب الشيعة هو قبول "ما صح لهم من طرق
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13/94-95
(2) أصل الشيعة وأصولها: ص79(1/343)
أهل البيت" (1) . دون ما سواه من روايات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا عرفنا أن الاثني عشرية تعني بأهل البيت "الأئمة الاثني عشر"، والذي أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم منهم وهو مميز هو أمير المؤمنين علي، وعليه فهل يتمكن أمير المؤمنين من نقل سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها للأجيال.. كيف وهو لا يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأحيان.. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسافر ويستخلفه في بعض الأحيان كما في غزوة تبوك، كما كان علي يسافر ورسول الله في المدينة فقد بعثه رسول الله إلى اليمن.
وكذلك ألحقه بأبي بكر حين أرسله لأهل مكة، بالإضافة إلى حال الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته والتي يختص بنقلها زوجاته أمهات المؤمنين.. وهذا من أسرار وحكم تعددهن.. فإذن علي لا يمكن أن يستقل بنقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقولون بأنهم لا يقبلون إلا ما جاء عن طريقه؟! كما أن هذه المقالة، وهي حصر نقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بواحد يفضي إلى فقدان صفة التواتر في نقل شريعة القرآن، وسند سيد الأنام صلى الله عليه وسلم "ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحداً؛ بل يجب أن يكون المبلغون
__________
(1) قوله: "ما صلح لهم من طرق أهل البيت" هذا تعبير فيه شيء من التمويه والخداع، لأن من لا يعرف طبيعة مذهب الشيعة يظن أن العمدة عندهم هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي جاء من طرق آل البيت - في حين أنهم يعدون الواحد من الاثني عشر كالرسول لا ينطق عن الهوى، وقوله كقول الله ورسوله، ولذلك يندر وجود أقوال الرسول في مدوناتهم؛ لأنهم اكتفوا بما جاء عن أئمتهم، كما أن قوله: أهل البيت، إنما يعني بعضهم، فليس كل آل البيت يصلحون - عندهم - طريقاً للرواية، لأن آل البيت ليسوا جميعاً أئمة، فالرواية عن ذرية فاطمة من ولد الحسين - رضي الله عنه - لا تعتبر روايتهم؛ لأن من بعد الحسن من ذريته ليسوا أئمة عندهم، وغاية أمرهم أن يعتبروا مجرد رواة يخضعون للرد والقبول، ولذلك كفر الاثنا عشرية كل من خرج وادعى الإمامة من آل البيت (ما عدا الأئمة الاثني عشر عندهم) . (أصول الكافي:1/372 رقم 1، 3) . ويلحظ أن الطوسي في الاستبصار يرد روايات زيد بن علي (الاستبصار: 1/66) . فتعبير آل كاشف الغطا فيه شيء من التمويه والخداع، لأن الكتاب وضع للدعاية للتشيع في العالم الإسلامي(1/344)
أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب.." (1) .
كما أن جل بلاد الإسلام بلغهم العلم عن رسول الله من غير طريق علي - رضي الله عنه (2) .- وعامة من بلغ عنه صلى الله عليه وسلم من غير أهل بيته - فضلاً أن يكون هو علي وحده - فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعو الناس إلى الإسلام، ويعلم الأنصار القرآن، ويفقههم في الدين، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك، وبعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة، فأين قول من زعم أنه لا يبلغ عنه إلا رجل من أهل بيته" (3) .
وقد قال بعض أهل العلم إنه: "لم يرو عن علي إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثاً مسندة يصح منها نحو خمسين حديثاً" (4) .
__________
(1) منهاج السنة: 4/138، ويقول شيخ الإسلام أيضاً: "وخبر الواحد لا يفيد العلم بالقرآن والسنن المتواترة، وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره، قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولاً، وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن تعرف عصمته لأنه دور، ولا تثبت بالإجماع فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة، لأن فيهم الإمام المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقاً لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره".
(منهاج السنة: 4/139)
(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".. فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيها ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئاً قليلاً، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلاً عن علي، وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي؛ ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل، ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيًا، وهو عبيدة السلماني تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة". (منهاج السنة: 4/139)
(3) منهاج السنة: 3/15
(4) ابن حزام/ الفصل: 4/213، منهاج السنة: 4/139(1/345)
فهل سنة الرسول هي هذه فقط؟!
وقد أقر الروافض بأنه لم يبلغهم علم الحلال والحرام ومناسك الحج إلا عن طريق أبي جعفر.. وهذا يعني أنه لم يبلغهم عن علي شيء في هذا، وأن أسلافهم كانوا يتعبدون فيما جاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول كتب الشيعة: ".. كانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبيّن لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى صار الناس يحتاجون إليهم من بعد ما كانوا يحتاجون إلى الناس.." (1) .
ومن العجب أن الشيعة حكمت على من سمع من غير الإمام بالشرك، حيث جاء في أصول الكافي: ".. من ادعى سماعاً من غير الباب الذي فتحه الله فهو مشرك" (2) . فهم يحكمون على أسلافهم بالشرك لأنهم تلقوا علم الحلال والحرام والمناسك من الناس ويقولون: ".. كل ما لم يخرج من الأئمة فهو باطل" (3) . وهذه جرأة عظيمة على شريعة سيد المرسلين، التي نقلها الرعيل الأول إلى الأجيال، والمتمثلة بالسنة المطهرة التي يتعبد بمقتضى بيانها المسلمون.
ولعل الرافضة حينما وضعت لنفسها ألا تأخذ ما جاء عن طريق علي، ولم يكن عندها مما يؤثر عن علي إلا القليل، حتى إن علم الحلال والحرام ليس عندهم فيه شيء عن علي كما يعترفون فعملت القواعد الشيعية على سد هذه الفجوة بالكذب، ولذلك قال الشعبي: "ما كذب على أحد من هذه الأمة ما كذب على علي" (4) .
__________
(1) أصول الكافي: 2/20، تفسير العياشي: 1/252-253، البرهان: 1/386، رجال الكشي: ص425
(2) أصول الكافي: 1/377
(3) أصول الكافي: 1/399
(4) انظر: الذهبي/ سير أعلام النبلاء: 4/307(1/346)
ولشيوع الكذب على علي من قبل الرافضة (1) . حتى لا يكاد يوثق برواية أحد منهم، أعرض عنهم أهل الصحيح فلا يروي البخاري ومسلم أحاديث علي إلا عن أهل بيته كأولاده مثل الحسن والحسين، ومثل محمد بن الحنفية، وكاتبه عبيد الله بن أبي رافع أو أصحاب ابن مسعود وغيرهم، مثل عبيدة السلماني، والحارث التيمي، وقيس بن عباد وأمثالهم، إذ هؤلاء صادقون فيما يروونه عن علي، فلهذا أخرج أصحاب الصحيح حديثهم (2) .
وقد اعترفت كتب الشيعة بكثرة الكذب على أهل البيت، حتى قال جعفر الصادق- كما تروي كتب الشيعة -: ".. إن الناس أولعوا بالكذب علينا.." (3) . وكانت مصيبة جعفر أن "اكتنفه - كما تقول كتب الشيعة - قوم جهال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون: حدثنا جعفر بن محمد، ويحدثون بأحاديث كلها منكرات كذب موضوعة على جعفر ليستأكلوا الناس بذلك ويأخذوا منهم الدراهم.." (4) . ولذلك قال بعض أهل العلم: "لم يكذب على أحد ما كذب على جعفر الصادق مع براءته" (5) .
ومن هنا ندرك كبير الخطر على الشيعة حينما قبلوا روايات الكذابين على الأئمة وأعرضوا عن روايات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وثقوا هؤلاء الذين اكتنفوا جعفراً قالوا: "روى عن الإمام الصادق أربعة آلاف راو. وذهب بعض
__________
(1) قال ابن الجوزي: إن الرافضة ثلاثة أصناف:
- صنف سمعوا شيئاً من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا.
- وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ويقولون: قال جعفر وقال فلان.
- والصنف الثالث: عوام جهلة يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل وما لا يسوغ.
(ابن الجوزي/ الموضوعات 1/338، ابن تيمية/ منهاج السنة: 4/119)
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13/32
(3) بحار الأنوار: 2/246
(4) انظر: رجال الكشي: ص 208-209، بحار الأنوار: 25/302-303، وهذا جزء من نص سيأتي بتمامه
(5) منهاج السنة: 4/143(1/347)
علماء الإمامية إلى القول بتوثيق الأربعة آلاف بدون استثناء" (1) . مع أن أبا عبد الله يشكو - كما مر - من كثرة الكذابين عليه؛ بل ويذكر أنه لا يوجد له من هؤلاء الذين يدعون التشيع ولا سبعة عشر رجلاً من شيعته كما صرحت بذلك رواية الكافي (2) .
ولكن لماذا أعرضت طائفة الاثني عشرية عن رواية صحابة رسول الله؟!
إن السبب يعود إلى البدعة الأولى التي ابتدعها ابن سبأ من القول بأن علياً هو وصي رسول الله، وأن الصحابة لم ينفذوا الوصية، ويولوه الخلافة.. وترتب على ذلك عند طائفة الاثني عشرية أن الصحابة خرجوا من دين الإسلام، ولا يستثنون من ذلك إلا عدداً لا يساوي أصابع اليد - كما سيأتي - ولم يشفع للصحابة عند هؤلاء ثناء الله ورسوله عليهم، ولا صحبتهم لرسول الله، وجهادهم في سبيل الله، وتضحياتهم، وسابقتهم، وبذلهم الأرواح والمهج، ومفارقتهم للأهل والوطن، ونشرهم للإسلام في أصقاع الأرض..
ومن المفارقات العجيبة أن الشيعة تحكم على من زعم أنه رأى المنتظر الذي لم يوجد أصلاً - كما سيأتي - بالعدالة والصدق.
يقول الممقاني - وهو من آياتهم في هذا العصر -: "تشرف الرجل برؤية الحجة - عجل الله فرجه وجعلنا من كل مكروه فداه - بعد غيبته فنستشهد بذلك على كونه في مرتبة أعلى من مرتبة العدالة ضرورة" (3) .
ولكن لماذا لا يجرون مثل هذا الحكم في صحابة رسول الله، ويعتبرون تشرف الصحابة برؤية رسول الهدى صلى الله عليه وسلم برهان عدالتهم، أليس رسول الله أعظم من منتظر موهوم مشكوك في وجوده عند شيعة عصره، فكيف به اليوم بعد تعاقب القرون.. أليس هذا هو التناقض بعينه؟! فانظر وتعجب كيف
__________
(1) محمد جواد مغنية/ الشيعة في الميزان: ص 110، وانظر: محمد الحسين المظفر/ الإمام الصادق: ص 144، أغا بزرك/ الذريعة: 2/129، وانظر: وسائل الشيعة: 20/72
(2) أصول الكافي: 2/242-243
(3) تنقيح المقال: 1/211(1/348)
يزكى رجل يدعي رؤية معدوم، والأصل أن يعتبر هذا دليل كذبه، ويطعن في صحابة رسول الله!! وكل خطيئة الصحابة التي من أجلها ردوا رواياتهم، وحكموا بردتهم أنهم أنكروا النص على إمامة علي، وهذا أمر عظيم وخطب كبير عندهم، فإن من أنكر إمامة واحد من الأئمة ولو كان الغائب المزعوم فهو كإبليس كما نص على ذلك صدوقهم ابن بابويه القمي (1) .
فالإيمان بأئمتهم هو مقياس القبول والرد عندهم، لأنه هو أساس الإيمان والكفر - كما سيأتي - ومع هذا الأصل الذي يَزِنُون به الناس واضح البطلان لأنه لو كان بهذه المثابة التي يزعمون لذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين، ولبينه رسوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن حقيقة الإيمان والإسلام، ولأصبح ذلك من الأمور المجمع عليها بين المسلمين، فهل يخطر ببال عاقل أن الأمة على توالي القرون من الصحابة ومن تبعهم بإحسان تجهل ركناً أساسياً من أركان الإيمان أو تجمع على إنكاره؟! وما كان الله ورسوله بتكاركي خير أمة أخرجت للناس دون إكمال دينهم وتعريفهم بحقيقة إسلامهم، وما يدور بخلد مؤمن شيء من هذا قط..
أقول: مع وضوح بطلان هذا الأصل الذي يزنون به الناس فيردون به رواية من أنكر إمامة إمام من الأئمة، فإن هذا الأصل لم يعلموا به إلا في حق الصحابة حيث ردوا روايات الصحابة ولكنهم لم يردوا روايات من أنكر بعض الأئمة من أسلافهم من الشيعة، وقد أكد شيخهم الحر العاملي على أن الطائفة الإمامية عملت بأخبار الفطحية (2) . مثل: عبد الله بن بكير، وأخبار الواقفة (3) . مثل: سماعة بن
__________
(1) إكمال الدين: ص 13
(2) انظر: ص (98) من هذه الرسالة
(3) الواقفة: هم الذين واقفوا على موسى بن جعفر فلم يقولوا بإمامة من بعده، ذلك أنهم زعموا أن موسى بن جعفر لم يمت بل هو حي، وينتظرون خروجه كما ينتظر الاثنا عشرية غائبهم المزعوم (القمي/ المقالات والفرق: ص 93، الناشئ الأكبر/ مسائل الإمامة ص 47) . قال صاحب الزينة: "وقد ثبت على هذا القول جماعة إلى يومنا هذا" (الزينة: ص 290) ولكنها انقرضت فيما بعد.. =(1/349)
مهران. وكثيراً ما تقرأ في تراجم رجالهم بأن فلاناً فطحي، وذاك واقفي وهذا من الناووسية (1) .
وكل هذه الطوائف الثلاث تنكر بعض أئمة الاثني عشرية، ومع ذلك يعدون جملة من رجالها ثقات.. جاء في رجال الكشي - مثلاً - "في محمد بن الوليد الخزار، ومعاوية بن حكيم، ومصدق بن صدقة، ومحمد بن سالم بن عبد الحميد قال أبو عمرو (الكشي) : وهؤلاء كلهم فطحية وهم من أجلة العلماء والفقهاء والعدول، وبعضهم أدرك الرضا - رضي الله عنه - وكلهم كوفيون" (2) . كما كان الحسن بن علي بن فضال (3) ، وعلي بن حديد بن حكيم (4) ، وعمرو بن سعيد المدايني (5) . كلهم من الفطحية.
وكان أبو خالد السجستاني (6) ، وعلي بن جعفر المروزي (7) ، وعثمان بن عيسى (8) . وحمزة بن بزيغ (9) . كلهم من الواقفة، ومع ذلك وثقوهم وعملوا
__________
= وربما يطلق الواقفي على من وقف على غير موسى بن جعفر؛ كمن وقف على علي أو الصادق أو الحسن العسكري، فلم يقل بإمامة من بعده
(1) الناووسية: أتباع رجل يقال له ناووس، أو ابن الناووس، أو عجلان بن ناووس، وقيل: نسبه إلى قرية ناووسا، وقالت هذه الفرقة بأن جعفر بن محمد لم يمت وهو حي لا يموت حتى يظهر ويلي الأمر وهو القائم المهدي..
قال صاحب الزينة: "وقد انقرضت هذه الفرقة ولا يوجد اليوم أحد يقول بهذا القول" (ولكن رجالها لا تزال رواياتهم في كتب الاثني عشرية) .
(انظر: القمي/ المقالات والفرق ص 80، النوبختي/ فرق الشيعة ص 67، الرازي/ الزينة ص 286، الأشعري/ مقالات الإسلاميين 1/100، الشهرستاني: 1/166-167، نشوان/ الحور العين ص 162)
(2) رجال الكشي: ص 563
(3) رجال الكشي: ص 565
(4) رجال الكشي: ص 570
(5) رجال الكشي: ص 612
(6) رجال الكشي: ص 612
(7) رجال الكشي: ص 616
(8) رجال الكشي: ص 597
(9) رجال الكشي: ص 615(1/350)
بمروياتهم معرضين عن قول إمامهم: "الزيدية والواقفة والنصاب بمنزلة واحدة" (1) ، "والواقف عائد عن الحق ومقيم على سيئة إن مات بها كانت جهنم مأواه وبئس المصير" (2) .
وقال: الواقفة "يعيشون حيارى ويموتون زنادقة" (3) . وقال: "فإنهم كفار مشركون زنادقة" (4) ، ومع هذا فهي تقبل روايات هؤلاء أو يقبل شيوخهم روايات هؤلاء لقيام نصوص المذهب الشاذة عليهم ويردون روايات الصحابة - رضوان الله عليهم - أليس هذا هو التناقض بعينه؟! ذلك أننا إذا أدركنا أنهم ردوا روايات الصحابة لردهم النص المزعوم على علي، وهؤلاء من الواقفة والفطحية ينكرون مجموعة من الأئمة ويجحدون النصوص الواردة فيهم عن الأئمة قبلهم، فالجميع يشتركون في نفس العلة المزعومة التي من أجلها رفضوا مرويات الصحابة وهو إنكار أحد الأئمة.. إذا أدركنا ذلك - أدركنا عظيم تناقضهم وأنهم ليس لهم ميزان ثابت، وأن الهوى المذهبي، والتعصب والتحزب قد أعمى أبصار شيوخهم فأضلوا أتباعهم سواء السبيل وحرموهم من منبع العلم والإيمان.
وهل ثمة مجال لمقارنة من أثنى الله عليهم ورسوله بمجموعة من حثالة الأفاكين والمفترين، إلا لبيان أنهم في مذهبهم في رد روايات الصحابة ليسوا على شيء.
ولقد جاء في كتب الشيعة: "عن ابن حازم قال: قلت لأبي عبد الله.. فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقوا على محمد صلى الله عليه وسلم أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا" (5) .
والصحابة ليسوا بحاجة لمثل هذا بعد ثناء الله ورسوله، ولكن نستشهد بذلك لبيان أنهم أعرضوا حتى عما جاء عن أئمتهم في كتبهم، الموافق لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، واتبعوا روايات الكذابين عن الأئمة، والتي
__________
(1) رجال الكشي: ص 456
(2) رجال الكشي: ص 456
(3) رجال الكشي: ص 456
(4) رجال الكشي: ص 456
(5) أصول الكافي: 1/65، بحار الأنوار: 2/228(1/351)
اعترفت بكذبهم كتب الشيعة نفسها كما سيأتي (1) .
بداية تدوين الحديث عندهم:
قال ابن النديم: "إن أول كتاب ظهر للشيعة كتاب سليم بن قيس الهلالي" (2) . رواه عن أبان بن أبي عياش لم يروه غيره (3) ، وقد كان لنا وقفة عند هذا الكتاب في أثناء الحديث عن أسطورة "التحريف عند الشيعة" وقد قدّم لنا أحد أساطين الشيعة المتأخرين اعترافاً يقول: "بأن هذا الكتاب موضوع في آخر الدولة الأموية.." يعني لا صحة لنسبته لسليم. وقد تبين لنا أن "سليماً" هذا لا ذكر له في مصادر أهل السنة مع تعظيم الشيعة لأمره، وقد يقال بأنه اسم لا مسمى له؛ إذ لو كان كما يقولون.. لكان شيئاً مذكوراً.
ويبدو أن أوسع جمع لآثارهم - في العصور المتقدمة - هو ما قام به أبو جعفر القمي محمد بن الحسن بن فروخ الصفار القمي (المتوفى سنة 290هـ) في كتابه "بصائر الدرجات في علوم آل محمد وما خصهم الله به" وهو مجموعة لأحاديثهم، وقد طبع سنة 1285هـ (4) .
وهذا الصفار اعتبره بروكلمان "المؤسس الحقيقي لفقه الإمامية في بلاد العجم" (5) .
ويرى الدكتور محمد البلتاجي أنه "أول من دوّن فقه وآثار الإمامية الاثني عشرية" (6) ، وفي كلام ابن النديم السالف ما ينفي دعوى الأولية. ويكاد شيخهم المجلسي ينقل الكتاب بحذافيره في موسوعته البحار، عبر أبوابه المختلفة.
__________
(1) في بيان "حال رجالهم" الذين نقلوا الروايات عن الأئمة
(2) الفهرست: ص 219
(3) نفس الموضع من المصدر السابق، روضات الجنات: 4/67، رجال الحلي: ص83، جامع الرواة: 1/374، البروجردي/ البرهان ص 104
(4) انظر: الذريعة: 3/124
(5) تاريخ الأدب العربي: 3/337
(6) مناهج التشريع الإسلامي: 1/201(1/352)
وقد امتلأ هذا الكتاب بالغلو حيث فيه الطعن في كتاب الله سبحانه، والغلو في الأئمة، وتكفير الصحابة.. إلخ، مما يؤكد أن معظم أخباره مفتراة على الأئمة.
وفي أوائل الرابع الهجري جدد التأليف الكليني (المتوفى سنة 328 أو329هـ) في كتابه "الكافي" ثم تعاقب التأليف عندهم بعد ذلك.
الكتب الرئيسة عند الاثني عشرية:
إن الكتب الرئيسة التي تعتبر مصادر الأخبار عند الاثني عشرية في ثمانية يسمونها: "الجوامع الثمانية" (1) ، ويقولون بأنه هي المصادر المهمة للأحاديث المروية من الأئمة (2) . قال عالمهم المعاصر محمد صالح الحائري: "وأما صحاح الإمامية فهي ثمانية، أربعة منها للمحمدين الثلاثة الأوائل، وثلاثة بعدها للمحمدين الثلاثة الأواخر، وثامنها لحسين - المعاصر - النوري" (3) .
أول هذه المصادر وأصحها عندهم الكافي (4) . لمحمد بن يعقوب الكليني، ثم
__________
(1) مفتاح الكتب الأربعة: 1/5
(2) أعيان الشيعة: 1/288، مفتاح الكتب الأربعة: 1/5
(3) الحائري/ منهاج عملي للتقريب (مقال نشر في مجلة رسالة الإسلام في القاهرة، كما نشر مع مقالات أخرى منتخبة من المجلة باسم "الوحدة الإسلامية" ص: 233)
(4) انظر في التعريف بالكافي: الذريعة: 17/245، النوري/ مستدرك الوسائل: 3/432، مقدمة الكافي، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 20/71، وقد أشارت هذه المصادر إلى أن هذا الكتاب أصح الكتب الأربعة المعتمدة عندهم، وأنه كتبه في فترة الغيبة الصغرى التي بواسطتها يجد طريقاً إلى تحقيق منقولاته، مع أنه الكتاب الوحيد من بين الكتب الأربعة الذي ورد فيه أساطير الطعن في كتاب الله، وبلغت أحاديث الكافي كما يقول العاملي: 16099 حديثاً (أعيان الشيعة: 1/280) وقد طبع عدة طبعات، وشرحه عدد من شيوخهم، وقد رأيت من شروحه: مرآة العقول للمجلسي، وقد اعتنى بالحكم على أحاديث الكافي من ناحية الصحة والضعف.. وقد صحح روايات هي كفر بإجماع المسلمين كروايات تحريف القرآن.
كما اطلعت أيضاً على شرح المازندراني للكافي المسمى "شرح جامع"، وكذلك الشافي شرح أصول الكافي(1/353)
كتاب: "من لا يحضره الفقيه" (1) . لشيخهم المشهور عندهم بالصدوق محمد بن بابويه القمي (المتوفى سنة 381هـ) ، ثم تهذيب الأحكام (2) ، والاستبصار (3) ، كلاهما لشيخهم المعروف بـ"شيخ الطائفة" أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى سنة 360هـ) .
قال شيخهم الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ) : "إن مدار الأحكام الشرعية اليوم على هذه الأصول الأربعة، وهي المشهود عليها بالصحة من مؤلفيها" (4) . وقال أغا بزرك الطهراني - من مجتهديهم المعاصرين - وهي: "الكتب الأربعة والمجاميع الحديثية التي عليها استنباط الأحكام الشرعية حتى اليوم" (5) . هذه هي المصادر الأربعة المتقدمة عندهم.
ثم ألف شيوخهم في القرن الحادي عشر وما بعده مجموعة من المدونات ارتضى المعاصرون منها أربعة سموها بالمجاميع الأربعة المتأخرة وهي: الوافي (6) . لشيخهم محمد بن مرتضى المعروف بملا
__________
(1) انظر في التعريف بهذا الكتاب: الخوانساري/ روضات الجنات: 6/230-237، وأعيان الشيعة: 1/280، مقدمة من لا يحضره الفقيه، وقد اشتمل على 176 باباً أولها باب الطهارة وآخرها باب النوادر، وبلغت أحاديثه (9044) وقد ذكر في مقدمة كتابه أنه ألفه بحذف الأسانيد لئلا تكثر طرقه، وأنه استخرجه من كتب مشهورة عندهم وعليها المعول، ولم يورد فيه إلا ما يؤمن بصحته
(2) انظر في التعريف به: النوري الطبرسي/ مستدرك الوسائل 4/719، الذريعة: 4/504، مقدمة تهذيب الأحكام. وقد ألفه لمعالجة التناقض والاختلاف الواقع في رواياتهم، وبلغت أبوابه (393) باباً، أما عدد أحاديثه فسيأتي الحديث عنها
(3) ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء، جزآن منه في العبادات، والثالث في بقية أبواب الفقه، وبلغت أبوابه (393) باباً، وحصر المؤلف أحاديثه بـ (5511) وقال: حصرتها لئلا يقع زيادة أو نقصان، وقد جاء في الذريعة أن أحاديثه (6531) وهو خلاف ما قاله المؤلف. (انظر: الذريعة: 2/14، أعيان الشيعة: 1/280، حسن الخرسان، في تقيدمه للاستبصار)
(4) الوافي: 1/11
(5) الذريعة: 2/14
(6) ويقع في 3 مجلدات كبار، وطبع في إيران، وبلغت أبوابه (273) باباً، وقال شيخهم محمد بحر العلوم - من المعاصرين - بأنه يحتوي على نحو خمسين ألف حديث. (لؤلؤة البحرين "الهامش" ص122) ، بينما يذكر محسن الأمين بأن مجموع ما في الكتب (44244) حديثاً (أعيان الشيعة: 1/280)(1/354)
محسن الفيض الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ) ، وبحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (1) . لشيخهم محمد باقر المجلسي (المتوفى سنة 1110 أو 1111هـ) ، ووسائل الشيعة (2) . إلى تحصيل مسائل الشريعة تأليف شيخهم محمد بن الحسن الحر العاملي (المتوفى سنة 1104هـ) ، ومستدرك الوسائل (3) . لحسين النوري الطبرسي (المتوفى سنة 1320هـ) .
ملحوظات على الكتب الثمانية:
هناك كتب كثيرة عندهم قالوا: إنها في الاعتبار والاحتجاج كالكتب
__________
(1) قالوا بأنه أجمع كتاب في الحديث، جمعه مؤلفه من الكتب المعتمدة عندهم.
انظر في التعريف به: الذريعة: 3/27، أعيان الشيعة: 1/293
(2) هو أجمع كتاب لأحاديث الأحكام عندهم، جمع فيه مؤلفه رواياتهم عن الأئمة من كتبهم الأربعة التي عليها المدار في جميع الأعصار - كما يقولون - وزاد عليها روايات أخذها من كتب الأصحاب المعتبرة تزيد على 70 كتاباً، كما ذكر صاحب الذريعة، ولكن ذكر الشيرازي في مقدمة الوسائل بأنها تزيد على 180، ولا نسبة بين القولين، وقد ذكر الحر العاملي أسماء الكتب التي نقل عنها فبلغت - كما حسبتها - أكثر من ثمانين كتاباً، وأشار إلى أنه رجع إلى كتب غيرها كثيرة، إلا أنه أخذ منها بواسطة من نقل عنها (طبع في ثلاثة مجلدات عدة مرات، ثم طبع أخيراً بتصحيح وتعليق بعض شيوخهم في عشرين مجلداً) .
(الشيرازي/ مقدمة الوسائل، أعيان الشيعة: 1/292-293، الذريعة: 4/352-353، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 1/4-8، 20/36-49)
(3) قال أغا بزرك الطهراني: "أصبح كتاب المستدرك كسائر المجاميع الحديثية المتأخرة في أنه يجب على المجتهدين الفحول أن يطلعوا عليها ويرجعوا إليها في استنباط الأحكام، وقد أذعن بذلك جل علمائنا المعاصرين" (الذريعة: 2/110-111) ، ثم استشهد بعض أقوال شيوخهم المعاصرين باعتماد المستدرك من مصادرهم الأساسية (الذريعة: 2/111) .
ولكن يبدو أن بعض شيوخهم لم يوافق على ذلك فنجد صاحب أحسن الوديعة ينتقد بشدة هذا الكتاب ويقول بأنه: "نقل منه عن الكتب الضعيفة الغير معتبرة ... والأصول الغير ثابتة صحة نسخها، حيث إنها وجدت مختلفة النسخ أشد الاختلاف"، ثم قال بأن أخباره مقصورة على ما في البحار، وزعها على الأبواب المناسبة للوسائل، كما قابلته حرفاً بحرف (محمد مهدي الكاظمي/ أحسن الوديعة ص 74) .(1/355)
الأربعة، كما ذكر ذلك المجلسي في مقدمة بحاره (1) . والحر العاملي في الوسائل (2) ، وكما نجد ذلك في مقدمات تلك الكتب. ويبدو أن تخصيص ما سلف بالذكر، إما لأنها مجاميع كبيرة، أو قد يكون لمجرد محاكاة أهل السنة وللدعاية المذهبية، ومما يوضح ذلك أنهم اعتبروا مثلاً من المجاميع الثمانية المتقدمة كتاب الوافي، وعدوه أصلاً مستقلاً، مع أنه عبارة عن جمع لأحاديث الكتب الأربعة المتقدمة (الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه) فكيف يعد أصلاً خامساً، ومستقلاً، وهو تكرار لأحاديث الكتب الأربعة؟!
وكذلك اعتبروا "الاستبصار" للطوسي مصدراً مستقلاً من المصادر الأربعة المتقدمة، وهو لا يعدو أن يكون اختصاراً لكتاب تهذيب الأحكام لطوسي، كما صرح بذلك الطوسي في مقدمة الاستبصار (3) ، وكما يبدو واضحاً لمن شاء المقارنة بين الكتابين، فالدعاية المذهبية واضحة في صنيعهم هذا..
وتجد أن بحار الأنوار وضعه مؤلفه في خمس وعشرين مجلداً، ولما كبر المجلد الخامس والعشرين جعل شطراً منه في مجلد آخر فصار المجموع (26) مجلداً (4) ، فقام المعاصرون وزادوا فيه كتباً ليست من وضع المؤلف كجنة المأوى للنوري الطبرسي، وهداية الأخبار للمسترحمي، ومجلدات في الإجازات ليبلغوا به في طبعة جديدة مائة وعشرة مجلدات تبدأ من الصفر (5) . كلون من المظاهر الثقافية الشكلية،
__________
(1) انظر: جص 26، قال المجلسي بأن كتب الصدوق ما عدا خمسة فيها لا تقصر في الاشتهار عن الكتب الأربعة (نفس الموضع من المرجع السابق) . وقال: "وكتاب بصائر الدرجات من الأصول المعتبرة التي روى عنها الكليني وغيره". (السابق: 1/27) ، وهكذا قال في عدد كبير من كتبهم
(2) انظر: وسائل الشيعة: ج (الخاتمة)
(3) الاستبصار: 1/2-3
(4) انظر: الذريعة: 3/27
(5) حيث إن المجلد الأول يحمل رقم صفر!(1/356)
والدعاية المذهبية. وهم مغرمون بهذا الاتجاه الدعائي (1) .
أما موضوع هذه المدونات فإن التهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه، ووسائل الشيعة، ومستدرك الوسائل كلها في الفقه، وكذلك الكافي، فإن المجلدين الأول والثاني في الأصول وسائر المجلدات الباقية في الفقه وهو مما يسمى "فروع الكافي".
ويلاحظ التشابه في كثير من مسائلهم الفقهية مع أهل السنة؛ مما يؤكد ما يقول بعض أهل العلم من أخذهم لذلك من أهل السنة (2) ، ولهم مفردات غريبة، ومسائل منكرة لا تخطر على البال تستحق أن يكتب فيها تأليف خاص، وقد جمع جزءاً منها شيخهم المرتضى في كتاب سماه "الانتصار" (3) . وقد نقل ابن عقيل الحنبلي بعض هذه المسائل، وهو يتعجب منها، وقد سجلها ابن الجوزي في المنتظم (4) . من خط ابن عقيل، كما أشار إليها في الموضوعات بقوله: "ولقد وضعت الرافضة كتاباً في الفقه وسموه مذهب الإمامية، وذكروا فيه ما يخرق إجماع المسلمين
__________
(1) وتجد أن مجموعة كبيرة منهم تكلف بالكتابة في موضع "ما"، ويصرف لها المرتبات من الحوزات العلمية، فإذا انتهى العمل نسب لواحد منهم أو لأحد شيوخهم كأنه هو الذي قام بهذا العمل الذي لا يقوم به إلا جمع من الناس، كما يلاحظ ذلك في كتاب الغدير وغيره، ولهم هوس في ادعاء السبق، حيث تجد في كتاب الشيعة وفنون الإسلام بأن للشيعة السبق في كل علم، مع أن الروافض لم يعرف عنهم شيء من هذا إلا ما أخذوه عن أهل السنة، ولهم مفردات تفضح أمرهم، وترى في أعيان الشيعة للعاملي احتسابه لكثير من أئمة أهل السنة من طائفته لمجرد ما يذكر في تراجمهم من وجود ميل للتشيع عندهم، وهو أمر لا يدخلهم في مسلك الروافض، إذ محبة أهل البيت الحقيقية هي في أهل السنة أكثر من الرافضة
(2) انظر: منهاج السنة النبوية: 3/246
(3) وقد وقفت عليه في طبعته الأخيرة (1405هـ، دار الأضواء، بيروت) وقد طبع قبل ذلك ضمن الجوامع الفقهية بطهران سنة 1267هـومستقلاً سنة 1315هـ، ويسمى: "مسائل الانفرادات في الفقه" (لؤلؤة البحرين ص 320)
(4) المنتظم: 8/120(1/357)
بلا دليل أصلاً (1) .
أما بالنسبة للقسم الباقي من هذه المدونات وهي أصول الكافي، وبحار الأنوار فهي تتعلق بمسائل: التوحيد، والعدل، والإمامة.. وأكثر ما فيها يدور حول عقائدهم وآرائهم في الإمامة والأئمة الاثني عشر والنص عليهم، وصفاتهم، وأحوالهم، وزيارة قبوهم، والحديث عن أعدائهم، وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونلحظ أن كل شيء - في الغالب - يدور في فلك الإمامة والأئمة.
والقارئ لهذه الأحاديث في هذه المدونات وغيرها من كتب الرواية عندهم يجد أن هناك فرقاً واضحاً وكبيراً بين الروايات التي ترد عن طريق أهل السنة ويطلق عليها الحديث، وبين الروايات التي ترد عن طريق الشيعة ويطلق عليها اللفظ نفسه، فكتب السنة الستة وغيرها إذا روت حديثاً فهو منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي أحاديثه هو. أما كتب الحديث عند الشيعة فهي تأتي بالرواية عن أحد أئمتهم الاثني عشر ويعتقدون - كما مر - أن لا فرق بين ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد أئمتهم.
كما أن القارئ لكتب الحديث عندهم لا يجد إلا القليل النادر منها هو المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر ما يروونه في الكافي، واقف عند جعفر الصادق، وقليل منها يعلو إلى أبيه محمد الباقر، وأقل من ذلك ما يعلوا إلى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ونادراً ما يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
كما يلحظ أن مدوناتهم الأربع المتأخرة ألفت في القرن الحادي عشر وما بعده، وآخرها ألفه النوري الطبرسي (المتوفى سنة 1320هـ) وهو من معاصري الشيخ محمد عبده. وقد جمع فيه ثلاثة وعشرين ألف حديث عن الأئمة (2) . لم
__________
(1) الموضوعات: 1/338
(2) الذريعة: 21/7(1/358)
تعرف من قبل، فهي متأخرة عن عصور الأئمة بمئات السنين، فإذا كان هؤلاء قد جمعوا تلك الأحاديث عن طريق السند والرواية فكيف يثق عاقل برواية لم تسجل طيلة أحد عشر قرناً أو ثلاثة عشر قرناً!! وإذا كانت مدونة في كتب فلم يعثر على هذه الكتب إلا في القرون المتأخرة (1) ، ولم يجمع تلك الروايات متقدموهم، ولم لم تذكر تلك الكتب وتسجل في كتبهم القديمة؟! كيف لم يسجلها الكليني وهو بحضرة السفراء الأربعة سفراء المهدي؟! وقد سماه الكافي لأنه كاف للشيعة، وقد عرضه على مهديهم - بواسطة السفراء - فقال: كاف لشيعتنا - كما سلف (2) .- بل إن الطوسي قال بأنه جمع في كتابه تهذيب الأحكام جميع ما يتعلق بالفقه من أحاديث أصحابهم وكتبهم وأصولهم، لم يتخلف عن ذلك إلا نادر قليل وشاذ يسير (3) .
فهل هذه الكتب وضعت فيما بعد في أيام الدولة الصفوية، ونسبت لشيوخهم الأوائل؟ هذا ليس ببعيد.
بل إن كتبهم الأربعة الأولى لم تخل من دس وزيادة، وآية ذلك أن كتاب
__________
(1) صرح بعض أصحاب هذه المدونات بأنه عثر على كتب لم تدون في كتبهم المعتمدة من قبل. يقول المجلسي: "اجتمع عندنا بحمد الله سوى الكتب الأربعة نحو مائتي كتاب، ولقد جمعتها في بحار الأنوار (اعتقادات المجلسي ص 24، مصطفى الشيبي/ الفكر الشيعي ص61) ، وذكر شيخهم الحر العاملي بأنه توفر عنده أكثر من ثمانين كتاباً عدا الكتب الأربعة، وقد جمع ذلك في وسائل الشيعة" (انظر: الوسائل ج، المقدمة، والذريعة: 4/352-353) .
أما شيخهم المعاصر النوري الطبرسي فهو أيضاً قد عثر على كتب لم تدون من قبل رغم أنه من المعاصرين، يقول أغا بزرك الطهراني: "والدافع لتأليفه عثور المؤلف على بعض الكتب المهمة التي لم تسجل في جوامع الشيعة من قبل (الذريعة: 21/7) وجعلوا هذه الأحاديث المكتشفة والتي جمعها مستدرك الوسائل مما لا يستغنى عنه، قال آيتهم الخراساني - كما ينقل صاحب الذريعة - بأن الحجة للمجتهد في عصرنا هذا لا تتم قبل الرجوع إلى المستدرك، والاطلاع على ما فيه ما الأحاديث" (الذريعة 2/111) ، فهل يعني هذا أنه قبل تأليف المستدرك لا حجة عندهم في قول شيخهم؟! فانظر وتعجب.. وقد تستمر مسيرة الاكتشاف للكتب والروايات
(2) انظر: مقدمة الرسالة
(3) الاستبصار: 1/2(1/359)
تهذيب الأحكام للطوسي بلغت أحاديثه (13950) حديثاً كما ذكر ذكر أغا بزرك الطهراني في الذريعة (1) ، ومحسن العاملي في أعيان الشيعة (2) . وغيرهما من شيوخهم المعاصرين، في حين أن الشيخ الطوسي نفسه صرح في كتابه عدة الأصول بأن أحاديث التهذيب وأخباره تزيد على (5000) ، ومعنى ذلك أنها لا تصل إلا إلى (6000) في أقصى الأحوال (3) . فهل زيد عليها أكثر من الضعف في العصور المختلفة؟! الدليل المادي الملموس أمامنا يؤكد ذلك.
وأيضا تراهم اختلفوا هل كتاب الروضة - وهو أحد كتب الكافي التي تضم مجموعة من الأبواب، وكل باب يتضمن عدداً كبيراً من الأحاديث - هل هو من تأليف الكليني أم مزيد فيما بعد على كتابه الكافي (4) ، فكأن أمر الزيادة شيء طبيعي ووارد في كل حال.
بل الأمر أخطر من ذلك فإن شيخهم الثقة عندهم حسين بن حيدر الكركي العاملي (المتوفى سنة 1076هـ) قال: إن كتاب الكافي خمسون كتاباً بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصل بالأئمة (5) ، بينما نرى شيخهم الطوسي (المتوفى سنة 360هـ) يقول: "كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتاباً، أخبرنا بجميع رواياته الشيخ.." (6) .
فهل زيد على الكافي للكليني فيما بين القرن الخامس، والحادي عشر عشرون كتاباً، مع أن كل كتاب يضم عشرات الأبواب، وكل باب يشمل مجموعة من الأحاديث؟! لعل هذا أمر طبيعي، فمن كذب على رسول الله والصحابة والقرابة فمن باب أولى أن يكذب على شيوخه..
__________
(1) الذريعة: 4/504
(2) أعيان الشيعة: 1/288
(3) انظر: الإمام الصادق: ص485
(4) روضات الجنات: 6/188-176
(5) المصدر السابق: 6/114
(6) الفهرست: ص161(1/360)
وشواهد هذا الباب كثيرة.
أما متون هذه الكتب ونصوصها فإنك تلحظ فيها ظاهرة الاختلاف والتضاد، ولقد تألم شيخهم محمد بن الحسن الطوسي "لما آلت إليه أحاديثهم من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه.." واعترف بأن هذا الاختلاف قد فاق ما عند أصحاب المذاهب الأخرى، وأن هذا كان من أعظم الطعون على مذهبهم، وأنه جعل بعض الشيعة يترك هذا المذهب لما انكشف له أمر هذا الاختلاف والتناقض (1) .
وقام شيخهم الطوسي بمحاولة يائسة لتدارك هذا الاختلاف وتوجيه هذا التناقض فلم يفلح؛ بل زاد الطين بلة، حيث علق كثيراً من اختلاف الروايات على التقية بلا دليل سوى أن هذا الحديث أو ذاك يوافق أهل السنة.
والواقع أنه بصنيعه هذا قد "كرس" الفرقة، وأضاع على طائفته كثيراً من سبل الهداية.. ومحاولته كانت في أحاديث الأحكام، أما باقي مسال المذهب فلم يتعرض لها.
والدليل المادي على أن محاولته لم تنجح هو كثرة اختلافهم، وقد اشتكى بعض شيوخهم من هذه الظاهرة وهو الفيض الكاشاني صاحب الوافي أحد الكتب الثمانية المعتمدة فقال عن اختلاف طائفته: ".. تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولاً أو ثلاثين قولاً أو أزيد؛ بل لو شئت أقول: لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها" (2) .
ومن الملاحظ أن اختلافهم هو اختلاف في الأحاديث أو النصوص وليس اختلافاً في الاستنباط، ولا شك أن التناقض أمارة على بطلان المذهب، وكذب الروايات.. وأن ذلك ليس من عند الله لقوله سبحانه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ
__________
(1) تهذيب الأحكام: 1/2-3
(2) الوافي، المقدمة: ص9(1/361)
لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (1) .
وقد عزت بعض راياتهم ظاهرة الاختلاف إلى كثرة الكذب على الأئمة.. فهذا الفيض بن المختار يشكو لأبي عبد الله - كما تقول رواياتهم - كثرة اختلافهم ويقول: "ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم.. إني لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أن أشك في اختلافهم في حديثهم. فقال أبو عبد الله: هو ما ذكرت يا فيض إن الناس أولعوا بالكذب علينا.. وإني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غيره تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله وإنما يطلبون الدنيا وكل يحب أن يدعى رأساً" (2) .
وقد كثرت شكاوى الأئمة من كثرة الكذابين عليهم (3) ، وقد حف بهم
__________
(1) النساء، آية: 82
(2) مضى ذكره وتخريجه من كتب الشيعة: ص 90
(3) تروي كتب الشيعة عن جعفر الصادق قال: "إن لكل رجل منا، رجل يكذب عليه، وقال: إن المغيرة بن سعيد دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا". وقد اعترف المغيرة بن سعيد كما تروي كتب الشيعة بذلك حيث قال: "دسست في أخباركم أخباراً كثيرة تقرب من مائة ألف حديث".
وعن الصادق قال: "إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه". وعن أنس أنه قال: "وافيت العراق فوجدت قطعة من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام - متوافرين فسمعت منهم وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا فأنكر منها أحاديث كثيرة.. وقال: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يسدون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله - عليه السلام - فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن" (انظر النصوص السابقة في: تنقيح المقال: 1/174-175) .
فإذا وضعت مع هذه النصوص شهادة أئمة السنة بكذب الروافض (انظر: المنتقى ص21-23، ميزان الاعتدال: 1/27-28) تبين شيوع الكذب وكثرته عندهم، وإذا عرفت مدى بضاعتهم في علم الإسناد، والجرح والتعديل تحقق لك الخطر الكبير الذي يعيشه هؤلاء من خلال اعتمادهم في التلقي على ذلك المدونات(1/362)
ولاسيما جعفر الصادق مجموعة من المتآمرين والمتكسبين والمحتالين.. وكانوا يستقبلون بعض الوفود القادمة من أصقاع العالم الإسلامي ويأكلون أموالهم باسم الأئمة، ويقدمون لهم تواقيع مزورة باستلامهم ويحدثون عنهم بما لم يقولوا (1) .
وإذا كذب الأئمة أقوالهم قالوا: إن هذا التكذيب منهم تقية (2) .
واستمع إلى شريك بن عبد الله القاضي (ت177-178هـ) يصف الأقوام الذين التصقوا بجعفر وادعوا الرواية عنه - كما تنقل ذلك كتب الشيعة نفسها - "قال أبو عمرو الكشي: قال يحيى بن عبد الحميد الحمّاني في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: قلت لشريك: إن أقواماً يزعمون أن جعفر بن محمد ضعيف الحديث، فقال: أخبرك القصة، كان جعفر بن محمد رجلاً صالحاً مسلماً ورعاً فاكتنفه قوم جهال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون: حدثنا جعفر بن محمد، ويحدثون بأحاديث كلها منكرات كذب موضوعة على جعفر، ليستأكلوا الناس بذلك، ويأخذوا منهم الدراهم، كانوا يأتون من ذلك بكل منكر، فسمعت العوم بذلك فمنهم من هلك ومنهم من أنكر" (3) . ويبدو أن الإنكار كان من طائفة من المتقدمين.. إذ إن المتأخرين - ولاسيما في العهد الصفوي وما بعده - قد أصبحت الأساطير الكثيرة التي تروى عن جعفر جزءاً من عقائدهم بلا نكير.
أما معاني هذه الروايات، ومادتها فإن فيها ما يحكم المرء بوضعه بمجرد النظر في متنه لمخالفته لأصول الإسلام وضروراته، وما علم بالتواتر، وما أجمع المسلمون عليه.. مع مخالفته لصريح العقل، وقد رأيت في رواياتهم ما يلغى هذا المبدأ أعني
__________
(1) انظر: التحفة الاثني عشرية، الورقة (92) (مخطوط)
(2) انظر: ميزان الاعتدال ترجمة زرارة: 2/69-70، وسيأتي عند الحديث عن حال رجالهم بأن شيوخ الشيعة يحملون الطعن والتكذيب الصادر من جعفر الصادق وغيره في حق معظم رواتهم بأنه تقية
(3) رجال الكشي: ص 208-209، بحار الأنوار: 20/302-303(1/363)
مبدأ نقد المتن لظهور القرائن التي تدل على ذلك، فقد جاء في بصائر الدرجات عن سفيان السمط قال: "قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: جعلت فداك؛ إن رجلاً يأتينا من قبلكم يعرف بالكذب فيحدث بالحديث فنستبشعه، فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: يقول لك: إني قلت لليل إنه نهار، وللنهار إنه ليل، قال: لا، قال: فإن قال لك هذا إني قلته فلا تكذب به فإنك إنما تكذبني" (1) .
وجاء أيضاً "إن حديثنا تشمئز منه القلوب فمن عرف فزيدوهم، ومن أنكر فذروهم" (2) .
وقد ذكر شيخهم المجلسي في الاتجاه (116) حديثاً في باب بعنوان "باب إن حديثهم - عليهم السلام - صعب مستصعب، وإن كلامهم ذو وجوه كثيرة، وفضيلة التدبر في أخبارهم - رضي الله عنهم - والتسليم لهم والنهي عن رد أخبارهم" (3) ، وإذا قارنت هذا بما يذهب إليه أهل السنة استبان بصورة أعظم ضلالهم، وبضدها تتميز الأشياء (4) .
__________
(1) بحار الأنوار: 2/211-212
(2) بحار الأنوار: 2/192
(3) انظر: المصدر السابق: 2/182-212
(4) قارن ذلك بما قاله أئمة السنة في هذا الباب، قال الربيع بن خثيم (المتوفى سنة 61 أو 63هـ) والذي قال فيه ابن مسعود: "لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك" (تقريب التهذيب: 1/244) قال الربيع: "إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار يعرف، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل ننكره" (رواه الخطيب البغدادي في الكافية ص605) ، وقال أبو الحسن علي بن عروة المتوفى سنة 837هـ، صاحب الكواكب الدراري في 120 مجلداً. (انظر: السخاوي/ الضوء اللامع: 5/214-215) ، قال ابن عروة: "القلب إذا كان تقياً نظيفاً زاكياً كان له تمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والهدى والضلال ولا سيما إذا كان قد حصل له إضاءة وذوق من النور النبوي، فإنه حينئذ تظهر له خبايا الأمور، ودسائس الأشياء، والصحيح من السقيم، ولو ركب على متن ألفاظ موضوعة على الرسول إسناد صحيح أو متن صحيح إسناد ضعيف لميز ذلك وعرفه. فإن ألفاظ الرسول لا تخفى على عاقل ذاقها" (القاسمي/ قواعد التحديث ص 165، وقد نقل ذلك عن مخطوطة الكواكب الدراري لابن عروة) .
وقد اعتنى أئمة الحديث بالمتن كما اعتنوا بالإسناد، ووضعوا علامات لمعرفة الحديث الموضوع =(1/364)
والغالب في النقد المتن عندهم أنه يعمل به إذا كان الحديث يوافق أهل السنة والذين يسمونهم بالعامة فيردّ الحديث حينئذ، لأن مخالفة العامة كما تقول رواياتهم فيها الرشاد (1) . فيزدادون بهذا ضلالاً على ضلالهم.. مع أنه قد جاء عن بعض الأئمة وفي كتب الشيعة نفسها: "لا تقبلوا علينا خلاف كتاب ربنا" (2) ، إلا أن هذا المبدأ لم يعمل به شيوخهم.. بل إن الأصل الذي أمر الأئمة بالرجوع إليه (وهو القرآن) قد كثرت أساطيرهم التي تتعرض له.
أما مدى صحة هذه الروايات عندهم، والتي تضمنتها تلك المدونات والتعرف على أسانيدهم ورجالهم الذين ارتضوا رواياتهم عن الأئمة، وأقسام الحديث عندهم، ومقاييس نقد السند لديهم، فهذا موضوع هام وكبير يستحق أن يكتب فيه كتابة مستقلة.. وذلك لأهميته في كشف حقيقة هذه المدونات أمام المخدوعين والمغفلين.. وتعرية الباطل واكتشاف الأيدي السبئية التي أسهمت في صنع هذا "الضلال" ونسبته لبعض علماء أهل البيت.. وهو مبحث واسع الأطراف متعدد الجوانب لا يكفي هذا الحيز لتفصيل القول فيه.. فسنكتفي بالعرض المجمل، والإشارة واللمحة.
__________
= بدون النظر إلى إسناده، وعامة علوم الحديث تعرضت لذلك، قال ابن دقيق العيد: وأهل الحديث كثيراً ما يحكمون بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى المروي وألفاظ الحديث.. (الاقتراح: ص 231) .. كما ذكر اين الصلاح بأنهم قد يعرفون كون الحديث موضوعاً بقرينة النص المروي، فقد وضعت أحاديث - كما يقول - طويلة تشهد لوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها (علوم الحديث/ لابن الصلاح ص: 89) .
وقد كتب ابن القيم - رحمه الله - كتاباً مستقلاً في هذا الشأن إجابة لسؤال يقول: "هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ " فأورد - رحمه الله - قواعد عدة في هذا الشأن بلغت (44) قاعدة ومثل لها بـ (273) حديثاً وبيّن وجه وضعها من خلال نقد المتن فقط وذلك في كتابه "المنار المنيف"
(1) انظر: مبحث الإجماع من هذه الرسالة
(2) انظر: أصول الكافي، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب: 1/69-71، وفيه مجموعة أحاديث في هذا المعنى(1/365)
مدى صحة روايات هذه المدونات:
لقد جاء على لسان جملة من أعلام أهل السنة بأن الرافضة من أعظم الطوائف افتراء للكذب، وتكذيباً للصدق (1) . وحينما قال ابن المطهر: فإن لهم أحاديثهم التي رواها رجالهم الثقات، قال شيخ الإسلام: "من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات، وأنتم لم تدركوها، ولم تعلموا أحوالهم ولا لكم كتب مصنفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يميز بها بين الثقة وغيره، ولا لكم أسانيد تعرفون رجالها" (2) .
ولكن هل أئمة الإسلام على علم بهذه المدونات؟
الحقيقة أنه لم يكن للأمة المسلمة مصادر في التلقي معروفة مشهورة غير أمهات مصادر المسلمين من الصحاح والسنن والمسانيد..
والملحوظ أن أئمة الإسلام الذين لهم عناية بأمر الروافض كالاشعري وابن حزم، وابن تيمية، لم يرد عنهم - في حدود تتبعي - ذكر لأسماء هذه المدونات وبالأخص أخطر كتاب لهم وهو في أصول الكافي، رغم أن صاحبه قد توفي سنة 329هـ. فهل مرد ذلك إلى أن تلك المدونات سرية التداول بينهم، أو لاحتقار علماء الإسلام لهم، فلم يلتفتوا إلى كتب الحديث عندهم؟ أو أن هذه الكتب صنفت في إبان الدولة الصفوية، ونسبت لشيوخهم الأوائل؟
قد جاء في أصول الكافي ما يفيد أن كتب الحديث عندهم كانت موضع التداول السري بينهم، ولهذا لم تكن متصلة السند بسبب ظروف التقية كما يدعون.
يقول نص الكافي: "إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام -
__________
(1) منهاج السنة: 4/51، وراجع: المنتقى (مختصر منهاج السنة: ص21-23، ميزان الاعتدال: 1/27-28)
(2) منهاج السنة: 4/110(1/366)
وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا. (قال أحد أئمتهم) : حدثوا بها فإنها حق" (1) ، وتلحظ في بعض رواياتهم - مثلاً - الأمر بكتمان هذا النص وعدم إذاعته عند غير أهله (2) .
وفي عصر السيوطي قام أحد الروافض يدعو إلى الاحتجاج بالقرآن فقط دون السنة، وألف في الرد عليه كتابه "الاحتجاج بالسنة"، فلم لم يدع هذا الرافضي إلى كتب أصحابه؟ قد يلتمس من هذا الصنيع أنه يتكتم عليها.. وعلى أية حال لم يكن لكتبهم ذلك الذيوع والانتشار إلا بعد ظهور الطباعة وتفشي أمر الرافضة.
ولعل أولى الإشارات لمصادر الشيعة الأربعة الأولى جاءت في كتاب النواقض في الرد على الروافض، حيث ذكر بأنه من هفوات الروافض إنكارهم كتب الأحاديث الصحاح التي تلقتها الأمة بالقبول، وإيمانهم بمقابل ذك بأربعة كتب جمع فيها كثير من الأكاذيب مع بعض الأحاديث وأقوال الأئمة (3) .
وصاحب النواقض (مخدوم الشيرازي) من القرن العاشر، ولكن لا يعني هذا ظهور أمر هذه المدونات؛ لأن الشيرازي هذا عاش في وسط الرافضة، واضطر أن يتلقى تعليمه بينهم.. فعرف من أمورهم - كما يقول - ما يخفى على الكثير (4) .
- أما مدى صحة ما في هذه المدونات في نظر هذه الطائفة، فهم في هذا فريقان: صنف يرى صحتها، ويقطع بثبوت كل حرف فيها عن الأئمة، وفريق يرى
__________
(1) أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث: 1/53
(2) كما في خبر "لوح فاطمة" المزعوم، وفي آخره قال إمامهم: "لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك فَصُنْهُ إلا عن أهله" وهو نص يرويه أبو بصير عن جعفر الصادق. (انظر: أصول الكافي: 1/527-528) ، الكاشاني/ الوافي، المجلد الأول جص72، الطبرسي/ الاحتجاج: 1/84-87، ابن بابويه/ إكمال الدين: ص301-304، الطبرسي (وهو صاحب مجمع البيان) / أعلام الورى: ص152 وما بعدها، الكراجكي/ الاستنصار: ص18
(3) النواقض: ص 109، 110 (مخطوط)
(4) انظر: المصدر السابق: الورقة 87، 151، وانظر: ص (209) من هذه الرسالة، هامش رقم (2)(1/367)
أن فيها الصحيح وغيره.. يبين ذلك شيخهم الممقاني فيقول:
"إن كون مجموع ما بين دفتي كل واحد من الكتب الأربعة من حيث المجموع متواتراً مما لا يعتريه شك ولا شبهة، بل هي عند التأمل فوق حد التواتر، ولكن هل هي متواترة بالنسبة إلى خصوص كل حديث وبعبارة أخرى هل كل حديث وكلمة بجميع حركاتها وسكناتها الإعرابية والبنائية، وبهذا الترتيب للكلمات والحروف على القطع أم لا؟ فالمعروف بين أصحابنا المجتهدين الثاني كما هو قضية عدها أخبار آحاد، واعتبارهم صحة سندها أو ما يقوم مقام الصحة، وجل الإخبار على الأول كما يقتضيه قولهم بوجوب العمل بالعلم، وأنها قطعية الصدور" (1) .
إذن الكتب الأربعة عند الإخباريين من الاثني عشرية أعظم من القرآن عند المسلمين.. ولهذا قبلوا رواياتها التي تتعرض لكتاب الله، وجعلوها هي الحاكمة على كتاب الله وذلك هو الضلال العظيم، والكفر الصراح.
أما الأصوليون أو المجتهدون كما يسمون فإنهم يعتبرونها من قبيل الآحاد، وينظرون حين الحكم عليها إلى السند، ولذلك قال جعفر النجفي (ت1227هـ) - شيخ الشيعة الإمامية، ورئيس المذهب - في زمنه (2) . قال في كتابه "كشف الغطا" عن مؤلفي الكتب الأربعة:
" والمحمدون الثلاثة كيف يعول في تحصيل العلم عليهم، وبعضهم يكذب رواية بعض.. ورواياتهم بعضها يضاد بعضاً.. ثم إن كتبهم قد اشتملت على أخبار يقطع بكذبها كأخبار التجسيم والتشبيه وقدم العالم، وثبوت المكان، والزمان" (3) .
ولكن أصحاب الكتب الأربعة نصوا في مقدماتهم بأنهم لا يذكرون إلا الصحيح، فيجيب صاحب كشف الغطا عن ذلك بقوله: "فلابد من تخصيص ما ذكر في المقدمات أو تأويله على ضرب من المجازات أو الحمل على العدول عما
__________
(1) تنقيح المقال: 1/183 (ط 1349هـ)
(2) الشيعة في الميزان: ص 272 (الهامش)
(3) كشف الغطا: ص 40(1/368)
فات، حيث ذكروا في تضاعيف كتبهم خلاف ما ذكروه في أوائلها (1) ، أي أنهم عدلوا عن شرط الصحة الذي ذكروه في مقدمات كتبهم!! ".
ثم يأتي الاعتراض الأكثر صعوبة وهو أن هذه الكتب الأربعة مأخوذة كما يقولون من أصول معروضة على الأئمة، وأصول الكافي كتب في عصر الغيبة الصغرى، وكان بالإمكان الوصول إلى حكم الإمام على أحاديثه، بل قالوا بأنه عرض على مهديهم فقال بأنه كاف لشيعتنا (2) . كما أن صاحب من لا يحضره الفقيه "أدرك من الغيبة الصغرى نيفاً وعشرين سنة" (3) ، فلم لم يعترض الأئمة على ما فيها من موضوعات؟ لم يجد صاحب كشف الغطا جواباً على ذلك إلا الفزع إلى التقية التي هي متعقلهم إذا أعيتهم الحيل فقال: "وأنه لا يجب على الأئمة المبادرة إليهم بالإنكار ولا تمييز الخطأ من الصواب لمنع التقية المتفرعة على يوم السقيفة" (4) .
ومع ذلك فإن لسائل أن يقول: إذا كان الأصوليون من الشيعة قد سلكوا مسلك التصحيح والتضعيف من خلال دراسة الإسناد فهل للشيعة بصر بالرجال ودراية بعلم الجرح والتعديل؟
والجواب على ذلك أنه: من خلال النظر في كتب الرجال عندهم يتبين بأنه لم يكن لهم كتاب في أحوال الرجال حتى ألف الكشي في المائة الرابعة كتاباً لهم في ذلك، جاء في غاية الاختصار، وليس فيه ما يغني في هذا الباب، وقد أورد فيه أخباراً متعارضة في الجرح والتعديل (5) . وليس في كتب رجالهم الموجودة إلا في حال بعض رواتهم (6) . كما "أنه في كثير من الأسانيد قد وقع غلط واشتباه في
__________
(1) كشف الغطا: ص 40
(2) مضى تخريجه من كتبهم ص: (120) من هذه الرسالة
(3) الصدر/ الشيعة: ص 125
(4) كشف الغطا: ص 40
(5) انظر - مثلاً -: ترجمة زرارة بن أعين، وأبي بصير، وجابر الجعفي وغيرهم
(6) الشيرازي/ النواقض ص 113 (مخطوط)(1/369)
أسامي الرجال وآبائهم أو كناهم، أو ألقابهم" (1) .
وقد كان التأليف في أصول الحديث وعلومه معدوماً عندهم حتى ظهر زين الدين العاملي (2) . الملقب عندهم بالشهيد الثاني (المقتول سنة 965هـ) (3) ، وهذا ما تعترف به كتب الشيعة نفسها.
قال شيخهم الحائري: "ومن المعلومات التي لا يشك فيها أحد أنه لم يصنف في دراية الحديث من علمائنا قبل الشهيد الثاني وإنما هو من علوم العامة.." (4) ، يعني أهل السنة. (وسيأتي أن تقسيم الحديث إلى صحيح وغيره لم يوجد عندهم أيضاً إلا في القرن السابع) .
ويرى صاحب التحفة أن سبب تأليفهم في ذلك هو ما لحظوه في وراياتهم من تناقض وتهافت، وأنهم قد استعانوا في وضع هذه الأصول بما كتبه أهل السنة (5) ، غير أن لهم بعض المقاييس الخاصة بهم لم تسلم من ضلال كالعادة في كل ما انفردوا به عن المسلمين. فتجدهم مثلاً يوثقون من ادعى رؤية غائبهم المعدوم الذي لم يولد أصلاً (6) ، ويعتبرون ذلك دلالة على كونه فوق العدالة، على حين لا تؤثر عندهم صحبة الرسول شيئاً في التزكية والتعديل - كما سلف - فهم بهذا يجعلون الكذب والضلال دليل العدالة، وعدوا برهان العدالة أمارة على الكذب فانظر وتعجب.. ويوثقون الكليني الذي أخرج أساطير "تحريف القرآن" وأوسع لها في كتابه الكافي، ولذلك قال عنه الكاشاني في تفسيره الصافي (7) ،
__________
(1) الممقاني/ تنقيح المقال: 1/177
(2) النواقض: ص 111-112
(3) انظر: القمي/ الكنى والألقاب: 2/344
(4) مقتبس الأثر: 3/73، وقال الحر العاملي في ترجمة شيخهم المذكور: وهو أول من صنف من الإمامية في دراية الحديث؛ لكنه نقل الاصطلاحات من كتب العامة، كما ذكره ولده وغيره (أمل الآمل: 1/86)
(5) التحفة الاثنا عشرية: ص 105 (مخطوط)
(6) كما تقوله طوائف من الشيعة، وكما ثبت ذلك عند ثقات المؤرخين وعلماء النسب - كما سيأتي في مبحث الغيبة -
(7) انظر: تفسير الصافي: 1/52، ط: الأعلمي بيروت، وص: 14 ط: المكتبة الإسلامية طهران(1/370)
والنوري الطبرسي في فصل الخطاب (1) ، ومحمود النجفي الطهراني في قوامع الفضول (2) ، بأنه كان يقول يتحريف القرآن.
وقال أبو زهرة: فإن من هذا اعتقاده فليس من أهل القبلة (3) .
ومع ذلك يقول ابن المطهر الحلي بأنه من أوثق الناس في الحديث وأثبتهم (4) . بينما يعدون القول بالقياس - والذي هو من مبادئ الفقه الإسلامي - قدح في الرجل عندهم تترك روايته من أجله (5) . فانظر كيف يوثقون الكفار، ويردون روايات المسلمين.
ومن كان على غير مذهب الإمامية فروايته لا ترتقي للصحة - عندهم - كما سيأتي في تعريف الصحيح عندهم، ولكن الإمامي مقبولة روايته ولو كان مذموماً على لسان الأئمة؛ بل صرح ابن المطهر الحلي بأن "الطعن في دين الرجل لا يوجب الطعن في حديثه" (6) ، فإذا كانت هذه بعض مقاييسهم فما حال رجالهم؟
رجال أسانيدهم:
إن مصنفي هذه المدونات لم يحصل لهم ملاقاة الأئمة، وما أخذوا أقوالهم إلا بواسطة رجال بينهم وبين الأئمة، فما حال هؤلاء الرجال الذين رووا كل ذلك الضلال عن جعفر وغيره؟
لقد شهد طائفة من أعلام السنة بأن الروافض من أكذب الناس في الحديث واتقوا الرواية عنهم.. لكن الاثني عشرية لا تقبل هذه الشهادات، فهي لا تقبل "روايات العامة" كما يقولون فضلاً عن الأخذ بجرحهم.
وقد استقرأ صاحب التحفة الاثني عشرية أحوال رجالهم في الكتب الأربعة
__________
(1) انظر: فصل الخطاب: ص 30 وما بعدها (النسخة المطبوعة)
(2) انظر: قوامع الفضول: ص 298
(3) الإمام الصادق: ص 440
(4) رجال الحلي: ص 45
(5) رجال الحلي: ص 145
(6) رجال الحلي: ص 137(1/371)
من خلال ما تقوله عنهم كتب الشيعة نفسها (1) ، كما فعل مثل ذلك صاحب "الصواقع المحرقة" (2) . وقدم الألوسي - رحمه الله - في "كشف غياهب الجهالات" إلمامة موجزة بأحوالهم (3) ، كما صدر حديثاً كتاب بعنوان: "رجال الشيعة" درس فيه مؤلفه مجموعة كبيرة من رجالهم من خلال مصادر الشيعة، وما قد يوجد في مصادر السنة، وهي خطوة تستحق الإشادة (4) .
وتبين من خلال ذلك أن رجال كتبهم في الغالب ما بين كافر لا يؤمن بالله ولا بالأنبياء ولا بالبعث والمعاد، ومنهم من كان من النصارى ويعلن بذلك جهاراً وَيتَزيّا بزيّهم، ولم يدع صحبتهم، ومنهم من أعلن جعفر الصادق كذبهم ونص على ذلك باعتراف كتب الشيعة وقال: "يروون عنا الأكاذيب ويفترون علينا أهل البيت" (5) . إلى غير ذلك من أحوال رجالهم، وأنواع ضلالهم. وقد ذكرت هذه المصنفات جملة من أسماء هؤلاء الرجال الذين ذهبوا لهذه المذاهب الملحدة (6) .
ولقد لخص شيخ الطائفة، وصاحب كتابين (7) . من كتبهم الأربعة في الحديث، وصاحب كتابين أو ثلاثة من كتبهم الأربعة المعتمدة في الرجال (8) .
__________
(1) انظر: التحفة الاثني عشرية: ص 97، 107 وما بعدها (مخطوط) ، ومختصر التحفة ص 69
(2) الصواقع - بتقديم القاف على العين - المحرقة لإخوان الشياطين والزندقة من تأليف نصير الدين محمد الشهير بخواجه نصر الله الهندي المكي، وقد قام الشيخ محمود الألوسي باختصار الكتاب باسم "مختصر الصواقع.." وانظر (ما أشرنا إليه في) مختصر الصواقع: ص 112 (مخطوط)
(3) كشف غياهب الجاهلات: ص 10 (مخطوط)
(4) وقد نشرته: دار الأرقام - الكويت عام 1403هـتأليف عبد الرحمن الزرعي
(5) انظر: التحفة ص 97
(6) ولعل بعض أقسام "السنة" في الجامعات الإسلامية تقوم بدراسة متأنية وشاملة لأحوال هؤلاء الرجال الذين قام على رواياتهم مذهب الاثني عشرية لكشف حالهم وبيان الحقيقة.
(7) وهما: التهذيب والاستبصار
(8) وهي: الفهرست للطوسي، ورجال الطوسي، والكتاب الثالث وهو رجال الكشي، والذي قام بتهذيبه الطوسي، وقد فقد الأصل اليوم عند الشيعة فلا يوجد إلا تهذيب الطوسي، بالإضافة إلى كتاب الرجال للنجاشي(1/372)
لخص الطوسي أحوال رجالهم باعتراف مهمّ أجراه الله سبحانه على لسانه، يقول الطوسي: "إن كثيراً من مصنفي أصحابنا ينتحلون المذاهب الفاسدة - ومع هذا يقول: إن كتبهم معتمدة -" (1) . فكأن المهم عندهم تشيع الرجل ولا يضر بعد ذلك انتحاله لأي مذهب فاسد. ولكنهم يردون روايات الزيدية. كما ردوا روايات زيد بن علي وهو من أهل البيت كما فعل الطوسي في الاستبصار (2) . مع أن الزيدية شيعة.
إذن المقصود عندهم هو الإمام أو الغالي، ولهذا ارتضوا أمر الجارودية مع أنها من غلاة الزيدية، ولكن ارتضوا مذهبها لأنها تكفر معظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترد مروياتهم فتشاركهم في عموم مذهبهم (3) . ثم بعد ذلك لا يضر أن يكونوا من أصحاب المذاهب الفاسدة، والنحل الزائفة.
بل قرر جملة من علماء الرجال عندهم كابن الغضائري، وابن المطهر الحلي بأن القدح في دين الرجل لا يؤثر في صحة حديثه (4) . - كما مر -.
ولكن هناك جملة من رجالهم ورواة مذهبهم هم من الغلاة كما نص على ذلك شيوخ المذهب القدامى، فلم يكونوا يأخذون برواياتهم، ولكن هذا القدح في هؤلاء الرجال لم يرتضه الشيعة المتأخرون بحجة غريبة، وهي أن المذهب يتطور ويتغير فأصبح ما يعتبر عند القدامى غلواً هو اليوم من ضرورات المذهب الشيعي، فصارت مقاييسهم في نقد مذهب الرجل تتغير من عصر لعصر تبعاً لتغير المذهب وتطوره. قال الممقاني - أكبر شيوخهم في علم الرجال في هذا العصر -: "إن القدماء - يعني من الشيعة - كانوا يعدون ما نعده اليوم من ضروريات مذهب الشيعة غلواً وارتفاعاً، وكانوا يرمون بذلك أوثق الرجال كما لا يخفى على من أحاط
__________
(1) الفهرست: ص 24-25
(2) انظر: الاستبصار: 1/65-66
(3) كما قرر ذلك شيخهم المفيد في أوائل المقالات، وقد مضى ذكر كلامه ص: (41)
(4) رجال الحلى: ص 137(1/373)
خبراً بكلماتهم" (1) .
وأمر آخر أخطر من هذا، لقد جاءت روايات بأسانيد ثابتة وصحيحة لديهم تذم وتعلن مجموعة من الكذابين الذين قام الدين الشيعي على رواياتهم، تذمهم بأعيانهم.. فلم يقبل شيوخ الشيعة الذم الوارد فيهم (لأنهم لو قبلوا ذلك لأصبحوا من أهل السنة وتخلوا عن شذوذهم) وقد فزعوا إلى التقية لمواجهة هذا الذم، وهذا ليس له تفسير إلا رد قول الإمام من وجه خفي، وإذا كان منكر نص الإمام كافراً في المذهب الشيعي فهم خرجوا بهذا عن الدين رأساً.
وقد اعترف محمد رضا المظفر - وهو من شيوخهم وآياتهم المعاصرين - اعترف بأن جلّ رواتهم قد ورد فيهم الذم من الأئمة ونقلت ذلك كتب الشيعة نفسها، قال وهو يتحدث عما جاء في هشام بن سالم الجواليقي من ذم قال: "وجاءت فيه مطاعن، كما جاءت في غيره من أجلة أنصار أهل البيت وأصحابهم الثقات والجواب عنها عامة مفهوم" (2) . (أي العلة المعروفة السائرة عندهم وهي التقية) ثم قال: "وكيف يصح في أمثال هؤلاء الأعاظم قدح؟ وهل قام دين الحق وظهر أمر أهل البيت إلا بصوارم حججهم" (3) .
لاحظ كيف يصنع التعصب بأهله.. فهم يدافعون عن هؤلاء الذين جاء ذمهم عن أئمة أهل البيت، ويردون النصوص المروية عن علماء أهل البيت في الطعن فيهم والتحذير منهم، والتي تنقلها كتب الشيعة نفسها.. فكأنهم بهذا يكذبون أهل البيت.. بل ويصدقون ما يقوله هؤلاء الأفاكون حيث زعموا أن ذم الأئمة لهم جاء على سبيل التقية.. فهم لا يتبعون أهل البيت في أقوالهم التي تتفق مع نقل الأمة، بل يقتفون أثر أعدائهم ويأخذون بأقوالهم، ويفزعون إلى
__________
(1) تنقيح المقال: 3/23، وراجع ما ذكره محب الدين الخطيب في ذلك في حاشية المنتقى: ص 193
(2) محمد الحسين المظفر/ الإمام الصادق: ص 178
(3) محمد الحسين المظفر/ الإمام الصادق: ص 178(1/374)
التقية في رد أقوال الأئمة.
وهناك مجموعة من رجالهم تميزوا بالإكثار من الرواية في كتبهم، وهم يحظون بتوثيق شيوخهم على الرغم من أنهم قد لعنوا أو كفروا أو كذبوا على ألسنة الأئمة وباعتراف كتب الشيعة نفسها.
وفي ظني أن جمع ما ورد في هؤلاء الرجال الذين شاعت رواياتهم في كتب الاثني عشرية.. جمع ما ورد فيهم من ذك في كتب الشيعة وما قد يوجد من ذلك في كتب السنة يسهم في إيضاح الرؤية وكشف الكذب على أهل البيت، ويسقط الكثير من تلك الروايات السوداء التي أخذت بالشيعة بعيداً عن جماعة المسلمين، ويكشف الأمر أمام عوام الشيعة وجهالهم الذين لا يعرفون عن مذهبهم إلا أنه مأخوذ عن أهل البيت، كما خدعهم بذلك شيوخهم، وما علموا أن تلك الروايات جاءت بواسطة حثالة من الكذابين الذين تبرأ الأئمة منهن وكذبوهم. فالعوام في الغالب في غفلة من مذهبهم وما يراد بهم.
ويأتي على رأس هؤلاء الذين تميزوا بكثرة الرواية عندهم جابر الجعفي، قال الحر العاملي: "روى سبعين ألف حديث عن الباقر - عليه السلام - وروى مائة وأربعين ألف حديث، والظاهر أنه ما روي بطريق المشافهة عن الأئمة عليهم السلام أكثر مما روى جابر" (1) .
إذاً فجابر يأخذ المرتبة الأولى في الرواية من ناحية العدد، وإذا لحظنا أن مجموع أحاديث كتبهم الأربعة لم تبلغ سوى (44244) (2) ، أدركنا ضخامة ما رواه جابر الجعفي، وأن رواياته تأخذ النصيب الأكبر في المدونات الشيعية، فهو أحد أركان دينهم.
ولكن جاء في رجال الكشي - أصل كتب الرجال عندهم - عن زرارة بن أعين قال: "سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن أحاديث جابر؟ فقال ما رأيته عن أبي قط إلا مرة واحدة، وما دخل عليّ قط" (3) . فالإمام
__________
(1) وسائل الشيعة: 20/151
(2) أعيان الشيعة: 1/280
(3) رجال الكشي: ص 191، وقد مضى الاستشهاد به(1/375)
الصادق هنا يكذب مما يزعمه جابر من روايته عنه وعن أبيه.. فكيف إذاً يروي هذا العدد الضخم من الأحاديث عمن لم يلتق به، أو لم يلتق به إلا مرة واحدة مع أنه صرح بالسماع والتحديث؟!
ولم يجد شيخهم الخوئي مخرجاً من هذه الرواية التي تكذب جابراً إلا أن يفزع إلى التقية فيقول بأنه: "لابد من حمله إلى نحو من التورية" (1) . لأنه يرى أنه من ثقاتهم، حيث يقول: "الذي ينبغي أن يقال: إن الرجل لابد من عده من الثقات الأجلاء" (2) .
واستشهد لذلك بتوثيق بعض شيوخهم له كابن قولويه وعلي بن إبراهيم والمفيد، ثم قال: ويقول الصادق في صحيحة زياد إنه كان يصدق علينا (3) . وقد جاء في جامع الرواة الإشارة إلى أن هذه الرواية التي يصفها الخوئي بالصحيحة قد رويت عندهم بطريق مجهول (4) ، وما أدري لم يؤول الرواية الأخرى ويأخذ بهذه الرواية بلا دليل؟
كما أن المفيد الذي يعتبره الخوئي ممن وثقه كان ينشد أشعاراً كثيرة عنه يستدل بها على اختلاطه كما أشار إلى ذلك النجاشي (5) .
كما أن النجاشي قال عنه: "وكان في نفسه مختلطاً" (6) . وقال هاشم معروف: "إن جابر الجعفي من المتهمين عند أكثر المؤلفين في الرجال" (7) . وقال وهو يحكم على بعض رواياتهم: "في سند هذه الرواية صباح المزني، وجابر الجعفي وهما ضعيفان، وقد ورد في جابر قدح ومدح والأكثر على أنه كان مخلطا" (8) .
__________
(1) معجم رجال الحديث: 5/25
(2) معجم رجال الحديث: 4/25
(3) المصدر السابق: 4/25
(4) الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/144
(5) النجاشي/ الرجال ص100
(6) النجاشي/ الرجال: ص 100
(7) الموضوعات في الآثار والأخبار: ص334
(8) المصدر السابق: ص 184(1/376)
كما أن النجاشي (ت450هـ) وهو خبير رجالهم وصاحب أحد كتبهم الأربعة في الرجال ذكر أنه: "قلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام" (1) ، ولكن الخوئي يقول: "فإن الروايات عنه في الكتب الأربعة كثيرة في الحلال والحرام (2) . فهذا قد يشير إلى شيء آخر وهو أن الرجل بالإضافة إلى كذبه في نفسه، قد كثر الذين يكذبون عليه، وهذا ما صرح به النجاشي في رجاله حينما قال: "روى عنه جماعة غمز فيهم وضعفوا منهم عمرو بن شمر، ومفضل بن صالح.." (3) .
وقال هاشم معروف في ترجمة عمر بن شمر: "ضعفه المؤلفون في الرجال ونسبوا إليه أنه دس أحاديث في كتب جابر الجعفي" (4) ، و"أنه كان يضع الأحاديث في كتب جابر الجعفي وينسبها إليه" (5) . فهذا جانب آخر يكشف كذب هذه الروايات الكثيرة المنتشرة في كتبهم عن جابر.
كما جاء في رواياتهم مما يثبت أن جابراً أحد المجانين، وإن زعموا أنه افتعل ذلك خشية بطش الخليفة (6) . كما صورته رواياتهم بأنه واحد من أمهر السحرة والمشعوذين وإن لم تسمه بذلك (7) .
وإذا لحظنا أن جابراً قد شاركت رواياته في كثير من أركان الكفر في المذهب الشيعي فهو الذي روى في الكافي أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة.. إلخ، وهو أول من وضع التأويل الباطني في كتاب - كما سلف -. وجاء في رواياتهم ما يشير إلى وجوب كتمان تلك التأويلات إلى غير ذلك مما أسهم به في تشييد
__________
(1) النجاشي/ الرجال: ص 100
(2) الخوئي/ معجم رجال الحديث: 4/26
(3) النجاشي/ الرجال: ص 100
(4) دراسات في الحديث: ص 195
(5) هاشم معروف/ الموضوعات والآثار: ص 234
(6) انظر ذلك في رجال الكشي: ص 194-195
(7) انظر مخاريقه التي ينقلونها عنه في ذلك في رجال الكشي: ص 197(1/377)
الكفر والضلال، كما أن رواياته هي من أكبر الأدلة على كذبه وبهتانه، وقد شهد علماء السنة بأنه أحد الكذابين المفترين.
قال الإمام أبو حنيفة: "ما رأيت أحداً أكذب من جابر الجعفي". وقال ابن حبان: "كان سبئياً من أصحاب عبد الله ابن سبأ، وكان يقول: "إن علياً عليه السلام يرجع إلى الدنيا". وقال جرير بن عبد الحميد: "لا أستحل أن أحدث عن جابر الجعفي"، وقال: "هو كذاب يؤمن بالرجعة". وقال زائدة: رافضي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
ومثل جابر الجعفي، زرارة بن أعين (ت150هـ) ، وثقه شيوخهم كالطوسي (2) ، والنجاشي (3) ، وابن المطهر (4) ، وغيرهم (5) . واعتبروه أحد الرجال الستة - من أصحاب أبي جعفر، وأبي عبد الله - الذين أجعمعت (6) . العصابة على تصديقهم (7) ، وله روايات كثيرة في كتب الشيعة، كما أن له إخوة وأبناء شاركوا في ذلك (8) . ولهذا قال الطوسي: "ولهم روايات كثيرة وأصول وتصانيف" (9) .
وذكر الخوئي مجموع رواياته في كتبهم الأربعة فقال: "وقع بعنوان زرارة في إسناد كثير من الروايات تبلغ ألفين وأربعة وتسعين مورداً، فقد روى عن أبي جعفر - عليه السلام -، ورواياته عنه تبلغ ألفاً ومائتين وستة وثلاثين مورداً، وروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما لسلام - ورواياته عنهما بهذا العنوان
__________
(1) انظر: العقيلي/ الضعفاء الكبير: 1/196، ابن حبان/ المجروحين: 1/208، ميزان الاعتدال: 1/379
(2) الفهرست: ص104، رجال الطوسي: ص 201، 350
(3) رجال النجاشي: ص 132، 133
(4) رجال الحلي: ص 76
(5) انظر: الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 20/196، الأردبيلي/ جامع الرواة: 1/324
(6) لاحظ استدلالهم بمبدأ الإجماع وهم لا يقولون به كما سيأتي في فصل الإجماع
(7) انظر: معجم رجال الحديث: 7/219
(8) انظر: الفهرست للطوسي: ص 104
(9) انظر: الفهرست للطوسي: ص 104(1/378)
تبلغ اثنين وثمانين مورداً، وروى عن أبي عبد الله - عليه السلام - ورواياته عنه بهذا العنوان، وقد يعبر عنه بالصادق - عليه السلام - تبلغ أربعمائة وتسعة وأربعين مورداً، وروى عن أحدهما عليهما السلام ورواياته عنهما بهذا العنوان تبلغ ستة وخمسين مورداً.." (1) .
هذا ما يقولون، ولكن يقول سفيان الثوري بأن زارة: "ما رأى أبا جعفر" (2) . ويقول سفيان بن عيينة - حينما قيل له: روى زرارة بن أعين عن أبي جعفر كتاباً -: "ما هو ما رأى أبا جعفر ولكنه كان يتتبع حديثه" (3) .
وقد جاء في ميزان الاعتدال أن زرارة نسب لجعفر الصادق علم أهل الجنة وأهل النار، وقال لابن السماك: إذا لقيته فاسأله هل أنا من أهل النار أم من أهل الجنة؟ ولما بلغ ذلك جعفراً قال: أخبره أنه من أهل النار، فمن ادعى علي علم هذا فهو من أهلها (4) ، غير أن بعض آياتهم وشيوخهم في هذا العصر يقول: "لم نجد أثراً مما نسبوه إلى كل من زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، ومؤمن الطارق وأمثالهم، مع أنا قد استفرغنا الوسع والطاقة بالبحث عن ذلك وما هو إلا البغي والعدوان" (5) .
فكأنه يشير إلى أنه لا أصل لما يذكر عن زرارة من ذم، وأن ذلك من عدوان الخصوم، وأنه بحث عن ذلك في مصادره واستفرغ الوسع في التقصي فلم يجد له أي أثر.. فهل هذا حق؟ لابد من الرجوع لمصادرهم المعتمدة في الرجال لأجل التثبت من صحة هذه الدعوى، لاسيما وأن عقيدة التقية هي شبهة تمنع الباحث من التصديق، وأولى ما يرجع إليه في هذا الشأن كتب الرجال المعتمدة عندهم.. ففي الفهرست للطوسي يتبين أن زرارة من أسرة نصرانية، إذ إن جده
__________
(1) الخوئي/ معجم رجال الحديث: 7/247
(2) انظر: لسان الميزان: 2/474
(3) انظر: لسان الميزان: 2/474
(4) انظر ميزان الاعتدال: 2/69-70، لسان الميزان: 2/473-474
(5) الموسوي/ المراجعات: ص 313(1/379)
"سنسن" كان راهباً في بلاد الروم، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شبيان" (1) .
ويبدو تأثير زرارة في مذهب الشيعة أشبه بتأثير ابن سبأ، بل قال أبو عبد الله: "ما أحدث أحد في الإسلام ما أحدث زرارة من البدع عليه لعنة الله" (2) . وقال: ".. زرارة شر من اليهود والنصارى، ومن قال: إنّ مع الله ثالث ثلاثة" (3) .
ونقل الكشي أن أبا عبد الله لعنه ثلاثاً (4) ، وقال: "إن الله نكس قلب زرارة.." (5) . وذكر روايات أخرى في ذمه.
ولذلك كان زرارة - كما ينقل الكشي - يقول: "وأما جعفر فإن في قلبي عليه لفتة " وعلل لذلك راوي الخبر عن زرارة بقوله: "لأن أبا عبد الله أخرج مخازيه" (6) . وقد بلغ تطاول زرارة على أبي عبد الله - كما في رجال الكشي- أن كذبه في قوله (7) . وأساء في القول له (8) ، وكان يتعمد الكذب، ويصر على نسبته إليه، ففي رجال الكشي ".. عن محمد بن أبي عمير، قال: دخلت على أبي عبد الله - عليه السلام - فقال: كيف تركت زرارة؟ قلت: تركته لا يصلى العصر حتى تغيب الشمس فقال: فأنت رسولي إليه فقل له: فليصل في مواقيت أصحابي فإني قد حرقت. قال: فأبلغته ذلك فقال (يعني زرارة) : أنا والله أعلم أنك لم تكذب عليه،
__________
(1) الطوسي/ الفهرست: ص 104، ابن النديم/ الفهرست ص 220، والذي جاء في فهرست ابن النديم أنه اسم جده سنبس لا سنسن كما في فهرست الطوسي
(2) رجال الكشي: ص 149
(3) رجال الكشي: ص 160
(4) السابق: ص 149-150
(5) السابق: ص 160
(6) السابق: ص 144-145
(7) انظر: السابق: ص 158
(8) حتى قال: سألت أبا عبد الله عن التشهد - إلى أن قال - فلما خرجت ضرطت في لحيته وقلت لا يفلح أبداً. السابق: ص 159(1/380)
ولكن أمرني بشيء فأكره أن أدعه" (1) .
فهو يزعم أن جعفر الصادق هو الذي أمره إلا يصلي العصر حتى تغيب الشمس!! وجعفر بريء من هذا الافتراء.
فهذا هو زرارة كما تصفه كتب الشيعة نفسها، ومع ذلك يقول كبير شيوخهم في هذا العصر بأنه قد استفرغ الوسع والطاقة في البحث فلم يجد شيئاً في ذمه، فهل يخفى عليه ذلك أم أن في التقية متسعاً لأن يقول ما يشاء ولا أحد ينكر عليه؟!
وكيف يذهب شيوخ الشيعة إلى توثيق زرارة مع هذا التجريح، وهذا التكفير واللعن الذي صدر عن "المعصوم" في اعتقادهم.. والذي يتفق في روايته الكشي، وشيخ الطائفة الطوسي (2) .؟
يجيب على ذلك شيخهم الحر العاملي فيقول: "روي أحاديث في ذمه (أي زرارة) ينبغي حملها على التقية، بل يتعين، وكذا ما ورد في حق أمثاله من أجلاء الإمامية" (3) ، ويحتجون لذلك بما يروونه عن محمد بن عبد الله بن زرارة وابنيه الحسن والحسين عن عبد الله بن زرارة، قال: قال لي أبو عبد الله (جعفر الصادق) : "اقرأ على والدك السلام وقل له: إنما أعيبك دفاعاً مني عنك، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه، لإدخال الأذى فيمن نحبه ونقربه، فيذمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله.." (4) .
يحتجون بهذا ولا يلتفتون إلى أن رواية الابن مجروحة، لأنه يدافع عن أبيه،
__________
(1) رجال الكشي: ص 143، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 3/113، الخوئي/ معجم رجال الحديث: 7/222
(2) لأن رجال الكشي من تأليف الكشي، وتهذيب واختيارات الطوسي، والمتداول هو اختيارات الطوسي، لأن الأصل مفقود - كما مر -
(3) وسائل الشيعة: 20/196
(4) رجال الكشي: ص 138، وسائل الشيعة: 20/196، معجم رجال الحديث: 7/245(1/381)
ثم لو كان ذلك الذم تقية لم يصل إلى هذا الحد من اللعن والتكفير، ثم إن جعفراً كان في عصره محل الإجلال والتكريم فكيف يهان من يحبه ويقربه؟، وإذا كانت التقية من جعفر للدفاع عن زرارة فلماذا يفتري زرارة عليه بأنه أمره ألا يصلي العصر إلا بعد غروب الشمس ويكذبه، ويسيء إليه، فهل في هذا تقية؟!، ولذلك حاول شيخهم أن يتخلص من روايات ذم زرارة في كتبهم بحمل قسم منها على التقية (1) . والتخلص من القسم الآخر في الطعن في سنده.
وقد لحظت أن طعنه في بعض رجال تلك الروايات لا يستقيم مع ما جاء عنه في كتب الرجال عندهم فهو - مثلاً - قد ردّ روايات في ذم زرارة بحجة أن فيها جبرائيل بن أحمد هو - كما يقول - مجهول (2) ، في حين أنه ليس بمجهول عندهم، لأنه كما يقول الأردبيلي: كان مقيماً بكش كثير الرواية عن العلماء بالعراق وقم وخراسان (3) .
ثم إنه قام بالطعن في روايات الذم فقط وأهمل النظر في روايات المدح وهذا تحيز ظاهر.
ولكن شيوخهم يجرون هذا الحكم في كل رجل ذمه الأئمة وارتضى شيوخهم أخباره مثل أحمد بن محمد المروزي (4) ، وإسماعيل بن جابر الجعفي (5) ، وبريد بن معاوية العجلي (6) ، وحريز بن عبد الله السجستاني (7) . وغيرهم.
__________
(1) معجم رجال الحديث: 7/245
(2) السابق: 7/241
(3) جامع الرواة: 1/146
(4) قال الحر العاملي: روى الكشي وغيره فيه مدحاً وذماً، ولعل وجه الذم يأتي في زرارة (أي حمل الذم على التقية) . (وسائل الشيعة: 20/127، انظر: رجال الكشي: ص 559-562، جامع الرواة: 1/48-49)
(5) قال الحر العاملي: "وفيه ذم يسير ضعيف السند والدلالة، ويأتي وجهه في زرارة" (وسائل الشيعة: 20/139، وانظر رجال الكشي: ص 199)
(6) قال الحر العاملي: "وجه من وجوه أصحابنا، ثقة فقيه، وعدّه الكشي من أصحاب الإجماع (أي ممن أجمعت الشيعة على تصحيح رواياتهم) وفيه بعض الذم يأتي الوجه في مثله في زرارة". (وسائل الشيعة: 20/145-146، وانظر: رجال النجاشي: ص 87، رجال الحلي: ص 26-27، جامع الرواة: 1/117-119، رجال الكشي: ص 148 "وفيه قال أبو عبد الله: لعن الله بريداً")
(7) قال الحر العاملي: "كوفى ثقة، وفيه مدح، وفيه ذم محمول على التقية لما يأتي في زرارة" (وسائل =(1/382)
ولاشك بأن أمر التقية في مثل هذه الحالات ليس بمؤكد، فكان أقل الأحوال أن يتوقف في هؤلاء، وإذا كان شيوخ الشيعة لم يقبلوا ما قيل في رواتهم من قبل أهل السنة، لأنهم خصوم - على حد زعمهم - فإنهم أيضاً لم يقبلوا ما ورد عن أئمتهم وادعو أنه صدر منهم مجاملة ومصانعة لأهل السنة.. فضاعت الحقيقة حينئذ، وقام مذهب الشيعة على أهواء الشيوخ، والرواة الكذبة.
أقسام الحديث عند الشيعة:
ومع تأخر التأليف عندهم في علم الرجال، واشتماله على ما لا يغني في بيان الحال، فإن القارئ لكتب الشيعة المتأخرة، كمرآة العقول للمجلسي، والمعاصرة مثل الشافي في شرح أصول الكافي، يجد أنهم يذكرون أحياناً أن هذا الحديث صحيح وذاك ضعيف، وإن كانوا لا يلتزمون هذا في الكثير من مصنفاتهم. وقد مرّ أن هذا مسلك طائفة من الاثني عشرية وهم الأصوليون.
والعهد بالشيعة أنهم لا بصر لهم بهذه الأمور ولا معرفة لهم بهذا الشأن، وقد شنع عليهم أهل السنة لجهلهم بذلك، فمتى بدأ هذا التقسيم عند الشيعة وما سببه؟
لقد ظهر لي أثناء دراستي لعلم الجرح والتعديل عندهم أن تقسيم الحديث إلى صحيح، وحسن، وموثق، وضعيف (1) . قد جاء متأخراً جداً عندهم. ولعل
__________
= الشيعة: 20/162، وانظر: رجال النجاشي: ص 111، رجال الطوسي: ص 181، رجال الحلي: ص 63، جامع الراواة 1/182-187)
(1) الصحيح عندهم: ما اتصل سنده إلى المصوم بنقل الإمامي العدل عن مثله في جميع الطبقات.
والحسن: ما اتصل سنده كذلك بإمامي ممدوح من غير نصل على عدالته مع تحقيق ذلك في جميع مراتبه أو في بعضها مع كون الباقي من رجال الصحيح.
والموثوق: ما دخل في طريقه من نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته.
والضعيف: ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدمين بأن يشمل طريقه على مجروح أو مجهول الحال أو ما دون ذلك.
والمرسل: ما رواه عن المعصوم من لم يدركه. =(1/383)
هذه "القضية" تحتاج إلى شيء من التفصيل باعتبارها في نظري جديدة لم أر من نبه عليها من قبل فأقول:
يلحظ أن بداية تقويم الشيعة للحديث وتقسيمه إلى صحيح وغيره، قد كانت في القرن السابع (مع أن بداية دراسة أحوال الرجال عندهم كانت في القرن الرابع- كما مر -) ، وجاءت متوافقة مع حملة شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم في منهاج السنة حينما شنع على الشيعة قصورهم في معرفة علم الرجال، وقلة خبرتهم في ذلك، كما انبرى يكشف استدلالات الشيعة من كتب السنة ويبين جهلهم وكذبهم في هذا الباب حيث يستدلون بالضعيف والموضوع، وينقلون من المصادر غير المعتمدة.
فهل الشيعة تنبهوا إلى ضعف هذا الجانب عندهم فاتجهوا إلى تمحيص أحاديثهم، أو إنهم رأوا أن تقليدهم لأهل السنة في هذا الباب فيه مجال للتخلص من إلزامات أهل السنة ونقدهم لما جاء في كتب الشيعة من كفر وضلال، فما أن يقول لهم السنيّ: لقد جاء في كتابكم الكافي مثلاً كذا وكذا من الكفر حتى يجد الشيعي الجواب حاضراً وميسوراً، حينما يحكم على الحديث الوضع وفي التقية
__________
= (زين الدين العاملي/ الدراية: ص 19، 21، 23، 24، 47، وانظر: الممقاني مقياس الهداية ص: 33-35) ، بهاء الدين العاملي/ الوجيزة: ص 5.
ويلحظ أن المعصوم - كما أشرنا من قبل - ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل أئمتهم لهم هذه الصفة التي يختص بها الرسل، كما أنهم يشترطون إمامية الراوي في الحكم بصحة الحديثة أو حسنه، وما سوى الإمامي فلا يقبل خبره بقول علامتهم ابن المطهر الحلي: "لا تقبل رواية الكافر وإن علم من دينه التحرز عن الكذب".
وكذلك "المخالف لا يقبل روايته أيضاً لاندراجه تحت اسم الفاسق" (ابن المطهر/ تهذيب الموصول: ص 77-78) وهم يجرون حكم الكفر أو الفسق على سائر المسلمين من غير طائفتهم. قال الممقاني: ".. والأخبار في فسقهم بل كفرهم لا تحصى كثرة" (تنقيح المقال: 3/207) وراجع مبحث الإمامة من هذه الرسالة ص (749) وما بعدها.
ولكنهم متناقضون في تطبيق هذه الشروط.. وقد تعقبهم في ذلك صاحب التحفة وغيره، كما كشف أمرهم إخوانهم من الإخباريين(1/384)
متسع..؟
إن التوافق الزمني بين رد شيخ الإسلام ووضعهم لهذا الاصطلاح قد ينبئ عن تأثيرهم بنقد شيخ الإسلام لهم، حيث اعترفوا بـ"أن هذا الاصطلاح (وهو من تقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وموثق وضعيف) مستحدث في زمن العلامة" (1) .
والعلامة إذا أطلق في كتب الشيعة يقصد به ابن المطهر الذي رد عليه شيخ الإسلام. بل هناك ما يؤكد الموضوع أكثر، وهو أن ابن المطهر الحلي هذا هو - كما يقول صاحب الوافي: "أول من اصطلح على ذلك وسلك هذا المسلك" (2) .
إذن ألا يدل هذا على أن لابن تيمية، ومنهاج السنة أثرا في ذلك، وإن بدء ابن المطهر في وضع هذه المقاييس لشيعته إنما هو سبب النقد الموجه له من ابن تيمية؟
وقد اعترف شيخهم "الحر العاملي" بأن سبب وضع الشيعة لهذا الاصطلاح واتجاههم للعناية بالسند هو النقد الموجه لهم من أهل السنة فقال: "والفائدة في ذكره (أي السند) ... دفع تعيير (يعني أهل السنة) الشيعة بأن أحاديثهم غير معنعنة، بل منقولة من أصول قدمائهم" (3) .
وكأن هذا النص الخطير يفيد - أيضاً - أن الإسناد عندهم غير موجود، وأن رواياتهم كانت بلا زمام ولا خطام حتى شنع الناس عليهم بذلك فاتجهوا حينئذ لذكر الإسناد. فالأسانيد التي نراها في رواياتهم هي صنعت فيما بعد وركبت على نصوص أخذت من أصول قدمائهم، ووضعت هذه الأسانيد لتوقي نقد أهل السنة، وقولهم بأن أسانيد الشيعة غير معنعنة. ولا يستبعد أن يقوم من
__________
(1) وسائل الشيعة: 20/102، وانظر: الكاشاني/ الوافي/ المقدمة الثانية
(2) الوافي/ المقدمة الثانية: 1/11
(3) وسائل الشيعة: 20/100(1/385)
يتولى صناعة تلك الأسانيد بوضع أسماء رجال لا مسمى لهم.
وقد لحظت في دراستي لكتاب سليم بن قيس - أول كتاب ظهر لهم - أنهم يضعون روايات أو كتباً لأشخاص لا وجود لهم، حتى قال بعض شيوخهم وهو يعترف بأن كتاب سليم بن قيس موضوع عليه: "والحق أن هذا الكتاب موضوع لغرض صحيح نظير كتاب الحسنية، وطرائف بن طاوس، والرحلة المدرسية" (1) . وتبين لنا فيما سلف أن سليم بن قيس قد يكون اسماً لا مسمى له (2) .
وقد رأيت صاحب الحور العين يقدم شهادة مهمة لأحد علماء الشيعة الزيدية في هذا الشأن حيث قال: قال السيد أبو طالب (3) : "إن كثيراً من أسانيد الاثني عشرية مبنية على أسام لا مسمى لها من الرجال، قال: وقد عرفت من رواتهم المكثرين من كان يستحل وضع الأسانيد للأخبار المنقطعة إذا وقعت إليه. وحكي عن بعضهم: أنه كان يجمع روايات بزرجمهر، وينسبها للأئمة بأسانيد يضعها، فقيل له في ذلك، فقال: ألحق الحكمة بأهلها" (4) .
وقد ذكروا أن من رجالهم حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي قالوا بأنه: "روى جميع مصنفات الشيعة وأصولهم.. وروى ألف كتاب من كتب الشيعة" (5) ، ولو كان هذا واقعاً لانتشر ذكره في كتب الرجال والتاريخ ولكني لم أجد له أي ذكر أو إشارة.
ومما يؤيد هذا وأنه لا سند لهم في الحقيقة النص التالي الذي جاء في أصح كتبهم، حيث قالوا: "إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام -، وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت
__________
(1) أبو الحسن الشعراني/ تعليقات علمية (على شرح الكافي للمازندراني) : 2/373-374
(2) انظر: ص (26) من هذه الرسالة
(3) أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون الحسني، وقد قال ذلك في كتابه الدعامة، وقد توفي سنة (424هـ) . (انظر: معجم المؤلفين: 13/192-1932)
(4) الحور العين: ص 153
(5) وسائل الشيعة: 20/185(1/386)
الكتب إلينا". ولما سألوا إمامهم عن ذلك قال: "حدثوا بها فإنها حق" (1) ، فهذا اعتراف خطير بانقطاع أسانيدهم.
ومن يضمن لهم ولا سيما في ظروف الخوف والتقية التي تشير إليها هذه الرواية، من يضمن أن لا تكون هذه الكتب التي صارت إليهم من وضع زنديق ملحد أراد إضلال الشيعة وإبعادهم عن "حظيرة" الجماعة بنسبة روايات تلك الكتب إلى بعض أهل البيت.. وليس هذا ببعيد.. ومما يثبت ذلك كثرة النصوص عندهم والتي تتناول أقدس ما عند المسلمين وهو كتاب الله سبحانه بالطعن مما لا يوجد عند طائفة من طوائف الضلال والكفر إلا عند هذه الطائفة.
ويؤكد شيخهم الحر العاملي أن الاصطلاح الجديد (وهو تقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وغيره) والذي وضعه ابن المطهر هو محاولة لتقليد أهل السنة حيث قال: "والاصطلاح الجديد موافق لاعتقاد العامة واصطلاحهم، بل هو مأخوذ من كتبهم كما هو ظاهر بالتتبع" (2) .
وهذا يفيد تأخر الشيعة في الاهتمام بهذه القضية، وإن الدافع لذلك ليس هو الوصول إلى صحة الحديث بقدر ما هو توقي نقد المذهب من قبل الخصوم والدفاع عنه. ولذلك جاء علم الجرح والتعديل عندهم مليئاً بالتناقضات والاختلافات حتى قال شيخهم الفيض الكاشاني: "في الجرح والتعديل وشرايطهما اختلافات وتناقضات واشتباهات لا تكاد ترتفع بما تطمئن إليه النفوس كما لا يخفى إلى الخبير بها" (3) .
وهذه الاعترافات الخطيرة من الكاشاني، والحر العاملي لم تظهر إلا في ظل الخلاف الذي دار ويدور بين الإخباريين والأصوليين.. والذي - كما نلاحظ -
__________
(1) أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث: 1/53
(2) وسائل الشيعة: 20/100
(3) الوافي، المقدمة الثانية: 1/11-12(1/387)
ارتفعت فيه التقية لاسيما وأن في الشيعة - كما يقول الكافي - خصلتين: "النزق (1) . وقلة الكتمان" (2) ، فجاءت هذه الإقرارات لتكشف أن "الإسناد" خصيصة من خصائص أهل السنة، وأن اتجاه الشيعة لذلك إنما هو من باب التقليد وصيانة المهذب من النقد.. وكان وضع هذا الاصطلاح على يد ابن المطهر الذي حظي بنقد قوي من شيخ الإسلام ابن تيمية مما يدل على أثر ذلك في الشيعة.
وقد صار هذا الاصطلاح مثل عقيدة التقية يتسترون به على غلوهم، فإذا وجه إليه نقده ادعوا أن في رواياتهم الصحيح وغيره، كما تلحظ هذه الظاهرة في كتابات ثلة من شيوخهم المعاصرين.
ومنهج التصحيح والتضعيف الذي وضعه المتأخرون إن طبقوه لم يبق لهم من حديثهم إلا القليل، كما كشف ذلك شيخهم يوسف البحراني المتوفى (1186هـ) حيث قال: "والواجب إما الأخذ بهذه الأخبار، كما هو عليه متقدمو علمائنا الأبرار، أو تحصيل دين غير هذا الدين، وشريعة أخرى غير هذه الشريعة، لنقصانها وعدم تمامها، لعدم الدليل على جملة من أحكامها، ولا أراهم يلتزمون شيئاً من الأمرين، مع أنه لا ثالث لهما في البين، وهذا بحمد الله ظاهر لكل ناظر، غير متعسف ولا مكابر" (3) .
فهذا نص مهم يكشف أخبارهم في ضوء علم الجرح والتعديل الخاص بهم، وأنهم لو استخدموه بدقة لسقطت معظم رواياتهم.. وليس لهم إلا الأخذ برواياتهم بدون تفتيش، كما فعل قدماؤهم، وقبولها بأكاذيبها وأساطيرها، أو البحث عن مذهب سوى مذهب الشيعة، لأن مذهبهم ناقص لا يفي بمتطلبات الحياة.
__________
(1) نزق نزقاً من باب تعب: خف وطاش (المصباح المنير: ص 734)
(2) أصول الكافي: 2/221-222
(3) لؤلؤة البحرين: ص47(1/388)
وإذا أخذنا هذا الاعتراف، ووضعناه مع إقرارهم الذي جاء في أخبارهم بأنهم كانوا لا يعرفون مناسك الحج والحلال والحرام حتى جاء أبو جعفر (1) ، وأنه في عهد أبي جعفر وابنه كثر الكذابون على الأئمة (2) .- تكاملت الصورة في أن معظم رواياتهم مكذوبة، ولو طبق علم الجرح والتعديل لانكشف أمرها بذلك وظلوا كما كانوا من قبل أبي جعفر لا يعرفون الكثير من أمور دينهم إلا عن طريق كتب المسلمين.
ولكن يبدو أنهم لم يلتزموا بتطبيق هذه الأصول التي وضعوها. فتراهم مثلاً يحكمون بصحة كتاب نهج البلاغة، حتى قال أحد شيوخهم المعاصرين: "إن الشيعة على كثرة فرقهم واختلافها متفقون متسالمون على أن ما نهج البلاغة هو من كلام أمير المؤمنين - رضي الله عنه - اعتماداً على رواية الشريف ودرايته ووثاقته".. حتى كاد أن يكون إنكار نسبته إليه - رضي الله عنه - عندهم من إنكار الضروريات وجحد البديهيات اللهم إلا شاذاً منهم.. وأن جميع ما فيه من الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) . مع أن كتاب النهج مطعون في سنده ومتنه، فقد جمع بعد أمير المؤمنين بثلاثة قرون ونصف بلا سند، وقد نسبت الشيعة تأليف نهج البلاغة إلى الشريف الرضي (4) . وهو غير مقبول عند المحدثين لو أسند خصوصاً فيما يوافق بدعته فيكف إذا لم يسند كما فعل في النهج؟، وأما المتهم - عند المحدثين - بوضح النهج فهو أخوه علي (5) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراه على علي، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم
__________
(1) أصول الكافي: 2/20، ومضى ذكر النص بحروفه ص (346)
(2) انظر: ص (362) من هذه الرسالة
(3) الهادي كاشف الغطا/ مدراك نهج البلاغة: ص 190-191
(4) محمد بن الحسين بن موسى الرضي أبو الحسن، قال الذهبي: رافضي جلد. (ميزان الاعتدال: 3/523)
(5) علي بن الحسين العلوي الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي.. المتوفى سنة (436هـ) (انظر: ميزان الاعتدال: 3/124)(1/389)
ولا لها إسناد معروف" (1) .
كما أن علامات الوضع لنصوص الكتاب كثيرة ليس هذا موضع تفصليها (2) .
والغرض هنا أن الشيعة يشترطون في الحكم بالصحة اتصال السند فأين اتصال السند هنا؟ ومن قديم كان شيوخهم لا يعملون بمقاييس الصحة والضعف التي وضعوها بأنفسهم. قال الحر العاملي عن شيخهم الطوسي إنه "يقول: هذا ضعيف، لأن روايه فلان ضعيف، ثم نراه يعلم برواية ذلك الرواي بعينه، بل برواية من هو أضعف منه في مواضع لا تحصى. وكثيراً ما يضعف الحديث بأنه مرسل ثم يستدل بالحديث المرسل، بل كثيراً ما يعمل بالمراسيل وبرواية الضعفاء، ويرد المسند ورواية الثقات" (3) .
وإذا كان شيخهم البحراني المتوفى سنة (1186هـ) يقرر بأن تطبيق منهجهم في الجرح والتعديل (على ما فيه) يلغي الكثير من أحاديثهم - كما مر - فإن شيخهم الأردبيلي (4) . والمتوفى سنة (1101هـ) يؤلف كتابه جامع الرواة ويدعي دعوى في غاية الغرابة، حيث زعم - وهو في القرن الحادي عشر - أنه بتأليفه لكتابه المذكور تتغير أحكامه في اثني عشر ألف حديث عن الأئمة في العصور الأولى، تتغير من القول بضعفها أو إرسالها أو جهالتها إلى القول بصحتها، حيث قال: "بسبب نسختي هذه يمكن أن يصير قريباً من اثني عشر ألف حديث أو أكثر من الأخبار التي كانت بحسب المشهور بين علمائنا - رضوان الله عليهم - مجهولة أو ضعيفة أو مرسلة معلومة الحال وصحيحة لعناية الله تعالى، وتوجه - كذا - سيدنا محمد وآله الطاهرين" (5) .
__________
(1) ابن تيمية/ منهاج السنة: 4/24، المنتقى من منهاج الاعتدال ص 430
(2) انظر في نقد نهج البلاغة: ابن تيمية/ منهاج السنة: 4/159، المنتقى من منهاج الاعتدال: ص 508-509، الذهبي/ ميزان الاعتدال (ترجمة علي بن الحسين الشريف المرتضى: 3/124) ، ابن حجر/ لسان الميزان: 4/223، مختصر التحفة الاثني عشرية: ص 36، محب الدين الخطيب/ حاشية مختصر التحفة: ص 58، وحاشية المنتقى: ص 430، أحمد أمين/ فجر الإسلام: ص 178، أحمد زكي صفوت/ ترجمة علي بن أبي طالب: ص 125-162، الزعبي/ البينات في الرد على أباطيل المراجعات: ص 36-40، مجلة المقتطف المجلد 42 جص248 عدد (25) ربيع الأول عام 1331هـ، الوادعي/ رياض الجنة: ص162-163
(3) وسائل الشيعة: 20/111
(4) محمد بن علي الأردبيلي الغروي الحائري
(5) الأردبيلي/ مقدمة جامع الرواة(1/390)
ويستدل بهذا القول صاحب فصل الخطاب على أنه لا مانع من أن تصبح أحاديث التحريف ضعيفة عند قدمائهم لعدم علمهم بطرق صحتها فتتحول عندهم إلى صحيحة (1) .
ونجد شيخهم المجلسي في كتابه مرآه العقول يضعف جملة من أحاديث الكافي مع أنه يقول: فإننا لا نحتاج إلى سند لهذه الأصول الأربعة، وإذا أوردنا سنداً فليس إلا للتيمن والتبرك والاقتداء بسنة السلف (2) ، وهذا تناقض غريب. ولكن شيخهم هاشم معروف يرى "أن اتصاف هذا المقدار من مرويات الكافي بالضعف (3) . لا يعني عدم جواز الاعتماد عليها في أمور الدين، ذلك لأن وصف الرواية بالضعف من حيث سندها، لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في أحد الأصول الأربعمائة، أو في بعض الكتب المعتبرة.. أو لكونها معمولاً بها عند العلماء وقد نص أكثر الفقهاء على أن الرواية الضعيفة إذا اشتهر العمل بها والاعتماد عليها تصبح كغيرها من الروايات الصحيحة، وربما تترجح عليها في مقام التعارض" (4) . ولهذا قال شيخهم الشعراني - كما مر - بأن أسانيد الكافي وإن كان أكثرها ضعيفاً فإن مضامينها صحيحة (5) .
ويلحظ أن هذا مع ما قبله محاولة للتخلص من تطبيق مبادئ الجرح والتعديل التي وضعها لهم ابن المطهر في القرن السابع وانتهت بهم إلى سقوط كثير من رواياتهم، كما كشف ذلك شيخهم البحراني، فطفقوا يبحثون عما يسند رواياتهم بأي قرينة.. وإلا فما معنى وجودها في كتاب معتبر وهل هناك أكثر
__________
(1) فصل الخطاب: ص 354
(2) رسالة لزوم نقد رجال من لا يحضره الفقيه، عن أبي زهرة/ الإمام الصادق: ص 470-471
(3) قالوا بأن عدد الضعيف من روايات الكافي (9485) حديثاً، والصحيح (5072) ، الحسن (144) ، والموثق (178) ، القوى (302) . (انظر: الذريعة: 17/245-246، النوري/ مستدرك الوسائل: الفائدة الرابعة)
(4) هاشم معروف/ دراسات في الحديث والمحدثين: ص 137
(5) الشعراني/ تعاليق علمية (على شرح الكافي للمازندراني) 2/123(1/391)
اعتباراً عندهم من الكافي المعروض على مهديهم؟!، أمام قوله: "كوجودها في أحد الأصول الأربعمائة" (1) . فإن شيوخهم يقولون بأن الكتب الأربعة وغيرها من كتبهم المعتمدة كالخصال، والأمالي، ومدينة العلم.. منقولة من الأصول الأربعمائة (2) .
فكيف يجعلون علامة صحة أخبارهم عن الأئمة في الكافي وجودها في أحد الأصول، والكافي برمته منقولة منها - كما يزعمون - أليس هذا تناقضاً؟!.
تقويم حال الأئمة الذين تدعي فيهم الشيعة كل تلك الدعاوى:
الملاحظ أن روايات الشيعة في كتبها كلها منسوبة إلى الأئمة الاثني عشر، ومعظمها مروي عن جعفر الصادق، وقليل منها (بل نادرٌ ولا يكاد يوجد إلا بكلفة) مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أشار شيخهم الحر العاملي إلى أنهم يتجنبون رواية ما يرفع إلى النبي خشية أن يكون من روايات أهل السنة (3) .
إذن هذه الطائفة "لا تعتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحه من سقيمه والبحث عن معانيه، ولا تعتني بآثار الصحابة والتابعين حتى تعرف مآخذهم ومسالكهم وترد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول" (4) .
بل عمدتها ما تزعم روايته عن بعض أهل البيت وليس كل أهل البيت، فقد رد الطوسي روايات زيد بن علي بن الحسين (5) . وكفر هؤلاء جملة من أهل البيت لا لشيء إلا لأنهم لم يصدقوا بدعوى إمامة الاثني عشر (6) . ويا ليتهم أخذوا بما يقوله أمير
__________
(1) ادعى شيوخ الشيعة بأن أسلافهم كانوا يعتمدون على أربعمائة مصنف يسمونها الأصول، ثم لخصت هذه الكتب وجمعت في كتب خاصة أحسنها الكتب الأربعة. (الوسائل 20/67)
(2) الوسائل: 20/67
(3) انظر: وسائل الشيعة: 20/391
(4) منهاج السنة: 3/40
(5) انظر: الاستبصار: 1/66
(6) انظر: أصول الكافي: 1/372، بحار الأنوار: 25/112-114(1/392)
المؤمنين علي، أو قنعوا بمراسيل التابعين كعلي بن الحسين؛ بل يأتون إلى من تأخر زمانه كالعكسريين فيقولون: كل ما قاله واحد من أولئك فالنبي قد قاله.
وكل من له عقل يعلم أن العسكريين بمنزلة أمثالهما ممن كان في زمانهما من الهاشميين ليس عندهم من العلم ما يمتازون به عن غيرهم، ويحتاج إليهم في أهل العلم، ولا كان أهل العلم يأخذون عنهم، كما يأخذون عن علماء زمانهم، وكما كان أهل العلم في زمن علي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابن ابنه جعفر بن محمد، فأن هؤلاء الثلاثة - رضي الله عنهم - قد أخذ أهل العلم عنهم كما كانوا يأخذون عن أمثالهم بخلاف العسكريين ونحوهما فإنه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئاً. فيريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع العالمين، بمنزلة القرآن والمتواتر من السنن، وهذا مما لا يبنى عليه دينه إلا من كان أبعد الناس من طريقة أهل العلم والإيمان (1) .
وقد تحدث ابن حزم عن هذه الدعوى للروافض وقال: "وأما من بعد جعفر بن محمد فما عرفنا لهم علماً أصلاً، لا من رواية ولا من فتيا على قرب عهدهم منا، ولو كان عندهم من ذلك شيء لعرف كما عرف عن محمد بن علي وابنه جعفر وعن غيره منهم ممن حدث الناس عنه" (2) . وأما من قبل جعفر فلهم ما لنظرائهم من العلم والفضل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بأن من يدعي الروافض أن قوله كقول الله ورسوله: "منهم من كان خليفة راشداً تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو علي، ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين كعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، ومنهم دون ذلك" (3) .
ثم فصل القول في من هم دون ذلك في موضع آخر؛ فذكر بأن موسى بن
__________
(1) منهاج السنة: 3/40-41
(2) الفصل: 4/175
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/69(1/393)
جعفر ليس له كثير رواية، وقد روى عن أبيه، وروى عنه أخوه علي، وروى له الترمذي وابن ماجه، وأما من بعد موسى فلم يؤخذ عنهم من العلم، وليس لهم رواية في الكتب الأمهات من الحديث، ولا فتاوى في الكتب المعروفة التي نقل فيها فتاوى السلف، ولا لهم تفسير ولا غيره، ولا لهم أقوال معروفة، ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له أهل - رضي الله عنهم - (1) .
فكأن شيخ الإسلام - رحمه الله - يستدرك على ابن حزم.. فيزيد موسى بن جعفر، ويبين أنه كان له رواية في كتب السنة، إلا أنها ليست كثيرة. وقد حدّد الذهبي رواياته في الكتب الستة فقال: له عند الترمذي وابن ماجه حديثان (2) .
ولكن يلحظ أيضاً أن ابنه علي بن موسى الرضا؛ له رواية في سنن ابن ماجه، كما أشار إلى ذلك الذهبي، وابن حجر حيث رمزا له - عند ذكر ترجمته - بالقاف إشارة إلى ذلك (3) . وقد ذكر المزي بأنها رواية وحدة فقط (4) . وبالرجوع إلى سنن ابن ماجه تبين أن تلك الرواية جاءت من طريق أبي الصلت الهروي (5) . وهو ممن لا يحتج له، حتى قال فيه الدارقطني: "رافضي خبيث متهم بوضع حديث الإيمان في القلب" (6) . وهو الحديث الذي جاء في سنن ابن ماجه من طريق أبي الصلت عن علي بن موسى، ولذلك قال ابن السمعاني: إن الخلل في روايات علي الرضا من رواته، فإنه ما روى عنه إلا متروك (7) .
وقال فيه ابن
__________
(1) منهاج السنة: 2/155
(2) سير أعلام النبلاء: 6/270
(3) الذهبي/ الكاشف: 2/296، ابن حجر/ تقرير التهذيب: 2/44-45
(4) المزي/ تهذيب الكمال: 2/993 (المخطوط)
(5) انظر: سنن ابن ماجه: 1/25-26 رقم (45) ، وقد حكم عليها ابن الجوزي بالوضع (الموضوعات: 1/128-129) ، وانظر: السخاوي/ المقاصد الحسنة: ص 140، الكناني/ تنزيه الشريعة: 1/515-152، البوصيري/ مصباح الزجاجة ص 12
(6) ميزان الاعتدال: 2/616
(7) الأنساب: 6/134، وانظر: تهذيب التهذيب: 7/389(1/394)
حجر: إنه صدوق والخلل ممن روى عنه (1) .
ولعل هذا ما أشار إليه شيخ الإسلام حينما قال: "لم يأخذ عنه أحد من أهل العلم بالحديث شيئاً، ولا روى له حديثاً في كتب السنة، وإنما يروي له أبو الصلت الهروي وأمثاله نسخاً عن آبائه فيها من الأكاذيب ما نزه الله عنه الصادقين" (2) .
وأما من بعد علي الرضا - وهو من يعده الاثنا عشرية إمامهم الثامن - فلم يؤثر عنهم في كتب السنة من العلم شيء، وحينما ادعى ابن المطهر الحلي أن الحسن العسكري (إمامهم الحادي عشر) قد "روت عنه العامة (يعني أهل السنة) كثيراً"؛ نفى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: بأن ذلك من الدعاوى المجردة، والأكاذيب المثبتة، فإن العلماء المعروفين بالرواية الذين كانوا في زمن هذا الحسن بن عليّ العسكري ليست لهم عنه رواية مشهورة في كتب أهل العلم. وقال: "بأن شيوخ أهل كتب السنة (البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه) كانوا موجودين في ذلك الزمان وقريباً منه مثله وبعده، وقد جمع الحافظ أبو القاسم ابن عساكر أسماء شيوخ الكل - يعني شيوخ هؤلاء الأئمة -، فليس في هؤلاء الأئمة من روى عن الحسن بن علي العسكري مع ورايتهم عن ألوف مؤلفة من أهل الحديث، فكيف يقال: روت عنه العامة كثيراً، وأين هذه الروايات؟ " (3) .
وقد رأيت الحافظ ابن حجر في ترجمة الحسن بن علي العسكري يذكر بأن ابن الجوزي ضعفه في الموضوعات (4) . فانظر الفرق بين هذا، وبين من يعد
__________
(1) تقريب التهذيب: 2/45
(2) منهاج السنة: 2/156، وفي تهذيب التهذيب ذكر أمثلة لهذه المنكرات والأكاذيب التي يرويها أبو الصلت الهروي عن علي الرضا (تهذيب التهذيب: 7/388-389) كحديثهم الذي يقول: "السبت لنا، والأحد لشيعتنا، والاثنين لبني أمية.." إلخ.
(انظر: المصدر السابق 7/388) وترويه كتب الاثني عشرية في مصادرها المعتمدة عندهم. (انظر: عيون الأخبار: ص 207، وسائل الشيعة: 8/258)
(3) منهاج السنة: 2/163-164
(4) لسان الميزان: 2/240(1/395)
كلامه وحياً يوحى.
وقد أثار ابن حزام على الشيعة ما ثبت تاريخياً من أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنوات، ثم قال: "فنسألهم من أين علم هذا الصغير جميع علومه الشريعة وقد تعذر تعليم أبيه له لصغره؟ فلم يبق إلا أن يدّعوا له الوحي فهذه نبوة وكفر صريح، وهم لا يبلغون إلى أن يدعوا له النبوة، وأن يدعوا له معجزة تصحيح قوله.
فهذه دعوة باطلة، ماظهر منها قط شيء، أو يدّعوا له الإلهام فما يعجز أحد عن هذه الدعوى" (1) .
وكأن ابن حزم يتنبأ بما ستضيفه الشيعة، أو هو يكشف شيئاً يتسترون عليه، فقد قالوا بالإلهام والوحي للإمام - كما سلف - وجاء في روايتهم ما يؤكد القول بإمامة الأطفال، ففي أصول الكافي "عن ابن بزيع قال: سألته يعني أبا جعفر - رضي الله عنه - عن شيء من أمر الإمام، فقلت: يكون ابن أقل من سبع سنين؟ فقال: نعم، وأقل من خمس سنين" (2) .
وقالوا بأن الجواد كان إماماً وهو ابن خمس سنوات (3) ، وقد مضى احتجاجهم بروايات منسوبة لمنتظرهم وهو ابن ليلة واحدة.
ويكفي مجرد تصور هذا لمعرفة مدى بطلان رواياتهم التي ينسبونها للأئمة، إذ قد علم بنص القرآن والسنة المتواترة وإجماع الأمة، أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه وماله، فتكون نفسه محضونة ومكفولة لمن يستحق كفالته الشرعية، وهو قبل السبع لا يؤمر بالصلاة، فإذا بلغ السبع أمر بها.. فكيف يكون مثل هذا إماماً معصوماً، قوله قول الله ورسوله؟، وهل يؤمن بهذا إلا من أعمى الله قلبه..
__________
(1) الفصل: 4/172
(2) أصول الكافي: 1/383-384، بحار الأنوار: 25/103
(3) بحار الأنوار: 25/103(1/396)
ولذلك اعترفت كتب الفرق عند الشيعة، بأن طوائف من الشيعة أنكروا إمامة الجواد لاستصغارهم لسنه، وقالوا: لا يجوز الإمام إلا بالغاً، ولو جاز أن يأمر الله عز وجل بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ، فكما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس دقيقه وجليله وغامض الأحكام وشرائع الدين، وجميع ما أتى به النبي - صلى الله عليه وآله -، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها طفل غير بالغ (1) .
وقد أدى بهم القول بإمامة طفل في حكم الحضانة.. إلى قبول رواية الكذابين الذين نسبوا لبعض الأئمة أقوالاً لم تصدر منهم، لأنهم لم يدركوهم إلا في مرحلة الطفولة.
قال الممقاني في ترجمة المعلى بن خنيس: "إن المعلى قتل لأربع وثلاثين ومائة، والكاظم طفل لأنه ولد سنة 28 أو 29 ومائة، فعمره عند قتل المعلى ست أو سبع سنين" (2) . ولكنه يروي عن الكاظم والشيعة تقبل روايته. يقول الممقاني في توجيه ذلك: "وفيه أن صغرهم لا يمنع من علمهم بالأحكام، ألا ترى إلى إمامة الجواد وهو صغير فيمكن أن يكون المعلى سأل الكاظم وهو صغير فروى عنه" (3) .
ثم إنهم فيما ينقلونه عن بعض علماء أهل البيت لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا، فإنهم لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد (4) . فهم في حقيقة الأمر "ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله" (5) ، ولهذا وجدوا كتباً منسوبة لأوائلهم،
__________
(1) النوبختي/ فرق الشيعة: ص 87-88، القمي/ المقالات والفرق ص 95
(2) تنقيح المقال للممقاتي، ترجمة المعلى
(3) تنقيح المقال للممقاتي، ترجمة المعلى
(4) منهاج السنة: 3/246
(5) منهاج السنة: 2/134، المنتقى: ص 163(1/397)
مقطوعة الإسناد، بسبب الخوف من دولة الخلافة الإسلامية - كما يقولون - وقيل لهم اعملوا بها فإنها صادقة - كما مر -.
وكان شيوخهم يقبلون بما جاء في هذه الكتب بلا تمحيص.. حتى إذا جاء القرن السابع بدأ ابن المطهر بتقسيم الحديث عندهم إلى صحيح وغيره. وفي القرن ألف أول كتاب عندهم في مصطلح الحديث.. وخالفهم في ذلك طائفة منهم وهم الإخبارون، الذين رفضوا ذلك وقالوا: إنه مجرد محاكاة وتقليد لأهل السنة.. وفضحوا أمر الشيعة في هذا الباب.
وقد شهد طائفة من أعلام المسلمين بأن صناعة الكذب رائجة في الأوساط الشيعية، وأنهم يرون ذلك من الدين بحكم عقيدة التقية - كما سلف الإشارة إلى ذلك (1) .-، وقد بلغ التعصب المذهبي مداه حينما قبلوا روايات الكذابين، ومن أنكر إمامة بعض الأئمة.. لمجرد الانتساب للتشيع، وردوا روايات الصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله..
وكانت مقاييسهم في توثيق الرجال في غاية العجب؛ فمن زعم أنه رأى المنتظر، أو أكثر من الافتراء على أهل البيت (2) . أو زعم أنهم ضمنوا له الجنة (3) .
__________
(1) ص: (362) هامش (3) ، وانظر: فصل التقية
(2) لأنهم رووا عن أئمتهم: "اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنا". (أصول الكافي: 1/50)
(3) ضمان الإمام الجنة لأحد رواتهم من أعلى درجات التوثيق. (انظر: وسائل الشيعة: 20/118 رقم (20) ، رجال الكشي: ص 381 رقم (714) ، ص 567 رقم (1073) ، رجال الحلي: ص98، 158) .
ومن نماذج هذه التوثيقات ما جاء في ترجمة إبراهيم بن أبي محمود والذي قال عنه الكشي بأنه: "روى عنه أحمد بن محمد بن عيسى مسائل موسى - رضي الله عنه - (يعني موسى الكاظم) قدر خمس وعشرين ورقة، وعاش بعد الرضا".
جاء فيها النص التالي الذي يدل على توثيق الرجل بزعمهم: "روى الكشي يسنده عن إبراهيم ابن أبي محمود، قال: دخلت على أبي جعفر - إلى أن قال - فقلت: جعلت فداك تضمن لي عن ربك أن تدخلني الجنة؟ قال: نعم، قال: فأخذت رجله فقبلتها" (رجال الكشي: ص 567) .
ولاشك بأن من يعتقد في الأئمة هذا الاعتقاد فليس من الإسلام في شيء، فضلاً عن أن يؤخذ من ذلك توثيق للرجل، وقد أفتى جعفر الصادق بكفر من اعتقد منهم ذلك. (انظر: ميزان الاعتدال: 1/69-70)(1/398)
أو أنه كان يغلو فيهم (1) . فهو الثقة المأمون.
فكيف يجعل الكذب أصلاً للتوثيق والتعديل.. وإذا تدبرت رجال السند على ضوء كتب الرجال عندهم رأيت أن كبارهم، والمكثرين من الرواية عندهم قد نالوا من ذم الأئمة، وحاق بهم لعنهم، وكان الأئمة يتبرؤون منهم ويكذبونهم.. وقد نقلت ذلك كتب الشيعة نفسها (2) .
ولكن شيوخ الشيعة أعرضوا عن وصايا الأئمة وأقوالهم بلا مبرر إلا دعوى التقية التي هي في مثل هذا المقام كنسيج العنكبوت أو أوْهَى..
ومن بعد السند.. المتن.. فكثير من متون هذه الروايات كما رأينا في أبواب هذه الرسالة وفصولها.. وكما يظهر ذلك لمن راجع أصول الكافي، أو البحار، أو تفسير القمي، والعياشي، أو رجال الكشي - كثير من متونها هي معروف كذبها من الإسلام بالضرورة، لأنها تنال من كتاب ربنا، وتحارب سنة نبينا، وتكفر خير القرون ومن تبعهم بإحسان، وتقول بعقائدنا ليس لها في كتاب الله برهان..
فيكفي في الحكم على أحاديثهم؛ النظر في متونها "وكل متن يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع (3) . على الرسول".
__________
(1) في رجال الحلي، وفي ترجمة رجل من رواتهم يدعى واصل، استدل على وثاقته بما رواه الكشي قال: "حدثني واصل، قال: طليت أبا الحسن - رضي الله عنه - بالنورة، فسددت مخرج الماء من الحمام إلى البئر، ثم جمعت ذلك الماء، وتلك النورة، وذلك الشعر فشربته كله". (رجال الكشي: ص 614) . قال ابن المطهر: وهذا يدل على علو اعتقاده، والسند صحيح (رجال الحلي: ص 177-178)
(2) انظر ما سبق: ص (374)
(3) ابن الجوزي/ الموضوعات: 1/106(1/399)
الفصل الثالث: عقيدتهم في الإجماع
الإجماع من أصول أهل السنة، وهو الأصل الثالث بعد الكتابة والسنة الذي يعتمد عليه في العلم والدين (1) ، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة" (2) .
وأهل السنة يَزِنُون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال.. مما تعلق بالدين (3) ، وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة (4) . والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة (5) .
والشيعة لا ترى إجماع الصحابة والسلف أو إجماع الأمة إجماعاً، ولها في هذا الباب عقائد مخالفة نذكرها فيما يلي:
أولاً: الحجة في قول الإمام لا في الإجماع
نقلت كتب الأصول عند أهل السنة أن الشيعة تقول: "إن الإجماع حجة لا لكونه إجماعاً، بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم، وقوله بانفراده عندهم حجة" (6) .
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 3/157، وراجع في هذا: الآمدي/ الإحكام في أصول الأحكام: 1/200، الغزالي/ المستصفى: 1/173 وما بعدها، وانظر: الرسالة للشافعي: ص403 رقم 1105، وص 471 وما بعدها، ابن عبد البر/ التمهيد: 4/267
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 3/346
(3) المصدر السابق: 3/157
(4) وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين (انظر: المصدر السابق: 3/157)
(5) المصدر السابق: 3/157
(6) الإسنوي/ نهاية السول: 3/247(1/403)
ونستطلع فيما يلي رأي الشيعة من مصادرها، يقول ابن المطهر الحلي: "الإجماع إنما هو حجة عندنا لاشتماله على قول المعصوم، فكل جماعة كثرت أو قلت كان قول الإمام في جملة أقوالها، فإجماعها حجة لأجله لا لأجل الإجماع" (1) . وبمثل هذا قال عدد من شيوخهم (2) .
إذن الإجماع ليس حجة عندهم بدون وجود الإمام الذي يعتقدون عصمته، فمدار حجية الإجماع هو على قوله لا على نفس الإجماع، فهم في الحقيقة لم يقولوا بحجة الإجماع، وإنما قالوا بحجية قول المعصوم، ودعواهم الاحتجاج بالإجماع تسمية لا مسمى لها، فقول ابن المطهر: "الإجماع حجة عندنا" من لغو القول؛ إذ الأصل أن يقول: الإجماع ليس بحجة عندنا، لأن الحجة في قول الإمام المعصوم.. لأن هذا هو مقتضى مذهبهم، فهم جعلوا الإمام بمثابة النبي أو أعظم؛ فهو عندهم ينكت في أذنه، ويأتيه الملك، بل يرى خلقاً أعظم من جبرائيل وميكائيل، إلى آخر ما فصلنا القول فيه عنهم في معتقدهم في السنة، فهم ليسوا بحاجة للإجماع والإمام حاضر بينهم، كما أن الصحابة ليسوا بحاجة للإجماع والرسول حاضر بينهم.
فعندهم في كل عصر نبي يسمى الإمام، والحجة في قوله لا في الإجماع، ولهذا قالوا: "ونحن لما ثبت عندنا بالأدلة العقلية والنقلية كما هو مستقصى في كتب أصحابنا الإمامية أن زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه، فمتى اجتمعت الأمة على قول كان داخلاً في جملتها لأنه سيدها، والخطأ مأمون على قوله، فيكون ذلك الإجماع حجة. فحجية الإجماع عندنا إنما هو باعتبار كشفه عن الحجة التي هي قول المعصوم" (3) .
والأرض لا تخلو من إمام، لأنه - كما يزعمون - "لو خلت الأرض من إمام
__________
(1) ابن المطهر/ تهذيب الوصول إلى علم الأصول: ص 70، ط: طهران 1308هـ
(2) انظر: المفيد/ أوائل المقالات ص 99-100، قوامع الفضول ص 305، حسين معتوق/ المرجعية الدينية العليا ص 16، وراجع كتب الأصول عندهم عامة
(3) النحاريري/ معالم الدين: ص406(1/404)
لساخت" (1) ، ومعنى هذا استمرار تعطيل مبدأ الإجماع.
وأنت إذا تأملت أقوالهم في الإجماع لا تكاد تلمس فرقاً بين مفهوم السنة عندهم، والإجماع إلا باللفظ فقط؛ لأن السنة قول المعصوم، والإجماع المعتبر عندهم هو الكاشف عن قول المعصوم. ولك أن تعجب لماذا يعدون الإجماع أصلاً يقررونه في كتبهم الأصولية. وهو اسم بلا مسمى حتى قرروا بأنه لا عبرة بأقوال ففقهائهم ولو بلغوا المائة، قالوا: "أما الإجماع فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو كان في اثنين لكان قولهما حجة، لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله" (2) .
فمعنى هذا أن الإجماع لغو لا فائدة في القول فيه أصلاً، وإنما نهاية أمرهم أنهم سموا السنة باسم الإجماع.
ويبدو أن هذا الاعتراض أثير على الشيعة في عصور متقدمة، فقد نقل بعض شيوخ الشيعة عن الشريف المرتضى أنه قال: "إننا لسنا بادئين بالحكم بحجية الإجماع حتى يرد كونه لغواً، وإنما بدأ بذلك المخالفون، وعرضوه علينا، فلم نجد بداً من موافقتهم عليه.. فوافقناهم في أصل الحكم لكونه حقاً في نفسه، وإن خالفناهم في علته ودليله" (3) . أي: إنهم قلدوا لمجرد التقليد والمحاكاة.
وقال صاحب قوامع الفضول أيضاً: "تنعدم فائدة الإجماع لو علم حال شخص الإمام خروجاً أو دخولاً (4) . أو حال قوله تقية أو نحوها، لكن الذي يسهل الخطب هو أن عقد باب الإجماع منهم دوننا كي يتجه علينا ذلك" (5) .
__________
(1) أصول الكافي: 1/179
(2) معالم الدين: ص 405
(3) قوامع الفضول: ص 305
(4) يعني خروجاً من الإجماع أو دخولاً فيه
(5) قوامع الفضول: ص 305(1/405)
ومادام أهل السنة اعتبروا هذا أصلاً، فلماذا تجارونهم وعقيدتكم في الإمام تناقض القول به أصلاً؟!
ويقول محمد رضا المظفر: "إن الإجماع لا قيمة علمية له عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم.. فإذا كشف على نحو القطع عن قوله فالحجة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف، فيدخل حينئذ في السنة، ولا يكون دليلاً مستقلاً في مقابلها" (1) .
ويقول رضا الصدر: "وأما الإجماع عندنا - معاشر الإمامية - فليس بحجة مستقلة تجاه السنة، بل يعد حاكياً لها، إذ منه يستكشف رأي المعصومين عليهم السلام" (2) .
ويذكر شيخهم محمد جواد مغنية (وهو من شيخهم المعاصرين) : "أن ثمة تبايناً بين موقف متقدمي الشيعة وبين موقف متأخريهم في مسألة الإجماع، حيث اتفق المتقدمون (من الشيعة) على أن مصادر التشريع أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، وغالوا في الاعتماد على الإجماع حتى كادوا يجعلونه دليلاً على كل أصل وكل فرع، وعد المتأخرون لفظ الإجماع مع هذه المصادر ولكنهم أهملوه، بل لم يعتمدوا عليه إلا منضماً مع دليل آخر في أصل معتبر" (3) . ولكن هذا الكلام ليس على إطلاقه، إذ من المتأخرين من يعد الإجماع دليلاً مستقلاً" (4) .
__________
(1) المظفر/ أصول الفقه 3/92
(2) رضا الصدر/ الاجتهاد والتقليد: ص 17
(3) مغنية/ أصول الفقه للشيعة الإمامية بين القديم والحديث/ بحث بمجلة رسالة الإسلام، السنة الثانية، العدد الثالث: ص 284-286
(4) فقد ذهب شيخهم الشعراني والذي وصفوه بالعالم المتبحر إلى القول "بحجية الإجماع، وكونه دليلاً مستقلاً". (الشعراني/ تعاليق علمية "على شرح جامع للمازندراني": 2/414) .
إذن ما يقول مغنية غير مسلم، لكن الخلاف - فيما ألاحظ - دائر في هذا الأصل بين الأصوليين والإخباريين، فنجد الحر العاملي - وهو من الإخباريين - يرى أن "كل ما هو مذكور في هذا البحث في كتب الأصول فهو من العامة (يعني أهل السنة) لا دليل عليه، ولا وجه له أصلاً" (الفصول المهمة: ص 214) .
وبإزاء ذلك فإن الأصوليين من الشيعة قد بحثوا هذا "الأصل" وقرروا القول به في =(1/406)
هذا وإمامهم انقطع ظهوره منذ القرن الثالث، فكيف الطريق للوصول لرأيه الكاشف عن حجية الإجماع؟
يرى شيخهم الحر العاملي ومن سلك سبيله من الإخباريين أن يتعذر الوصول لرأيه بعد غيبته، وبالتالي لا يثبت الإجماع، لأنه لا يمكن تحصيل العلم بدخوله فيهم ولا يظن به بعد غيبته، فلا يدرى في البر أم في البحر، في المغرب أم في المشرق (1) . بينما يذهب الأصوليون إلى ثبوت الإجماع، وإمكانية معرفة رأي الإمام.
يقول شيخهم الهمداني في مصباح الفقيه: "إن المدار على حجية الإجماع على ما استقر عليه رأي المتأخرين ليس على اتفاق الكل، بل ولا على اتفاقهم في عصر واحد، بل على استكشاف رأي المعصوم بطريق الحدس (2) . من فتوى علماء الشيعة الحافظين للشريعة، وهذا مما يختلف باختلاف الموارد، فرب مسألة لا يحصل فيها الجزم بموافقة الإمام، وإن اتفقت فيها آراء جميع الأعلام.. ورب مسألة يحصل فيها الجزم بالموافقة ولو من الشهرة" (3) .
__________
= كتب أصول الفقه عندهم، وإن كان مذهبهم في الإمام لا يستجيب للقول به.
يقول شيخهم المعاصر - الشعراني - في التأكيد على القول بهذا الأصل: "روى الطبرسي في الاحتجاج عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري في حديث طويل قال: "اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك على أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على الضلالة..". قال الشعراني: وهو يدل على حجية الإجماع، وكونه دليلاً مستقلاً، وإمكان العلم به، وتصديق لصحة الحديث المشهور "لا تجتمع أمتي على ضلالة". (الشعراني/ تعاليق علمية: 2/414)
(1) عن مقتبس الأثر للحائري: ص 63
(2) الحدس في اللغة: الظن والتخمين (مختار الصحاح مادة: حدس) وقد يراد بالحدس المصطلح الفلسفي وهو الإدراك المباشر لموضوع التفكير..
وهو أشبه عندهم بالرؤية المباشرة والإلهام. (المعجم الفلسفي: ص 69-70)
(3) مصباح الفقيه: ص 436، الاجتهاد والتقليد: ص 17(1/407)
فمن هنا يتبين أن الطريق - عندهم - لاكتشاف قول الإمام هو الحدس، فانظر كيف يجعلون اكتشاف قول المعصوم بطريق الحدس والظن هو العمدة، وإجماع السلف ليس بعمدة، إنها مفارقات في غاية الغرابة، واتفاق جميع أعلامهم لا يحصل به الجزم بموافقة الإمام، ومجرد الشهرة يحصل بها الجزم ولو لم يحصل اتفاق. إنها مقاييس مقلوبة، كما أنه اعتراف منهم بأن شيوخهم قد يتفقون على ضلالة.
ومع إنكارهم حجية الإجماع في الحقيقة، فقد أثبتوا العمل بقول طائفة مجهولة وترك ما تقوله الطائفة المعروفة، وهذه من ثمار الشذوذ، وقد عللوا لهذا المسلك الشاذ بأن الإمام مع الطائفة المجهولة.
يقول صاحب معالم الدين: "إذا اختلفت الإمامية على قولين، فإن كانت إحدى الطائفتين معلومة النسب ولم يكن الإمام أحدهم كان الحق مع الطائفة الأخرى، وإن لم تكن معلومة النسب.." (1) . حتى اعتبروا وجود هذه الطائفة المجهولة شرطاً لتحقق الإجماع في عصور الغيبة. قالوا: "الحق امتناع الاطلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل، إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام، كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ويكون قوله رضي الله عنه مستوراً بين أقوالهم، وهذا مقطوع بانتفائه، فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا، وليس مستنداً إلى نقل متواتر وآحاد حيث يعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم، فلابد أن يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة" (2) . العمدة عندهم قول الطائفة المجهولة، وهذا عزيز الوجود، فمنذ ما يقارب عصر شيخ طائفة الطوسي لم يطلع على مثل هذا، والإجماع الموجود هو الإجماع المنقول (3) . وكأنه
__________
(1) معالم الدين: ص 406
(2) معالم الدين: ص 406
(3) الإجماع في اصطلاح الاثني عشرية ينقسم إلى قسمين:
1- الإجماع المحصل: والمقصود به الإجماع الذي يحصله الفقيه بتتبع أقوال أهل الفتوى. =(1/408)
قبل عصر الشيخ قد وجد مثل هذا الإجماع.
وهؤلاء الذين يرفضون إجماع الصحابة، يبحثون عن قول طائفة مجهولة ليأخذوا به. ثم هم قد أصابوا في عدم الاعتداد بأقوال شيخهم وإن اتفقت كلمتهم، ولكنهم ضلوا في إعراضهم عما أجمع عليه الصحابة والسلف.
وهم في وصولهم إلى ما يسمى "بالإجماع" عندهم، يتخبطون أيما تخطب حتى صارت إجماعاتهم المتعارضة كرواياتهم المتضاربة التي تلاحظها أثناء مراجعتك لكتاب الاستبصار أو البحار أو غيرهما، بل إن العالم الواحد تتضارب أقواله في دعوى الإجماع، انظر - مثلاً - ابن بابويه القمي صاحب "من لا يحضره الفقيه" أحد الكتب الأربعة التي عليها مدار العمل عندهم، قالوا إنه: ".. ليدعي الإجماع في مسألة ويدعي إجماعاً آخر على خلافها وهو كثير" (1) . حتى قال صاحب جامع المقال: "ومن هذه طريقته في دعوى الإجماع كيف يتم الاعتماد عليه والوثوق بنقله" (2) .
بل إنهم يدعون الإجماع في أمر لا قائل به، يقول شيخهم النوري الطبرسي: "ربما يدعي الشيخ والسيد إجماع الإمامية على أمر وإن لم يظهر له قائل" (3) . كما
__________
= 2- الإجماع المنقول: والمقصود به الإجماع الذي لم يحصله الفقيه بنفسه وإنما ينقله له من حصله من الفقهاء سواء أكان النقل به بواسطة أم بوسائط، ثم النقل تارة يقع على نحو التواتر، وهذا حكمه حكم المحصل من جهة الحجية، وأخرى يقع على نحو خبر الواحد، وإذا أطلق قول الإجماع المنقول في لسان الأصوليين فالمراد منه الأخير، وقد وقع الخلاف بينهم في حجيته (المظفر/ أصول الفقه: 3/101) . وقال الأعملي في مقتبس الأثر: للإجماع في اصطلاحات الفقهاء (يعني فقهاء الجعفرية) إطلاقات منها يقولون: الإجماع: هو القطع برأي الإمام رضي الله عنه.
ومنها الإجماع المحصل، وعلق عليه بقوله: وهو غير حاصل، ومنها الإجماع المنقول بخبر الواحد وعقب عليه بقوله: وهو مقبول. (مقتبس الأثر: 3/62)
(1) جامع المقال فيما يتعلق بأحوال الحديث والرجال/ الطريحي: ص15
(2) الموضع نفسه من المصدر السابق
(3) فصل الخطاب: ص 34(1/409)
ذكر شيخهم الطبرسي وأكد على وجود "الإجماعات المتعارضة من شخص واحد ومن معاصرين أو متقاربي العصر، ورجوع المدعي عن الفتوى التي ادعى الإجماع فيها ودعوى الإجماع في مسائل غير معنونة (كذا) في كلام من تقدم على المدعي، وفي مسائل قد اشتهر خلافها بعد المدعي، بل في زمانه، بل ما قبله" (1) .
هذا قول الطبرسي وهو الخبير المتتبع لكتبهم، واضطر ليكشف هذا لنصرة مذهبه الذي ألف فصل الخطاب من أجله، ويرد دعوى الإجماع على خلافه فاستفدنا من هذا الاعتراف غير المقصود لذاته لنبين اضطرابهم في هذا الأصل، واضطرابهم في تحديده وفي تطبيقه.
ثم إنهم - وهم يقولون بأن الإجماع وهو ما يكشف عن قول المعصوم - لا يطبقون هذا، بل يتتبعون اتفاق أصحابهم لا قول معصومهم. ولهذا قال صاحب معالم الدين حينما ذكر ما قاله أحد كبار شيوخهم من أن العمدة هو كلام المعصوم لا اتفاق الفقهاء بدونه، فقال: "والعجب من غفلة الأصحاب عن هذا الأصل وتساهلهم في دعوى الإجماع عند احتجاجهم به للمسائل الفقهية، حتى جعلوه عبارة عن مجرد اتفاق الجماعة من الأصحاب فعدلوا به عن معناه الذي جرى عليه الاصطلاح من غير قرينة جلية، ولا دليل على الحجية معتداً - كذا - به" (2) .
فهم لا يقولون بالإجماع على الحقيقية، ومع ذلك يجعلونه من أصول أدلتهم، ويتناقضون في دعواه وتطبيقه أيما تناقض. والتناقض في القول دليل بطلانه.
وحتى يتجلى لك الفرق جلياً بين مذهب أهل السنة في القول بحجية الإجماع، وبين مذهب الشيعة في ذلك، فلك أن تتصور أنه لو صدر من إمامهم محمد الجواد، والذي قالوا بإمامته وهو ابن خمس سنين (3) ، لو صدر منه وهو
__________
(1) الموضع نفسه من المصدر السابق
(2) معالم الدين: ص 405-406
(3) انظر: بحار الأنوار: 25/103(1/410)
في هذا العمر قول أو رأي، أو نسب إليه عن طريق جماعة من الروافض أنه يقول في أمر شرعي بحكم، أو قول، وخالفته في ذلك الأمة الإسلامية جمعياً، فإن الحاجة في رأيه لا في إجماع الأمة" (1) .
ولو أثر عن منتظرهم الذي قال التاريخ بأنه لا وجود له - كما سيأتي - قول، ولو عن طريق حكايات الرقاع، وخالفه في هذا القول أو ذلك الحكم المسلمون جميعاً، فإن القول هذا المعدوم الذي لم يوجد، ولا عبرة بقول المسلمين جميعاً. قال مفيدهم في تقرير هذا: "فلو قال (يعني الإمام) قولاً لم يوافقه عليه أحد من الأنام لكان كافيًا في الحجة والبرهان" (2) .
وهذا مذهب في غاية البطلان لا يحتاج إلى مناقشة.
ولهذا قرر المفيد أن هذا مما شذت به طائفته، فقال: "وهذا مذهب أهل الإمامة خاصة، ويخالفهم فيه المعتزلة والمرجئة والخوارج وأصحاب الحديث.." (3) .
ثناياً: ما خالف العامة ففيه الرشاد
الإجماع عند جمهور المسلمين ينظر فيه إلى إجماع الأمة، لأن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة. قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (4) .
__________
(1) وقد جاء في أصول الكافي القول بإمامة الإمام، ولو كان عمره ثلاث سنين.
انظر (أصول الكافي، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي جعفر الثاني: 1/321) ، وانظر: (المفيد/ الإرشاد ص 298، الطبرسي/ أعلام الورى: ص 331. وفيهما "ولو كان ابن أقل من ثلاث سنين"، وبحار الأنوار: 25/102-103)
(2) أوائل المقالات: ص 100
(3) المصدر السابق ونفس الصفحة
(4) النساء، آية: 115، فمن خرج من إجماع الأمة فقد اتبع غير سبيل المؤمنين (انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/194) . ولذلك عوّل الإمام الشافعي - رحمه الله - في الاحتجاج =(1/411)
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهو ظاهرون على الناس" (1) .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم عدة روايات في أن هذه الأمة "لا تجتمع على ضلالة" (2) .
__________
= على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته بهذه الآية الكريمة، وذلك بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها (تفسير ابن كثير: 1/590) . ولشيخ الإسلام تحقيق بديع حول هذه الآية والإجماع (انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/178، 179، 192 وما بعدها، وانظر: تفسير القاسمي: 5/459 وما بعدها) .
قال الإمام ابن كثير: "قوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم.
وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك.. ومن العلماء من ادعى تواتر معناها".
(تفسير ابن كثير: 1/590)
(1) رواه مسلم في كتاب الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم" 2/1524.
والحديث بهذا المعنى أخرجه - أيضاً - البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" 8/149
(2) قال السخاوي: "حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره (المقاصد الحسنة ص460) فروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أجاركم من ثلاث خلال (ومنها) وأن لا يجتمعوا على ضلالة" رواه أبو داود في سننه: 4/452 (رقم 4253) . قال الحافظ في التلخيص: في إسناده انقطاع، وقال في موضع آخر: سنده حسن (عون المعبود: 11/326) .
وروى الإمام أحمد عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت الله عز وجل أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها" (المسند 6/396) قال الحافظ في التلخيص: ".. رجاله ثقات لكن فيه راو لم يسم" (عون المعبود:11/326) . وروى الترمذي عن ابن عمر "أن الله تعالى لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار". قال أبو عيسى: حديث غريب من هذا الوجه (سنن الترمذي 4/466) (رقم 2167) . وقال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث =(1/412)
هذا بالنسبة لجمهور المسلمين، أما طائفة الشيعة فالنظر عندهم في الإجماع إلى الإمام لا إلى الأمة، والاعتبار بمن دان بإمامة الاثني عشر بشرط أن يكون من ضمنهم الإمام، أو يكون إجماعهم كاشفا عن قول الإمام - كما قدمنا - ولا يلتفت إلى اتفاق العلماء المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
بل الأمر أعظم من عدم اعتبار إجماعهم، حيث تعدى ذلك إلى القول بأن مخالفة إجماع المسلمين فيه الرشاد، وصار مبدأ المخالفة أصلاً من أصول الترجيح عندهم، وأساساً من أسس مذهبهم، وجاءت عندهم نصوص كثيرة تؤكد هذا المبدأ وتدعو إليه.
ففي أصول الكافي سؤال أحد أئمتهم يقول: إذا ".. وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة (يعني أهل السنة) والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت (القائل هو الراوي) : جعلت فداك، فإن وافقها الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتها فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات" (1) .
__________
= غريب خرجه أبو نعيم في الحلية، واللالكائي في السنة ورجاله رجال الصحيح لكنه معلوم، فقد قال الحاكم: لو كان محفوظاً حكمت بصحته على شرط الصحيح، لكن اختلف فيه على معتمر بن سليمان على سبعة فذكرها، وذلك مقتضي للاضطراب والمضطرب من أقسام الضعيف (عن فيض القدير 2/271) . ورواه ابن ماجه بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" (سنن ابن ماجه - كتاب الفتن - باب السواد الأعظم 2/1303) (رقم 3950) .
وأورده السيوطي في الجامع ورمز له بالصحة (فيض القدير: 2/431) . لكن قال السندي: "وفي الزوائد في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف" (حاشية السندي على سنن ابن ماجه: 2/464) ، وقال العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي: "جاء الحديث بطرق في كلها نظر" (المصدر السابق) . وقال ابن حجر: "له طرق لا يخلو واحد منها من مقال" (عن فيض القدير: 2/200) وقد أورده أصحاب الأصول محتجين به. (انظر: المستصفى: 1/175، والإحكام للآمدي: 1/219)
(1) الكليني/ أصول الكافي: 1/67-68، ابن باوبيه القمي/ من لا يحضره الفقيه: 3/5، الطوسي/ =(1/413)
وذكر ثقتهم الكليني أن من وجوه التمييز عند اختلاف رواياتهم قول إمامهم: "دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم" (1) .
وقال أبو عبد الله - كما يفترون -: "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما يخالف القوم" (2) .
وعن الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح (3) .- رضي الله عنه -: "هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا، فقلت: فيروى عن أبي عبد الله شيء، ويروى عنه خلافه فأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم (إشارة لأهل السنة) وما وافق القوم فاجتنبه" (4) .
ويعللون الأخذ بهذا المبدأ بما يرويه أبو بصير عن أبي عبد الله قال: "ما أنتم والله على شيء مما هم فيه، ولا هم على شيء مما أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء" (5) .
ويغرر هؤلاء الزنادقة الذين يبغون في الأمة الفرقة والخلاف، بأولئك الأتباع الجهال الذين تعطلت ملكة التفكير عندهم بعدما شحنت نفوسهم بما يسمى "محن آل البيت" و"خدرت" عقولهم بما يقال لهم من ثواب كبير ينتظرهم بمجرد حب آل البيت، غرر هؤلاء الزنادقة بأولئك الأتباع فقالوا: إن الأصل في هذا المبدأ "أن علياً - رضي الله عنه - لم يكن يدين الله بدين إلا خالف - كذا - عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء الذي لا
__________
= التهذيب: 6/301، الطبرسي/ الاحتجاج ص 194، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 18/75-76
(1) أصول الكافي/ خطبة الكتاب ص 8، وانظر: وسائل الشيعة: 18/80
(2) وسائل الشيعة: 18/85
(3) هذا اللقب المراد به الإمام
(4) وسائل الشيعة: 18/85
(5) الموضع نفسه من المصدر السابق(1/414)
يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له - كذا - من عندهم ليلتبسوا - كذا - على الناس" (1) .
مع أنهم يقولون بأن عمر كان يستشيره في كل صغيرة وكبيرة، ويأخذ بقوله ويعمل بفتواه، وأن الصحابة كانت ترجع إليه في مشكلاتهم (2) ، وأن عمر قال: لا عشت في أمة لست لها يا أبا الحسن (3) . لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبا الحسن (4) .
فأي القولين نأخذ به ونصدقه؟ ولكن هذا هو دأب هؤلاء الوضّاع التناقض، وهذه ثمار الكذب.
كما يوصون أتباعهم بالوصية التالية والتي تعمق الخلاف وتضمن استمراره، وتكفل لهذه الفئة العزلة عن جماعة المسلمين وإجماعهم: عن علي ابن أسباط قال: قلت للرضا - رضي الله عنه -: يحدث الأمر لا أجد بدّاً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: ائت فقيه البلد، فاستفته عن أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإن الحق فيه" (5) .
وعلق على هذا النص أحد شيوخهم، فقال: "من جملة نعماء الله على هذه الطائفة المحقة أنه خلى بين الشيطان وبين علماء العامة، فأضلهم في جميع المسائل النظرية حتى يكون الأخذ بخلافهم ضابطة لنا، ونظيره ما ورد في حق النساء شاوروهن وخالفوهن" (6) .
هذه النصوص في منتهى الخطورة، وهي من وضع زنديق ملحد أراد الكيد
__________
(1) ابن بابويه/ علل الشرائع: ص 531، وسائل الشيعة: 18/83
(2) انظر: منهاج السنة حيث نقل كلام ابن المطهر في ذلك: 4/160
(3) مناقب آل أبي طالب: 1/492-493، الصادقي/ علي والحاكمون: ص120
(4) الإرشاد للمفيد ص 97-98، مناقب آل أبي طالب: 1/494
(5) ابن بابويه/ علل الشرائع: ص 531، الطوسي/ التهذيب: 6/295، وسائل الشيعة: 18/82-83، وبحار الأنوار: 2/233
(6) الحر العاملي: الإيقاظ من الهجعة ص 70-71(1/415)
للأمة ودينها، وأراد أن يفتح للقوم باباً واسعاً للخروج من الإسلام، حيث يتجهون إلى مخالفة كل أمر من الدين عليه أمة الإسلام. وكيف يدعو قوم هذه عقائدهم إلى التقريب؟! وكيف يزعمون إمكانية اللقاء مع أهل السنة الذين يكون الرشد في خلافهم؟!
الجانب النقدي لهذه المقالة:
بالإضافة إلى ما ألمحنا إليه في أثناء العرض نوضح هذه المسألة أكثر، فأقول: أما ثبوت حجية الإجماع، فقد تكفلت كتب الأصول ببيانه، والاستدلال عليه بما يغني ويكفي.
والشيعة تقر بالإجماع اسماً، وتخالفه في الحقيقة - كما سلف -.
وقد نقل شخيهم المعاصر مغنية اتفاق شيعته القدماء على القول بالإجماع، وأن المتأخرين عدوه من أصول أدلتهم، ولكن لم يعتمدوا عليه (1) ، وهذا يعني أنهم خالفوا الإجماع الذي عدوه من أصول أدلتهم، أو أن قدماء الشيعة قد أجمعوا على ضلالة، أو أن متأخريهم خالفوا الحق الذي أجمع عليه متقدموهم.. والحقيقة أن مآل الجميع إلى الإنكار، وإن كثر ادعاء بعضهم في هذا الباب لاسيما في كتب الأصول عندهم، ذلك أن دعوى الإجماع عند التمحيص مجرد لغو لا حقيقة له.
ولكن بالإضافة إلى ذلك، فإن حيرتهم في الوصول إلى هذا الإجماع الذي يدعونه برهان جلي يدل على أنهم ليسوا على شيء، ومن أوضح الأمثلة على ذلك اشتراطهم وجود عالم مجهول النسب لتحقق الإجماع على اعتبار أن يكون هو الإمام الغائب، وقد اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك من أعظم الجهل، حيث قال: "رأيت في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين، وكان أحد القولين يعرف قائله، والآخر لا يعرف قائله، فالصواب عندهم القول الذي لا
__________
(1) انظر: ص (406)(1/416)
يعرف قائله. قالوا: لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم، فهل هذا إلا من أعظم الجهل".
وتعجب كيف يجعلون عدم العلم بالقول وصحته، دليلاً على صحته، وقال: "من أين يعرف أن القول الآخر الذي لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم؟ ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد وافق القول الذي يعرف قائله، وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول، بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس؟ فهم أثبتوا الجهل بالجهل، حيث جعلوا عدم العلم بالقائل دليلاً على أنه قول المعصوم. وهذه حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله، فإنه يقع في ظلمات البدع، ظلمات بعضها فوق بعض" (1) .
وقد انتقدهم شيخهم الحر العالي "صاحب الوسائل" على هذا المسلك (2) ، فقال: "وقولهم باشتراط دخول مجهول النسب فيهم أعجب وأغرب، وأي دليل دل عليه؟ وكيف يحصل مع ذلك العلم بكونه هو المعصوم أو الظن به" (3) .
وأمر آخر لا يقل عن هذا، وهو كيف يجعل قول طفل عمره خمس سنين لم يخرج عن طور الحضانة بمنزلة إجماع الأمة بأسرها، بل يرفض إجماع الأمة ويؤخذ بقول صبي أو معدوم؟! هذا في غاية الفساد.
وإذا بحثت عن إجماعهم (الاسمي) الذي يكشف عن رأي المعصوم - كما يزعمون - لم تجد إلا روايات يعارض بعضها بعضاً، كما ترى ذلك في روايات التهذيب والاستبصار. وقد صرح به شيخ الطائفة في مقدمة التهذيب، وذكر أن هذا من أسباب خروج الكثير من التشيع - كما مر - (4) .
__________
(1) منهاج السنة: 3/265-266
(2) لأنه من الإخباريين الذين لا يقولون بدليل الإجماع
(3) عن مقتبس الأثر: 3/63
(4) انظر: ص (361)(1/417)
ثم يلحظ أن أهم مسألة عند الشيعة وهي مسألة الإمام قد تضاربت في تعيينه فرق الشيعة، واختلفت مذاهبهم، واضطربت اتجاهاتهم حوله بشكل كبير، كما حفلت ببيانه وتفصيله كتب المقالات عند الفريقين، فأين تحقق الإجماع وأصل المذهب تنخر فيه الاختلافات، وتدور في شانه المنازعات؟
وترى كذلك أن دعوى الإجماع عندهم متعارضة متضاربة. وما انفردت به الشيعة عن الجماعة وادعت الإجماع عليه هي أقوال في غاية الفساد سواء في الأصول أو الفروع، كإيمانهم بذلك المنتظر الذي لم يولد، ومبالغاتهم في أوصاف الإمام ومعجزاته، وإلى آخر ما شذوا به مما سيأتي بسطه وبيانه. بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "الشيعة ليس لهم قول واحد يتفقون عليه" (1) .
وهذا حق اعترفت به الشيعة نفسها، حيث جاء في أصول الكافي: "عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر - رضي الله عنه - قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها، فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاءه رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم" (2) .
فهذا يؤكد أن من أصول مذهبهم بحكم عقيدة التقية اختلاف أقوالهم وتباين آرائهم، حتى لا يقف - بزعمهم - الأعداء على حقيقة مذهبهم، فكان من أثر ذلك أن ضاع المذهب، ولم يعرف حقيقة رأي الأئمة، فكيف يمكن تحقق الإجماع على قول أو حكم في ظل هذا الاختلاف والاضطراب؟!
والإمام أبو جعفر بريء من هذا، لكن هذا من اختراع الزنادقة حتى
__________
(1) منهاج السنة: 2/129
(2) أصول الكافي: 1/65(1/418)
لا يعرف الشيعة رأي أبي جعفر وغيره من علماء آل البيت ليتسنى لهم نشر كفرهم وغلوهم، وكلما كذب هذا الغلو أئمة أهل البيت قالوا: هذا تقية.
قال علامة الهند صاحب التحفة الاثني عشرية: وأما الإجماع فدعواهم أنه من أدلتهم باطل، لأنه كونه حجة ليس بالأصالة، بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حجيته على قول المعصوم لا على نفس الإجماع.
وهم ينازعون في ثبوت عصمة الإمام، كما ينازعون في تعيينه. وأيضاً إجماع الصدر الأول - يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة - غير معتبر عندهم، لأنهم أجمعوا على خلافة أبي بكر وعمر.. ومنع ميراث النبي صلى الله عليه وسلم وحرمة المتعة، وهذا باطل في نظرهم، فإذا كان هذا الإجماع غير معتبر عندهم فبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع، ولاسيما في المسائل الخلافية المحتاجة إلى الاستدلال وإقامة الحجة القاطعة.
ثم أشار صاحب التحفة إلى صور من التناقض عندهم، حيث إن بعضهم نقل إجماع فرقتهم على أمر وكذبهم وأنكر عليهم بذلك الآخرون منهم. وأن شيخهم (الشهيد الثاني) وهو من أجلة علمائهم قد أفرد فصلاً مستقلا ًفي أن شيخ الطائفة قد ادعى في مواضع إجماع الفرقة مع أنه قال هو بخلافه في مواضع أخر (1) . ثم نقل صاحب التحفة نص كلامه (2) .
وأقول: إن مذهبهم بأن الإجماع حجة من جهة كشفه عن رأي المعصوم
__________
(1) جمع شيخهم زين الدين العاملي، الملقب عندهم بالشهيد الثاني أربعين مسألة ادعى فيها شيخ الطائفة الطوسي الإجماع، وقد خالف أكثرها في موارد أخرى، كما أن بعض شيوخهم يدعي الإجماع فيما يتفرد به، وعلل شيوخهم المجلسي لهذه الظاهرة عندهم بقوله: إنهم لما رجعوا إلى الفروع ونسوا ما أسسوه في الأصول، فادعوا الإجماع في أكثر المسائل سواء أهر فيها الخلاف أم لا، وافق الروايات المنقولة أم لا.
(انظر: الشيعة في الميزان: ص323) .
وقد لا يكون مرد ذلك النسيان كما يقول المجلسي، بل سبب ذلك أن كتب الفروع عندهم منقولة في الغالب من كتب أهل السنة، فانفصلت عن آرائهم في مسائل الإمامة
(2) انظر: التحفة الاثني عشرية - الورقة 118 (مخطوط) ، ومختصر التحفة ص51(1/419)
فقط لا من جهة أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، كما عليه أهل السنة، فوق أن هذا إنكار للإجماع على الحقيقة، فإن في ذلك مخالفة للحديث الثابت عندهم وهو: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (1) . كما أن هذا الحديث أيضاً ورد من طرق أهل السنة كما سبق تخريجه" (2) .
فلماذا لا يؤخذ بهذا النص الذي يستدل به كل الفريقين، وليس ذلك فحسب بل قد ورد أيضاً في الاحتجاج - وهو من كتبهم المعتمدة كما قرر ذلك المجلسي وغيره - رواية عن أبي الحسن علي بن محمد العسكري - رضي الله عنه - في حديث طويل قال: "واجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك على أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" فأخبر أن ما أجمعت عليه الأمة، ولم يخالف بعضها بعضاً هو الحق، فهذا معنى الحديث، لا ما تأوله الجاهلون، ولا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، واتباع حكم الأحاديث المزورة، والروايات المزخرفة، واتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب، وتحقيق الآيات الواضحات النيرات.." (3) .
فأنت ترى في هذا النص إمامهم لم يقل: انظروا إلى ما اتفق عليه الجماعة التي فيها المعصوم، ودعوا رأي الجماعة الأخرى، ولم يقل: ابحثوا عن الجماعة أو الشخص المجهول النسب، فقد يكون المنتظر من ضمن تلك الجماعة، أو يكون هو نفسا المجهول النسب، بل قال: بأن ما أجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضاً هو الحق، وبين أن أساس إصابة الحق هو الاعتماد على الكتاب والسنة، وأن إصابة الحق في حالة الإجماع محققة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على
__________
(1) انظر: الشعراني/ تعاليق علمية (على شرح الكافي للمازندراني) : 2/414
(2) انظر: ص (412) من هذه الرسالة
(3) بحار الأنوار: 2/225(1/420)
ضلالة" وهذا الحديث هو أحد حجج جمهور المسلمين في إثبات حجية الإجماع.
وحذر من اتباع غير ذلك من الروايات المكذوبة.
فلماذا تشذ هذه الطائفة، وتأخذ بتلك الروايات المكذوبة، وتدع قول إمامهم، وتفارق الأمة، وتنبذ إجماعها، وتأخذ برأي طفل صغير أو معدوم، وتدع ما أجمع عليه أمة الإسلام، كل ذلك لأن زنديقاً وضع لها أصلاً يقول بأن ما خالف العامة فيه الرشاد "فجمعوا مخالفة أهل السنة والجماعة الذين هم على ما كان عليه الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أصلاً للنجاة، فصار كلما فعل أهل السنة شيئاً تركوه، وإن تركوا شيئاً فعلوه، فخرجوا بذلك عن الدين رأساً، وذلك هو الضلال المبين باليقين" (1) .
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2) .
ولو كان هذا الأصل؛ أعني قولهم: ما خالف العامة - أي أهل السنة - فيه الرشاد، لو كان هذا من عند الأئمة كما تزعم هذه الزمة لكان الأئمة أسبق الناس إلى تطبيقه على أنفسهم، والواقع الذي يوافقنا شيوخ الشيعة عليه أن علياً - رضي الله عنه - لم يشذ عن الصحابة، بل إنه كما يقول شيخهم الشريف المرتضى: "دخل في آرائهم، وصلى مقتدياً بهم، وأخذ عطيتهم، ونكح سبيهم، وأنكحهم، ودخل في الشورى" (3) . وغير ذلك. ولم يذهب إلى مخالفتهم في شيء مما أجمعوا عليه، وكان رضي الله عنه يكره الاختلاف، كما روى البخاري عن علي - رضي الله عنه - قال: "اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة" (4) .
قال ابن حجر: قوله: "فإني أكره الاختلاف" أي: الذي يؤدي إلى النزاع.
__________
(1) الألوسي/ كشف غياهب الجاهلات/ الورقة (6)
(2) النساء، آية: 115
(3) المرتضى/ تنزيه الأنبياء: ص 132
(4) صحيح البخاري (مع فتح الباري) : 7/71(1/421)
قال ابن التين: يعني مخالفة أبي بكر وعمر، وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدي إلى النزاع والفتنة، ويؤيده قوله بعد ذلك "حتى يكون الناس جماعة" (1) .
وكل ما ينفرد به الشيعة وتشذ به ليس من "هدي" علي - رضي الله عنه - وكان علي - رضي الله عنه - مع الأمة في إجماعها، لأن فيه الرشاد، لا في مخالفتهم كما تدعيه هذه الزمرة الحاقدة على الأمة، والتي تبغي فيها الفرقة والشتات، ولهذا لم نجد إجابة عن موافقة علي - رضي الله عنه - للأمة إلا بدعوى التقية، أي نفاق عليّ للصحابة - برأه الله مما يفترون - وهي دعوى تتناقض مع العقل والتاريخ، فضلاً عن الشرع والدين.
فلم يستطع شيوخ الشيعة - كما ترى - أن يثبتوا على علي تطبيقه لهذا الأصل المفترى، بل أقروا بموافقته للأمة على لسان شيخهم الشريف المترضى، وحتى إبّان خلافته، وامتلاكه لزمام الأمور والتي تنتفي معها "التقية" لم يقدروا على إنكار موافقته للأمة.
يقول شيخهم نعمة الله الجزائري: "ولما جلس أمير المؤمنين - عليه السلام - على سرير الخلافة لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن وإخفاء هذا؛ لما فيه من إظهار الشنعة على من سبقه، كما لم يقدر على النهي عن صلاة الضحى، وكما لم يقدر على إجراء المتعتين متعة الحج ومتعة النساء.. وكما لم يقدر على عزل شريح عن القضاء، ومعاوية عن الإمارة" (2) .
فثبت بنقل الفريقين أن أمير المؤمنين لم يفارق إجماع الأمة، وأن الإمامية قد خالفت سريته حينما وضعت لنفسها مبدأ مخالفة الأمة، فليست له بشيعة، وليس لها بإمام.
__________
(1) فتح الباري: 7/73
(2) الأنوار النعمانية: 2/362(1/422)
الباب الثاني: عقيدتهم في أصول الدين
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: عقيدتهم في توحيد الألوهية.
الفصل الثاني: عقيدتهم في توحيد الربوبية.
الفصل الثالث: عقيدتهم في أسماء الله وصفاته.
الفصل الرابع: عقيدتهم في الإيمان وأركانه.(2/424)
الفصل الأول: عقيدتهم في توحيد الألوهية
والمقصود بتوحيد الألوهيّة: إفراد الله تعالى بالعبادة؛ لأنّه سبحانه المستحقّ أن يُعبد وحده لا شريك له، وإخلاص العبادة له، وعدم صرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره (1) .
وهذا التوحيد هو الذي دعت الرسل إليه؛ لأن إقرار أقوامهم بتوحيد الربوبية معلوم، كما أخبر الله - عز وجل - عن أنبيائه نوح، وهود، وصالح، وشعيب أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) ، وأخبر سبحانه أن هذه دعوة الرسل عامة، فقال جل شأنه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (3) . وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) .
وهو أصل النّجاة، وأساس قبول العبادات: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (5) .
فهل حافظت الشيعة على هذا الأصل الأصيل، والركن المتين، أو أن اعتقادها في الأئمة قد أثر على عقيدتها في توحيد الله سبحانه؟ هذا ما سنتناوله بالحديث فيما يلي، حيث سأعرض لسبعة مباحث - إن شاء الله -.
__________
(1) انظر في تعريف توحيد الألوهيّة: شرح الطّحاويّة: ص 16، لوامع الأنوار: 1/29، تيسير العزيز الحميد: ص 36 وغيرها
(2) الأعراف، آية: 59، 65، 73، 85
(3) النحل، آية: 36
(4) الأنبياء، آية 25
(5) النّساء، آية: 48، 116(2/425)
أولها: اعتقادهم أن نصوص القرآن الواردة في أعظم أصل من أصول الدين، والذي وقع فيه الضلال في العالمين، وهو توحيد العبادة، اعتقادهم أن الغاية منه تقرير ولاية عليّ والأئمة وعدم إشراك أحد معهم في الإمامة.
والمبحث الثاني: اعتقادهم أن أصل قبول الأعمال هو الإيمان بإمامة الاثني عشر وولايتهم وليس توحيد الله عز وجل.
والمبحث الثالث: اعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله والخلق، حتى صاروا يعبدونهم ويدعونهم رغبًا ورهبًا.
والمبحث الرابع: اعتقادهم أن للأئمة حق التشريع والتحليل والتحريم.
والمبحث الخامس: اعتقادهم أن تراب قبر الحسين شفاء من كل داء، وأمان من كل خوف.
والمبحث السادس: دعاؤهم بالطلاسم والرموز لكشف البلايا ورفع الملمات، واستعانتهم بالمجهول لطلب الهداية.
والمبحث السابع: استخارتهم بما يشبه رقاع الجاهلية (1) .
__________
(1) هذه المسائل الأربع الأخيرة يمكن إلحاقها بوجه آخر في توحيد الربوبية، ولا شك أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية(2/426)
المبحث الأول: نصوص التوحيد جعلوها في ولاية الأئمة
فأول ما نفاجأ به أن نصوص القرآن التي تأمر بعبادة الله وحده، غيروا معناها إلى الإيمان بإمامة علي والأئمة، والنصوص التي تنهى عن الشرك جعلوا المقصود بها الشرك في ولاية الأئمة.
أـ ففي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (1) .
جاء في الكافي (2) . - أصح كتاب عندهم في الرواية - وفي تفسير القمي (3) . - عمدة تفاسيرهم - وفي غيرهما من مصادرهم المعتمدة (4) . تفسيرها بما يلي: "يعني إن أشركت في الولاية غيره" (5) ، وفي لفظ آخر: "لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علي من بعدك ليحبطن عملك" (6) . وقد ساق صاحب البرهان في تفسير القرآن أربع روايات لهم في تفسير الآية السابقة بالمعنى المذكور (7) .
وقد جاء في سبب نزولها عندهم: " ... إن الله عز وجل حيث أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليًا للناس علمًا اندس إليه معاذ بن جبل فقال: أشرك في ولايته الأول والثاني (يعنون أبا بكر وعمر) حتى يسكن الناس إلى قولك
__________
(1) الزمر، آية: 65
(2) أصول الكافي: 1/427 رقم (76)
(3) تفسير القمي: 2/251
(4) انظر: البرهان: 4/83، وتفسير الصافي: 4/328
(5) هذا لفظ الكليني في الكافي
(6) هذا لفظ القمي في تفسيره
(7) البرهان: 4/83(2/427)
ويصدقوك، فلما أنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (1) . شكا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبرائيل فقال: إن الناس يكذبوني ولا يقبلون مني، فأنزل الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
وحتى يدرك القارئ مدى تحريفهم لآيات الله، وتآمرهم لتغيير دين الإسلام بتغيير أصله العظيم وهو التوحيد، نسوق الآية وما قبلها وما بعدها، ونتبع ذلك ببيان معناها.
قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} .
فالآية كما هو واضح من سياقها تتعلق بتوحيد الله في عبادته، فهم غيروا الأمر فاعتبروا الآية متعلقة بعلي، مع أنه ليس له ذكر في الآية أصلاً، فكأنهم جعلوه هو المعبر عنه بلفظ الجلالة (الله) وجعلوا "العبادة" هي الولاية. والآية واضحة المعنى بينة الدلالة، ليس بين معناها وتأويلهم المذكور أدنى صلة.
قال أهل العلم في تفسيرها:
إن الله سبحانه أمر نبيه أن يقول هذا للمشركين لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام، وقالوا: هو دين آبائك (3) . والمعنى: قل يا محمد لمشركي قومك، أتأمرونني بعبادة غير الله أيها الجاهلون بالله ولا تصلح العبادة لشي سواه سبحانه. ولما كان الأمر بعبادة غير الله لا يصدر إلا من غبي جاهل ناداهم بالوصف المقتضي ذلك فقال: {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} . ثم بين سبحانه أنه قد أوحى إلى نبيه وإلى الرسل من
__________
(1) المائدة، آية: 67
(2) البرهان: 4/83
(3) وقد نقل ابن كثير وغيره عن بعض السلف أن هذا هو سبب نزولها. انظر: تفسير ابن كثير: 4/67، تفسري البغوي: 4/284(2/428)
قبله: لئن أشركت بالله ليبطلن عملك. وهذا في بيان خطر الشرك وشناعته، وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه؟
ثم قال سبحانه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} لا تعبد ما أمرك به المشركون بل اعبد الله وحده دون كل ما سواه من الآلهة والأوثان (1) .
فالمعنى كما ترى واضح جلي، لا يلتبس إلا على صاح هوى مغرض، قد أعماه هواه عن رؤية الحق، فهذه الزمرة التي وضعت هذه الروايات كان جل همها، وغاية قصدها البحث عن سند لدعواهم في الإمامة، فكانت تخبط في هذا الأمر خبط عشواء، لا تستند في الاستدلال إلى أصل من لغة أو عقل فضلاً عن الشرع والدين.
وفي ظني أنه لا يبعد أن يكون من بينها من يتعمد سلوك هذه المسالك.. حتى يبعد ناشئة الشيعة، وعقلاءها عن دين الإسلام، لأنهم إذا رأوا أن هذه الأدلة، والمسائل وأمثالها فاسدة في العقل، وظنوا أن هذا هو الإسلام شكوا في الإسلام نفسه، وهذه إحدى الأهداف البعيدة لتلك الزمرة الحاقدة التي رامت الكيد للأمة ودينها، وإبعاد الشيعة عن دين الإسلام، ولا سيما أنك تجد في النص الشيعي السالف الذكر النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث نسبوا إليه عليه الصلاة والسلام المخالفة بعدم امتثال أمر ربه ابتداء، وهو تنقص لمقام المعصوم (من قوم بالغوا في دعوى عصمة من دون النبي وهم الأئمة) وتنقص الأنبياء كفر (2) .
كذلك يظهر في النص الإساءة للمعصوم عليه الصلاة والسلام بتصويره في موقف الخائف الوجل من قومه، المتردد في تنفيذ أمر ربه، حتى إنه لم يفارق هذا الموقف إلا حينما نزل عليه التهديد بإحباط عمله.
ب ـ وفي قوله سبحانه: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ
__________
(1) انظر: تفسير الطبري: 24/24، تفسير القرطبي: 15/276-277، البحر المحيط لأبي حيان: 7/438، فتح القدير للشوكاني: 4/474، روح المعاني للألوسي: 24/23-24
(2) انظر: محمد بن عبد الوهاب/ رسالة في الرد على الرافضة: ص6(2/429)
يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا..} (1) .
وهذه الآية- كما هو واضح - تبين ما عليه أهل الشرك من إعراض عن عبودية الله وحده، وهي جواب المشركين حينما طلبوا الخروج من النار، والرجعة إلى الدنيا فقالوا: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} فكان جوابهم {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به وتركتم توحيده {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} غيره من الأصنام أو غيرها {تُؤْمِنُوا} بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، فهي مع ما قبله خبر عن جزاء المشركين في الآخرة، وأن مصيرهم إلى النار لا يخرجون منها، وأنهم يطلبون الرجعة إلى الدنيا ولا يجابون بسبب إشراكهم بالله في عبادته (2) .
ولكن الشيعة تروي عن أئمتها في تأويل الآية غير ما فهمه المسلمون منها. تقول: "عن أبي جعفر في قوله عز وجل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} بأن لعلي ولاية {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ} من ليست له ولاية {تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} " (3) .
ومعلوم أن هذا التأويل من جنس تأويلات الباطنية، إذ لا دلالة عليه من لفظ الآية ولا سياقها مطلقًا، ولذلك فإن صاحب مجمع البيان أعرض عن تأويلات طائفته حب رواياتها عن أئمتها وفسر الآية بمقتضى ظاهرها، وما قاله السلف
__________
(1) غافر، آية: 12
(2) انظر: تفسير الطبري: 24/48، تفسير البغوي: 4/93-94، تفسير ابن كثير: 4/79-80، فتح القدير: 4/484، تفسير القاسمي: 14/227، ابن سعدي/ تيسير الكريم الرحمن 6/512 وغيرها
(3) البرقي/ كنز جامع الفوايد ص277، بحار الأنوار: 23/364، وانظر: تفسير القمي: 2/256، أصول الكافي: 1/421، البرهان 4/93-94، تفسير الصافي: 4/337(2/430)
في تفسيرها (1) . لكن مثل هذه الأصوات المعتدلة سرعان ما تموت في جو التقية الخانق.
جـ وتمضي رواياتهم على ذلك المنهج الضال، والتأويل الفاسد، ففي قوله سبحانه: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (2) . قال أبو عبد الله - كما يفترون -: "أي إمام هدى مع إمام ضلال في قرن واحد" (3) .
إن هذه الروايات وأمثالها هي التربة الصالحة لنشوء الاتجاهات الغالية التي تؤله عليًا، والتي لا تزال تظهر في هذه الطائفة بين آونة وأخرى، وإلا فالآية لا صلة لها بإمامهم، بل هي لتقرير وحدانية الله، فالله جل شأنه قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} الآيات (4) .
يقول الله في آخر كل آية: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله؟ فاحتج عليهم بذلك، وأن ذلك يستلزم ألا يعبد إلا الله وحده (5) .
د ـ وإذا كان الله جل شأنه يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6) ، فإن تلك الزمرة التي وضعت روايات الشيعة قالت وكأنها تضاهي معنى هذه الآية أو تعارضه، قالت: "ما بعث الله نبيًا قط إلا بولايتنا والبراء من أعدائنا" (7) .
__________
(1) انظر: مجمع البيان: 5/186
(2) النمل، آية:61 ...
(3) بحار الأنوار: 23/391، كنز جامع الفوايد: ص207
(4) النمل، آية: 59-60
(5) شرح الطحاوية: ص25
(6) الأنبياء، آية: 25
(7) البرهان: 2/367، تفسير العياشي (انظر: المصدر السابق) ، تفسير الصافي: 3/134(2/431)
وفي رواية أخرى: "ولايتنا ولاية الله التي لم يبعث نبيًا قط إلا بها" (1) ، فجعلوا أمر إمامة أئمة لم يخلقوا هو أصل دعوة الأنبياء (2) .!!
هذا ورواياتهم في تأويل نصوص التوحيد والنهي عن الشرك بالمعنى المبتدع عندهم لا تكاد تخلو منها آية من آيات القرآن المتعلقة بالتوحيد، والنهي عن الشرك (3) ، ولهذا جعل أحد شيوخهم هذا التأويل قاعدة مطردة في القرآن فقال: "كل ما ورد ظاهره في الذين أشركوا مع الله سبحانه ربًا غيره من الأصنام التي صنعوها بأيديهم ثم عظموها وأحبوها والتزموا عبادتها وجعلوهم شركاء ربهم، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله بغير أمر من الله بل بآرائهم وأهوائهم، فبطنه وارد
__________
(1) أصول الكافي: 1/437 رقم (3)
(2) ونسبوا هذه الروايات وأمثالها لجعفر الصادق وأبيه - برأهما الله مما يفترون -، وذلك إمعانًا في التغرير بأولئك الأتباع الأغرار ممن حجبوا عقولهم عن رؤية الحق، وعطلوا ملكة التفكير عندهم، بإيحاءات متنوعة عبر مراحل العمر الممتدة في موضوع محن آل البيت، وحب آل البيت، والصراع بين الآل والأصحاب، ليخرج من ذلك الناشئ وقد شحنت عاطفته ونفسيته بالحقد والكراهية للصحابة، ولكل مسلم من غير طائفته.. وإن دراسة الآثار النفسية والتربوية لهذه الروايات على أولئك الأتباع ومقارنة ذلك بالحركات التاريخية لهم لهو موضوع حقيق بالدراسة ليتبين ضخامة الخطر لهذه الأساطير.. ورصد مكامن الضرر، التعرف على توجهات أولئك الباطنيين ضد الأمة ودينها
(3) ومن أمثلة هذه التأويلات: تحريفهم لمعنى قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} ... البقرة، آية: 165 ... بقولهم: "هم أولياء فلان وفلان اتخذوهم أئمة دون الإمام الذي جعله الله للناس إمامًا" (الغيبة للنعماني ص83، بحار الأنوار: 23/359، البرهان: 1/172) ، وقوله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} ... الروم، آية:30 ... بقولهم: "هي الولاية" (تفسير القمي: 2/154، أصول الكافي: 1/418، 419، كنز جامع الفوايد: ص 224، بحار الأنوار: 23/365، البرهان: 3/261) ، وقوله سبحانه: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} ... فصلت، آية: 6، 7 ... قالوا: "وويل للمشركين الذين أشركوا بالإمام الأول، وهم بالأئمة الآخرين كافرون ... " (تفسير القمي: 2/262، بحار الأنوار: 23/ 83-84، البرهان: 4/106، تفسير الصافي: 4/353) . وأمثال ذلك من التأويلات الخطرة لأعظم ركن من أكان الدين(2/432)
في الذين نصبوا أئمة بأيديهم وعظموهم وأحبوهم والتزموا طاعتهم وجعلوهم شركاء إمامهم الذي عينه الله لهم.." (1) .
ووضعهم هذا قاعدة يعني أن أخبارهم تواطأت وتضافرت لإثبات هذا المنكر، وهذا ما صرحوا به فقالوا: "إن الأخبار متضافرة إنّ الأخبار متضافرة في تأويل الشّرك بالله والشّرك بعبادته بالشّرك في الولاية والإمامة؛ أي يشرك مع الإمام من ليس من أهل الإمامة، وأن يتّخذ مع ولاية آل محمد رضي الله عنهم (أي الأئمّة الاثنا عشر) ولاية غيرهم" (2) .
وهكذا لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من موضوع التوحيد والنهي عن الشرك إلا وراموا تحريفها وتعطيل معناها وتحويلها إلى ولاية علي والأئمة ولو كانت صريحة واضحة بينة.
وهذه التأويلات هي مفتاح كل شر، وباب كل فتنة (3) ، كيف وهي تتعلق بأصل الدين، وما اتفقت عليه دعوة المرسلين، وبه نزلت الكتب، ومن أجله أرسلت الرسل، وبه انقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في الجحيم.
وقبل أن نرفع القلم في هذه المسألة أشير إلى رواية من كتبهم تنقض تأويلاتهم، وتبين أصلها ومنبتها، فقد جاء في تفسيرهم "البرهان": عن حبيب بن معلى الخثعمي قال: ذكرت لأبي عبد الله رضي لله عنه ما يقول أبو الخطاب، فقال: أجل إليّ ما يقل. قال: في قوله عز وجل: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أنه أمير المؤمنين {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} فلان وفلان (4) . قال أبو عبد الله:
__________
(1) مرآة الأنوار: ص100، وانظر: ص58 من المرجع المذكور
(2) مرآة الأنوار: ص202
(3) للعلامة ابن القيم حديث قيم عن فساد التأويل، وما جره على الأمة من المصائب "وإن أصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه، ولا دل على أنه مراده". (انظر: أعلام الموقعين: 4/250-254)
(4) يعني بهما: أبا بكر وعمر رضي الله عنهما(2/433)
من قال هذا فهو مشرك بالله عز وجل ثلاثًا أنا إلى الله منهم بريء ثلاثًا، بل عني الله بذلك نفسه، قال: فالآية الأخرى التي في حم قول الله عز وجل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} ثم قلت: زعم أنه يعني بذلك أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبد الله: من قال هذا فهو مشرك بالله عز وجل ثلاثًا أنا إلى الله منهم بريء ثلاثًا، بل عني الله بذلك نفسه، قال: فالآية الأخرى التي في حم قول الله عز وجل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} ثم قلت: زعم أنه يعني بذلك أمير المؤمنين صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبد الله: من قال هذا فهو مشرك بالله ثلاثًا أنا إلى الله منهم بريء ثلاثًا، بل عني الله بذلك نفسه" (1) .
وقد مرّ أن الآية الأخيرة التي أشارت إليها الرواية جاء تأويلها بمثل ما قال أبو الخطاب في عدد من مصادرهم المعتمدة كالكافي، والبرهان، والبحار، وتفسير الصافي وغيرها كما سلف (2) . أما الآية الأولى فقد جاء تأويلها بمثل هذا المنكر الذي أنكره أبو عبد الله - باعترافهم - في رواية ينسبونها لأبي عبد الله خرجها صاحب الكافي (3) . وذكرها صاحب البحار (4) . وغيرهما (5) .
فأبو عبد الله يحكم على شيوخ الشيعة الذين ارتضوا هذا التأويل بالشرك.
وقد جاءت عندهم روايات كثيرة ليست من قبيل التأويل للآيات، بل هي أحاديث مستقلة عن أئمتهم تؤصل هذا المنكر، وتثبت قاعدته، كقولهم: "من أشرك مع إمام إمامته من عند الله من ليست إمامته من الله كان مشركًا" (6) .
وفي هذا المعنى عدة روايات (7) .
وأكد ذلك شيوخهم، قال صدوقهم ابن بابويه: ".. إن الله هو الذي لا يخليهم في كل زمان من إمام معصوم، فمن عبد ربًا لم يقم لهم الحجة، فإنما عبد
__________
(1) البرهان: 4/78
(2) انظر: ص (430)
(3) روضة الكافي: ص304
(4) ذكرها في موضعين ص362، وص368 من الجزء الثالث والعشرين
(5) انظر: البرقي/ كنز جامع الفوايد: ص271
(6) النّعماني/ الغيبة ص 82، بحار الأنوار: 22/78
(7) انظر - مثلاً -: أصول الكافي: 1/437(2/434)
غير الله عز وجل" (1) .
وهو يعني أن من آمن بالله سبحانه ربًا، وأخلص له العبادة، ولكن اعتقد أنه لم يول عليًا، ولم ينص على إمامته، فقد عبد غير الله!!.
وأخذوا من هذه النصوص وغيرها الحكم بتكفير من عداهم من المسلمين.
قال المجلسي: "اعلم أنّ إطلاق لفظ الشّرك والكفر - يعني في نصوصهم - على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمّة من ولده عليهم السّلام، وفضّل عليهم غيرهم يدلّ أنّهم كفّار مخلّدون في النار" (2) .
وكل ذلك دعاوى لا سند لها من كتاب الله سبحانه وهي غير دين الإسلام تمامًا ولو كان شيء مما يقولون حقًا لكان له ذكر في كتاب الله في آيات كثيرة صريحة مبينة لا لبس فيها ولا غموض تبين للأمة هذا الأمر، ولو كان شيء من ذلك واقعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا واضحًا وشافيًا كافيًا، ولنقلته الأمة بأجمعها.. وأصبح من الأمور المشهورة المعروفة.. ولم يستقل بنقله حثالة من الكذابين.
ولو كان شيء من ذلك حقًا لما أعرض عنه صحابة رسول الله، ولما تخلفوا عن القيام به، وهم الذين بذلوا المال والنفس وهجروا الأهل والولد وفارقوا الأوطان واعتزلوا القرابة والعشيرة، وبذلوا حياتهم لهذا الدين.
وآيات القرآن صريحة واضحة في أن أصل هذا الدين وأساسه هو توحيد الله سبحانه وإفراده جل شأنه بالعبودية، وشواهد هذا في القرآن كثير {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (3) . {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ} (4) . {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} (5) . وغير ذلك كثير.
__________
(1) علل الشرائع ص14، بحار الأنوار: 23/83
(2) بحار الأنوار: 23/ 390، وسيأتي - إن شاء الله - حديث عن تكفيرهم للصّحابة وغيرهم ممّن لم يؤمن بأئمّتهم في الباب الثّالث
(3) الإسراء، آية:23
(4) البقرة، آية:83
(5) الرعد، آية:36(2/435)
أما ولاية الاثني عشر فليس لها ذكر على وجه الإطلاق في كتاب الله. وقد اعترفت بذلك نصوصهم - كما سلف -. فهذه التحريفات والتأويلات الخطرة ابتداع في الدين كبير، وإغفال لأصل الدين العظيم.. وفتح لأبواب الشرك، وتيسير لأسبابه.(2/436)
المبحث الثاني: الولاية أصل قبول الأعمال عندهم
إن التوحيد هو أصل قبول الأعمال، والشرك بالله سبحانه هو سبب بطلانها. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (1) ، ولكن الشيعة جعلوا ذلك كله لولاية الاثني عشر، وجاءت رواياتهم لتجعل المغفرة والرضوان والجنات لمن اعتقد الإمامة وإن جاء بقراب الأرض خطايا، والطرد والإبعاد والنار لمن لقي الله لا يدين بإمامة الاثني عشر، فقالوا: "إنّ الله عزّ وجلّ نصب عليًّا علمًا بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنًا، ومن أنكره كان كافرًا، ومن جهله كان ضالاً، ومن نصب معه شيئًا كان مشركًا، ومن جاء بولايته دخل الجنّة" (2) .
وقالوا في رواياتهم: " ... فإن من أقر بولايتنا ثم مات عليها قبلت منه صلاته، وصومه، وزكاته، وحجه، وإن لم يقر بولايتنا بين يدي الله جل جلاله لم يقبل الله عز وجل شيئًا من أعماله" (3) .
وقال أبو عبد الله - كما يزعمون -: "من خالفكم وإن تعبد منسوب إلى هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} " (4) .
وزعموا أن جبرائيل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، السلام يقرئك السلام ويقول: "خلقت السماوات السبع وما فيهن، والأرضين السبع وما
__________
(1) النساء، آية: 48، 116
(2) أصول الكافي: 1/ 437
(3) أمالي الصدوق: ص154، 155
(4) الآيات من سورة الغاشية 2-4، والنص في تفسير القمي: 2/419(2/437)
عليهن، وما خلقت موضعًا أعظم من الركن والمقام، ولو أن عبدًا دعاني هناك منذ خلقت السّماوات والأرضين ثم لقيني جاحدًا لولاية علي لأكببته في سقر" (1) .
ولا تترك رواياتهم وجهًا من أوجه المبالغة في عبادة جاحد الولاية وعدم نفعها له إلا وتذكره حتى قالت: " ... لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه إلا بولايتنا أهل البيت" (2) .
وزعمت أن الله قال - كما يفترون -: "يا محمد، لو أنّ عبدًا يعبدني حتى ينقطع ويصير كالشّنّ ثم أتاني جاحدًا لولايتهم ما أسكنته جنّتي ولا أظللته تحت عرشي" (3) . وادعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو جاء أحدكم يوم القيامة بأعمال كأمثال الجبال ولم يجئ بولاية علي بن أبي طالب لأكبّه الله عزّ وجلّ بالنّار" (4) .
"ولو أن عبدًا جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبيًا ما قبل الله ذلك منه حتى يلقاه بولايتي وولاية أهل بيتي" (5) .
بل إنهم جعلوا التوحيد لا يقبل إلا بالولاية، ففي أخبارهم "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنّة، فقال رجلان من أصحابه: فنحن نقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّما تقبل شهادة أن لا إله إلا الله من هذا وشيعته، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأس عليّ وقال لهما: من علامة ذلك ألا تجلسا مجلسه ولا تكذبا قوله ... " (6) . فهذا يقتضي عندهم أن الولاية مقدمة على الشهادة وهي أساس قبولهم.. ولا تقبل الشهادة إلا من شيعة علي.
__________
(1) أمالي الصّدوق: ص 290، بحار الأنوار: 27/167
(2) الخصال: 1/41، المحاسن: ص224، بحار الأنوار: 27/167، 168.
(3) بحار الأنوار: 27/ 169
(4) أمالي الشّيخ الطّوسي: 1/314
(5) بحار الأنوار: 27/172
(6) بحار الأنوار: 27/ 201(2/438)
واعتقاد الإمامة هو مناط عفو الله ومغفرته، وإنكارها هو سبب سخط الله وعقابه، وجاءت عندهم بهذا المعنى روايات كثيرة؛ فقد رووا "عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل عن الله عز وجل قال: وعزتي وجلالي لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام جائر ليس من الله عز وجل، وإن كانت الرعية في أعمالها برة تقية، ولأعفون عن كل رعية دانت بولاية إمام عادل من الله تعالى، وإن كانت الرعية في أعمالها طالحة سيئة" (1) .
ورواياتهم في هذه المسألة كثيرة جاء على أكثرها صاحب البحار، فقد ذكر مثلاً عشرين رواية في "باب أنهم عليهم السلام أهل الأعراف.. لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه" (2) . وإحدى وسبعين رواية في "باب أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية" (3) . وغيرها.
وكل هذه الروايات ليست من الإسلام في شيء، فأمامنا كتاب الله سبحانه ليس فيه مما يدعون شيء، وهو الفيصل الأول، والمرجع الأول في كل خلاف.
القرآن العظيم ذكر أن اصل قبول الأعمال هو التوحيد وسبب الحرمان هو الشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (4) ، {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (5) .
وكل ما ذكر من مبالغات الشيعة تكذبها آيات القرآن؛ فالله سبحانه يقول: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} (6) . ولم يذكر سبحانه من ضمن ذلك الولاية، وكذلك قال سبحانه: {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (7) .
__________
(1) النعماني/ الغيبة: ص83، بحار الأنوار: 27/201
(2) بحار الأنوار: 24/247-256
(3) المرجع السابق: 27/166-202
(4) المائدة، آية: 72
(5) النساء، آية: 48، 116
(6) البقرة، آية:62
(7) المائدة، آية:69(2/439)
وهم يزعمون أو ولاية الاثني عشر أعظم من الصلاة وسائر أركان الإسلام (1) . والصلاة ذكرت في القرآن بلفظ صريح واضح في أكثر من ثمانين موضعًا، ولم تذكر ولايتهم مرة واحدة.. فهل أراد جل شأنه ضلال عبادة، أو لم يبين لهم طريق الوصول إليه!! سبحانه هذا بهتان عظيم: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} (2) .
وقد جاء في رواياتهم ما ينقض ما قالوه، وإن كانت لا تلبث تأويلاتهم، أو تقيتهم من وأد مثل هذه النصوص المعتدلة، ولكن أذكر ذلك لإقامة الحجة عليهم من كتبهم، ولبيان ما عليه نصوصهم من تناقض.. جاء في تفسير فرات: "قال علي بن أبي طالب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما نزلت: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (3) . قال جبرائيل: يا محمد، إن لكل دين أصلاً ودعامة، وفرعًا وبنيانًا، وإن أصل الدين ودعامته قول: لا إله إلا الله، وإن فرعه وبنيانه محبتكم أهل البيت وموالاتكم فيما وافق الحق ودعا إليه" (4) .
فهذا النص يخالف ما تذهب إليه أخبارهم، حين يجعل أصل الدين شهادة التوحيد، لا الولاية، ويعد محبة أهل البيت هي الفرع وهي مشروطة بمن وافق الحق منهم ودعا إليه.
__________
(1) انظر في فصل الإمامة من الباب الثالث في هذا الكتاب
(2) التوبة، آية:115
(3) الشورى، آية:23
(4) تفسير فرات: ص148-149، بحار الأنوار: 23/247(2/440)
المبحث الثالث: اعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله والخلق
يقول الاثنا عشرية: إن الأئمة الاثني عشر هم الواسطة بين الله وخلقه. قال المجلسي عن أئمته: "فإنهم حجب الرب، والوسائط بينه وبين الخلق" (1) .
وعقد لذلك بابًا بعنوان "باب أن الناس لا يهتدون إلا بهم، وأنهم الوسائل بين الخلق وبين الله، وأنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم" (2) .
وجاء في أخبارهم أن أبا عبد الله قال: "نحن السّبب بينكم وبين الله عزّ وجلّ" (3) .
وجاء في كتاب "عقائد الإمامية" أن الئمة الاثني عشر هم: "أبواب الله والسبل إليه ... إنهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق" (4) .
وإذا كان المسلمون يعتقدون أن الرسل هم الواسطة بين الله والناس في تبليغ أمر الله وشرعه، فإن الاثني عشرية تعتقد أن هذا المعنى موجود في الأئمة، لأنهم يتلقون من الله - كما مر في فصل عقيدتهم في السنة - وتزيد على ذلك فتجعل لهم من خصائص الألوهية ما يخرج بمن يؤمن به من دين التوحيد إلى دين المشركين حين تجعل هداية الخلق إليهم، وأن الدعاء لا يقبل إلا بأسمائهم، وأنه يستغاث بهم عد الشدائد والملمات، ويحج إلى مشاهدهم، والحج إليهم أفضل من الحج إلى بيت الله، وكربلاء أفضل من الكعبة، ولزيارة أضرحة الأئمة مناسك وآداب سموها
__________
(1) بحار الأنوار: 23/97
(2) المصدر السابق: 23/97
(3) السّابق: 23/101
(4) عقائد الإمامة/ للمظفر: ص98-99.(2/441)
"مناسك المشاهد" وجعلوها تحج كما يحج بيت الله الذي جعله الله قيامًا للناس، ويطاف بها كما يطاف بالبيت، وتتخذ قبلة كبيت الله الحرام.
وسأعرض - إن شاء الله - لهذه المسائل من خلال النقل الأمين - بحول الله - من كتب الشيعة المعتمدة عندها.
وقبل أن أعرض لهذه المسائل أبين أن دعوى «الواسطة» للأئمة غريبة على نصوص الإسلام، بل هي منكرة، لأنها عين دين المشركين، وقد بعث الرسل لتخليص البشرية من هذا الشرك.
وليس بين المسلم في عبادته لربه ودعائه له، حجب تمنعه، ولا واسطة تحجبه. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) .
وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (2) .
وقال أهل العلم: "إن من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كَفَرَ إجماعًا؛ لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3) ." (4) .
وحينما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن قال: لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإننا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك.
أجاب - رحمه الله - بقوله: إن أراد أنه لابد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به وينهى عنه إلا
__________
(1) البقرة، آية: 186
(2) غافر، آية:60
(3) الزمر، آية:3
(4) انظر: البهوتي/ كشاف القناع: 6/168-169(2/442)
بواسطة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهذا ما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} ، ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل.
وإن أرادوا بالواسطة: أنه لابد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم، يسألون ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويدفعون بهم المضار، فمن جعل الأنبياء أو الملائكة أو الأئمة والأولياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب وتفريج الكربات، وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين.
إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذي بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده وينصرهم ويرزقهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألوهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائل أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل (1) .
وأعود - الآن - لعرض المسائل التي أشرت إليها آنفًا من خلال كتب الشيعة نفسها لتتضح حقيقة الشرك والدعوة إليه الكامنة في المذهب الإمامي الاثني
__________
(1) انظر: ابن تيمية/ الواسطة بين الخلق والحق (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 1/121 وما بعدها، جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم) وانظر: أبا بطين/ الانتصار لحزب الله الموحدين ص30-31(2/443)
عشري.
المسألة الأولى: قولهم: لا هداية للناس إلا بالأئمة
قال أبو عبد الله: "بلية الناس عظيمة؛ إن دعوناهم لم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا" (1) .
فهذا النص يقرر أن هداية الناس لا تتحقق إلا بالأئمة، وأن الناس في بلاء وضلال دائم لأنهم يرفضون إجابة دعوة الأئمة.
وكلا الحكمين (حصر الهداية بالأئمة، والحكم بالضلال على الناس) باطل من القول وزور لمخالفته للنقل والعقل والواقع.
ومرة أخرى تقول أخبارهم: "قال أبو جعفر: بِنَا عُبِدَ الله، وبِنَا عُرِفَ الله، وبِنَا وُحِّدَ الله" (2) .
فهي لا تنفي الهداية عن الأمة، ولكن تجعل مصدرها الأئمة.
والحق أن الهداية بمعنى التوفيق إلى الحق وقبوله، لا يملكها إلا رب العباد، ومقلب القلوب والأبصار، والذي يحول بين المرء وقلبه، والذي إذا قال للشيء: كن فيكون.. والشيعة في إطلاقها هذه العبارات بلا أي قيد تجعل لأئمتها مشاركة لله جل شأنه في هذه الهداية، وهو شرك أكبر؛ فالله سبحانه هو الهادي وحده لا شريك له.
قال تعالى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} (3) . ويقول لنبيه - عليه السلام -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (4) .
__________
(1) أمالي الصدوق: ص363، بحار الأنوار: 23/99
(2) بحار الأنوار: 23/103
(3) الكهف، آية:17
(4) القصص، آية: 56(2/444)
أما هداية الدلالة على الحق والإرشاد إليه فهذه وظيفة الرسل ومن تبعهم بإحسان، ولا تنحصر في الاثني عشر. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) . وإطلاق القول بأن هداية العباد لا تتم إلا بالأئمة جرأة على الله سبحانه.
المسألة الثانية: قولهم: لا يقبل الدعاء إلا بأسماء الأئمة
قالوا: لا يفلح من دعا الله بغير الأئمة، ومن فعل ذلك فقد هلك.
جاء في أخبارهم عن الأئمة: "من دعا الله بنا أفلح، ومن دعا بغيرنا هلك واستهلك" (2) . وبلغت جرأتهم في هذا الباب أن قالوا: "إنّ دعاء الأنبياء استجيب بالتّوسل والاستشفاع بهم صلوات الله عليهم أجمعين" (3) .
وقد استشهد على ذلك المجلسي بإحدى عشرة رواية من رواياتهم (4) . كما عرض لروايات كثيرة مماثلة في أبواب أحوال الأنبياء، وبالأخص في أحوال آدم وموسى وإبراهيم، وكذا في أبواب معجزات النبي (5) .
وجاءت روايات كثيرة في هذا المعنى في عدد من مصادرهم المعتمدة (6) . وهذا "الزعم" الخطير يهدف بطريقة ماكرة، وأسلوب مقنع إلى "تأليه الأئمة" وأنهم ملجأ المحتاجين ومفزع الملهوفين وأمان الخائفين وقبلة الداعين، ولا تستجاب الدعوات إلا بذكر أسمائهم، فأي فرق بين هذا وبين ما يزعمه المشركون في أصنامهم؟!
نعم هناك فرق، وهو أن المشركين في وقت الشدة يخلصون الدعاء لله
__________
(1) يوسف، آية:108
(2) الطّبري/ بشارة المصطفى: ص117-119، البحار: 23/103، وسائل الشّيعة: 4/1142
(3) وهذا أحد أبواب بحار الأنوار: 26/319
(4) انظر: بحار الأنوار: 26/319-334
(5) بحار الأنوار: 26/334
(6) انظر- مثلاً -: تفسير العياشي: 1/41، ابن بابويه/ الخصال: 1/130، معاني الأخبار ص42، الطبرسي/ الاحتجاج: ص27، 28، وانظر: تفسير الحسن العسكري: ص117، 118، وسائل الشيعة: 4/1139 وغيرها(2/445)
{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) . هذه الآية تبني ما هو الشّرك وما هو التّوحيد، فهي تتعلّق بالإخلاص في الدّعاء عند اضطراب الموج ولا تتعلّق بالإمامة. أما هؤلاء فإنهم يشركون في الرخاء والشدة، بل يزعمون أن الشدة لا ترفع إلا بالدعاء بأسماء الأئمة.
تقول إحدى رواياتهم: "عن الرضا عليه السلام قال: لمّا أشرف نوح عليه السّلام على الغرق دعا الله بحقّنا فدفع الله عنه الغرق، ولمّا رمي إبراهيم في النّار دعا الله بحقّنا فجعل الله النّار عليه بردًا وسلامًا، وإنّ موسى عليه السّلام لمّا ضرب طريقًا في البحر دعا الله بحقّنا فجعله يبسًا، وإنّ عيسى عليه السّلام لمّا أراد اليهود قتله دعا الله بحقّنا فنجّي من القتل فرفعه الله" (2) .
وكما أن الاستجابة لدعاء الأنبياء بسبب الأئمة، فإن ما جرى لبعض الأنبياء هي بزعمهم بسبب موقفهم من الأئمة، فآدم عليه السلام - كما يفترون - ".. لما أسكنه الله الجنة مثّل له النبي وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم فنظر إليهم بحسد، ثم عرضت عليه الولاية فأنكرها فرمته الجنة بأوراقها، فلما تاب إلى الله من حسده وأقر بالولاية ودعا بحق الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم غفر الله له، وذلك قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} (3) . "كما ادعوا أنّ يونس عليه السّلام حبسه الله في بطن الحوت لإنكاره ولاية علي بن أبي طالب ولم يخرجه حتى قبلها" (4) .
هذا ما تقوله الشيعة وتفتريه، ولكن يقول الله سبحانه: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5) . ولم يقل سبحانه: فادعوه بأسماء الأئمة أو مقامات الأئمة أو مشاهدهم.
كما قال جل شأنه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (6) . ولو كان
__________
(1) العنكبوت، آية: 65
(2) بحار الأنوار: 26/325، وسائل الشّيعة: 4/1143
(3) البقرة، آية: 37، والنص المذكور في: تفسير العياشي: 1/41، بحار الأنوار: 26/326
(4) تفسير فرات ص13، بحار الأنوار: 26/333-334
(5) الأعراف، آية:180
(6) غافر، آية:60(2/446)
أساس قبول الدعاء ذكر أسماء الأئمة لقال: ادعوني بأسماء الأئمة أستجب لكم، بل إن هذا الأمر الذي تدعيه الشيعة وتفتريه من أسباب رد الدعاء وعدم قبوله، لأن الإخلاص في الدعاء لله أصل في الإجابة والقبول. قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) . {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) .
وهؤلاء الأئمة هم من سائر البشر {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (3) .
ولم يجعل الله عز وجل بينه وبين خلقه في عبادته ودعائه وليًا صالحًا ولا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً، بل الجميع عباد الله {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ... } (4) . الآية، {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (5) .
وتربية الشيعي من خلال أدعيته ومناجاته لله على هذا المنهج هي تربية خطيرة.. حيث تزرع في قلبه ومشاعره الاتجاه إلى غير الواحد القهار، وتنمي في نفسه التوجه إلى البشر لا إلى خالق البشر، ويترعرع في هذا المحضن الوثني لينشأ أولاده وأحفاده على هذه الطريق، ولربما ينسى ذكر الله سبحانه أصلاً؛ لأن ذكر الأئمة في لسانه، ووجودهم في قلبه حين الدعاء والتوجه.
ويتركز ذلك من خلال الكلمة والقدوة.
وقد صرحت بعض رواياتهم بشيء من هذا المعنى، حيث تقول بأن بعض الشّيعة كتب إلى إمامه يشتكي أو يسأل ويقول: "إنّ الرّجل يحبّ أن يفضي إلى إمامه ما يحبّ أن يفضي إلى ربّه" فجاء الجواب: "إذا كانت لك حاجة فحرّك
__________
(1) غافر، آية:14
(2) الأعراف، آية:29
(3) الأعراف، آية:194
(4) النساء، آية:172
(5) مريم، آية:93(2/447)
شفتيك، فإنّ الجواب يأتيك" (1) . فهم أسرع إجابة وأقضى للحاجة، وهذا شرك يهون عند شرك الجاهلية الأولى.. وواقع مشاهد الشيعة ومزاراتهم يعبر عن الثمرات المرة لهذه الأساطير.
ودعوى أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل بالأئمة هي دعوى جاهلة غبية؛ إذ ليس للأئمة وجود في حياة الأنبياء عليهم السلام، وهي دعوة للشرك بالله سبحانه؛ إذ إنهم جعلوا مفتاح الإجابة وأساس القبول هو ذكر أسماء الأئمة، فهي كقول المشركين بأن أصنامهم تقربهم إلى الله زلفى.. وهي زعم باطل، إذ إن الأنبياء عليهم السلام - كما جاء في قول أصدق القائلين - إنما دعوا الله عز وجل باسمه سبحانه وبوحدانيته جل شأنه. قال سبحانه عن يونس: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) .
والكلمات التي قالها آدم عليه السلام وزوجه هي كما قال الله سبحانه: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
وهذه المقالة من الشيعة معلوم فسادها من الدين بالضرورة، وهي من وضع زنديق ملحد أراد إدخال الشرك في دين الإسلام {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4) .
ونقلت كتب الشيعة نفسها ما يناقض هذه الدعوى عن الأئمة في مناجاتهم لله ودعائهم له، فأمير المؤمنين كان يقول كما تنقل كتب الشيعة: "إلهي أفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم علي بليتي، ثم قال: آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه!
__________
(1) بحار الأنوار: 94/22
(2) الأنبياء، آية:87
(3) الأعراف: آية:23
(4) الصف، آية:8(2/448)
فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته" (1) .
وما من إمام إلا قد رووا عنه الكثير من أمثال هذا الدعاء، مما لا يتسع المجال لعرضه وقد أتى على أكثره المجلسي في بحاره (2) .
المسألة الثالثة: الاستغاثة (3) بالأئمة
لا يستغاث إلا بالله وحده، ولكن الشيعة تدعو إلى الاستغاثة بأئمتها فيما لا يقدر عليه إلا الله وحده، وقد خصصت بعض رواياتها وظيفة كل إمام في هذا الباب فقالت: ".. أمّا عليّ بن الحسين فللنّجاة من السّلاطين ونفث الشّياطين، وأمّا محمّد بن علي وجعفر بن محمّد فللآخرة وما تبتغيه من طاعة الله عزّ وجلّ، وأمّا موسى بن جعفر فالتمس به العافية من الله عزّ وجلّ، وأمّا عليّ بن موسى فاطلب به السّلامة في البراري والبحار، وأمّا محمّد بن علي فاستنزل به الرّزق من الله تعالى، وأمّا عليّ بن محمّد فللنّوافل وبرّ الإخوان وما تبتغيه من طاعة الله عزّ وجلّ، وأمّا الحسن بن عليّ فللآخرة، وأمّا صاحب الزّمان فإذا بلغ منك السّيف الذّبح فاستعن به فإنّه يعينك" (4) .
ثم جاء صاحب البحار بدعاء يتضمن الاستغاثة بالأئمة على هذا النحو السالف الذكر اعتبره من قبيل الشرح لهذا النص (5) .
وقد قرر المجلسي أنهم - كما يزعم - "الشّفاء الأكبر والدّواء الأعظم لمن
__________
(1) أمالي الصّدوق ص48، بحار الأنوار: 94/92
(2) ولا سيما في الجزء الرابع والتسعين
(3) الاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والفرق بين الدعاء والاستغاثة: أن الدعاء عام في كل الأحوال، والاستغاثة هي الدعاء لله في حالة الشدائد (انظر: ابن تيمية/ الرد على البكري ص88، سليمان بن عبد الوهاب/ تيسير العزيز الحميد: ص214-215، ابن سعدي/ القول السديد ص48-49)
(4) بحار الأنوار: 94/33
(5) انظر: المصدر السابق: 94/33(2/449)
استشفى بهم" (1) .
وأدعيتهم تنسج على هذا المنوال، حيث الأئمة عندهم هم المستغاث والمرتجى، فيتوجه الشيعي للإمام ويقول - كما جاء في رواياتهم - عن إمامهم المنتظر:
".. أركان البلاد، وقضاة الأحكام، وأبواب الإيمان.. منائح العطاء، بكم إنفاذه محتومًا مقرونًا، فما شيء منه إلا وأنتم له السّبب وإليه السّبيل.. فلا نجاة ولا مفزع إلا أنتم، ولا مذهب عنكم يا أعين الله النّاظرة.." (2) .
ولا يخفى ما في هذا النص من تأليه للأئمة، حيث جعلهم سبب كل شيء، ولا مفزع إلا إليهم، وبهم العطاء محتومًا ... !!
وأدعية كثيرة تسير على هذا الضلال في الغلو بالأئمة إلى مقام خالق الأرض والسماوات، وهي قد جمعت في كتب الأدعية عندهم كمفاتيح الجنان وعمدة الزائر وغيرهما، وقد وردت في كتبهم المعتمدة في أبواب المزار، والأدعية، ودراستها وجمعها وتحليلها يحتاج إلى بحث مستقل، وترى في تلك الأدعية السبئية قد أطلت بوجهها المظلم الذي يؤله عليًا من خلال هاتيك الدعوات والاستغاثات.
وهناك "رقاع" تكتب، وتوضع على قبول الأئمة، لأن قبور الأئمة وأضرحتهم التي لا تنفع ولا تضر هي - بزعمهم - مناط الرجاء ومفزع الحاجات. قالوا: "إذا كان لك حاجة إلى الله عزّ وجلّ فاكتب رقعة على بركة الله، واطرحها على قبر من قبور الأئمّة إن شئت، أو فشدّها واختمها واعجن طينًا نظيفًا واجعلها فيه، واطرحها في نهر جارٍ، أو بئر عميقة، أو غدير ماء، فإنّها تصل إلى السّيّد عليه السّلام وهو يتولّى قضاء حاجتك بنفسه" (3) .
ثم ذكروا أنه يكتب في هذه الرّقعة: "بسم الله الرّحمن الرّحيم، كتبت إليك
__________
(1) بحار الأنوار: 94/33
(2) بحار الأنوار: 94/37
(3) بحار الأنوار: 94/29(2/450)
يا مولاي صلوات الله عليك مستغيثًا، فأغثني يا مولاي صلوات الله عليك عند اللهف، وقدّم المسألة لله عزّ وجلّ في أمري قبل حلول التّلف وشماتة الأعداء، فبك بسطت النّعمة عليّ، واسأل الله (الخطاب للإمام في قبره) جلّ جلاله لي نصرًا عزيزًا.." (1) .
ثم ذكروا بأنه يصعد النّهر أو الغدير وينادي على أحد أبواب المنتظر (2) . فينادي أحدهم ويقول: "يا فلان بن فلان سلام الله عليك، أشهد أنّ وفاتك في سبيل الله وأنت حيّ عند الله مرزوق، وقد خاطبتك في حياتك التي لك عند الله جلّ وعزّ، وهذه رقعتي وحاجتي إلى مولانا عليه السّلام فسلّمها إليه فأنت الثّقة الأمين" (3) .
قالوا: "ثم ارم بها في النّهر وكأنّك تخيل لك أنّك تسلّمها إليه" (4) .
وهناك رسائل أيضًا تبعث إلى المنتظر المعدوم لطلب الاستغاثة.
وقد قرر المحققون من أهل العلم بالأنساب والتواريخ أن هذا المنتظر الذي تنتظره الرافضة لم يولد أصلاً؛ لأن الحسن العسكري مات عقيمًا - كما سيأتي - ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا المنتظر: "وهو شيء لا حقيقة له ولم يكن هذا في الوجود قط" (5) . ومع هذا فقد وضعوا من الروايات في مشروعية إرسال رقاع إلى هذا المعدوم لطلب الاستغاثة والنجدة فيما لا يقدر عليه إلا الله، فمن ذلك أيضًا:
قالوا: تكتب رقعة إلى صاحب الزّمان وتكتب فيها "بسم الله الرّحمن الرّحيم،
__________
(1) بحار الأنوار: 94/29-30
(2) وهم أربعة: عثمان بن سعيد، أو ابنه محمد، أو الحسن بن روح، أو علي السّمري. (بحار الأنوار: 94/30) ، وانظر: فصل الغيبة من هذه الرسالة
(3) بحار الأنوار: 94/3
(4) بحار الأنوار: 94/3
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 28/401(2/451)
توسّلت بحجّة الله الخلف الصّالح محمد بن الحسن (1) . بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، النّبأ العظيم، والصّراط المستقيم، والحبل المتين، عصمة الملجأ، وقسيم الجنّة والنّار أتوسّل إليك بآبائك الطّاهرين.. وأمّهاتك الطّاهرات، الباقيات الصّالحات.. أن تكون وسيلتي إلى الله عزّ وجلّ في كشف ضرّي وحلّ عقدي وفرج حسرتي، وكشف بليّتي ... " (2) .
قالوا: "ثم تكتب رقعة أخرى لله سبحانه وتطيب الرّقعتين، وتُجمل رقعة الباري تعالى في رقعة الإمام رضي الله عنه وتطرحهما في نهرٍ جارٍ أو بئر ماء بعد أن تجعلهما في طين حرّ (3) ." (4) .
انظر في هذا النص وصفه لهذا المعدوم بأنه عصمة الملجأ، وفارج الحسرة، وكاشف البلية. وهي صفات لا تطلق إلا على من يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ومن يهدي من يعتصم به إلى صراط مستقيم وهو الخالق جل علاه. ولكن هؤلاء جعلوا لهذا المعدوم خصائص الرب عز وجل.
وتأمل قوله في نهاية النص: "وتجعل رقعة الباري في رقعة الإمام" فكأنهم يجعلون هذا المعدوم هو المقدّم في طلب الحاجات!!
ثم ساق المجلسي استغاثة أخرى بهذا المنتظر، وفيها "ارجع فيما أنت بسبيله إلى الله تعالى، واستعن بصاحب الزمان (5) . عليه السلام، واتخذه لك مفزعًا، فإنه نعم المعين، وهو عصمة أوليائه المؤمنين.. وقل: السلام عليك يا إمام المسلمين
__________
(1) جاء عندهم روايات تنهى عن التّصريح باسمه (أصول الكافي 1/332، 333) فهذه الرّواية تناقض ما قرّروه، وتناقضهم لا يكاد ينتهي.
(2) بحار الأنوار: 94/29
(3) طين حرّ: أي لا رمل فيه (بحار الأنوار: 94/28)
(4) بحار الأنوار: 94/28
(5) هذا من ألقاب مهديهم المنتظر(2/452)
والمؤمنين، السلام عليك يا وارث علم النبيين، السلام عليك يا عصمة الدين، السلام عليك يا معز المؤمنين المستضعفين، السلام عليك يا مذل الكافرين المتكبرين الظالمين، السلام عليك يا مولاي يا صاحب الزمان.. يا مولاي، حاجتي كذا وكذا فاشفع لي في نجاحها" (1) .
وصاحب الزمان عندهم قد عجز عن الخروج إلى شيعته خوف القتل كما تقرر نصوصهم المعتبرة - كما سيأتي - فكيف يوصف بهذه الأوصاف، ويطلب منه هذا الحاجات مما لا يقدر عليه إلا كاشف الملمات وهو عاجز عن حماية نفسه قد قبع في سردابه وتوارى عن الأنظار؟!
المسألة الرابعة: قولهم: إن الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "حدثني الثقات أن فيهم من يرى الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله وحده، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت" (2) .
هذه المسألة التي قال عنها عالم من أكبر علماء أهل السنة المعنيين بتتبع أمر الرافضة والرد عليهم بأنه قد وصله خبرها عن طريق بعض الثقات هي اليوم مقررة ومعلنة في المعتمد من كتب الاثني عشرية في عشرات من الروايات تنص على أن زيارة المشهد أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام.
جاء في الكافي وغيره: "إنّ زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجّة، وأفضل من عشرين عمرة وحجّة" (3) .
وحينما قال أحد الشّيعة لإمامه: "إنّي حججت تسع عشرة حجّة، وتسع
__________
(1) بحار الأنوار: 94/31-32
(2) منهاج السنة: 2/124
(3) فروع الكافي: 1/324، ابن بابويه/ ثواب الأعمال: ص52، الطّوسي/ تهذيب الأحكام: 2/16، ابن قولويه/ كامل الزّيارات: ص161، الحرّ العاملي/ وسائل الشّيعة: 10/348(2/453)
عشرة عمرة" أجابه الإمام - بأسلوب يشبه السخرية - قائلاً: "حجّ حجّة أخرى، واعتمر عمرة أخرى، تكتب لك زيارة قبر الحسين عليه السّلام" (1) .
فكأنه يقول له: علام تبذل كل هذا الجهد، وزيارة قبر الحسين أفضل من عملك هذا، ثم تراه وجهه لإكمال عشرين حجة وعمرة ليتحقق له بذلك فضل زيارة واحدة لقبر الحسين، ولم يوجهه لزيارة الحسين، وذلك زيادة في التقريع وإظهار السخرية وإبداء التحسر.
وتذهب رواياتهم إلى المبالغة بالقول بأفضلية زيرة قبر الحسين وقبور سائر الأئمة على الركن الخمس من أركان الإسلام حج بيت الله الحرام، وتصل في ذلك إلى درك من العته والجنون، أو الزندقة والإلحاد لا يكاد يصل إليه أحد في هذا الباب، حتى ليقول القائل بأن هذا دين المشركين لا دين المسلمين الموحدين؛ لأن هؤلاء يقدمون لنا دينًا آخر غير ما يعرفه المسلمون؛ دين شيوخهم وآياتهم لا دين رب العالمي، وتخرصات وأوهام رجالهم، لا وحي سيد المرسلين، فهي أشبه ما تكون بمؤامرة لتغيير دين المسلمين، وتغيير قبلة المسلمين، بيت رب العالمين.
وتقدم لنا رواياتهم هذا المعنى بصور مختلفة وأساليب متنوعة لتؤثر في قلوب السذج والجهلة، وتخدع عقول الناشئة والعجم، فما أسرع تأثير البدعة في هؤلاء (2) .
فهذا أحد الأعراب يشد الرحل من اليمن لزيارة الحسين - كما تزعم أساطيرهم - فيلتقي بجعفرهم الذي يسمونه بالصادق، لأن جعفر بن عبد الله بريء من افتراءات هؤلاء وأكاذيبهم، فيسأله جعفر عن أثر زيارة قبر الحسين فقال هذا الأعرابي: إنه يرى البركة من ذلك في نفسه وأهله وأولاده وأمواله وقضاء حوائجه، فقال أبو عبد الله - كما تقول الرواية -: أفلا أزيدك من فضله فضلاً يا أخا اليمن؟ قال: زدني يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إن زيارة أبي عبد الله
__________
(1) الطّوسي/ تهذيب الأحكام: 2/16، وسائل الشّيعة 10/348، بحار الأنوار: 101/38
(2) ولذلك قال أيوب السختياني - كما يروي اللالكائي -: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة. (شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 1/60)(2/454)
عليه السلام - يعني نفسه - تعدل حجة مقبولة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فتعجب من ذلك، فقال له: أي والله وحجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجب، فلم يزل أبو عبد الله عليه السلام يزيد حتى قال: ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
بهذا الأسلوب الغريب الذي أشبه ما يكون بلعب الأطفال ومحاوراتهم يقرر جعفرهم أن زيارة الضريح أفضل من ثلاثين حجة.
ويفترون أيضًا على رسول الله بأنه قرر هذا الشرك بنفس هذا الأسلوب الذي بلفظه يكشف كذبهم فضلاً عن معناه، حيث تقول روايتهم: "كان الحسين عليه السلام ذات يوم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلاعبه ويضاحكه، وإن عائشة قالت: يا رسول الله ما أشد إعجابك بهذا الصبي!! فقال لها: وكيف لا أحبه وأعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرة عيني، أما إن أمتي ستقتله فمن زاره بعد وفاته كتب الله له حجة من حججي، قالت: يا رسول الله حجة من حججك؟!، قال: نعم وحجتين، قالت: حجتين؟ قال: نعم وأربعًا. فلم تزل تزاده وهو يزيد حتى بلغ سبعين حجة من حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعمارها" (2) .
وتذهب رواية أخرى إلى أن "من زار قبر أبي عبد الله كتب الله له ثمانين حجة مبرورة" (3) .
وتزيد رواية أخرى على ذلك فتقول: "من أتى قبر الحسين عليه السّلام عارفًا بحقّه كان كمن حجّ مائة حجّة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" (4) .
__________
(1) ابن بابويه القمي/ ثواب الأعمال ص52، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 10/350-351
(2) وسائل الشيعة: 10/351-352
(3) ثواب الأعمال ص52، كامل الزيارات ص162، وسائل الشيعة: 10/350
(4) ثواب الأعمال: ص52، وسائل الشّيعة:10/350(2/455)
وتتنافس رواياتهم في المبالغة في الأعداد لتتجاوز المئات إلى مرحلة الآلاف، وتتجاوز ذلك إلى ذكر أصناف من الثواب والأجر، وكأن الدين هو مجرد زيارة قبر، والوقوف على ضريح.
فقد جاء في "وسائل الشيعة" وغيره عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال: "لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقًا، وتقطعت أنفسهم عليه حسرات، قلت: وما فيه؟ قال: من زاره تشوقًا إليه كتب الله له ألف حجّة متقبّلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظًا سنته من كلّ آفة أهونها الشيطان، ووكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدمه، فإن مات سنته حضرته ملائكة الرّحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره مدّ بصره، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة، ويعطى كتابه بيمينه ويعطى له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي مناد هذا من زار الحسين شوقًا إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنّى يومئذ أنّه كان من زوّار الحسين عليه السّلام" (1) .
وفي رواية أخرى: "إن الرجل منكم ليغتسل في الفرات ثم يأتي قبر الحسين عارفًا بحقه فيعطيه الله بكل قدم يرفعها أو يضعها مائة حجة مقبولة، ومائة عمرة مبرورة، مائة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل" (2) .
ورواية ثالثة تقول: "من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء حتى يظل عنده باكيًا لقي الله عز وجل يوم القيامة بثواب ألفي ألف حجة، وألفي ألف
__________
(1) كامل الزّيارات ص143، وسائل الشّيعة: 1/353، بحار الأنوار: 101/18
(2) وسائل الشيعة: 10/379، كامل الزيارات ص185(2/456)
عمرة، وألفي ألف غزوة، وثواب كل حجة وعمرة وغزوة كثواب من حج واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الأئمة الراشدين صلوات الله عليهم.." (1) .
ثم ذكرت الرواية أن هذا الفضل كله يحصل أيضًا لمن لم يستطع زيارة قبره في هذا اليوم، ولكن صعد على سطح داره وأومأ إليه بالسلام ثم دعا على قاتله وندب الحسين وبكاه ولم ينتشر في يومه هذا في حاجة (2) .
وعلى غرار هذا عشرات من الأمثلة تكل اليد من نقلها، ويتعب الفؤاد من تأملها، لأنها روايات الهدف منها صرف الناس عن عبادة الواحد القهار إلى عبادة المخاليق الضعفاء، وغايتها التحلل من تكاليف الإسلام وشرائع الدين إلى مجرد نقل القدم إلى قبر ليحصل بذلك على كل الأجر، حتى تنتهي بمعتقدها إلى ضرب من الإباحية، والإعراض عن أوامر الله وشرائعه، والتعدي على محارمه.
فلو كان شيء من هذا حقًا لذكره القرآن العظيم في آياته، لماذا يذكر الحج في آيات عدة من القرآن، ولا تذكر زيارة قبر الإمام مطلقًا.. وهي أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام - بزعمهم -؟!
وقد تنبه أحد الشيعة لذلك وتعجب لماذا تخص زيارة الحسين بهذا الفضل الذي يربو على فضل الحج مئات المرات وليس لها ذكر في القرآن؟! أليس هذا دليل الوضع والافتراء؟!!
فقال - بعد أن استمع من إمامه لفضائل زيارة قبر الحسين المزعومة - قال: "قد فرض الله على الناس حج البيت، ولم يذكر زيارة قبر الحسين عليه السلام" (3) .
__________
(1) بحار الأنوار: 101/290، كامل الزيارات ص176 ما بعدها
(2) بحار الأنوار: 101/290، كامل الزيارات ص176
(3) بحار الأنوار: 101/33، كامل الزيارات ص266(2/457)
فأجاب إمامهم بجواب يبدو فيه الاضطراب، حيث قال: "وإن كان كذلك فإن هذا شيء جعله الله هكذا" (1) . وهذا اعتراف منهم وهم أرباب التأويل الباطني بخلو القرآن من هذه البدعة، وهذا كافٍ في نقض مزاعمه من كتبهم. فالإقرار هو سيد الأدلة، وبأيديهم يهدمون بيوتهم.
وكأن إمامهم في جوابه هذا يقول: لا جواب عندي، الأمر هكذا، لم يبين الله لعباده سبيل عبادتهم وما يتقون.
ثم حاول بعد هذه الكلمة المضطربة أن يتلمس جوابًا بعيدًا عن الموضوع فأردف قائلاً: "أما سمعت قول أمير المؤمنين: إن باطن القدم أحق بالمسح من ظاهر القدم، ولكن الله فرض هذا على العباد" (2) . وهذا اعتراف منهم أيضًا بأن زيارة قبر الحسين كباطن القدم (والأصح كباطن الخف) لم تدخل فيما فرض الله، ثم واصل الاعتذار فقال: "أوما علمت أن الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم ولكن الله صنع ذلك في غير الحرم" (3) .
وهذا كسابقه اعتراف بأن الزيارة لم تفرض، وإن كانت في نظر هذه الزمرة أحق.. ثم هي في اعتذارها تحاول أن تجعل من نفسها رقيبة على تشريع رب العالمين، فكأنها تشير بأن الله سبحانه لم يفعل ما هو أولى وأحق (تعالى الله عما يقوله الظالمون) ، حيث لم يجعل موقف عرفات في الحرم بل جعله في الحل، وهكذا تتطاول هذه الزمرة الملحدة التي وضعت هذه الأخبار، وخدعت بها الأغرار تتطاول على شرع الله وحكمته، وتضع من نفسها وصية على أمر الله.
ورواياتهم في هذا كثيرة للغاية - كما أشرنا من قبل - وإنني الآن أمام زخم هائل من الروايات التي لا تخطر ببال من لم يخض غمار هذه الأساطير؛ روايات
__________
(1) بحار الأنوار: 101/33، كامل الزيارات ص266
(2) بحار الأنوار: 101/33، كامل الزيارات ص266
(3) بحار الأنوار: 101/33، كامل الزيارات ص266(2/458)
كثيرة ما أدري ما آخذ منها وما أدع، فكل منها يثير العجب والاستنكار لكل من كان على صلة بكتاب ربه، أو على أدنى وعي بأمر دينه، ولم يلجم عقله التعصب ويغلق فكره الهوى وتأخذه العزة بالإثم تعصبًا لبدعته وطائفته.
ولو حاول الشيعي أن يتخلى عن هذه الأساطير التي تشده إلى الظلام ولو لحظة ثم يتفكر في أمر هذا الخطر الأكبر الذي يأخذ به ليلقيه في غياهب الشرك وظلماته، لينسى ربه وخالقه، ويتعلق بقبر مخلوق قد أرم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا حياة ولا نشورًا {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (1) .
والعجب أنه ورد عندهم بعض الروايات في تخفيف هذا الغلو الذي يجعل من الشخوص إلى القبر أفضل من حج بيت الله الحرام، ولكن شيخ الشيعة المجلسي رد ذلك بحجة التقية.
تقول روايتهم: «عن حنان قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في زيارة قبر الحسين صلوات الله عليه فإنه بلغنا عن بعضكم أنه قال: تعدل حجة وعمرة؟ قال فقال: ما أضعف هذا الحديث ما تعدل هذا كله ولكن زوروه ولا تجفوه فإنه سيد شباب أهل الجنة (2) .
قال المجلسي في تأويل هذا النص الذي ينقض عشرات الروايات التي جاء بها، ويكشف ضلال ما عليه طائفته قال: "لعل المراد أنها لا تعدل الواجبين من الحج والعمرة والأظهر أنه محمول على التقية" (3) ، أي إن جعفرًا يقول هذا الكلام على سبيل الكذب مجاملة لأهل السنة أو خوفًا منهم وليس من دين الشيعة.. وهكذا يفعل شيوخهم بكل رواية عن أهل البيت لا توافق أهواءهم يبطلون مفعولها بهذه الحجة الجاهزة "التقية" فصار التشيع يكتسب غلوه على مر الأيام بفعل شيوخه وصار دينهم دين شيوخ الرافضة لا دين الأئمة..
__________
(1) الأعراف، آية:194
(2) بحار الأنوار: 101/35، قرب الإسناد ص48
(3) بحار الأنوار: 101/35، قرب الإسناد ص48(2/459)
زيارة كربلاء يوم عرفة أفضل من سائر الأيام:
مما يكشف أن هذه الروايات هي ثمرة مؤامرة ضد الأمة لصرفها عن بيت ربها، والعمل على إفساد أمرها، وتفريق اجتماعها.. والحيلولة دون تلاقيها في هذا المؤتمر السنوي العام.. أن هذه الروايات خصت زيارة الحسين يوم عرفة بفضل خاص، تقول:
"من أتى قبر الحسين عارفًا بحقّه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجّة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات.. ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجّة ومائة عمرة.. ومن أتاه يوم عرفة عارفًا بحقّه كتب الله له ألف حجّة وألف عمرة مبرورات متقبّلات، وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل" (1) .
وتكاد بعض رواياتهم تصرح بالهدف، فهذا جعفرهم يقول: "لو أنّي حدّثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحجّ رأسًا وما حجّ منكم أحد، ويحك أما علمت أنّ الله اتّخذ كربلاء حرمًا آمنًا مباركًا قبل أن يتّخذ مكّة حرمًا.." (2) .
فأنت تلاحظ أنه صرح من طرف خفي أن ترك الحج وزيارة كربلاء أولى. وقال: "إنّ الله يبدأ بالنّظر إلى زوّار قبر الحسين بن علي عشيّة عرفة قبل نظره إلى أهل الموقف"، (قال الراوي: وكيف ذلك؟) قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: لأنّ في أولئك أولاد زنا وليس في هؤلاء أولاد زنا (3) ، وأولاد الزّنا عند الشّيعة هم غير الشّيعة من المسلمين (4) .
__________
(1) انظر: الكليني/ فروع الكافي: 1/324، ابن بابويه/ من لا يحضره الفقيه: 1/182، الطّوسي/ التّهذيب: 2/16، ابن قولويه/ كامل الزّيارات ص169، ابن بابويه/ ثواب الأعمال ص50، الحرّ العاملي/ وسائل الشّيعة: 10/359
(2) بحار الأنوار: 101/33، كامل الزّيارات ص266
(3) الفيض الكاشاني/ الوافي/ المجلّد الثّاني: 8/222
(4) يدلّ على ذلك ما جاء في الكافي عن أبي جعفر قال: "والله إنّ النّاس كلّهم أولاد بغايا ما خلال شيعتنا" (الكليني/ الرّوضة من الكافي: ص135 ط: لكنو 1886م، وانظر: بحار الأنوار: 24/311) ، وعن إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد قال: ما من مولود يولد إلا وإبليس =(2/460)
ويظهر من روايتهم أن لهذه الأساطير تأثيرها حتى قال أحد نقلة هذه الأسطورة ورواتها بعد سماعه دعاء من جعفرهم لزوار قبر الحسين قال: "والله لقد تمنيت أني زرته ولم أحج.." (1) .
وتتحدث رواية أخرى أن من أراد "أن يتنفل بالحج والعمرة فمنعه من ذلك شغل دنيا أو عائق فأتى الحسين بن علي في يوم عرفة أجزأه ذلك من أداء حجته وضاعف الله له بذلك أضعافًا مضاعفة (قال الراوي) : قلت: كم تعدل حجة وكم تعدل عمرة؟ قال: لا يحصى ذلك. قلت: مائة. قال: ومن يحصي ذلك؟ قلت: ألف. قال: وأكثر، ثم قال: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها (2) .
وأنت تلاحظ أن صدر النص يشير إلى أن الحج أفضل، وأن زيارة الحسين هي البديل عند حصول عائق بينما عجزه يشير إلى خلاف ذلك.
قال شيخهم الفيضي الكاشاني في التعليق عما تذكره رواياتهم من فضائل زيارة قبر الحسين: "إن هذا ليس بكثير على من جعله الله إمامًا للمؤمنين، وله خلق السّماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله، وعينه، ودليله، وبابه الذي يؤتى منه، وحبله المتّصل بينه وبين عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء، هذا مع أنّ مقابرهم رضي الله عنهم فيها أيضًا إنفاق أموال، ورجاء آمال، وإشخاص أبدان، وهجران أوطان، وتحمّل مشاق، وتجديد ميثاق، وشهود شعائر، وحضور مشاعر" (3) .
__________
= من الأبالسة بحضرته، فإن علم الله أنّ المولود من شيعتنا حجبه من ذلك الشّيطان، وإن لم يكن المولود من شيعتنا أثبت الشّيطان إصبعه في دبر الغلام فكان مأبونًا، وفي فرج الجارية فكانت فاجرة (تفسير العيّاشي: 2/218، البرهان 2/139) . وعقد المجلسي في البحار بابًا لهذا الاعتقاد بعنوان: "باب أنّه يدعى النّاس بأسماء أمّهاتهم إلا الشّيعة" وذكر فيها 12 حديثًا (بحار الأنوار: 7/237) ، وانظر: تفسير نور الثّقلين: 2/513
(1) وسائل الشيعة: 10/321، فروع الكافي: 335، ثواب الأعمال ص35
(2) الوافي، المجلد الثاني: 8/223
(3) الوافي، المجلّد الثّاني: 8/224(2/461)
تأمل هذا الغلو، حيث جعل الحسين هو الحبل والواسطة بين الله وعباده، وأنه عين الله وبابه!! ولاحظ توجيهه لفضل زيارة قبر الحسين بفعل أسباب الوقوع في الشرك نفسه من شد الرحال إلى القبر، وإنفاق الأموال لها أو عندها طلبًا لشفاعتها، وتعلق الآمال عليها، إلى آخر ما ذكره من أعمال الشرك وأسبابه، ومع ذلك فهذا عندهم من أفضل الطاعات!! (1) .
زيارة قبر الحسين أفضل الأعمال:
ليست زيارة قبر الحسين عن هؤلاء أفضل من الحج فحسب، بل أفضل الأعمال، جاء في رواياتهم أنّ زيارة قبر الحسين "أفضل ما يكون من الأعمال" (2) . وفي رواية أخرى "من أحبّ الأعمال زيارة قبر الحسين" (3) ، وأنشأ المجلسي بابًا خاصًا بهذا العنوان ذكر فيه جملة من جنس هذه الروايات (4) .
وهكذا تنسى شرائع الإسلام وأوامره، ويهتم هؤلاء بالقبور والأضرحة ويجعلونها من أفضل الأعمال بلا دليل إلا ما صنعته أوهامهم وأوحاه لهم شياطينهم، ليشرعوا من الدين ما لم يشرعه الله.
قولهم: إن كربلاء أفضل من الكعبة:
قبلة المسلمين، وأقدس مقدساتهم، وأفضل البقاع بيت الله الحرام، مهوى أفئدة المسلمين، الذي لا يشرع الطواف إلا به.. والذي جعله الله مثابة للناس
__________
(1) ولكن لماذا لم يعمل شيوخهم بهذه الروايات ويدعوا الحج..؟ الواقع أنهم لم يفعلوا، لعل ذلك لأسباب منها ليتمكن هؤلاء من نقل شرهم لسائر العالم الإسلام عبر هذا المؤتمر العظيم.. وخشية التشنيع عليهم من قبل المسلمين فيفقدوا الأرضية الصالحة لنشر دعوتهم، سيما أنهم يرون الفريضة لابد منها، على الرغم من أن هذه الروايات لا تجعل في قلب المؤمن بها أي حنين إلى حج بيت الله الحرام
(2) كامل الزّيارات ص146، بحار الأنوار: 101/49
(3) كامل الزّيارات ص146، بحار الأنوار: 101/49
(4) وهو بعنوان "باب أن زيارته عليه السلام من أفضل الأعمال" بحار الأنوار: 101/49(2/462)
وأمنًا.. ملتقى المسلمين العام، وقبلتهم التي يتجهون إليها جميعًا.. تقول روايات الاثني عشرية بأنها ليست إلا ذنبًا ذليلاً مهينًا لأرض كربلاء (1) .
إن وراء الأكمة ما وراءها.. لقد أقضَّ مضاجع الأعداء اجتماع المسلمين في هذا الملتقى الطاهر، وأرَّق أجفانهم تلاقيهم وتوجيههم لهذا المكان الواحد..
فراموا الكيد لذلك بكل وسيلة.. وراحوا يبحثون عما يصرفون به قلوب المسلمين.. وكان المدخل الميسر لهم عن طريق التشيع، فقالوا: إن قبر الحسين أفضل من الكعبة البيت الحرام.. ووضعوا من الروايات ما يحتالون به لإثبات هذه المقالة، ونسبوها لبعض آل البيت زورًا وبهتانًا.. علها تجد طريقها لقلوب المغفلين، وعقول الجاهلين، ويميل إليها أهل الأهواء، والابتداع، وأصحاب الأحقاد المتوارثة، والثارات القديمة، ومن يبغي في الأمة الفرقة والشتات.
لقد اعتبر الشيعة كربلاء وغيرها من أماكن قبور أئمتهم المزعومة حرمًا مقدسًا؛ فالكوفة حرم، وقُمّ حرم، وغيرها، جاء في رواياتهم "إنّ الكوفة حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم أمير المؤمنين، وإنّ الصّلاة فيها بألف صلاة والدّرهم بألف درهم" (2) .
ويروون عن جعفرهم "إنّ لله حرمًا هو مكّة، ولرسوله حرمًا وهو المدينة، ولأمير المؤمنين حرمًا وهو الكوفة، ولنا حرمًا وهو قم (3) ، ستدفن فيه امرأة من ولدي تسمّى فاطمة، من زارها وجبت له الجنّة" (4) .
وقال علي بن الحسن - كما يفترون علي -: "اتّخذ الله أرض كربلاء حرمًا
__________
(1) سيأتي بعد أسطر سياق النص بتمامه وتخريجه من كتبهم
(2) الوافي/ باب فضل الكوفة ومساجدها، المجلّد الثّاني: 8/215
(3) قم: بالضّم والتّشديد كلمة فارسيّة، وهي مدينة مقدّسة عند الشّيعة مشهورة في إيران، وأهلها كلّهم شيعة إماميّة (انظر: معجم البلدان: 4/397) ومن أسباب تقديسهم لقم وجود قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر (إمامهم السّابع) فيها، انظر: عبد الرّزّاق الحسيني/ مشاهد العترة: ص 162 وما بعدها
(4) بحار الأنوار: 102/267(2/463)
آمنًا مباركًا قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرمًا بأربعة وعشرين ألف عام، وقدّسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدّسة مباركة ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنّة، وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياءه في الجنّة" (1) .
وتقديسهم لأرض كربلاء لأنه ضمت جسد الحسين فاستمدت قداستها بوجوده فيها.
فهل كان الحسين مدفونًا فيها قبل خلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام، أو هي معدة لاستقباله منذ غابر الأزمان؟! وإذا كان كل هذا الفضل بوجود جسد الحسين فلماذا لم تفضل المدينة وفيها جسد رسول الله؟! إن هذا تناقض في بنية المذهب.. وهو يكشف أنه ليس الهدف تقديس الحسين، ولكن الكيد للأمة ودينها.
وقد جاءت روايات كثيرة عندهم تفضل كربلاء على بيت الله.
فتتحدث بعض هذه الأساطير عن محاورة جرت بين كربلاء والكعبة يتبين منها أن هؤلاء الوضاعين لا عقل عندهم فضلاً عن الدين، قال جعفرهم: "إن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فجر عميق وجعلت حرم الله وأمنه.
فأوحى الله إليها - كما يفترون - أن كفي وقرّي ما فضل ما فضّلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقرِّي واستقري وكوني ذنبًا متواضعًا ذليلاً مهينًا غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم" (2) .
__________
(1) بحار الأنوار: 101/107
(2) كامل الزيارات: ص270، بحار الأنوار: 101/109(2/464)
ولكن الكعبة لم تأخذ بالنصيحة كما تقول روايات الشيعة!! فلم تتواضع لأرض كربلاء، وتصبح كالذنب الذليل المهين لها، فحلت بها العقوبة، بل إن العقوبة - كما يقولون - وقعت على كل ماء وأرض ما عدا كربلاء، قالوا في رواياتهم:
".. فما من ماء ولا أرض إلا عوقبت لترك التواضع لله، حتى سلط الله على الكعبة المشركين، وأرسل إلى زمزم ماء مالحًا حتى أفسد طعمه.." (1) .
أما كربلاء فقد نجت من العقوبة على الرغم أنها افتخرت وقالت: "أنا أرض الله المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي ولا فخر.." (2) .
هذا جزء مما يدعونه حول كربلاء، وجمعه كله وتحليله يستغرق مؤلفًا خاصًا، وهي كلمة لا يمكن أن تخضع للمناقشة بالعقل والمنطق؛ فهي من جنس هذيان المحمومين وكلمات المجانين، ولو لم أجدها في كتبهم المعتمدة، وبروايات عديدة لما أثبتها.. وهذه الدعاوى والمخاريق هي إساءة بالغة لأهل البيت الذين يزعمون محبتهم والتشيع لهم، ولكنهم كانوا عليهم أشد من أعدائهم، وهي فضيحة من فضائح دين الشيعة قد تنتهي بقارئها والمؤمن بها من مثقفي الشيعة وعقلائهم إلى درب الإلحاد والضلال.
ولقد خاب واضع هذه الأساطير وفشل في تحقيق أهدافه، فلم يتجه المسلمون إلى كربلاء، وظلت هذه الروايات لا تؤثر إلا بأولئك الذين أصمهم التعصب عن سماع الحق وأعمى قلوبهم، فهاموا في أودية من الضلال.
فما دام كتاب الله سبحانه بين المسلمين فلن يغتر بمثل هذه المؤامرات إلا من اتخذ كتاب الله مهجورًا، ولم ير الحق إلا فيما قاله الحجة والسيد والآية وما سارت عليه طائفته، وإن كان لا شاهد له من كتاب الله سبحانه.
والذي يروي هذه الأسطورة السالفة الذكر عن جعفر الصادق رجل يدعى
__________
(1) كامل الزيارات: ص270، بحار الأنوار: 101/109
(2) كامل الزيارات: ص270، بحار الأنوار: 101/109(2/465)
صفوان الجمال، وهو كما يزعم شيوخ الشيعة من رجال جعفر وهو ثقة عندهم (1) ، فقد يكون هو الذي باء بإثم هذا الإفك، إذا لم يكن السند مصنوعًا، ولم أجد لهذا الرجل ذكرًا في الكتب التي رجعت إليها من كتب الرجال عند أهل السنة.
زوار الحسين تأتيهم الملائكة ويناجيهم الله:
وصلت مبالغات الشيعة في الحديث عن فضائل زيارة قبر الحسين والأئمة الآخرين إلى درجة لا تتصور ولا يقبلها ذو عقل، قال جعفرهم: "من خرج من منزله يريد زيارة الحسين كتب الله له بكلّ خطوة حسنة.. إلى أن قال: وإذا قضى مناسكه.. أتاه ملك فقال له: أنا رسول الله، ربّك يقرئك السّلام ويقول لك: استأنف فقد غفر لك ما مضى" (2) .
فالملائكة تقابل زوار القبر، وتبلغهم سلام الله وتوزع عليهم صكوك الغفران!!
هذه دعاوى فوق الجنون بدرجات، وأعظم منها وأكبر جرأتهم على القول بأن الله يناجي زوار الحسين، قالت رواياتهم: ".. فإذا أتاه (يعني أتى الزّائر قبر الحسين) ناجاه الله فقال: عبدي، سلني أعطك، ادعني أجبك" (3) .
وهكذا يفترون الكذب على الله، وإنما يفتري الكذب على الله الذين لا يؤمنون، ويزعمون وهم الذين سلكوا مسلك أهل التعطيل في كلام الله سبحانه، أن الله يناجي ويكلم زوار الحسين.. وهذه فرية خطيرة.. وبهتان عظيم.
ولم يكتفوا بذلك كعادتهم في الغلو والمبالغة، بل زعموا أن الله - تعالى عما
__________
(1) معجم رجال الحديث: 9/121
(2) الطّوسي/ تهذيب التّهذيب: 2/14، ابن قولويه/ كامل الزّيارات: ص132، ثواب الأعمال: ص51، وسائل الشّيعة: 10/ 341-342
(3) كامل الزّيارات: ص132، وسائل الشّيعة: 10/ 342، وانظر: ثواب الأعمال ص51(2/466)
يقوله الظالمون علوًا كبيرًا - يزور قبور الأئمة مع الشيعة، ففي البحار للمجلسي "إنّ قبر أمير المؤمنين يزوره الله مع الملائكة ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون" (1) .
كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وتسطرها أقلامهم، إن يقولون إلا كذبًا.
مناسك المشاهد:
زيارة الأضرحة فريضة من فرائض مذهبهم (2) ، يكفر تاركها (3) . وقد عقد لذلك المجلسي بابًا بعنوان: "باب أن زيارته (4) . واجبة مفترضة مأمور بها، وما ورد من الذم والتأنيب والتوعد على تركها" وذكر فيه (40) حديثًا من أحاديثهم (5) .
ومن هنا وضعوا لها مناسك كماسك الحج إلى بيت الله الحرام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد صنف شيخهم ابن النعمان المعروف عندهم بالمفيد كتابًا سماه "مناسك المشاهد" جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قيامًا للناس، وهو أول بيت وضع للناس، فلا يطاف إلا به ولا يصلى إلا إليه ولم يأمر إلا بحجه" (6) .
ولكن كشف لنا اليوم شيخهم أغا بزرك الطهراني في كتابه "الذريعة" أن ما صنفه شيوخهم في المزار ومناسكه قد بلغ ستين كتابًا (7) ، كلها ألفت لإرساء
__________
(1) بحار الأنوار: 100/258
(2) انظر روايات ذلك في تهذيب الأحكام للطوسي: 2/14، وفي كامل الزيارات لابن قولويه ص194، ووسائل الشيعة للحر العاملي: 10/333-337
(3) ففي الوسائل "عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عمن ترك الزيارة زيارة قبر الحسين عليه السلام من غير علة، فقال: هذا رجل من أهل النار". (وسائل الشيعة: 10/336-337، كامل الزيارات: ص193)
(4) يعني: زيارة الحسين
(5) انظر: بحار الأنوار: 101/ 1-11
(6) منهاج السنة: 1/175، مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 17/498
(7) انظر: الذريعة: 20/316-326(2/467)
قواعد هذا الشرك وتشييد بنائه، وهذا عدا ما اشتملت عليه كتب الأخبار المعتمدة عندهم من أبواب خاصة بالمشاهد - كما سيأتي - ومن هذه المناسك ما يلي:
أـ الطواف بها:
اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور (1) ... ولكن شيوخ الشيعة شرعوا لأتباعهم الطواف بأضرحة الموتى من الأئمة، ووضعوا من الروايات على آل البيت ما يسندون به هذا الشرك، فقال المجلسي بأنه ورد في بعض زيارات الأئمة "إلا أن نطوف حول مشاهدكم"، وفي بعض الروايات "قبّل جوانب القبر"، كما قال بأن الرضا كان - على حد زعمه - يطوف بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . وأخذ من ذلك "شرعية" هذا "النسك الوثني" في مذهبهم، ولم يلتفت إلى نصوص القرآن الصريحة الواضحة في النهي عن الشرك والوعيد عليه بنار جهنم وبئس المصير، ولكن أشكل عليه روايات لهم تناقض - كالعادة - مذهبهم في المشاهد وهي مروية عن أئمتهم فرام التخلص منا بالتأويل.
فقد جاء في رواياتهم ما ينهى عن الطواف بالقبور كقول إمامهم: "لا تشرب وأنت قائم ولا تطف بقبر،..فإن من فعل ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه، ومن فعل شيئًا من ذلك لم يكن يفارقه إلا ما شاء الله" (3) . وقد أجهد المجلسي نفسه قال في تأويل هذه الرّواية فقال: "يحتمل أن يكون النّهي عن الطّواف بالعدد المخصوص الذي يُطاف بالبيت" (4) .
فأنت ترى أن المجلسي لم يحاول أن يسلك ما يتفق مع كتاب الله سبحانه وما عليه المسلمون، وما جاء عندهم أيضًا: "ولا تطف على قبر" فينصح لنفسه
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/521
(2) بحار الأنوار: 100/126.
(3) ابن بابويه/ علل الشّرائع: ص 283، بحار الأنوار: 100/126
(4) بحار الأنوار: 100/126(2/468)
وطائفته بالنهي عن هذه البدعة فيقر بذلك، ويؤول ما يخالفه، لأنه شذوذ وانحراف وباب من أبواب الشرك بالله، لم يفعل ذلك بل تكلف في تأويل نصهم الذي يدل على المعنى الحق حتى قال: "يحتمل أن يكون المراد بالطواف المنفي هنا التغوط" (1) .
فدين الشيعة هو دين المجلسي لا دين الأئمة، وعمل الشيعة بما قاله شيوخهم لا ما قاله إمامهم.. فأعرضوا عن قول الإمام: "ولا تطف بقبر"، كما أعرضوا من قبل عن قول الله ورسوله وإجماع المسلمين، فضلّوا وأضلّوا قومهم سواء السّبيل.
ب ـ الصلاة عند الضريح:
من مناسك المشاهد والأضرحة أداء ركعتين أو أكثر عند قبور الأئمة، وربما يتخذونها قبلة - كما سيأتي - وكل ركعة تؤدى عند القبور تفضل على الحج إلى بيت الله الحرام مئات المرات، جاء في أخبارهم: "الصّلاة في حرم الحسين لك بكلّ ركعة تركعها عنده كثواب من حجّ ألف حجّة، واعتمر ألف عمرة، وأعتق ألف رقبة، وكأنّما وقف في سبيل الله ألف ألف مرّة مع نبي مرسل" (2) .
وليس هذا خاصًا بقبر الحسين بل كل قبور أئمتهم كذلك، ففي البحار: "من زار الرضا (3) . أو واحدًا من الأئمة فصلى عنده.. فإنه يكتب له (ثم ذكر ما جاء في النص السابق وزاد) وله بكل خطة مائة حجة، ومائة عمرة، وعتق مائة رقبة في سبل الله، وكتب له مائة حسنة، وحط عنه مائة سيئة (4) .
انظر كيف يفضلون الصلاة عند القبور على الحج إلى بيت الله الحرام،
__________
(1) بحار الأنوار: 100/127
(2) الوافي/ المجلّد الثّاني: 8/234
(3) يعد مرقد علي الرضا أهم الأماكن المقدسة في إيران، ومن أضخم الأماكن المقدسة لدى الشيعة، وعليه قبة ضخمة مكسوة بالذهب (عبد الله فياض/ مشاهداتي في إيران ص102) لأن الأضرحة والاهتمام بها وتقديم أنواع من العبادات لها من أصول دينهم
(4) بحار الأنوار: 100/137-138(2/469)
فيقدمون الشرك على التوحيد.
وقديمًا كان المشركون يقولون بأن دينهم أفضل من دين الله، وأنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
واتخاذ القبور مساجد ملعون فاعلها على لسان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (1) .
وفي الصحيحين أيضًا أنه ذكر له في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر له من حسنها وتصاوير فيها فقال: "إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله" (2) .
وقد ثبت أيضًا النهي عن اتخاذ القبور مساجد في كتب الاثني عشرية نفسها، ولكن شيوخهم يؤولونه - كما سيأتي -.
جـ الانكباب على القبر:
من مناسك المشاهد عندهم الانكباب على القبر، ووضع الخد عليه، وتقبيل
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة، في باب 55: 1/532 (البخاري مع فتح الباري) ، وفي الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور: 3/200، وباب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر: 3/255، وفي الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 6/294، وفي المغازي، في باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 8/140، وفي اللباس في باب الأكسية والخمائل: 10/277. والحديث بهذا المعنى في مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور: 376-377، وأحمد: 1/218، 6/80، 84، 121، 146، 229، 252، 255، 275، والدارمي، كتاب الصلاة، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد: 1/326 وغيرها
(2) أخرجه البخاري في الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد: 1/523 (البخاري مع فتح الباري) ، وباب الصلاة في البيعة: 1/531، وفي الجنائز في باب بناء المسجد على القبر: 3/208، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور: 1/375-376، وأبو عوانة في مسنده: 1/400-410، وأحمد: 6/51، والبيهقي: 4/80(2/470)
الأعتاب. ومناجاة صاحب القبر حتى ينقطع النفس كما يقولون.
قال المجلسي: "باب ما يستحب فعله عند قبره عليه السلام.." (1) . ثم ذكر أن شيخ طائفتهم الطّوسي قال في وصفه لأعمال زيارة يوم الجمعة: ".. ثم تنكبّ على القبر وتقول: مولاي إمامي، مظلوم استعدى على ظالمه، النّصر، النّصر حتى ينقطع النّفس" (2) .
وفي أكثر زياراتهم يؤكدون في أثنائها وخاتمتها على الانكاب على القبر، ودعائه، فهذه زيارة للحسين أوصى بها جعفر الصادق - كما يزعمون - وأمر قبل بدء هذه الزيارة بصيام ثلاثة أيام ثم الاغتسال، ولبس ثوبين طاهرين، ثم صلاة ركعتين، ثم قال: "فإذا أتيت الباب فقف خارج القبّة، وأوم بطرفك نحو القبر وقل: يا مولاي يا أبا عبد الله يا ابن رسول الله عبدك وابن عبدك وابن أمتك، الذّليل بين يديك، المقصّر في علو قدرك، المعترف بحقّك، جاءك مستجيرًا بذمّتك، قاصدًا إلى حرمك، متوجّهًا إلى مقامك - إلى أن قال:- ثمّ انكبّ على القبر وقُل: يا مولاي أتيتك خائفًا فآمنّي، وأتيتك مستجيرًا فأجرني.. ثم انكبّ على القبر ثانية" (3) . إلى آخر الزيارة التي يدعو فيها مخلوقًا من دون الله سبحانه، ويتضرع إليه وكأنه يتضرع أمام الله، فماذا يكون الشرك إذا لم يكن هذا شركًا؟! ومثل ذلك قال مفيدهم: "فإذا أردت الخروج فانكبّ على القبر وقبّله - إلى أن قال:- ثم ارجع إلى مشهد الحسين وقل: السّلام عليك يا أبا عبد الله، أنت لي جُنَّة من العذاب" (4) .
وهكذا أصبح في دينهم الشرك بالله من المستحبات، فهو سجود على القبر أو لصاحب القبر يسمونه "الانكباب"، ودعاء للميت الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا وكأنهم يدعون خالق السماوات والأرض القادر على كل شيء {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ
__________
(1) بحار الأنوار: 101/285
(2) بحار الأنوار: 101/285
(3) بحار الأنوار: 101/257-261 عن المزار الكبير لمحمد المشهدي: ص 143-144
(4) بحار الأنوار: 101/257-261 عن المزار الكبير ص154(2/471)
غَافِلُونَ} (1) ، وهم يعدون هذا من أفضل القربات، ويوهمون الأتباع بأن هذا الشرك "يوجب غفران الذّنوب ودخول الجنّة، والعتق من النّار، وحطّ السّيئات، ورفع الدّرجات، وإجابة الدّعوات" (2) . و"توجب طول العمر وحفظ النّفس والمال، وزيادة الرّزق وتنفّس الكرب، وقضاء الحوائج" (3) . و"تعدل الحجّ والعمرة والجهاد والإعتاق" (4) . إلى آخر الفضائل الموهومة.. فشرعوا من الدّين ما لم يأذن به الله.
ولهم تعلق بكل عمل يتصل بالشرك بالله من قريب أو بعيد، حتى وإن لم يوجد نص يعتمدون عليه من كتبهم المليئة بما يغني في باب الشرك وأسبابه، يقول المجلسي - مثلاً -: "وأمّا تقبيل الأعتاب فلم نقف على نصّ يعتدّ به ولكن عليه الإماميّة" (5) . أي أنهم يتعبدون بذلك مجاراة لأسلافهم وتقليدًا لهم، فكأن الشرك وأعماله المنتشرة في أمهات كتبهم لم تملأ ما في نفوسهم، فتعلقوا بما عليه من سبقهم كحال المشركين الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (6) .
وكل إمام ينسب له من المبادئ الشركية الجديدة، حتى "المنتظر" الذي لم يولد له قوانين جديدة في هذا الباب منها استقبال القبر في الصلاة واستدبار الكعبة - كما سيأتي - ومنها في مسألتنا هذه وضع الخد على القبر، فقد خرجت الرواية فيها - كما يقولون - من الناحية المقدسة، أي من قبل المهدي المنتظر المزعوم بواسطة سفرائه الكذبة حيث قال مهديهم: " ... والذي عليه العمل أن يضع خدّه الأيمن على القبر" (7) .
__________
(1) الأحقاف، آية:5
(2) هذا من عناوين بحار الأنوار، وقد ضمّ (37) رواية في هذا المعنى: 101/ 21-28
(3) هذا أحد عناوين بحار الأنوار أيضًا وفيه (17) رواية: 101/ 45-48
(4) وهذا من عناوين صاحب البحار وقد ضمّنه (84) وراية: 101/ 28-44
(5) بحار الأنوار: 100/136، عمدة الزّائر: ص29
(6) الزخرف، آية:23
(7) عمدة الزّائر: ص31(2/472)
ولهذا قرر شيوخهم أن من آداب زيارة هذه الأضرحة "وضع الخدّ الأيمن عند الفراغ من الزّيارة والدّعاء" (1) . وقالوا: "لا كراهة في تقبيل الضّرايح؛ بل هو سنّة عندنا ولو كان هناك تقية فتركه أولى" (2) .
هذه مبادئ جديدة ابتدعها شيوخ السوء من الرافضة "وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل إلا للركنين اليمانيين، فالحجر الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم، وقد قيل إنه يقبل وهو ضعيف، وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله كجوانب البيت، والصخرة والحجرة النبوية، وسائر قبور الأنبياء والصالحين" (3) .
والهدف من هذه المبادئ الصد عن دين الله سبحانه، والدعوة إلى الشرك بالله وتهيئة أسبابه، وقد وضعت أدعية تقال أثناء هذه الأعمال فيها من الشرك بالله سبحانه، وتأليه الأئمة ما يستقل عنده فعل المشركين.
د ـ اتخاذ القبر قبلة كبيت الله:
قال شيخ الشيعة المجلسي: "إنّ استقبال القبر أمر لازم، وإن لم يكن موافقًا للقبلة.. واستقبال القبر للزّائر بمنزلة استقبال القبلة وهو وجه الله، أي جهته التي أمر النّاس باستقبالها في تلك الحالة" (4) .
وحينما وجد المجلسي في روايات قومه نصين متعارضين - كالعادة -
الأول: عن أبي جعفر محمد الباقر يقول: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قال: لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا، فإنّ الله عزّ وجلّ لعن الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (5) .
__________
(1) بحار الأنوار: 100/134، عمدة الزّائر: ص30
(2) بحار الأنوار: 100/136
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/521
(4) بحار الأنوار: 101/369
(5) ابن بابويه/ علل الشّرائع ص358، بحار الأنوار: 100/128(2/473)
والثاني: من مهديهم المنتظر (الذي لا وجود له كما يقول أهل العلم) ونصه: "كتب الحميري (1) . إلى النّاحية المقدّسة (2) . يسأل عن الرّجل يزور قبور الأئمّة عليهم السّلام.. هل يجوز لمن صلّى عند بعض قبورهم عليهم السّلام أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة أم يقوم عند رأسه أو رجليه؟ وهل يجوز أن يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا؟ فأجاب (المهدي المزعوم) :.. أمّا الصّلاة فإنّها خلفه ويجعل القبر أمامه، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره؛ لأن الإمام صلى الله عليه لا يتقدم عليه ولا يساوى" (3) .
حينما وجد المجلسي هذين النصين رجح لقومه العمل بالنص الثاني فقال: "يمكن حمل الخبر السّابق على التّقية أو على أنّه لا يجوز أن يجعل قبورهم بمنزلة الكعبة يتوجّه إليها من كلّ جانب (4) . ومن الأصحاب من حمل الخبر الأوّل على الصّلاة جماعة، والخبر الثّاني على الصّلاة فرادى، وستأتي الأخبار المؤيدة للخبر الثاني (يعني في اتخاذ القبر قبلة) في أبواب الزيارات" (5) .
انظر كيف يؤيد شيوخهم الشرك بالله سبحانه، ويردون الحق ولو جاء في كتبهم، فيرجّح المجلسي ما جاء عن المنتظر الذي لا حقيقة له، ويردّ ما روي عن أبي جعفر عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم والموافق للكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة.
وقد توقف المجلسي أيضًا عند قول إمامه وهو يبين طريقة زيارة القبر من البعيد عنه قال: "اغتسل يوم الجمعة أو أي يوم شئت، والبس أطهر ثيابك واصعد
__________
(1) عبد الله بن جعفر بن مالك الحميري، أحد الكذّابين الذين يزعمون مكاتبة المنتظر الذي لم يوجد ولكنّه عندهم من الثّقات. (انظر: الفهرست للطّوسي ص132، رجال الحلي ص106)
(2) النّاحية المقدّسة رمز عندهم على مهديهم المنتظر
(3) الاحتجاج للطبرسي: 2/312 ط: النجف، بحار الأنوار: 100/128
(4) أي أنّها قبلة - في مذهبهم - من جهة واحدة، وليست كالكعبة قبلة من كلّ الجهات، وليس ذلك لأفضليّة الكعبة عندهم، ولكن خشية التّقدّم على الضّريح كما يشير إليه "التّوقيع"
(5) بحار الأنوار: 100/128(2/474)
إلى أعلى موضع في دارك أو الصّحراء فاستقبل القبلة بوجهك بعدما تبيّن أنّ القبر هنالك". توقف المجلسي عند هذا النص، لأن استقبال القبر في دينه أمر لازم فقال: "قوله: فاستقبل القبلة بوجهك لعله عليه السلام إنما قال ذلك لمن أمكنه استقبال القبر والقبلة معًا ... ويحتمل أن يكون المراد بالقبلة هنا جهة القبر مجازًا.. ولا يبعد أن تكون القبلة تصحيف القبر" (1) .
كل هذه التكلفات والتأولات لأنه يقول بأن طائفته "حكموا باستقبال القبر مطلقًا (أي في كل أنواع الزيارات) ، وهو الموافق للأخبار الأخر في زيارة البعيد" (2) .
وقال: إنه مع بعد الزائر عن القبر يستحسن استقبال القبر في الصلاة واستدبار الكعبة (3) ، وذلك عند أداء ركعتي الزيارة التي قالوا فيها: "إن ركعتي الزيارة لابد منهما عند كل قبر" (4) . وهذا ليس بغريب من قوم زعموا أن كربلاء أفضل من الكعبة.
فماذا نسمي هذا الدين الذي يأمر أتباعه باستدبار الكعبة واستقبال قبور الأئمة؟ وماذا نسمي هؤلاء الشيوخ الذين يدعون لهذا الدين؟
فليسم بأي اسم إلا الإسلام دين التوحيد الذي نهى رسوله عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في المقابر فكيف باتخاذ القبور قبلة!!
ومن العجب أن هذا النهي عن اتخاذ القبور مسجدًا وقبلة ورد في كتب الشيعة نفسها، كما جاء في الوسائل للحر العاملي (5) . وغيره، كما ورد أيضًا بطلان
__________
(1) بحار الأنوار: 101/369
(2) بحار الأنوار: 101/369-370
(3) بحار الأنوار: 100/135
(4) بحار الأنوار: 100/134
(5) روت كتب الشيعة أن علي بن الحسين قال: قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتّخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا فإنّ الله عزّ وجلّ لعن اليهود حيث اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (من لا يحضره الفقيه 1/57، وسائل الشّيعة: 3/455) ولكن هؤلاء دينهم دين شيوخهم الذين وضعوا مبدأ خالفوا العامة (يعني أهل السنة) فأضلوا قومهم سواء السبيل(2/475)
الصلاة إلى غير القبلة (1) .
والتناقض في هذا المذهب من أعجب العجب.
هذا بعض ما جاء في مصادرهم المعتمدة حول المشاهد، وهو قليل من كثير، حيث إن لهم عناية ظاهرة، واهتمامًا واسعًا بأمر المشاهد ومناسكها كاهتمامهم بمسألة الإمامة، وقد خصصت مصادرهم المعتمدة له قسمًا خاصًا مما لا تجده في كتب المسلمين الموحدين.
ففي بحار الأنوار للمجلسي، كتاب مستقبل سماه "كتب المزار" يتضمن أبوابًا كثيرة، اشتملت على مئات الروايات، وقد استغرق ذلك حوالي ثلاثة مجلدات (2) . من طبعة البحار الأخيرة.
وكذلك في وسائل الشيعة للحر العاملي ذكر (106) بابًا بعنوان: أبواب المزار" (3) .
وفي الوافي للكاشاني الجامع لأصولهم الأربعة عقد ثلاثة وثلاثين بابًا بعنوان "أبواب المزارات والمشاهد" (4) .
وفي كتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه (أحد مصادرهم المعتمدة) أبواب عدة حول المشاهد وتعظيمها كباب تربة الحسين وحريم قبره، وأبواب زيارة الأئمة وفضلها (5) .
وفي تهذيب الأحكام للطوسي مجموعة كبيرة من الأبواب تتضمن تعظيم
__________
(1) وقد ذكر صاحب الوسائل في هذا المعنى خمس روايات (انظر: وسائل الشيعة: 3/227) وانظر في بطلان الصلاة إلى غير القبلة عندهم: من لا يحضره الفقيه: 1/79،122، وتهذيب الأحكام: 1/146، 178، 192، 218، وفروع الكافي: 1/83
(2) هي المجلدات: 100، 101، 102
(3) انظرها في: 10/251 وما بعدها
(4) انظرها في المجلد الثاني: 8/193 وما بعدها
(5) انظر: من لا يحضره الفقيه: 2/338 وما بعدها(2/476)
المشاهد والقبور، ومناجاة الأئمة بأدعية تتضمن تأليفهم (1) .
وفي مستدرك الوسائل ستة وثمانون بابًا حوت (276) رواية في الزيارات والمشاهد (2) .
هذا عدا ما اشتملت عليه كتبهم الأخرى التي هي في منزلة المصادر الثمانية عندهم كثواب الأعمال لابن بابويه وغيره.
وهذا غير ما ألف في المزارات من كتب خاصة به في الماضي والحاضر مثل: كامل الزيارات لابن قولويه، ومفاتيح الجنان لعباس القمي، وعمدة الزائر لحيدر الحسيني، وضياء الصالحين للجوهري وغيرها.
وكلها تتحدث عن الفضائل المزعومة لمن شد الرحل لزيارة أضرحة الأئمة وطاف بها، ودعا في رحابها، واستغاث بمن فيها، وتذكر مئات الأدعية التي فيها من الغلو في الأئمة ما يصل بهم إلى مقام الخالق جل شأنه، وفيها من الشرك بالله ما الله به عليم.
وكان لاهتمامهم بهذا المعول الهادم لأصل التوحيد أثره في ديار الشيعة، حيث عمرت بيوت الشرك التي يسمونها المشاهد، وعطلت بيوت التوحيد وهي المساجد وبقي هذا الاهتمام إلى اليوم كما سيأتي - إن شاء الله - (3) .
__________
(1) انظر: تهذيب الأحكام: 6/3 وما بعدها
(2) انظر: النوري الطبرسي/ مستدرك الوسائل: 2/189-234
(3) انظر: الفصل الثالث من الباب الرابع. ص (1071) وما بعدها(2/477)
الجانب النقدي (لمسألة المشاهد عند الشيعة) :
إن للمسلمين كعبة واحدة يتجهون إليها في صلاتهم ودعائهم، ويحجون إليها، ويطوفون بها، أما الشيعة فلهم مزارات ومشاهد وكعبات عبارة عن أضرحة الموتى من الأئمة (1) وغيرهم (2) ، وهي قبور تنافس بيت الله بل تفضل عليه، ويقام فيها الشرك ويهدم التوحيد.
وقد يقال: إن الشرك والمشاهد منتشرة في كثير من بلاد السنة. وقد أثار شيخ الإسلام ابن تيمية هذا السؤال في أثناء حديثه عن غلو الشيعة في أئمتها وما عندها من الشرك والبدعة حيث قال: "فإن قيل: ما وصفت به الرافضة من الغلو والشرك والبدع موجود كثير منه في كثير من المنتسبين إلى السنة.."، وأجاب رحمه الله عن ذلك: بأن هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله، وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه سواء كان فاعله منتسبًا إلى السنة أو التشيع، ولكن ما عند الرافضة من هذه الأمور المخالفة للكتاب والسنة أكثر مما عند أهل السنة (3) .
__________
(1) وكثير من هذه القبور (المنسوبة للأئمة) لم يدفن فيها من ينسبونها إليهم؛ فلا مكان قبر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في النجف هو مكان قبره حقيقة، ولا مكان الحسين في كربلاء وغيرها هو مكان دفنه حقيقة. وهذه حقائق يعرفها التاريخ ويقررها وإن كابروا فيها (محب الدين الخطيب/ المنتقى (الهامش) ص158) . وانظر للتفصيل: (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 27/446 وما بعدها) قال شيخ الإسلام: "وأصل ذلك أن عامة أمر هذه القبور والمشاهد مضطرب مختلق لا يكاد يوقف منه على العلم إلا في قليل منها بعد بحث شديد، وهذا لأن معرفتها وبناء المساجد عليها ليس من شريعة الإسلام" (المصدر السابق 27/447) .
(2) غلو الرافضة بالمشاهد تجاوز مشاهد أئمتهم إلى آخرين. انظر - مثلاً -: باب فضل زيارة عبد العظيم الحسني من بحار الأنوار: 102/268، وقد جاء فيه أن الحسن العسكري قال: بأن من زار قبر عبد العظيم كان كمن زار قبر الحسين (انظر: الموضع نفسه من المصدر السابق، وثواب الأعمال ص89، وكامل الزيارات ص324) ، وكذلك عقد المجلسي بابًا في زيارة فاطمة بنت موسى بقم (انظر: بحار الأنوار: 102/265)
(3) انظر: منهاج السنة: 1/177-178(2/478)
وأضيف أيضًا أن الفرق بين الشيعة وأهل السنة في ذلك أن ما عند أهل السنة هو انحراف في واقعهم تنكره أصولهم، وما عند الشيعة هو ما يتفق مع أصولهم بل هو ما تدعو إليه وتحث عليه أحاديثهم ورواياتهم - كما رأينا - فهو معروف في أصول الشيعة منكر في أصول أهل السنة.
ونتيجة هذا الفرق أن ما عند أهل السنة قابل للإصلاح وما عند الشيعة غير قابل حتى تغير أصولهم أولاً، وهذه النتيجة ليست نظرية أو خيالية بل ظهرت بشكل واقع في تأثير حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي في محاربة الشرك، واستعصاء الشيعة على هذا الإصلاح.
وقد شهد بهذه الحقيقة شاهد من أهلها:
يقول العالم الإيراني - الشيعي الصل - أحمد الكسروي (1) .: "ومما يرى من لجاج الشيعة أنه قد انقضى منذ ظهور الوهابيين أكثر من مائة وخمسين عامًا، وجرت في تلك المدة مباحثات ومجادلات كثيرة بينهم وبين الطوائف الأخرى من المسلمين، وانتشرت رسالات وطبعت كتب، وظهر جليًا أن ليست زيارة القبب، والتوسل بالموتى، ونذر النذور للقبور وأمثالها إلا الشرك، ولا فرق بين هذه وبين عبادة الأوثان التي كانت جارية بين المشركين من العرب فقام الإسلام يجادلها ويبغي قلع جذورها، يبين ذلك آيات كثيرة من القرآن، فأثرت الوهابية في سائر طوائف المسلمين غير الروافض أو الشيعة الإمامية، فإن هؤلاء لم يكترثوا بما كان، ولم يعتنوا بالكتب المنتشرة والدلائل المذكورة أدنى اعتناء، ولم يكن نصيب الوهابيين منهم إلا اللعن والسب كالآخرين" (2) .
إن الشرك قد ألبس في مصادر الشيعة المعتمدة ثوب الحق، وأصبح هو الدين، وهذا هو الخطر الأكبر، والداء الأعظم. لقد عقدت أمهات كتبهم "أبوابًا"
__________
(1) انظر الحديث عنه في "فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة" ص:555 وما بعدها
(2) الكسروي/ الشيعة ص89(2/479)
كثيرة ضمنتها مئات من الروايات تجسد الشرك وترسي قواعده، وألفت في هذا كتبٌ مستقلة جمعت من الشر في هذا السبيل فأوعت - كما مر -.
لقد غلت الرافضة بالأئمة وقبورهم، وصنعوا صنيع النصارى في غلوهم في المسيح.. فترك هؤلاء الروافض عبادة الله وحده لا شريك له فتراهم يعطلون المساجد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.. ويعظمون المشاهد المبنية على القبور فيعكفون عليها مشابهة للمشركين، ويحجون إليها كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، بل السفر إليها والطواف بها والصلاة عندها وتقديم القرابين في رحابها والانكباب على الضريح والاستغاثة به، وطلب الشفاء منه، أو التوسل به وطلب شفاعته هي عندهم من أفضل القربات وأعظم الطاعات - كما مضى ذكر بعض شواهده - ومن أضل ممن يفضل الشرك على التوحيد، ويعمر المشاهد ويعطل المساجد، و"يعتاض عن أرض مكة والحرم وعفرة ومنى بأرض كربلاء" (1) . ويستبدل الباطل بالحق، ويرى أنه أهدى من الذين آمنوا سبيلاً؟!
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بما ذكروه من أمر المشاهد ولا شرع ولا شرع لأمته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين، بل هذا من دين المشركين (2) . الذين قال الله تعالى فيهم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (3) .
قال ابن عباس وغيره: هؤلاء.. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت (4) .
__________
(1) الجرجاني/ المعارضة في الرد على الرافضة الورقة (71)
(2) منهاج السنة: 1/175
(3) نوح، آية:23
(4) أخرجه البخاري في تفسير سورة نوح (البخاري مع الفتح: 8/667) . قال الألباني: "وهو موقوف على ابن عباس في حكم المرفوع" (شرح العقيدة الطحاوية ص80 -الهامش-)(2/480)
وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته" (1) .
وهذا المعنى أقرت به بعض روايات الشيعة، فقد روى الكليني عن أبي عبد الله قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها ولا قبرًا إلا سوّيته (2) . وفي رواية أخرى «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور وكسر الصّور" (3) .
وعن أبي عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى على قبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه (4) . وعن أبي عبد الله قال: لا تبنوا على القبور.. فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك (5) ، وعنه أيضًا عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصّص المقابر (6) .
وقد زعم الحرّ العاملي أنّ هذا النهي يشمل كل قبر "غير قبر النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام وأن هذا النّهي لمجرّد الكراهة" (7) .
وصيغة العموم واضحة في هذه الروايات، كما أن دلالة التحريم بينة، ولا دليل
__________
(1) أخرجه مسلم في الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر (969) : 1/666، وأبو داود: 3/548 (3218) ، والترمذي: 3/366 (1049) ، والنسائي 4/88، 89، وأحمد 1/96، 129 ومواضع أخرى، وأبو داود الطيالسي 1/168، والحاكم: 1/369، والبيهقي في سننه: 4/3
(2) فروع الكافي: 2/227، وسائل الشّيعة: 2/869
(3) فروع الكافي: 2/226، وسائل الشّيعة: 2/870
(4) الطوسي/ تهذيب الأحكام: 1/130، وسائل الشيعة: 2/869
(5) تهذيب الأحكام: 1/130، البرقي/ المحاسن: ص 612، وسائل الشّيعة: 2/870
(6) ابن بابويه/ من لا يحضره الفقيه: 2/194، أمالي الصّدوق ص253، وسائل الشّيعة: 2/870
(7) كما هو صريح الباب الذي عقده لهذه الأحاديث وهو "باب كراهة البناء على القبر في غير قبر النّبيّ والأئمّة.." (وسائل الشّيعة 2/869) والغريب أنّه لم يذكر ما يدلّ على هذا العنوان؛ إذ كلّ أحاديث الباب السّبعة تناقض ما ذهب إليه.(2/481)
عند العاملي سوى ما شذت به طائفته في واقعها وفي جملة من رواياتها، والشذوذ دليل على البطلان لمخالفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة بما فيهم أهل البيت الذين أثر عنهم التحذير من ذلك، لأن ذلك وسيلة للشرك بالله، ثم إن الحكمة التي ورد من أجلها النهي لا تفرق بين قبر وقبر، وقد يكون الخطر في قبور الأئمة أشد لعظيم الافتتان بهم، ولهذا كان أصل الشرك هو الغلو في الصالحين (1) .
وتناقض كتب الشيعة نفسها حينما تنقل أدعية الأئمة، ومناجاتهم لله سبحانه، وتضرعهم بالاستكانة إليه، وإخلاص الدعاء له وحده، وإظهار الضعف والافتقار إليه سبحانه، مما يكشف باطل الشيعة، ويبين أن ما تفعله في مزاراتها، وتدعو إليه في رواياتها ليس من هدي الأئمة.
فهذا جعفر الصادق كان من دعائه كما تعترف كتب الشيعة: "اللهم إنّي أصبحت لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا، قد ذلّ مصرعي، واستكان مضجعي، وظهر ضري، وانقطع عذري، وقل ناصري، وأسلمني أهلي ووالدي وولدي بعد قيام حجتك عليّ، وظهور براهينك عندي، ووضوح أدلتك لي.
اللهم وقد.. أعيت الحيل، وتغلقت الطرق، وضاقت المذاهب، ودرست الآمال إلا منك، وانقطع الرّجاء إلا من جهتك.." (2) .
هذا ما يجأر به جعفر ويلجأ به إلى الله فهو لا يملك شيئًا من النفع، أو الضر لنفسه فكيف لغيره، وإذا كان ذلك في حياته فهو بعد موته أعجز.
__________
(1) انظر: كتاب التوحيد (مع شرحه تيسير العزيز الحميد) باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين ص305
(2) بحار الأنوار: 86/318، مهج الدّعوات ص216(2/482)
وكثير من الأئمة نقل عنهم أمثال هذه الدعوات (1) .
كما تنقل كتب الشيعة أن أمير المؤمنين عليًا صور حالته في القبر في مناجاته لربه فقال: "إلهي كأني بنفسي قد أضجعت في حقرتها، وانصرف عنها المشيعون من جيرتها.. ولم يخف على الناظرين ضرّ فاقتها.. قد توسدت الثرى وعجز حيلتها.." (2) . فليس له حيلة في نفسه إلا برحمة من الله وفضل، فكيف يطلب منه في قبره الشفاعة والغفران وينسى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم.
والحسين لم يستطع أن يدفع عن نفسه القتل فكيف يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله؟!
وقد نقلت كتب الشيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذه هو والحسن بهذه العوذة وهو هذا الدعاء: بسم الله الرحمن الرحيم: أعيذ نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي وخواتيم عملي، وما رزقني ربي وخولني بعزة ربي وعظمة الله.. إلخ (3) . فهو أضعف من أن يقي نفسه شر ما يصيبها إلا بحفظ الله، فإذا كان ذلك في حياته فهو بعد موته أعجز، والله سبحانه لم يجعل بينه وبين خلقه واسطة إلا الرسل للإبلاغ والبيان.
__________
(1) انظر - مثلاً -: باب الأدعية والأذكار من البحار: 86/240 وما بعدها، وانظر أيضًا: باب أدعية المناجاة في الجزء 94 ص89 وما بعدها
(2) بحار الأنوار: 94/93-94
(3) بحار الأنوار: 94/264، مهج الدعوات: ص13(2/483)
المبحث الرابع: قولهم: إن الإمام يُحرّم ما يشاء ويُحلّ ما يشاء
من أصول التوحيد الإيمان بأن الله سبحانه هو المشرع وحده سبحانه، يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، لا شريك له في ذلك، ورسل الله يبلغون شرع الله لعباده، ومن ادعى أن له إمامًا يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء فهو داخل في قوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (1) . فأشرك مع الله غيره.
والشيعة تزعم في رواياتهم أن الله سبحانه وتعالى "خلق محمّدًا وعليًّا وفاطمة فمكثوا ألف دهر ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوّض أمورهم إليها، فهم يحلّون ما يشاءون ويحرّمون ما يشاءون" (2) .
وقد بين شيخهم المجلسي بعض فقرات هذا النص فقال: "وأجرى طاعتهم عليها، أي أوجب وألزم على جميع الأشياء طاعتهم حتى الجمادات من السّماويّات والأرضيّات، كشقّ القمر وإقبال الشّجر وتسبيح الحصى وأمثالها ممّا لا يحصي، وفوّض أمورها إليهم من التّحليل والتّحريم والعطاء والمنع.." (3) . ثم بين أن ظاهر هذا النص يدل على تفويض الأحكام "أحكام التحليل والتحريم إليهم".
وجاءت الرواية عندهم صريحة بهذا فيما ذكره المفيد في الاختصاص، والمجلسي في البحار وغيرهم عن أبي جعفر قال: "من أحللنا له شيئًا أصابه من أعمال الظّالمين (4) . فهو حلال لأن الأئمة منا مفوض إليهم، فما أحلوا فهو حلال،
__________
(1) الشورى، آية:21
(2) أصول الكافي: 1/441، بحار الأنوار: 25/340
(3) بحار الأنوار: 25/ 341-342
(4) الظّالمون في معتقدهم هم خلفاء الدّولة الإسلاميّة، ما عدا أمير المؤمنين عليًّا وابنه الحسن رضي الله عنهما؛ لأنّ بقيّة أئمّتهم لم يتولّوا الخلافة ولا يومًا واحدًا، وكلّ خليفة من غيرهم هو ظالم غاصب لحقّ الأئمّة على حدّ زعمهم(2/484)
وما حرموا فهو حرام" (1) .
هكذا يصرحون بأن للأئمة حق التشريع والتحليل والتحريم فما أحلوه من بين مال المسلمين فهو حلال، وما حرموه فهو حرام ... فجعل هؤلاء من أئمتهم أربابًا من دون الله، لأن جعلهم جهة تحريم وتحليل وتشريع هو شرك في توحيد الربوبية، لأن الحاكمية والتشريع لله، كما أن طاعتهم في تشريعهم المخالف لشريعة رب العالمين، والتي قد تنسخ أو تقيد أو تخصص ما جاء به خاتم النبيين (2) . هو عبودية لهم من دون الله.. وحق التشريع لا يملكها إلا رب العباد، والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هم مبلغون عن الله سبحانه لا يحرمون ولا يحلون إلا ما يأمرهم الله به، ويوحيه إليهم.
وقد قال الله جل شأنه فيمن اتبع مشايخه فيما يحلون ويحرمون من دون شرع الله وحكمه قال سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} (3) . فجعل سبحانه اتباعهم فيما يحلون من الحرام، ويحرمون من الحلال - كما جاء في تفسير الآية (4) .- عبادة لهم، حيث "تلقوا الحلال والحرام من جهتهم وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل" (5) .
وقد شابه اعتقاد الشيعة في أئمتهم ومشايخهم اعتقاد النصارى في رؤسائهم؛ فالجميع اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله سبحانه.
__________
(1) الاختصاص: ص330، بحار الأنوار: 25/334، وانظر: بصائر الدرجات: ص113
(2) انظر: ما سلف حول هذا الموضوع ص:144 وما بعدها
(3) التوبة، آية:31
(4) انظر: تفسير الطبري: 10/113-114، تفسير ابن كثير: 2/373-374. وقد جاء في أصول الكافي ما يقر بهذا في تأويل الآية، حيث قال أبو عبد الله: "أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حرامًا، وحرموا عليهم حلالاً من حيث لا يشعرون" (أصول الكافي: 1/53، ومثله في: مجمع البيان للطبرسي: 3/48-49، والبرهان للبحراني: 2/120-121، وتفسير الصافي للكاشاني: 2/336)
(5) ابن عطية/ المحرر الوجيز: 8/166(2/485)
والشيعة حينما اعتقدت في أئمتها أنهم جهة تشريع أكملت ذلك بدعواها أن الناس جميعًا عبيد للأئمة لتتضح صورة الشرك أكثر. قال الرضا: "الناس عبيد لنا في الطاعة، موالٍ لنا في الدين فليبلغ الشاهد الغائب" (1) .
مع أن الله سبحانه يقول: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ} (2) .
فالناس جميعًا عبيد لله وحده لا لأحد سواه، ولو كان من عباد الله المرسلين الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، فكيف بأئمة الشيعة، أو من تدعي فيه الإمامة.
وبما أن الأئمة - حسب اعتقاد الشيعة - جهة تحليل وتحريم، جهة تحليل وتحريم، فإن لهم الخيار في أن يبينوا للناس أمر الحلال والحرام وأن يكتموا.
جاء في الكافي وغيره: "عن معلى بن محمد عن الوشاء قال: سألت الرضا رضي الله عنه فقلت له: جعلت فداك {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (3) . فقال: نحن أهل الذكر، ونحن المسؤولون، قلت: فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ قال: نعم، قلت: حقًا علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: حقًا عليكم أن تجيبونا؟ قال: لا، ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل" (4) . وفي هذا المعنى روايات كثيرة عندهم (5) .
مع أن هذا لم يكن لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل أجمعين. قال تعالى:
__________
(1) المفيد/ الأمالي ص48، بحار الأنوار: 25/279
(2) آل عمران، آية:79
(3) النحل، آية:43، الأنبياء، آية:7
(4) أصول الكافي: 1/210-211، تفسير القمي: 2/68، بحار الأنوار: 23/174
(5) انظر: أصول الكافي، باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم السلام: 1/210-212، بحار الأنوار، باب أنهم عليهم السلام الذكر وأهل الذكر وأنهم المسؤولون، وأنه فرض على شيعتهم المسألة ولم يفرض عليهم الجواب: 23/172-188، وانظر: تفسير العياشي: 2/261، قرب الإسناد للحميري ص152، 153(2/486)
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2) .
وقد جاء الوعيد الشديد لمن كتم ما أنزل الله من الهدى والحق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} (3) .
وقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" (4) . فهل بيان ما يحتاج الناس إليه من الحق والهدى خاضع للإرادات والمزاج والهوى حتى يقال: "ليس علينا الجواب إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا" (5) .؟!
ولأن البيان والتعليم خاضع لإرادة أئمة الشيعة، فقد ظل الشيعة - كما تقول أخبارهم - "لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم حتى كان أبو جعفر (محمد الباقر) ففتح لهم، وبين مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم" (6) .
"ولم يكتف الشيعة بذلك بل زعموا أن لأئمتهم "حق" إضلال الناس، وإجابتهم بالأجوبة المختلفة المتناقضة، لأنه قد فوض إليهم ذلك. جاء في الاختصاص للمفيد عن موسى بن أشيم قال: دخلت على أبي عبد الله فسألته عن مسألة
__________
(1) النحل، آية:44
(2) المائدة، آية: 67
(3) البقرة: آية:159
(4) أخرجه أحمد: 2/263، 305، 344، 353، 495، 499، 508، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم: 4/67 (3658) ، والترمذي في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم: 5/29 (2649) ، وقال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه: 1/96 (261) ، والحاكم: 1/101، وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان: 1/260
(5) أصول الكافي: 1/212
(6) أصول الكافي: 2/20(2/487)
فأجابني فيها بجواب، فأنا جالس إذ دخل رجل فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني وخلاف ما أجاب به صاحبي، ففزعت من ذلك وعظم عليَّ، فلما خرج القوم نظر إليَّ وقال: يا ابن أشيم إن الله فوض إلى داود أمر ملكه فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) ، وفوض إلى محمد صلى الله عليه وسلم أمر دينه فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (2) ، وإن الله فوض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوض إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا تجزع" (3) .
وهكذا يفترون الكذب.. فالأئمة - كما تقول أخبارهم - هم المشرعون، وأمر التحليل والتحريم بأيديهم، ولهم حق كتمان ما يحتاج الناس إليه حتى أركان الإسلام وأصوله إن شاءوا أجابوا الناس، وإن شاءوا منعوهم، ولذلك ظل الشيعة في جهل في أمر الحج - كما يشهدون على أنفسهم - إلى زمن الباقر؛ لأنهم لا يأخذون مما رواه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يأخذون ما جاء عن الأئمة، والأئمة كتموا أمر المناسك عليهم.
وتستمر مسيرة الافتراء بأيدي هؤلاء القوم على دين الله وكتابه، ورسوله وأهل بيته، وهم يتسترون على هذه الدعاوى المنكرة، والاتجاهات الكافرة بدعوى التشيع لآل البيت، فهل هؤلاء شيعة لعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وهم يفترون عليهم.. كل هذه الافتراءات، ويرمونهم بأنهم لم يبينوا للناس أمر الحلال والحرام، والحج، وأن من شرعتهم كتمان الحق، وإضلال الناس بالأجوبة المتناقضة؟!
__________
(1) سورة ص، آية: 39
(2) الحشر، آية:7
(3) الاختصاص: ص329-330، بحار الأنوار: 23/185(2/488)
المبحث الخامس: قولهم: إن تراب قبر الحسين شفاء من كل داء
تقول الشيعة - مخالفة بذلك النقل والعقل، والطب والحكمة بأن تربة الحسين هي الكفيلة لشفاء الأدواء والأسقام بشتى أنواعها وأشكالها، وكأنهم بهذا اعتقدوا فيما لا ينفع بالحس والمشاهدة، وبالطبع والعقل، اعتقدوا فيه النفع، وزعموا أن الشفاء يتحقق من تراب قبر لا من رب الأرباب، مخالفين بذلك قول الله: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} (1) ، وقوله: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (2) ، وقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (3) .
فهم باعتقادهم بهذا التراب الدواء والشفاء قد شابهوا المشركين في اعتقادهم بأحجارهم النفع والضر.
ولقد ذكر صاحب البحار ما يصل إلى ثلاث وثمانين رواية عن تربة الحسين وفضلها وآدابها وأحكامها (4) ، فجعلت هذه الرّوايات من هذه التّربة البلسم الشّافي من كلّ داء (5) ، والحصن الحصين من كلّ خوف (6) ، يشرب منها المريض
__________
(1) يونس، آية:107
(2) النمل، آية:62
(3) الشعراء، آية:80
(4) انظر: ج/ص118-140
(5) ، (6) جاء في أخبارهم: ".. عن الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السّلام -: إنّ رجل كثير العلل والأمراض، وما تركت دواء إلا تداويت به، فقال لي: أين أنت عن طين قبر الحسين بن علي فإنّ فيه شفاء من كلّ داء وأمنًا نم كلّ خوف" (أمالي الطّوسي: 1/326، وبحار الأنوار: 101/119، وانظر شواهد أخرى في هذا المعنى في: وسائل الشّيعة: 10/415، كامل الزّيارات ص278، 285 وغيرهما)(2/489)
فيتحوّل إلى صحيح، كأن لم يكن به بأس (1) . ويحنّك بها الطّفل فتكون مأمنه من الأخطار (2) ، وتوضع مع الميّت في قبره لتقيه من العذاب (3) ، ويمسك بها الرّجل يعبث بها ساهيًا يقلّبها فيكتب له أجر المسبّحين، لأنّها تسبّح بيد الرّجل من غير أن يسبّح (4) .
إنّ الله جعل تربة جدّي الحسين رضي الله عنه شفاء من كلّ داء، وأمانًا من كلّ خوف، فإذا تناولها أحدكم فليقبّلها ويعضها على عينه وليمرّها على سائر جسده وليقل: "اللهمّ بحقّ هذه التّربة وبحقّ من حلّ بها وثوى فيها.. إلخ" (5) .
وما أن يحس الشيعي بألم المرض وشدته حتى يتجه إلى طينة الضريح وعليه أن يختار الوقت المناسب، فيتجه إليه - كما تقول أخبارهم - في جنح الليل البهيم وليكن في آخره، ويغتسل ويلبس أطهر ثيابه، وإذا وصل فليقف عند الرأس ويصلي، وإذا فرغ من صلاته سجد سجدة طويلة يكرر فيها كلمة واحدة ألف مرة، هذه الكلمة هي "شكرًا"، ثم يقوم ويتعلق بالضريح ويقول: "يا مولاي يا ابن رسول الله إني آخذ من تربتك بإذنك اللهم فاجعلها شفاء من كل داء، وعزًا من كل ذل، وأمنًا من كل خوف، وغنىً من كل فقر.." (6) .
__________
(1) وقد اخترعا في ذلك حكايات وأساطير، كلّ واحد من أصحاب هذه الحكايات يسوق قصّة مرضه، وتعذّر شفائه، وما إن يأكل من طين الحسين حتى ينهض كأن لم يكن به علّة. يقول أحدهم في نهاية حكايته: "فلمّا استقر الشّراب في جوفي فكأنّما نشطت من عقال". (بحار الأنوار: 101/ 120-121، كامل الزّيارات: ص275)
(2) قال أبو عبد الله: "حنّكوا أولادكم بتربة الحسين فإنّه أمان". (كامل الزّيارات ص278، بحار الأنوار: 101/124)
(3) انظر: مبحث اعتقادهم في اليوم الآخر: ص (631)
(4) جاء في تهذيب الأحكام للطّوسي "عن محمّد الحميري قال: كتبت إلى الفقيه (إمامهم المنتظر) أسأله هل يجوز أن يسبّح الرّجل بطين القبر؟ وهل فيه فضل؟ فأجاب، وقرأت التّوقيع ومنه نسخت: تسبّح به فما من شيء من التّسبيح أفضل منه، ومن فضله أنّ المُسبّح ينسى التّسبيح ويدير السّبحة تكتب له ذلك التّسبيح" (تهذيب الأحكام/ 6/75، بحار الأنوار: 101/ 132-133) . وفي رواية أخرى عندهم: "إذا قلبها ذاكرًا الله كتب له بكلّ حبّة أربعون حسنة، وإذا قلّبها ساهيًا يعبث بها كتب الله له عشرين حسنة" (تهذيب الأحكام 6/75، بحار الأنوار 101/ 132)
(5) أمالي الطّوسي: 1/326، بحار الأنوار: 101/119
(6) بحار الأنوار: 101/37، وقد نقل ذلك عن مصباح الزائر ص136(2/490)
ثم بعد ذلك يأخذ من الطينة "بثلاث أصابع ثلاث قبضات" وتوصيه الرواية بأن يجعل ذلك في خرقة نظيفة ويختمها بخاتم فصه عقيق.. ثم يستعمل منها وقت الحاجة مثل الحمصة فإنه يشفي (1) .
وتزيد رواية أخرى بأن عليه أن يتباكى ويقول: "بسم الله وبالله وبحق هذه التربة المباركة، وبحق الوصي الذي تواريه وبحق جده وأبيه، وأمه وأخيه، وبحق أولاده الصادقين، وبحق الملائكة المقيمين عند قبره ينتظرون نصرته، صلّ عليهم أجمعين، واجعل لي ولأهلي وولدي وإخوتي وأخواتي فيه الشفاء من كل داء.." (2) .
وتتحدث بعض الروايات عن طرق أخرى للاستشفاء بها فتقول: قال أبو عبد الله: إن الله جعل تربة جدي الحسين رضي الله عنه شفاء من كل داء، وأمانًا من كل خوف، فإذا تناولها أحدكم فليقبلها ويضعها على عنه وليمرها على سائر جسده وليقل: "اللهم بحق هذه التربة وبحق من حل بها وثوى فيها.. إلخ" (3) .
وتذكر رواية أخرى طريقة تناولها ببيان المقدار والصفة، حيث قال جعفرهم - حينما سئل عن كيفية تناولها -: "إذا تناول التّربة أحدكم فليأخذ بأطراف أصابعه وقدره مثل الحمّصة فليقبّلها وليضعها على عينه.." (4) . فهذا هو المستشفى المتنقل مع كل شيعي.
ويبدو أن هذه الطينة زادت مرضهم مرضًا، ومن تعلق بشيء وكل إليه، ولهذا شكا بعض الشيعة لإمامه ما يجده من ضعف القدرة، فعزاه إمامه بقوله: "كذلك جعل الله أولياءنا وأهل مودتنا وجعل البلاء إليهم سريعًا" (5) .
__________
(1) بحار الأنوار: 101/37، وقد نقل ذلك عن مصباح الزائر ص136
(2) بحار الأنوار: 101/138
(3) أمالي الطوسي: 1/326، بحار الأنوار: 101/119
(4) مكارم الأخلاق ص189 (ط: إيران 1376هـ) ، بحار الأنوار: 101/120
(5) كامل الزيارات ص275، بحار الأنوار: 101/121(2/491)
هذا وكما أن الشيعي يتجه حين نزول المرض به إلى صنمه والذي يسميه "بالطينة"، فإنه أيضًا يلجأ إلى هذا الصنم وقت الخوف ومداهمة العدو، فيصطحبه معه في ظروف الخوف. يقول إمامهم: "إذا خفت سلطانًا أو غير سلطان فلا تخرجنّ من منزلك إلا ومعك من طين قبر الحسين" (1) وأمره أن يقول: "اللهمّ إنّي أخذته من قبر وليّك وابن وليّك، فاجعله لي أمنًا وحرزًا لِمَا أخاف وما لا أخاف" (2) .
ولا ينسى راوي هذه الأسطورة أن يذكر طائفته بأنه فعل ذلك فكانت له الأمان من كل ما خاف وما لم يخف ولم ير مكروهًا (3) .
وهذه الطينة هي أمل الحور العين، ولذلك فالحور كما تقول أساطيرهم يطلبن من الملائكة حينما يهبطون إلى الأرض أن تكون هداياهن من طين قبر الحسين (4) .
كما تصف رواياتهم السّجود على هذه الطّينة بأنّها "تخرق الحُجُب السّبع" (5) .
هذا جزء من دعاواهم حول طينة الحسين، وكأنهم في اعتقادهم بهذه الطينة فعلوا أكثر من المشركين الذين قالوا في أصنامهم بأنها تقربهم إلى الله زلفى، فقد جعلوا لهذه الطينة خواص لا يقدر عليها إلا رب العزة جل علاه، اتخذوها ربًا وإلهًا مع الله سبحانه.
ودعوى الاستشفاء بهذه الطينة منكر من القول وزور، وهي من دين الشيعة لا من دين الإسلام {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ
__________
(1) أمالي الطّوسي: 1/325، بحار الأنوار: 101/118
(2) أمالي الطّوسي: 1/325، بحار الأنوار: 101/118
(3) أمالي الطّوسي: 1/325، بحار الأنوار: 101/118
(4) بحار الأنوار: 101/134، وقد نقل ذلك عن كتاب المزار الكبير لشيخهم محمد المهدي: ص119
(5) مصباح التّهجّد للطّوسي: ص511، بحار الأنوار: 101/135(2/492)
مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، وليس لها ذكر في كتاب ربنا ولا سنة نبينا، والله سبحانه بيّن في كتابه أن القرآن العظيم شفاء لعباده المؤمنين {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} (2) . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (3) .
وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بينت من الأدعية والأوراد التي فيها اللجوء إلى الله وحده لا إلى تراب ولا صنم، بل ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنما إلى الله وحده، ويتحقق بسببها - بإذنه تعالى - الحفظ للمسلم والأمان (4) .
كما أن المسلم مأمور بالأخذ بالسباب الطبيعية للشفاء..
أما أكل التراب فهو بدعة كبرى، وأضحوكة ليس لها مثيل إلا في دين هؤلاء القوم.
__________
(1) آل عمران، آية:85
(2) فصلت، آية:44
(3) الإسراء، آية:82
(4) راجع كتب الأذكار مثل: الأذكار للنووي، والكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، والوابل الصيب لابن القيم، وتحفة الذاكرين للشوكاني وغيرها(2/493)
المبحث السادس: دعاؤهم بالطلاسم والرموز واستغاثتهم بالمجهول
ومن ضلالهم وشركهم دعاؤهم بالرموز والطلاسم والحروف، واعتبار ذلك من أحراز الأئمة وأدعيتهم وحجبهم، فيكتبونها ويتمتمون بها.. من أجل الشفاء، والسلامة، وقد جمع من ذلك المجلسي فأكثر، فقد أورد في كتابه طائفة من الألفاظ التي لا معنى لها، ووضع صور بعض الطلاسم برسم غريب في كتابه البحار على أن ذلك من هدي الأئمة للشفاء (1) إلى آخر هذه الطلاسم، ثم رسم رموزًا غريبة على شكل خطوط متداخلة (2) .
والأحجية بالحروف التي لا معنى لها هي من عوذات الأئمة كما يفترون (3) . والله سبحانه يقول: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (4) . وكتابة
__________
(1) من أمثلة تلك الطلاسم قالوا: حرز لأمير المؤمنين صلوات الله عليه للمسحور، والتوابع (الجني يتبع الإنسان حيث ذهب) والمصروع والسم والسلطان والشيطان وجميع ما يخافه الإنسان.. وهذه كتابته: بسم الله الرحمن الرحيم، أي كنوش أي كنوش أرشش عطنيطنيطح يا مطيطرون فريالسنون ما وما ساما طيطشا لوش خيطوش
(2) (بحار الأنوار: ص193 ج) . وتكر رسم مثل هذه الرموز في ص229، وص265، 297 من الجزء نفسه. ومن عوذات الأئمة وأحرازهم بالألفاظ قولهم كما يزعمون: "أعوذه بيا أهيا شراهيا.." إلخ (المصدر السابق:94/222)
(3) ومن دعواتهم بالحروف: "اللهم بالعين والميم والفاء والحاءين بنور أبو الأشباح.. اكفني شر من دب ومشى.." واعتبروا هذا من الحجب التي احتجب بها الأئمة ممن أراد الإساءة إليهم (بحار الأنوار: 94/372-373)
(4) الأعراف، آية:180(2/494)
الأحجبة والحروز بهذه الطلاسم والحروف هي من الشرك بالواحد القهار، لأنها دعاء لغير الله سبحانه لأنها ليست من أسمائه سبحانه وصفاته، وأسماء الله سبحانه هي ما ورد في الكتاب والسنة وهي توفيقية لا يجوز أن ندعو الله سبحانه بغيرها.
كما أن هذه الطلاسم لا معنى لها معروف، ولهذا قال الإمام الصغاني: "وربما يكون التلفظ بتلك الكلمات كفرًا لأنا لا نعرف معناها بالعربية، وقد قال الله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (1) . وهو يقول: "آهيا شراهيا.." (2) . ثم ذكر أنه قد ضل بهذه الدعوات المجهولات خلق كثير (3) .
أما الاستعانة بالمجهول فإنهم يستغيثون به عند الضلال في الطريق كما استغاثوا من قبل بالميت، والمعدوم - كما سلف -، و"الاستعانة بالأموات أو الغائبين عن نظر من استعان بهم من ملائكة أو جن أو إنس في جلب نفع أو دفع ضر نوع من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا لمن تاب منه؛ لأن هذا النوع من الاستعانة قرب وعبادة، وهي لا تجوز إلا لله خالصة لوجهه الكريم.
ومن أدلة ذلك ما علم الله عباده أن يقولوه في آية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) . أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (5) . وغيرها" (6) .
جاء في مصادرهم المعتمدة "عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: إذا ضللت
__________
(1) الأنعام، آية:38
(2) موضوعات الصغاني: ص63
(3) موضوعات الصغاني: ص63
(4) الفاتحة، آية:5
(5) الإسراء، آية:23
(6) هذه فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، انظر: جريدة الجزيرة، الجمعة 6 رجب 1407هـ، العدد (5272) ، ركن الدعوة والإفتاء، تحت إشراف الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية ص:8(2/495)
الطريق فناد: يا صالح أو يا أبا صالح أرشدونا إلى الطريق يرحمكم الله" (1) .
قال ابن بابويه في باب: دعاء الضال عن الطريق بعد ذكره للرواية السالفة: "وروي أن البر موكل به صالح، والبحر موكل به حمزة" (2) .
ومن هو صالح أو حمزة؟ جاء ما يكشف عن هوية "صالح" في الخصال لابن بابويه بإسناده عن علي في حديث الأربعمائة قال: "ومن ضل منكم في سفر وخاف على نفسه فليناد: يا صالح أغثني، فإن في إخوانكم من الجن جنيًا يسمى صالح يسبح في البلاد لمكانكم محتسبًا نفسه لكم، فإذا سمع الصوت أجاب وأرشد الضال منكم وحبس عليه دابته" (3) .
وهذا ورثوه فيما يبدو عن أهل الجاهلية الأولى، فهو من دينها، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (4) .
قال أهل العلم: "كانت عادة العرب في جاهليتها إذا نزلت مكانًا يعوذون بعظيم ذلك المكان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامته وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقًا أي خوفًا وإرهابًا وذعرًا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذًا بهم، كما قال قتادة {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي إثمًا، وازدادت الجن عليهم بذلك جرأة ... فإذا عاذوا بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك" (5) .
__________
(1) ابن بابويه/ من لا يحضره الفقيه: 2/195، البرقي/ المحاسن: ص362 (وفيه أخطأتم الطريق) ، وسائل الشيعة: 8/325
(2) من لا يحضره الفقيه: 2/195، المحاسن: ص362، وانظر: وسائل الشيعة: 8/325
(3) الخصال: 2/618، وسائل الشيعة: 8/325
(4) الجن، آية: 6
(5) تفسير ابن كثير: 4/454-455، وانظر: تفسير الطبري 29/108، فتح القدير: 5/305، وقد جاء هذا المعنى في كتب التفسير عند الشيعة: انظر: البرهان: 4/391، تفسير القمي =(2/496)
فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وحده وتركوهم (1) . والاستعاذة بالجن من الشرك، لأنه استعاذة بغير الله (2) .
{وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) .
__________
= (المصدر السابق) ، تفسير الصافي: 5/234-235، تفسير شبر ص535
(1) انظر: تفسير الطبري: 29/109
(2) انظر: كتاب التوحيد (مع شرح فتح المجيد) ، باب من الشرك الاستعاذة بغير الله ص175
(3) يونس، آية:107(2/497)
المبحث السابع: استخارتهم بما يشبه أزلام الجاهلية
كانت العرب في جاهليتها إذا أراد أحدهم سفرًا أو غزوًا ونحو ذلك أجال القداح وهي الأزلام، وكانت عبارة عن قداح ثلاثة، على أحدها مكتوب افعل، وعلى الآخر لا تفعل، والثالث غفل ليس عليه شيء، ومن الناس من قال: مكتوب على الواحد أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل ليس عليه شيء، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله، أو النهي تركه، وإن طلع الفارغ أعاد (1) .
وقد ابتلي فئات من الناس بالأزلام، كما ابتلوا بالأنصاب، فالأنصاب للشرك في العبادة والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله به، هذا للعلم وتلك للعمل ودين الله وشرعه مضاد لهذا وهذا.
وقد أدخلت طائفة الاثني عشرية الاستخارة بالأزلام في دينها وأضافت عليها بعض الإضافات وسموها الرقاع. وعقد الحر العاملي لهذا بابًا بعنوان "باب استحباب الاستخارة بالرقاع وكيفيتها" (2) . وذكر في هذا الباب جملة من أحاديثهم في ذلك بلغت خمس روايات، أما المجلسي فقد ذكر أنواعًا من الاستخارات تدخل في هذا المعنى في أبواب ثلاثة وهي باب الاستخارة بالرقاع (3) ، وباب الاستخارة بالبنادق (4) ، وباب الاستخارة بالسبحة والحصى (5) .
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/12، تفسير الطبري: 9/510 (ط: المحققة)
(2) وسائل الشيعة: 5/208-213
(3) بحار الأنوار: 91/226-234
(4) بحار الأنوار: 91/235-240
(5) بحار الأنوار: 91/247-251(2/498)
وفي هذه الاستخارات تذكر كتب الشيعة كيفية قد تختلف في البداية عن طرق أهل الجاهلية حيث الصلاة والدعاء، وهي صلاة على طريقة مبتدعة، ثم دعاء معين ولكنها تنتهي بما يشبه عمل الجاهلية حيث استكشاف ما هو خير عن طريق تحريك السبحة، أو كتاب افعل أو لا تفعل في رقاع معينة واختبار ذلك عدة مرات.
ومن أمثلة ذلك ما جاء عند الكليني (1) ، والطوسي (2) ، والحر العاملي (3) . وغيهم (4) . عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أردت أمرًا فخذ ست رقاع فاكتب في ثلاث منها: «بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة هكذا النسبة للأم، والله يقول: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} (5) . افعل، وفي ثلاث منها: بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة لا تفعل، ثم ضعها تحت مصلاك، ثم صل ركعتين، فإذا فرغت فاسجد سجدة وقل فيها مائة مرة: أستخير الله برحمته خيرة في عافية، ثم استو جالسًا وقل: اللهم خر لي واختر لي في جميع أموري، في يسر منك وعافية، ثم اضرب بيدك إلى الرقاع فشوشها وأخرج واحدة، فإن خرج ثلاث متواليات افعل. فافعل الأمر الذي تريده، وإن خرج ثلاث متواليات لا تفعل فلا تفعله، وإن خرجت واحدة افعل والأخرى لا تفعل فأخرج من الرقاع إلى خمس فانظر أكثرها فاعمل به ودع السادسة لا تحتاج إليها» .
أما الاستخارة بالبنادق فيفسرها ما جاء في روايتهم التي تقول: ".. انوِ الحاجة في نفسك ثم اكتب رقعتين، في واحدة لا، وفي واحدة نعم، واجعلهما في بندقتين من طين، ثم صلِّ ركعتين واجعلهما تحت ذيلك وقل: يا الله، إني أشاورك
__________
(1) الفروع من الكافي: 1/131
(2) التهذيب: 1/306
(3) وسائل الشيعة: 5/208
(4) انظر: المقنعة ص36، المصباح ص372
(5) الأحزاب، آية: 5(2/499)
في أمري هذا وأنت خير مستشار ومشير فأشر علي مما فيه صلاح وحسن عاقبة، ثم أدخل يدك فإن كان فيها نعم فافعل، وإن كان فيها لا، لا تفعل" (1) .
وجاء في أخبارهم أن "استخارة مولانا أمير المؤمنين وهي أن تضمر ما شئت وتكتب هذه الاستخارة وتجعلهما في مثل البندق ويكون بالميزان (2) . وتضعهما في إناء فيه ماء ويكون على ظهر إحداهما افعل والأخرى لا تفعل، فأيهما طلع على وجه الماء فافعل به، ولا تخالفه (3) .
ولا شك بأن أمير المؤمنين عليًا بريء من لوثات الجاهلية وأوهامها، وهذا مما دسته الشيعة عليه، ولذلك لم ينقله عنه سواها..
أما الاستخارة بالسبحة والحصى فقد قال شيخهم المجلسي: "سمعت والدي يروي عن شيخه البهائي.. أنه كان يقول: سمعنا مذاكرة عن مشايخنا عن القائم صلوات الله عليه في الاستخارة بالسبحة أنه يأخذها، ويصلي على النبي وآله صلوات الله عليهم ثلاث مرات، ويقبض على السبحة، ويعد اثنتين اثنتين، فإن بقت واحدة فهو افعل، وإن بقيت اثنتان فهو لا تفعل" (4) .
هذا الأنواع من الاستخارة ذات أصل جاهلي حاولوا إلباسه ثوب الإسلام.
وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه (5) ، لما روى الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: "إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة
__________
(1) الفروع من الكافي: 1/132، التهذيب: 1/306، وسائل الشيعة: 5/209
(2) أي متساويتين بأن تزنهما بالميزان، قاله شيخهم المجلسي: البحار: أبو 91/239
(3) بحار الأنوار: 91/238، باب الاستخارة بالبنادق
(4) بحار الأنوار: 91/250
(5) ابن كثير/ التفسير: 2/13(2/500)
ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ... " (1) .
وهذه الاستخارة جاءت أيضًا في كتب الشيعة بنفس النص السابق (2) . الوارد في أمهات كتب المسلمين (مصادر أهل السنة) ، ولكن عقيدة التقية التي كانت من أهم العوامل التي نأت بالشيعة عن الانضواء تحت لواء الجماعة.. جعلت بعض شيوخ الشيعة يرجح العمل برقاع الجاهلية على غيرها لا لشيء إلا لأنها مما شذت به طائفته عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وما عليه أهل السنة، ذلك أن ما يتفق من رواياتهم مع إجماع المسلمين يصبح العمل به عند الشيعة موضع تردد لاحتمالات التقية المزعومة.
قال الحر العاملي: "قد رجح ابن طاووس العمل باستخارة الرقاع بوجوه كثيرة منها.. أنها لا تحتمل التقية لأنه لم ينقله أحد من العامة" (3) . ويعني بالعامة أهل السنة، وهذا اعتراف منهم أن استخارة الرقاع مما شذت به طائفتهم.
ويبدو أن بعض شيوخهم رابهم أمر هذه الرقاع وشعروا بشذوذه فقال بعضهم (4) .: "وأما الرقاع وما يتضمن افعل ولا تفعل ففي حيز الشذوذ" (5) . كما طعن بعضهم في إسنادها (6) .
ولكن هذا الصوت الذي ينكر هذا الاتجاه في الاستخارة لم يرق لبعض
__________
(1) الحديث ... أخرجه البخاري: 2/51 في التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، و8/168، باب قول الله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} ، وأبو داود 2/187، 188 (1538) ، والترمذي: 2/ 349 (480) ، والنسائي 6/80-81، وابن ماجه: 1/440 (1383) ، وأحمد: 3/344
(2) انظر: بحار الأنوار: 91/265، مكارم الأخلاق ص372
(3) وسائل الشيعة: 5/211
(4) وهو شيخهم جعفر بن الحسن الحلي (ت676هـ) الملقب عندهم بالمحقق
(5) انظر: بحار الأنوار: 91/287
(6) قال شيخهم ابن إدريس: "إنه من شواذ الأخبار، لأن رواتها فطحية ملعونون مثل: زرعة وسماعة" (بحار الأنوار: 91/287)(2/501)
متأخري الشيعة، فقد ردوه وقالوا: "إنه لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب، وكيف تكون شاذة وقد دونها المحدثون في كتبهم، والمصنفون في مصنفاتهم" (1) ، ثم قالوا بأنه قد ألف أحد شيوخهم (2) . كتابًا ضخمًا في الاستخارات واعتمد فيه على رواية الرقاع وذكر من آثارها عجائب وغرائب (3) ، وقالوا بأنه لم ينكرها إلا قلة (4) . منهم لا عبرة بإنكاره.
هذه حكاية الاستخارة بالرقاع، والبنادق، والسبحة، والحصى، وما دار حولها من جدل.. وهي عين استخارة المشركين "افعل أو لا تفعل" سوى أنهم أضافوا إليها صلاةً ودعاءً، وخصصت بعض رواياتهم موضع هذه الاستخارة بأن تكون عند قبر الحسين (5) . ليتسع باب الشرك أكثر. وهذه بدعة انفرد بها هؤلاء القوم، جعلتهم يتعلقون، ويأتمرون بما تهديهم إليه هذه الأزلام.
مع أن الله سبحانه يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} - إلى قوله سبحانه -: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ... } (6) . أي حرم عليكم أيها
__________
(1) بحار الأنوار: 91/288
(2) وهو رضي الدين الحسن علي بن طاووس الحسني
(3) بحار الأنوار:91/288
(4) اختلفت أقوالهم في أول من أنكرها؛ فذكر شيخهم الملقب بالشهيد بأنه لم ينكرها من شيوخهم سوى ابن إدريس ومن أخذ مأخذه كالشيخ نجم الدين (بحار الأنوار: 91/288) . بينما قال المجلسي بأن أصل الإنكار كان من شيخهم المفيد، وذلك حينما ذكر رواية الاستخارة بالرقاع قال: "وهذه الرواية شاذة.. أوردناها للرخصة دون تحقيق العمل". ثم أنكر بعض متأخريهم وجود هذا الكلام في نسخة المفيد وقالوا بأنه مما ألحق في كلامه وليس منه. (بحار الأنوار: 91/287-288) وهذا يدل على أنهم يغيرون في كتب شيوخهم ويبدلون.
(5) انظر: وسائل الشيعة: 5/220، بحار الأنوار: 101/285
(6) المائدة، آية:3(2/502)
المؤمنون الاستقسام بالأزلام، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام (1) . قال ابن عباس: "هي قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور" (2) . أي يطلبون بها علم ما قسم لهم (3) . وقوله سبحانه: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أي تعاطيه فسق وغيٌّ وضلالة وجهالة وشرك" (4) .
وهؤلاء الروافض في استخارتهم تلك ساروا في خطا المشركين، ورجحوا العمل بهذه "الأزلام" (5) . على الاستخارة الشرعية، لأن انفرادهم بها عن المسلمين دليل الصحة عندهم، كما هي قاعدتهم، كما ألزموا أتباعهم العمل بنتيجتها، وتوعدوا على مخالفتها (6) . فكأنهم اعتقدوا أنها تأتيهم بالخبر عن الله، وهذا كالاستقسام بالأزلام عند المشركين. قال ابن القيم: "الاستقسام هو إلزام أنفسهم بما تأمر به القداح كقسم اليمين.." (7) .
فكيف يزعم الرافضي أن ما خرج من هذه الرقاع التي يستقسم بها هي عين ما أراد الله فيلزم نفسها بها.. أطّلع الغيب أم اتّخذ عند الرحمن عهدًا؟ ! فهذه الرقاع تدفعه للمضي في أمره أو تمنعه بلا بينة ولا برهان كحال أهل الشرك، ولعله "لا فرق بين ذلك وبين قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا". والله سبحانه يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (8) . (9) . فهؤلاء يقولون: اعمل أو لا تعمل، بأمر الحصى والجمادات.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/12
(2) تفسير الطبري: 6/78
(3) ابن القيم/ إغاثة اللهفان: 1/227
(4) تفسير ابن كثير: 2/13
(5) انظر: الحر العاملي/ الإيقاظ من الهجعة: ص3، 70-71
(6) قالوا - مثلاً -: "وإن وجد في كلها (أي الرقاع) لا تفعل فليحذر عن الإقدام على ذلك الأمر". (بحار الأنوار: 91/228)
(7) إغاثة اللهفان: 1/227
(8) لقمان، آية:34
(9) إغاثة اللهفان: 1/227(2/503)
الفصل الثاني: عقيدتهم في توحيد الربوبية
وتوحيد الربوبية هو إفراد الله سبحانه بالملك والخلق والتدبير، فيؤمن العبد بأنه سبحانه الخالق الرازق، المحيي، المميت، النافع، الضار، المالك، المدبر، له الخلق والأمر كله، كما قال سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) . وقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (2) . لا شريك له في ذلك سبحانه ولا نظير (3) .
وليس المقصود هنا دراسة هذا الأصل، وإنما القصد معرفة اعتقاد الشيعة فيه.. وهل تأثر هذا الأصل الأصيل والركن العظيم عندهم بما يدعونه في الإمام؟
لقد بين القرآن العظيم أن مشركي قريش مع كفرهم بعبادته سبحانه وصرفهم أنواعًا من العبادات لغيره، إلا أنهم يؤمنون بأن الله سبحانه هو خالقهم ورازقهم، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (4) ، وقال: {قُلْ
__________
(1) الأعراف، آية:54
(2) النور، آية:42
(3) انظر في معنى توحيد الربوبية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 10/33، وعلي بن أبي العز/ شرح العقيدة الطحاوية ص17، المقريزي/ تجريد التوحيد ص81 (ضمن مجموع: عقيدة الفرقة الناجية) ، السفاريني/ لوامع الأنوار البهية: 1/128-129، وسليمان بن عبد الوهاب/ تيسير العزيز الحميد ص33، عبد الرحمن بن سعدي/ سؤال وجواب في أهم المهمات ص5، محمد خليل هراس/ دعوة التوحيد: ص27 وما بعدها، عبد العزيز بن باز/ تعليق على العقيدة الطحاوية، نشر في مجلة البحوث الإسلامية، العدد: (15) 1406هـ
(4) الزخرف، آية: 87(2/507)
مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (1) .
ولكنهم مع ذلك أشركوا مع الله غيره في عبادته، ولهذا قال سبحانه: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (2) . قال مجاهد: "إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره" (3) .
فهل كانت الشيعة أكثر كفرًا من المشركين في هذا؟
لقد بين أهل العلم أن الإيمان بربوبية الله سبحانه أمر قد فطر عليه البشر وأن الشرك في الربوبية باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال لم يثبت عن طائفة من الطوائف في التاريخ البشري، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقًا خلق بعض العالم (4) .
ولهذا كان السؤال: هل تأثر هذا الأصل في دين الشيعة؟، بمعنى هل وجد الإشراك الجزئي عندهم، باعتبار ما يولونه الأئمة من اهتمام، وما يعطونهم من أوصاف، وما يضفونه عليهم من ألقاب؟
سيتبين هذا من خلال التتبع لما جاء عن أئمتهم في كتبهم المعتمدة، ورواياتهم المعتبرة عندهم، حيث أعرض خمسة مباحث: أولها: قولهم: إن الرب هو الإمام، وثانيها: اعتقادهم أن الدنيا والآخرة للإمام، وفي المبحث الثالث: قولهم: إن السحاب والرعد هو من أمر الأئمة، ومسخر للأئمة وهو ما أسميته (إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة) ، وفي المبحث الرابع: قولهم بحلول جزء إلهي في الأئمة، وفي الخامس: زعمهم تأثير الأيام بالنفع والضر، وسيأتي أيضًا في
__________
(1) يونس، آية: 31
(2) يوسف، آية:106
(3) تفسير الطبري: 231/77-78، وانظر: تفسير ابن كثير: 2/532
(4) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 3/96-97، شرح العقيدة الطحاوية: ص 17-18(2/508)
أقوالهم بأركان الإيمان مبحث قولهم بالقدر وأن العبد يخلق فعله، وهذا شرك في الربوبية، وقد أرجأت عرضه إلى هناك حتى يكتمل النظر في أقوالهم في أركان الإيمان.(2/509)
المبحث الأول: قولهم: إن الرب هو الإمام
جاء في أخبارهم أن عليًا - كما يفترون عليه - قال: أنا رب الأرض الذي يسكن الأرض به (1) .
فانظر إلى هذا التطاول والغلو.. فهل رب الأرض إلا الواحد القهار، وهل يمسك السماوات والأرض إلا خالقهما سبحانه ومبدعهما.
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ..} (2) .
وقال إمامهم: "أنا رب الأرض" يعني إمام الأرض، وزعم أنه هو المقصود بقوله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} (3) . (4) .
وفي قوله سبحانه: {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} (5) . قالوا: يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابًا نكرًا (6) .
وفي قوله سبحانه: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (7) . جاء في تفسير العياشي: يعني التسليم لعلي رضي الله عنه ولا يشرك معه في الخلافة من ليس له
__________
(1) مرآة الأنوار ص59، وقد نقل ذلك عن بصائر الدرجات للصفار
(2) فاطر، آية:41
(3) الزمر، آية:69
(4) مرّ تخريج هذا النص ص:0172)
(5) الكهف، آية:87
(6) مرآة الأنوار ص59، وقد عزاه إلى كنز الفوائد
(7) الكهف: آية:110(2/510)
ذلك ولا هو من أهله (1) ، وبنحو ذلك جاء تأويلها عند القمي في تفسيره (2) .
ولا تظن أن هذا التأويل من باب أن رب تأتي في اللغة بمعنى صاحب أو سيد، إذ إن هذه الآيات نص في الرب سبحانه لا يحتمل سواه، فالإضافة عرفته وخصصته.
وقد قال أئمة اللغة: إن الرب إذا دخلت عليه (أل) لا يطلق إلى على الله سبحانه (3) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
الأسماء والصفات نوعان: نوع يختص به الرب، مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك، فهذا لا يثبت للعبد بحال، ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادًا، والثاني: ما يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم والقادر إلا أنه لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلاً (4) . ولكن هؤلاء جعلوا لفظ الرب الخاص بالله سبحانه اسمًا لإمامهم عبر تأويلاتهم الكثيرة.
وهذه التأويلات وضعها لهم زنديق ملحد أراد بذلك صرف الشيعة من ربها.. وقد تكون فرقهم التي قالت بربوبية عليّ، والرجال الذين ذهبوا هذا المذهب والذي نسمع نعيقهم إلى يومنا هذا قد شربوا من هذا المستنقع الآسن الذي احتفظت به كتب الاثني عشرية المعتمدة عندها.
__________
(1) تفسير العياشي: 2/353، البرهان: 2/497، تفسير الصافي 3/270
(2) انظر: تفسير القمي: 2/47
(3) انظر: المصباح المنير: ص254
(4) منهاج السنة: 1/342(2/511)
المبحث الثاني: قولهم بأن الدنيا والآخرة كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء
عقد صاحب الكافي لهذا بابًا بعنوان: "باب أن الأرض كلها للإمام" (1) ، ومما جاء فيه: عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله.." (2) .
أليس في هذا النص شرك في ربوبية الله سبحانه؛ لأن الله جل شأنه يقول: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (3) . ويقول سبحانه: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (4) . ويقول جل شأنه: {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} (5) . وقال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} (6) ، وقال سبحانه: {فَلِلَّهِ الأَخِرَةُ وَالأُولَى} (7) .
كما قال سبحانه: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} (8) ، وقال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} (9) .
__________
(1) انظر: أصول الكافي: 1/407-410
(2) أصول الكافي: 1/409
(3) البقرة، آية:107
(4) المائدة، آية:18
(5) المائدة، آية: 120
(6) الفرقان، آية: 2
(7) النجم، آية: 25
(8) سبأ، آية: 24
(9) فاطر، آية: 3(2/512)
وقال: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} (1) . فهو سبحانه قد تفرد بالملك والرزق والتدبير لا شريك له في ذلك.
فكيف تدعي هذه الزمرة ما لا سلطان للبشر عليه، وتعطي الأئمة ما هو من مقتضيات ربوبية الله سبحاه، ما لهم بذلك من برهان إلا اتباع ما تمليه شياطينهم، وتسطره زنادقتهم، ومن العجب أنهم يعطون أئمتهم ملك الله وعلمه وحقوقه وأفعاله.. ويقولون: إن ذلك من الله أو "جائز له ذلك من الله" فهل هذا إلا مجرد تستر على الإلحاد، ومحاولة لإخفاء الهدف الخطير الذي تسعى إليه شياطينهم في تأليه الأئمة، وإضفاء صفات الربوبية عليهم؟!
__________
(1) العنكبوت، آية: 17(2/513)
المبحث الثالث: إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة
كل ما يجري في هذا الكون فهو بأمر الله وتقديره لا شريك له سبحانه، لكن في كتب الاثني عشرية ما يثير العجب في هذا؛ حيث تدعي بأن لأئمتها أمرًا في ذلك، تقول روايتهم:
"عن سماعة بن مهران قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فأرعدت السماء وأبرقت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أما إنه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق فإنه من أمر صاحبكم، قلت: من صاحبنا؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام" (1) .
يعني كل ما وقع من رعد وبرق فهو من أمر علي، لا من أمر الواحد القهار..
فماذا يستنبط المسلم المنصف من هذه الرواية، والله جل شأنه يقول: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} (2) .؟ أليست هذه هي السبئية قد أطلت برأسها المشوه من خلال كتب الاثني عشرية؟ أليس هذا ادعاء لربوبية علي، أو أن له شركًا في الربوبية؟ كيف يتجرأ قلم المجلسي ومن قبله المفيد على كتابة هذه الأسطورة ونسبتها إلى جعفر؟ فإن هذا الإلحاد لا يخفى على أمثالهم، ولا يؤمن بهذا ويدعو إليه إلا كل زنديق وملحد، والعجب من قوم يستقون دينهم من كتب حوت هذا الغثاء، ويعظمون شيوخًا يجاهرون بهذا البلاء، أليس في هذه الطائفة من صاحب عقل ودين يعلن الصيحة والنكير على هذا الضلال المنتشر، والكفر المبين يبرئ "أهل البيت الأطهار" من هذا الدرن
__________
(1) المفيد/ الاختصاص ص327، بحار الأنوار: 27/33، البرهان: 2/482
(2) الرعد، آية:12(2/514)
القاتل وينقي ثوب التشيع مما لطخه به شيوخ الدولة الصفوية من كفر وضلال.
أم أن كل صوت صادق إما أن يعاجل بالقتل كما فعلوا مع الكسروي، أو يحمل قوله على التقية كما صنعوا في الكثير من رواياتهم، وطائفة من أقوال شيوخهم، فهل وصل هذا المذهب في سبيل عودته إلى نور الحق إلى طريق مسدود..؟
أحسب أن أولئك الأتباع الأغرار لا يظنون بان هناك إسلامًا إلا هذا؛ لأن طوائف من السنة والشيعة أوهموهم بأن لا فرق بين المذهبين إلا في بعض مسائل الفروع فأوصدوا أمامهم مجال النظر والتفكير والبحث بهذا الوهم الشائع الكبير (1) .
ويقولون بأن السحاب هو المطية الذلول لعلي يسيرها كيف شاء.
تقول روايتهم: ".. ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة وبرق فصاحبكم يركبه، أما أنه سيركب السحاب، ويرقى في الأسباب أسباب؛ السماوات والأرضين السبع، خمس عوامر وثنتان خراب" (2) .
وكأنهم بهذا يقولون إن عليًا هو الذي يسير السحاب؛ فيكفرون بقول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء} (3) ، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء} (4) .
ويبدو أن قول الاثني عشية: إن عليًا يركب السحاب امتداد للمذهب السبئي الذي يقول بأن عليًا: "هو الذي يجيء في السحاب والرعد صوته والبرق تبسمه" (5) .
__________
(1) راجع فكرة التقريب بين أهل السنة والشيعة
(2) الاختصاص: ص199، وانظر: رواية أخرى مثلها ص327، وانظر: بحار الأنوار: 27/32
(3) الأعراف، آية:57
(4) الروم، آية:48
(5) الشهرستاني/ الملل والنحل: 1/174(2/515)
وينقل لنا المجلسي رواية طويلة في ثماني صفحات (1) ، تجعل لعلي قدرات مطلقة، فهو ينقل أصحابه إلى عالم السماوات والأرض، ويعرض عليهم معجزات أعظم من معجزات الأنبياء، ويمر بأقوام فيهلكهم بصعقة واحدة. ويتعاظم حتى يقول: إني لأملك من ملكوت السماوات والأرض ما لا يحتملون العلم ببعضه..
يقول المجلسي - في حديثه هذا -: إن عليًا أومأ إلى سحابتين فأصبحت كل سحابة كأنها بساط موضوع فركب على سحابة بمفرده، وركب بعض أصحابه - كما تقول الرواية - كسلمان والمقداد.. السحابة الأخرى، وقال علي وهو فوق السحابة: "أنا عين الله في أرضه، أنا لسان الله الناطق في خلقه، أنا نور الله الذي لا يطفأ، أنا رب الله الذي يؤتى منه، وحجته على عباده" (2) .
ومضت القصة الطويلة في سرد غريب، أصحاب علي يسألونه عن معجزات الأنبياء فيقول: أنا أريكم أعظم منها حتى قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إني لأملك من ملكوت السماوات والأرض ما لو علمتم ببعضه لما احتمله جنانكم، إن اسم الله الأعظم على اثنين وسبعين حرفًا، وكان عند آصف بن برخيا حرف واحد فتكلم به فخسف الله عز وجل الأرض ما بينه وبين عرش بلقيس، حتى تناول السرير، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرف النظر، وعندنا نحن والله اثنان وسبعون حرفًا وحرف واحد عند الله عز وجل استأثر به في علم الغيب" (3) .
ثم تذكر هذه الأسطورة بأنهم مروا على عوالم غريبة فزار الأنبياء، فكان من الأنبياء من يبكي لما رأى أمير المؤمنين، ولما قيل له: ما بكاؤك؟ قال: "إن أمير المؤمين كان يمر بي عند كل غداة فيجلس فتزداد عبادتي بنظري إليه فقطع ذلك منذ عشرة أيام فأقلقني ذلك" (4) .
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 27/33-40
(2) بحار الأنوار: 27/34
(3) بحار الأنوار: 27/37
(4) بحار الأنوار: 27/37(2/516)
وتقول القصة بأن عليًا كان يقول لأصحابه: "غضوا أعينكم" فينقلهم إلى مدينة أسواقها قائمة، وأهلها أعظم من طول النخل، ويقول: "إن هؤلاء من قوم عاد، ثم يصعق فيهم عليّ صعقة فتهلكهم" (1) .
وهكذا تمضي القصة حتى يعودوا تقلهم السحاب ثم يهبطون في دار أمير المؤمنين في أقل من طرف النظر، قالوا: "وكان وصولنا إلى المدينة وقت الظهر والمؤذن يؤذن، وكان خروجنا منها وقت علت الشمس" (2) . فقال أمير المؤمنين: "لو أنني أردت أن أجوب الدنيا بأسرها والسماوات السبع وأرجع في أقل من الطرف لفعلت بما عندي من اسم الله الأعظم، فقلنا: يا أمير المؤمنين أنت والله الآية العظمى والمعجز الباهر" (3) .
هذه الرواية الطويلة بكل ما فيها من "بلايا" لم يتجاسر شيخهم المجلسي على ردها، بالرغم من انه قال بأن هذا النص: "لم نره في الأصول التي عندنا" (4) ، إلا أنه قال بأننا "لا نردها، ونرد علمها إليهم عليهم السلام" (5) .
فانظر إلى نص لا يوجد في أصولهم المعتبرة، وحوى من الغلو ما لا يخطر بالبال، ومع ذلك لم يتجرأ على رده.. فكيف إذن بالروايات الأخرى المثبتة في أصولهم. فقبولها من باب أولى.
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 27/39
(2) بحار الأنوار: 27/40
(3) بحار الأنوار: 27/40
(4) بحار الأنوار: 27/40
(5) بحار الأنوار: 27/40(2/517)
المبحث الرابع: الجزء الإلهي الذي حل في الأئمة
وترد عندهم رايات تدعي بأن جزءًا من النور الإلهي حل بعليّ.
قال أبو عبد الله: "ثم مسحنا بيمينه فأضى نوره فينا" (1) . "..ولكن الله خلطنا بنفسه.." (2) . كانوا قبل خلق الخلق أنوارًا.
وهذا الجزء الإلهي الذي في الأئمة - كما يزعمون - أعطوا به قدرات مطلقة، ولذلك فإن من يقرأ ما يسمونه معجزات الأئمة - وتبلغ مئات الروايات - يلاحظ أن الأئمة أصبحوا كرب العالمين - تعالى الله وتقدس عما يقولون - في الإحياء والإماتة والخلق والرزق (3) . إلا أن رواياتهم تربط هذا بأنه من الله كنوع من التلبيس والإيهام.
فهذا - مثلاً - عليّ يُحْيِي الموتى. جاء في الكافي عن أبي عبد الله قال: "إنّ أمير المؤمنين له خؤولة في بني مخزوم وإنّ شابًّا منهم أتاه فقال: يا خالي إنّ أخي مات وقد حزنت عليه حزنًا شديدًا، قال: فقال: تشتهي أن تراه؟ قال: بلى، قال: فأرني قبره، قال: فخرج ومعه بردة رسول الله متّزرًا بها، فلمّا انتهى إلى القبر
__________
(1) أصول الكافي: 1/440، وبحار الأنوار: 1/441-442
(2) أصول الكافي: 1/435
(3) انظر: بحار الأنوار، باب جوامع معجزاته (يعنون عليًا) : 42/17-50، وفيه 17 رواية، وباب ما ورد من غرائب معجزاته: 42/50-56، وحتى قبره جعلوا له معجزات لا يقدر عليها إلا رب العباد، وعقد لهذا صاحب البحار بابًا بعنوان باب "ما ظهر عند الضريح المقدس من المعجزات والكرامات": 42/311-339(2/518)
تلملمت شفتاه ثم ركضه برجله فخرج من قبره وهو يقول بلسان الفرس، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألم تمت وأنت رجل من العرب؟ قال: بلى، ولكنا متنا على سنة فلان وفلان (أي أبو بكر وعمر) فانقلبت ألسنتنا" (1) .
بل إن عليًا - كما يزعمون - أحيى موتى مقبرة الجبانة بأجمعهم (2) ، وضرب الحجر فخرجت منه مائة ناقة (3) .
وقال سلمان - كما يفترون -: "لو أقسم أبو الحسن على الله أن يحيي الأوّلين والآخرين لأحياهم" (4) .
هذا الغلو هو بلا شك ارتضعوه من أفاويق المذاهب الوثنية التي تدعي في أصنامها ومعبوداتها ما للرب سبحانه من أفعال، ويكفي في فساده مجرد تصوره؛ إذ هو مخالف للنقل والعقل والسنن الكونية كما هو منقوض بواقع الأئمة وإقراراتهم، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول - كما أمره ربه -: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ} (5) .
ومن الطريف أن كتب الشيعة مع تعظيم الأئمة والغلو فيهم تروي ما يخالف هذا، لتثبت تناقضها فيما تقول كالعادة في كل كذب وباطل، فقد جاء في رجال الكشي أن جعفر بن محمد قال: "فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضرّ ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإنّ عذّبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله حجّة، ولا معنا من الله براءة، وإنّا لميّتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، ويلهم! ما لهم لعنهم الله فقد آذوا الله وآذوا
__________
(1) أصول الكافي: 1/457، وانظر: بحار الأنوار: 41/192، بصائر الدرجات ص76
(2) بحار الأنوار: 41/194، وعزاه إلى الخرائج والجرائح، ولا يوجد في النسخة المطبوعة
(3) بحار الأنوار: 41/198، وعزاه إلى الخرائج والجرائح، وليس في النسخة المطبوعة
(4) بحار الأنوار: 41/201، الخرائج والجرائح ص82
(5) الأعراف، آية:188(2/519)
رسوله صلى الله عليه وسلم في قبره، وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي صلوات الله عليهم.. أشهدكم أنّي امرؤ ولدني رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معي براءة من الله، إن أطعته رحمني، وإن عصيته عذّبني عذابًا شديدًا" (1) .
ولكن شيوخ الشيعة يعدون مثل هذه الإقرارات من باب التقية (2) . فأضلوا قومهم سواء السبيل، وأصبح مذهب الشّيعة مذهب الشّيوخ لا مذهب الأئمّة.
وهذه المقالة التي عرضت لبعض شواهدها عندهم والتي تزعم حلول جزء إلهي بالأئمة، قد تطورت عند بعض شيوخهم واتسع نطاقها إلى القول "بوحدة الوجود" (3) . وعدوا ذلك أعلى مقامات التوحيد، فهو الغاية في التوحيد عند شيخهم النراقي (4) ، كما أن شيخهم الكاشاني - صاحب الوافي أحد أصولهم الأربعة المتأخرة - كان يقول بعقيدة وحدة الوجود، وله رسالة في ذلك، جرى فيها مجرى ابن عربي وعبر عنه ببعض العارفين (5) .
والاتجاه الصوفي المتطرف قد تغلغل في كيان المذهب الاثني عشري، وعشعش في عقول أساطين المذهب من المتأخرين، وبين الأفكار الصوفية الغالية والعقائد الشيعية المتطرفة تشابه وتلاق (6) .
__________
(1) رجال الكشّي: ص 225-226
(2) انظر: ص151، وراجع: مبحث التقية في هذا الكتاب
(3) وحقيقتها أن وجود الكائنات هو عين وجود الله. (انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 1/140)
(4) مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي، المتوفى سنة (1209هـ) (انظر: الذريعة: 5/58، وانظر نص النراقي في ذلك في كتابه: جامع السعادات ص132-133)
(5) لؤلؤة البحرين: ص121
(6) راجع في ذلك: الصلة بين التصوف والتشيع/ لمصطفى كامل الشيبي، والفكر الشيعي والنزعات الصوفية للمؤلف نفسه، والفكر الصوفي/ عبد الرحمن عبد الخالق ص389، وقد غاظت هذه الحقيقة بعض متعصبي الشيعة الاثني عشرية وهو هاشم معروف الحسيني فرد على الشيبي بكتاب سماه: "بين التصوف والتشيع"(2/520)
المبحث الخامس: قولهم بتأثير الأيام والليالي بالنفع والضر
قال الله سبحانه: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (1) . فالضر والنفع من الله وحده، وليس للأنواء والأيام والليالي وغيرها تأثير في ذلك، والشيعة تخالف هذا بدعواها أن في بعض الأيام شؤمًا لا تقضى فيه الحاجات. قال أبو عبد الله: "لا تخرج يوم الجمعة في حاجة، فإذا كان يوم السبت وطلعت الشمس فاخرج في حاجتك" (2) .
وقال: "السبت لنا، والأحد لبني أمية" (3) .
وقال: ".. فأي يوم أعظم شؤمًا من يوم الاثنين.. لا تخرجوا يوم الاثنين واخرجوا يوم الثلاثاء" (4) .
وقال أبو عبد الله: "لا تسافر يوم الاثنين ولا تطلب فيه حاجة" (5) .
وقال: "آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر" (6) .
وقال أمير المؤمنين علي - كما يفترون -: "يوم السبت يوم مكر وخديعة، ويوم الأحد يوم غرس وبناء، ويوم الاثنين يوم سفر وطلب، ويوم الثلاثاء يوم حرب
__________
(1) النحل، آية:53
(2) من لا يحضره الفقيه: 1/95، وسائل الشيعة: 8/253
(3) من لا يحضره الفقيه: 2/342، وسائل الشيعة: 8/253
(4) من لا يحضره الفقيه: 1/95، الروضة: ص314، المحاسن: ص347، وسائل الشيعة: 8/254، وانظر: الخصال: 2/26
(5) المحاسن: ص346، وسائل الشيعة: 8/255
(6) الخصال: 2/27، وسائل الشيعة: 8/257(2/521)
ودم، ويوم الأربعاء يوم شؤم يتطير فيه الناس، ويوم الخميس يوم الدخول على الأمراء وقضاء الحوائج، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح" (1) .
وثمة أحاديث أخر عندهم بهذه المعاني (2) ، ومن مجموع هذه الروايات يتبين أن الجمعة، والأحد، والاثنين، والأربعاء أيام فيها شؤم ذاتي فلا يناسب قضاء الحاجات فيها.
ولكن تلحظ أن الرواية الأخيرة اعتبرت يوم الاثنين يوم سفر وطلب، وهذا يخالف ما مضى من روايات، ولذلك حمل شيخهم الحر العاملي هذا على التقية (3) .
فعلى هذا كل هذه الأيام الأربعة أيام مشؤومة فلم يبق أمام الشيعي من وقت للعمل من الأسبوع سوى أيام ثلاثة.
وهذا نوع من التطير (4) ، وهو التشاؤم ببعض الأيام، أو الطيور والأسماء، والألفاظ والبقاع وغيرها، وهو من عمل الجاهلية والمشركين، وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير وأخبر أنه شرك، وأنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر، وهي من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته.
__________
(1) علل الشرائع: ص199، الخصال: 2/28. عيون الأخبار ص137، وسائل الشيعة: 8/258
(2) ومثل هذا النوع قد ذكره علماء الحديث من أهل السنة في كتب الموضوعات (انظر: ابن الجوزي/ الموضوعات: ص71-74، ابن عراق/ تنزيه الشريعة المرفوعة: 2/53-56، الشوكاني/ الفوائد المجموعة: ص 437-438)
(3) وسائل الشيعة: 8/258
(4) وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهي الطير ليطير فيعتمدها وكانوا يسمونه السانح والبارح، فالسانح ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس. وكانوا يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح. (فتح الباري 10/212-213، وانظر: لسان العرب: 4/512) . ويفرق بعضهم بين الطيرة والتطير فيقول: التطير: هو الظن السيئ الذي في القلب، والطيرة: هو الفعل المرتب على الظن السيئ، وقد نسب ذلك صاحب عون المعبود إلى عز الدين بن عبد السلام (عون المعبود 10/406)(2/522)
قال تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (1) .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ} يقول: مصائبهم عند الله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
وقال ابن جريج عن ابن عباس قال: " {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهُ} أي: من قبل الله" (2) .
وعن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثًا" (3) .
وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك، لما فيها من تعلق القلب بغير الله تعالى (4) .
وقال ابن حجر: "وإنما جعل ذلك شركًا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعًا أو يدفع ضرًا فكأنهم أشركوه مع الله تعالى" (5) . وهي دعوة باطلة لإضاعة الأوقات وتأجيل الحاجات، وصرف للقلوب عن الخالق البارئ إلى مخلوقات لا تضر ولا تنفع.
غير أنه لا يكاد يوجد شذوذ عند الشيعة إلا وفيه من رواياتهم نفسها ما يرد هذا الشذوذ ويبطله، فقد جاء في رواياتهم ما ينقض هذه الدعاوى، وأبلغ ما يكون نقض الخصم لكلامه بنفسه، فقد روت كتب الشيعة أن أبا عبد الله قال: لا
__________
(1) الأعراف، آية:131
(2) تفسير ابن كثير: 2/257
(3) رواه أبو داود في الطب، باب في الطيرة: 4/230 رقم (3910) ، والترمذي في السير، باب ما جاء في الطيرة: 4/160-161، رقم (1614) ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة: 2/1170، رقم (3538) ، ورواه ابن حبان في صحيحه "موارد الظمآن" رقم (1427)
(4) فتح المجيد: ص361
(5) فتح الباري: 10/213، وانظر: ابن منظور/ لسان العرب: 4/513(2/523)
طيرة (1) .
وقال: كفارة الطيرة التوكل (2) .
وقال أبو الحسن الثاني رضي الله عنه: "من خرج يوم الأربعاء.. خلافًا على أهل الطيرة وقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة وقضى الله له حاجته" (3) .
وجاء عندهم أيضًا: "إذا تطيرت فامض" (4) .
وجاء في البحار وغيره "في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل، ويكره الطيرة، وكان عليه السلام يأمر من رأى شيئًا يكرهه، ويتطير منه أن يقول: "اللهم لا يؤتي الخير إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك" (5) .
فهذا تناقض، والتناقض علامة بطلان المذهب، ولكن مبدأ التقية، ومخالفة العامة يعطل الاستفادة من هذه النصوص وأمثالها، ولذلك تلحظ أن شيخهم الحر العاملي حمل حديثهم الذي يقول "بأن يوم الاثنين" يوم سفر وطلب على التقية.
__________
(1) روضة الكافي: ص196، وسائل الشيعة: 18/262
(2) روضة الكافي: ص198، وسائل الشيعة: 8/262
(3) من لا يحضره الفقيه: 1/95، الخصال: 2/27
(4) تحف العقول: ص50، ط:2
(5) بحار الأنوار: 95/2-3، الطبرسي/ مكارم الأخلاق ص403(2/524)
الفصل الثالث: عقيدتهم في أسماء الله وصفاته
للشيعة في هذا الفصل أربع ضلالات:
الضلالة الأولى: ضلالة الغلو في الإثبات (وما يسمى بالتجسيم) .
الضلالة الثانية: تعطيلهم الحق جل شأنه من أسمائه وصفاته.
الضلالة الثالثة: وصف الأئمة بأسماء الله وصفاته.
الضلالة الرابعة: تحريف الآيات بدافع عقيدة التعطيل للأسماء والصفات.
وسأتوقف عند كل مسألة من هذه المسائل الأربع وأبين مذهب الشيعة فيها من خلال مصادرها - إن شاء الله -.(2/527)
المبحث الأوّل: الغلو في الإثبات (التّجسيم)
اشتهرت ضلالة التّجسيم بين اليهود (1) ، أوّل من ابتدع ذلك بين المسلمين هم الرّوافض، ولهذا قال الرّازي: "اليهود أكثرهم مشبّهة، وكان بدء ظهور التّشبيه في الإسلام من الرّوافض مثل هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، ويونس بن عبد الرحمن القمي وأبي جعفر الأحول" (2) .
وكل هؤلاء الرجال المذكورين هم ممن تعدهم الاثنا عشرية في الطليعة من شيوخها، والثقات من نقلة مذهبها (3) .
__________
(1) وفي كتاب الله سبحانه أدلة على تلبس اليهود بهذا الضلال. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} التوبة، آية: 30....
وفي التوراة المتداولة اليوم بين اليهود أمثلة عديدة لفشو ضلالة وصف الله سبحانه بصفات المخلوقين بينهم منها ما يلي: "وسمعا (يعني آدم وحواء) صوت الرب الإله ماشيًا" (سفر التكوين، الفصل الثالث، فقرة 8) ، ومنها: "ثم صعد موسى وهارون.. وسبعون رجلاً من شيوخ بني إسرائيل ورأوا إله إسرائيل وتحت قدميه كصنعة بلاط.. وكذات السماء صفاء" (سفر الخروج، الفصل الرابع والعشرون، فقرة: 9، 10، 11) . وأمثلة كثيرة على هذا النمط وأشد، وللمزيد من أمثلة هذه الافتراءات انظر: سفر التكوين، الفصل 32 فقرة22، وسفر تثنية، الفصل 34، فقرة 10، سفر القضاة، الفصل 6، فقرة 11، سفر الخروج، فصل 24، فقرة 4.. إلخ.
(2) اعتقادات فِرق المسلمين والمشركين: ص97
(3) انظر: محسن الأمين/ أعيان الشيعة: 1/106، وهؤلاء في كتب الفرق أصحاب طوائف منسوبة لأسمائهم. قال الأشعري: "الهشامية أصحاب هشام بن الحكم.." (مقالات الإسلاميين: 1/106) و"اليونسية أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي" (السابق: 1/110) ، و"الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجوليقي" (السابق: 1/109) ، والجميع ينتظمهم سلك الرفض(2/528)
وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية أول من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال: "وأول من عرف في الإسلام أنه قال: إن الله جسم هو هشام بن الحكم" (1) .
وقبل ذلك يذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين أنّ أوائل الشّيعة كانوا مُجسّمة، ثم بيّن مذاهبهم في التّجسيم، ونقل بعض أقوالهم في ذلك، إلا أنّه يقول بأنّه قد عدل عنه قوم من متأخّريهم إلى التّعطيل (2) .
وهذا يدل على أن اتجاه الاثني عشرية إلى التعطيل قد وقع في فترة مبكرة، وسيأتي ما قيل في تحديد ذلك (3) .
وقد نقل أصحاب الفرق كلمات مغرقة في التشبيه والتجسيم منسوبة إلى هشام بن الحكم وأتباعه تقشعر من سماعها جلود المؤمنين.
يقول عبد القاهر البغدادي: "زعم هشام بن الحكم أن معبوده جسم ذو حد ونهاية وأنه طويل عريض عميق وأن طوله مثل عرضه.." (4) .
ويقول: إن هشام بن سالم الجواليقي مفرط في التجسيم والتشبيه لأنه زعم أن معبوده على صورة الإنسان.. وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان (5) ، وكذلك ذكر أن يونس بن عبد الرحمن القمي مفرط أيضًا في باب التشبيه، وساق بعض أقواله في ذلك (6) .
وقال ابن حزم: "قال هشام إن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه" (7) .
__________
(1) منهاج السنة: 1/20
(2) انظر: مقالات الإسلاميّين: 1/ 106-109
(3) في المبحث الثاني
(4) الفرق بين الفرق: ص65
(5) الفرق بين الفرق: ص68-69
(6) الفرق بين الفرق: ص70
(7) الفصل: 5/40(2/529)
وقد نقل الإسفراييني مقالة هشام بن الحكم، وهشام الجواليقي وأتباعهما في التجسيم، ثم قال: "والعاقل بأول وهلة يعلم أن من كانت هذه مقالته لم يكن له في الإسلام حظ" (1) .
وقد استفاض عن هشام بن الحكم ومن تبعه أمر الغلو في التجسيم في كتب الفرق وغيرها (2) . وتحدثت عن ذلك أيضًا بعض كتب المعتزلة والزيدية. وممن نقل ذلك عن الروافض من المعتزلة الجاحظ حيث قال: وتكلمت هذه الرافضة وجعلت له صورة وجسدًا، وكفرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير (3) ، وكذلك ابن الخياط (4) ، والقاضي عبد الجبار (5) .
ومن الزيدية (6) .
ومن الزّيديّة (7) . ابن المرتضى اليماني حيث قال بأن جل الروافض على التجسيم إلا من اختلف منهم بالمعتزلة (8) .
إذًا تشبيه الله سبحانه بخلقه كان في اليهود، وتسرّب إلى التّشيّع، لأنّ التّشيّع كان مأوى لكلّ من أراد الكيد للإسلام وأهله، وأول من تولى كبره هشام بن الحكم (9) ، ثم تعدى أثره إلى آخرين عرفوا بكتب الفرق بمذاهب ضالة غالية منسوبة إليهم (10) .، ثم تعدى أثره إلى آخرين عرفوا بكتب الفرق بمذاهب ضالة غالية
__________
(1) التبصير في الدين/ 24
(2) انظر - بالإضافة لما مضى -: الملطي/ التنبيه والرد ص24، الشهرساني/ الملل والنحل: 1/184، 187، 188، السكسكي/ البرهان ص41، ابن حجر/ لسان الميزان: 6/194، محمود البشبيشي/ الفرق الإسلامية ص58، علي مصطفى الغرابي/ تاريخ الفرق الإسلامية ص300
(3) انظر: رسالة الجاحظ في بني أمية ص99 (ضمن كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، المطبعة الإبراهيمية القاهرة 1937م)
(4) الانتصار: ص14
(5) تثبيت دلائل النبوة: 1/225
(6) يلاحظ أن الزيدية هم يوافقون المعتزلة في العقيدة؛ ولذلك قال الشهرستاني: "أما في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة" (انظر: الملل والنحل 11/162، المقبلي/ العلم الشامخ: 319)
(7) يلاحظ أنّ الزّيديّة هم يوافقون المعتزلة في العقيدة؛ ولذلك قال الشّهرستاني: "أمّا في الأصول فيرون رأي المعتزلة حذو القذة بالقذة" (انظر: المِلَل والنِّحَل 11/162، المقبلي/ العلم الشّامخ: 319)
(8) المنية والأمل ص19، وانظر: نشوان الحميري/ الحور العين ص148-149
(9) انظر ما سلف من الحديث عن هشام وصلته بفرية دعوى التحريف للقرآن التي استشرى داؤها في مذهب الاثني عشرية ص (213-214)
(10) انظر: ص (528) هامش رقم: (3)(2/530)
منسوبة إليهم (1) .
ولكن شيوخ الاثني عشرية يدافعون عن هؤلاء الضلال الذين استفاض خبر فتنتهم، واستطار شرهم ويتكلفون تأويل كل بائقة منسوبة إليهم أو تكذيبها (2) .
حتى قال المجلسي: "ولعل المخالفين نسبوا إليهما (3) . هذين القولين (4) . معاندة" (5) .
وأقول: أما إنكار بعض الشيعة لذلك فقد عهد منهم التكذيب بالحقائق الواضحات، والتصديق بالأكاذيب البينات.
وأما دفاعهم عن هؤلاء الضلال فالشيء من معدنه لا يستغرب، فهم يدافعون عن أصحابهم، وقد تخصص طغام منهم للدفاع عن شذاذ الآفاق، ومن استفاض شره، وتناقل الناس أخبار مروقه وضلاله، في حين أنهم يتناولون من أثنى الله عليهم ورسوله بالذم والتفكي.
وقد يقال: إن ما سلف من أقوال عن هشام وأتباعه هي من نقل خصوم الشيعة فلا يكون حجة عليهم.
ومع أن تلك النقول عن أولئك الضلال قد استفاضت من أصحاب المقالات على اختلاف اتجاهاتهم، وهم أصدق من الرافضة مقالاً، وأوثق نقلاً، وهي تثبت أن الرافضة هم الأصل في إدخال هذه البدعة على المسلمين. لكن القول بأن نسبة التجسيم إليهم قد جاءت من الخصوم، ولا شاهد عليها من كتب
__________
(1) انظر: ص (528) هامش رقم: (3)
(2) انظر: المجلسي في دفاعه عن هؤلاء في بحار الأنوار: 3/290-292
(3) يعني هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي
(4) يشير إلى ما نسب إليهما من القول بالجسم، والقول بالصورة
(5) بحار الأنوار: 3/288(2/531)
الشيعة قد يتوهمه من يقرأ إنكار المنكرين لذلك من الشيعة، وإلا فالواقع خلاف ذلك.
إذ قد جاء في رواياتهم في كتبهم المعتمدة ما يدل على أن متكلمي الشيعة كهشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي ويونس بن عبد الرحمن القمي وأمثالهم لم يكتفوا بمجرد إثبات الصفات كما دل عليه القرآن والسنة، بل تجاوزوا ذلك حتى ابتدعوا الغلو في الإثبات والتجسيم.
جاء في أصول الكافي للكليني، وفي التوحيد لابن بابويه وغيرهما ما يدل على أن الشيعة في سنة (255هـ) قد تاهوا في بيداء مظلمة، إذ قد غرقوا في خلافهم في التجسيم؛ فمن قائل: إنه صورة، ومن قائل: إنه جسم، وقد صوروا هذا الواقع لإمامهم فحكم عليهم بأنهم بمعزل عن التوحيد، تقول الرواية كما يرويها صدوقهم القمي عن سهل قال: كتبت إلى أبي محمد سنة (255هـ) قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد؛ منهم من يقول: هو جسم (1) ، ومنهم من يقول: هو صورة، فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولاً على عبدك؟
فوقع بخطه: سألت عن التوحيد وهذا عنكم معزول، الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام ويصور ما يشاء وليس بمصوَّر، جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، وتعالى أن يكون له شبيه هو لا غيره ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (2) .
__________
(1) لفظ "الجسم" وأمثاله من الألفاظ المبتدعة التي لم نفي لفظها ولا إثباته في الكتاب والسنة.. الحق التوقف في مثل هذه الألفاظ فلا يثبت اللفظ ولا ينفى لعدم ورود دليل النفي أو الإثبات. وأما المعنى فإن أراد حقًا قيل وإن أراد باطلاً رد، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل فلا بد من الاستفصال وتبيين الحق من الباطل. والله أعلم. انظر: التدمرية ص65 (بتحقيق محمد بن عودة السعودي) وانظر معنى الجسم في اللغة وعند النظار والمتكلمين في: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/316-318
(2) أصول الكافي: 1/103، التوحيد لابن بابويه: ص101-102، بحار الأنوار: 3/261(2/532)
وقد كان لهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي بالذات دور ظاهر في اتجاه التجسيم عند الشيعة كما تذكر ذلك مجموعة من رواياتهم.
جاء في أصول الكافي وغيره.. عن محمد بن الفرج الرّخجي قال: "كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة، فكتب: دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان، ليس القول ما قال الهشامان" (1) .
وكان الأئمة يتبرؤون منهما ومن قولهما، وحينما جاء بعض الشيعة إلى إمامهم وقال له: "إني أقول بقول هشام" قال إمامهم (أبو الحسن علي بن محمد) : "ما لكم ولقول هشام؟ إنه ليس منا من زعم أن الله جسم، ونحن منه براء في الدنيا والآخرة" (2) .
وتفصح بعض رواياتهم عما قالوه في الرب جل شأنه وتقدست أسماؤه، فهذا أحد رجالهم (3) . ينقل لأبي عبد الله - كما تقول الرواية - ما عليه طائفة من الشيعة من التجسيم فيقول: "إن بعض أصحابنا يزعم أن الله صورة مثل الإنسان، وقال آخر: إنه في صورة أمرد جعد قطط! فخرّ أبو عبد الله عليه السلام ساجدًا ثم رفع رأسه فقال: سبحان الذي ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار ولا يحيط به علم.." (4) .
وروى ابن بابويه عن إبراهيم بن محمد الخراز ومحمد بن الحسين قالا: "دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له ما روي أن محمدًا رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة، رجلاه في خضره وقلنا: إن هشام بن
__________
(1) أصول الكافي: 1/105، وانظر هذه الرواية في التوحيد لصدوقهم ابن بابويه ص97، وفي "أمالي الصدوق": ص228، وبحار الأنوار: 3/288، والحر العاملي/ الفصول المهمة ص15
(2) ابن بابويه/ التوحيد: ص104، بحار الأنوار: 3/291
(3) سمته الرواية: يعقوب السراج وهو من ثقاتهم (انظر: الفهرست للطوسي ص214)
(4) ابن بابويه/ التوحيد ص103-104، بحار الأنوار: 3/304(2/533)
سالم وصاحب الطاق (1) . والميثمي (2) . يقولون: إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد، فخر ساجدًا ثم قال: سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك فمن أجل ذلك وصفوك، سبحانك لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به نفسك.." (3) .
فأنت ترى أن كبار متكلميهم قد غلوا في الإثبات، حتى شبهوا الله جل شأنه بخلقه وهو كفر بالله سبحانه؛ لأنه تكذيب لقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (4) . وعطلوا صفاته اللائقة به سبحانه فوصفوه بغير ما وصف به نفسه، وإمامهم كان ينكر عليهم هذا المنهج الضال، ويأمر بالالتزام في وصف الله، بما وصف به نفسه. ورواياتهم في هذا الباب كثيرة (5) .
فهذا الاتجاه إلى الغلو في الإثبات، قد طرأ على الإثبات الحق الذي عليه علماء أهل البيت، وأصبح المذهب يتنازعه اتجاهان: اتجاه التجسيم الذي تزعمه هشام، واتجاه التنزيه الذي عليه أهل البيت كما تشير إليه روايات الشيعة نفسها، وكما هو "ثابت مستفيض في كتب أهل العلم" (6) .
__________
(1) يعني محمد بن علي بن النعمان أبو جعفر؛ لأنه يلقب بشيطان الطاق، والشيعة يقولون عنه: "مؤمن الطاق" (سبقت ترجمته ص:207)
(2) هو: علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم بن يحيى التمار، من وجوه متكلمي الشيعة، وتلميذ هشام بن الحكم، له كتب منها كتاب "الإمامة"، انظر: رجال النجاشي ص176
(3) ابن بابويه/ التوحيد ص113-114، بحار الأنوار: 4/40، أصول الكافي: 1/101
(4) الشورى، آية:11
(5) لمعرفة المزيد من الشواهد انظر كتاب: التوحيد لابن بابويه، باب أنه عز وجل ليس بجسم ولا صورة ص:97-104، وفيه عشرون رواية، وأصول الكافي: باب النهي عن الجسم والصورة: 1/104-106، وفيه ثماني روايات، وفي بحار الأنوار، في باب نفي الجسم والصورة والتشبيه وفيه (47) رواية، وفي ترجمة هشام ابن الحكم، وهشام بن سالم، ويونس بن عبد الرحمن في رجال الكشي أمثلة أخرى لهذا الاتجاه، وانظر بعض روايات هذه المسألة أيضًا عند: الطبطبائي/ مجالس الموحدين في أصول الدين: ص23
(6) منهاج السنة: 20/144(2/534)
المبحث الثاني: التعطيل عندهم
بعد هذا الغلو في الإثبات بدأ تغير المذهب في أواخر المائة الثالثة؛ حيث تأثر بمذهب المعتزلة في تعطيل البارئ سبحانه من صفاته الثابتة له في الكتاب والسنة، وكثر الاتجاه إلى التعطيل عندهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي الملقب بالشريف المرتضى، وأبي جعفر الطوسي، واعتمدوا في ذلك على كتب المعتزلة (1) .
وكثير مما كتبوه في ذلك منقول عن المعتزلة نقل المسطرة، وكذلك ما يذكرونه في تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة (2) .
ولهذا لا يكاد القارئ لكتب متأخري الشيعة يلمس بينها وبين كتب المعتزلة في باب الأسماء والصفات فرقًا، فالعقل - كما يزعمون - هو عمدتهم فيما ذهبوا إليه، والمسائل التي يقررها المعتزلة في هذا الباب أخذ بها شيوخ الشيعة المتأخرون كمسألة خلق القرآن، ونفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وإنكار الصفات.
بل إن الشبهات التي يثيرها المعتزلة في هذا، هي الشبهات التي يثيرها شيوخ الشيعة المتأخرون.
والفرق الذي قد يلمسه القارئ في هذه المسألة هو أن الشيعة أسندوا روايات إلى الأئمة تصرح بنفي الصفات وتقول بالتعطيل، مع أنهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قد "أسسوا دينهم على أن باب التوحيد والصفات لا يتبع فيه
__________
(1) انظر: منهاج السنة: 1/229
(2) منهاج السنة: 1/356(2/535)
ما رأوه بقياس عقولهم" (1) . وهذا تلمسه في طريقة احتجاجهم على مذهبهم في التعطيل كما في النكت الاعتقادية للمفيد، ونهج المسترشدين لابن المطهر وغيرها من كتبهم الكلامية حيث اعتمدوا المنهج العقلي الكلامي البحث في صفات الله.
وهذا مخالف للمنهج الشرعي والعلمي والعقلي؛ إذ إن صفات الله سبحانه من الغيب الذي يتوقف العلم به على الكتاب والسنة.
ومع اعتمادهم الدليل العقلي كمنهج أهل الاعتزال فإنك تلاحظ أنهم جاءوا بروايات كثيرة عن الأئمة يسندون بها مذهبهم في التعطيل، ويفترون على أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وبعض علماء أهل البيت كمحمد الباقر وجعفر الصادق بأنهم يقولون بالتعطيل. واعتبر بعض شيوخهم المعاصرين أن هذا هو عمدتهم في نفي الصفات؛ حيث قال - تحت عنوان طريقة معرفة الصفات -: "هل يبقى مجال للبحث عن الصفات وهل له طريق إلا الإذعان بكلمة أمير المؤمنين رضي الله عنه: كمال الإخلاص نفي الصفات عنه" (2) .
فترى القوم ليس لهم منهج ثابت، ذلك أن مسالك التقليد عرضة لتناقض، فهم حينًا يعتمدون العقل، وتارة يعتمدون الخبر.. فهم بين مشرب أخباري، ومشرب اعتزالي عقلي يتأرجحون.
هذا والثابت عن علي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت إثبات الصفات لله..
والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم (3) . وهذا أيضًا ما تعترف به بعض روايات لهم موجودة وسط ركام هائل من التعطيل، وسيرد شيء منها بعد قليل.
ولكن الأمثلة على رواياتهم التي نسبوها لأهل البيت والتي تصرح بنفي
__________
(1) منهاج السنة: 2/78-79، تحقيق د. محمد رشاد سالم، أو ج/232 من ط: الأميرية
(2) الزنجاني/ عقائد الإمامية الاثني عشرية ص28
(3) منهاج السنة: 2/144(2/536)
الصفات كثيرة، منها قولهم: "وكمال التوحيد نفي الصفات عنه" (1) ، وقولهم: "وحمد الله نفي الصفات عنه" (2) ، "ولا نفي (للتشبيه) مع إثبات الصفات" (3) .
وصرح علامتهم ابن المطهر بأن مذهبهم في الأسماء والصفات كمذهب المعتزلة (4) ، ومنهم من قال: "وكمذهب الفلاسفة" (5) .
كما وصفت مجموعة من رواياتهم رب العالمين بالصفات السلبية التي ضمنوها نفي الصفات الثابتة له سبحانه، فقد روى ابن بابويه أكثر من سبعين رواية تقول إنه تعالى: "لا يوصف بزمان ولا مكان، ولا كيفية، ولا حركة، ولا انتقال، ولا بشيء من صفات الأجسام، وليس حسًا ولا جسمانيًا ولا صورة.." (6) .
وشيوخهم ساروا على هذا النهج الضال من تعطيل الصفات الواردة في الكتاب والسنة ووصفه سبحانه بالسلوب. قال شيخهم محمد الحسيني الشهير بالقزويني (ت1300هـ) والذي يلقبونه بالإمام الثالث عشر لأنه قابل منتظرهم - المزعوم - ثلاث مرات. قال في وصف الله سبحانه: ".. لا جزء له، وما لا جزء له لا تركيب فيه، وما ليس بمركب ليس بجوهر ولا عرض، وما ليس بجوهر ليس بعقل ولا نفس ولا مادة ولا صورة ولا جسم، وما ليس بجسم ليس في مكان ولا في زمان ولا في جهة، ولا في وقت، وما ليس في جهة لا كم له ولا كيف ولا رتبة، وما لا كم له ولا كيف له ولا جهة لا وضع له، وما ليس له وضع ولا في وقت ولا في مكان لا إضافة له ولا نسبة، وما لا نسبة له لا فعل فيه ولا انفعال، وما ليس بجسم ولا لون ولا في مكان ولا جهة لا يرى ولا يدرك.." (7) .
__________
(1) التوحيد لابن بابويه: ص57
(2) التوحيد لابن بابويه: ص34-35
(3) التوحيد لابن بابويه: ص40
(4) ابن المطهر/ نهج المسترشدين ص32
(5) الطبطبائي/ مجالس الموحدين في أصول الدين ص21
(6) انظر: التوحيد/ لابن بابويه ص31 وما بعدها
(7) قلائد الخرائد في أصول العقائد ص50، وانظر في مثل هذه الطريقة: ابن المطهر/ نهج المسترشدين ص45-47، الطبطبائي/ مجالس الموحدين في أصول الدين ص21(2/537)
فأنت ترى أن هذا النفي المحض الذي استقاه من ركام الفلاسفة وغثاء الملاحدة يتضمن نفي الوجود الحق {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) .
وليس هذا بجديد، فهو سبيل من زاغ وحاد عن منهج الرسل عليهم السلام "من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة (2) . والمتفلسفة والجهمية (3) . والباطنية (4) . ونحوهم. فإنهم يصفونه سبحانه بالصفات
__________
(1) الصافات، آية: 180-182
(2) ذهب جملة من الصابئة إلى وصف الله سبحانه بالسلوب، ولذلك قال البيروني عن صابئة حران: إنهم يصفون الله سبحانه بالسلب لا بالإيجاب كقولهم: لا يحد ولا يرى ولا يظلم ولا يجور، ويسمونه بالأسماء الحسنى مجازًا إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه (الآثار الباقية عن القرون الخالية ص205) .
وطائفة الصابئة عمومًا اختلف في أمرها فقد أخرج الطبري بسنده عن مجاهد وغيره أنهم قالوا: "الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين". (انظر: تفسير الطبري: 2/146 من تحقيق أحمد ومحمود شاكر) . وهذا ما رجحه ابن كثير (انظر: تفسير ابن كثير: 1/107) ، واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب في زمان إبراهيم (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص143) ويذكر الشهرستاني أن الفرق في زمان إبراهيم يرجعون إلى صنفين: صابئة وحنفاء (الملل والنحل: 1/230) . وأنهم بحكم ميلهم عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم الصابئة، لأن صبأ في اللغة بمعنى مال وزاغ (المصدر السابق: 2/5) وانظر عن الصابئة (بالإضافة لما أشي إليه من مصادر) : التبصير في الدين للإسفراييني ص59، الرد على المنطقيين لابن تيمية ص287-289، 454-457، الخطط للمقريزي: 2/344
(3) الجهمية: أتباع الجهم بن سفوان. من ضلالاته القول بنفي الصفات وبدع أخرى كالقول بالإرجاء، والجبر، وفناء الجنة والنار. (انظر عن الجهم والجهمية: الرد على الجهمية للإمام أحمد ص64 وما بعدها، خلق أفعال العباد للبخاري ص118 وما بعدها، الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/214 وما بعدها، التنبيه والرد/ للملطي ص218، التبصير في الدين/ للإسفراييني ص63، والبدء والتاريخ/ للمقدسي: 5/146، تاريخ الجهمية والمعتزلة للقاسمي وغيرها) . ومصطلح الجهمية لم يعد مختصًا بالجهمية المحضة أتباع جهم بن صفوان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة - جهميًا" (مجموع الفتاوى: 12/119) ، وقال في موضع آخر: "ومن الجهمية: المتفلسفة والمعتزلة الذين يقولون: إن كلام الله مخلوق.." (المصدر السابق: 12/524)
(4) الباطنية: من ألقاب الإسماعيلية ومر التعريف بها ص: (97)(2/538)
السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودًا مطلقًا لا حقيقة له عند التحصيل، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وهو نفي الوجود الحق؛ لأنهم يعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات.
كما يستلزم غاية التمثيل حيث يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات (1) .
وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات (2) .
والله سبحانه بعث رسله في صفاته بإثبات مفصل، ونفي مجمل (3) .
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً (4) .
قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (5) . فالنفي جاء مجملاً {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهذه طريقة القرآن في النفي غالبًا. قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (6) . أي نظيرًا يستحق مثل اسمه، ويقال: مساميًا يساميه (7) .
وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أو شبيهًا (8) .
وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (9) .
أما في الإثبات فيأتي التفصيل {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وكآخر سورة الحشر:
__________
(1) انظر: التدمرية لابن تيمية: ص16
(2) انظر: التدمرية لابن تيمية: ص19
(3) التدمرية لابن تيمية: ص8
(4) شرح الطحاوية: ص49
(5) الشورى، آية:11
(6) مريم، آية: 65
(7) التدمرية ص8، وانظر: لسان العرب، مادة "سما"
(8) تفسير الطبري: 16/106
(9) الإخلاص، آية:4(2/539)
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .
وشواهد هذا كثيرة (2) .
فطريقة هؤلاء في النفي المحض لا تتفق مع طريقة القرآن، كما لا تتفق مع الفطر السليمة والعقول الصريحة، بل هي منكرة في مدح البشر للبشر فكيف يوصف بها رب العالمين (3) .؟!
والشيعة تروي عن أئمتها "أن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه" ولكنها تعرض عن ذلك كما أعرضت عن كتاب الله سبحانه، وعن مقتضى العقل والفطرة، وتؤثر في ذلك التقليد المحض، والأخذ من "نفايا" الفلسفات البائدة وإلا فكيف يتجرأ عاقل على الاعتماد في أمر غيبي لا سبيل للوصول إلى المعرفة فيه على سبيل التفصيل إلا بخبر السماء على العقل القاصر والفكر العاثر، وتحكيم خيالات البشر المتناقضة، وتصوراتهم المتعارضة؟!
وهؤلاء المعطلة قد رد عليهم أئمة الإسلام وبينوا باطلهم، ولن نكرر القول ونبدئ فيه ونعيد.. ولكن الذي يمكن أن يضاف في هذا المجال بعد ظهور الكتاب الشيعي وانتشاره هو تصوير هذه المسألة من كتب الشيعة ومن خلال روايات
__________
(1) الحشر، آية:22-24
(2) وقد استعرض أكثرها شيخ الإسلام في الإسلام التدمرية ص8 وما بعدها
(3) قال شارح الطحاوية: "وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا حجام ولا حائك! لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقًا، وإنما تكون مادحًا إذا أجملت النفي، فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي، أجملت في الأدب" (علي بن أبي العز/ شرح الطحاوية/ 50)(2/540)
الشيعة عن أئمتها، وكلام شيوخهم المبني على مجاراة أهل التعطيل، ليتبين مدى تناقضهم، وانفصالهم عن أئمتهم، ومدى تدخل الأيدي السبئية لتحوير مذهب الأئمة، ووضع روايات تحاكي مذهب التعطيل، وتصدق مذهبهم في التقليد، وسأختار ثلاثة مسائل في ذلك:
الأولى: مسألة خلق القرآن.
الثاني: مسألة الرؤية.
الثالثة: مسألة النزول الإلهي.
ثم أبين بعد ذلك من خلال نصوص الشيعة نفسها أن مذهب الأئمة كان وسطًا بين غلو الممثلة، وجفاء المعطلة. وهو ما يتفق مع مذهب أهل السنة، وهو الموافق للنقل الصحيح والعقل الصريح.
1- المسألة الأولى: قولهم بأن القرآن مخلوق:
القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وعلى هذا دل الكتاب والسنة وإجماع السلف (1) ، والاثنا عشرية حذت حذو الجهمية في القول بخلق القرآن، فقد عقد شيخ الشيعة في زمنه المجلسي في البحار في كتاب القرآن بابًا بعنوان: "باب أنّ القرآن مخلوق" (2) أورد فيه إحدى عشرة رواية، ومعظم هذه الروايات تخالف ما ذهب إليه، ولكن لشيوخ الشيعة مسلكًا في تأويلها سنذكره بعد قليل.
ويقول آية الشيعة محسن الأمين: "قالت الشّيعة والمعتزلة: القرآن مخلوق" (3) .
__________
(1) انظر في تقرير مذهب السلف في ذلك والرد على المخالفين: الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد، كتاب خلق أفعال العباد للبخاري، والرد على الجهمية للدارمي، وكتاب رد عثمان بن سعيد على المريسي العنيد، والاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لابن قتيبة، والرد على من يقول القرآن مخلوق للنجاد، والرد على الجهمية لابن منده وغيرها
(2) بحار الأنوار: 92/ 117-121
(3) أعيان الشّيعة: 1/461(2/541)
وهذا بناءً على إنكارهم لصفة الكلام لله وزعمهم أن الله سبحانه "يوجد الكلام في بعض مخلوقاته كالشجرة حين كلم موسى، وكجبرائيل حين أنزل بالقرآن" (1) .
هذا بعض ما يقوله شيوخهم في هذا الأمر (2) .
وإذا رجعت إلى الروايات التي ينقلونها عن (آل البيت) وجدتها تخالف في أكثرها ما يذهب إليه هؤلاء، فمن ذلك:
ما جاء في تفسير العياشي: "عن الرضا أنه سئل عن القرآن فقال: ... إنه كلام الله غير مخلوق.." (3) .
وفي رجال الكشي: " ... إن الكلام ليس بمخلوق.." (4) .
وفي "التوحيد" لابن بابويه القمي قيل لأبي الحسن موسى رضي الله عنه: "يا ابن رسول الله، ما تقول في القرآن؛ فقد اختلف فيه من قبلنا فقال قوم: إنه مخلوق، وقال قوم: إنه غير مخلوق؟ فقال رضي الله عنه: أما إني لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكني أقول: إنه كلام الله عز وجل" (5) .
__________
(1) أعيان الشيعة: 1/453
(2) وقد سئل شيخ الإسلام عمن قال ذلك فأتى بكفره وأنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وقال بأنه يكفر ولو قال: أنا لا أُكذِّب قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (النساء، آية:164) بل أٌقر بأن هذا اللفظ حق، ولكن أنفي معناه وحقيقته، وقال بأن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع، حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة، (انظر: مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية: 1/474، أو مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/502، وقال في موضع آخر: إن سلف الأمة وأئمتها كَفَّروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلامًا في بعض الأجسام سمعه موسى وفسر التكليم بذلك. (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/533) .
(3) تفسير العياشي: 1/8
(4) رجال الكشي: ص490
(5) ابن بابويه/ التوحيد ص224(2/542)
وفي هذا المعنى روايات كثيرة عندهم (1) .
ولكن يلاحظ أن شيخ الشيعة في زمنه ابن بابويه القمي قد ذهب في تأويل هذه النصوص إلى اتجاه آخر فأثبت أن قول الأئمة: القرآن غير مخلوق يعني "أنه غير مخلوق أي غير مكذوب لا يعني به أنه غير محدث" (2) . وقال: "وإنما امتنعنا من إطلاق المخلوق عليه لأن المخلوق في اللغة قد يكون مكذوبًا، ويقال: كلام مخلوق أي مكذوب" (3) .
ولا شك أن هذا التأويل لا يسلم له لأنه من الواضح أن النصوص السابقة ترد على ما ذهب إليه أهل الاعتزال من القول بأن القرآن مخلوق، فقال السلف ردًا عليهم: إنه غير مخلوق ولم يريدوا بذلك أنه غير مكذوب كما يزعم ابن بابويه وغيره، فإن أحدًا من المسلمين لم يقل: إنه مكذوب، بل هذا كفر ظاهر يعلمه كل مسلم، وإنما قالوا: إنه مخلوق خلقه في غيره فرد السلف هذا القول، كما تواترت الآثار عنهم بذلك، وصنف في ذلك مصنفات متعددة (4) .
وفي كتاب تفسير الصراط المستقيم لآيتهم البروجردي نقل نصًا عن ابن بابويه - أيضًا - يحيل فيه النصوص التي فيها المعنى السابق على التقية فقال: "ولعلّ المنع من إطلاق الخلق على القرآن إمّا للتّقية مماشاة مع العامّة، أو لكونه موهمًا لمعنى آخر أطلق الكفّار عليه بهذا المعنى في قولهم: إن هذا إلا اختلاق" (5) .
فلم يجد هؤلاء الشيوخ ما يلوذون به إلا القول "بالتقية" أو ما ماثلها.. وهذا المنهج يثبت أنهم ليسوا على شيء، وأن احتمال التقية في كل نص قد أفسد عليهم أمرهم وأضاع حقيقة المذهب، فأصبح دينهم دين المجلسي، أو الكليني، أو
__________
(1) انظر في ذلك: البحار: 92/117-121، التوحيد: ص223-229
(2) انظر: التوحيد ص225، البحار: 92/119
(3) التوحيد ص225، البحار: 92/119
(4) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/301
(5) تفسير الصّراط المستقيم: 1/304(2/543)
ابن بابويه القمي لا روايات الأئمة (1) .
وتسنى لكل شيخ، أو زنديق أو مفتر يلبس ثوب المشيخة، ويتظاهر بالعلم أن يأخذ ما شاءت له زندقته أو جهله وهواه وتعصبه واحدًا من هذه الأقوال المتعارضة المتضاربة ويعرض عن الأقوال الأخرى ولو كانت حقًا، ويجد ما يبرر هذا التصرف من الاحتجاج بالتقية، أو دعوى أن في ذلك مخالفة للعامة - أي أهل السنة - ففي خلافهم الرشاد - كما يفترون -، وهكذا يضيع العلم والحق والدين بهذه الطريقة الماركة، ويكتب على الأمة الفرقة والخلاف بهذه الأساليب التي هي من وحي الشيطان ومكره ... ولو أحسن محسن للشيعة وأراد بها الخير من شيوخها لسلك بها طريق الجماعة وأخذ من رواياتهم ما يتفق وكتاب الله، وما عليه أهل السنة والجماعة، وتخلص من مكر القمي والكليني والمجلسي، ولا سيما، والأئمة تشتكي من كثرة الكذابين عليها حتى قالوا: "بأن الناس أولعوا بالكذب علينا" (2) .
ولو أردت أن تطبيق هذه النظرية - أعني ما تتفق فيه روايات أهل السنة مع روايات الشيعة عن أهل البيت في هذه المسألة - لوجدت أن كتب الشيعة روت - كما سبق - روايات عن أهل البيت بأن كلام الله منزل غير مخلوق، وكتب أهل السنة روت مثل هذا؛ فقد أخرج البخاري في كتاب أفعال العباد (3) . وابن
__________
(1) راجع كتاب "درة نجفية" لشيخهم هاشم البحراني ص60 وما بعدها، فقد عرض لاختلاف الروايات عندهم من أجل التقية، وكشف عن حيرتهم بأي الأقوال يؤخذ هل يؤخذ بالأول أو بالأخير أو يتوقف أو يخير في الأخذ بأيهما شاء أو ماذا يفعل بهذه الأقوال المتعارضة المتناقضة؟! فقد جعلت التقية كما يقول هذا البحراني: "مناط كلام لا تخلو من شوب وريب وتردد لكثرة الاختلافات في تعارض الأدلة وتدافع الأمارات" (درة نجفية: ص61، وانظر: فصل "التقية" في هذه الرسالة)
(2) رجال الكشي: ص135-136، وللاطلاع على المزيد من الشواهد ارجع إلى فصل "عقيدتهم في السنة" ص: (362)
(3) خلق أفعال العباد ص36 (تحقيق البدر) ، وص 135 (ضمن مجموعة عقائد السلف تحقيق النشار وعمار الطالبي)(2/544)
أبي حاتم (1) ، وأبو سعيد الدارمي (2) ، والآجري في الشريعة (3) ، والبيهقي في الاعتقاد (4) ، والأسماء والصفات (5) ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (6) ، وابو داود في مسائل الإمام أحمد (7) . عن جعفر الصادق أنه قال حينما سئل عن القرآن قال: "ليس بخالق ولا مخلوق". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه قد استفاض ذلك عن جعفر (8) .
فلماذا لا يؤخذ بالمعنى المتفق عليه ويترك الباطل الذي لا يسنده إلا أقوال شيوخ يبغون في الأمة الفرقة والخلاف، وينشدون الشذوذ والعزلة ليتسنى لهم تحصيل الأموال الطائلة باسم الخمس، وتتحقق لهم الوجاهة الاجتماعية، والمنزلة (المقدسة) باسم النيابة عن الإمام الغائب؟ ولهذا ما برحوا يؤكدون على القول: إن ما خالف العامة ففيه الرشاد.
"والعامة" أو أهل السنة بالمعنى العام يدخل فيه المعتزلة (9) ، وهم قلدوا المعتزلة في هذا، ذلك أن مسألة خلق القرآن من عقائد أهل الاعتزال، قال عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة: "وأما مذهبنا في ذلك (أي في القرآن) فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو مخلوق محدث" (10) .
__________
(1) كما في منهاج السنة لابن تيمية: 2/187-188 تحقيق د/ محمد رشاد سالم
(2) الرد على الجهمية ص 101
(3) الشريعة: ص 77
(4) الاعتقاد: ص 36، وقال البيهقي بعد ذكره: "فهو عن جعفر صحيح مشهور، وقد روي ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين، وروي عن الزهري عن علي بن الحسين، ورويناه من أوجه عن مالك بن أنس وهو مذهب كافة أهل العلم قديمًا وحديثًا" (المصدر السابق: ص39)
(5) الأسماء والصفات: ص 247
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 2/238، 241-242
(7) مسائل الإمام أحمد: ص 265 ط: بيروت، أو ص106-107 (ضمن مجموعة عقائد السلف)
(8) منهاج السنة: 1/278
(9) انظر: منهاج السنة: 2/163 تحقيق د/ محمد رشاد سالم
(10) شرح الأصول الخمسة: ص 528، وانظر: المحيط بالتكليف ص 331(2/545)
وقد تلقته الشيعة فيما تلقته من آراء المعتزلة.. فهي بضاعة اعتزالية، فلم يتحقق لهم مخالفة العامة.
وأول من قال بهذه المقالة هو الجعد بن درهم (1) .
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم (2) . فهو أول من قال بمبدأ التعطيل في هذه الأمة، ثم تلقى ذلك عنه الجهم بن صفوان" (3) .
ويشير البعض إلى أن هذه المقالة ترتد في أصولها إلى مؤثرات أجنبية، فقد ذكر ابن الأثير، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما أن الجعد أخذ ذلك - أي القول بخلق القرآن - عن أبان بن سمعان، وأخذه هذا من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول بخلق التوراة، وكان طالوت زنديقًا، وهو أول من صنف لهم في ذلك ثم أظهره الجعد بن درهم (4) ، كما يذكر الخطيب البغدادي أن والد بشر المريسي وهو أحد كبار القائلين بخلق القرآن من المعتزلة كان يهوديًا (5) .
ومن هنا يظهر الأثر اليهودي في ظهور هذه المقالة.
__________
(1) قال ابن حجر: "الجعد بن درهم عداده في التابعين، مبتدع ضال زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة" (لسان الميزان 2/105، ميزان الاعتدال: 1/399، ابن نباتة/ سرح العيون: ص 293-294)
(2) اللالكائي/ شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص382. ويلاحظ أن النص المذكور له تتمة هي "وقاله (أي خلق القرآن) في سنة نيف وعشرين ومائة" ولم يتعقب المحقق هذا النص بشيء زعم أن الجعد قتل نحو سنة 118هـ
(3) انظر: ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية: 1/127، مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 5/20، وانظر: درء تعارض العقل والنقل 5/244، ابن نباتة، سرح العيون: ص293
(4) انظر: ابن الأثير/ الكامل: 5/294، ابن تيمية/ الحموية (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 5/20/21) ، ابن نباتة/ سرح العيون: ص293، السفاريني/ لوامع الأنوار: 1/23
(5) تاريخ بغداد: 7/61(2/546)
ويشير شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى مؤثرات أخرى حيث يذكر أن الجعد بن درهم كان من أهل حران، وكان فيهم من بقايا الصابئين والفلاسفة خصوم إبراهيم عليه السلام؛ لهذا أنكر تكليم موسى وخلة إبراهيم موافقة لفرعون والنمرود بناء على أصل هؤلاء النفاة وهو أن الرب تعالى لا يقوم به كلام، ولا محبة لغيره، فقتله المسلمون، ثم انتشرت مقالته فيمن ضل من هذا الوجه (1) .
وتلك الروايات الواردة في كتب الشيعة والتي تنص على أن القرآن منزل غير مخلوق قد تمثل مذهب قدماء الشيعة الذين كانوا على هذا الاعتقاد كما أشار إلى ذلك أهل العلم (2) .؛ لأن القول بأن القرآن مخلوق هو من إحداث متأخري الشيعة (3) .
كما أن الاعتقاد بأن القرآن منزل غير مخلوق، هو الثابت عن أهل البيت، إذ ليس من أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد من يقول بخلق القرآن، ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم (4) .
أما قولهم بأن كلام الله لموسى خلقه في شجرة؛ فهو مخالف لصريح قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِمًا} (5) . فالتأكيد بالمصدر "تكليمًا" ينفي التأويل الذي يشيرون إليه، ولذا قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز (6) .
ولو كان الأمر على ما يدعون لم يكن في ذلك مزية لموسى عليه السلام، وفضيلة اختص بها، ونوه الله سبحانه بذكرها فإن "من سمع كلام الله من مالك أو من نبي أتاه به من عند الله أفضل مرتبة في سماع الكلام من موسى؛ لأنهم سمعوه
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل: 7/175-176
(2) انظر: منهاج السنة: 1/296
(3) انظر: الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/114
(4) منهاج السنة: 1/296
(5) النساء، آية: 164
(6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/515(2/547)
من نبي، وموسى سمعه من شجرة.. ويلزمهم أن تكون الشجرة هي التي قالت: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) وهذا ظاهر الفساد" (1) .
والرد على الجهمية القائلين بنفي الصفات كثير في كلام التابعين وتابعيهم، والأئمة المشاهير، وفي مسألة القرآن آثار كثيرة جدًا (2) ، وهي مذكورة في الكتب المتخصصة في ذلك (3) . ولكن الذي يمكن أن يضاف فيما يتصل بنقد المذهب الشيعي في ذلك بعد ظهور كتبهم وانتشارها أنهم وهم ينفون هذه الفضيلة لموسى عليه السلام، وينكرون مناجاة الله له ومناداته، ويزعمون أن الشجرة هي التي كلمت موسى عليه السلام - لم يأخذوا بهذا المنهج فيما يتصل بالإمام، ونسوا هذه القضية في حديثهم عن فضائل الأئمة.. لقد جاء في كتابهم المعتمد عندهم "بحار الأنوار" باب بعنوان "باب أنّ الله تعالى ناجاه صلوات الله عليه.." (4) . وساق فيه مجموعة من رواياتهم في هذا المعنى عزاها - كعادته - إلى طائفة من كتبهم المعتمدة.
تقول إحدى هذه الروايات: "لمّا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر وأنزل الله عليه: تترك من ناجيته غير مرّة، وتبعث من لم أناجه؟ (5) فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ براءة منه ودفعها إلى علي رضي الله عنه فقال له علي: أوصني يا رسول الله، فقال له: إنّ الله يُوصيك ويناجيك، قال: فناجاه يوم براءة قبل صلاة الأولى إلى صلاة العصر" (6) .
وتقول رواية أخرى: ".. إنّ الله ناجاه (يعني عليًّا) يوم الطّائف ويوم عقبة
__________
(1) البيهقي/ الاعتقاد ص33
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/418
(3) انظر: ص (541) هامش (1)
(4) بحار الأنوار: 39/151
(5) لاحظ هنا أنّ الله - بزعمهم - عاتب رسول الله، وبيّن خطأه.. وهذا يناقض دعوى العصمة المطلقة التي يصفون بها الرّسول والأئمّة.. والتّناقض سمة عامّة وظاهرة مطردة في نصوصهم
(6) بحار الأنوار: 39/155(2/548)
تبوك، ويوم حنين" (1) .
وفي بصائر الدرجات، والاختصاص وبحار الأنوار، رواية تقول: "عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف: لأبعثن إليكم رجلاً كنفسي يفتح الله به الخيبر، سوطه سيفه"، ثم تذكر الرواية اختيار علي لهذه المهمة، وأن الرسول لحق به ولما وصلها كان علي على رأس الجبل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اثبت، فثبت، فسمعنا مثل صرير الزجل (2) . فقيل: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: إنّ الله يناجي عليًّا رضي الله عنه" (3) .
وبغض النظر عما في هذه الرواية من أخطاء تاريخية في خلطها بين فتح خيبر والطائف، فلعل القارئ يلاحظ هذا التشبيه لكلام الحق جل شأنه ... فعنصر التجسيم والتمثيل واضح في قوله: "مثل صرير الزجل" ولا تشير الرواية إلى أن هذا قد سمعه علي من شجرة ونحوها، فما بالهم يذهبون تارة إلى التعطيل المحض، وتارة إلى التجسيم، هل هذه الروايات تمثل الأدوار التي مرت بها مراحل التشيع حينما كان الشيعة مجسمة، ثم تحولوا إلى مرحلة التعطيل في المائة الثالثة حينما هبت عليهم أعاصير الاعتزال؟!
أم أن وضّاع هذه الروايات يمثلون على نحلة وكل يضع ما تمليه عليه عقيدته؟!
والتشيع يحتضن الجميع بلا تفريق؛ فحب علي حسنة لا تضر معها سيئة كما يقولون.
ولا يجدون ما يلجؤون إليه في تعليله سوى القول بالتقية، ولا يكاد يجزم
__________
(1) بحار الأنوار: 39/154، الاختصاص: ص328
(2) قالوا: معناه "صوت الرّعد"، انظر: بحار الأنوار: 39/156، الاختصاص: ص200 (الهامش)
(3) المفيد/ الاختصاص: ص 200-201، بحار الأنوار: 39/ 155-156، الصّفّار/ بصائر الدّرجات (انظر الموضع نفسه من المصدر السّابق)(2/549)
شيخ من مشايخهم بمعرفة أي القولين تقية إلا بالقول بأن ما خالف العامة (يعني أهل السنة) فيه الرشاد. وليتهم قالوا: ما وافق القرآن هو الحق وما سواه تقية.
وبعد، أليس يكفي في بيان فساد مذهبهم أنه عنصر غريب على الأمة، وأنه خلاف ما عليه أهل البيت، وخلاف ما اتفقت فيه روايات لهم مع ما جاء عند أهل السنة، وأن رواياتهم كلها متعارضة متناقضة؟!
2- مسألة الرؤية:
الرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) . وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسن (2) .
وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبين إلى السنة والجماعة (3) .
وخالف في ذلك الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية (4) . وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة وإجماع السلف (5) .
__________
(1) القيامة، آية: 22، 23، والنص عن الطحاوية (انظر: شرح الطحاوية ص146)
(2) علي بن أبي العز/ شرح الطحاوية ص151
(3) علي بن أبي العز/ شرح الطحاوية ص146
(4) علي بن أبي العز/ شرح الطحاوية ص146
(5) انظر: الرد على الزنادقة والجهمية للإمم أحمد ص85، رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على المريسي العنيد ص 413، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 3/454، وانظر التصديق بالظر إلى الله في الآخرة للآجري، ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري لأبي شامة، والتبصرة للشيرازي ص229، شرح الطحاوية ص146، مختصر الصواعق المرسلة ص179(2/550)
وأذكر فيما يلي قول الشيعة من مصادرها:
لقد ذهبت الشيعة الإمامية بحكم مجاراتهم للمعتزلة إلى نفي الرؤية، وجاءت روايات عديدة ذكرها ابن بابويه في كتابه التوحيد وجمع أكثرها صاحب البحار تنفي ما جاءت به النصوص من رؤية المؤمين لربهم في الآخرة، فتفتري - مثلاً - على أبي عبد الله جعفر الصادق بأنه سئل "عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.. إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفية" (1) .
ويظهر أن الحجة التي احتج بها هؤلاء الذين وضعوا هذه الرواية على جعفر تتضمن نفي الوجود الحق، لأن ما لا كيفية له مطلقًا لا وجود له. ولهذا قال بعض السلف حينما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول (2) . ولم يقل: لا كيفية له.
فالمنفي هنا علم البشر بالكيفية لا ذات الكيفية، كما أن هذا يناقض ما رواه صاحب الكافي عن أبي عبد الله أنه قال: ".. ولكن لابد من إثبات أن له كيفية لا يستحقها غيره ولا يشارك فيها ولا يحاط بها ولا يعلمها غيره" (3) .
وقال شيخهم وآيتهم جعفر النّجفي صاحب كشف الغطا: "ولو نسب
__________
(1) بحار الأنوار: 4/31، وعزاه إلى أمالي الصدوق
(2) جاء هذا الأثر - بهذا المعنى - عن أم سلمة، فأخرجه اللالكائي بسنده عن أم سلمة موقوفًا (شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 3/297) ، وذكره ابن حجر (فتح الباري: 13/406) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها: موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه» (الفتاوى: 5/365) ، كما ثبت مثل هذا الجواب عن ربيعة شيخ مالك، وروي من غير وجه عن مالك (المصدر السابق) فأخرجه اللالكائي عنهما (شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 3/398) . والبيهقي (الأسماء والصفات ص408-409) ، وذكره البغوي (شرح السنة: 1/171) والسيوطي (الدر المنثور: 3/91)
(3) أصول الكافي: 1/85(2/551)
إلى الله بعض الصّفات.. كالرّؤية حكم بارتداده" (1) . وجعل الحرّ العاملي نفي الرؤية من أصول الأئمة، وعقد لذلك بابًا بعنوان "باب أنّ الله سبحانه لا تراه عين ولا يدركه بصر في الدّنيا ولا في الآخرة" (2) .
فنفيهم لرؤية المؤمنين لربهم في الآخرة خروج عن مقتضى النصوص الشرعية، وهو أيضًا خروج عن مذهب أهل البيت، وقد اعترفت بعض رواياتهم بذلك، فقد روى ابن بابويه القمّي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: قلت له: أخبرني عن الله عزّ وجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم (3) .
3- ومثل مسألة "الرؤية" مسألة أخرى هي "نزول الرب جل شأنه":
والذي استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق سلف الأمة وأئمتها وأهل العلم بالسنة والحديث على تسديق ذلك وتلقيه بالقبول (4) . وإثباته على ما يليق بجلاله سبحانه ويختص بعظمته.
وقد جاءت عند الاثني عشرية روايات نسبوها لأهل البيت تنكر ذلك (5) . في حين يوجد روايات أخرى تثبت النزول الإلهي وهي التي تتفق مع نقل أهل السنة عنهم. جاء في كتب الشيعة "قال سائل لأبي عبد الله: تقول إنّه ينزل إلى السّماء الدّنيا؟ قال أبو عبد الله: نقول بذلك، لأنّ الرّوايات قد صحّت به
__________
(1) كشف الغطا: ص 417
(2) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة: ص 12
(3) ابن بابويه/ التّوحيد ص117، بحار الأنوار: 4/44، وانظر: رجال الكشّي ص450 (رقم848)
(4) ابن تيمية/ شرح حديث النزول: ص6، وانظر: الرد على الجهمية للإمام أبي سعيد الدارمي: ص284، ورد الإمام عثمان بن سعيد على المريسي العنيد ص377، السنة/ لابن أبي عاصم: 1/216، شرح أصول اعتقاد أهل السنة/ اللالكائي: 3/434
(5) انظر رواياته في أصول الكافي: 1/125-127، وانظر: بحار الأنوار: 3/311، 314(2/552)
والأخبار" (1) . ومثل هذا المعنى جاء في تفسير القمي أصل أصول التفاسير عندهم كما أثبت ذلك صاحب البحار (2) ، وإن كان ناشر الكتاب والمعلق عليه أضاف إليه ما يغير معناه (3) . ولم يتفطن أن بقية النص تكشف ما زاده فيه (4) .
واختلاف رواياتهم بهذه الصورة يدل على أن جانبًا منها باطل بلا ريب، ولا شك بأن الروايات التي تتفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف هي الصواب، وإن أعرض عنه شيوخ الشيعة مجاراة لأهل الاعتزال.
ثم إن اختلاف شيوخ الإمامية المتقدمين عن متأخريهم في هذا الباب يلزم منه أن أحدهما على ضلال، وعليه "لزم ضرورة أن شيوخ الإمامية ضلوا في التوحيد إما متقدموهم وإما متأخروهم" (5) . وقد جاءت روايات تدل على أن الأئمة - باعتراف كتب الشيعة - قد أخذوا بالمنهج الوسط بين غلو متقدمي الشيعة في الإثبات، وبين غلو متأخريهم في التعطيل.
وعقد صاحب الكافي بابًا بعنوان "باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى" وذكر فيه اثنتي عشرة رواية عن الأئمة (6) . افتتح الباب برواية "عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى
__________
(1) بحار الأنوار: 3/331. وقد عزاه المجلسي إلى كتاب التّوحيد لابن بابويه، وقد رجعت إلى كتاب التّوحيد فوجدت الرّواية إلا أنّ النّصّ الذي يدلّ على النّزول قد حذف، لكن محقّق الكتاب أشار في الحاشية إلى وجود هذا النّصّ في بعض النّسخ الخطّيّة للكتاب، ولكنّه لم يثبته في الصّلب لعدم موافقته لمشربه (انظر: التّوحيد لابن بابويه ص248)
(2) بحار الأنوار: 3/315
(3) قال: "ينزل أمره" انظر: تفسير القمي: 2/204
(4) حيث جاء النص: "إن الرب تبارك وتعالى ينزل كله ليلة ... فإذا طلع الفجر عاد الرب إلى عرشه". (انظر: بحار الأنوار: 3/315، تفسير القمي: 2/204) ولا يخفى ما فيه من الغلو في الإثبات في قوله: "ثم عاد الرب إلى عرشه".
(5) منهاج السنة: 1/275
(6) انظر: أصول الكافي: 1/100-104(2/553)
أبي عبد الله عليه السلام: "إن قومًا بالعراق يصفون الله بالصورة وبالتخطيط فكتب إليّ: سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وتعالى عما يصفه الواصفون المشبهون الله بخلقه المفترون على الله، فاعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله جل وعز، فانف عن الله تعالى البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه (1) . لا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان" (2) . وعن المفضل قال: سألت أبا الحسن عن شيء من الصفة فقال: "لا تجاوز ما في القرآن" (3) .
لاحظ أن هذا النص الذي ورد في أصح كتبهم الأربعة يأمرهم باتباع ما نزل به القرآن من صفات الله سبحانه. فمن قلد أهل الاعتزال، أو حكم العقل وأعرض عن كتاب الله، لم يتبع كتاب الله، ولم يأخذ بوصية إمامه.
قال الرضا: "للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه؛ فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيء والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه" (4) .
فأوائل الشيعة أخذوا بالتشبيه وأواخرهم أخذوا بالنفي، وأعرضوا عن المذهب الوسط، وهو مذهب الأئمة كما تقر به "نقولهم" فدل على أنهم ليسوا على
__________
(1) مذهب السلف بين مذهبين، وهدي بين ضلالتين: هو إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد على أهل التشبيه، والتمثيل. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد على أهل النفي والتعطيل (انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 5/196) لكن لفظ التشبيه صار في كلام الناس لفظًا مجملاً يراد به المعنى الصحيح وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل من أن صفات الرب لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته، ويراد به معنى باطل وهو أن لا يثبت لله شيء من الصفات (انظر: شرح الطحاوية ص40)
(2) أصول الكافي: 1/100
(3) السابق: 1/102
(4) بحار الأنوار: 3/263(2/554)
شيء في هذا الباب فلم يأخذوا بمنهج القرآن والسنة ولم يأخذوا بطريقة الأئمة الذين يزعمون أنهم قدوتهم، بل ساروا مع أهل التمثيل أولاً، وخالفوا قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ثم أخذوا بمسلك أهل التعطيل وأعرضوا عن نصوص الصفات الواردة عن الله ورسوله.(2/555)
المبحث الثالث
وصفهم الأئمة بأسماء الله وصفاته
وهو ما انفردت به الشيعة، وشذت به عن الأمة ... فإذا كان شيوخ الشيعة المتقدمون قد شبهوا الخالق سبحانه بصفات المخلوقين، ثم واجه هذه الموجة الغالية في التجسيم موقف آخر قد يمثل ردة فعل له، وهو موقف التعطيل..
فشبهوا الله سبحانه بالمعدومات والجمادات والممتنعات، وعطلوا نصوص الأسماء والصفات.
فهم لم يصفوا الله سبحانه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا في مذهبهم الأول ولا في مذهبهم الأخير.. إذا كان الأمر كذلك فإنهم لم يكتفوا بذلك، بل تطور الأمر إلى أن الأسماء والصفات الواجبة لله سبحانه وصفوا بها بعض البشر (الأئمة) فخرجوا بمذهب ثالث وهو تشبيه المخلوق بالخالق، فشابهوا النصارى في ذلك كما شابهوا اليهود في المذهب الأول (التجسيم) .
لقد خرجوا ببدعة ثالثة أحدثوها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث زعموا أن الأئمة هم أسماء الله، فأسماء الله سبحانه التي ذكرها في كتابه هي - على حد زعمهم - عبارة عن الأئمة الاثني عشر، وهذا يتضمن تعطيل الله من أسمائه الحسنى، وإعطاءها بعض البشر، ويزعمون أن النص من "المعصوم" قد ورد بذلك، وهذا إفك عظيم افتروه؛ فويل لهم مما يفترون.
روى الكليني في أصل الكافي عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) . قال: "نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا" (2) .
__________
(1) الأعراف، آية: 180
(2) أصول الكافي: 1/143-144(2/556)
وهذا المعنى تناقله أساطين المذهب في روايات عديدة منسوبة لجعفر الصادق وغيره (1) .
الله سبحانه يقول: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} وهؤلاء يقولون: نحن الأسماء الحسنى، فأي محاداة لله وكتابه أعظم من هذا! إن من معين هذه النصوص المظلمة تستقي طوائف الباطنية الملحدة والتي تذهب لتأليه الأئمة.. ومن مائها الآسن ترتوي.
وتفصل روايات أخرى لهم ما أجملته الرواية السابقة فيروون عن أبي جعفر أنه قال: "نحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله في خلقه، ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا" (2) .
وعن أبي عبد الله: "إن الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله ولولانا ما عُبد الله" (3) .
وزعموا أن أمير المؤمنين عليًا قال: "أنا عين الله وأنا يد الله وأنا حبيب الله وأنا باب الله" (4) . وقال - كما يفترون -: "أنا علم الله، وأنا قلب الله الواعي، ولسان الله النّاطق، وعين الله النّاظرة، وأنا جنب الله وأنا يد الله" (5) .
__________
(1) انظر: تفسير العياشي: 2/42، المفيد/ الاختصاص: ص252، المجلسي/ بحار الأنوار: 94/22، النوري الطبرسي/ مستدرك الوسائل: 1/371، البرهان: 2/52، تفسير الصافي 2/254-255
(2) أصول الكافي: 1/143، البرهان: 3/240
(3) أصول الكافي: 1/144، ابن بابويه/ التوحيد ص151-152، بحار الأنوار 24/197، البرهان: 3/240-241
(4) أصول الكافي: 1/145، بحار الأنوار: 24/194
(5) ابن بابويه/ التّوحيد ص164، بحار الأنوار: 24/198(2/557)
وفي التوحيد لابن بابويه أنّ أبا عبد الله قال: "إنّ لله عزّ وجلّ خلقًا من رحمته، خلقهم من نوره.. فهم عين الله النّاظرة وأذنه السّامعة، ولسانه النّاطق في خلقه بإذنه.. بهم يمحو السّيّئات، وبهم يدفع الضّيم، وبهم يُنزّل الرّحمة، وبهم يحيي ميتًا، وبهم يميت حيًّا، وبهم يبتلي خلقه، وبهم يقضي في خلقه قضيّته" (1) .
وقد ذكر المجلسي ستًا وثلاثين رواية تقول إن الأئمة هم وجه الله ويد الله (2) . وفي رجال الكشّي وغيره قال علي - كما يفترون -: "أنا وجه الله، أنا جنب الله، وأنا الأوّل، وأنا الآخر، وأنا الظّاهر، وأنا الباطن.." (3) .
وجاءت عندهم روايات عديدة في كثير من مصادرهم المعتمدة تفسر قوله سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (4) . وقوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} (5) . بما رووه عن جعفر أنّه قال: "نحن وجه الله" (6) "نحن الوجه الذي يؤتى الله منه" (7) ، "نحن وجه الله الذي لا يهلك" (8) ، وروايات أخرى بهذا المعنى (9) .
وجاء في تفسير العياشي، رواية طويلة تقشعر منها أبدان المؤمنين تصف
__________
(1) التّوحيد: ص167
(2) بحار الأنوار: 24/191-203
(3) رجال الكشّي ص221 رقم (374) ، وانظر: بحار الأنوار: 94/180، بصائر الدّرجات ص151
(4) الرحمن، آية: 27
(5) القصص، آية: 88
(6) مضى تخريج هذا النّص من كتبهم ص 172-173
(7) مضى تخريجه من كتبهم ص 172-173
(8) ابن بابويه/ التّوحيد ص150، بحار الأنوار: 24/201، تفسير الصّافي: 4/108، البرهان: 3/241
(9) انظر: ابن بابويه/ التوحيد، باب تفسير {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} ص 149-153، وبحار الأنوار: 24/191 وما بعدها، وفي تفسير البرهان ثلاث عشرة رواية بهذا المعنى نقلها من مختلف كتبهم المعتمدة عندهم (انظر: البرهان 30/240-242)(2/558)
ما يجري في يوم القيامة، وتقول نهاية الرواية - على لسان الأئمة -: "ثم يؤتى بنا فنجلس على عرش ربّنا.." (1) .
هذا ونصوصهم التي تفسر أسماء الله عز وجل وصفاته بالإمام والأئمة كثيرة.
كما أنهم أضفوا على الأئمة أيضًا بعض صفات الرب سبحانه كالعلم بالغيب، وعقد لذلك صاحب الكافي بابًا بعنوان "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء" (2) . وضمنه طائفة من رواياتهم. وعقد بابًا آخر بعنوان "باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا" (3) . وذكر فيه جملة من أحاديثهم، ومن روايات هذه الأبواب:
قال أبو عبد الله - كما يفترون -: "إنّي لأعلم ما في السّماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنّة وأعلم ما في النّار، وأعلم ما كان وما يكون.." (4) . "وعن سيف التمار قال: كنا مع أبي عبد الله رضي الله عنه جماعة من الشيعة في الحجر فقال: علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدًا، فقلنا: ليس علينا عين. فقال: وربّ الكعبة وربّ البنية - ثلاث مرّات - لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأنّ موسى والخضر عليهما السّلام أعطيا علم ما كان ولم يُعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم السّاعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثة" (5) .
وبعد، فهذه كلمات لا تحتاج إلى تعليق، وأقول هي "زبالة" المذاهب
__________
(1) تفسير العيّاشي: 2/312، البحراني/ البرهان: 2/439، المجلسي/ بحار الأنوار: 3/302 (ط: كمباني)
(2) انظر: أصول الكافي: 1/260-262
(3) أصول الكافي: 1/258
(4) أصول الكافي: 1/261
(5) أصول الكافي: 1/260-261(2/559)
الباطنية، التي كان لها وجود في تاريخ المسلمين، والتي تذهب إلى تأليه عليّ والأئمة. قد استوعبتها الاثنا عشرية في بنية مذهبها.
وهم يلصقون هذه المفتريات بأهل البيت ليتخذوا منهم "عكازة" يعتمدون عليها لنشر مذهبهم. وإلا فمن يقول: "أنا الأول والآخر والظاهر والباطن" (1) .؛ هل يختلف عن فرعون الذي قال: "أنا ربكم الأعلى"؟! وكيف يتجرأ أساطين المذهب كالكشي والطوسي على نقل هذا الإلحاد، وكيف يعدون الكليني ثقة إسلامهم وهو ينقل هو وأضرابه هذا الكفر البواح؟!
وهل ثمة عذر لمعتذر؟
وقد حاول شيخهم المجلسي اللجوء إلى المجاز لتفسير بعض نصوصهم الواردة في هذا الباب حيث قال: "إن تلك المجازات شائعة في كلام العرب، فيقال: لفلان وجه عند الناس، ولفلان يد على فلان وأمثال ذلك، والوجه يطلق على الجهة، فالأئمة الجهة التي أمر الله بالتوجه إليها، ولا يتوجه إليه تعالى إلا بالتوجه إليهم، وكل شيء هالك باطل مضمحل إلا دينهم وطريقتهم وطاعتهم، وهم عين الله أي شاهده على عباده، فكما أن الرجل ينظر بعينه ليطلع على الأمور فكذلك خلقهم الله ليكونوا شهداء من الله عليهم ناظرين في أمورهم.
وإطلاق اليد على النعمة والرحمة والقدرة شائع، فهم نعمة الله التامة، ورحمته المبسوطة، ومظاهر قدرته الكاملة. والجنب: الجانب والناحية وهم الجانب الذي أمر الخلق بالتوجه إليهم.. ويحتمل أن يكون كناية عن أن قرب الله تعالى لا يحصل إلا بالتقرب بهم، كما أن قرب الملك يكون بجنبه" اه (2) .
إن هذا الاعتذار دليل على رضا شيوخهم بهذا الكفر البين، وإلا فكيف يلتمس لهذا الإلحاد الظاهر مخرجًا؟! لم لا يضرب به الجدار، وينقي "ثوب التشيع"
__________
(1) انظر: ص (558)
(2) بحار الأنوار: 24/202(2/560)
من أدران رؤوس الملاحدة، وزبانية الكفر؟ وهل يصح تأويل المجلسي إلا إذا صح تأويل قول فرعون "أنا ربكم الأعلى" إلا إذا كان هذا التأويل لمجرد التستر على الباطل، والدفاع بالهوى عن مقالات الملاحدة.
إن التعلق بالمجاز - على فرض القول (1) . به - لا مكان له هنا؛ لأن المجاز في اللغة يلاحظ فيه وجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، مع وجود قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي (2) . والأصل في الكلام الحقيقة "ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر حمل الكلام على حقيقته" (3) .
ولذلك فإن فرقًا كثيرة في الاثني عشرية وغيرها عدت ذلك الكلام حقيقة، واعتقدت في الأئمة الألوهية بمقتضى هذا الكفر الذي ينقله لهم شيوخ الاثني عشرية، وكان حق هذه المقالة الرفض والتكذيب؛ لأنه لا معنى لدعوى المجاز، فهل توجد علاقة وقرينة لجعل معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا للأئمة؟! فأين العلاقة في قولهم بأن أسماء الله "الأول والآخر والظاهر والباطن" هي أوصاف للأئمة؟!! وقوله سبحانه: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} أين القرينة الصارفة لهذه الآية عن معناها الأصلي وهو أسماء الله سبحانه؟! لا يوجد شيء من ذلك إلا إن كانت هي زعمهم أن في الأئمة جزءاً إلهيًا، فقد أخرج صاحب الكافي عن الأئمة أنهم قالوا: "إنّ الله خلطنا بنفسه" (4) .
فإذا كانت هذه هي القرينة فهي تؤكد مبدأ الغلو ولا تنفيه، وتعطي الأئمة جزءاً من صفات الله سبحانه. وأنت تلاحظ في كلمات المجلسي مظاهر الغلو في الأئمة وتكاد تكون مجرد صدى لتلك الروايات.
فهل يمكن أن يقارن قول العرب: لفلان وجه عند الناس بقول إمامهم -
__________
(1) انظر في مسألة المجاز: ابن تيمية/ مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 7/87-119، مختصر الصواعق المرسلة ص242 وما بعدها
(2) راجع: كتب البلاغة العربية: انظر - مثلاً -: المراغي/ علوم البلاغة ص296، حفني ناصف وزملاؤه/ البلاغة ص341 (ضمن قواعد اللغة)
(3) أبو شامة/ ضوء الساري ص106
(4) أصول الكافي: 1/146(2/561)
كما يفترون -: "أنا وجه الله"؟! وهل يقبل أن تجعل قرينة ذلك أن عليًا والأئمة هم الجهة التي أمر الله بالتوجه إليها.. هل عندهم من برهان بهذا فيخرجوه لنا؟
لا يتوجه الناس بعبادتهم ودعائهم إلا إلى الله وحده، ولا يستقبل المسلمون في صلواتهم إلا إلى بيت الله، ولا واسطة بين الله وخلقه إلا في تبليغ وحيه سبحانه، ولا واسطة في التبليغ إلا رسل الهدى عليهم السلام، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال بعد هذا: إن الأئمة هم الجهة التي يتوجه الناس إليها؟!
أما دعوى "أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون ولا يخفى عليهم الشيء" فهذه صفة للحق جل شأنه لا يشاركه فيها أحد سبحانه. قال تعالى: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (1) . {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (2) . {إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء} (3) .
والله سبحانه أمر أفضل الخلق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (4) ، {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (5) . فأمره سبحانه أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم بغيب المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ... } (6) .
وقد ذكر علماء الإسلام أن من ادعى شيئًا من علم الغيب فقد كفر،
__________
(1) النمل، آية: 65
(2) الأنعام، آية: 59
(3) آل عمران، آية: 5
(4) الأعراف، آية: 188
(5) الأنعام، آية: 50
(6) الجن، آية: 26، 27، والنص عن تفسير ابن كثير: 2/293(2/562)
فقد أضاف الله سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير ما آية من كتابه، فلا يظهر على غيبه إلا من اصطفى من رسله (1) ، وهذا هو الغيب المطلق المحجوب عن جميع الخلق (2) .
وقد عثرت وسط هذا الركام من هذه الدعاوى الغبية الملحدة حول الأئمة على بعض النصوص التي روتها كتب الشيعة والتي تجرد الأئمة من هذه الصفات التي خلعوها عليهم، وهي لا تنبغي إلا للحق جل شأنه.
قال أبو عبد الله - كما يروي صاحب الكافي -: "يا عجبًا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي.." (3) .
ولو كان أبو عبد الله - كما يزعم الكليني في أبوابه التي عقدها بعد ذكره لهذا النص - لو كان يعلم ما يكون ولا يخفى عليه الشيء، وإذا شاء أن يعلم - علم لم يخف عليه موضع الجارية.
وكان الأئمة من قديم يشكون من مزاعم هؤلاء الذين جمع أقوالهم صاحب
__________
(1) انظر هذا المعنى في تفسير القرطبي: 7/2، 3
(2) ذكر أهل العلم أن الغيب ينقسم إلى قسمين: غيب "مطلق" أو حقيقي وهو ما يعلمه وحده سبحانه دون ما سواه، وهو المقصود عند الإطلاق، وفيه يقول الله عز وجل: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} . وغيب "إضافي" أو مقيد وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض؛ كالذي يعلمه الملائكة عن أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر مثلاً. وأما ما يعلمه البشر بتمكينهم من أسبابه واستعمالهم لها ولا يعلمه غيرهم لجهلهم بتلك الأسباب أو عجزهم عن استعمالها فلا يدخل في عموم معنى الغيب الوارد في كتاب الله؛ لأنه غيب عمن غاب عنه من المخلوقين، ليس هو غيبًا عمن شهده. والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا، فيكون غيبًا مقيدًا ليس غيبًا مطلقًا غاب عن المخلوقين قاطبة.
(انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 16/110، تفسير المنار: 7/422)
(3) أصول الكافي: 1/257(2/563)
الكافي وأسندها للأئمة، ولهذا جاء في حديث لهم ذكره صاحب البحار وصاحب الاحتجاج عن بعض أئمتهم قال: "تعالى الله عز وجل عما يصفون سبحانه وبحمده، ليس نحن شركاء في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، كما قال في محكم كتابه تبارك وتعالى: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (1) أني بريء إلى الله وإلى رسوله ممن يقول: إنا نعلم الغيب أو نشارك الله في ملكه، أو يحلنا محلاً سوى المحل الذي رضيه الله لنا".
وروايات الشيعة تكشف نفسها بنفسها وتتناقض نصوصها.
وقول الأئمة: إنهم مصدر الرزق وإنزال الغيث.. إلخ والذي يرويه شيوخ الاثني عشرية هو من مخلفات غلاة الشيعة والذين أنكر الأئمة مذهبهم.
فقد جاء في أخبارهم أن أبا عبد الله قال حينما قيل له: إن المفضل بن عمر يقول: إنكم تقدرون أرزاق العباد. فقال: "والله ما يقدر أرزاقنا إلا الله، ولقد احتجت إلى طعام لعيالي فضاق صدري وأبلغت إليّ الفكرة في ذلك حتى أحرزت قوتهم؛ فعندها طابت نفسي، لعنه الله وبرئ منه» (2) .
ولكن هذه الروايات هي كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وفي التقية متسع لكل نص تضيق به نفوس شيوخ الشيعة، وإذا أردت مثالاً على ذلك فاسمع ما يقوله شارح الكافي تعقيبًا على قول أبي عبد الله الذي نقلناه آنفًا (والذي يتعجب فيه أبو عبد الله من قوم نسبوا له العلم بالغيب، ويذكر للرد عليهم بأن جاريته قد اختفت في داره فلم يدر أين هي فكيف يقال عنه إنه يعلم ما كان وما يكون) . قال شارح الكافي.. ".. الغرض من هذا التعجب وإظهاره هو ألا يتخذه الجهال
__________
(1) قد آذانا جهلاء الشيعة وحمقاؤهم، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه، وأشهد الله الذي لا إله إلا هو وكفى به شهيدًا
(2) بحار الأنوار: 25/301، رجال الكشي ص323، وانظر رواية في هذا المعنى في بحار الأنوار: 25/32، ورجال الكشي ص324-325، وأخرى أيضًا في البحار: 25/316، ورجال الكشي ص518-519(2/564)
إلهًا، أو يدفع عن وهم بعض الحاضرين المنكر لفضله ما نسبوه إليه من العلم بالغيب حفظًا لنفسه، وإلا فهو رضي الله عنه كان عالمًا بما كان وما يكون، فكيف يخفى عليه مكان الجارية؟ فإن قلت: إخباره بذلك على هذا يوجب الكذب، قلت: إنما يوجب الكذب لو لم يقصد التورية وقد قصدها، فإن المعنى ما علمت علمًا غير مستفاد منه تعالى بأنها في أي بيوت الدار" (1) .
انظر التكلف العجيب في رد هذه الرواية لإثبات أن الإمام يعلم ما كان وما يكون حتى ارتكب في سبيل ذلك نسبة الإمام إلى الكذب، وهدم أصلاً من أصولهم وهو العصمة.
وإذا كان الإمام أراد بهذا القول ألا يتخذه الجهال إلهًا فهل أنت بإثباتك لضد قوله تريد أن تدعو إلى تأليه الإمام، وأين الدليل على وجود بعض الحاضرين الذين يخشى من وجودهم الإمام وسلسلة السند كلهم شيعة؟! وعلى أي وجه من وجوه اللغة يعتبر هذا من قبيل التورية؟!
أما شيخهم الآخر الشعراني المعلق على الشرح فلم يعجبه هذا التكليف في تأويل الرواية، ورام ردها بأقصر طريق وهو الحكم بأن الرواية كذب (2) .
وهكذا يشيع الزنادقة عن علماء أهل البيت مثل هذه الإشاعات الكاذبة، فإذا أنكروا على هؤلاء الزنادقة فريتهم، وفضحوا باطلهم أمام الملأ حمل شيوخ الشيعة هذا التكذيب والإنكار على التقية.. فصارت التقية حيلة بيد غلاة الشيعة لإبقاء التشيع في دائرة الغلو، ورد الحق، والإساءة لأهل البيت.
وقد ادعى زارة بن أعين أن جعفر بن محمد يعلم أهل الجنة وأهل النار، فأنكر ذلك جعفر لما بلغه ذلك، وكفّر من قاله، ولكن زرارة حينما نقل له موقف جعفر قال لمحدثه: "لقد عمل معك بالتقية" (3) .
__________
(1) المازندراني/ شرح جامع (على الكافي) : 6/30-31
(2) تعاليق علمية (على الكافي وشرحه) : 6/31
(3) انظر قصة ذلك في ميزان الاعتدال، ترجمة زرارة بن أعين: 2/69-70(2/565)
المبحث الرابع
دعوى التحريف لتأييد مذهبهم في التعطيل
وهو مسلك لم يسلكه أحد غيرهم، وشذوذ اختصوا به عن سواهم؛ حيث راموا التخلص من آيات الإثبات للأسماء والصفات في كتاب الله سبحانه بدعوى خطيرة، سبق أعرضنا لها مفصلة، ولذلك سنشير إليها هنا باقتضاب ونقتصر على ما يتصل منها بباب الأسماء والصفات، هذه الدعوى هي تحريفهم للآية عما أنزل الله، فمثلاً روى ابن بابويه عن الرضا علي بن موسى في قول الله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} (1) . قال الرضا: "إنها هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام، وهكذا نزلت" (2) . قال الرضا: "إنها هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام، وهكذا نزلت" (3) .
وهدف الشيعة من هذا التحريف واضح، فهم يحاولون بذلك نفي الإتيان عن الله سبحانه كقول المعتزلة.
وفي الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين علي قال يخاطب أحد الزنادقة لإقناعه بالإسلام!!: "وأما قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} فإنما نزلت كل شيء هالك إلا دينه؛ لأن من المحال أن يهلك منه كل شيء ويبقى الوجه، هو أجل وأعظم من ذلك" (4) .
وواضح أن واضع هذه الأسطورة أعجمي جاهل لا يفقه من أمر العربية شيئًا، وزنديق حاقد في افترائه على كتاب الله، وتعطيله لصفات الله، ونسبة هذا الكفر لأمير المؤمنين علي. ومن كبير مكره وحقده زعمه أن هذه إجابة أمير
__________
(1) البقرة، آية: 210
(2) التوحيد لابن بابويه: ص 163، بحار الأنوار: 3/319، البرهان: 1/208
(3) الاحتجاج: ص 253
(4) الاحتجاج: ص 253(2/566)
المؤمنين لإقناع أحد الزنادقة.
إن هذا المنهج في التعطيل يدل على أن هذه الزمرة التي وضعت هذه الروايات لا ترعى في سبيل الدفاع عن مبادئها أية حرمة، ولا تقف عند حد.
وإذا كانت فرق العطلة من المعتزلة وغيرها لم تحاول أن تمس لفظ كتاب الله سبحانه، ورامت البحث عن تأويل للمعنى، فإن هذه الفئة قد تخطت الحدود وتجاوزت المبادئ فرامت إثبات مبدئها، يما يخرجها عن الإسلام أصلاً، فدل على أن هناك فئات من أهل التعطيل تريد الكيد للأمة بمحاربة أصل دينها وهو كتاب الله العظيم. ولقد انكشف بهذه الوسيلة أمرها وافتضح شأنها. والله من ورائهم محيط.(2/567)
الفصل الرابع: اعتقادهم في الإيمان وأركانه
وفي هذا الفصل عرض لمبحثين الأول: قولهم في الإيمان والوعد والوعيد، والثاني: قولهم في أركان الإيمان.
وفي المبحث الأول خمس مسائل:
المسألة الأولى: مفهوم الإيمان عندهم.
المسألة الثانية: قولهم بشهادة ثالثة مع الشهادتين.
المسألة الثالثة: القول بالإرجاء.
المسألة الرابعة: بيان قولهم بالوعد.
المسألة الخامسة: بيان قولهم بالوعيد.
وفي المبحث الثاني: بيان لقولهم في أركان الإيمان.(2/571)
المبحث الأول: قولهم في الإيمان والوعد والوعيد
المسألة الأولى: مفهوم الإيمان عندهم:
لقد أدخل الاثنا عشرية الإيمان بالأئمة الاثني عشر في مسمى الإيمان (1) ، بل جعلوه هو الإيمان بعينه.
جاء في أصول الكافي: "الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله" ثم ذكر بقية أركان الإسلام، ثم قال: "الإيمان معرفة هذا الأمر مع هذا، فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلمًا وكان ضالاً" (2) .
ويقولون بأن الثواب في الآخرة ليس على الإسلام، إنما هو على الإيمان. وعقد لذلك صاحب الكافي بابًا بعنوان: "باب أن الإسلام يحقن به الدم وأن الثواب على الإيمان" (3) .
ويفسرون قوله سبحانه: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ... } (4) - بما يرونه عن أبي جعفر قال: "إنما عني بذلك عليًا، والحسن، والحسين، وفاطمة. وجرت بعدهم في الأئمة. قال: ثم يرجع القول من الله في الناس فقال:
__________
(1) وقد نسب الأشعري هذا المذهب إلى جمهور الرافضة، انظر: مقالات الإسلاميين: 1/125
(2) أصول الكافي: 2/24
(3) أصول الكافي: 2/24
(4) البقرة، آية: 136، 137.(2/572)
{فَإِنْ آمَنُواْ} يعني الناس {بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} يعني عليًا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم، {فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} " (1) .
ولهذا قال ابن المطهر الحلي: "إن مسألة الإمامة (إمامة الاثني عشر) هي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان والتخلص من غضب الرحمن" (2) .
وقال محمد جواد العاملي: "الإيمان عندنا إنما يتحقق بالاعتراف بإمامة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، إلا من مات في عهد أحدهم فلا يشترط في إيمانه إلا معرفة إمام زمانه ومن قبله" (3) .
وقال أمير محمد القزويني (من شيوخهم المعاصرين) : "إن من يكفر بولاية علي وإمامته - رضي الله عنه - فقد أسقط الإيمان من حسابه وأحبط بذلك علمه" (4) .
المسألة الثانية: الشهادة الثالثة
وبمقتضى هذا الإيمان الذي لا يعرفه سوى الاثني عشرية، فإنهم اخترعوا "شهادة ثالثة" هي شعار هذا الإيمان الجديد، هي قولهم: "أشهد أن عليًا ولي الله" يرددونها في أذانهم وبعد صلاتهم، ويلقنونها موتاهم.
فالإقرار بالأئمة مع الشهادتين يقال بعد كل صلاة، وعقد الحر العاملي بابًا في هذا المعنى (5) .
وجاء في أخبارهم عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: "لو أدركت
__________
(1) تفسير العياشي: 1/62، تفسير الصافي: 1/92، البرهان: 1/157
(2) منهاج الكرامة في معرفة الإمامة: ص 1
(3) مفتاح الكرامة: 2/80
(4) الشيعة في عقائدهم وأحكامهم: ص 24
(5) انظر: وسائل الشيعة: باب استحباب الشهادتين والإقرار بالأئمة بعد كل صلاة: 4/1038(2/573)
عكرمة (1) . عند الموت لنفعته، فقيل لأبي عبد الله عليه السلام: بماذا كان ينفعه؟ قال: يلقنه ما أنتم عليه" (2) ، وعن أبي بصير عن أبي جعفر قال: لقنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله والولاية" " (3) .
ويلقن هذه الشهادة عند إدخاله للقبر (4) ، وكذلك عند انصراف الناس عنه، وبوَّب لذلك المجلسي فقال: "باب استحباب تلقين الولي الميت الشهادتين والإقرار بالأئمة عليهم السلام بأسمائهم بعد انصراف الناس" (5) ، وساق في ذلك جملة من رواياتهم.
وهذه الشهادة الجديدة هي إقرار بمسألة الإمامة التي يرى ابن المطهر أنها "أهم المطالب في أحكام الدين وأشرف مسائل المسلمين" (6) .
وبعد، فإن الاعتقاد بأن الإيمان بالاثني عشر هو ركن الإيمان، أو هو الإيمان نفسه وهو أهم مطالب الدين ... إن هذا "الاعتقاد" إحدى الدلائل البينة، والأمارات الواضحة على بطلان مذهبهم، وأنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. فلا جاء في القرآن ولا ثبت في السنة شيء من ذلك (7) ، ولهذا رأى شيخ الإسلام أن قولهم بأن الإمامة - فضلاً عن القول بإمامة الاثني عشر التي لا يوافقهم أحد من المسلمين عليها إلا من ارتضى مذهبهم من الروافض - أهم مطالب الدين هو
__________
(1) يعني عكرمة مولى ابن عباس العلامة الحافظ المفسر (انظر: سير أعلام النبلاء: 5/12) . هذا قدره عند هؤلاء (انظر: رجال الكشي: ص216 حيث قال بأن هذا يدل على ذمه)
(2) فروع الكافي: 1/34، من لا يحضره الفقيه: 1/41، تهذيب الأحكام: 1/82، ورجال الكشي: ص216، وسائل الشيعة: 2/665
(3) فروع الكافي: 1/34، تهذيب الأحكام: 1/82، وسائل الشيعة: 2/665 ...
(4) انظر أخبارهم في ذلك في: فروع الكافي: 1/53، تهذيب الأحكام: 1/91، وسائل الشيعة: 2/843
(5) وسائل الشيعة: 2/862
(6) منهاج الكرامة: ص 1
(7) انظر ما ساقه ابن تيمية من ذلك في منهاج السنة: 1/20 وما بعدها، وقد مضى في هذه الرسالة شيء من ذلك، وسيأتي تفصيل في فصل الإمامة ...(2/574)
كفر، لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة (1) .
وإذا كانت الإمامة بهذه المثابة التي يزعمون، فأبعد الناس عنها الرافضة الذين يرون أن كل راية ترفع قبل قيام "المعدوم" والذي يسمونه المنتظر هي راية جاهلية (2) ، ويكفرون بما وراءه من الخلفاء ما عدا خلافة علي والحسن.
كما أن مجرد المعرفة للأئمة لا يحصل بها نيل درجة الكرامة، لأن هذا لا يحصل بمجرد معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يطع أمره ويتبع قوله (3) .
المسألة الثالثة: القول بالإرجاء
هذا وإذا كان الإيمان عندهم هو الإقرار بالأئمة الاثني عشر، فقد أصبح معرفة الأئمة عندهم كافية في الإيمان ودخول الجنان، فأخذوا بمذهب المرجئة (4) . رأسًا. ولهذا عقد صاحب الكافي بابًا بعنوان: "باب أن الإيمان لا يضر معه سيئة، والكفر لا ينفع معه حسنة" (5) ، وذكر فيه ستة أحاديث منها قول أبي عبد الله: "الإيمان لا يضر معه عمل، وكذلك الكفر لا ينفع معه عمل" (6) . والإيمان حسب مصطلحهم هو حب الأئمة أو معرفتهم.
__________
(1) انظر: منهاج السنة: 1/20
(2) انظر: الغيبة للنعماني، باب في أن كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت، ص7
(3) انظر: منهاج السنة: 1/31
(4) المرجئة: هم الذي يؤخرون العمل عن الإيمان، ويجعلون الإيمان هو مجرد المعرفة بالله سبحانه، ومنهم من يقول: إنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة مهما ارتكب من المعاصي.
انظر عن المرجئة: مقالات الإسلاميين: 1/213-234، الملل والنحل: 1/139-146، الفرق بين الفرق ص202-207، التنبيه والرد ص43، التبصير في الدين ص59، البدء والتاريخ: 5/144، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص107، الخطط للمقريزي: 2/349-350
(5) أصول الكافي: 2/463
(6) أصول الكافي: 2/464(2/575)
وحين قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "إن أكثر الشيعة يعتقدون أن حب علي حسنة لا يضر معها سيئة" (1) .
رد عليه بعض شيوخهم وآياتهم في هذا العصر فقال: "ما نسبه إلى كثير من الشيعة من القول بأن حب علي حسنة ليس يضر معه سيئة، فإنه بهتان منه، فإنهم جميعًا متفقون على ذلك، فتخصيصه الكثير منهم بهذه العقيدة ليس له وجه سوى الكذب" (2) .
قال شيخ الإسلام: "وإذا كانت السيئات لا تضر مع حب علي، فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف، فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاص، فإذا كان حب علي كافيًا فسواء وجد الإمام أو لم يوجد" (3) . فصارت مسألة إمامة المعصوم المبنية على قاعدة اللطف منقوضة بمسألة المحبة المجردة، وكل قول عندهم لابد أن يهدم قولاً آخر وهكذا الشأن في كل دين ليس من عند الله سبحانه.
ولعلهم يفارقون المرجئة من حيث إن المرجئة تقول: الإيمان هو المعرفة بالله، وهم يقولون: الإيمان معرفة الإمام أو حبه.
وأخبارهم في هذا الباب كثيرة في عشرات من الأحاديث، فقد جاء عندهم "وهل الدين إلا الحب" (4) . وذكر المجلسي (154) رواية في باب بعنوان: "باب ثواب حبهم وولايتهم وأنهم أمان من النار" (5) ، كما جاء في عنوان آخر: "أن ولايته (يعني عليًا) عليه السلام حصن من عذاب الجبار، وأنه لو اجتمع الناس على حبه ما خلق الله النار" (6) ، وجاء في أحاديثهم "لا يدخل الجنة إلا من أحبه
__________
(1) منهاج السنة: 1/31
(2) محمد مهدي الكاظمي/ منهاج الشريعة في الرد على ابن تيمية: 1/98
(3) منهاج السنة: 1/31
(4) تفسير العياشي: 1/167، بحار الأنوار: 27/95
(5) بحار الأنوار: 27/73-144
(6) بحار الأنوار: 39/32(2/576)
من الأولين والآخرين، ولا يدخل النار إلا من أبغضه من الأولين والآخرين" (1) .
وعلى هذا التقدير سقط الإيمان بالله ورسوله، وجميع العقائد الدينية، وجميع التكليفات والأحكام الشرعية، ولم يبق في شريعة الإسلام غير حب علي، وهذه المفتريات قد أضلت كثيرًا ممن يحب الإباحة ويتبع الشهوات (2) .
وهذه الروايات يلزم منها أن القرآن لم ينزل لهداية الخلق، بل لضلالتهم؛ إذ لم يذكر فيه حب علي وبغضه مع أنه هو أصل دخول الجنة أو دخول النار.
قال السويدي: "وإذا كان حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم غير كاف في النجاة والخلاص من العذاب بلا إيمان وعمل صالح فكيف يكون حب علي كافيًا، وهذا مخالف لقوله سبحانه: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (3) . وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4) .؟ بل مخالف لأصولهم ورواياتهم، أما المخالفة للأصول، فلأنه إذا ارتكب رافضي الكبائر ولم يعاقبه الله على ذلك يلزم ترك الواجب على الله تعالى عندهم.
وأما المخالفة للروايات فلأن عليًا والسجاد والأئمة الآخرين قد روي عنهم في أدعيتهم الواردة عندهم بطرق صحيحة البكاء والاستعاذة من عذاب الله تعالى، وإذا كان مثل هؤلاء الأئمة الكرام خاشعين خائفين من عذاب الله فكيف يصح لغيرهم أن يغتر بمحبتهم ويتكل عليهم في ترك العمل (5) .؟ ". وانظر في قولهم: "إنه لا يدخل النار إلا من أبغضه من الأولين والآخرين" تجد أنه يدل صراحة على أنه لا يدخل النار مثل فرعون وهامان وقارون وسائر رؤساء الكفر وأتباعهم من الأمم الماضية لأنهم لم يبغضوا عليًا، بل لم يعرفوه، فانظر كيف أدى بهم الغلو.
ولا شك أن هذه مقالة لا يتكلف في ردها، لأنه معلوم بطلانها من الإسلام
__________
(1) علل الشرائع: ص162
(2) نقض عقائد الشيعة للسويدي، الورقة: 34 (مخطوط)
(3) النساء، آية: 123
(4) الزلزلة، آية: 8
(5) نقض عقائد الشيعة، الورقة: 34، 35(2/577)
بالضرورة، ولو كان الأمر كما يزعمون لما أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع.
لكن هذه العقيدة بقيت آثارها في المجتمعات الشيعية من الاستهانة بشرائع الله، والجرأة على حدود الله.
المسألة الرابعة: قولهم في الوعد
قال ابن بابويه: "اعتقادنا في الوعد أن من وعد الله على عمل ثوابًا فهو منجزه" (1) .
وقد توسعوا في مفهوم الوعد فاخترعوا روايات وأخبارًا ونسبوها لجعفر الصادق وغيره تثبت الوعد بالثواب على أعمال ما أنزل الله بها من سلطان. بل إن الدليل والبرهان قام على منعها وتحريمها أو اعتبارها ضربًا من الشرك أو الإلحاد كلعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعلوه من أفضل القربات (2) . ولطم الخدود وشق الجيوب، وتعذيب النفس، وضربها بالسكاكين والسيوف باسم عزاء الحسين وهو عندهم من عظيم الطاعات (3) .
والحج إلى الأضرحة والطواف بها ودعائها والاستغاثة بها من أجل العبادات عندهم (4) . واستحداثهم لعبادات ما نزل بها من عند الله نص، وترتيب عظيم الثواب عليها (5) .
__________
(1) الاعتقادات: ص94، وانظر: أوائل المقالات ص57، الاعتقادات للمجلسي ص100
(2) انظر: بحار الأنوار: 27/218، وراجع ص730 من هذه الرسالة
(3) انظر: عقائد الإمامية للزنجاني: 1/289 وما بعدها، مبحث (المواكب الحسينية) ، وانظر: الآيات البينات/ لمحمد حسين آل كاشف الغطاء ص4 وما بعدها، فصل (المواكب الحسينية) ، ودائرة المعارف (الشيعية) : 21/706
(4) انظر: فصل عقيدتهم في توحيد الألوهية
(5) انظر - مثلاً -: بحار الأنوار، باب أعمال يوم الغدير وليلته وأدعيتهما: 98/298-323، وباب عمل يوم النيروز وما يتعلق بذلك: 98/419 وغيرها، وانظر: وسائل الشيعة، باب استحباب صوم يوم النيروز والغسل فيه، ولبس أنظف الثياب والطيب: 7/346، وباب استحباب صوم يوم التاسع والعشرين من ذي القعدة، وقال بأنه كفارة سبعين سنة: 7/333، وأبواب صلاة =(2/578)
وجاءت أخبارهم تقول بأن الأئمة يملكون الضمان لشيعتهم بدخول الجنة، وقد شهدوا بذلك لبعض أتباعهم على وجه التعيين، فهم يعدون بالثواب ويحققونه!!.
ومن نصوصهم في هذا ما جاء في رجال الكشي: ".. عن زياد القندي عن علي بن يقطين، أن أبا الحسن قد ضمن له الجنة" (1) ، وفي رواية أخرى "عن عبد الرحمن الحجاج، قال: قلت لأبي الحسن رضي الله عنه: إن علي بن يقطين أرسلني إليك برسالة أسألك الدعاء له، فقال: في أمر الآخرة (2) .؟ قلت: نعم، قال: فوضع يده على صدره ثم قال: ضمنت لعلي بن يقطين ألا تمسه النار" (3) .
فانظر إلى هذا "التألي" على الله، وكأن لديهم خزائن رحمة الله، وبيدهم مقاليد كل شيء، فهم يضمنون ولا يستثنون، ويوزعون صكوك الغفران والحرمان، فهل لهم مع الله تدبير؟ أو هم رسل يوحى إليهم، أو اطلعوا على الغيب، أو اتخذوا عند الرحمن عهدًا؟! إن مثل هذه المزاعم تبين أن واضعي هذه الأساطير هم فئة من الزنادقة الذين لا يؤمنون بقرآن ولا سنة، وهدفهم إفساد هذا الدين، فلم يجدوا مكانًا لتحقيق ذلك إلا في محيط التشيع.
وعلي بن يقطين الذي ضمن له هؤلاء الزنادقة "جنتهم" قد يكون شريكًا لهم في المذهب، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 169هـبأنه قتل على الزندقة (4) .
وأخبار ضمان الأئمة لأتباعهم الجنة مستفيضة أخبارها في كتب الاثني
__________
= جعفر: 5/194، 197، وصلاة فاطمة: 5/243، وصلاة يوم المباهلة، وتعدل مائة ألف حجة - على حد زعمهم -: 5/287
(1) رجال الكشي: ص430
(2) لاحظ أن الإمام المزعوم يستفهم عن المقصود بالدعاء وهو الذي يعلم المصير ويضمنه، وهذا من كذب المغفلين، أو أن الله سبحانه أراد لأمرهم أن يفتضح بهذا الاختلاف والتناقض الشائع في الكثير من أخبارهم
(3) رجال الكشي: ص431، وأورد الكشي عدة روايات مشابهة لما ذكر: ص431-432
(4) تاريخ الطبري: 8/190(2/579)
عشرية (1) .
المسألة الخامسة: قولهم في الوعيد
قال المفيد: "اتفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة" (2) ، وأنهم بارتكاب الكبيرة لا يخرجون عن الإسلام، وإن كانوا يفسقون بما فعلوه من الكبائر والآثام (3) .
وهذا القول في ظاهره موافق لمذهب أهل السنة، لكنهم خرجوا عن تحقيق هذا المذهب من طريق آخر، حيث توسعوا في مفهوم الكفر والمكفرات، ولذلك "اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار" (4) .
واتفقت على القول بكفر من حارب أمير المؤمنين عليًا وأنهم "كفار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين وأنهم بذلك في النار مخلدون" (5) .
وهكذا حكمهم في كل من خالفهم، ولذلك قال ابن بابويه: "واعتقادنا فيمن خالفنا في شيء واحد من أمور الدين كاعتقادنا فيمن خالفنا في جميع أمور الدين" (6) .
__________
(1) انظر مثل ذلك في: أصول الكافي: 1/474، 475، رجال الكشي: ص447-448، 484، ورجال الحلي: ص98، 185، وكل هذه الصفحات المشار إليها تحمل ضمان الأئمة لبعض أتباعهم الجنة، وهذا "الضمان" يعدونه توثيقًا للرجل، ولذلك تكثر أخباره في كتب الرجال عندهم، كما أن الشهادة بالنار يعتبرونها من علامات القدح، ولذلك يتداولون أخبارها في كتب رجالهم أيضًا
(2) أوائل المقالات: ص14
(3) أوائل المقالات: ص15
(4) أوائل المقالات: ص16
(5) أوائل المقالات: ص10
(6) الاعتقادات: ص116، وانظر: الاعتقادات للمجلسي: ص100(2/580)
فهم من هذا الباب وعيدية، ولهذا قال شيخ الإسلام بأن متأخري الشيعة وعيدية في باب الأسماء والأحكام (1) .
ويذكر الأشعري بأن طائفة من الروافض "يثبتون الوعيد على مخالفيهم ويقولون: إنهم يعذبون، ولا يقولون بإثبات الوعيد في من قال بقولهم، ويزعمون أن الله سبحانه يدخلهم الجنة، وإن أدخلهم النار أخرجهم منها، ورووا في أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله فيهم فصفح عنهم، وما كان بين الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا عنه، وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم إليهم حتى يصفحوا عنهم" (2) .
وهذا المعنى الذي يتحدث عنه الأشعري قد تبنى المجلسي إشاعته في باب عقده بعنوان: "باب الصفح عن الشيعة" وذكر فيه سبعًا وتسعين رواية (3) .
وبعدما ذكر هذه الروايات كلها كأنه استقلها فقال: قد مرت أخبار كثيرة من هذا الباب في أبواب المعاد من الحوض والشفاعة وأحوال المؤمنين والمجرمين في القيامة وغيرها، وأبواب فضائل الأئمة (4) .
وقد صدر الباب المذكور بحديث يحكي نفس المذهب الذي أشار إليه الأشعري، يقول حديثهم: "إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا، فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عز وجل حكمنا فيها فأجابنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحق من عفا وصفح" (5) .
فهم وعيدية بالنسبة لمن خالفهم، كما أنهم مرجئة فيمن دان بقولهم.
__________
(1) الفتاوى: 6/55
(2) مقالات الإسلاميين: 1/126
(3) انظر: بحار الأنوار: 68/98-149
(4) بحار الأنوار: 68/149
(5) بحار الأنوار: 68/99، عيون أخبار الرضا: 2/68(2/581)
المبحث الثاني: قولهم في أركان الإيمان
أركان الإيمان تشمل: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر، كما في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... } (1) .
وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) .
وقد سبق الحديث مفصلاً عن انحراف الشيعة في باب الإيمان بالله، في ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته.
وهنا سيكون الحديث عن قولهم في بقية أركان الإيمان، حيث يبدو أن مسألة الإمامة كان لها أثرها على ذلك، فهم مع إثبات أركان الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر واليوم الآخر، يبدو أثر الإمامة واضحًا في بيانهم لهذه الأركان، وحديثهم عنها، كما سيتبين في الصفحات التالية:
الإيمان بالملائكة:
وقد نال هذا الركن من أركان الإيمان نصيبه، فالملائكة خلقوا من نور الأئمة وهم خدم للأئمة، ومنهم طوائف قد كلفوا - بزعمهم - للعكوف على قبر الحسين.. إلخ.
__________
(1) البقرة، آية: 177
(2) القمر، آية: 49(2/582)
تقول أخبارهم: "خلق الله من نور وجه علي بن أبي طالب سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة" (1) .
وأحيانًا يقولون: "خلق الله الملائكة من نور علي" (2) .
وقد زعموا أن من ملائكة الرحمن من لا وظيفة لهم إلا البكاء على قبر الحسين، والتردد لزيارته، قالوا: "وكَّل الله بقبر الحسين أربعة آلاف ملك شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة.." (3) .
وزيارة قبر الحسين هي أمنية أهل السماء، قالوا: "وليس شيء في السماوات إلا وهم يسألون الله أن يؤذن لهم في زيارة الحسين ففوج ينزل وفوج يعرج" (4) .
وقالوا: "إن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا" (5) .
وجاء في آخر حديث طويل لهم "إن جبرائيل دعا أن يكون خادمًا للأئمة، قالوا: فجبريل خادمنا" (6) .
وقد قال شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو يرد على ابن المطهر نقله لمثل هذا اللقب للملائكة قال: "فتسمية جبريل رسول الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم خادمًا عبارة من لا يعرف قدر الملائكة وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء.." (7) .
وكيف يطلق هذا اللقب "الوضيع" فيمن وصفه الله بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ
__________
(1) كنز جامع الفوايد: ص334، بحار الأنوار: 23/320
(2) المعالم الزلفى: ص 249
(3) وسائل الشيعة: 10/318، فروع الكافي: 1/325، ثواب الأعمال: ص 49، كامل الزيارات: ص 189
(4) الطوسي/ التهذيب: 2/16، ثواب الأعمال: ص 54، وسائل الشيعة: 10/322
(5) بحار الأنوار: 26/335، ابن بابويه/ إكمال الدين: ص 147، عيون أخبار الرضا: 1/262، علل الشرائع: ص 13
(6) بحار الأنوار: 26/344-345، إرشاد القلوب: ص 214، كنز جامع الفوايد: ص 483
(7) منهاج السنة: 2/158(2/583)
رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} (1) . فالمراد بالرسول الكريم هنا جبريل، وذي العرش رب العزة سبحانه.
ولهم دعاوى في هذا الباب كثيرة، وكأنه لا وظيفة للملائكة إلا أمر أئمتهم الاثني عشر، أو كأنهم ملائكة الأئمة لا ملائكة الله!.
قال أبو عبد الله: "إن الملائكة لتنزل علينا في رحالنا وتتقلب في فرشنا، وتحضر موائدنا، وتأتينا من كل نبات في زمانه رطب ويابس، وتقلب علينا أجنحتها، وتقلب أجنحتها على صبياننا، وتمنع الدواب أن تصل إلينا، وتأتينا في وقت كل صلاة لتصليها معنا، وما من يوم يأتي علينا ولا ليل إلا وأخبار أهل الأرض عندنا، وما يحدث فيها، وما من ملك يموت في الأرض ويقوم غيره إلا وتأتينا بخبره وكيف كانت سيرته في الدنيا" (2) .
ويقولون بأن وسائد وقلائد أولادهم يأخذونها من أجنحة الملائكة، بل إن الملائكة تتولى رعاية أطفالهم، حتى قال أبو عبد الله: "هم ألطف بصبياننا منا بهم" (3) .
والملائكة في أخبار الشيعة مكلفون بمسألة الولاية، ولكنهم يقولون أنه لم يستجب منهم إلا طائفة المقربين (4) . رغم أن العقوبة تحل بمن يخالف منهم في أمر الولاية - في زعمهم - حتى إن أحد الملائكة عوقب بكسر جناحه لرفضه ولاية أمير المؤمنين ولم يبرأ إلا حينما تمسح وتمرغ بمهد الحسين (5) .
ولم تشرف الملائكة - بزعمهم - إلا بقبولها ولاية علي (6) .
__________
(1) التكوير، آية: 19/20
(2) بحار الأنوار: 26/356، بصائر الدرجات: ص 27
(3) بحار الأنوار: 26/354، بصائر الدرجات: ص26
(4) بحار الأنوار: 26/340، بصائر الدرجات: ص 20
(5) بحار الأنوار: 26/341، بصائر الدرجات: ص 20
(6) انظر: تفسير الحسن العسكري ص153، الاحتجاج للطبرسي: ص31، بحار الأنوار: 26/338(2/584)
وحياة الملائكة موقوفة على الأئمة والصلاة عليهم، لأنه "ليس لهم طعام ولا شراب إلا الصلاة على علي بن أبي طالب ومحبيه، والاستغفار لشيعته المذنبين" (1) ، وكانت الملائكة لا تعرف تسبيحًا ولا تقديسًا من قبل تسبيحنا (يعني تسبيح الأئمة) وتسبيح شيعتنا (2) .
ولذلك فإن الملائكة تراعي أمر الشيعة على وجه الخصوص، فإذا خلا الشيعي بصاحبه اعتزلهم الحفظة فلم يكتبوا عليهم شيئًا، يقولون: إذا التقى الشيعي مع الشيعي يتساءلان، قالت الحفظة: اعتزلوا بنا، فإن لهم سرًا وقد ستره الله عليهما (3) ، مع أن الله سبحانه يقول: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (4) . وقال سبحانه: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (5) .
هذا ومزاعمهم في هذا الباب متنوعة، وفيها من التطاول على مقام الملائكة المقربين، والكذب عليهم، مع مبالغات غريبة، ومجازفات طاغية، أقرب ما تكون إلى إنكار الملائكة؛ لأن إنكار وظائفهم وخصائصهم وما شرفهم الله به، ووضع دين الولاية هو شرعتهم، والشرك عند قبر الحسين هو عمل طائفة منهم قد يهون عنده إنكارهم أصلاً، ولقد اقتربوا من الإنكار حينما أولوا أسماء وألقاب الملائكة في القرآن بالأئمة، أو جعلوا وظائف الملائكة للأئمة.
وبهذا عقد المجلسي بابًا بعنوان "باب أنهم عليهم السلام الصافون والمسبحون وصاحب المقام المعلوم وحملة عرش الرحمن وأنهم السفرة الكرام البررة" (6) .
__________
(1) بحار الأنوار: 26/349
(2) جامع الأخبار لابن بابويه: ص9، بحار الأنوار: 26/344
(3) وسائل الشيعة: 8/563-564
(4) سورة ق، آية: 17-18
(5) الزخرف، آية: 80
(6) بحار الأنوار: 24/87(2/585)
هذا ما يقولونه في الملائكة، والله سبحانه يقول: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (1) . {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} (2) .
الإيمان بالكتب:
والشيعة قد تأثر هذا الجانب عندها بمقتضى عقائدها التي انفردت بها عن سائر المسلمين في مسألة الإمامة وغيرها، فآمنت بكتب ما أنزل بها من سلطان، حيث ادعت أن الله سبحانه أنزل على أئمتها كتبًا من السماء، كما أنزل كتبه على أنبيائه.
كما زعمت بأن لدى الأئمة الاثني عشر الكتب السماوية التي نزلت على جميع الأنبياء فهم يقرأونها ويحتكمون إليها.
وإليك بيان هاتين القضيتين، من خلال النقل الأمين من كتب الشيعة المعتمدة:
المسألة الأولى: دعواهم تنزل كتب إلهية على الأئمة (3) :
تضمنت كتب الشيعة المعتمدة عندها دعاوى عريضة، ومزاعم خطيرة ليس لها وجود في عالم الواقع، ولا يرى لها عين ولا أثر، وليس لها في كتب الأمة شاهد ولا خبر.
تلك المزاعم والدعاوى تتضمن أن هناك كتبًا مقدسة نزلت من السماء بوحي من رب العزة جل علاه إلى "الأئمة". وأحيانًا تورد كتب الشيعة نصوصًا
__________
(1) الأنبياء، آية: 26-27
(2) البقرة، آية: 98
(3) هناك كتب أخرى يزعمون أنها مودعة عند الأئمة، سبق ذكرها في فصل عقيدتهم في السنة، وهي كهذه الكتب في القدسية، إلا أنها لا توصف بأوصاف هذه الكتب من القول بنزولها من عند الله ونحوه(2/586)
وأخبارًا يزعمون أنها مأخوذة من تلك الكتب، وعلى هذه الروايات المدعى أخذها من تلك الكتب تبنى عقائد ومبادئ.
وكأن الذين وضعوا أصول التشيع لم يكتفوا لتأييد أصولهم بكل ما مضى من دعاوى حول كتاب الله، وخافوا ألا تكون وافية بالغرض فيفرّ أتباعهم من حولهم، وتضيع مصادر الثروة عليهم فيخسروا المال والجاه والتقديس الذي يجنونه من أولئك الأتباع باسم الخمس والنيابة عن الإمام.
فافتعلوا هذه الدعوى ليضمنوا بها - مع أخواتها - تحقيق تلك الأهداف، وليسددوا بها سهمًا آخر ضد الأمة ودينها.
وهذه الدعوى لا تكاد تختلف عن دعوى أكثر المتنبئين بتنزل كتب، أو وحي عليهم.
ولعل جذور هذه المقالة بدأت في عصر علي - رضي الله عنه - كما أشارت إلى ذلك إحدى روايات الإمام البخاري - رضي الله عنه - عن أبي جحيفة قال: "قلت لعليّ: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر" (1) .
وفي رواية أخرى للبخاري جاء السؤال: "هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله" (2) . (وهي تفسر المراد بالكتاب) .
قال ابن حجر: "وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك، لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت - لاسيما عليًا - أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها، وقد سأل عليًا عن هذه المسألة أيضًا قيس
__________
(1) صحيح البخاري (مع الفتح) : 1/204. وسبق تخريجه: ص (79)
(2) صحيح البخاري (مع الفتح) : 6/167(2/587)
ابن عباد، والأشتر النخعي، وحديثهما في مسند النسائي" (1) .
فإذن نواة هذه المقالة ظهرت في عصر متقدم.. أما من تولى كبرها فإن في رسالة "الإرجاء" للحسن بن محمد بن الحنفية ما يشير إلى أن السبئيين - أتباع عبد الله بن سبأ - قد بدأوا في إشاعة مثل هذه المقالات حيث قالا: "هدينا لوحي ضل عنه الناس، وزعموا أن نبي الله كتم تسعة أعشار القرآن" (2) .
وفي كتاب أحوال الرجال أن عبد الله بن سبأ زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي (3) .
إذن كانت دعوى السبئيين تشير إلى علم مخزون عند علي، فهذه أصل الدعوى، وقد تطورت واتخذت صورًا وأشكالاً متعددة كلها ترجع إلى دعوى أن عند آل البيت ما ليس عند الناس، والتي نفاها أمير المؤمنين علي نفيًا قاطعًا، وما تفرع من الباطل فهو باطل، فالفرع له حكم أصله.
وإليك بكل أمانة بعض ما وجدناه في كتبهم المعتبرة عندهم من هذه الدعاوى والمزاعم:
أ- "مصحف فاطمة":
تدعي كتب الشيعة نزول مصحف على فاطمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول إحدى روايات الكافي عن مصحف فاطمة: ".. إن الله تعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكًا يسلي غمها ويحدثها فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: إذا أحسست بذلك، وسمعت الصوت
__________
(1) فتح الباري: 1/204
(2) رسالة الإرجاء (ضمن كتاب الإيمان) محمد بن يحيى العدني: ص249-250 (مخطوط)
(3) الجوزجاني/ أحوال الرجال: ص38(2/588)
قولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفًا.. أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون" (1) .
تفيد هذه الرواية بأن الغرض من هذا المصحف أمر يخص فاطمة وحدها وهو تسليتها وتعزيتها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، وأن موضوعه "علم ما يكون"، وما أدري كيف يكون تعزيتها بإخبارها بما يكون وفيه - على ما تنقله الشيعة - قتل أبنائها وأحفادها، وملاحقة المحن لأهل البيت؟!
ثم كيف تعطى فاطمة "علم ما يكون" "علم الغيب" ورسول الهدى يقول كما أمره الله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} فهل هي أفضل من رسول الله؟
وتقول هذه الرواية بأن عليًا هو الذي كتب ما أملاه الملك رغم أن رواياتهم الأخرى تقول بأن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان منشغلاً بجمع القرآن (2) .
والكذب لا محالة له من التناقض والاختلاف.
ويقولون بأن مصحفهم هذا ثلاثة أضعاف القرآن.
جاء في الكافي "عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله ... ثم ذكر حديثًا طويلاً في ذكر العلم الذي أودعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند أئمة الشيعة - كما يزعمون - وفيه قول أبي عبد الله: "وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليها السّلام. قلت (القول للرّاوي) : وما مصحف فاطمة عليها السّلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات ما فيه من قرآنكم حرف واحد" (3) .
فهذه الأسطورة التي يرويها "ثقة الإسلام عندهم" بسند صحيح عندهم
__________
(1) أصول الكافي: 1/240، بحار الأنوار: 26/44، بصائر الدرجات: ص43
(2) انظر: ص (236) من هذا الكتاب
(3) أصول الكافي: 1/239(2/589)
كما يقرره شيوخهم (1) . تقول: "إن مصحفهم يفوق المصحف في حجمه، ويخالفه في مادته.." فهل معنى هذا أكتاب الله أقل من مصحف فاطمة، وأن مصحف فاطمة أكمل وأوفى من كتاب الله سبحانه الذي أنزله الله سبحانه {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) ، وجعله دستورًا ومنهاج حياة للأمة إلى أن تقوم الساعة؟! وهل الأمة محتاجة إلى كتاب آخر غير كتاب الله ليكمل به دينها؟! وإذا فقدته فهي لم تستكمل أسباب الهداية والخير، وهي اليوم قد فقدته، إذ لا وجود له باعتراف الجميع..
ثم كيف يكون كتاب تسلية وتعزية كما تقول روايتهم السابقة أكمل من كتاب الله سبحانه؟ أليس هذا الزعم غاية في التحلل من العقل والجرأة على الكذب؟
هذا وتختلف أساطيرهم في وصف مصحف فاطمة كطبيعة الأكاذيب، فإذا كانت الرواية المذكورة تذكر بأن هذا المصحف من إملاء أحد الملائكة، والمصحف كان نزوله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.. فإن رواية أخرى عندهم تقول: "وخلفت فاطمة عليها السّلام ما هو قرآن، ولكنّه كلام من كلام الله أنزله عليها إملاء رسول الله وخطّ عليّ" (3) .
فهذا يعني أن المصحف كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمملي هو رسول الله، والكلام كلام الله.
وهذه الرواية يكاد آخرها يناقض أولها، إذ كيف ينزل على فاطمة ثم يكون من إملاء رسول الله وخط عليّ؟!
وتقول رواية أخرى: "مصحف فاطمة عليها السلام ما فيه شيء من كتاب الله وإنما هو شيء ألقي عليها" (4) . فهذا يشير إلى أن المصحف ألقي عليها
__________
(1) انظر: الشّافي شرح أصول الكافي: 3/197
(2) النحل، آية: 89
(3) بحار الأنوار: 26/42، عن بصائر الدّرجات: ص42
(4) بحار الأنوار: 26/48، بصائر الدرجات: ص43(2/590)
من السماء ولم يكن المملي رسول الله ولا خط علي، ولم يحضر ملك يحدثها ويؤنسها ليكتب عليّ ما يقوله الملك - بدون علمه كما يبدو - ليجتمع من ذلك مصحف فاطمة، لم يحدث شيء من ذلك إنما هو شيء ألقي عليها ثم إنه بعد وفاة أبيها لا في حياته.
وكان الأئمة - كما تزعم كتب الشيعة - يتخذون من مصحف فاطمة وسيلة لمعرفة علم الغيب، واستطلاع ما يكون.
يقول أبو عبد الله - كما يزعمون -: "تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام ... " (1) . أي فأخذت ذلك منه.
وليس في هذه السنة التي حددتها هذه الأسطورة أحداث بارزة - كما يظهر من كتب التواريخ اللهم إلا قتل بعض الرؤوس الضالة كالجهم بن صفوان وغيره، وهذا ضد ما تزعمه الأسطورة من ظهورهم، وتقول أيضًا: قال أبو عبد الله: "إني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام قبيل فلم أجد لبني فلان فيها إلا كغبار النعل" (2) .
وهذه الأسطورة مغلفة بشيء من التقية، فلم يفصح عن اسم بني فلان، ولا المشار إليه بقوله فيها، ولم يوضح شيخهم المجلسي ذلك كعادته، وقد يشيرون بذلك إلى الخلافة، وببني فلان إلى أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فهم دائمًا حولها يدندنون كقولهم "أولاد الحسن يحملهم الحسد وطلب الدنيا في الإنكار" (3) .
والمقصود أن مصحف فاطمة أداة عندهم لاستطلاع ما يحدث في هذه الكون، ولو كان شيء من ذلك لتغير وجه التاريخ.. ولما حصل للأئمة ما حصل مما تصوره كتب الشيعة من المحن، ولما غاب منتظرهم واختفى خوفًا من القتل، ولما كان للتقية أدنى حاجة، إذ بمعرفة أسباب وقوع المكروه يتقون المكروه، وبمعرفة أسباب المرغوب والمحبوب يفوزون بالمحبوب.
فإن زعموا أنهم لا قدرة لهم على
__________
(1) أصول الكافي: 1/240
(2) بحار الأنوار:26/48، بصائر الدرجات: ص44
(3) أصول الكافي: 1/305-306(2/591)
تغيير شيء من ذلك فهم إذن كسائر الناس يجري فيها قدر الله، وعلمهم بما يحدث يزيدهم حزنًا لا يؤنسهم ويزيل وحشتهم - كما تزعم روايتهم - ما دام أنهم لا حيلة لهم في التغيير.
وإذا كانت هذه الروايات تجعل موضوع مصحف فاطمة هو "علم ما يكون".. فإن حديثًا آخر من أحاديثهم - يقول كما يروي ثقة الإسلام عندهم -: إن أبا عبد الله قال عن مصحف فاطمة: "ما أزعم أن فيه قرآنًا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش" (1) .
فهذا النص يجعل من مصحف فاطمة بالإضافة إلى علم ما يكون، علم الحدود والديات، ففيه حتى أرش الخدش، بل فيه التشريع كله فلا يحتاج فيه الأئمة معه إلى أحد، فهي يعني هذا أنهم لا يحتاجون إلى كتاب الله، وأنهم استغنوا عن شريعة القرآن بمصحف فاطمة فلهم دينهم ولأمة الإسلام دينها؟!
وهل التشريع الإسلامي العظيم لم يكمل بكتاب الله وسنة رسوله ليحتاج بعد ذلك إلى مصحف فاطمة، أو أن مصحف فاطمة يغني عن الجميع؟!
إن المغزى من هذه النصوص واضح، فإعطاء الأئمة علم ما يكون من إضفاء لصفة الألوهية عليهم بمنحهم ما هو من خصائص الإله "وهو علم الغيب"، وجعل مصحف فاطمة يحوي علم الحدود والديات هو اتهام "مبطن" بقصور التشريع الإسلامي.
ثم عندهم رواية أخرى تقول: إن علم التشريع موجود في الجامعة لا في مصحف فاطمة، يقولون: "إن عندنا لصحيفة يقال لها الجامعة ما من حلال ولا حرام إلا وهو فيها حتى أرش الخدش" (2) ، وكذا في صحيفة عندهم تسمى صحيفة الحدود فيها من الحدود "ثلث جلدة من تعدى ذلك كان عليه حدّ
__________
(1) أصول الكافي: 1/240
(2) بحار الأنوار: 26/23، عن بصائر الدرجات: ص390(2/592)
جلدة" (1) .
أما علم ما يكون فهو الآخر قالوا بأن وسيلته غير مصحف فاطمة؛ لأنه في الجفر، وخلق أعظم من جبرائيل وميكائيل (2) . إلخ حتى قاالوا: "ما ينقلب طائر في الهواء إلا وعندنا فيه علم" (3) .
ثم رجعوا وقالوا: إن العلم كله إنما يؤخذ من كتاب الله، كقوله روايتهم بأن أبا عبد الله قال: "إني أعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون". قال (الراوي) : ثم مكث هنيهة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: "علمت ذلك من كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول: فيه تبيان كل شيء" (4) .
وقد مضى ما نقله بعض شيوخهم المعاصرين من القول بإيمان الشيعة بسلامة كتاب الله، لأنه قوبل على مصحف فاطمة (5) . ولكن قال شيخهم الآخر الخنيزي: إن مصحف فاطمة غير القرآن وعلى ذلك تدل نصوصهم (6) .
أقوال وروايات يكذب بعضه الآخر، ولا يخجلون من ذلك لأن دينهم التقية.
وفي كتاب "دلائل الإمامة" وهو من كتبهم المعتمدة عندهم (7) . ترد رواية
__________
(1) بحار الأنوار: 26/19-20، عن بصائر الدرجات: ص38
(2) بحار الأنوار: 26/19، أمالي ابن الطوسي: ص260
(3) بحار الأنوار: 26/19، عيون أخبار الرضا: ص200
(4) مضى تخريجه من كتب الشيعة، والتعليق عليه ص (136)
(5) انظر: ص (267)
(6) الخنيزي/ الدعوة الإسلامية: 1/47
(7) قال عالمهم المجلسي عن الكتاب "دلائل الإمامة": من الكتب المعتبرة المشهورة، أخذ منه جملة من تأخر عنه كالسيد ابن طاووس وغيره.. ومؤلفه من ثقات رواتنا الإمامية (محمد بن جرير بن رستم الطبري) وليس هو ابن جرير صاحب التاريخ المخالف (المجلسي/ البحار 1/39-40) وقالت مقدمة الكتاب: "وهذا الكتاب لم يزل مصدرًا من مصادر الشيعة في الإمامة والحديث تركن إليه وتعتمد عليه في أجيالها المتعاقبة منذ تأليف إلى وقتنا الحاضر" (من مقدمة الكتاب: ص5)(2/593)
تصف هذا المصحف المزعوم بأن فيه "خبر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما السماوات من الملائكة وغير ذلك، وعدد كل من خلق الله مرسلاً وغير مرسل، وأسماءهم، وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب، وأسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين، وصفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى وقصصهم، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمة وصفتهم وما يملك كل واحد واحد ...
فيه أسماء جميع ما خلق الله وآجالهم، وصفة أهل الجنة وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وهؤلاء، وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت، وعلم الإنجيل كما أنزل، وعلم الزبور، وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد" (1) .
هذه المواضيع كلها في "ورقتين من أوله" (2) . يقول الراوي: "إن إمامهم قال: وما وصفت لك بعد ما في الورقة الثالثة ولا تكلمت بحرف منه" (3) .
وما ندري بأي حجم يكون هذا "الورق"؟! كما لا ندري لماذا لم يستفد أئمتهم من هذه العلوم في سبيل استرداد الإمامة التي حرموها - كما تزعم الشيعة -؟
ولماذا لا يخرج منتظرهم من سردابه، وكيف يخاف القتل - كما يعللون سر اختفائه - فيظل مختفيًا - وكل هذه العلوم عنده؟!
وتصف رواية "دلائل الإمامة" صفة نزول هذا المصحف على خلاف ما جاء في الرواية السالفة عن الكافي من أن عليًا كتب ما سمعه من الملك حتى أثبت بذلك مصحفًا، تقول رواية "الدلائل" إنه نزل جملة واحدة من السماء بواسطة ثلاثة من الملائكة وهم "جبرائيل وإسرافيل وميكائيل ... فهبطوا به وهي قائمة تصلي، فلما زالوا قيامًا حتى قعدت، ولما فرغت من صلاتها سلموا عليها وقالوا:
__________
(1) محمد بن جرير بن رستم الطبري/ دلائل النبوة: ص27-28
(2) محمد بن جرير بن رستم الطبري/ دلائل النبوة: ص27-28
(3) محمد بن جرير بن رستم الطبري/ دلائل النبوة: ص27-28(2/594)
السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها" (1) .
فقالت: لله السلام ومنه السلام وإليه السلام وعليكم يا رسل الله السلام، ثم عرجوا إلى السماء فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرؤه حتى أتت على آخره "ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة.
قلت: جعلت فداك فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها؟
قال: دفعته إلى أمير المؤمنين، فلما مضى صار إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم عند أهله حتى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر ... " (2) .
هذا بعض ما جاء في كتبهم عن مصحف فاطمة المزعوم، وهو يبين أن لفاطمة مصحفًا نزل عليها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه علم الغيب وعلم الحدود والديات وغيرها مما سلف ذكره، وأنه اليوم عند إمامهم الغائب! وهو وحي كالقرآن، إلا أنه مثله ثلاث مرات ما فيه من قرآننا حرف واحد، فهل نزل هذا المصحف ليكمل القرآن؟!
هذا ومثل هذا المصحف المزعوم "مصاحف كثيرة" تدعي الشيعة فيها ما يشبه دعواها حول مصحف فاطمة، وهذا موضوع واسع يحتاج إلى بحث مستقل، ولذلك سنذكر فيما يلي بعض أسماء هذه المصاحف وشيئًا مما يعرّف بها وندع التفصيل والتحليل.
ب- كتاب أنزل على الرسول قبل أن يأتيه الموت - كما يزعمون -:
"عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه كتابًا قبل أن يأتيه الموت فقال: يا محمد، هذا الكتاب وصيتك إلى النجيب
__________
(1) محمد بن جرير بن رستم الطبري/ دلائل النبوة: ص27-28
(2) محمد بن جرير بن رستم الطبري/ دلائل النبوة: ص27-28(2/595)
من أهل بيتك، فقال: ومن النجيب من أهلي يا جبرائيل؟ فقال: علي بن أبي طالب عليه السلام، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عليّ عليه السلام وأمره أن يفك خاتمًا منها ويعمل بما فيه، ففك عليه السلام خاتمًا وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى ابنه الحسن عليه السلام ففك خاتمًا وعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين عليه السلام ففك خاتمًا فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك وأشر نفسك لله عز وجل ففعل.
ثم دفعه إلى علي بن الحسين عليه السلام ففك خاتمًا فوجد فيه: اصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى محمد بن علي عليه السلام ففك خاتمًا فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إليّ ففككت خاتمًا فوجدت فيه: حدّث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك، وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدًا إلا الله وأنت في حرز وأمان ففعلت، ثم ادفعه إلى موسى بن جعفر وكذلك يدفعه موسى إلى الذي بعده، ثم كذلك أبدًا إلى قيام المهدي عليه السلام" (1) .
إن هذا الكلام ممكن أن يؤخذ منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهل من هو النجيب من أهل بيته إلى وقت وفاته فهو يسأل من هو النجيب، وهذا يعني أنه لم يعلن للناس، وبهذا تسقط أخبار الشيعة كلها، أو يقال إن هناك مجموعة من النجباء من أهل البيت والسؤال للتعرف على المقصود منهم، وهذا أيضًا يلغي دعاوى الشيعة في أفضلية عليّ.
ثم إن الكتاب لم يفصح عما أمر به علي والحسن، وبين ما أمر به الحسين وهو خروجه إلى الموت، وهذا يخالف الواقع تاريخيًا من أن الحسين لم يكن في ذهابه يتوقع ما حصل له، وأن الذي تولى كبر ما حصل للحسين رضي الله - بعد قتله - هم الذين غرروا به وخدعوه، فلما خرج إليهم خذلوه وتخلوا عن نصرته، وهم يزعمون التشيع له. وقد كتبوا إليه كتبًا عديدة في توجهه إلى طرفهم،
__________
(1) بحار الأنوار: 36/192-193، وانظر: ابن بابويه/ إكمال الدين/ ص376، أمالي الصدوق: ص240، أمالي الشيخ: ص282، أصول الكافي: 1/280(2/596)
فلما قرب من ديارهم تقاعسوا عن نصرته، بل رجع أكثرهم مع الأعداء خوفًا وطمعًا وصاروا سببًا لشهادته وشهادة كثير ممن معه (1) . ولذلك حكمت كتب الشيعة بردة من بعد الحسين إلا ثلاثة (2) ، فهل هذه الرواية محاولة للدفاع عن هذه الفئة؟!
ثم كيف يفرقون بين الأئمة في وجوب الدعوة ونشر العلم، وأن فيهم من يسعه الصمت ولزوم البيت ومنهم من يلزمه نشر العلم وإظهار الدعوة؟!
ثم هذه الرواية تعترف بأن الشيعة لم يكن لديهم من يحدثها وينشر العلم بينها حتى جاء أبو جعفر الصادق، وهذا ما تؤكده روايتهم التي تقول: "كانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى كان أبو جعفر ففتح لهم، وبين لهم مناسك حهم وحلالهم وحرامهم.." (3) .
وهذا يعني الحكم بأن أوائل الشيعة من قبل أبي جعفر كانوا يعبدون الله على جهل.
ثم هل كان علي بن الحسين ممن لزم بيته وآثر الصمت، أو هو قد خان الوصية وخالف الكتاب المختوم بالذهب فنشر العلم، ودعا إلى سبيل الله على بصيرة؟!!
لقد كان علي بن الحسين من كبار التابعين وساداتهم علمًا ودينًا، وهو الذي قال في مثل هؤلاء المفترين: "أحبونا حب الإسلام، فوالله مازال بنا ما تقولون حتى بغضتمونا إلى الناس" (4) .
قال الزهري: "ما رأيت قرشيًا أفضل منه وما رأيت أفقه منه (5) . وكان ثقة مأمونًا كثير الحديث.." (6) .
__________
(1) مختصر التحفة: ص 62
(2) أصول الكافي: 2/380
(3) أصول الكافي: 2/20
(4) طبقات ابن سعد: 5/214
(5) الخزرجي/ الخلاصة: ص273
(6) منهاج السنة: 2/153(2/597)
وقد اعترف شيخهم المفيد بنشره للعلم، قال: "وقد روى عنه فقهاء العامة - يعني أهل السنة - من العلوم ما لا تحصى كثرة، وحفظ عنه من المواعظ والأدعية والحلال والحرام، والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب" (1) .
وهكذا تتناقض أخبارهم وتتعارض أقوالهم وهو دليل الكذب والافتراء.
ج- "لوح فاطمة":
وهذا - كما يؤخذ من رواياتهم - غي مصحف فاطمة، لأن مصحف فاطمة نزل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك وكتبه عليّ من فم الملك وسلمه لفاطمة، أو نزل جملة واحدة ثلاثة من الملائكة ... إلى آخر ما بينا من أوصاف القوم لهذا الكتاب.
أما لوح فاطمة فله صفات أخرى منها: أنه نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وأهداه لفاطمة، إلى غير ذلك من أوصافه، وقد نقلوا عن لوح فاطمة بعض النصوص التي تؤيد عقائدهم. ويبدو أن هذا الخبر عن «لوح فاطمة» والنص المنقول منه على درجة عالية من السرية، ففي نهاية النص - كما سيأتي - أمر بكتمانه عن غير أهله فهو سر من أسرارهم، ولا ندري كيف تسرب ولماذا تسرب ومتى؟
وإليك النص:
روى صاحب الوافي عن الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة متى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ قال له جابر: في أي الأحوال أحببت، فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر، أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح مكتوب، فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) المفيد/ الإرشاد: ص292-293، عباس القمي/ الأنوار البهية: ص112(2/598)
وآله فهنيتها بولادة الحسين فرأيت في يديها لوحًا أخضر ظننت أنه من زمرد ورأيت فيه كتابًا أبيض شبه لون الشمس فقلت لها:
أبي وأمي أنت يا بنت رسول الله ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك. قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة عليها السلام فقرأته واستنسخته، فقال أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي؟ قال: نعم، فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج صحيفة من رق فقال: يا جابر، انظر في كتابك لأقرأ عليه، فنظر جابر في نسخته وقرأ أبي، فما خالف حرف حرفًا، فقال جابر: أشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوبًا:
"بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي.." (1) .
د- دعواهم نزول اثنتي عشرة صحيفة من السماء تتضمن صفات الأئمة:
في حديث طويل من أحاديثهم - يرويه صدوقهم ابن بابويه القمي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - كما يفترون -: "إن الله تبارك وتعالى أنزل عليّ اثني عشر خاتمًا، واثني عشر صحيفة، اسم كل إمام على خاتمه وصفته في صحيفته" (2) .
ومزاعمهم في هذا الباب كثيرة (3) .
__________
(1) انظر نصه في كتب الشيعة: الكليني، الكافي: 1/527، 528، الفيض الكاشاني/ الوافي، أبواب العهود بالحجج والنصوص عليهم صلوات الله وسلامه، المجلد الأول: 2/72، وانظر: الطبرسي/ الاحتجاج: 1/84-87، وابن بابويه القمي/ إكمال الدين: ص301-304، الطبرسي (صاحب مجمع البيان) / أعلام الورى: ص152، الكراجكي/ الاستنصار: ص18
(2) ابن بابويه القمي/ إكمال الدين ص263
(3) وهناك كتب أخرى غير ما ذكر: كصحيفة فاطمة.. وهي كما يزعمون "صحيفة بيضاء من درة.. فيها أسماء الأئمة" ومحظور لمسها على سائر الناس "قد نهي أن يمسها إلا يمسها إلا نبي أو وصي =(2/599)
وهكذا يحاول القوم أن يسلكوا كل وسيلة لتثبيت معتقدهم في الأئمة.. بعد أن زلزل دعواهم خلو كتاب الإسلام العظيم "مما يثبتها" فراحوا يزعمون تنزل كتب إلهية مع القرآن فكانت هذه الدعوى فضيحة تضاف لقائمة فضائحهم وأكاذيبهم.
__________
= نبي أو أهل بيت نبي" ثم ذكروا بعض نصوصها ومنها "أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفى أمه آمنة، أبو الحسن علي بن أبي طالب المرتضى أمه فاطمة بنت أسد ... " ثم ذكر بقية الاثني عشر بذكر اسمه واسم أمه (انظر: بحار الأنوار: 36/193-194، إكمال الدين: ص178، عيون أخبار الرضا: ص24، 25)(2/600)
صورة لأحد الكتب المزعومة ص 602.(2/602)
نقد هذه المقالة:
قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ..} (1) .
وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (2) .
وقال سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (3) .
فالذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم صحيفة مكتوبة من السماء هم الكفار وأهل الكتاب.. فلم يجابوا..
فأراد الكليني وأمثاله ممن أشاع هذه الفرية أن يصوروا خير أمة أخرجت للناس بأنهم أشد كفرًا من اليهود والذين كفروا؛ لأنهم أنزل عليهم كتب من السماء فلم يؤمنوا أي لم يعرفوا الأئمة الاثني عشر.
والآية صريحة في بطلان ما يدعي هؤلاء الروافض، إذ لو كان شيء من دعاوي الشيعة واقعًا لأشارت إليه الآيات، ولم تنكر على هؤلاء دعواهم، أو لقال
__________
(1) النساء، آية: 153
(2) الإسراء، آية: 90-93
(3) الأنعام، آية: 7(2/603)
النبي صلى الله عليه وسلم لهم: دونكم ما نزل على فاطمة، أو ما نزل عليّ، أو ما سينزل على الأئمة، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث فما أجرأ هؤلاء على الكذب المكشوف.
ولماذا تنقل الأمة القرآن والسنة.. وتترك هذه الكتب المزعومة لينفرد بنقلها هؤلاء؟ ولا يعرف أحد من الأمة ولا علماء التاريخ، ولا أهل الأديان شيئًا عن أمر هذه "الكتب"؟ وكيف تختلف الشيعة في أمر تعيين الإمام إلى عشرات الفرق وعندها هذه الصحف المنزلة؟
وقد وقفت على نص عندهم جاء في الكافي، يناقض هذه الدعوى وهو عن أبي عبد الله - الذي يفترون عليه كل تلك الافتراءات - قال: "إن الله عز ذكره ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبدًا، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبدًا، وأنزل فيه تبيان كل شيء وخلقكم وخلق السماوات والأرض ونبأ ما قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما بعدكم وأمر الجنة والنار وما أنتم صائرون إليه" (1) . وهذا نص لا يحتاج إلى تعليق فهو يكذب كل هذه الدعاوى وينفي وقوعها نفيًا قاطعًا.
وفي حديث آخر عندهم قال الرضا: "شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تنسخ إلى يوم القيامة، فمن ادعى بعده نبوة، أو أتى بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه" (2) .
ونحن هنا نخاطبهم بعقليتهم وإلا فإن هذه المقالة يكفي في معرفة فسادها مجرد عرضها، وإن إجماع الأمة قائم على أنه لا كتاب إلا كتاب الله سبحانه، وكل من ادعى أنه عنده كتاب إلهي فهو كاذب زنديق.
وما الحاجة لنزول هذه الكتب والله سبحانه يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3) ، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي
__________
(1) صحيح الكافي: 1/31، أو أصول الكافي: 1/269، وانظر: مفتاح الكتب الأربعة: 8/64-65
(2) بحار الأنوار: 79/221، و11/34-35، وعزاه إلى علل الشرائع لابن بابويه
(3) النحل، آية: 89(2/604)
هِيَ أَقْوَمُ} (1) .
وأين هذه المصاحف والصحف اليوم، وهل لها من أثر، وما فائدة خزنها عند المنتظر.. ولكن يبدو أن منهدسي بناء التشيع وضعوا أمثال هذه الروايات خوفًا من أن يفقد المذهب أتباعه لعدم وجود ما يشهد له من كتاب الله. كما كان لهم هدف أبعد من ذلك وهو الكيد للأمة ودينها، والأخذ بالشيعة بعيدًا عن المسلمين لتستقل بكتبها عن كتاب الله.
ومن الغريب أن من شيوخ الشيعة القدامى والمعاصرين من أنكر ما ينسب لمذهب الشيعة الاثني عشرية من القول بالتحريف، وعدّ رواياتهم وإن كثرت من قبيل الأساطير التي تسربت للمذهب (2) فهل لأن الأولى عرفها المسلمون عن الشيعة، والأخرى كانت غير معروفة؟!
وهذه الدعوة تتضمن أمورًا في غاية الخطورة منها: أن الوحي لم ينقطع والنبوة لم تختم، وأن الأئمة بمنزلة الأنبياء أو أعظم، فهم تنزل عليهم الكتب المتعددة من السماء، وهذا ما لم يتحقق للرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها تضليل الصحابة والأمة جميعًا بأنها ردت الكتب المنزلة.
وهذه الدعوى إحدى المعالم الواضحة على أن هذا المذهب قد ابتلي بشرذمة من الكذابين الذين لا يتورعون عن أي كذب، فهم كذبوا على رسول الله بوضع الأحاديث، وكذبوا على الله سبحانه بوضع هذه "الكتب"!!
وإنما يفتري الكذب على الله الذين لا يؤمنون.
__________
(1) الإسراء: آية: 9
(2) ولكن لم يقفوا نفس الموقف - في حدود اطلاعي - من هذه الفرية التي تولى كبر إشاعتها الكليني وأضرابه، فقد أغمض عنها شيوخ الشيعة، وهي قد لا تقل خطورة عن "الدعوى" الأولى بل إن ابن بابويه، والطبرسي وهما ممن أنكر "أسطورة التحريف" قد شاركا في إشاعة هذه "الضلالة"(2/605)
المسألة الثانية: دعواهم بأن جميع الكتب السماوية عند الأئمة
تدعي الشيعة بأن عند الأئمة الاثني عشر كل كتاب نزل من السماء وأنهم يقرؤونها على اختلاف لغاتها، وعقد صاحب الكافي بابًا لهذا الموضوع بعنوان: "باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها" (1) . وضمنه طائفة من رواياتهم. ومثله فعل صاحب البحر فذكر بابًا بعنوان: "باب في أنّ عندهم صلوات الله عليهم كتب الأنبياء عليهم السّلام يقرؤونها على اختلاف لغاتها" (2) . وذكر في هذا الباب (27) حديثًا من أحاديثهم.
تقول هذه الروايات عن الأئمة: "كل كتاب نزل فهو عند أهل العلم ونحن هم" (3) ، "إن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى" (4) ، "إن عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور وبيان ما في الألواح" (5) . وتأتي رواية أخرى تفسر المراد بالألواح وأنها ألواح موسى، وتصف هذه الألواح بأنها زبرجدة من الجنة وفيها تبيان كل شيء هو كائن إلى أن تقوم الساعة، وأنها مكتوبة بالعبرانية وأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفعها إلي أمير المؤمنين علي وقال: "دونك هذه ففيها علم الأولين والآخرين وهي ألواح موسى وقد أمرني ربي أن أدفعها إليك. قال يا رسول الله لست أحسن قراءتها، قال: إن جبرائيل أمرني أن آمرك أن تضعها تحت رأسك ليلتك هذه فإنك تصبح وقد علمت قراءتها قال: فجعلها تحت رأسه فأصبح وقد علمه الله كل شيء فيها فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينسخها فنسخها في جلد شاة وهو الجفر وفيه علم الأولين والآخرين، وهو عندنا" (6) .
__________
(1) أصول الكافي: 1/227
(2) بحار الأنوار: 26/180
(3) أصول الكافي (مع شرح جامع للمازندراني) : 5/355
(4) أصول الكافي (مع شرح جامع للمازندراني) : 5/354
(5) أصول الكافي (مع شرح جامع للمازندراني) : 5/354
(6) بحار الأنوار: 26/187-188(2/606)
وإذا كانت هذه الرواية تحدد مضمون الجفر بأنه (ألواح موسى) ، فإن رواية أخرى لهم تخرج عن هذا التحديد وتقول بأن أبا عبد الله قال: "إنّ عندي الجفر الأبيض.. فيه: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة. ما أزعم أنّ فيه قرآنًا وفيه ما يحتاج النّاس إلينا ولا نحتاج إلى أحد، حتى فيه الجلدة ونصف الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش" (1) .
وكأن شارح الكافي استكثر أن يكون كل ذلك مكتوبًا في الجفر الذي هو جلد شاة - كما تفسره الرواية السابقة - فقال: "الظاهر أن الجفر وعاء فيه هذه الصحف لا أنها مكتوبة فيه" (2) . في حين أن صريح الرواية السابقة يخالف هذا حيث نصت على أن عليًا (نسخها في جلد شاة) .
ومعنى هذا أن جلد الشاة يستحيل أن يستوعب كل هذه الكتب، والتي يتضمن أحدها وهو ألواح موسى، علم الأولين والآخرين، وهذا يكشف أن هذه الدعاوي من وضع جاهل لا يحسن أن يضع.
وكل عاقل يدرك أن لو كان عند الأئمة علم الأولين والآخرين لتغير وجه التاريخ.
والزعم بأن عند الأئمة الكتب السماوية كلها لم يأخذ الشك النظري فحسب، بل تجاوز ذلك إلى محيط العمل، فها هو أبو الحسن - بزعمهم - يقرأ الإنجيل أمام نصراني يقال له بريه فيقول هذا النصراني بعد سماعه لقراءة إنجيله عن الإمام: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة، ثم إن النصراني - كما تقول الرواية - آمن وحسن إسلامه. وقال للإمام: "أنى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ فقال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها، ونقولها كما قالوا:
__________
(1) أصول الكافي: 1/340
(2) شرح جامع/ للمازندراني: 5/389(2/607)
إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول لا أدري" (1) .
فيؤخذ من هذه الرواية أن الأئمة يقرؤون التوراة والإنجيل وغيرهما، كما قرأها الأنبياء، حتى يجدوا ما يجيبون فيه على أسئلة الناس.
بل الأمر تعدى مجرد القراءة والفتوى إلى مجال الحكم والقضاء، ووضع صاحب الكافي لهذا بابًا بعنوان: "باب في الأئمة أنهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يسألون البينة عليهم السلام" (2) .
ومن الروايات التي ذكرها في هذا الباب: ".. عن جعيد الهمداني عن علي بن الحسن رضي الله عنه قال: سألته بأي حكم تحكمون؟ قال: حكم آل داود فإن أعيانا شيء تلقانا به روح القدس" (3) .
وترد عندهم نصوص كثيرة تقول بأن مهديهم المنتظر يحكم بحكم آل داود ولا يسأل بينة (4) ، ويذكرون جملة من الأحكام التي يحكم بها مهديهم بموجب شريعته الخاصة مثل "كونه لا يقبل الجزية من أهل الكتاب، ويقتل كل من بلغ عشرين سنة ولم يتفقه في الدين، وأنه لا يقبل البينة، ويحكم بحكم آل داود وأمثالها" (5) . كما سيأتي - إن شاء الله - تفصيله في عقيدتهم في المهدي المنتظر.
وجاءت عندهم عدة روايات تذكر بأن عليًا يقول: لو تمكنت من الأمر لحكمت لكل طائفة بكتابها (6) ، فمن هذه الروايات: زعمهم أن عليًا قال: "لو
__________
(1) أصول الكافي (مع شرح جامع) : 5/359، بحار الأنوار: 26/181، 182، التوحيد للصدوق: ص286-288
(2) أصول الكافي: 1/393
(3) أصول الكافي: ص/398
(4) أصول الكافي: 1/398 وما بعدها
(5) انظر: الشعراني/ تعاليق علمية (على شرح الكافي للمازندراني) : 6/393
(6) توجد هذه الروايات في البحار: 26/180 وما بعدها، 40/136 وما بعدها(2/608)
ثنيت لي وسادة" (1) ، أو "لو ثنى الناس لي وسادة كما ثني لابن صوحان (2) . لحكمت بين أهل التوراة بالتوراة، ولحكمت بين أهل الإنجيل بالإنجيل ولحكمت بين أهل الزبور بالزبور، ولحكمت بين أهل الفرقان بالفرقان" (3) .
نقد هذه المقالة:
بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين، وختم به النبوات، ونسخ برسالته سائر الرسالات {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) . "ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه صلى الله عليه وسلم" (5) . "وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض فإنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم" (6) . فقد نسخ الله سبحانه بكتابه الكتب السماوية كلها، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ..} (7) .
__________
(1) قال المجلسي: ثني الوسادة عبارة عن التمكن في الأمر ونفاذ الحكم. (البحار: 40/137)
(2) قال المجلسي: ذكر ابن صوحان في الخبر غريب، ولعله كان ابن أبي سفيان، وعلى تقديره كأن المراد به لو كان لي بين أصحابي نفاذ أمر وقبول حكم كنفاذ أمر ابن صوحان (البحار: 26/182)
(3) البحار: 26/182
(4) آل عمران: آية: 85
(5) شرح الطحاوية: ص513
(6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/316، شرح الطحاوية: ص513
(7) المائدة، آية 48-49(2/609)
قال ابن جرير في قوله سبحانه: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} : "وهذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهل الملل بكتابه الذي أنزله إليه وهو القرآن الذي خصه بشريعته، فالله سبحانه أنزل القرآن مصدقًا ما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليه، رقيبًا على ما قبله من سائر الكتب قبله صلى الله عليه وسلم (1) .
وكتب الشيعة تقول بأن الأئمة يحكمون بحكم آل داود، ويحكمون لكل أصحاب دين بكتابه، فهل هذا خروج عن شريعة الإسلام، أو دعوة إلى وحدة الأديان؟! وقد يكون هذا من الأدلة على أن التشيع مأوى النحل والأديان، وكل صاحب دين يجد فيه بغيته، وينفث من خلاله سمومه على الإسلام.
أما قول الشيعة بأن كتب الأنبياء عند أئمتهم فهذا ما لا يملكون عليه دليلاً سوى دعاوى لا يصدقها الواقع، كيف والمصطفى صلى الله عليه وسلم لا يملك ذلك، كما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين وغيرهما: "إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجدلون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، فقالا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما" (2) .
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري: 6/268-269، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/218
(2) أخرجه البخاري (مع الفتح) في كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ... } (البقرة، آية: 146) ج 6 ص631 (ح3635) وفي مواضع أخرى، وأخرجه بهذا المعنى مسلم، كتاب الحدود، باب رجم اليهوديين: 4/593، (ح4446) ، وابن ماجه في الحدود، باب رجم اليهودي واليهودية: 2/854-855 (ح2558) ، ومالك في الموطأ، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم: 2/819، وأحمد: 2/5، والشافعي في الرسالة فقرة 692، بتحقيق أحمد شاكر(2/610)
قال أهل العلم: "وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم" يحتمل أن يكون قد علم بالوحي أن حكم الرجم فيها ثابت على ما شرع ... ويحتمل أن يكون علم بذلك بخبر عبد الله بن سلام ومن أسلم من علماء اليهود على وجه حصل له به العلم بصحة ما نقلوه، ويحتمل أن يسألهم عن ذلك ليعلم ما عندهم فيه ثم يستعلم صحة ذلك من قبل الله تعالى" (1) .
ولم يذكروا احتمال أن تكون التوراة موجودة عنده بل هذا من بدع الشيعة.. ولو كان الأمر على ما زعمت كتب الشيعة لأظهر التوراة الموجودة عنده ولم يأمرهم بالإتيان بها، لو لطلبها من ابن أخيه علي.
وأمر آخر وهو أن الشيعة تزعم أن الكتب السماوية السابقة والموجودة عند الأئمة لم تصل إليها يد التحريف والتبديل.
وقد بين الله سبحانه لنا أهل الكتاب حرفوا الكلم عن مواضعه ومن بعد مواضعه، وأنهم نسوا حظًا مما ذكروا به، وإنما أوتوا نصيبًا من الكتاب؛ إذ نسوا نصيبًا آخر وأضاعوه.
ولما خرجت أمة القرآن من الأمية وعرفوا تاريخ أهل الكتاب ظهر لهم أن اليهود فقدوا التوراة التي كتبها موسى ثم لم يجدوها، وإنما كتب لهم بعض علمائهم ما حفظوه منها ممزوجًا مما ليس منها، والتوراة التي بين أيديهم تثبت ذلك (2) .
"وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة، ونسخ الزبور يخالف بعضها بعضًا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني، ويقطع من رآها أن كثيرًا منها كذب على زبور داود عليه السلام" (3) .
ولسنا في مقام دراسة هذه المسألة وبسطها، وإنما الغرض الإشارة إلى نتيجة الدراسات التي قامت حول الكتب السابقة والتي تقول بأنه لم يبق منها كتاب
__________
(1) الباجي/ المنتقي: 7/133، فتح الباري: 12/168، عون المعبد: 12/131
(2) تفسير المنار: 6/396
(3) ابن تيمية/ دقائق التفسير: 3/58(2/611)
على ما أنزل لم يصل إليه تحريف.. إلا أن كتب الشيعة تدعي أن عندها هذه الكتب وغيرها من الكتب السماوية لم ينلها تغيير.. ولو كان عند الأئمة الكتب الأصلية غير المحرفة لكان واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتم عليهم أن يواجهوا بها اليهود والنصارى ليردوهم إلى الحق وليظهروا ما فيها من الأخبار من ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه، ولو فعلوا ذلك لرجع أكثر اليهود والنصارى عن كفرهم ولنقل ذلك واشتهر.
ولعل من سمع هذه الدعوى يسأل: أين هذه الكتب السماوية، في أي مكان توجد وعند من؟
وما الهدف من وجودها عند أئمتهم؟ هل ليكملوا بها شريعة الإسلام؟!
ولم لم يحتجوا بها على تحريف أهل الكتاب ويقيموا الحجة عليهم؟ هل هذا تقصير منهم؟
هذه أسئلة لا جواب عليها يرتضى، لأنها تدور على أسطورة لا حقيقة لها.. وليست هذه الدعوى بغريبة على قوم ادعوا لأئمتهم كل شيء.. ولكن الغريب أن تجد من يصدق بها في عالم اليوم.
ولذلك فإن الشيعة تقول في كل وهم من هذه الأوهام - أعني الكتب السرية والمصاحف السماوية ومواريث الأنبياء.. إلخ -: إن مستقرها ومستودعها عند الغائب الموهوم المهدي المنتظر (1) ، فتعلق أتباعهم بهذا السراب الخادع أساطير يتبع بعضها بعضًا.
الإيمان بالرسل:
وضلال الشيعة في هذا الركن يتمثل في عقائد متعددة كقولهم بأن الأئمّة يُوحى إليهم (2) ، كما سبق إثباته في "فصل السنة"، وفي مسألة الإيمان بالكتب.
__________
(1) انظر: أصول الكافي: 1/221
(2) بل قالوا: "إنّ الأئمّة عليهم السّلام لا يتكلّمون إلا بالوحي" (بحار الأنوار: 17/155، 54/237)(2/612)
وكقولهم بعصمة الأئمة، وضرورة اتباع قولهم (1) ، فهم أعطوهم بهذا معنى النبوة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن جعل بعد الرسول معصومًا يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها" (2) .
وبالغوا في الضلالة حينما زعموا أن الأنبياء عليهم السلام هم أتباع لعلي، وأن منهم من عوقب لرفضه ولاية علي، حتى جاء في أخبارهم "عن حبّة العرني قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ الله عرض ولايتي على أهل السّماوات وأهل الأرض أقرّ بها من أقرّ، وأنكرها من أنكر، أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقرّ بها" (3) .
ولهم في هذا المعنى روايات كثيرة (4) .
من هنا قرروا: بأن الأئمة هم أفضل من الأنبياء، وأن الأئمة جاءوا بالمعجزات لإقامة الحجة على الخلق أجمعين. وسأعرض لهاتين المسألتين بشيء من التفصيل في الصفحات التالية.
تفضيلهم الأئمة على الأنبياء والرسل:
الرّسل أفضل البشر وأحقّهم بالرّسالة؛ حيث أعدّهم الله تعالى لكمال العبوديّة والتّبليغ والدّعوة والجهاد {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (5) ، فهم قد امتازوا "برتبة الرّسالة عن سائر النّاس" (6) .
وقد أوجب الله على الخلق متابعتهم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ
__________
(1) انظر فصل العصمة
(2) منهاج السنة: 3/174
(3) بحار الأنوار: 26/282، بصائر الدّرجات: ص22
(4) ذكرها المجلسي في "باب تفضيلهم على الأنبياء" 26/267-319
(5) الأنعام، آية:124
(6) الحليمي/ المنهاج في شعب الإيمان: 1/238(2/613)
لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (1) . ولا يفضل أحد من البشر عليهم. قال الطّحّاوي في بيان اعتقاد أهل السّنّة: "ولا نفضّل أحدًا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السّلام ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء" (2) .
وتفضيل الأئمة على الأنبياء هو مذهب غلاة الروافض، كما نبه على ذلك عبد القاهر البغدادي (3) ، والقاضي عياض (4) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية (5) .
وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب أن "من اعتقد في غير الأنبياء كونه أفضل منهم ومساويًا لهم فقد كفر"، وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء (6) . ولذلك قال القاضي عياض: "نقطع بتفكير غلاة الرّافضة في قولهم: إنّ الأئمّة أفضل من الأنبياء" (7) . وهذا المذهب بعينه قد غدا من أصول الاثني عشرية، فقد قرّر صاحب الوسائل أنّ تفضيل الأئمّة الاثني عشر على الأنبياء من أصول مذهب الشّيعة التي نسبها للأئمّة (8) ، وقال بأن الروايات عندهم في ذلك أكثر من أن تحصى (9) ، وفي بحار الأنوار للمجلسي عقد بابًا بعنوان "باب تفضيلهم عليهم السّلام على الأنبياء وعلى جميع الخلق وأخذ ميثاقهم عنهم وعن الملائكة وعن سائر
__________
(1) النّساء، آية: 64
(2) انظر: العقيدة الطّحاويّة (مع شرح علي بن أبي العزّ) ص493، قال الشّيخ ابن أبي العزّ: "ويشير الشّيخ إلى الرّدّ إلى الاتّحاديّة وجهلة المتصوّفة" (شرح الطّحاويّة ص493) ، واللّقاء والتّشابه بين الصّوفيّة والرّافضة كثير
(3) البغدادي/ أصول الدين: ص298
(4) القاضي عياض/ الشفاء: ص1078
(5) ابن تيمية/ منهاج السنة: 1/177
(6) رسالة في الرد على الرافضة: ص29
(7) الشّفا: ص1078
(8) انظر: الفصول المهمّة في أصول الأئمّة "باب أنّ النّبيّ والأئمّة الاثني عشر - عليهم السّلام - أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السّابقين والملائكة وغيرهم": ص151
(9) انظر: الفصول المهمّة في أصول الأئمّة: ص154(2/614)
الخلق، وأنّ أولي العزم إنّما صاروا أولي العزم بحبّهم صلوات الله عليهم" (1) .
واستشهد لهذا الأصل بثمانية وثمانين حديثًا من أحاديثهم المنسوبة للاثني عشر (2) . وقال: "والأخبار - يعني أخبارهم - في ذلك أكثر من أن تحصى وإنما أوردنا في هذا الباب قليلاً منها وهي متفرقة في الأبواب لاسيما باب صفات الأنبياء وأصنافهم عليهم السلام، وباب أنهم عليهم السلام كلمة الله، وباب بدو أنوارهم، وباب أنهم أعلم من الأنبياء، وأبواب فضائل أمير المؤمنين وفاطمة صلوات الله عليهما" (3) .
وقد قرّر شيخهم ابن بابويه في اعتقاداته التي تسمّى دين الشّيعة الإماميّة هذا المبدأ عندهم فقال: "يجب أن يعتقد أنّ الله عزّ وجلّ لم يخلق خلقًا أفضل من محمّد صلى الله عليه وسلم والأئمّة، وأنّهم أحبّ الخلق إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم وأوّلهم إقرارًا به لِمَا أخذ الله ميثاق النّبيّين في الذّر، وأنّ الله تعالى أعطى كلّ نبيّ على قدر معرفته نبيّنا صلى الله عليه وسلم وسبقه إلى الإقرار به، ويعتقد أنّ الله تعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيته عليهم السّلام وأنّه لولاهم ما خلق السّماء ولا الأرض ولا الجنّة ولا النّار ولا آدم ولا حوّاء ولا الملائكة ولا شيئًا ممّا خلق صلوات الله عليهم أجمعين" (4) .
وقد نقل صاحب البحار هذا النّصّ وعقّب عليه بقوله: "اعلم أنّ ما ذكره رحمه الله من فضل نبيّنا وأئمّتنا صلوات الله عليهم على جميع المخلوقات وكون أئمّتنا أفضل من سائل الأنبياء هو الذي لا يرتاب فيه من تتبّع أخبارهم عليهم السّلام على وجه الإذعان واليقين، والأخبار في ذلك أكثر من أن تُحصى.. وعليه عمدة
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 26/267
(2) انظر: بحار الأنوار: 26/267
(3) بحار الأنوار: 26/297-298
(4) اعتقادات ابن بابويه: ص106-107(2/615)
الإماميّة ولا يأبى ذلك إلا جاهل بالأخبار" (1) .
وقد ألّف بعض شيوخهم في هذا المذهب مؤلّفات (2) .
وهذه المقالة هي التي يجاهر بها الخميني ومن يشايعه في هذا العصر كما قرّر ذلك في كتابه الحكومة الإسلاميّة - كما سيأتي - (3) .
وتعزو رواياتهم هذه الأفضلية إلى أمور يرونها في الأئمة مغرقة في الغلو والضلال تقشعر من سماعها أبدان المؤمنين (وقد مر بعضها في فصلي اعتقادهم في توحيد الألوهية والربوبية) .
وليس الأئمة أفضل من الأنبياء فحسب؛ بل ما استحق الأنبياء ما هم فيه من فضل - بزعمهم - إلا بسبب الولاية. قال إمامهم "ما استوجب آدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلا بولاية علي عليه السّلام، وما كلّهم الله موسى تكليمًا إلا بولاية علي عليه السّلام، ولا أقام الله عيسى بن مريم آية للعالمين إلا بالخضوع لعليّ عليه السّلام"، ثم قال: أجمل الأمر ما استأهل خلق من الله النّظر إليه إلا بالعبوديّة لنا (4) .
ولو ذهبت أنقل من أحاديث "بحارهم" وغيره من هذا "اللون" لاستغرق ذلك صفحات طويلة (5) .
__________
(1) بحار الأنوار: 26/297-298
(2) مثل كتاب تفضيل الأئمّة على الأنبياء، وكتاب تفضيل علي عليه السّلام على أولي العزم من الرّسل (كلاهما لشيخهم هاشم البحراني، المتوفّى سنة 1107) ، وتفضيل الأئمّة على غير جدّهم من الأنبياء لشيخهم محمّد كاظم الهزار، وتفضيل أمير المؤمنين علي على من عدا خاتم النّبيّين/ لمحمّد باقر المجلسي (المتوفّى سنة 1111هـ) ومن الظّريف أنّ أحد شيوخهم ألّف كتابًا بعنوان: «تفضيل القائم المهدي على سائر الأئمّة» من تأليف فارسي يدعى فتحعلياشه (ت 1250هـ) ، وانظر: الذّريعة 4/ 358-360
(3) في فصل دولة الآيات من الباب الرّابع
(4) الاختصاص: ص250: بحار الأنوار: 26/294
(5) انظر: الكثير منها في الجزء السادس والعشرين من البحار، ولا سيما "باب تفضيل الأئمة على =(2/616)
ويبدو أن هذا هو المذهب الذي استقر عليه مذهب الاثني عشرية عبر التغيرات والتطورات التي تلاحق المذهب، والذي أشار الممقاني إلى طبيعتها وهو التطور نحو الغلو (1) ، فإن الشيعة في هذه المسألة (أعني مسألة تفضيل الأنبياء على الأئمة) كانوا ثلاث فرق - كما يقول الأشعري -:
فرقة: يقولون بأن الأنبياء أفضل من الأئمة، غير أن بعض هؤلاء جوزوا أن يكون الأئمة أفضل من الملائكة.
والفرقة الثانية: يزعمون أن الأئمة أفضل من الأنبياء والملائكة.
والفرقة الثالثة: وهم القائلون بالاعتزال والإمامة، يقولون: إن الملائكة والأنبياء أفضل من الأئمة (2) .
ويضيف المفيد في أوائل المقالات مذهبًا رابعًا لهم وهو أفضلية الأئمة على سائر الأنبياء ما عدا أولي العزم (3) . ثم لا يبوح بذكر المذهب الذي يعتمده من هذه المذاهب بل يذكر توقفه للنظر في ذلك (4) .
ولكن يظهر أن كل هذه المذاهب تلاشت بسعي شيوخ الدولة الصفوية ومن تبعهم واستقر المذهب على الغلو في الأئمة، حتى إن المجلسي يقول في عنوان الباب الذي عقده في بحاره لهذا الغرض: "إنّ أولي العزم إنّما صاروا أولي العزم بحبّهم صلوات الله عليهم" ولا يستثني في ذلك أحدًا من المرسلين، حتى نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم (5) .
__________
= الأنبياء" ص:267-319، وباب أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بهم صلوات الله عليهم أجمعين: ص319-334، من نفس الجزء
(1) انظر: نص كلامه ص (394، 1104)
(2) مقالات الإسلاميين: 1/120
(3) أوائل المقالات: ص42-43
(4) أوائل المقالات: ص43
(5) انظر: ص (615)(2/617)
وجاءت عندهم نصوص تعقد مقارنات بين رسول الله وعلي، وتنتهي بأن لعلي فضل التميز على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث شاركه علي في خصائصه، وانفرد علي بفضائل لم يشاركه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعقد لهذه النصوص صاحب البحار بابًا بعنوان "باب قول الرسول لعلي: أعطيت ثلاثًا ما أعط" - كذا - (1) .
وقد جاء في الكافي والبحار وغيرهما نصوص كثيرة تقول بأن لعلي والأئمة من الفضل ووجوب الطاعة كرسول الله، ولكنها ما تلبث أن تنتقل بالقارئ إلى أن الأئمة أفضل من رسول الله، بل تذهب إلى القول بأن عليًا والأئمة انفردوا بخصائص لا يشاركهم فيها أحد من الخلق، وإذا تدبرت تلك الخصائص وجدت أنها من صفات الرب جل شأنه، وبحسبك أن تعرف أن من هذه الأوصاف التي يتنطع بها الروافض ما ينسبونه لعلي أنه قال: "لم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني ... إلخ" (2) .
فما أعظم افتراءهم على الله، وعلى دينه، وعلى نبيه، وعلي، وأهل البيت. ولقد أنكر أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - تفضيله على الشيخين أبي بكر وعمر، وهدد من يتفوه بذلك بأنه سيجلده حد المفتري (3) . وتواتر عنه من ثمانين
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 39/89، ومن أمثلة ذلك ما جاء في أخبارهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت ثلاثًا وعلي مشاركي فيها، وأعطي علي ثلاثًا ولم أشاركه فيها، فقيل يا رسول الله: وما هي الثلاث التي شاركك فيها علي عليه السلام؟ قال: لي لواء الحمد وعلي حامله، والكوثر لي وعلي ساقيه، ولي الجنة والنار وعلي قسيمهما، وأما الثلاث التي أعطيها علي ولم أشاركه فيها فإنه أعطي ابن عم مثلي ولم أعط مثله، وأعطي زوجته فاطمة ولم أعط مثلها، وأعطي ولديه الحسن والحسين ولم أعط مثلهما. (بحار الأنوار: 39/90، وانظر في هذا المعنى: عيون أخبار الرضا: ص212، مناقب آل أبي طالب: 2/47)
(2) أصول الكافي: 1/197 وما بعدها، وقد ذكر جملة من أحاديثهم بهذا المعنى المذكور، وانظر: ص 623-624 من هذه الرسالة، حيث سأذكر - إن شاء الله - بعض نصوص هذه "الفرية" والمراجع الشيعية التي تناقلتها
(3) انظر: منهاج السنة: 4/137، وروي ذلك عن علي بأسانيد جيدة (الفتاوى: 28/475)(2/618)
وجهًا أنه كان يقول على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر (1) . ونقلت ذلك كتب الشيعة نفسها (2) . فما حاله رضي الله عنه مع هذا الصنف الذي يدعي التشيع له ويفضله على أنبياء الله؟ لا شك أن إنكاره عليهم أعظم وأشد، وقد قرر بعض أهل العلم بأن من فضَّل عليًا - فكيف ممن بعده - على نبي الله إبراهيم أو محمد فإنه أشد كفرًا من اليهود والنصارى (3) .
وقد روت كتب الشيعة أنه عندما قيل لأمير المؤمنين: أنت نبي، قال: "ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد صلى الله عليه وسلم" (4) . قال ابن بابويه: يعني بذلك عبد طاعته لا غير ذلك (5) .
ويحتمل أن هذا الاتجاه الغالي الذي استقر عليه المذهب الاثني عشري كان من آثار فرقة من فرق الشيعة تذهب إلى تفضيل علي على محمد صلى الله عليه وسلم يقال لها العلبائية (6) .
وفي ظني أن عقيدة عصمة الإمام عندهم تؤدي إلى ظهور هذا المذهب وأمثاله؛ ذلك أنهم يصفون الأئمة بأوصاف لا يتصف بها أحد من أنبياء الله ورسله - كما سيأتي - وإن من يرجع إلى كتاب الله سبحانه يجد أنه ليس لأئمتهم
__________
(1) منهاج السنة: 4/137-138
(2) انظر: تلخيص الشافي: 2/428، عن الشيعة وأهل البيت: ص52
(3) منهاج السنة: 4/69
(4) ابن بابويه/ التوحيد: ص174، 175، المجلسي/ بحار الأنوار: 8/283، الطبرسي/ الاحتجاج (انظر: منهاج السنة: 4/69)
(5) التوحيد ص175
(6) العلبائية: من فرق الشيعة، وهم أصحاب العلباء بن ذراع الدوسي، أو الأسدي، كان يفضل عليًا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول بذم محمد صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه.
(الملل والنحل: 1/175، وانظر: رجال الكشي: ص571، إلا أنه سماها: العليائية: بحار الأنوار: 25/305)(2/619)
الاثني عشر ذكرا، فضلاً عن أن يقدموا على أنبياء الله ورسله.
كما أنه يلاحظ "أن الأنبياء لكونهم أرفع رتبة يقدمون بالذكر على غيرهم من صالحي عباد الله. قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} (1) . (2) . فرتب الله سبحانه عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب (3) . "وكتاب الله يدل في جميع آياته على اصطفاء الأنبياء واختيارهم على جميع العالم" (4) .
وقد أجمع أهل القرون الثلاثة على تفضيل الأنبياء على من سواهم، وهذا الإجماع حجة - حتى عند الشيعة - لأن فيهم الأئمة (5) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذي ليسوا بأنبياء" (6) .
والعقل يدل صريحًا على أن جعل النبي واجب الطاعة وجعله أمرًا وناهيًا وحاكمًا على الإطلاق والإمام نائبًا وتابعًا له لا يعقل بدون فضيلة النبي عليه، ولما كان هذا المعنى موجودًا في حق كل نبي مفقودًا في حق كل إمام لم يكن إمام أفضل من نبي أصلاً، بل يستحيل (7) .
ثم إنّه قد ورد في كتب الشّيعة نفسها ما يتّفق مع النّصّ والإجماع والعقل، وينفي ذلك الشّذوذ؛ وهو ما رواه الكليني عن هشام الأحول عن زيد بن علي أنّ الأنبياء أفضل من الأئمّة، وأنّ من قال غير ذلك فهو ضالّ (8) .
__________
(1) النّساء، آية: 69
(2) مختصر الصّواقع: ص187
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/221
(4) مختصر التحفة: ص101
(5) مختصر الصواقع: ص186-187
(6) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/221
(7) مختصر التحفة: ص101
(8) انظر: مختصر الصّواقع: ص187(2/620)
وروى ابن بابويه عن الصّادق ما ينصّ على أنّ الأنبياء أحبّ إلى الله من علي (1) .
ولا شك أن هذا المذهب واضح البطلان، يدرك بطلانه بصري العقل وبما علم من الدين بالضرورة، وبالتاريخ والسير والفطر، ولا يحتاج إلى تكلف في إبطاله وهو أحد البراهين على فساد المذهب الرافضي.
معجزات الإمام:
يرى أهل السنة "أن المعجزات (2) . لا يأتي بها أحد إلا الأنبياء عليهم السلام (3) ، خلافًا للروافض الذين جعلوا علامة الإمام عندهم صدور المعجزة منه، لأنهم يقولون: "إنّ الإمامة استمرار للنّبوّة (4) . فكما أنّ الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنّبوّة والرّسالة ويؤيّده بالمعجزة.. فكذلك يختار للإمامة" (5) .
وقد امتلأت كتب الحديث عندهم بالحديث عن هذه المعجزات، ورواية قصصها وأحداثها - المزعومة - وقد يقال بأن غاية ما هنالك بأنهم سموا الكرامات معجزات.
__________
(1) انظر: مختصر التّحفة: ص100
(2) المعجزات: هي الآيات والبراهين التي لا يقدر عليها إلا الله والتي يجريها الله تعالى على أيدي أنبيائه فتدل على صدقهم. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية بأن لفظ المعجزات لم يكن موجودًا في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية، والبينة والبرهان (الجواب الصحيح: 4/67) وقال رحمه الله: المعجزة تعم كل خارق للعادة في اللغة، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره يسمونها الآيات. لكن كثيرًا من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما فيجعل المعجزة للنبي، والكرامة للولي وجماعهما الأمر الخارق للعادة (انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات ص2، مطبعة المنار، أو 11/311-312 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، وراجع النبوات لابن تيمية، وانظر: التعريفات للجرجاني: ص 282، شرح العقيدة الطحاوية: ص 495)
(3) ابن حزم/ المحلى: 1/35
(4) عقائد الإماميّة: ص94
(5) أصل الشّيعة وأصولها: ص58(2/621)
ولا شك أن "من أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري على أيديهم من خوارق العادة في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة" (1) .
وإذا كان الأمر كذلك فتسمية الكرامات بمعجزات مجرد اختلاف في الاصطلاح ولهذا حينما قال ابن المطهر الحلي عن أمير المؤمنين علي: "وظهرت منه معجزات كثيرة" عقب على ذلك شيخ الإسلام بقوله:
"فكأنه يسمي كرامات الأولياء معجزات وهذا اصطلاح كثير من الناس فيقال: علي أفضل من كثير ممن له كرامات، والكرامات متواترة عن كثير من عوام أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر فكيف لا تكون الكرامات ثابتة لعلي رضي الله عنه، وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره" (2) .
وقد رأى شيخ الإسلام أن اهتمام الروافض بأمر ما ينسب للأئمة من كرامات إنما سببه أن "الرافضة لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتد به، فهو لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئًا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد، والجائع للكسرة من الخبر.." (3) .
ولكن الإمامية هل ترى هذه الخوارق من كرامات أولياء الله وتسميها معجزات؟
إن المتأمل للمذهب الإمامي يرى أنهم يذهبون في هذه الكرامات إلى
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 3/156
(2) منهاج السنة: 2/149
(3) منهاج السنة: 4/196(2/622)
مذهب آخر؛ فهم يرون أنها معجزات لإثبات الإمامة وإقامة الحجة - كما يزعمون - على الخلق، لأن الأئمة كما تقول رواياتهم هم الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض (1) .
بل يقول ثقة إسلامهم الكليني: "إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام" (2) . وجاءت روايات كثيرة عندهم بهذا المعنى، ولذا قالوا "فنحن حجج الله في عباده" (3) ، "ولولانا ما عبد الله" (4) ، "الأوصياء هم أبواب الله عز وجل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل، وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه" (5) . ولذلك قال البحراني في كتابه الذي صنفه في معجزات الأئمة: "إن الله أظهر على أيديهم المعاجز والدلائل لأنهم حجته على عباده" (6) .
فهم يجعلون الأئمة كالأنبياء والرسل الذين يقيم الله بهم الحجة على خلقه فهم يحتاجون للمعجزات لإثبات رسالتهم كما يحتاج الأنبياء.
بل هم في الفضل، ووجوب الطاعة، وتحقق المعجزات قد يصلون إلى مرتبة أفضل الرسل والأنبياء أو أعظم.
قال أبو عبد الله - كما يزعمون -: "ما جاء به عليّ رضي الله عنه آخذ به وما نهي عنه أنتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وسلم".
وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدًا بعد واحد.
كان أمير المؤمنين كثيرًا ما يقول: "لقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها
__________
(1) أصول الكافي: 1/192، وانظر: المظفر/ علم الإمام: ص43
(2) وهو عنوان باب في الكافي تضمن أربعة أحاديث بهذا المعنى. (أصول الكافي: 1/177)
(3) أصول الكافي: 1/193
(4) أصول الكافي: 1/193
(5) أصول الكافي: 1/193
(6) هاشم البحراني/ ينابيع المعاجز: ص2 (المقدمة)(2/623)
أحد قبلي، علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي أبشر بإذن الله وأودي عنه كلّ ذلك مكّنني فيه بعلمه" (1) .
فأنت ترى أن النص يؤكد بأن من أخذ عن أحد من الأئمة فكأنما أخذ عن رسول الله، أو أفضل؛ ولذلك فإن جعفرًا يفضل الأخذ عن عليّ لا عن رسول الله (2) .
ثم يبرهن على ما تميز به عليّ من معجزات وصفات ليست لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنا قسيم الله ... إلخ) ، ويؤكد هذا المعنى في خاتمة النص وهو قوله: "لقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد.." ويضفي على علي صفات الجبار جل علاه حينما يقول: "علمت المنايا والبلايا"، وكذلك حينما يقول: "فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني"، فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته شيء هو الرّبّ جلّ جلاله. لكنّ الرّبّ عندهم يبدو له كما زعموا.
فهذه ليست معجزات، هذه افتراءات وتأليه للأئمة.
ولكن الشيعة الإمامية ترى أن هذه معجزات جرت للأئمة لإقامة الحجة على الخلق.. وليست أيضًا من قبيل الكرامات بل هي كمعجزات الأنبياء أو أعظم، وقد بوّب صاحب البحار لهذا المعنى بابًا بعنوان "إنّهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء" (3) . وأورد فيه جملة من أحاديثهم، ولهذا عرف شيخهم القزويني المعجزة التي تحصل للأئمة بأنها "ما كان خارقًا للعادة أو صارفًا للقدرة عند التحدي مع عدم المعارضة، والمطابقة
__________
(1) أصول الكافي: 1/196-197، وروايات أخرى بهذا المعنى، وكلّها ساقها في "باب أنّ الأئمّة هم أركان الأرض". وانظر: "فصل العصمة"
(2) ونبرئ جعفرًا من هذه الزندقة وسائر أئمة أهل البيت، فإن من اعتقد أن له طريقًا إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهو كافر ملحد.
(انظر حول هذا المعنى: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 11/225)
(3) بحار الأنوار: 27/29-31(2/624)
للدعوى" (1) .
فهي معجزة خارقة للعادة المقصود بها التحدي لإقامة الدعوى.
وقد صنفوا المصنفات في معجزات الأئمة كما يكتب أهل السنة في معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ، بل إن أخبارهم في ذلك تخرج بالأئمة من طور البشر إلى مقام الخالق جل علاه.
وللقوم ولع غريب وتعلق عجيب بسرد الحكايات وغرائب الأساطير والتي هي أحيانًا أشبه بعمل السحرة والمشعوذين، وحينًا هي من ضروب الخيال،
__________
(1) قلائد الخرائد: ص72
(2) مثل كتاب "عيون المعجزات" لشيخهم حسين بن عبد الوهاب (من القرن الخامس) وقد نشرته مؤسسة الأعلمي للمطبوعات في طبعة ثالثة عام 1403هـ، وقد جاء فيه من معجزاتهم: أنهم يحيون الموتى ص32، ويتحدثون مع الحيوانات، وتشهد لهم بالإمامة ص17، 22، 25، 32، ويحدثون بما كان وما يكون ص57، ويرون أعمال العباد بواسطة عمود من نور يكون معهم منذ ولادتهم ص80، وأمثال ذلك. ومثل كتاب "ينابيع المعاجز وأصول الدّلائل" لشيخهم هاشم البحراني، وذكر فيه (21) بابًا ومن عناوين هذه الأبواب "الباب الخامس": أنّ عندهم عليهم السّلام علم ما في السّماء، وعلم ما في الأرض، وعلم ما كان، وعلم ما يكون، وما يحدث باللّيل والنّهار، وساعة وساعة، وعندهم علم النّبيّين، وزيادة ص 35-42، الباب السّادس: أنّهم عليهم السّلام إذا شاؤوا أن يعلموا علموا، وأنّ قلوبهم مورد إرادة الله، وإذا شاء شيئًا شاؤوه ص: 43-46.
وللبحراني أيضًا كتاب آخر في نفس الموضوع ولعله أوسع ما كتب عندهم سماه "مدينة المعاجز" يذكر عند كل إمام ما ينسبون له من معجزات؛ فمثلاً عقد الباب الأوّل في معجزات أمير المؤمنين فذكر (550) معجزة، منها ذكر معاجز ميلاده ص5 - على حدّ زعمهم -، مناجاة الله له ص9، وعروجه للسّماء ص12، وكلام الأرض معه ص16، وكلام إبليس معه ص16، وذكر له معجزات قبل جوده، فكر أنّه حضر عند فرعون، وقال في التّعقيب على ذلك بأنّ الرّسول قال لعليّ: إنّ الله أيّد بك النّبيّين سرًّا، وأيّدني بك جهرًا. وهكذا يذكر لكل إمام معجزاته حتى إمامهم المنتظر الذي لا وجود له قال بأن من معجزاته: قراءته وقت ولادته الكتب المنزلة، والصعود إلى سرادق العرش. ويمضي في ذكر حكايات لا يصدق بها عاقل، تجعلك تعجب غاية العجب من شيوخ استغفلوا أتباعهم إلى هذا الحد.. ومن أتباع انقادوا لهذه "الترهات"(2/625)
وغرائب الأحلام. ويزعمون أن هذا من أصول ثبوت إمامتهم. بل جعلوا لأتباع الأئمة معجزات تضاهي معجزات الأئمة (1) .
وقد يقال: تلك حكايات وأساطير ذهبت مع ذهاب الأئمة وليس لها وجود واقعي، وأقول: إن هذه المعجزات لا تزال تولد عند الشيعة وتتجدد لا بقراءة هذه الأساطير في المجالس وتخدير العقول وتكبيل الأفكار بها فحسب، بل اتخذت صورة واقعية تتمثل في جانبين:
الأول: ما ينسبونه للغائب المنتظر من معجزات وخوارق ينقلها جملة من شيوخهم الذين يزعمون الصلة به، فهذا ابن المطهر الحلي يستعير كتابًا كبيرًا ليرد عليه - كما يقولون - ولا يسمح له صاحب الكتاب باستعارته إلا ليلة واحدة فيأتيه هذا المنتظر فينسخ له الكتاب كله (2) . وحكاياتهم في هذا الباب كثيرة سجل جملة منها شيخهم النوري الطبرسي في كتابه جنة المأوى، فالمعجزات تجري الآن علي أيدي غائبهم، ويظهرها في أشخاص شيوخهم وآياتهم.
الثاني: ما يدعونه من حصول الخوارق عند قبورهم فأضلوا قومهم سواء السبيل وأغروهم بالشرك وفتحوا لهم أبوابه. وقد عقد المجلسي جملة من أبواب بحاره لهذا الغرض مثل "الباب التاسع والعشرون ما ظهر عند الضريح المقدس من المعجزات والكرامات" (3) ، ومثل "الباب الخمسون جور الخلفاء على قبره الشريف وما ظهر من المعجزات عند ضريحه ومن تربته وزيارته" (4) . وهكذا يذكر عند الحديث
__________
(1) انظر - مثلاً -: حسين عبد الوهاب/ عيون المعجزات، شهادة الكاظم - كما يزعمون - بأن رشيدًا الهجري يعلم علم المنايا ص101، وفي رجال الكشي "وكان إذا لقي الرجل قال له: فلان أنت تموت بميتة كذا، وتقتل أنت يا فلان بقتلة كذا وكذا فيكون كما يقول" (رجال الكشي: ص76)
(2) مضى ص (340) من هذه الرسالة
(3) بحار الأنوار: 42/311
(4) بحار الأنوار: 45/390(2/626)
عن كل إمام معجزاته المزعومة. وقد ألفوا في هذه الخرافات مصنفات (1) .
وقد تحدثت أساطيرهم عن معجزات جرت من الأضرحة، وساق الكثير منها المجلسي في أبوابه التي عقدها في أخبار كل إمام. وجاء بقصص خيالية تثير العجب من هؤلاء القوم الذين ألفوا الخرافة، ووجدت طريقها لقلوبهم بكل يسر.
قصص تتحدث عن شفاء الضريح للأمراض المستعصية، فتذكر أن أعمى أبصر بمجرد مجاورته للضريح (2) .
وأن الحيوانات تذهب لأضرحة أئمتهم طلبًا للشفاء، فهذا حيوان يتمرغ على القبر لشفاء جرحه فيشفى (3) .
بل جعلوا أئمتهم وهم رهائن قبورهم يتصرفون تصرف الأحياء فجاءوا بقصص تتحدث عن أن الضريح يودع الأمانات فيحفظها (4) .
ويبدو أن واضع هذا بعض السدنة اللصوص الذي لم يكفه ما يأخذ من هؤلاء الأغرار من أموال يبذلونها على عتبات الضريح فحاول أن يأخذ المزيد بالسرقة والخداع.
والضريح يخاطب فيستجيب.. فهذا أحد زوار القبر يتمزق رداؤه عند الضريح فيقول: "ما أعرف عوض هذا إلا منك، فيتحقق له ما أراد" (5) .
كل هذه الأساطير تصاغ في قالب قصصي خيالي للتأثير على السذج من العامة، وهي قصص كثيرة وطويلة تنتهي بمثل هذه الغرائب التي تدعو للشرك
__________
(1) مثل: "المعجزات" لشيخهم محمد علي البلداوي، جمع فيه المعجزات التي ظهرت عند المشهدين الكاظميين والعسكريين. (انظر: الذريعة: 21/215)
(2) بحار الأنوار: 42/317
(3) بحار الأنوار: 42/312
(4) بحار الأنوار: 42/318
(5) بحار الأنوار: 42/316(2/627)
بالله سبحانه، وتشل العقل، وتعطل التفكير، وتثبط عن العمل الصالح، وقد تنأى بعقلائهم إلى الكفر بالدين أصلاً إذا رأى هذه الخرافات الباطلة بضرورة العقل.
وقد استنكر جعفر الصّادق ما ينسبه له شيعة الكوفة من تلك المبالغات فقال - كما تروي كتب الشيعة -: "والله لو أقررت بما يقول فيّ أهل الكوفة لأخذتني الأرض، وما أنا إلا عبد مملوك لا أقدر على شيء بضرّ ولا بنفع" (1) .
ولا يستبعد أن تلك الدعاوى الغالية في الأئمة والتي ترفع الأئمة إلى مقام الألوهية ويسمونها معجزات لا يستبعد أن هذه موروثة عن المجوسية الذين دخلوا في سلك التشيع للكيد للإسلام أو لإظهار عقائدهم باسم الإسلام ذلك أن "المجوس تدعي لزرادشت من المعجزات والآيات أكثر مما يدعيه النصارى" (2) .
أما قولهم بأن الأئمة هم الحجة على الناس ولا تقوم الحجة على خلقه إلا بهم، ولهذا جرت المعجزات على أيديهم لإثبات الإمامة.. فهذا إذا بحثت عنه في كتاب الله سبحانه لم تجد ما يدل عليه البتة، بل تجد ما يخالفه وهو أن حجة الله على عباده قامت بالرسل. قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (3) . ولم يذكر الأئمة.
فعلم أن هذه الدعوى هي محض اختلاق، وأما تلك المعجزات التي ينسبونها للأضرحة أو الغائب المنتظر فهي كذب وبهتان، أو من وحي شيطان، فالغائب لا وجود له إلا في خيالات طائفة الاثني عشرية كما يقرره طوائف من الشيعة، وكما يذكر ذلك أهل العلم بالأنساب والتواريخ.
أما معجزات الأضرحة فإنها دعوى شيطانية للشرك، وهؤلاء أموات قد أفضوا إلى ما قدموا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا.. وهم في حياتهم يلجؤون إلى الله سبحانه ينفون عن أنفسهم الحول والقوة.
__________
(1) تنقيح المقال: 3/332
(2) تثبيت دلائل النبوة: 1/185
(3) النساء، آية: 165(2/628)
وقد نقلت كتب الشيعة نفسها أحاديث كثيرة في هذا المعنى، والله سبحانه أمر نبيه أن يقول: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ} (1) ، {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ} (2) ، {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (3) ، {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (4) ، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (5) .
فهذا هو رسول الهدى وخاتم الأنبياء وسيد الأولين والآخرين فكيف بمن دونه.
الإيمان باليوم الآخر:
لهم في الركن العظيم أقوال منكرة، وبدع كثيرة. فآيات القرآن في اليوم الآخر أوّلوا معناها بالرجعة (6) . وهذه حيلة ماكرة من واضعي هذه النصوص لإنكار أمر اليوم الآخر بالكلية، وأقل ما فيها أنها تصرف قلوب الشيعة، عن ذلك اليوم، أو تمحو معاني اليوم الآخر من نفوسهم، لأنهم لا يقرأون في آيات اليوم الآخر إلا تأويلات شيوخهم له بالرجعة.
ومن بدعهم أيضًا قولهم بأن أمر الآخرة للإمام. يقول صاحب الكافي في أخباره: "الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء جائز له ذلك من الله" (7) .
أما لماذا أمر الآخرة للإمام فإن هذا فرع عن تصورهم لأمر الجنة والنار،
__________
(1) الأعراف، آية: 188
(2) يونس، آية: 49
(3) الأنعام، آية: 50
(4) الإسراء: آية: 93
(5) الكهف، آية: 110
(6) انظر: فصل "الرجعة"
(7) أصول الكافي: 1/409(2/629)
إذ يقولون: "لولا الأئمّة ما خلقت الجنّة والنّار" (1) . و"إنّ الله خلق الجنّة من نور الحسين" (2) . وعقد شيخهم البحراني بابًا في ذلك بهذا العنوان المذكور (3) .
ومرة يقولون بأنّ الجنّة هي من مهر فاطمة في زواجها على عليٍّ.
وما أدري كيف تكون مهرها وهي مخلوقة من نور ابنها؟!
والأصل في المهر أن يدفع من قبل الزوج، فقد روى الشّيخ الطّوسي في مجالسه عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: "إنّ الله تعالى أمهر فاطمة رضي الله عنها ربع الدّنيا فربعها لها، وأمهرها الجنّة والنّار، تدخل أعداءها النّار وتدخل أولياءها الجنّة" (4) . وعقد لذلك صاحب المعالم الزّلفى بابًا بعنوان "الباب الرّابع أنّ الجنّة في مهر فاطمة" (5) . أي أن الجنة جزء من مهر فاطمة.
ثم إن المهر الأصل أن يصل إلى صاحبه في الدنيا، ولذلك قالوا: إن الأئمة يأكلون في الدنيا من نعيم الجنة، وخصّص لهذه المسألة شيخهم البحراني بابًا بعنوان "باب أنّ طعام الجنّة في الدّنيا لا يأكله إلا نبي أو وصي نبي". أورد فيه روايات كثيرة من كتبهم المعتمدة عندهم تتضمن أن الفواكه والرمان والأطباق المليئة بأنواع الطعام تأتيهم من الجنة يأكلون منها، وصاغ هذه المزاعم في قصص طويلة.
وفات عليهم أن يزيدوا في قولهم عمن يأكل طعام الجنة لا يأكله إلا نبي، أو وصي نبي "أن يزيدوا أو بنت نبي"، لأنهم بهذا قد حرموا فاطمة من مهرها،
__________
(1) قال ابن بابويه: "ويجب أن يعتقد أنّه لولاهم لَمَا خلق الله سبحانه السّماء والأرض ولا الجنّة ولا النّار، ولا آدم ولا حوّاء، ولا الملائكة، ولا شيئًا ممّا خلق" (الاعتقادات: ص106-107)
(2) المعالم الزلفى: ص249، وانظر: نزهة الأبرار، ومنار الأنظار في خلق الجنّة والنّار/ لهاشم البحراني أيضًا: ص395
(3) المعالم الزّلفى: ص249
(4) المعالم الزّلفى: ص350
(5) المعالم الزّلفى: ص317-319(2/630)
ومما خلق من نور ولدها، لأنها ليست من الأوصياء باتفاقهم فلا تأكل من طعام الجنة، ويبدو أنهم لم يزيدوا ذلك خشية أن تدخل فيه بنات النبي الأخريات، وليس لهن نصيب من الود في دين الشيعة.
وما دام أمر الآخرة في نظر هذه الزمرة للإمام بهذه الوجوه المذكورة، فإن كل مراحل الحياة الأخروية صبغتها الشيعة بآثار غلوهم في الإمام والأئمة. فالأئمة يحضرون عند الموت. قال المجلسي في بيان اعتقادات طائفته: "يجب الإقرار بحضور النبي والأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم عند موت الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار، فينفعون المؤمنين بشفاعتهم في تسهيل غمرات الموت وسكراته عليهم، ويشددون على المنافقين ومبغضي أهل البيت صلوات الله عليهم، ولا يجوز التفكر في كيفية ذلك إنهم يحضرون - كذا - في الأجساد الأصلية أو المثالية أو بغير ذلك" (1) .
وحينما يوضع الميت في قبره، يجعل معه تربة من تراب الحسين، لأنها بزعمهم أمان له، وعقد لهذا الحر العاملي بابًا بعنوان "باب استحباب وضع التّربة الحسينيّة مع الميّت في الحنوط والكفن وفي القبر" (2) ، وكذلك خصّص لها صاحب مستدرك الوسائل بابًا بنفس العنوان المذكور (3) .
ومن وصاياهم في ذلك قولهم: "ويجعل معه شيء من تربة الحسين فقد روي أنّها أمان" (4) ، ولهم في هذه المسألة أحاديث كثيرة (5) .
والتكليف بزعمهم ورفع الدرجات وعمل الحسنات يحصل من الميت
__________
(1) الاعتقادات: ص93-94
(2) وسائل الشّيعة: 2/742
(3) مستدرك الوسائل: 1/106
(4) مستدرك الوسائل: 1/106
(5) وسائل الشيعة: 2/742، مستدرك الوسائل: 1/106، الطّوسي/ تهذيب الأحكام: 2/27، الطّبرسي/ الاحتجاج: ص274، الكفعمي/ المصباح: ص511(2/631)
الشيعي وهو في قبره. روى الكليني في الكافي عن حفص قال: سمعت موسى بن جعفر يقول: الرجل أيحب البقاء في الدنيا؟ قال: نعم، فقال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو الله أحد. فسكت عنه فقال له بعد ساعة: يا حفص من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن علم في قبره ليرفع الله به من درجته، فإن درجات الجنة على قدر آيات القرآن (1) .
فالشيعي في قبره يعلم القرآن ويشتغل بقراءته فيستمر عمل الحسنات منه حتى بعد موته! وهذه فريدة من فرائدهم. فهل هذه دعوة مبطنة وحيلة أخرى لهجر القرآن وتعلمه وقراءته بانتظار حصول ذلك في القبر؟
وأول ما يسأل عنه في القبر هو حب الاثني عشر قالوا: "أول ما يسأل عنه العبد حبنا أهل البيت" (2) . فيسأله ملكان عن "من يعتقده من الأئمّة واحد بعد واحد، فإن لم يجب عن واحد منهم يضربانه بعمود من نار يمتلئ قبره نارًا إلى يوم القيامة" (3) ، وأما "إذا كان في حياته معتقدًا بهم (يعني الاثني عشر) فإنه يستطيع الرد على أسئلتهم (يعني أسئلة الملائكة) ويكون في رغد إلى يوم الحشر" (4) .
ويعتقد الشيعة بحشر بعد الموت لا يشاركهم في القول به أحد، يقول المجلسي في الاعتقادات: "يحشر الله تعالى في زمن القائم أو قبيله جماعة من المؤمنين لتقر أعينهم برؤية أئمتهم ودولتهم، وجماعة من الكافرين والمخالفين للانتقام عاجلاً في الدنيا" (5) .
أما اعتقادهم في الحشر يوم القيامة، فإن لهم فيه أقوالاً منكرة؛ ففي أخبارهم
__________
(1) أصول الكافي: 2/606، المعالم الزلفى: ص133
(2) بحار الأنوار: 27/79، عيون أخبار الرضا: ص222
(3) الاعتقادات/ للمجلسي: ص95
(4) محمد الحسيني الجلالي/ الإسلام عقيدة ودستور: ص77
(5) الاعتقادات: ص98(2/632)
أن حشر الناس يوم القيامة لا يشمل الجميع كما هو اعتقاد المسلمين، بل هناك فئة لا يشملها الحشر، ولا تتعرض لهول ذلك اليوم، ولا تقف ذلك الموقف العظيم، ولا تمر على الصراط بل ينتقلون من قبورهم إلى الجنة بلا وسائط.
أولئك هم أهل مدينة "قم"، تقول أخبارهم: "إن أهل مدينة قم يحاسبون في حفرهم ويحشون من حفرهم إلى الجنة" (1) .
وليس ذلك فحسب، بل إن أحد أبواب الجنة قد خصص - بزعمهم - لأهل "قم" عن أبي الحسن الرضا قال: "إنّ للجنّة ثمانية أبواب، ولأهل قم واحد منها فطوبى لهم ثم طوبى" (2) . و"هم خيار شيعتنا من بين سائر البلاد خمّر الله تعالى ولايتنا في طينتهم" (3) .
قال شيخهم عباس القمي (من المعاصرين) : "وقد وردت روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت في مدح قم وأهلها، وأنها فتح إليها بابًا - كذا - من أبواب الجنة" (4) .
وخصّوا (قم) بفضائل أخرى (5) ، حتى أغروا شيعتهم بشراء أرضها، وخدعوهم بقولهم: إنّ قم يبلغ من العمارة إلى أن يشترى موضع فرس بألف درهم (6) . فحاولوا التأثير عليهم من الجانب المادي، والجانب الروحي.. وقد يكون في الموضوع جانب سياسي، حيث إن قم في إيران وهي مركز الدولة الصفوية، بالإضافة إلى الهدف المقيت الذي تسعى إليه هذه الزمرة التي وضعت هذه الروايات، لإشاعة الكفر والزندقة، إبعاد الشيعة عن الإسلام، وقد تجد من
__________
(1) بحار الأنور: 60/218، عباس القمي/ الكنى والألقاب: 3/71
(2) بحار الأنوار: 60/215، سفينة البحار: 1/446
(3) بحار الأنوار: 60/216
(4) الكنى والألقاب: 3/7
(5) بحار الأنوار: 60/ 212-221
(6) بحار الأنوار: 60/215(2/633)
يساندها من شياطين الجن أيضًا، وما أسهل ذلك، لأنهم سيأتون إليهم بثوب "المهدي المنتظر" المزعوم ويضعون في دينهم ما يشاءون.
وقد زاد أحد شيوخهم المعاصرين في عدد أبواب الجنة المفتوحة على قم - كما يفترون - فذكر بأن في أخبارهم أن الرضا قال: للجنّة ثمانية أبواب فثلاثة منها لأهل قم (1) .
وجعلوا أمور الحساب، والصراط والميزان، والجنة والنار بيد الأئمة، قال أبو عبد الله: "إلينا الصّراط وإلينا الميزان وإلينا حساب شيعتنا" (2) .
وعدّ الحرّ العاملي من أصول الأئمّة الإيمان بأنّ حساب جميع الخلق يوم القيامة إلى الأئمّة (3) .
وجاءت عندهم روايات كثيرة تقول: "لا يجوز الصّراط أحد إلا ومعه ولاية من علي" (4) . أو "جواز فيه ولاية علي" (5) ، أو "كتاب فيه براءة بولاية علي" (6) .
وفي كتاب الاعتقادات لابن بابويه في "باب الاعتقاد في الصراط" قال: ".. والصراط في وجه آخر اسم حجج الله فمن عرفهم في الدنيا وأطاعهم أعطاه الله جوازًا على الصراط الذي هو جسر جهنم يوم القيامة.. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعلي: يا علي إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرائيل على الصّراط فلا يجوز على الصّراط إلا من كانت معه براءة بولايتك" (7) .
وقال بأنّ على الصّراط عقبة اسمها الولاية "يوقف جميع الخلائق عندها
__________
(1) محمد مهدي الكاظمي/ أحسن الوديعة: ص313-314
(2) رجال الكشّي: ص337
(3) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة: ص171
(4) المعالم الزّلفى: ص239
(5) بحار الأنوار: 8/68، البرهان: 4/17
(6) بحار الأنوار: 8/66
(7) الاعتقادات: ص95(2/634)
فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده فمن أتى بها نجا وجاوز، ولن لم يأت بها بقي" (1) .
وعقد المجلسي بابًا بعنوان "باب أنّه عليه السّلام قسيم الجنّة والنّار وجواز الصّراط" (2) . وعقد البحراني بابًا بنحو ذلك (3) . وساقا فيهما روايات عدة عن أساطين المذهب، وكتبهم المعتمدة عندهم.
والمعلومات التي تقدمها الاثنا عشرية في معنى أنه قسيم الجنة والنار لا تعطى إلا للخواص، ذلك أن المأمون - كما تقول أخبارهم - سأل عن معنى أن عليًا قسيم الجنة والنار فأجابه الرضا بأن حب علي إيمان وبغضه كفر فصار حينئذ قسيم الجنة والنار، ولكنه حينما لحق به أبو الصلت الهروي قال له الرضا: "إنما كلمته من حيث هو، ولقد سمعت أبي يحدث عن آبائه عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي أنت قسيم الجنّة والنّار يوم القيامة، تقول للنّار هذا لي وهذا لك" (4) .
ويقولون بأنه صاحب الجنة والنار، قالت أخبارهم: "إذا كان يوم القيامة وضع منبر يراه الخلائق يصعده رجل يقوم ملك عن يمينه وملك عن شماله، ينادي الذي عن يمينه: يا معشر الخلائق، هذا عليّ بن أبي طالب صاحب الجنّة يدخلها من يشاء، وينادي الذي عن يساره: يا معشر الخلائق، هذا عليّ بن أبي طالب صاحب النّار يدخلها من يشاء" (5) .
بل وصلوا إلى القول بأنه ديان الناس يوم القيامة، "عن المفصل بن عمر الجعفي عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
__________
(1) الاعتقادات: ص96
(2) بحار الأنوار: 39/193
(3) المعالم الزّلفى: ص 167 (باب علي قسيم الجنّة والنّار)
(4) ابن بابويه: عيون أخبار الرّضا: ص239، بحار الأنوار: 39/194
(5) بحار الأنوار: 39/200، بصائر الدّرجات: ص122(2/635)
لديّان الناس يوم القيامة.." (1) .
وهذه الجنة التي يتحدثون عنها هي قصر على الروافض لا يشاركهم فيها أحد لأنها لأئمتهم، كما أن النار التي مفاتيحها بيد الأئمة هي لأعدائهم، قالوا: "إنما خلقت الجنة لأهل البيت، والنار لمن عاداهم" (2) . ولكنهم ينسون هذا ويقولون بأن "الشيعة يدخلون الجنة قبل سائر الناس من الأمم بثمانين عامًا" (3) .
ومن أصولهم "أن الناس يدعون بأسماء أمهاتهم يوم القيامة إلا الشيعة فيدعون بأسماء آبائهم" (4) .
هذا ويعتقدون بجنة غير جنة الخلد، يسمونها جنة الدنيا، وكذلك بنار يعذب بها الناس غير نار الآخرة. يقول المجلسي: "ويجب أن يعتقد أن لله تعالى في الدنيا جنة ونارًا سوى جنة الخلد ونار الخلد" (5) ، وأهل القبور قد ينتقلون إليهما، وذلك أنهم "بعد السؤال وضغطة القبر ينتقلون إلى أجسادهم المثالية فقد يكونون على قبورهم، ويطلعون على زوارهم، وقد ينتقلون إلى النجف" (6) .
ومزاعمهم في هذا الباب يصعب حصرها.. بدع كثيرة منكرة.. وما ذكرته مجرد إشارات لو قمنا باستعراض نصوصها وتحليلها لاستغرق ذلك صفحات كثيرة.
__________
(1) بحار الأنوار: 39/200، بصائر الدّرجات: ص122، وانظر: تفسير فرات: ص13
(2) المعالم الزلفى: ص251
(3) المعالم الزلفى: ص 255، وانظر بمعنى هذا الخبر: ابن قولويه/ كامل الزيارات: ص137، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 10/331
(4) الفصول المهمة في أصول الأئمة: ص124
(5) الاعتقادات للمجلسي: ص98، ويقول بأنها هي جنة آدم (الفصول المهمة في أصول الأئمة: ص124.) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد، ومن قال: إنها جنة في الأرض فهو من المتفلسفة والملحدين، أو من إخوانهم المبتدعين، فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة. (الفتاوى: 4/347)
(6) الاعتقادات للمجلسي: ص97(2/636)
وكلها بدع ليس عليها من كتاب الله برهان، وليس لها في كتب الأمة شاهد ولا خبر.. ويكفي في بيان وضعها، ومعرفة كذبها مجرد عرضها.. فهم جعلوا الآخرة للأئمة والله سبحانه يقول: {فَلِلَّهِ الآَخِرَةُ وَالأُولَى} (1) . وما أشبه قولهم هذا بمزاعم يهود في قولهم إن الآخرة لهم. قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ} (2) .
كما جعلوا للأئمة الحكم والأمر في يوم القيامة والله جل شأنه يقول: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
وقالوا بأن الجنة لهم كما قال اليهود: {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) .
ونقول لهم في كل مزاعمهم التي مرت: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} بل أنتم بش كسائر البشر، وما تدعونه إنما هو كيد عاجز، وصنعة حاقد، وتدبير زنديق، وبين أيدينا كتاب الله سبحانه لم يدع لهذه التخرصات والأوهام سبيلاً إلى قلب من احتكم إليه وجعله إمامه وقائده.
وأما من أغلق عقله، وأخذته العزة بالإثم، وأعمى تفكيره التعصب فسيجد مغبة ذلك في يوم {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (5) .
__________
(1) النجم، آية:25
(2) البقرة، آية: 94-95
(3) القصص، آية: 70
(4) البقرة، آية: 111-112
(5) البقرة، آية: 123(2/637)
الإيمان بالقدر:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بأن "قدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر، وإنما شاع فيهم نفي القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة" (1) .
وهذا كان في أواخر المائة الثالثة، وكثر بينهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه (2) .
كما أن "سائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر" (3) .
ويذكر الأشعري أن الرافضة في أفعال العباد ثلاثة فرق: فرقة يقولون بأن أعمال العباد مخلوقة لله، وأخرى تقابلها فتنفي أن تكون أعمال العباد مخلوقة لله، وثالثة تتوسط وتقول: لا جبر كما قال الجهمي، ولا تفويض كما قال المعتزلة؛ لأن الرواية عن الأئمة - كما زعموا - جاءت بذلك، ولم يتكلفوا أن يقولوا في أعمال العباد هل هي مخلوقة أو لا شيئًا (4) .
واعتبر شيخ الإسلام هذه الطائفة متوقفة بينما الأولى مثبتة والثانية نافية (5) ، ولا يذكر صاحب التحفة الاثني عشرية عن الإمامية إلا قولهم: "إن العبد يخلق فعله" (6) .
هذا ما تقوله مصادر أهل السنة.
وبالرجوع إلى مصادر الشيعة يتبين ما يلي:
نرى ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق، يقول في عقائده التي
__________
(1) منهاج السنة: 2/29
(2) منهاج السنة: 1/229
(3) منهاج السنة: 2/29
(4) مقالات الإسلاميين: 1/114، 115
(5) منهاج السنة: 1/286
(6) مختصر التحفة: ص90(2/638)
سجلها على أنها تمثل عقائد الشيعة واشتهرت باسم عقائد الصدوق يقول: "اعتقادنا في أفعال العباد أنها مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل الله عالمًا بمقاديرها" (1) .
وهذا فيه إثبات علم الله عز وجل بأعمال العباد فقط لا إثبات عموم مشيئته سبحانه، وهو لا يقتضي أن الله خالق أفعال العباد، ومع ذلك فقد تعقبه شيخهم المفيد فقال: "الصحيح عن آل محمد صلى الله عليه وسلم أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، والذي ذكره أبو جعفر قد جاء به حديث غير معمول به، ولا مرضي الإسناد، والأخبار الصحيحة بخلافه، وليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشيء هو خلق له" (2) .
ثم قال: "وقد روي عن أبي الحسن أنه سئل عن أفعال العباد فقيل له: هل هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال عليه السلام: لو كان خالقًا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم" (3) .
ويبدو في هذا الاستدلال الذي عزاه مفيدهم إلى الرضا التكلف الواضح، فبراءة الله عز وجل من المشركين لعدم رضاه سبحانه عن عملهم، ولا ينفي هذا قدرة الله سبحانه ومشيئته الشاملة النافذة، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ} (4) . وجاء في رواياتهم ما ينقض هذا ويتفق مع الحق، حيث قالوا: "ما خلال الله فهو مخلوق، والله خالق كل شيء" (5) .
ثم إن المفيد يذهب إلى معنى أن العباد خالقون لأفعالهم، لكنه لا يستحسن هذا التعبير فيقول: "أقول: إن الخلق يفعلون، ويحدثون ويخترعون ويصنعون
__________
(1) عقائد الصدوق: ص75
(2) شرح عقائد الصدوق: ص12
(3) شرح عقائد الصدوق: ص13
(4) الأنعام، آية: 107
(5) الحر العاملي/ الفصول المهمة: ص35(2/639)
ويكتسبون، ولا أطلق القول عليهم بأنهم يخلقون ولا هم خالقون، ولا أتعدى ذكر ذلك فيما ذكره الله تعالى ولا أتجاوز به مواضعه من القرآن، وعلى هذا القول إجماع الإمامية والزيدية والبغداديين من المعتزلة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث، وخالف فيه البصريون من المعتزلة وأطلقوا على العباد أنهم خالقون فخرجوا بذلك عن إجماع المسلمين" (1) .
فهو يلتزم - كما يزعم - منهج القرآن؛ لأنه سماهم فاعلين وعاملين ولم يسمهم خالقين، غير أن إجماع طائفته لم يستمر - إن كان قد حصل - إذ إن طائفة من شيوخهم سلكوا مسلك معتزلة البصرة في إطلاق لفظ "الخلق" (2) . والفرق اللفظي بينهم وبين معتزلة البصرة قد توارى فيما بعد على يد ثلة من أساطين المذهب.
فقد عقد شيخهم الحرّ العاملي (ت1104هـ) صاحب الشيعة في كتابه الذي يتحدث فيه عن أصول أئمته عقد بابًا بعنوان "باب أنّ الله سبحانه
__________
(1) أوائل المقالات: ص25
(2) وقالوا بأنه قيل لأبي الحسن: هل غير الخالق الجليل خالق؟ قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} المؤمنون، آية: 14.... إن في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسى عليه السلام خلق من الطين كهيئة الطير (الفصول المهمة ص81) ، ومثل هذا التوجيه نسب لبعض السلف حيث قال ابن جريج: إنما جمع الخالقين؛ لأن عيسى كان يخلق كما قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ} فأخبر الله عن نفسه أنه أحسن الخالقين (تفسير الطبري: 12/11، تفسير البغوي: 3/304) ، ولكن عيسى عليه السلام إنما كان يخلق بإذن الله فلا خالق مع الله، ولذلك فإن أكثر أهل العلم قال: إن الخلق بمعنى التقدير كما يدل على ذلك لغة العرب، وقال مجاهد: يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين (تفسير البغوي 3/304) .
قال ابن جرير الطبري - بعد أن ذكر قول ابن جريج وقول مجاهد -: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد؛ لأن العرب تسمي كل صانع خالقًا" (انظر: تفسير الطبري 12/11) .
والقضية عند هؤلاء الروافض ليست في إطلاق اللفظ الذي له معنى في اللغة غير الإيجاد، ولكن في قولهم بأن العبد هو الذي يخلق فعله، كما أن توجيه إمامهم بأن عيسى يخلق ليس بدليل لهم في قولهم إن كل إنسان يخلق فعله؛ لأن ذلك معجزة لعيسى بأمر الله، وورد به النص {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم} وهم يعممون إطلاق اللفظ(2/640)
خالق كلّ شيء إلا أفعال العباد" (1) ، وقال: "أقول: مذهب الإماميّة والمعتزلة أنّ أفعال العباد صادرة عنهم وهم خالقون لها" (2) .
وكذلك قال شيخهم الطبطبائي: "ذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أن أفعال العباد وحركاتهم واقعة بقدرتهم واختيارهم فهم خالقون لها، وما في الايات من أنه تعالى خالق كل شيء وأمثالها إما مخصص بما سوى أفعال العباد، أو مؤول بأن المعنى أنه خالق كل شيء إما بلا واسطة أو بواسطة مخلوقاته" (3) .
وقال القزويني: "وأفعال العباد مخلوقة لهم" (4) .
وغير هؤلاء كثير (5) . وهو كما ترى عين مذهب أهل الاعتزال، فهل مقالة هؤلاء طارئة على المذهب الشيعي كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وإن قدماء الشيعة لم يكونوا على هذا المعتقد، أو أن هذا هو مذهب الأقدمين ومن بعدهم؟
لعل أفضل مرجع يرجع إليه لاستقراء هذه الحقيقة هو كتب الحديث عند الشيعة.
وقد رجعت إلى مصادر الشيعة المعتمدة في الرواية وبالذات إلى مراجعها الرئيسة؛ فرأيت مجموعة كبيرة من الروايات تخالف ما هو شائع عن مذهب الشيعة
__________
(1) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة: ص80
(2) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة: ص81
(3) مجالس الموحدين في بيان أصول الدين/ محمد صادق الطبطبائيك ص21
(4) قلائد الخرائد: ص60
(5) مثل ابن المطهر الحلي في كتابه نهج المسترشدين: ص52، حيث قال: البحث الرابع: في خلق الأعمال، وقرر أن هذا مذهب طائفته ومذهب المعتزلة، ومثل ذلك صرح في كتابه "الباب الحادي عشر" (مع شرحه للمقداد) ص32، وكتابه: كشف المراد ص332، وكذلك شيخ الشيعة المجلسي صاحب البحار قال: "وذهبت الإمامية والمعتزلة إلى أن أفعال العباد وحركاتهم واقعة بقدرتهم واختيارهم فهم خالقون لها". (بحار الأنوار: 4/148) ، والمقداد الحلي (انظر: النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر: ص32-33)(2/641)
من القول بمذهب المعتزلة في أفعال العباد، وتعارض ما قرره طائفة من شيوخهم في هذه المسألة من الأخذ بمسلك أهل الاعتزال، كما سبق ذكر بعض شواهده من أقوال المفيد، وابن المطهر، والحر العاملي وأضرابهم مما سجلوه في كتب العقيدة التي كتبوها لتعبر عن مذهب الشيعة.
فمن رواياتهم التي وصفنا:
"قال أبو جعفر وأبو عبد الله» : إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرًا فلا يكون، قال: فسئلا عليهما السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قال: نعم أوسع ما بين السماء والأرض" (1) .
يعني أن بين القول بالجبر والقول بنفي القدر منزلة ثالثة وسط.
وجاءت عندهم مجموعة من الروايات تقول بأن مذهبهم في القدر هو أمر بين الأمرين لا جبر ولا تفويض (2) .
ولهذا قال المجلسي: "اعلم أنّ الذي استفاض عن الأئمّة هو نفي الجبر والتّفويض وإثبات مر بين الأمرين" (3) .
ونفي الجبر واضح القصد وهو الخروج عن مذهب الجبرية، ولكن ماذا يريدون بالتفويض؟
يقول المجلسي: "وأما التفويض فهو ما ذهب إليه المعتزلة من أنه تعالى أوجد العباد، وأقدرهم على تلك الأفعال وفوض إليهم الاختيار، فهم مستقلون بإيجادها وفق مشيئتهم وقدرتهم وليس لله في أفعالهم صنع" (4) .
__________
(1) أصول الكافي: 1/159
(2) انظر: أصول الكافي/ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين: 1/155، وانظر: بحار الأنوار: 5/22، 56، الفصول المهمة: ص72
(3) بحار الأنوار: 5/82
(4) بحار الأنوار: 5/83(2/642)
كذلك عندهم روايات أخرى تنتقد مذهب المعتزلة، وتشنع على القائلين به، فهو رد على الشيعة نفسها في سلوكها مسلك المعتزلة، جاء في تفسير القمي - في التشنيع على القدرية نفاة القدر من المعتزلة ومن نهج سبيلهم - قول إمامهم: "القدرة الذين يقولون لا قدر، ويزعمون أنهم قادرون على الهدى والضلالة، وذلك إليهم إن شاءوا اهتدوا، وإن شاءوا ضلوا، وهم مجوس هذه الأمة، وكذب أعداء الله؛ المشيئة والقدرة لله {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ} (1) . من خلقه الله شقيًا يوم خلقه كذلك يعود إليه شقيًا، ومن خلقه سعيدًا يوم خلقه كذلك يعود إليه سعيدًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه" (2) .
وقال أبو عبد الله: "إنك لتسأل عن كلام أهل القدر وما هو من ديني ولا دين آبائي ولا وجدت أحدًا من أهل بيتي يقول به" (3) .
وقال: "ويح هذه القدرية أما يقرأون هذه الآية: {إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} ويحهم من قدّرها إلا الله تبارك وتعالى" (4) . وغيرها كثير (5) .
هذه الروايات تعبر عن مذهب الأئمة في إثبات القدر، وقد تشير إلى ما عليه قدماء الشيعة من الإثبات، وقد أعرض عن هذه الروايات الشيعة المتأخرون بلا دليل سوى تقليد أهل الاعتزال، وأغمضوا النظر عما يعارض ذلك من روايات كثيرة عندهم، بل إن الشيعة جعلوا من أصولهم العدل كالمعتزلة سواءً بسواء. وهذه الكلمة في ظاهرها لفظ جميل، ولكنها تخفي وراءها معنىً خطيرًا، وهو إنكار قدر الله عز وجل.
__________
(1) الأعراف، آية: 29، 30
(2) تفسير القمر: 1/226-227، بحار الأنوار: 5/9
(3) بحار الأنوار: 5/56، البرهان: 1/398
(4) بحار الأنوار: 5/56
(5) انظر: بحار الأنوار، 5/116 وما بعدها رقم 49، 50، 51، 52، 53، 54، 57، 58، 59، 60، 61، 69، وغيرها(2/643)
قال أحد شيوخهم: "أمّا الإماميّة فالعدل من أركان الإيمان عندهم بل ومن أصول الإسلام" (1) .
مع أن أقوال الأئمة - كما أثبتته كتبهم المعتمدة عندهم - لا تصرح بنفي القدر في أكثر رواياتهم - كما مضى - بل تهاجم المعتزلة وتنتقد مذهبها في القدر، كما تقرر جملة أن الحق ليس مع المعتزلة القدرية، ولا مع الجبرية بل الحق منزلة أخرى ثالثة، وهذا حق، ولكن تفسير هذه المنزلة، أو الأمر بين الأمرين ما هو؟
لقد أحجمت بعض رواياتهم عن تفيسر هذا واكتفت بإطلاق هذا القول. ولما سئل أبو عبد الله عن معناه لم يجب وقالت رواياتهم في وصف موقفه من هذا السؤال: "فقلب يده مرتين أو ثلاثًا ثم قال: لو أجبتك فيه لكفرت" (2) .
وقد حمل بعض شيوخهم هذا الموقف من "جعفر" على التقية "لأنه - بزعمهم - كان يعلم أنه لا يدركه عقل السائل فيشك فيه أو يجحده فيكفر" (3) .
ولعل هذا التوقف هو ما أشار إليه الأشعري من أنه أحد مذاهب الرافضة الثلاثة. كما أن المذهب الأول قد جاء على لسان شيخهم المفيد في قوله: "إن أفعال العباد غير مخلوقة لله" (4) . وقد لوحظ أن المذهب الثالث وهو الإثبات قد نطقت به طائفة من رواياتهم، فأنت ترى أن المذاهب الثلاثة للرافضة التي أشار إليها الأشعري في مقالاته قد وجدت كلها ضمن مقالات الاثني عشرية ورواياتهم.
وذكر صدوقهم في عقائده رواية تفسر قولهم بالأمر بين الأمرين؛ حيث
__________
(1) هاشم معروف/ الشّيعة بين الأشاعرة والمعتزلة: ص240، عبد الأمير قبلان/ عقيدة المؤمن: ص43
(2) ابن بابويه/ التوحيد: ص363، بحار الأنوار: 5/53، وجاءت روايات أخر شبيهة بهذا منها ما يقول بأن ذلك "سر من أسرار الله". (بحار الأنوار: 5/116) أو "أن بينهما ما بين السماء والأرض" (المصدر السابق 5/116) ، وما ماثل ذلك
(3) المجلسي/ بحار الأنوار: 5/53-54
(4) شرح عقائد الصدوق: ص10-12(2/644)
قال: قيل لأبي عبد الله: "ما أمر بين الأمرين؟ فقال: ذلك مثل رجل رأيته على المعصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لا يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية" (1) .
فهو هنا يفسر القدر بالأمر والنهي فحسب.. وهو لا يكفي في بيان المذهب الحق في القدر.. إذ كان الله سبحانه لا سلطان له على العبد إلا أمره أو نهيه.
ولكن نجد من شيوخهم من فسر ذلك بمقتضى مذهب أهل السنة وقال بما جاء في رواياتهم من الإثبات، وأعرض عما قاله طائفة من شيوخه وجعل ذلك هو معتقد طائفته فقال بعدما ذكر ضلال الجبرية فيما ذهبوا إليه ,ان من قال بقولهم فقد نسب الظلم إليه تعالى عن ذلك، وضلال القدرية فيما أخذوا به من نفي القدر، وأن من قال بذلك فقد أشرك مع الله غيره في الخلق - قال: «واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار عليهم السلام من الأمر بين الأمرين والطريق الوسط بين القولين.. فقد قال إمامنا الصادق عليه السلام لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين".
ما أجمل هذا المغزى، وما أدق معناه وخلاصته: "أن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا على المعاصي، لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والأمر وهو قادر على كل شيء ومحيط بالعباد" (2) .
وهذه الكلمات لا تخالف ما قاله أهل السنة في باب أفعال العباد، وهي
__________
(1) عقائد الصدوق: ص75
(2) المظفر/ عقائد الإمامية: ص67-68، وقريب من ذلك ما ذكره شيخهم الزنجاني/ في عقائد الشيعة الإمامية الاثني عشرية: 3/175-176(2/645)
تفيد أن من شيوخ الشيعة المتأخرين من يذهب إلى ما ذهب إليه أوائلهم، وما قررته معظم رواياتهم إذا لم يكن قد جعل لكلماته ضربًا من التأويل أو لونًا من الاتقاء فذاك علمه عند الله.
وهذا لا ينفي أن شيوخ المذهب وأساطين الطّائفة قد ذهبوا في الغالب إلى ما ذهب إليه أهل الاعتزال.
ويمكن أن يقال: قد كان في القديم الإثبات هو الأصل والنفي طارئ نتيجة التأثر بالاتجاه الاعتزالي، وعند المتأخرين النفي هو الكثير الغالب، والإثبات موجود عند البعض.
ولا شك بأن من قال بالنفي فقد قال بجزء من الأدلة وعطل الباقي، ومن قال بالجبر فقد عمل بالجزء الآخر وعطل ما سواه، ومن أخذ بالقول الوسط فقد أعمل الأدلة كلها، وآيات القرآن أثبتت للعبد فعلاً وقدرة ومشيئة، ولكنها تابعة لقدرة الله ومشيئته، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ} (1) .
قال شيخ الإسلام:
"فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون: إن العبد له قدرة وإرادة وفعل، والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة" ثم ساق الأدلة في ذلك (2) .
والروايات الكثيرة عند الرافضة - والتي مضى بعضها - هي أكبر شاهد من مذهبهم نفسه على بطلان ما ذهب إليه شيوخهم من الأخذ بمذهب أهل
__________
(1) الإنسان، آية: 30، التكوير، آية: 29
(2) انظر: منهاج السنة: 1/20-21(2/646)
الاعتزال (1) .
__________
(1) ولتفصيل القول في القدر، ونقض شبهات المعتزلة ومن قلدهم من الرافضة انظر: منهاج السنة النبوية: 1/39-45، 285، 356 وما بعدها. وج/2 وما بعدها، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج، وفي مواضع متفرقة أخرى راجع المجلد 36 ص143-153، وانظر شرح الطحاوية ص217 وما بعدها، 347-352، وراجع رسالة الشيخ عبد الرحمن المحمود/ القضاء والقدر(2/647)
الباب الثالث: أصولهم ومعتقداتهم (الأخرى) التي تفردوا بها
وفيه ثمانية فصول:
الفصل الأول: الإمامة.
الفصل الثاني: عصمة الإمام.
الفصل الثالث: التقية.
الفصل الرابع: المهدية والغيبة.
الفصل الخامس: الرجعة.
الفصل السادس: الظهور.
الفصل السابع: البداء.
الفصل الثامن: الطينة.(2/649)
الفصل الأول: الإمامة
الإمامة عند الشيعة هي الأصل الذي تدور عليه أحاديثهم وترجع إليه عقائدهم، وتلمس أثره في فقههم وأصولهم، وتفاسيرهم وسائر علومهم.
ولقد اهتم الشيعة بأمرها في القديم والحديث.
وفيما يلي عرض لأهم جوانبها: مفهومها، ومنشئها، ومنزلتها في مذهبهم، وكتمانهم لها في بادئ الأمر، ثم بدء شيوخ الشيعة في الاستدلال عليها، وعرض لما يعدونه أقوى أدلتهم فيها ومناقشته، ثم حديث عن تكفيرهم لمنكرها، حتى كفروا الصحابة، وأهل البيت، وحكام المسلمين، وقضاتهم، والأمصار الإسلامية وشعوبها، والفرق الإسلامية بكل اتجاهاتها، والأمة جميعًا، كل ذلك على سبيل التعيين والتخصيص.
وسيتبين هذا في الصفحات التالية، ومن خلال ما قالته كتبهم المعتمدة عندهم.(2/653)
مفهوم الإمامة (1) عند الشيعة ومنشؤها:
لعل أول من تحدث عن مفهوم الإمامة بالصورة الموجودة عند الشيعة هو ابن سبأ، الذي بدأ يشيع القول بأن الإمامة هي وصاية من النبي، ومحصورة بالوصي، وإذا تولاها سواه يجب البراءة منه وتكفيره، فقد اعترف كتب الشّيعة بأنّ ابن سبأ "كان أوّل من أشهر القول بفرض إمامة عليّ، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفّرهم" (2) . لأنه كان يهودي الأصل، يرى أن يوشع بن نون هو وصي موسى، فلما أسلم أظهر هذه المقالة في علي بن أبي طالب (3) .
وهذا ما تواضع عليه شيوخ الشيعة، فابن بابويه القمي يسجّل عقائد الشّيعة في القرن الرّابع ويقول بأنّهم: "يعتقدون بأنّ لكلّ نبي وصيًّا أوصى إليه بأمر الله تعالى" (4) . ويذكر أن عدد الأوصياء "مائة ألف وصي، وأربعة وعشرون ألف وصي" (5) ، كما يذكر المجلسي في أخباره "أن عليًا هو آخر الأوصياء" (6) ، وجاء
__________
(1) الإمامة، في اللغة: التقدم، تقول: أمّ القوم، وأمّ بهم تقدمهم وهي الإمامة، والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم، أو كانوا ضالين، ويطلق الإمام على الخليفة، وعلى العالم المقتدى به، وعلى من يؤتم به في الصلاة (انظر: اللسان، والقاموس، والمصباح، مادة: أمّ، وراجع في تعريف الإمامة عند أهل السنة: الأحكام السلطانية للماوردي: ص5، مقدمة ابن خلدون: 2/516-518)
(2) رجال الكشّي: ص 108-109، القمّي/ المقالات والفِرَق: ص20، النّوبختي/ فِرَق الشّيعة ص22، الرّازي/ الزّينة: ص305، وانظر: المِلَل والنِّحَل: 1/174، حيث قال الشّهرستاني عن ابن سبأ: "وهو أوّل من أظهر القول بالنّصّ على إمامة عليّ رضي الله عنه"
(3) رجال الكشّي: ص 108-109، القمّي/ المقالات والفِرَق: ص20، النّوبختي/ فِرَق الشّيعة ص22، الرّازي/ الزّينة: ص305، وانظر: المِلَل والنِّحَل: 1/174
(4) عقائد الصّدوق: ص106
(5) عقائد الصدوق: ص106
(6) بحار الأنوار: 39/ 342، ومعنى هذا أنّه لا وصيّ بعد عليّ، وأنّ إمامة من بعده باطلة، لأنّهم ليسوا بأوصياء، وهذا ينقض مذهب الاثني عشريّة من أصله(2/654)
في بعض عناوين الأبواب في الكافي "باب أن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود من واحد إلى واحد" (1) . و"باب ما نص الله عز وجل ورسوله على الأئمة واحدًا فواحدًا" (2) . وقد ضمنها مجموعة من أخبارهم التي يعدونها من الأدلة التي لا يرقى إليها الشك. ولهذا قال شيخهم مقدار الحلي (ت821) بأن مستحق الإمامة عندهم لابد أن "يكون شخصًا معهودًا من الله تعالى ورسوله لا أي شخص اتفق" (3) .
ويقرّر محمد حسين آل كاشف الغطا أحد مراجع الشيعة في هذا العصر: "أنّ الإمامة منصب إلهي كالنّبوّة، فكما أنّ الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنّبوّة والرّسالة ويؤيّد بالمعجزة التي هي كنصّ من الله عليه.. فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيّه بالنّصّ عليه وأن ينصبه إمامًا للنّاس من بعده" (4) .
فأنت ترى أن مفهوم الإمامة عندهم كمفهوم النّبوّة، فكما يصطفي الله سبحانه من خلقه أنبياء، يختار سبحانه أئمّة، وينصّ عليهم، ويعلم الخلق بهم، ويقيم بهم الحجّة، ويؤيّدهم بالمعجزات، وينزّل عليهم الكتاب، ويُوحي إليهم، ولا يقولون أو يفعلون إلا بأمر الله ووحيه.. أي إنّ الإمامة هي النّبوّة، والإمام هو النّبيّ، والتّغيير في الاسم فقط. ولذلك قال المجلسي: "إنّ استنباط الفرق بين النّبيّ والإمام من تلك الأخبار لا يخلو من إشكال" (5) ، ثم قال: "ولا نعرف جهة لعدم اتّصافهم بالنّبوّة إلا رعاية خاتم الأنبياء، ولا يصل عقولنا فرق بين النّبوّة والإمامة" (6) .
هذا قولهم في مفهوم الإمامة، ويكفي في نقده أنه لا سند لهم فيه إلا ابن سبأ واليهودية.
__________
(1) أصول الكافي: 1/227
(2) أصول الكافي: 1/286
(3) النافع يوم الحشر: ص47
(4) أصل الشّيعة وأصولها: ص58
(5) بحار الأنوار: 26/82
(6) بحار الأنوار: 26/82(2/655)
منزلة الإمامة عندهم:
مسألة الإمامة عند أهل السنة ليست من أصول الدين التي لا يسع المكلف الجهل بها، كما قرره جمع من أهل العلم (1) . ولكنها عند الشيعة (بمفهومها السبئي) لها شأن آخر، فالنوبختي يذكر بأن من فرق الشيعة من يذهب إلى أن الإمامة من أجل الأمور بعد النبوة (2) ، ولكنها عند آل كاشف الغطاء: "منصب إلهي كالنبوة" (3) . وفي أحاديث الكليني في الكافي تعلو على مرتبة النبوة (4) ، وهذا ما يجاهر به جملة من شيوخهم. قال شيخهم نعمة الله الجزائري: "الإمامة العامّة التي هي فوق درجة النّبوّة والرّسالة.." (5) .
وقال هادي الطّهراني - أحد مراجعهم وآياتهم في هذا العصر -: "الإمام أجلّ من النّبوّة، فإنّها مرتبة ثالثة شرّف الله تعالى بها إبراهيم بعد النّبوّة والخلة.." (6) .
وفي الكافي روايات تجعل الإمامة أعظم أركان الإسلام.
روى الكليني بسنده عن أبي جعفر قال: "بني الإسلام على خمس: على الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ النّاس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية -" (7) .
__________
(1) انظر: الآمدي/ غاية المرام: ص363، الغزالي/ الاقتصاد: ص134، مقدمة ابن خلدون: 3/1080
(2) فرق الشيعة: ص19
(3) أصل الشيعة: ص58
(4) انظر: أصول الكافي: 1/175
(5) زهر الرّبيع: ص12
(6) ودايع النّبوّة: ص114
(7) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام: 2/18، رقم 3، قال في شرح الكافي في بيان درجة هذا الحديث عندهم: "موثق كالصّحيح" فهو معتبر عندهم. (الشّافي شرح الكافي: 5/28 رقم1487)(2/656)
فأنت ترى أنهم أسقطوا الشّهادتين من أركان الإسلام، ووضعوا مكانهما الولاية، وعدوها من أعظم الأركان، كما يدل عليه قولهم: "ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية" وكما يدل عليه حديثهم الآخر.
وقد ذكر فيه نص الرواية السابقة وزاد: "قلت (الراوي) : وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل" (1) . ورواية ثالثة بنحو الرواية الأولى، مع زيادة تقول: "فرخص لهم في أشياء من الفرائض الأربع (2) .
حتى قالوا في أخبارهم أيضًا بأنه: "عرج بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم السّماء مائة وعشرين مرّة، ما من مرّة إلا وقد أوصى الله عزّ وجلّ فيها إلى النّبيّ بالولاية لعليّ والأئمّة من بعده أكثر ممّا أوصاه بالفرائض" (3) . "وما وكّد على العباد في شيء ما وكد عليهم بالإقرار بالإمامة، وما جحد العباد شيئًا ما جحدوها" (4) .
وبهذا الضلال يهذي شيوخهم، قال أحد مراجعهم في هذا العصر: "إن أعظم ما بعث الله تعالى نبيه من الدين إنما هو أمر الإمامة" (5) .
هذه منزلة إمامة الاثني عشر عندهم، وما أدري أين سند هذه المنزلة المزعومة، وكتاب الإسلام العظيم - كتاب الله - تذكر فيه مرات، وتؤكد كرات أركان الإسلام: الشهادتان، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج ولا ذكر فيه لشأن ولاية أئمتهم؟!
__________
(1) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب دعائم الإسلام: 2/18، وهو حديث صحيح السند حسب ما صرح به شيوخهم (انظر: الشافي: 5/59) وقد ورد حديثهم هذا في: تفسير العياشي: 1/191، البرهان: 1/303، بحار الأنوار: 1/394
(2) قال المجلسي: قوله: فرخص لهم في أشياء؛ كقصر الصلاة في السفر، وترك الصيام في السفر والمرض، والحج والزكاة مع عدم الاستطاعة" (مرآة العقول: 4/369)
(3) ابن بابويه/ الخصال: ص600-601، بحار الأنوار: 23/69
(4) الحميري/ قرب الإسناد: ص123، بحار الأنوار: 23/69
(5) هادي الطهراني/ ودايع النبوة: ص115، وانظر في هذا المعنى: محمد حسين آل كاشف الغطا/ راسالة عين الميزان: ص4(2/657)
سرية هذا المبدأ:
وكانت مسألة الإمامة بمفهوم الشيعة تعني أن هناك خلية سرية وضعت لأتباعها هذا المبدأ لتعمل على تقويض أركان الخلافة الإسلامية.. ولذلك فإنها ما إن كشفت هذا الوجه في عهد الخلافة الراشدة.. حتى وقف منها أمير المؤمنين عليّ موقفًا حازمًا وصارمًا.. فتعقب ابن سبأ ونفاه إلى المدائن، ونفى ما حاول إشاعته من أفكار في المجتمع الإسلامي.. كما تعترف بذلك كتب الشيعة نفسها (1) .
فعادت هذه الخلية تدعو لهذا المبدأ في سرية تامة، وكانت تقول في عصر علي الرضا كما يظهر من إسناد النص إليه، تقول: "ولاية الله أسرها إلى جبرائيل، وأسرها جبرائيل إلى محمد، وأسرها محمد إلى عليّ، وأسرها علي إلى من شاء الله، ثم أنتم تذيعون ذلك، من الذي أمسك حرفًا سمعه؟ " (2) .
قال أبو جعفر رضي الله عنه: "في حكمة آل داود ينبغي للمسلم أن يكون مالكًا لنفسه مقبلاً على شأنه عارفًا بأهل زمانه، فاتقوا الله، ولا تذيعوا حديثنا" (3) .
فهذا النص يشير إلى أن الولاية من الأسرار في أصل التنزيل الإلهي ويحذر من إظهار الحديث عنها.. أي إنه في العهد الإسلامي الزاهر المتقدم لا صوت مسموعًا للولاية وشأنها.. ويعلل شارح الكافي ذلك بقوله: "لما كانت التقية شديدة في عصرهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بكتمان أسرارهم وإمامتهم وأحاديثهم وأحكامهم المختصة بمذهبهم..". (4) .
__________
(1) انظر: القمي/ المقالات والفرق: ص20، النوبختي/ فرق الشيعة: ص22-23، وفي رجال الكشي: ص107: أن عليًا قتله
(2) أي لم يوجد أحد أمسك كلامًا سمعه (المازندراني/ شرح جامع: 9/123)
(3) أصول الكافي: 2/224
(4) المازندراني/ شرح جامع: 9/118(2/658)
وعند حديث الكليني الذي يقول: ".. ولا تبثّوا سرّنا، ولا تذيعوا أمرنا" (1) . قال شارح الكافي: "وهو أمر الإمامة والخلافة.." (2) . وقال عند حديث آخر يسندونه لجعفر ويقول: "المذيع حديثنا كالجاحد له" (3) . قال: "واعلم أنّه عليه السّلام كان خائفًا من أعداء الدّين على نفسه المقدّسة وعلى شيعته، وكان في تقية شديدة منهم فلذلك نهى عن إذاعة خبر دالّ على إمامته أو إمامة آبائه" (4) .
وكان هناك ميثاق دائم بينهم على الكتمان، قالوا: "إنّ أمرنا مستور مقنّع بالميثاق (5) . فمن هتك علينا أذلّه الله" (6) .
وتحدد بعض نصوصهم بدء إذاعة أمر الولاية بأنه كان على يد طائفة الكيسانية فتقول: "ما زال سرنا مكتومًا حتى صار في يد ولد كيسان (7) . فتحدثوا به في الطريق وقرى السواد" (8) .
وهذه الخلية التي وضعت الخطوط الأساسية لأمر الولاية على وفق المنهج السبئي لا تنسى أن توصي أتباعها بأن يتستروا بالاتجاه الشيعي المعتدل لنشر فكرتهم بين الناس، فقد جاء في أصول الكافي: "كفوا ألسنتكم والزموا بيوتكم فإنه لا يصيبكم أمر تخصون به أبدًا، ولا تزال الزيدية لكم وقاء أبدًا" (9) .
__________
(1) أصول الكافي: 2/222
(2) المازندراني/ شرح جامع: 9/119
(3) أصول الكافي: 2/224
(4) شرح جامع: 10/26
(5) علّق مُصحّح الكافي عند هذا فقال: "أي بالعهد الذي أخذه الله ورسوله على الأئمّة عليهم السّلام أن يكتموه من غير أهله" (أصول الكافي: 2/227، هامش رقم (1)
(6) أصول الكافي: 2/227
(7) كيسان: لقب المختار بن أبي عبيد المنسوب إليه الكيسانية. (شرح جامع: 9/121-122)
(8) أصول الكافي: 2/223
(9) أصول الكافي: 2/225(2/659)
ويحتمل أن المراد أن الزيدية لإظهارها طلب الولاية هي التي يوقع بها وتسلمون أنتم لالتزامكم بالتقية كما أشار إليه شارح الكافي (1) .
وإذا كانت الولاية صنو النّبوّة أو أعظم فلماذا تكون سرّيّة مُحاطة بالكتمان، حتى إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أمره الله أن يبلّغ ما أنزل الله - يخفي أمرها ويسرّها إلى عليّ، ثم يسرّها عليّ إلى من شاء؟!
ولا تحدد هذه الرواية الأشخاص الذين أسرها عليّ إليهم.. وتترك الأمر لمشيئته يختار ما يريد، أما غير علي فلا خيرة له في الاختيار! فكيف تكون الولاية التي هي أصل النجاة عندهم، وأساس قبول الأعمال، والفيصل بين الإيمان والكفر كيف تظل سرية حتى يتولى نشرها ولد كيسان؟! ويعدون ذلك خروجًا عن الأصل المأمور به.
إن هذه النصوص تدل على أن واضعي هذه الفكرة هم من أعداء الأمة، واستغلوا هذه المسألة لتنفيذ أغراضهم، ولذلك أحاطوها بجو من السرية والكتمان، ونسبوها لآل البيت، لتجد طريقها إلى قلوب الناس الذين آلمهم ما جرى من أحداث على بعض علماء أهل البيت، والتي كانت هذه الزمر الحاقدة المدعية للتشيع أحد أسبابها الرئيسة.
حصر الأئمة بعدد معين:
كان ابن سبأ ينتهي بأمر الوصية عند عليّ، ولكن جاء فيما بعد من عممها في مجموعة من أولاده.. وكانت "الخلايا" الشيعية تعمل بصمت وسرية.. ومع ذلك فقد كانت تصل بعض هذه الدعاوى إلى بعض أهل البيت، فينفون ذلك نفيًا قاطعًا، كما فعل جدهم أمير المؤمنين عليّ، ولذلك اخترع أولئك الكذابون على أهل البيت "عقيدة التقية" حتى يسهل نشر أفكارهم وهم في مأمن من تأثر الأتباع بمواقف أهل البيت الصادقة والمعلنة للناس.
__________
(1) شرح جامع: 9/126(2/660)
ترد رواية في "رجال الكشي" - أهم كتاب عندهم -: "في الرجال" تكشف بأن شيطان الطاق (1) . هو الذي بدأ يشيع القول بأن الإمامة محصورة بأناس مخصوصين من آل البيت، وأنه حينما علم بذلك زيد بن عليّ بعث إليه ليقف على حقيقة الإشاعة، فقال له زيد: "بلغني أنك تزعم أن في آل محمد إمامًا مفترض الطاعة؟ قال شيطان الطاق: نعم، وكان أبوك علي بن الحسين أحدهم، فقال: وكيف وقد كان يؤتى بلقمة وهي حارة فيبردها بيده ثم يلقمنيها، أفترى أنه كان يشفق عليّ من حر اللقمة، ولا يشفق علي من حر النار؟ قال (شيطان الطاق) : قلت له: كره أن يخبرك فتكفر فلا يكون له فيك الشفاعة، لا والله فيك المشيّة - كذا -" (2) .
وفي رواية الكليني في الكافي: قال زيد بن علي لأبي جعفر: "يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة، ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد، شفقة عليّ، ولم يشفق عليّ من حر النار، إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟ فأجابه شيطان الطاق: جعلت فداك، من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني أنا، فإن قبلت نجوت، وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار.." (3) .
وينقل الأستاذ محب الدين الخطيب هذا النص من تنقيح المقال للمقاني (4) ، ويأخذ منه أن شيطان الطاق هو أول من اخترع هذه العقيدة الضالة وحصر الإمامة والتشريع وادعى العصمة لأناس مخصوصين من آل البيت (5) .
__________
(1) وتلقبه الشيعة مؤمن الطاق (انظر: رجال الكشي: ص185) وانظر ترجمته ص (207) من هذه الرسالة
(2) رجال الكشي: ص186
(3) أصول الكافي: 1/174
(4) انظر: تنقيح المقال: 1/470
(5) مجلة الفتح ص5، العدد (862) ، خاتمة العام الثامن عشر، ذو الحجة 1367هـ(2/661)
كما نقل الأستاذ محب هذا النص أيضًا من تنقيح المقال في تعليقه على مختصر التحفة وعقب على ذلك بقوله: "وهكذا اخترع شيطان الطاق أكذوبة الإمامة، التي صارت من أصول الديانة عند الشيعة، واتهم الإمام عليًا زين العابدين بن الحسين بأنه كتم أساس الدين حتى عن ابنه الذي هو من صفوة آل محمد، كما اتهم الإمام زيدًا بأنه لم يبلغ درجة أخس الروافض في قابليته للإيمان بإمامة أبيه.. والشيعة هم الذين يروون هذا الخبر في أوثق المصادر عندهم ويعلنون فيه أن شيطان الطاق يزعم بوقاحته أنه يعرف عن والد الإمام زيد ما لا يعرفه الإمام زيد من والده مما يتعلق بأصل من أصول الدين عندهم.
وليس هذا بكثير على شيطان الطاق الذي روى عنه الجاحظ في كتابه عن الإمامة: أن الله لم يقل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (1) .
وتذكر كتب الشيعة أنه بلغ جعفرًا ما يقوله شيطان الطاق، وما يجادل به في أمر الإمامة فقال: "لو شاء ظريف من مخاصميه أن يخصمه فعل؟ قلت (القائل هو الراوي) : كيف ذاك؟ فقال: يقول: أخبرني عن كلامك هذا من كلام إمامك؟ فإن قال: نعم، كذب علينا، وإن قال: لا، قال له: كيف تتكلم بكلام لم يتكلم به إمامك، ثم قال (أي جعفر الصادق) : إنهم يتكلمون بكلام إن أنا أقررت به ورضيت به أقمت على الضلالة، وإن برئت منه شق علي، نحن قليل وعدونا كثير، قلت (أي الراوي) : جعلت فداك فأبلغه عنك ذلك؟ قال: أما إنهم قد دخلوا في أمر ما يمنعهم عن الرجوع عنه إلا الحميّة، قال: فأبلغت أبا جعفر الأحول ذاك فقال: صدق بأبي وأمي ما يمنعني من الرجوع عنه إلا الحمية" (2) .
ولقد شارك شيطان الطاق رجل آخر هو هشام بن الحكم (3) . (المتوفى سنة
__________
(1) انظر: مختصر التحفة الاثني عشرية ص195-196 (الهامش) ، وقد مرّ نقل ما رواه الجاحظ عن شيطان الطاق بتمامه في هذا الكتاب: ص (206)
(2) رجال الكشي: ص190-191
(3) مضى التعريف به(2/662)
179) بل يرى القاضي عبد الجبار الهمداني أن الذي ادعى النص، وجرأ الناس على شتم أبي بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار هشام بن الحكم وهو ابتدأه ووضعه، وما ادعى هذا النص أحد قبله (1) .
وفي رجال الكشي ما يفيد أن مؤامرة هشام بن الحكم في مسألة الإمامة وصل خبرها إلى هارون الرشيد، حيث قال له يحيى بن خالد البرمكي: "يا أمير المؤمنين، إني قد استنبطت أمر هشام فإذا هو يزعم أن لله في أرضه إمامًا غيرك مفروض الطاعة، قال: سبحانه الله! قال: نعم، ويزعم أن لو أمره بالخروج لخرج" (2) . فيظهر أن هارون - كما يدل عليه هذا النص - فوجئ بهذه المقالة مما يدل على جدتها.
وقد أشاع هشام بن الحكم أن ما يقول به في الإمامة إنما هو عن أمر موسى الكاظم، فأساء إليه أبلغ الإساءة حتى سجنه المهدي العباسي ثم أخرجه "وأخذ عليه العهد أن لا يخرج عليه ولا على أحد من أولاده، فقال: والله ما هذا من شأني ولا حدثت فيه نفسي" (3) .
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن موسى الكاظم - رحمه الله - متهم بالتطلع للملك، ولذلك سجنه المهدي ثم الرشيد (4) .
ويبدو أن الذي يعمل على ترويج هذه الإشاعة في الخفاء ضده هو هشام بن الحكم ومن لف لفه.. ولذلك أقرت روايات الشيعة بأن سبب سجن موسى هو هشام بسبب ما ينسبه له من أقوال، وما يشيعه عنه من افتراءات تدور حول الإمامة وأحقيته بها.. ولذلك لما بلغ هارون شيء من ذلك عن هشام قال لعامله: "شد يدك بهذا وأصحابه، وبعث
__________
(1) تثبيت دلائل النبوة: 1/225، ولعل القاضي يريد النص على أناس بأعيانهم من أهل البيت، إذ إن النص على علي وحده، قد سبقه إليه "ابن سبأ"
(2) رجال الكشي: ص258
(3) ابن كثير/ البداية والنهاية: 10/183
(4) منهاج السنة: 2/155(2/663)
إلى أبي الحسن موسى عليه السلام فحبسه، فكان هذا سبب حبسه مع غيره من الأسباب" (1) .
واتهمت نصوص الشيعة هشامًا بأنه هو الذي شارك في قتل موسى الكاظم (2) . فقالت: "هشام بن الحكم.. ضال مضل شرك في دم أبي الحسن" (3) .
وقد طلب منه أبو الحسن - كما تقول روايتهم - أن يكف عن الكلام، ولكنه أمسك عن الكلام شهرًا ثم عاد، فقال له أبو الحسن: "أيسرك أن تشرك في دم امرئ مسلم؟ قال: لا، قال: وكيف تشرك في دمي، فإن سكت وإلا فهو الذبح؟ فما سكت حتى كان من أمره ما كان (صلى الله عليه) " (4) .
ولذلك قال أبو الحسن الرضا - كما تروي كتب الشيعة -: " ... هشام بن الحكم فهو الذي صنع بأبي الحسن ما صنع وقال لهم وأخبرهم، أترى الله يغفر له ما ركب منا" (5) .
وكشفت كتب الشيعة بأن هشامًا قد تربى في أحضان بعض الزنادقة، ففي رجال الكشي ".. وهشام من غلمان أبي شاكر، وأبو شاكر زنديق" (6) ، ومع ذلك فإن أحد آيات الشيعة في هذا العصر يقول عن هشام صاحب كل هذه البلايا التي تنقلها أوثق كتب الشيعة في الرجال يقول عنه: "لم يعثر أحد من سلفنا على شيء مما نسبه الخصم إليه.." (7) . وما أدري هل يخفى عليه الأمر؟ أو ينكر
__________
(1) رجال الكشي: ص262
(2) لأن الشيعة تزعم أنه قتل مسمومًا في سجن الرشيد
(3) رجال الكشي: ص268
(4) رجال الكشي: ص270-271، 279
(5) رجال الكشي: ص278
(6) رجال الكشي: ص278. وهو: أبو شاكر الديصاني صاحب الديصانية، مر التعريف بها ص:205، وهو الذي ساهم في إضلال هشام بن الحكم (انظر: الرافعي/ تحت راية القرآن: ص176)
(7) عبد الحسين الموسوي/ المراجعات: ص313(2/664)
تقية؛ لأنه يظن أن الناس لا علم لهم بما فيه كتبهم.
فإذًا هشام بن الحكم، وشيطان الطاق وأتباعهما هم الذين أحيوا نظرية ابن سبأ في أمير المؤمنين عليّ ثم عمومها على آخرين من سلالة أهل البيت، واستغلوا بعض ما جرى على أهل البيت، كمقتل علي والحسين، في إثارة مشاعر الناس وعواطفهم، والدخول إلى قلوبهم لتحقيق أغراضهم ضد الدولة الإسلامية في ظل هذا الستار.
ويبدو أن عقيدة حصر الإمامة بأناس معينين سرت في الكوفة (1) . بسعي مجموعة من أتباع هشام والشيطان، وكان بعض من تعرض عليه هذه الدعوة في المجتمع الإسلامي، يذهب إلى جعفر يسأله عن حقيقة الأمر، فيروي الكشي بسنده عن سعيد الأعرج. قال: كنا عند أبي عبد الله رضي الله عنه فاستأذن له رجلان، فأذن لهما، فقال أحدهما: أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ قال: ما أعرف ذلك فينا، قال: بالكوفة قوم يزعمون أن فيكم إمامًا مفترض الطاعة، وهم لا يكذبون أصحاب ورع واجتهاد.. منهم عبد الله بن يعفور وفلان وفلان، فقال أبو عبد الله رضي الله عنه: ما أمرتهم بذلك، ولا قلت لهم أن يقولوه (2) ، قال: فما ذنبي! واحمر وجهه وغضب غضبًا شديدًا، قال: فلما رأيا الغضب في وجهه قاما فخرجا، قال: أتعرفون الرجلين؟ قلنا: نعم هما رجلان من الزيدية (3) .
إذن فكرة حصر الأئمة بعدد معي قد وضع جذورها في القرن الثاني زمرة ممن يدعي الصلة بأهل البيت أمثال شيطان الطاق وهشام بن الحكم.
ولقد اختلفت اتجاهات الشيعة وتباينت مذاهبهم في عدد الأئمة، قال في مختصر التحفة: "اعلم أن الإمامية قائلون بانحصار الأئمة، ولكنهم مختلفون في
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: 100/259
(2) لا يخفى ما في هذه الكلمة من تلميح إلى أن إنكار جعفر كان على سبيل التقية
(3) رجال الكشي: ص427(2/665)
مقدارهم، فقال بعضهم: خمسة، وبعضهم: سبعة، وبعضهم: ثمانية، وبعضهم: اثنا عشر، وبعضهم: ثلاث عشر" (1) . وأقوالهم في هذا كثيرة وأظن أنني لو قمت بنقل اتجاهاتهم في ذلك من خلال كتب الفرق لقطع القارئ القراءة من الملل لكثرة خلافهم الذي يمضي على وتيرة واحدة، إذ بعد وفاة كل إمام من أهل البيت تنشأ بعده فرق.. منهم من يتوقف عليه ويجعل عدد الأئمة ينتهي به، ومنهم من يذهب يلتمس رجلاً آخر من أهل البيت يتخذه إمامًا، ويكتسب من خلال ذلك، ويحقق ما في نفسه من موروثات دينية سابقة، أو تطلعات عرقية وشعوبية، وينفذ من وراء ذلك أحقاده ومطامعه..
وبحسب القارئ أن يطلع على كتب الفرق ليجد ذلك.. بل إن كتب الفرق عند الشيعة نقلت صورة هذا التباين والتناقض سواء كانت من كتب الإسماعيلية كمسائل الإمامة للناشئ الأكبر، أو الزينة لأبي حاتم الرازي، أو من كتب الاثني عشرية مثل: المقالات والفرق للأشعري القمي، وفرق الشيعة للنوبختي، أو من كتب الزيدية كالمنية والأمل للمرتضى.
وقضية الإمامة عندهم ليس بالأمر الفرعي الذي يكون فيه الخلاف أمرًا عاديًا، بل هي أساس الدين وأصله المتين، ولا دين لمن لم يؤمن بإمامهم ولذلك يكفر بعضهم بعضًا، بل إن أتباع الإمام الواحد يكفر بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا (2) .
أما الاثنا عشرية فقد استقر قولهم - فيما بعد - بحصر الإمامة في اثني عشر إمامًا، و"لم يكن في العترة النبوية بني هاشم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم من يقول بإمامة الاثني عشر.." (3) . وإنما عرف الاعتقاد باثني عشر إمامًا بعد وفاة الحسن العسكري كما سبق (4) .
__________
(1) مختصر التحفة: ص193
(2) ولذلك كانوا يشتكون من ذلك (انظر: رجال الكشي: ص498-4499) ، وانظر: ص (747) من هذه الرسالة
(3) منهاج السنة: 2/111
(4) مضى ص (103)(2/666)
وتجد في بعض الروايات عند الاثني عشرية ملامح من الحيرة والتردد في عدد الأئمة، مما يدل على أن تلك الروايات موضوعة قبل وفاة الحسن العسكري، وأنه قبل ذلك لم تعرف عقيدة الإيمان بالاثني عشر الذين تنتسب إليهم الاثنا عشرية، أو أنها موضوعة قبل تحدد هذه العقيدة عند الجعفرية، ولا شك أن تلك الروايات نقد واضح للاتجاه الاثني عشري.
فقد جاء في روايات الكافي أن عليًا يسر بالولاية إلى من شاء (1) . وقال شارح الكافي: إلى من شاء من الأئمة المعصومين (2) ، ولا تحدد هذه الرواية العدد، ولا تعين الشخص، فكأن الأمر غير مستقر في تلك الفترة التي وضع فيها الخبر، بينما تجد روايات عندهم تجعل الأئمة سبعة وتقول: "سابعنا قائمنا" (3) . وهذا ما استقر عليه الأمر عند الإسماعيلية.
ولكن لما زاد عدد الأئمة أكثر عند الموسوية أو القطعية والتي سميت بالاثني عشرية صار هذا النص الآنف الذكر مبعث شك في عقيدة الإمامة لدى أتباع هذه الطائفة وحاول مؤسسو المذهب التخلص منه، ونفي شك الأتباع بالرواية التالية: "عن داود الرقي قال: قلت لأبي الحسن الرضا رضي الله عنه: جعلت فداك إنه والله ما يلج في صدري من أمرك شيء إلا حديثًا سمعته من ذريح يرويه عن أبي جعفر رضي الله عنه. قال لي: وما هو؟ قال: سمعته يقول: سابعنا قائمنا إن الله. قال: صدقت وصدق ذريح وصدق أبو جعفر رضي الله عنه، فازددت والله شكًا، ثم قال: يا داود بن أبي خالد، أما والله لولا أن موسى قال للعالم: ستجدني إن شاء الله صابرًا ما سأله عن شيء، وكذلك أبو جعفر عليه السلام لولا أن قال: إن شاء الله لكان كما قال، قال: فقطعت عليه" (4) .
فكأنهم يجعلون هذا من باب البداء وتغير المشيئة والذي هو من عقائدهم -
__________
(1) مضى ذكر النص ص (658)
(2) المازندراني/ شرح جامع: 9/123
(3) رجال الكشي: ص373
(4) رجال الكشي: ص373-374(2/667)
كما سيأتي - لأنهم يجدون به وسيلة للتخلص من أمثال هذه الأقوال.
ولقد كان أول كتاب ظهر للشيعة وهو كتاب سليم بن قيس قرر أن عدد الأئمة ثلاثة عشر، وكان هذا من أسباب القدح فيه عند طائفة من شيوخ الاثني عشرية.
كما أنك ترى الكافي أصح كتبهم الأربعة قد احتوى على جملة من أحاديثهم تقول بأن الأئمة ثلاثة عشر. فقد روى الكليني بسنده عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني واثني عشر إمامًا من ولدي وأنت يا علي زرّ الأرض - يعني أوتادها وجبالها - بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا (1) .
فهذا النص أفاد أن أئمتهم - بدون علي - اثنا عشر ومع علي يصبحون ثلاثة عشر. وهذا ينسف بنيان الاثني عشرية.. ولهذا يظهر أن شيخهم الطوسي في الغيبة تصرف في النص وغير فيه فأورده بهذا اللفظ: "إني وأحد عشر من ولدي" (2) .
كذلك روت كتب الشيعة الاثني عشرية عن أبي جعفر عن جابر قال: "دخلت على فاطمة وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي" (3) .
فانظر كيف اعتبروا أئمتهم اثني عشر كلهم من أولاد فاطمة، فإذن علي ليس من أئمتهم لأنه زوج فاطمة لا ولدها، أو يكون مجموع أئمتهم ثلاثة عشر.
ومما يدل أيضًا على أنهم لم يعتبروا عليًا من أئمتهم قوله: ثلاثة منهم علي، فإن المسمى بعلي من الأئمة عند الاثني عشرية أربعة: أمير المؤمنين علي، وعلي بن
__________
(1) أصول الكافي: 1/534
(2) الغيبة: ص92
(3) أصول الكافي: 1/532، ابن بابويه/ إكمال الدين: ص264، المفيد/ الإرشاد: ص393، الطوسي/ الغيبة: ص92(2/668)
الحسين، وعلي الرضا، وعلي الهادي.
ولذلك فإن ابن بابويه غير في النص فيما يبدو - في كتابه الخصال - حيث جاء النص عنده بدون لفظة "من ولدها"، ولكن لم يفطن لباقي النص وهو قوله: "ثلاثة منهم علي" فأثبته كما جاء في المصادر الاثني عشرية الأخرى (1) .؛ ولكنه في كتابه عيون أخبار الرضا غير النص في الموضعين بما يتفق ومذهبه أو غيّره غيره (2) .
ومن العجب أن بعض شيوخهم حكم بوضع كتاب سليم بن قيس لأنه اشتمل على أن الأئمة ثلاثة عشر ولم يحكم بمثل ذلك على الكافي الذي ورد فيه مثل ذلك، والمصادر الأخرى التي شاركته في هذا الاتجاه.
والقول بأن الأئمة ثلاثة عشر قامت فرقة من الشيعة تقول به، ولعل تلك النصوص من آثارها، وقد ذكر هذه الفرقة الطوسي في رده على من خالف الاتجاه الاثني عشري، الذي ينتمي إليه (3) ، وكذلك النجاشي في ترجمة هبة الله أحمد بن محمد (4) .
وكل فرقة من هذه الفرق تدعي أنها على الحق، وأن الخبر في تعيين أئمتها متواتر، وتبطل ما ذهبت إليه الفرق الشيعية الأخرى، وهذا دليل على أنهم ليسوا على شيء؛ إذ لو تواتر خبر إحدى فرقهم لم يقع الاختلاف قط بينهم ... فإن هذه مزاعم افتروها على أهل البيت على وفق مصلحة الوقت، فكل طائفة تقرر إمامًا تدعو إليه ليأخذوا بهذه الذريعة الخمس والنذور والتحف والهدايا من أتباعهم باسم إمامهم المزعوم ويتعيشوا بها، ومتأخروهم قد قلدوا أوائلهم بلا دليل، وسقطوا في ورطة الضلال، {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ
__________
(1) انظر: ابن بابويه/ الخصال: ص477-478
(2) انظر: ابن بابويه/ عيون أخبار الرضا: 2/52
(3) الغيبة: ص137
(4) حيث ذكر بأن هبة الله "كان يتعاطى الكلام، ويحضر مجلس أبي الحسين ابن الشيبة العلوي الزيدي المذهب، فعمل له كتابًا، وذكر أن الأئمة ثلاثة عشر مع زيد بن علي بن الحسين، واحتج بحديث في كتاب سليم بن قيس الهلالي: إن الأئمة اثنا عشر من ولد أمير المؤمنين" (رجال النجاشي: ص343)(2/669)
يُهْرَعُونَ} (1) . (2) .
نقد حصرهم الأئمة بعدد معين:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (3) . ولم يحصر سبحانه أولي الأمر بعدد معين وهذا واضح جلي.
وأمر تعيين الأئمة من أعظم أمور الدين عندهم، وهو صنو النبوة أو أعظم.. فكيف لا يبين الله ذلك في كتابه، ويذكر الأئمة بأسمائهم وأعيانهم؟
لا يوجد لأئمتهم ذكر في كتاب الله، وليس هناك نص صحيح متواتر في تعيين أئمتهم.. ولو وجد لما تخبط الشيعة وتاهوا في أمر تعيين الإمام كما حكت ذلك كتب المقالات؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقت ولاة الأمور في عدد معين، ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: "إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف" (4) .
أما كتب الشيعة الاثني عشرية فهي طافحة بالروايات التي تحدد الأئمة باثني عشر، والملاحظ أن هذه الروايات كانت موضع التداول السري، وكان الأئمة يكذبون رواتها، مما يثير الشكوك في صدقها، لا سيما وكتاب الله سبحانه - والذي أمر الأئمة بالرجوع إليه في الحكم على ما ينسب إليهم من أقوال - لا شاهد فيه لهذه الروايات إلا عن طريق التأويلات الباطنية، والروايات الموضوعة، فيصبح
__________
(1) الصافات، آية: 69-70
(2) مختصر التحفة: ص200
(3) النساء، آية: 59
(4) منهاج السنة النبوية: 2/105، والحديث المذكور أخرجه البخاري بلفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "اسمع وأطع ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة" (صحيح البخاري - مع الفتح - كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع، جص188، ح696) ، وأخرجه مسلم بإسناده إلى أبي ذؤءصر 23 باللفظ الذي ذكره شيخ الإسلام. (صحيح مسلم/ كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية: 2/1467، 1468، ح1837)(2/670)
عمدتهم في النهاية هذه الروايات.. التي تؤكد الشواهد كذبها، كما أن الأوائل الذين جمعوا هذه الروايات وهم: الصفار وإبراهيم القمي والكليني هم من الغلاة الذين يجب اعتبارهم خارج الصف الإسلامي لنقلهم أساطير نقص القرآن وتحريفه، فهم بهذا غير مأمونين وكتبهم غير موثوقة.
وكتاب النّهج الذي هو أصح كتاب عند الشيعة لا ذكر فيه للأئمّة الاثني عشر بأسمائهم وأعيانهم؛ بل جاء فيه ما ينقض مبدأ حصر الأئمّة، حيث قال صاحب نهج البلاغة: ".. إنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر.. يقاتل به العدو، وتأمن السّبل، ويؤخذ به للضّعيف من القوي حتى يستريح بر، ويستراح من فاجر" (1) .
فلم يحدد الأئمة بعدد معين. فأين تذهب الشيعة، وهي تزعم أنها تصدق بكل حرف في النهج؟!
كما أن اختلاف أقوال فرق الشيعة في هذا الأمر، وتباين مذاهبهم في تحديد عدد الأئمة وأعيانهم يكشف حقيقة هذه الدعوى، إذ كل طائفة تدحض مزاعم الأخرى وتكذبها، وكفى الله المؤمنين القتال (2) .
ومسألة حصر الأئمة بعدد معين لا يقبلها العقل ومنطق الواقع؛ إذ بعد انتهاء العدد المعين هل تظل الأمة بدون إمام؟ ولذلك فإن عصر الأئمة الظاهرين عند الاثني عشرية لا يتعدى قرنين ونصف إلا قليلاً.
وقد اضطر الشّيعة للخروج عن حصر الأئمّة بمسألة نيابة المجتهد عن الإمام، واختلف قولهم في حدود النيابة (3) . وفي هذا العصر اضطرّوا للخروج نهائيًّا عن
__________
(1) نهج البلاغة: ص82
(2) انظر - مثلاً - ما كتبه أبو حاتم الرازي في التشكيك بإمامة أئمة الاثني عشرية بعد جعفر الصادق في كتاب "الزينة" ص:232-233، (مخطوط)
(3) انظر: محمد مغنية/ الخميني والحكومة الإسلاميّة: ص68(2/671)
هذا الأصل الذي هو قاعدة دينهم، فجعلوا رئاسة الدّولة تتمّ عن طريق الانتخاب.. لكنهم خرجوا عن حصر العدد إلى حصر النوع فقصروا رئاسة الدولة على الفقيه الشيعي (1) .
هذا ويحتجّ الاثنا عشريّة في أمر تحدي عدد الأئمّة بما جاء في كتب السّنّة عن جابر بن سمرة قال: "يكون اثنا عشر أميرًا - فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: كلّهم من قريش" هذا لفظ البخاري (2) ، وفي مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة" ثم قال كلمة لم أفهمها. فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلّهم من قريش" (3) . وفي لفظ: "لا يزال هذا الدّين عزيزًا منيعًا إلى اثني عشر خليفة" (4) ، وفي لفظ آخر: "لا يزال أمر النّاس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلاً" (5) . وعند أبي داود: "لا يزال هذا الدّين قائمًا حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم تجتمع عليهم الأمّة" (6) . وأخرجه أبو داود أيضًا من طريق الأسود بن سعيد عن جابر بنحو ما مضى قال: "وزاد فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: الهرج" (7) .
يتعلق الاثنا عشرية بهذا النص ويحتجون به على أهل السنة، لا لإيمانهم بما جاء في كتب أهل السنة (8) ، ولكن للاحتجاج عليهم بما يسلمون به.
__________
(1) انظر: الخميني/ الحكومة الإسلامية: ص48
(2) صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف: 8/127
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب النّاس تبع لقريش والخلافة في قريش: 2/1453
(4) صحيح مسلم، 2/1453
(5) صحيح مسلم، ص1452
(6) سنن أبي داود، أوّل كتاب المهدي: 4/471
(7) سنن أبي داود: 4/472، وأخرج البزار هذه الزيادة من وجه آخر فقال فيها: "ثم رجع إلى منزله فأتيته فقلت: ثم يكون ماذا؟ قال: الهرج". (ابن حجر/ فتح الباري: 13/211)
(8) انظر ممن يحتج بذلك من شيوخهم: ابن بابويه/ الخصال: ص470، الطوسي/ الغيبة: ص88، الأربلي/ كشف الغمة: ص56-57، البياضي/ الصراط المستقيم: 2/100، شبر/ حق اليقين: ص 338، السماوي/ الإمامة: 1/147، وغيرهم كثير(2/672)
وبالتأمل في النص بكل حيدة وموضوعية نجد أن هؤلاء الاثني عشر وصفوا بأنّهم يتولّون الخلافة، وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة، وأن الناس تجتمع عليهم ولا يزال أمر الناس ماضيًا وصالحًا في عهدهم.
وكلّ هذه الأوصاف لا تنطبق على من تدّعي الاثنا عشريّة فيهم الإمامة، فلم يتولّ الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي والحسن مدّة قليلة، ولم تجتمع في عهدهما الأمة، كما لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثني عشر - في نظر الشيعة أنفسهم - بل ما زال أمر الأمة فاسدًا.. ويتولى عليهم الظالمون بل الكافرون (1) ، وأن الأئمّة أنفسهم كانوا يتستّرون في أمور دينهم بالتّقية (2) ، وأن عهد أمير المؤمنين علي وهو على كرسي الخلافة عهد تقية، كما صرّح بذلك شيخهم المفيد (3) . فلم يستطع أن يظهر القرآن، ولا أن يحكم بجملة من أحكام الإسلام، كما صرح بذلك شيخهم الجزائري (4) ، واضطرّ إلى ممالأة الصّحابة ومجاراتهم على حساب الدّين، كما أقرّ بذلك شيخهم المرتضى (5) . فالحديث في جانب ومزاعم هؤلاء في جانب آخر.
ثم إنه ليس في الحديث حصر للأئمة بهذا العدد؛ بل نبوءة منه صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام لا يزال عزيزًا في عصر هؤلاء.
وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أمية عصر عزة ومنعة، ولهذا قال شيخ الإسلام: "إن الإسلام وشرائعه في زمن بني أميّة أظهر وأوسع ممّا كان بعدهم، ثم استشهد بحديث "لا يزال هذا الأمر عزيزًا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش". ثم قال: وهكذا كان، فكان الخلفاء أبو بكر وعثمان وعلي، ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده
__________
(1) منهاج السنة: 4/210، المنتقى (مختصر منهاج السنة) : ص533، وستأتي أحاديثهم في أن الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدوا إلا ثلاثة، وبعد الحسين ارتدوا إلا ثلاثة.. إلخ
(2) مختصر الصواقع: ص231 (مخطوط)
(3) ص43-44 من هذه الرّسالة
(4) انظر: ص202-203 من هذه الرسالة
(5) ص421 من هذه الرّسالة(2/673)
الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل من النقص ما هو باق إلى الآن" ثم شرح ذلك.. (1) .
ونجد أن الاثني عشرية ترى دوام "ولاية المنتظر.. إلى آخر الدهر، وحينئذ فلا يبقى زمان يخلو عندهم من الاثني عشر، وإذا كان كذلك لم يبق الزمان نوعين: نوع يقوم فيه أمر الأمة، ونوع لا يقوم بل هو قائم في الأزمان كلها وهو خلاف الحديث (2) ، وخلاف ما يعتقده هؤلاء بأن عصر الاثني عشر إلى أن يخرج المنتظر هو عصر تقية من تركها من الشيعة بمنزلة من ترك الصلاة" (3) .
كما أن الأمة لم تجتمع عليهم لأنهم لم يتولوا حكمًا - ما عدا عليًا والحسن - بل الشيعة أنفسهم مختلفون في شأنهم وفي أعدادهم وأعيانهم اختلافًا لا يكاد يحصى إلا بكلفة، كما حفلت بتصوير ذلك كتب الفرق والمقالات.
ثم إنه قال في الحديث: "كلهم من قريش" وهذا يعني أنهم لا يختصون بعلي وأولاده "ولو كانوا مختصين بعلي وأولاده لذكر ما يميزون به، ألا ترى أنه لم يقل: كلهم من ولد إسماعيل ولا من العرب، وإن كانوا كذلك، لأنه قصد القبيلة التي يمتازون بها، فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم، أو من قبيل علي لذكروا بذلك، فلما جعلهم من قريش مطلقًا علم أنهم من قريش، بل لا يختصون بقبيلة، بل بنو تيم وبنو عدي، وبنو عبد شمس، وبنو هاشم، فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل" (4) .
فإذن لم يبق من الأوصاف التي تنطبق على ما يريدون إلا مجرد العدد، والعدد لا يدل على شيء.. ألا ترى أن هذا الرقم وصف به هؤلاء الخلفاء الصلحاء كما وصف به أضدادهم، فقد جاء في صحيح مسلم "في أمتي اثنا عشر
__________
(1) منهاج السنة: 4/206
(2) منهاج السنة: 4/210
(3) انظره بنصه في فصل "التقية"
(4) منهاج السنة: 4/211(2/674)
منافقًا" (1) .
ويبد أن هذا الرقم الذي تدعيه الشيعة الاثني عشرية يعود في الأصل إلى زعم يهودي قديم ورد في كتاب دانيال (2) ، كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن في التوراة مثل ذلك (3) .
استدلالهم على مسألة الإمامة:
من أصول الروافض "أنه لا يجوز للرعية اختيار إمام، بل لابد فيه من النص" (4) . "فالإمامة لا تكون إلا بالنّصّ" (5) . وأن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على علي وأولاده (6) ، فهم الئمة إلى أن تقوم الساعة.
وقد رأينا بدايات هذه العقيدة على أيدي السبئية، والهشامية والشيطانية. إلا أن شيوخ الشيعة ادعوا أن هذا الأمر هو من شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال أئمة أهل البيت.
وأخذوا يستدلون على ذلك "بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة" (7) .
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: 3/2143-2144، (ح2779)
(2) قال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي: فقد وجدت في كتاب دانيال: إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولده فيتم بذلك اثنا عشر ملكًا، كل واحد منهم إمام مهدي. (انظر: فتح الباري: 13/213)
(3) منهاج السنة: 4/210
(4) الحر العاملي: الفصول المهمة في أصول الأئمة ص142، وانظر: ابن المطهر/ نهج المسترشدين: ص63
(5) المظفّر/ عقائد الإماميّة: ص103
(6) الكليني/ أصول الكافي: باب ما نص الله ورسوله على الأئمة: 1/286 وما بعدها
(7) ابن خلدون/ المقدمة: 2/527 (تحقيق د. علي عبد الواحد وافي)(2/675)
وبالغوا كعادتهم في جمع الروايات وحشد النصوص في ذلك حتى ألف شيخهم ابن المطهر كتابًا سماه "الألفين في إمامة أمير المؤمنين" (1) .
وقل من مؤلفي الشيعة من لم يتكلم عن هذه القضية ويستدل لها (2) ، لأنها عب دينهم وعماده.
وإذا علمت أن كل هذه الروايات تفرد بنقلها حسب منطق الشيعة آحاد الناس، بل الواحد وهو علي لأنه هو الباب، ومن ادعى سماعًا من غيره فقد أشرك (3) ، كما أن ما سوى علي وبضعه نفر من الصحابة ثلاثة أو أربعة أو سبعة ما سوى هؤلاء محكوم عليهم في كتب الشيعة بالردة، فلا تقبل روايتهم.. وتفرد الواحد بالنقل موضع شك ولا سيما والجم الغفير على خلافه.. فاضطروا حينئذ للقول بالعصمة. ولكن العصمة كيف تثبت بخبر من ادعاها وهو واحد.. فاضطروا حينئذ للقول ببدعة أخرى وهي إثبات المعجزة للأئمة، فصارت قضية الإمامة ترتكز عندهم على ثلاث شعب: النص، والعصمة، والمعجزة.
قال شيخهم المفيد: "إن الإمامة توجب لصاحبها عند الاثني عشرية: العصمة، والنص، والمعجزة ... " (4) .
وقد مضى القول بأن المعجزات لا يأتي بها إلا الأنبياء، وأن الشيعة قالت بها في حق الأئمة؛ لأنهم أعطتهم معنى النبوة دون اسمها، وزعمت أنهم هم الحجة على العباد، وليس لهم في ذلك من برهان إلا اتباع ما وضعه زنادقة العصور الماضية.. قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (5) ، ولم يقل
__________
(1) إلا أنه لم يبلغ ما يريد فلم يصل إلى الألفين، كما عنون به كتابه، حيث لم يذكر إلا ألفًا وثمانيًا وثلاثين، مما يعدها أدلة على مقصوده. (الأعلمي/ مقدمة الألفين: ص10)
(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 1/320
(3) أصول الكافي: 1/377، وقد مرّ بنصه ص346
(4) العيون: 2/127
(5) النساء، آية: 165(2/676)