عقيدة السلف:
إذا عرف ما تقدم؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة هي حق بين باطلين، وهدىً بين ضلالتين، فالله تعالى هو خالق العباد وخالق أفعالهم، ومقدر أرزاقهم وآجالهم، هو خالق العبيد ولا يكون في ملكه ما لا يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (1).
وأيضاً: أهل السنة والجماعة وسط بين المرجئة، وبين المعتزلة والخوارج. فالمرجئة جفوا، والمعتزلة والخوارج غلوا، وفي أثناء هذا الجزء يأتي الكلام على هذه الطوائف الضالة، إن شاء الله تعالى.
والمرجئة كما يأتي نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير. أي: تأخير الأعمال عن الإيمان.
فعند المرجئة الخالصة: الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب، والناس في الإيمان سواء، فإيمان أفسق الناس كإيمان الأنبياء، والمؤمنين الأتقياء.
وبناءً على ذلك؛ فلا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فلازم قول المرجئة هو أن من فعل شيئاً من كبائر الذنوب وترك الواجبات أو شيئاً منها، لا يضر ذلك، وهذا يؤدي إلى الانسلاخ من دين الإسلام.
أما المعتزلة والخوارج فقد غلوا، فقالوا ما معناه: من فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ومات ولم يتب منها، فهو من المخلدين في نار جهنم، على
_________
(1) الأنبياء الآية (23).(10/176)
خلاف بين الطائفتين؛ فعند الخوارج: هو كافر وحلال الدم والمال. وعند المعتزلة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين.
وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء المرجئة، وغلو الخوارج والمعتزلة؛ فالإيمان نية وقول وعمل، يزيد بطاعة الله وينقص معصيته. فمن فعل كبيرة، يقال في حقه: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان. وإذا مات ولم يتب، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله بعدله عذبه في نار جهنم بقدر ذنبه وجريمته، ولا يخلد في النار، لا يخلِّد فيها إلا الكافرين، والمشركين. هذا هو معتقد السلف الصالحين، وأهل السنة والجماعة أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الحمد لله على قول الحق، واعتقاده والعمل به، والدعوة إليه.
وأيضاً، أهل السنة والجماعة وسط بين غلو الرافضة، وجفاء الخوارج؛ لأن الرافضة والخوارج في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طرفي نقيض.
فالرافضة: غلوا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأهل البيت، غلواً جاوز الحد والمشروع.
وأما الخوارج: فإنهم كفروا علياً، ومن كان موالياً له. وإذا عرف ذلك، فأهل السنة ولله الحمد والمنة، دائماً وأبداً بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط، مع العلم أن الرافضة قبحهم الله يسبون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويلعنونهم ويكفرونهم.
وأهل السنة يحبون جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوالونهم ويدعون الله لهم، ويترحمون الله لهم، ويسألونه لهم المغفرة والرضوان؛ لأنهم رضي الله عنهم؛(10/177)
هم صفوة هذه الأمة وخيارها، أبرها أقوالاً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً، قوم لا كان ولا يكون مثلهم، اختارهم الله لصحبة نبيه ولنصر دينه. وبعد ما استنارت قلوبهم بالإيمان، صاروا رضي الله عنهم مضرب المثل في عبادة الله، وفي الزهد والورع، والخشية، والتقوى، والصدق، والأمانة، والشجاعة، فهم الرجال إذا ذكر الرجال. {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} (1)، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (2).
وأيضاً هذه الأمة الإسلامية وسط بين غلو النصارى، وجفاء اليهود. فالنصارى غلوا في عيسى، فقالوا: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. وقالت اليهود: عيسى ولد زنا. فعلى اليهود لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين.
والمسلمون يقولون: عيسى هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. والحمد لله الذي عافانا من الفلسفة والسفسطة، والشطح، والشقشقة، ومن التعطيل والتمثيل، ومن البدع والأباطيل. ونسأله تعالى الثبات على الحق، والعمل به. (3)
- وقال أيضا: الاختلاف مصيبة:
_________
(1) الأحزاب الآية (23).
(2) الحشر الآية (10).
(3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 308 - 313).(10/178)
الخلاف والاختلاف بين الأفراد والمجتمعات الإسلامية مصيبة. الاختلاف مصيبة كبرى، ومحنة عظمى. [و] الخلاف من حيث هو شر وفتنة وشقاء وبلاء وعناء.
الاختلاف نقمة، والاتفاق رحمة، وبالأخص الخلاف في المسائل العقائدية التي هي الأصل في شريعة الإسلام.
أما الخلاف في المسائل الفروعية -فالأمر في ذلك أسهل-: فإذا كان على طريق الاجتهاد وتحري الصواب في المسائل الغامضة فلا بأس بذلك.
أما إذا كان على طريقة الهوى والتعصب للمذاهب، وأقوال الرجال، فهو مذموم شرعاً وعقلاً وفطرةً.
وأما ما يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «اختلاف أمتي رحمة» فهذا الحديث ليس له خطام ولا زمام، فلا أصل له (1). قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (2)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (3)، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (4)، وقال تعالى:
_________
(1) وكذا قال الشيخ الألباني في الضعيفة (57).
(2) الأنفال الآية (46).
(3) الأنعام الآية (159).
(4) الأنعام الآية (153).(10/179)
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1)، وقال تعالى: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (2).
والآيات في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف كثيرة، وكذا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بالوفاق، والنهي عن الشقاق، كثيرة جداً، سواء كان الاختلاف في العقائد وأصل الديانة أو غير ذلك.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها (3).
وعلى سبيل العموم؛ ليس للمسلمين عز ولا نصر إلا إذا حصل بينهم اتفاق ووفاق، وتكاتف وتساند. فهذا الحديث فيه رد على كل من ابتدع في دين الله ما ليس منه.
وفي حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عُضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (4).
_________
(1) آل عمران الآية (103).
(2) الشورى الآية (13).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الخلال سنة (311هـ).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).(10/180)
ومن أعظم الحدث: الحدث في العقائد الإلهية، وكذا الحدث في العبادات والأحكام الشرعية، فلا مسرح للعقول، ولا مجال للفهوم في ذات الله، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في دينه وشرعه، إنما الواجب التعلم والفهم ثم العمل بدين الإسلام كله.
فلا بد من التمسك والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، في كل شيء عقيدة وعبادة، وأحكاماً وأخلاقاً، وهذا هو الذي به عز المسلمين، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، والله وليّ التوفيق.
وفخر المسلمين وعزهم ونصرهم، على اليهود وغير اليهود من أعداء الإسلام والمسلمين، لا يتحقق إلا إذا عملوا بشريعة الإسلام، قولاً وعملاً واعتقاداً، مع نبذ الأحقاد والضغائن، ويحل محل ذلك الوفاق والمحبة والائتلاف، والتكاتف والتساند، والأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية. حقق الله ذلك بمنه وكرمه وجوده وإحسانه وفضله. اللهم صلّ وسلم وبارك على -من أمر بالائتلاف ونهى عن الاختلاف- نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (1)
موقفه من المشركين:
- له من الآثار السلفية: 'عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين' وهو مطبوع متداول، نفع الله به نفعا عظيما.
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 343 - 345).(10/181)
- قال رحمه الله فيه: الإلحاد في لغة العرب: هو الميل، ومنه لحد القبر. وهو أنواع: فمنه إلحاد المشركين وعبدة الأوثان: حيث اشتقوا لمعبوداتهم أسماءً من أسماء الله، كاللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
ومنه: إلحاد الجهمية الذين عطلوا الله من صفاته، ومن معاني أسمائه وحقائقها. فالله تعالى أثبت لنفسه السمع والبصر والوجه واليدين والاستواء على العرش والمجيء والقدرة والمشيئة وغير ذلك من صفات الله، والمعتزلة والجهمية تنكر ذلك.
ومنه إلحاد المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه. والله تعالى حذر من الإلحاد، وعاب الملحدين في أربع آيات: في سورة النحل آية 103، وفي سورة الأعراف آية 180، وفي سورة فصلت آية 40، وفي سورة الحج آية 25. وبإعانة الله يأتي الكلام على المعطلة والمشبهة في الجزء الثاني.
ومن أنواع الإلحاد إلحاد الدهرية الذين أنكروا وجود الله تعالى.
ومن أنواع الإلحاد المذموم شرعاً وعقلاً: إلحاد النصارى، حيث قالوا: الله ثالث ثلاثة.
ومنه إلحاد اليهود قالوا من كفرهم وتكذيبهم وغرورهم: الله فقير ويده مغلولة.
وعلى سبيل العموم: كل من كذب بما جاء عن الله، أو عن رسوله فهو ملحد. وكذا من تأول وحرّف ما جاء عن الله أو جاء عن رسوله فهو ملحد ومجرم أثيم. (1)
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 89 - 90).(10/182)
موقفه من الرافضة:
- قال: ومعتقد أهل السنة والجماعة: لا يشهد لأحد بجنة، ولا نار، إلا لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كالعشرة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك، وسعيد ابن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين.
وموالاة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ومحبتهم دين وإحسان وإيمان، وبغضهم وسبهم كفر ونفاق وطغيان. (1)
- وقال رحمه الله: الشيعة:
أو باسم آخر: الرافضة، وهو ألصق بهم. وأول من ابتدع الرفض عبد الله بن سبأ اليهودي المنافق الزنديق، أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه، ثم انتشر هذا المذهب الخبيث. وقد قال ابن سبأ لعلي رضي الله عنه: أنت الإله حقاً.
والشيعة: اسم لكل من فضّل علياً على الخلفاء الراشدين، [ومنهم] الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
الشيعة هم من طوائف الضلال، الشيعة لهم أقوال شنيعة، واعتقادات باطلة. الشيعة عداوتهم للمسلمين عظيمة، قديماً وحديثاً.
وسموا بهذا الاسم -بزعم منهم- أنهم شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليسوا كذلك، بل هم أعداء لعلي وأعداء لأهل البيت؛ لأنهم غلوا
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 9).(10/183)
فيهم غلواً جاوز الحد والمشروع، ورفعوهم فوق طبقة البشر. وكما يأتي خلاف أهل السنة مع الرافضة خلاف في أصول الدين، وفروعه، فلا لقاء ولا موافقة، حتى تشيب مفارق الغربان.
والرافضة: هم الشيعة أو طائفة منهم، وسموا بهذا الاسم؛ لأنهم بعدما بايعوا زيد بن علي، قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر. فأبى، وقال: كانا وزيري جدي، بل أتولاّهما وأتبرّأ ممن تبرّأ منهما. فتركوه ورفضوه، وأرفضوا عنه. والنسبة: رافضي، والرافضة شر من وطئ الحصاء، ولا يقر لهم قرار حتى يعيدوها وثنية قرمطية مجوسية. مكر وخداع، والمكر يحيق بأهله.
ووقاحة الرافضة ومعائبهم ومخازيهم كثيرة جداً، ولا يصدق بما يعتقدونه ويقولونه إلا من طالع كتبهم. فمن ذلك ما صرح به الشاطبي في كتابه 'الاعتصام' (الجزء الثاني، ص.181)، قال: الفرقة الثانية: الشيعة، وهم اثنتان وعشرون فرقة، يكفر بعضهم بعضاً. اهـ كلامه.
وأكثر الشيعة يعتقدون أن الحكام والمحكومين من المسلمين كلهم ضُلاّل وعلى غير هدى.
ومن أصول الدين عند الرافضة: تأويل آيات القرآن، وصرف معانيها، إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى غير ما فهمه منها علماء الإسلام والمسلمين.
ولا شك بأن هذه جريمة كبرى، وإلحاد في آيات القرآن، حيث أجازت الشيعة لأنفسهم تحريف آيات القرآن، على حسب أهوائهم وأغراضهم الفاسدة ومقاصدهم الباطلة.(10/184)
ومن معتقدات الشيعة وأعمالهم الخبيثة: التقيّة، فيظهر الموافقة، وهو بخلاف ذلك، وهذه هي أعمال المنافقين. وذلك مكر وخداع، وخيانة، ونفاق. فالتقية دين الشيعة، والنفاق ركن أصيل في عقيدتهم. وحيث أن التقية من أصول دين الرافضة، فقد كذبوا وزوروا على جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: التقية ديني ودين آبائي.
وبدع الشيعة المنكرة، ومذاهبهم الخبيثة كثيرة وكثيرة، ومن اعتقد أو قال: إن القرآن زيد فيه ونقص منه فلا شك في كفره وإلحاده.
ومن مخازي الشيعة ووقاحتهم: هو أنهم يعتقدون ويصرحون بأن القرآن الكريم محرف، وزيد فيه ونقص منه. ففي سنة 1292هـ ألّف الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي كتاباً أسماه: 'فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب' جمع فيه النصوص عن علماء الشيعة في مختلف العصور بأن القرآن قد زيد فيه ونقص منه. وقد طبع الكتاب في إيران سنة 1298هـ. والطبرسي هو من كبار علماء النجف، والطبرسي معظم عند الرافضة. وتوفي 1320هـ. وكثير من علماء الشيعة صرحوا بأن القرآن نقص منه وزيد فيه.
ولا شك بأن هذا تكذيب لله تعالى، ومن كذّب الله فهو كافر. يقول جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (1). وقد أجمع المسلمون بأن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان، ومن التغيير والتبديل،
_________
(1) الحجر الآية (9).(10/185)
محفوظ من عبث العابثين وكيد الكائدين. والواقع شاهد بذلك، والحمد لله رب العالمين. مضى على القرآن 1402 سنة ولا زيد في القرآن ولا نقص منه ولا حرف واحد، ومن قال أو اعتقد أن القرآن زيد فيه أو نقص منه فهو كافر بإجماع المسلمين.
والشيعة قد بلغت الغاية في الوقاحة والخبث، فإنه مما يتدينون به: لعن صحابة الرسول، ولعن أبي بكر وعمر، بل يبغضون ويسبون كل من ليس بشيعي. فيلعن الشيعة أبا بكر وعمر وعثمان، وكل من تولى الحكم في الإسلام غير علي، بل من خبث الشيعة يسمون أبا بكر وعمر: الجبت والطاغوت، وصنمي قريش.
ذكر بعض هذه النقاط الشيخ محب الدين الخطيب في رسالة له أسماها: 'الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية'.
وقال الشيخ ابن تيمية: الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بالبشر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأول من ابتدع الرفض عبد الله بن سبأ اليهودي، وكان منافقاً زنديقاً، أراد بذلك إفساد دين الإسلام. وقال أيضاً شيخ الإسلام: وليس في فرق الأمة أكثر كذباً واختلافاً من الرافضة من حين نبغوا. (1)
- وقال: ومن أعظم منكرات الرافضة: هو أن أكثرهم يعتقد أن الحج إلى قبر علي رضي الله عنه في النجف، والحج إلى قبر الحسين في كربلاء
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 349 - 352).(10/186)
أفضل من الحج إلى مكة، مع العلم أن قبر علي ليس في النجف، بل دفن رضي الله عنه في قصر الكوفة. وكذا قبر الحسين لم يثبت أنه في كربلاء.
ومن بدع الرافضة: لا يرون صلاة الجماعة، وفي هذا تكذيب لله ورسوله، ومن كذّب الله أو رسوله فقد كفر.
ومن بدع الشيعة وضلالهم: هو أنهم جهميون في الصفات، وقدريون في أفعال العباد.
ومن بدع الرافضة: لا يرون غسل القدمين في الوضوء. وفي هذا تكذيب لفعل الرسول وقوله، وقد أجمع المسلمون على وجوب غسل القدمين.
ومن بدع الرافضة: أكثرهم لا يقيمون صلاة الجمعة لعدم وجود الإمام العادل، والعادل: هو مهديهم المنتظر في زعمهم.
ومن بدع الرافضة لا يرون المسح على الخفين، وما أنكر الشيعة هذه السنة الثابتة عن الرسول إلا من زيغ قلوبهم، وفساد أقيستهم وآرائهم.
وقد أجمعت الأمة الإسلامية على جواز المسح على الخفين. ولا عبرة بخلاف الرافضة. قال النووي: أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر لحاجة أو غيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها، والزَّمِن الذي لا يمشي. وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يُعتدّ بخلافهما.
وقد روى سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين. اهـ(10/187)
وقال الحسن: روى المسح سبعون نفساً فعلاً منه عليه السلام، وقولاً.
وقال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح على الخفين شيء؛ فيه أربعون حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والرافضة كذبت الرسول في المسح على الخفين، وكذبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحكام شريعة الإسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن من كذب الرسول فهو كافر بالله، كما أن من عصى الرسول فقد عصى الله، والشيعة كذبت بما ثبت عن الرسول في تحريم المتعة، ومن وقاحة الشيعة: إباحة المتعة متعة النساء.
وقد حكى غير واحد من علماء الإسلام الإجماع على تحريمها؛ لأن الرسول عليه السلام حرمها عن أمر من الله جل شأنه، فهي حرام، لما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، من حديث سبرة الجهني: «أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة، فقال: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فيلخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» (1).
وعن علي رضي الله عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية» متفق عليه (2).
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 406) ومسلم (2/ 1025/1406) والنسائي (5/ 437/3368).
(2) أخرجه: أحمد (1/ 79) والبخاري (9/ 207/5115) ومسلم (2/ 1027/1407) والترمذي (3/ 429/1121) والنسائي (6/ 436/3366) وابن ماجه (1/ 630/1961).(10/188)
والأحاديث التي هي صحيحة وصريحة في تحريم المتعة بعد إباحتها كثيرة. وعبد الله بن عباس -رضي الله عنه- رجع عنه القول بإباحتها، كما في سنن الترمذي (3/ 430).
قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة. وقال ابن بطال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل، سواء كان قبل الدخول أم بعده. وقال القاضي عياض: وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريم المتعة إلا الروافض. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. اهـ (1)
- وقال: والشيعة الشنيعة تبغض أبا بكر وتلعنه، فعلى الشيعة ما تستحقه من غضب الله وسخطه ولعنته. وهذه الآية -يعني: قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (2) - فيها دليل على أن الشيعة كذّبوا الله ورسوله، ومن كذّب الله، أو كذّب رسوله فقد كفر بالله.
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 355 - 357).
(2) التوبة الآية (40).(10/189)
وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} (1) الذي جاء بالصدق هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والذي صدّق به هو أبو بكر رضي الله عنه. قال بهذا القول كثير من علماء التفسير. (2)
- وقال: ومن معائب الشيعة ومخازيهم: عيبهم وكراهتهم لصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأكثر الشيعة لا يؤمنون بالأحاديث المذكورة في الصحيحين والسنن والمسانيد ولا يعملون بها.
فمن حماقة الشيعة وضلالهم: لا يقبلون الأحاديث التي رواها الصحابة ولا يعملون بها، والله يقول: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} (3)، وكان الصحابة ألفاً وخمسمائة، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعثمان. وكان ذلك عام الحديبية سنة ست من الهجرة. وهذا الرضاء من الله لجميع الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان.
والرافضة لا تؤمن، بل تكذّب بما ذكره الله في هذه الآية الكريمة، ومن كذّب بشيء من القرآن فلا شك في كفره وإلحاده، وليس بغريب من الرافضة؛ لأنهم مجوس، والمجوس أعداء للإسلام والمسلمين دائماً وأبداً.
_________
(1) الزمر الآية (33).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 359).
(3) الفتح الآية (18).(10/190)
فصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرُّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأصدقها لهجةً، وأقواها إيماناً، قوم هم مضرب المثل في العبادة والزهادة، والتقى والخشية لله تعالى، وعلماء وحكماء، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا رضي الله عنهم رهباناً في ليلهم، أُسوداً في نهارهم في ميادين الحروب جهاداً في سبيل الله. قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه ومؤازرته، ونصر دينه وتبليغ رسالته. قوم مدحهم الله وأثنى عليهم، ونوّه بذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن.
فدع الرافضة! دعهم في ضلالهم يعمهون! دعهم للحقد يحرق قلوبهم والغيظ يأكل نفوسهم!
قال جل شأنه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (1)
_________
(1) الفتح الآية (29).(10/191)
والشيعة تنكر ذلك وتكذّبه، ومن كذّب الله أو كذّب رسوله فهو كافر بإجماع المسلمين. (1)
ويعتقد أهل السنة والجماعة: أن أفضل هذه الأمة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم صحابة الرسول؛ قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ومؤازرته، ونصر دينه.
وأفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين.
وقد قال عليه السلام: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر». رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه من حديث حذيفة (2).
وأفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة هم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم الذين بايعوا في الحديبية بيعة الرضوان تحت الشجرة، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، رضي الله عن صحابة الرسول وأرضاهم أجمعين.
والذين سجلوا أحاديث الرسول كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد كل منهم يعقد ترجمة خاصة بالصحابة ثم يسوق بعض الأحاديث الواردة في فضائل القوم.
وأهل السنة والجماعة يتولون أمهات المؤمنين، أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستغفرون لهن، وهن أزواج الرسول في الآخرة.
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 360 - 362).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).(10/192)
وأفضلهن عائشة وخديجة رضي الله عنهن. ومن سبّ الصحابة أو واحداً منه، أو واحدة من أزواج الرسول، فهو ضالّ مضلّ، أضلّ من حمار أهله.
والذين يسبون الصحابة ويشتمونهم هم الشيعة الشنيعة، ويشتمون ويسبون زوجات الرسول وخاصة عائشة وحفصة فعلى الشيعة ما يستحقونه من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: ومما هو معروف وشائع وذائع؛ أن أكثر الصوفية يعبدون ويؤلهون أصحاب القبور، ويعظمونهم أعظم من تعظيمهم لله تعالى فيدعونهم، ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، اعتقادا منهم: بأنهم يسمعون وينفعون ويضرون، ويجيبون دعاء من دعاهم. ومن فعل ذلك أو اعتقد جوازه فهو من المشركين.
وأعظم من ذلك: أن أكثر الصوفية من أهل وحدة الوجود، ملاحدة زنادقة، لا يؤمنون بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه؛ بل يعتقدون بأن هذا الوجود هو الله.
وعلماء الإسلام الذين بينوا أباطيل الصوفية وردوا عليهم هم -والحمد لله- خلق كثير وجم غفير، ومنهم عبد الرحمن الوكيل، وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية في كتابه 'هذه هي الصوفية'. (2)
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 9 - 11).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 500 - 501).(10/193)
- وقد أورد منه نقولا ثم قال: هذا الكتاب عظيم في تحري الحق والصواب، وعظيم في تحقيقه وتنقيحه، وتنظيمه وإتقانه، وعظيم في أسلوبه الرائع البديع.
فمن أراد الاطلاع على ما عند الصوفية من مخالفات لما يعتقده أهل السنة، فليراجع هذا الكتاب، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل؛ مع العلم أننا والحمد لله أعطينا القارئ -وفقنا الله وإياه- فكرة يستفاد منها مخالفة الصوفية لما يعتقده ويعمل به أهل السنة والجماعة.
تنبيه:
الذي أراه وأعتقده: هو أن الصوفية ليسوا على حد سواء في الاعتقاد والأقوال والأعمال؛ فمنهم زنادقة ملاحدة، قالوا بوحدة الوجود، وآمنوا بها ودعوا إليها.
ومنهم من يؤمن بوحدانية الله تعالى، ولكنهم يعظمون ساداتهم وكبراءهم من الأموات، ويعتقدون أنهم ينفعون ويشفعون ويضرون، ولهم قدرة ونفوذ وتصرف في هذا الكون، ولا شك أن هذا كفر بالله وخروج من دين الإسلام.
وكثير من الصوفية يتبركون ويتوسلون بأصحاب القبور، وبعض الصوفية يتعبدون لله بألفاظ وأوراد مبتدعة في دين الإسلام، وبعضهم يتعبد بألفاظ مفردة كقولهم: هو هو هو، أو: الله، الله، الله. ويزعم بعض الصوفية أن "لا إله إلا الله" ذكر العامة، و"الله" ذكر الخاصة، و"هو" ذكر خاصة الخاصة.(10/194)
وبعضهم يتعبدون الله بالرقص والأغاني، والتصفيق والشهيق، والشخير والنخير. وبدع الصوفية وشطحاتهم والمنكرات التي تقولها الصوفية وتفعلها؛ كثيرة وكثيرة.
وطوائف الصوفية كثيرة، منهم: الشاذلية، والرفاعية، والنقشبندية، والتيجانية، والجيلانية، والجنيدات. ونعوذ بالله من كل بدعة وضلالة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (1).
وبعض الصوفية زنادقة وملاحدة، يقولون ولا يستحون -وقديما قيل: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» (2) - يقولون: من بلغ الغاية في الولاية، سقطت التكاليف، وحلت له المحرمات.
قال أبو محمد ابن حزم في كتابه في الملل والنحل: ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل. وقال: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها؛ من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها؛ من الزنا والخمر وغير ذلك. واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا: إننا نرى الله ونكلمه، وكلما قذف في نفوسنا فهو حق. ثم ذكر أبو محمد ابن حزم عن الصوفية أشياء كثيرة من الخرافات والمنكرات.
وكتب الصوفية هي الشواهد على ما عندهم من كفر وشرك وإلحاد. (3)
_________
(1) سبق قريبا.
(2) أخرجه أحمد (4/ 121) والبخاري (6/ 638/3483 - 3484) وابن ماجة (2/ 1400/4183) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 505 - 507).(10/195)
موقفه من الجهمية:
- له: 'إثبات علو الله تعالى'. (1)
- قال: ويؤمن أهل السنة بصفات الله العلية، ومن صفاته تعالى: الكلام، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والعينان، والمحبة، والرضاء، والغضب، والاستواء على العرش، والنزول، والمجيء، والقدرة، والإرادة، والمشيئة، وغير ذلك من صفات الله تعالى التي تليق بجلال الله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
يؤمن أهل السنة والجماعة بصفات الله جل وعلا على الحقيقة، لا ما تقوله المعتزلة والجهمية بأن ذلك على المجاز. (2)
- وقال رحمه الله: وأيضاً: أهل السنة والجماعة يصدّقون ويؤمنون بأن الله جل شأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (3). ينزل الله تبارك متى شاء كيف شاء، ولا تكييف، ولا تمثيل. والجهمية والمعتزلة والأشاعرة كما كذّبوا برؤية الله تعالى كذّبوا بنزول الله جل شأنه.
ورؤية الله ثابتة بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالمؤمنون يرون ربهم عياناً بأبصارهم، وذلك في عرصات القيامة، ويرونه تعالى بعد دخول الجنان،
_________
(1) علماء نجد (2/ 433).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 4).
(3) تقدم ضمن مواقف عبد العزيز بن الماجشون سنة (164هـ).(10/196)
في جنة النعيم. ورؤية الله تعالى هي أعظم سرور، وأتمّ نعيم لأولياء الله تعالى. (1)
- وقال: الله جل وعلا -كما هو صريح القرآن وصريح السنة- له أسماء وله صفات، وأسماء الله جل شأنه حسنى، وأسماء الله -كما يأتي- ليست محصورة في تسع وتسعين اسماً. وبتوفيق الله وإعانته نذكر من أسماء الله ثلاثة وثلاثين اسماً في أول الجزء الثاني.
والله تعالى -كما هو صريح القرآن وصريح سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - له صفات، صفات لائقة بعظمته، ومجده، وكبريائه. صفات يجب إثباتها لله كما أثبتها الله لنفسه في القرآن، وكما أثبتها الرسول لربه في سنته المطهرة.
صفات يجب إثباتها لله على الحقيقة لا على المجاز، خلافاً للمعتزلة، والجهمية، والماتريدية، والأشاعرة، والقدرية.
فما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجب إثباته إثباتاً من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2).
ومن صفات الله تعالى: الكلام، والرحمة، والغضب، والرضاء، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والمجيء، والنزول، والاستواء على العرش، وغير
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 8).
(2) الشورى الآية (11).(10/197)
ذلك. والله جل شأنه أنزل الكتب وأرسل الرسل بإثبات مفصل ونفي مجمل. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: ومن عقائد أهل السنة: أن من ولاّه الله أمر المسلمين، فطاعته واجبة بشرط أن يكون مسلماً. والخروج عليه، وشقّ عصا المسلمين معصية لله وجريمة كبرى وذنب عظيم إلا إذا أمر ولي الأمر بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأهل السنة والجماعة هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
ومن عقائد أهل السنة والجماعة: أن صاحب الكبيرة إذا مات قبل أن يتوب، ولم يكن مستحلاً لما فعله، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله عذّبه بعدله، بقدر ذنبه وجريمته، في نار جهنم، ولا يخلد فيها.
والمعتزلة والخوارج خالفوا نصوص الكتاب والسنة، فحكموا بأن صاحب الكبيرة من المخلدين في نار جهنم، فلا يخرج منها، لا برحمة أرحم الراحمين، ولا بشفاعة الشافعين، إذا مات قبل أن يتوب من جريمته.
موقفه من المرجئة:
قال: وصريح القرآن والسنة وهو معتقد أهل السنة والجماعة؛ أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله، وينقص بمعصيته.
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 331 - 332).(10/198)
والناس متفاوتون في الإيمان، فليسوا على حد سواء، كما قالت ذلك الطائفة المشهورة بالمرجئة. ويأتي بيان مذهب المرجئة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
ومجرد الإيمان لا يكفي، فلا بد من العمل؛ وعند المرجئة الأعمال الصالحة ليست من الإيمان. ومذهب المرجئة زور وباطل، تبطله وتردّه نصوص الكتاب والسنة؛ فعند المرجئة إيمان المرسلين والمؤمنين كإيمان المجرمين والفاسقين.
نعم لا بد من العمل بدين الإسلام. ففي سبعين آية من آيات القرآن الكريم يقرن الله بين الإيمان والعمل. مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} (1).اهـ (2)
موقفه من القدرية:
- قال: أشكل على كثير من طلبة العلم هل العبد مخير أو مسير؟ والذي يظهر لي أن العبد ليس بمخير ولا مسير؛ لأننا إذا قلنا إن العبد مخير، دخلنا في مذهب القدرية الذين قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، وإن قلنا العبد
_________
(1) الروم الآيات (14 - 16).
(2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 43).(10/199)
مسير، دخلنا في مذهب الجبرية. فالذي ينبغي أن يقال: العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته.
الجبرية:
والجبر لغة: هو الإلزام.
والجبرية هم من طوائف الضلال، وهم من أتباع الجهم بن صفوان. وسموا بهذا الاسم لأنهم قالوا: نحن مجبورون على أفعالنا، وفي قول الجبرية تعطيل لأحكام الإسلام فلازم قولهم: لا يقتل القاتل، ولا تقطع يد السارق، ولا يرجم الزاني، ولا يقام في الإسلام حد، فمن فعل جريمة لا عتب عليه، ولا لوم.
ومن هذه الزاوية نعرف أن القدرية والجبرية في طرفي نقيض؛ فالقدرية جفوا، حيث قالوا: إن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي لم تكن داخلة تحت قضاء الله وقدره، بل هم الذين شاؤوها وفعلوها، استقلالاً واختياراً منهم لها.
فالقدرية جفوا حيث أبطلوها ما قضاه الله وقدره. وتقدمت الأدلة التي فيها الرد على القدرية، ولله الحمد والمنة.
أما الجبرية فهم غلوا في إثبات القدر، وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء القدرية، وغلو الجبرية.
وهكذا أهل السنة دائماً، والحمد لله، وسط بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء.(10/200)
نعم كما تقدم، الجبرية غلوا في إثبات القدر، فاعتقدوا أن العباد، لا مشيئة لهم ولا قصد ولا اختيار، بل إذا فعلوا طاعة أو معصية، فهم مجبورون عليها. فعلى قول الجبرية: الطاعات والمعاصي عين فعل الرب، لا أفعالهم. وهذا القول معرف بطلانه بالضرورة من دين الإسلام.
فعند الجبرية حركات العبد وسكناته وأفعاله اضطرارية، كحركة الأشجار وأغصانها وأوراقها بالرياح التي تصفقها يمنةً ويسرةً، فإنها تضطرب وتمايل من غير اختيارها.
وكحركة المرتعش الذي أصابه مرض الفالج، فإنه يضطرب ويتحرك من غير اختيار منه ولا قصد. هذا قول الجبرية الخالصة.
وهذا القول كذب على الله، وزور وباطل، فالله أعظم وأجل قدراً من أن يجبر أحداً على ذنب ثم يعذبه عليه.
وكتاب الله، وسنة رسوله، والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة، كلها حجج وبراهين على بطلان ما تعتقده وتقوله الجبرية الخالصة. (1)
- وقال أيضا: وكما أشرنا سابقاً: معتقد أهل السنة والجماعة هو أن العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها ليست مستقلة، بل هي تابعة لإرادة الله ومشيئته، وكتاب الله، وسنة رسوله، وقول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعقل، والفطرة، في الجميع ردّ وإبطال لما تعتقده وتقوله الجبرية.
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 303 - 305).(10/201)
قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (1)، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (2). فهذه الآية الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور على فعل الطاعات والمعاصي.
نعم العبد ليس بمجبور، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} (3).
والآيات القرآنية التي فيها الرد على الجبرية كثيرة جداً. فبعد تتبع المصحف من سورة الفاتحة إلى (قل أعوذ برب الناس) وجدنا 77 سبعاً وسبعين آية، كلها صريحة في الرد على الجبرية.
ولا ريب بأنه يوجد في القرآن الكريم أكثر من هذا العدد؛ وإلى المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، سبع آيات: قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} (4)، وقال تعالى:
_________
(1) التكوير الآيتان (28و29).
(2) فصلت الآية (46).
(3) الزمر الآية (41).
(4) النساء الآية (79).(10/202)
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} (1)، وقال جل وعلا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} (2)، وقال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (3) فالعبد له قصد واختيار فليس بمجبور، وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)} (4)، وقال جل شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)} (5)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} (6).
_________
(1) الأنعام الآية (120).
(2) الأعراف الآية (28).
(3) الإسراء الآية (7).
(4) الروم الآيتان (44و45).
(5) يونس الآية (108).
(6) يونس الآية (44).(10/203)
فهذه الآيات الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور، فالعبد يفعل الطاعات والمعاصي بقصده واختياره، ولا يخرج عن قضاء الله وقدره.
وأحاديث الرسول التي فيها إبطال لقول الجبرية كثيرة وشهيرة والحمد لله رب العالمين. فالرسول جلد في الخمر، وقطع يد السارق، ورجم في الزنا. (1)
علي بن عبد الله بن علي الحواس (2) (1410 هـ)
الشيخ علي بن عبد الله بن علي الحواس العساف، ولد في بريدة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها. أخذ عن الشيخ محمد الصالح المطوع والشيخ عمر بن محمد بن سليم والشيخ عبد العزيز العبادي. عين مدرسا في المعهد العلمي بحائل، ثم مدرسا في الأحساء، ثم عين موجها دينيا في جامعة الإمام محمد بن سعود. كان رحمه الله موصوفا بالتواضع والابتعاد عن الدنيا ومناصبها، حسن الصوت، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر. له مؤلفات أكثرها ردود.
توفي رحمه الله سنة عشر وأربعمائة وألف، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: 'بيان أن المثل الأعلى خاص لربنا وحده تبارك وتعالى'. وهو رد على من قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الأعلى في السيرة
_________
(1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 306 - 308).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 229 - 235).(10/204)
والمنهج. (1) وهو رد على من قال إن معية الله لخلقه معية ذاتية.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية: 'النقول الواضحة الجلية عن السلف الصالح في معنى المعية الإلهية الحقيقية'. (2)
جميل الرحمن (3) (1412 هـ)
الشيخ محمد حسين بن عبد المنان، المعروف بجميل الرحمن. ولد سنة ستين وثلاثمائة وألف للهجرة. في قرية وادي بيج بولاية كنر. طلب العلم مبكرا، فأخذ عن الشيخ عبد الخالق اللغة الفارسية والأردية وعن الشيخ عبد المنان السلفي الحديث وغيره وعن الشيخ محمد طاهر البنجشيري التوحيد والتفسير. كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في نشر الدعوة السلفية في أفغانستان بشكل كبير، ثم ضيق عليه فهاجر إلى باكستان، وبعد تحرير كنر عاد الشيخ، فأعلن فيها الإمارة الإسلامية على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر فيها بالصلاة وقضى على مزارع الحشيش وغيره، فدب الأمن والسلام، لكن أعداء التوحيد لم يسرهم هذا الأمر، فقاموا باغتياله على يد رجل يدعى أشرف بن أنور بن محمد النيلي من الحاقدين على الدعوة السلفية وذلك قبل ظهيرة الجمعة، صفر عام اثني عشرة وأربعمائة وألف للهجرة، فرحمه الله
_________
(1) علماء نجد (5/ 230).
(2) علماء نجد (5/ 230).
(3) مجلة المجاهد (العدد الخامس والثلاثون ص.8 - 11).(10/205)
رحمة واسعة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله يبين عقيدته ومنهجه: ونرى هجر أهل البدع والمعاصي واجبا لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك (2) وكذلك النصح لهم وتحذيرهم من البدعة واجب. ونرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وتعليم الكتاب والسنة، وتفقيه الناس وتثقيفهم في دينهم. (3)
- وقال أيضا: ونستدل في المسائل العلمية والعملية بكتاب الله وبسنة رسوله، ثم بالإجماع، ثم بسنة الخلفاء الراشدين المهديين، حسب القواعد والأصول التي سلك عليها السلف الصالح ومجتهدو الأمة، ونرى أن الخروج عن منهجهم في فهم الكتاب والسنة من الابتداع والزندقة. ونرى الرجوع في موارد الاختلاف إلى الكتاب والسنة، وليس الفصل بين الحق والباطل إلا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا هو سبيل المؤمنين في القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، وسبيل مجتهدي الأمة والأئمة الأربعة رحمهم الله، وكانوا ينفرون عن التقليد وينهون عنه. حيث قال الإمام مالك رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم
_________
(1) المجادلة الآية (22).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ).
(3) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (20).(10/206)
يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وقال: "ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي". وقال الإمام أبو حنيفة: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذنا" -وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا". وقال الشافعي: "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد". وقال تلميذه الإمام المزني في أول مختصر كتاب الأم: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله: "لأقربه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق". وقال الإمام أحمد رحمه الله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "من رد حديث رسول الله فهو على شفا هلكة". هذه عقيدتنا ومنهجنا ندعو إليه، ونرى أنه لا صلاح للجهاد إلا به، مع إخلاص التوحيد ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ذلك هو سبيل النصر وسبيل تأليف القلوب وتوحيد الصفوف وسبيل التمكين في الأرض، نسأل الله تعالى لنا ولكافة المسلمين الهداية والرشاد والحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا تسليما كثيرا. (1)
- ومن الأسئلة التي وجهت إليه ما يلي:
السؤال: أنتم متهمون بانتهاج السلفية للوصول إلى مآرب سياسية وهي الوصول إلى الرياسة والزعامة؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد
_________
(1) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (21).(10/207)
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. الجواب عن هذا السؤال من أربعة أوجه:
الوجه الأول: نعم إن رفع الصوت بالدعوة إلى الحق تارة يكون ناشئا عن داعية حب الرياسة وطلبها في نفس الإنسان، وتارة يكون ناشئا عن داعية إحساس المسئولية أمام الله، وكذلك التهمة التي يرمى بها الدعاة قد تكون ناشئة من الشبهة وعدم الفهم، وقد تكون ناشئة من أغراض سياسية عدوانية مثل صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس عن اتباعه ولبس الدين عليهم. فإذا نظرت في تاريخ الإنسانية من بدئه إلى يومنا هذا لا تجد داعيا رفع صوته بالدعوة ولو كان محفوفا بالبينات إلا رمي بالاتهامات والافتراءات. فهؤلاء قوم نوح عليه السلام يقولون عنه: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} (1) ويقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} (2) معنى يتفضل أي: يتقدم ويترأس عليكم. وهؤلاء قوم فرعون قالوا لموسى وهارون عليهما السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} (3) ومعنى الكبرياء في الأرض: الرياسة. وهكذا قال كبراء الناس في مكة: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى
_________
(1) المؤمنون الآية (24).
(2) الأعراف الآية (60).
(3) يونس الآية (78).(10/208)
آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)} (1)، ومعنى {شيءٌ يُرَادُ} أي أن محمدا أراد بهذه الدعوة أن تكون له الرياسة عليكم، كما في التفسير. فظهر أن اتهام الدعوة بطلب الرياسة هو اتهام قديم من عهد نوح عليه السلام وليس بمحدث، فالدعوة والتهمة سنتان من سنن الله الجارية. فهذه سنة من السنن الشرعية وتلك سنة من السنن الكونية والقدرية، وكلتاهما متآخيتان، كلما وجدت الدعوة رميت بالتهمة، يقول الله تعالى عن سنته الخالدة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (2)
وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (3)، وكل من سلك طريق الأنبياء في الدعوة لابد وأن يلاقي ما لاقوه من التهم. فنقول لإزالتها إن السلف الصالح هم: الصحابة والتابعون رضي الله عنهم الذين هم خير القرون بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهجهم في الدين هو المنهج الحق الذي تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وساروا عليه، ولا تصير الأمة المسلمة مستحقة للبشارة التي بشر الله سبحانه وتعالى بها في قوله إلا بحسب الظاهر، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ
_________
(1) ص الآية (6).
(2) الفرقان الآية (31) ..
(3) الأنعام الآية (112).(10/209)
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} (1) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة" رواه البخاري (2). ونحن نرى أن هذه الاتهامات بطلب الرياسة، قد رمانا بها المخالفون لمآرب سياسية تستهدف صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس عن اتباع دعوة الحق بالطعن في نية الدعاة، فليحذر كل مسلم من هذا، ولتكن له معاييره الشرعية في التفريق بين الحق والباطل، ولا يكن إمعة.
الوجه الثاني: إن جريرتنا عند المخالفين لنا أننا تكلمنا عندما سكتوا، وواجهنا الناس بالحقيقة عندما داهنوهم، ونصحناهم عندما غشوهم بعدم بذل النصح والإصلاح، حيث إننا نرى أن ما أصابنا وأصاب بلادنا من الغزو الكافر والدمار هو عقوبة من الله سبحانه لنا بسبب تفشي المنكرات فينا مع عدم الإصلاح، فتحققت فينا سنة من سنن الله الخالدة وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} (3) وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا
_________
(1) التوبة الآية (105).
(2) (5/ 315/2641).
(3) هود الآية (117).(10/210)
ظَالِمُونَ (59)} (1)، فإذا عم الظلم وقل المصلحون فقد أذن الله بالهلاك، أما العقاب الذي سلطه الله علينا فهو العدو الروسي الكافر وعملاؤه من الأفغان الملحدين، وتحققت فينا سنة أخرى من سنة الله الخالدة {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} (2) وهو المعنى المذكور في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته لجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند سيره لفتح فارس: "واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا. فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله الكفار والمجوس، {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} (3)، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم".
وقول عمر رضي الله عنه (فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم): قد تكرر وقوعه في الأمة الإسلامية، حيث تسلط الصليبيون على ممالك الأندلس الإسلامية فمحوها من الوجود وصارت اليوم بلادا صليبية كافرة، وتسلط التتار (المغول) الكفار على دولة الخلافة العباسية فدمروا مدينة بغداد وذبحوا الخليفة العباسي، وتسلط الصليبيون مرة أخرى على دولة الخلافة العثمانية حتى محوها
_________
(1) القصص الآية (59).
(2) الأنعام الآية (129).
(3) الإسراء الآية (5).(10/211)
وأزالوا الخلافة، وتسلط الروس الشيوعيون على بلاد التركستان وبخارى وسمرقند الإسلامية فحولوها إلى ديار كفر، ولم يقل أحد إن هذه الممالك الإسلامية الهالكة كانت ممالك كافرة أو مشركة، ولكن لما فشت فيها المعاصي والمنكرات سلط الله عليهم من هو شر منهم، وما يحدث اليوم في أفغانستان هو مثل آخر، سلط الله الروس الكافرين على الأفغان بمعاصيهم، فإما أن نستدرك أمرنا اليوم بالتوبة والإخلاص والطاعة، وإما أن ينتهي الأمر بزوال الإسلام وظهور الشيوعية، كما حدث في بخارى وسمرقند، نعوذ بالله من سخطه ونقمته. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} (1) وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) وقال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)} (3)، وأي معصية أعظم من مخالفة اعتقاد سلف الأمة ومنهجهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
_________
(1) الشورى الآية (30).
(2) النساء الآية (79).
(3) النساء الآية (62).(10/212)
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (1)،
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (2)، فكيف بمن يردون الأحاديث الصحيحة بأنها تخالف المذهب، فيقدمون آراء الرجال على الكتاب والسنة، ويجعلون آراء الرجال وقياساتهم حاكمة على الكتاب والسنة بالقبول أو الرد، ويتبعون في ذلك قاعدة تقول: (كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ). فكيف بمن يجوز الاستغاثة والتبرك بالموتى، وكيف بمن يرون أن الله سبحانه موجود في كل مكان، ويردون النصوص التي تثبت أن الله سبحانه في السماء، وهم يعلمون هذا لأطفالهم جيلا بعد جيل اتباعا لما وجدوا عليه آباءهم. وهذا ليس مقام حصر مخالفاتهم الشرعية بل هي أمثلة منها. وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (3) وقد خالفنا نصوصا كثيرة من الكتاب والسنة فأصابتنا الفتنة والعذاب في الدنيا بحلول العدو ببلادنا، فدمر وشرد وأهلك ما يعجز عنه الوصف، والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره. فالواجب علينا أن نعلم أن ما نزل بنا هو مثل ما نزل بكثير من الممالك
_________
(1) الأحزاب الآية (36) ..
(2) النساء الآية (115).
(3) النور الآية (63).(10/213)
الإسلامية الهالكة، وأن علينا أن نتدارك أمرنا حتى لا تكون نهايتنا كنهايتهم. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} (1) وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)} (2)
فنحن الآن في إمهال من الله، إما أن نرجع ونتضرع، وإما أن يحيق بنا ما حاق بالأمم الظالمة. فإذا كان ما سبق هو حقيقة الأمر في أفغانستان، وقمنا بدعوة شرعية إصلاحية لرد الأمة إلى طريقة السلف، طريق النجاة والفلاح، حتى يرفع الله سبحانه نقمته وغضبه عنا وحتى نكون أهلا لرضاه سبحانه، فكيف يظن بأن هذه الدعوة لأغراض سياسية، فحسبنا الله عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.
الوجه الثالث: مما سبق يتبين لك ضرورة الدعوة والإصلاح في بلادنا استدراكا للأمر قبل فوات الأوان، ونحن من هذا المفهوم انتصارا لدين الله الحق ولعقيدة التوحيد، قد قمنا بتأليف جماعتنا امتثالا لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} (3) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قال أبو
_________
(1) الروم الآية (41).
(2) الأنعام الآية (42) ..
(3) آل عمران الآية (104).(10/214)
جعفر الباقر: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ثم قال: «الخير اتباع القرآن وسنتي» (1) رواه ابن مردويه، والمقصود أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (2) وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (3)، فجماعتنا قامت للدعوة وللجهاد وكلاهما مقدم واجب لا يحتمل التأخير. ونحن نطمع في نصر الله سبحانه الذي وعد به من ينصر دينه ويدعو إليه في قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (4)
كذلك فإن جماعتنا قامت بجمع شمل أهل الحديث المستضعفين وقد قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
_________
(1) ذكره السيوطي في الدر ونسبه لابن مردويه.
(2) أحمد (3/ 10،20،49،50) ومسلم (1/ 69/49) وأبو داود (1/ 677 - 678/ 1140) والترمذي (4/ 407 - 408/ 2172) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 485 - 486/ 5023) وابن ماجه (1/ 406/1275) من حديث أبي سعيد الخدري وليس من حديث أبي هريرة.
(3) مسلم (1/ 69 - 70/ 50) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4) الحج الآية (40) ..(10/215)
نَصِيرًا (75)} (1). فإذا كانت حماية المستضعفين أصحاب العقيدة الصادقة موجبة للقتال أفلا تكون موجبة لتكوين جماعة تكفلهم حتى يبلغوا رسالة ربهم؟ وكذلك فإن من أهداف جماعتنا تربية أطفالنا وأطفال الشهداء على منهج السلف الصالح الذي لا ينتهج بفضل الله إلا في مدارسنا، ونحن نقوم بدعوتنا إعذارا إلى الله سبحانه كما قال سبحانه: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} (2). ونطمع في النجاة من نقمة الله وسخطه في الدنيا والآخرة حسب وعده الصادق {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} (3) ونحن علينا الدعوة والبلاغ أما هداية القلوب فبيد الله وحده لا شريك له {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (4) وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} (5). ونحن مستمرون بعون الله في دعوتنا غير مبالين بتهم المخالفين وافتراءاتهم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله، ويقولون
_________
(1) النساء الآية (75).
(2) الأعراف الآية (164).
(3) الأعراف الآية (165).
(4) القصص الآية (56).
(5) الأنعام الآية (35).(10/216)
إن دعوتنا هي تنفيذ لمخططات أعداء الإسلام لضرب الجهاد، وأن الجهاد لن يؤتي ثماره إلا بالإصلاح الشرعي الذي ندعو إليه.
والحمد لله رب العالمين، ونحن لم نفرق الصفوف، ولم ندع لإلقاء السلاح حتى يتم الإصلاح، فكيف يقال إن الدعوة السلفية وضعها الأعداء لضرب الجهاد.
الوجه الرابع: مما سبق تتبين لك الدواعي الشرعية التي دعت إلى إنشاء جماعتنا لا نبالي بعد ذلك تهمة طلب الرياسة التي هي من مواريث أعداء الرسل لصد الناس عن الحق واتباعه، بقي أن تعلم هنا أن الإمارة في هذا الدين ليست مذمومة ألبته وليست منهيا عنها لمن يقوم بحقها بل قد ترتقي أحيانا إلى مرتبة الاستحباب أو الوجوب الشرعي إذا دعت ضرورة صيانة الملة وحماية الأمة إلى ذلك وقال الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} (1) ووردت الأحاديث بالبشارة العظيمة للإمام العادل.
تم الجواب ولله الحمد والفضل والمنة. (2)
- السؤال: يقال إن أسلوبكم في الدعوة إلى العقيدة الصحيحة أسلوب فظ منفر؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. نحن نعلم أن من واجبات الدعوة أن يراعي الداعي حال المخاطب، وأن يختار أسلوبا لينا غير فظ ولا منفر، يقول الله تعالى: {فَقُولَا
_________
(1) يوسف الآية (55).
(2) جماعة الدعوة للقرآن والسنة (25 - 31).(10/217)
لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} (1). ويقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2). ويقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3). ونحن لا نخرج عن تلك الحدود تعظيما لأمر الله عز وجل، واقتداء بأنبيائه عليهم الصلوات من الله والسلام. فالذين يطعنوننا بالفظاظة والشدة -إن كانوا من أصحاب العقيدة الصحيحة ويعرفون من واجب الدعوة إليها يؤدون حقها ويقفون موقفا صريحا بحيث يعرف الناس من عقيدتهم ودعوتهم ويرون في أسلوبنا من الفظاظة، فعليهم أن يصلحوا ما رأوا ويهدوننا إلى أسلوب مناسب متلطف لأننا لسنا ندعي أن أسلوبنا أسلوب جيد راقي في الدعوة إلى أقصى ما ينبغي أن يكون عليه طريق الدعوة، بل يحسب هذا من شأن الأنبياء عليهم السلام لأنهم معصومون في التبليغ والرسالة بعصمة الله، ومؤيدون بوحي الله، غاية ما ندعي ونتيقن أن عقيدتنا عقيدة صحيحة. وأن الدعوة إليها واجبة ويجب علينا أن نختار من بين أساليب الدعوة التي نعرفها أسلوبا جامعا للجهات المناسبة ومحفوفا بما يتوفر في دواعي الإجابة والقبول، وإن كانوا ممن يخالف في العقيدة والدعوة أو الدعوة وحدها، فهؤلاء لا يريدون من الطعن
_________
(1) طه الآية (44).
(2) آل عمران الآية (159).
(3) النحل الآية (125).(10/218)
بالفظاظة إلا مخالفة أصل الدعوة ومحاربتها بأسلوب ماكر.
فنقول لهؤلاء تعالوا لنبحث أصل القضية وهي قضية العقيدة والدعوة، ثم بعد القضاء والاتفاق نبحث في كيفية أسلوب الدعوة ونختار بالاتفاق من أساليب الدعوة أسلوبا رضيا عندكم، أما إذا كنتم في اختلاف من مبدأ الأمر أو كنتم اخترتم موقف السكوت والمداهنة فلا ينبغي أن تطعنوا في طريق الدعوة الحقة، بل حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الآخرين. فبعد وضوح ما مر من داعية الطعن نقول: إن أصحاب البدع والأهواء دائما يقابلون أهل السنة بالفظاظة والغلظة، ويكفرون من خالف أهواءهم، ويخرجونهم من الملة ولا يصلون خلفهم بل لا يجوزون ذلك، ويفتون بجواز قتلهم ويحرضون عامة المسلمين على قتلهم وإيذائهم، وهذا واضح لكل من يعرف من أحوال المبتدعين من سالف الزمان. فنقول لهؤلاء الذين ينسبوننا إلى الفظاظة كيف تحاسبوننا بالقض والقضيض وتغمضون عن عدوان أهل الأهواء وفظاظتهم. يقول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} (1).اهـ (2)
موقفه من المشركين:
قال رحمه الله مجيبا على سؤال: يشيع عنكم بعض الناس أنكم تكفرون المسلمين والمجاهدين، فما قولكم في هذا؟
_________
(1) المائدة الآية (8).
(2) جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة (47 - 48).(10/219)
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
هذا القول بهتان وافتراء علينا، وهو أحد الأساليب التي تستغل لمحاربة دعوتنا وتنفير العامة عنا وإغراء أهل العلم بنا. والذين يشيعون عنا هذا صنفان من الناس:
الصنف الأول: إذا سمعوا منا أن التمائم ودعاء غير الله والاستغاثة بالأولياء والخوف والرجاء من غير الله من أعمال الكفر والشرك، وأن اعتقاد أن غير الله يملك للناس نفعا أو ضرا اعتقاد شرك، وأن إنكار صفة الفوقية والعلو لله سبحانه يستلزم الحلول والاتحاد أو عدم وجود الله، وأن القول بأن ما نقرأ من كلام الله ليس كلام الله حقيقة بل يحسب كلام الله مجازا، من الأقوال الكفرية. وإن وجدت هذه الأشياء فيمن يقر بكلمة الشهادتين ويصوم ويصلي ويلتزم الطاعة فيظن هؤلاء أننا نحكم على مرتكبي تلك الأعمال والعقائد بالكفر، وليس الأمر كما توهموا، فإن الحكم بكون العمل كفرا وشركا لا يستلزم الحكم بكون المرتكبين له كافرين في جميع الأحوال.
فإن كلا من أعمال الكفر وعقائد الشرك لا يخرج من يقر بالشهادتين من الملة والإسلام إلا بعد إقامة الحجة عليه، وأن لا يبقى له عذر جهل أو شبهة ومع ذلك يعاند ويستمر في أعمال الكفر وعقائد الشرك.
الصنف الثاني: يعلمون أن دعوتنا دعوة حقة وأنا لا نحكم بكفر المسلمين ولا المجاهدين لكنهم أخذتهم العزة والأغراض السياسية والمادية فيبهتون ويفترون ويشيعون عنا، والله يعلم إنهم لكاذبون، وهؤلاء نذكرهم(10/220)
بالترهيبات التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجرمنهم الأغراض السياسية والمادية على ألا يعدلوا. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. (1)
- وجاء في مجلة المجاهد:
المجاهد: هل يوجد في كنر أضرحة وقبور ظاهرة، وبعضها يعبد كما هو الحال في أكثر ولايات أفغانستان أم لا؟
الشيخ: إن دعوة التوحيد قامت في كنر من أكثر من خمس وثلاثين سنة فأكثر الناس والحمد لله يعتقدون العقيدة الصحيحة، ويحبون اتباع السنة، وإن كان فيهم من تأثر بالعقيدة الشركية، وقد وجدت القبور والأضرحة قبل دعوة التوحيد وما زال بعضها قائما، إلا أننا بدأنا في إزالته يوما بعد يوم، ولكن بصورة غير منظمة، فحتى الآن لم توظف لجنة تطوف على جميع المناطق لإزالة هذه الأضرحة وتسوية القبور. (2)
- وفيها أيضا:
المجاهد: هل تأمن الإمارة الآن من هجوم الشيوعيين؟
الشيخ: لا شك أننا لم ولن نأمن هجوم الشيوعيين، لأن الحرب قائمة بيننا وبينهم، غاية الأمر أن المحافظة بكاملها قد حررت، والمجاهدون متمركزون على الثغور مرابطون فإن حدث أي هجوم على كنر قام الجميع للدفاع، وإن لم يقم الشيوعيون بالهجوم فنحن نضع الآن الخطط للهجوم عليهم، ليستمر الجهاد ولترفع راية لا إله إلا الله عالية براقة فوق جبال
_________
(1) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (ص.44 - 45).
(2) مجلة المجاهد (العدد 30/ص.15).(10/221)
أفغانستان.
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له» (1). فإن استمرار القيام بفريضة الجهاد أمر نراه من صلب عقيدتنا؛ فإن الجهاد ماض إلى يوم القيامة.
وهناك جهادان:
جهاد داخلي: وهو دعوة الناس إلى العقيدة والتوحيد والدعوة إلى الكتاب والسنة بين المجاهدين وغيرهم واستتباب الأمن، وذيوع الروح الإسلامية في جميع الأوساط وفي جميع المجالات.
والجهاد الثاني: هو جهاد العدو الخارجي الكافر الشيوعي وغيره، فنحن لم ولن نكتفي -بإذن الله- بتحرير كنر وإقامة شرع الله بها حتى تكون جميع الأرض عامرة بشرع الله عز وجل. (2)
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 50) وابن أبي شيبة (4/ 212/19401) وعبد بن حميد (رقم848) وابن الأعرابي في معجمه (6/ 336/1137) والبيهقي في الشعب (2/ 75/1199) والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 142/766) والهروي في ذم الكلام (ص.124) كلهم من طريق ابن ثوبان عن حسن بن عطية عن أبي منيب عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 267) وفي (6/ 49) فعزاه مرة إلى الطبراني ومرة إلى أحمد وقال: "وفيه عبد الرحمن بن ثابت، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره وبقية رجاله ثقات". قال الذهبي في السير (15/ 509): "إسناده صالح". وعلقه البخاري في صحيحه (6/ 122) قوله: "ويذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جعل رزقي تحت ظل رمحي .. » الحديث، وأخرج الطرف الأخير منه «من تشبه بقوم فهو منهم»: أبو داود (4/ 314/4031). وقال العراقي في تخريج الإحياء (2/ 676/797): "وسنده صحيح". وقال ابن تيمية في الاقتضاء (1/ 236): "وهذا إسناد جيد". وللحديث شواهد من حديث أبي هريرة وأنس وحذيفة والأوزاعي مرسلا.
(2) مجلة المجاهد (العدد30/ص.15 - 16).(10/222)
محمد نسيب الرفاعي (1) (1413 هـ)
محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي: من علماء حلب، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف، وتعلم بها وتتلمذ لكبار علمائها وعلماء دمشق. عمل مراقبا ومدرسا في الكلية الإسلامية ودار الأيتام الإسلامية بمسقط رأسه، وشارك في مقاومة الفرنسيين فاعتقل وسجن بقلعة راشيا في البقاع الغربي وفي معتقل الميّة والميّة جنوب صيدا، وتعرف في أثناء ذلك على العلامة مصطفى السباعي والأديب عمر أبي النصر فأثرا فيه إذ ترك التصوف والطريقة الرفاعية التي كان يأخذ بها، وأسس بعد الإفراج عنه جمعية الدعوة السلفية للصراط المستقيم. وغادر إلى لبنان عام إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وسبعين وتسعمائة وألف ميلادي؛ داعيا وأخذ ينشر الكتب بالاشتراك، ثم أقام في الأردن حتى وفاته سنة ثلاثة عشر وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1 - 'التفسير الواضح على نهج السلف الصالح'، وهو مخطوط كما أشار إلى ذلك صاحبا إتمام الأعلام.
2 - 'تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير'، وقد نفع الله به كثيرا، إلا أنه يحتاج إلى زيادة تنقيح لأحاديثه.
_________
(1) إتمام الأعلام لنزار أباظه ومحمد رياض المالح (ص.273).(10/223)
3 - 'التوصل إلى حقيقة التوسل'.
- قال رحمه الله تعليقا على قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1): قلت: أي إن عليكم أن تعرضوا الإسلام في عقيدته السمحة الهادية المهدية على الناس. وعلى الناس أن يتدبروها ويطلعوا على أدلتها وحججها وبراهينها التي هي في مستوى مفاهيمهم ولا شك. لأن الله تعالى جعل الإسلام من السهولة والسماحة لدرجة: أن الناس في مقدورهم بما وهبهم الله من عقل وفهم أن يتدبروه على اختلاف درجاتهم في ذلك ... اللهم إلا أن يكون مجنونا أو ما يشبه فلا يكون مكلفا. وما سوى ذلك من الإنس والجن فمكلفون أن يفهموا ويتدبروا كما أراد الله وأمر فإن اتخذوه دينا يسره الله لهم وأعانهم على ذلك. ومن ركب رأسه، وتعصب لباطله رغم فهم الأدلة، وأعرض عن الإسلام فإن الله تعالى جزاء طغيانه: يُعمي قلبه، ويختم على سمعه وبصره جزاء وفاقا وذلك كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} (2).اهـ (3)
- وقال عقب قول ابن كثير: [أي تفهِمون الناس معانيه وتعلمونهم أحكامه وأوامره ونواهيه، لا أن تحفظوا ألفاظه فحسب ... ] قال: قلت: لقد
_________
(1) البقرة الآية (256).
(2) الليل الآيات (5 - 10).
(3) هامش تيسير العلي القدير (1/ 220).(10/224)
صار حفظ ألفاظ القرآن فقط في زماننا، صنعة عند الذين اتخذوا قراءة القرآن في الحفلات والمآتم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه! وهو لا يتجاوز حناجرهم. وسموا ظلما بالقراء .. !!! وما القراء في مفهوم الشرع، إلا العلماء والفقهاء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا إليه راجعون. (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: هؤلاء الملاحدة هم أهل وحدة الوجود التي هي نهاية حقائق علم التصوف وآخر درجات الحقيقة عندهم وهي مرتبة الوصول بأن يعتقد الواصل إليها أنه بلغ الحقيقة ... !!! وهي الاعتقاد بأن الخالق عين المخلوق مهما تعددت الأشكال والذوات. فالكل واحد وهو الله ... !!! فإذا أصبح العبد ربا فمن يعبد ... ؟ أيعبد نفسه ... ؟ وهنا تسقط التكاليف نعوذ بالله من الكفر والخذلان، وسوء المنقلب، ومن همز الشيطان ونفثه؛ فإن من يشرفه الله بالإسلام ويذوق حلاوته، ثم يختار مرارة هذا المنقلب الشركي المخيف فهو أهل لأحط دركات جهنم، وأعظم عذاب أهل السعير. (2)
- وقال رحمه الله: قلت: إن فكرة العودة إلى الدنيا مرة ثانية مع أنها عقيدة الكافرين الأول ... ما يزال بين المسلمين من يقول بهذه العودة إلى الدنيا ويجعلون هذا لأوليائهم عندما ينادونهم ويستغيثون بهم لتفريج الكرب!! فيعتقدون أنهم يحضرون حالا لنجدتهم في هيآت مختلفة ويدعون أنهم يرونهم ويكلمونهم، فتأمل يا أخي المسلم كم هو أثر إبليس اللعين في نفوسهم إلى
_________
(1) هامش تيسير العلي القدير (1/ 286).
(2) هامش تيسير العلي القدير (2/ 570).(10/225)
درجة جعلهم يعتقدون بعقيدة الكفار السابقين وهم يظنون أنهم ما يزالون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، يقولونها ترادادا من غير فهم بدليل أنهم ينقضونها وهم لا يشعرون، وذلك بدعائهم واستغاثتهم بغير الله في أمور لا يكشفها عنهم إلا الله تعالى، وإن ما يرونه من الخيالات ما هي إلا الشيطان تمثل لهم بمن ينادون ليزيدهم طغيانا وتثبيتا في الشرك؛ نعوذ بالله من الخذلان وسوء المنقلب. اللهم ثبتنا على: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (1).اهـ (2)
- وله رد على قصيدة البردة سماه: نقد قصيدة البردة لما في بعض أبياتها من البدعة والكفر والردة.
موقفه من الصوفية:
كان رحمه الله رفاعي الطريقة كما تقدم معنا، لكنه لما علم الحق وتشبع به، ترك التصوف وراءه ظهريا، وهجره إلى غير رجعة، ويكفي الصوفية عارا وخزيا رجوع أئمتهم وروادهم إلى الحق، فارين منهم، وما رأينا عاقلا عالما فارا إليهم.
قال رحمه الله: فما يقول أهل الطرق الذين يضربون أنفسهم بالحديد (الشيش) ويزعمون أنهم يتحسون السم ادعاء منهم أن هذه من (الكرامات .. ؟!!) زعموا .. ألا فليتوبوا إلى الله، وإلا فإن الخاتمة السيئة تنتظرهم، ونار جهنم ترتقبهم. (3)
_________
(1) الفاتحة الآية (5).
(2) هامش تيسير العلي القدير (3/ 568).
(3) هامش تيسير العلي القدير (1/ 379).(10/226)
موقفه من الجهمية:
له كتاب 'الباقيات الصالحات في شرح الأسماء والصفات'.
- قال رحمه الله: قلت: فما بال الذين يقولون -والعياذ بالله- (إن الله في كل مكان) ولا يخفى ما في هذا الكلام من معاني الحلول والاتحاد والوحدة تعالى الله عن ذلك، وهناك من يقول: (أن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف وليس هو في داخل الكون ولا في خارجه) وهذا كما لا يخفى، وصف للمعدوم والعياذ بالله، والقولان من دسائس اليهود لعنهم الله. (1)
- وقال عند قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (2): قلت: وهذه الآية من جملة الآيات الدالات على أن ذات الله في السماء؛ ولا يلزم من قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أن يكون الله داخل السماء، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. فالله أكبر مِن السموات ومِن كل شيء. وليس معنى الآية أن السماء تحتويه سبحانه وتعالى لأن (في) ليست الظرفية، إنما هي تفيد العلو. أي بمعنى (على) ومثل هذا وارد في القرآن كقوله تعالى على لسان فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (3) أي في أعالي جذوع النخل لا في داخلها. وعقيدة علو ذات الله، هي عقيدة السلف الصالح بخلاف عقيدة
_________
(1) هامش تيسير العلي القدير (1/ 422).
(2) الملك الآية (16).
(3) طه الآية (71).(10/227)
الخلف التي تقول أن الله في كل مكان خسيسا كان أم نفيسا، أو أن الله ليس فوقا ولا تحتا، ولا يمينا ولا شمالا ولا أماما ولا خلفا ولا هو داخل العالم ولا خارجه. وهذه صفات المعدوم والعياذ بالله تعالى من الكفر والضلال. فما أهدى عقيدة السلف الصالح! كيف لا والسلف الصالح هم محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والقرون الخيرة التي شهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية. فنحن نؤمن يقينا أن ذات الله في السماء أي فوق السماء، وفوق العرش وفوق الكرسي، بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل ولا تجسيم. إنها فوقية حقيقية تليق بجلاله وعظمته. وهو مع خلقه جميعا في صفاته العلى أينما كانوا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. (1)
- وقال عند قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (2): ويد الله صفة له، معلومة الحقيقة، مجهولة الكيفية، لا هي نعمته ولا قدرته، إنما هي يده صفة له حقيقة لا كالأيدي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (3) يد تليق بجلاله وعظمته تعالى وتقدس. (4)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: لا شك ولا ريب أنه لا راد لإرادة الله تعالى فالذي لا
_________
(1) هامش تيسير العلي القدير (4/ 402).
(2) الفتح الآية (10).
(3) الشورى الآية (11).
(4) هامش تيسير العلي القدير (4/ 197).(10/228)
يريده لا يمكن أن يكون قطعا. والذي يريده لا بد أنه واقع قطعا. ولا تكون حركة ولا سكنة إلا بإرادته، وإلا فيكون هناك مريد يغالب إرادة الله؛ وتنزه الله سبحانه أن يكون في الكون مريد غيره يغالبه. فالذي آمن ما آمن إلا بإرادة الله، والذي كفر ما كفر إلا بإرادة الله، ولكن يجب أن لا يفهم من هذا أن هذه الإرادة مجبرة على فعل الخير أو الشر، بمعنى أنه ليس للعبد أية إرادة فإن فعل خيرا فهو مجبر عليه أو فعل شرا فهو مجبر عليه .. لا وألف لا .. لأن إرادة الله غير أوامره، فإن الله أراد وما أمر، أراد لأنه لا يمكن أن يكون شيء إلا بإرادته، وما أمر لأنه لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولما كان الله تعالى أمر بأوامر ونهى عن نواهي من أجل أن يطاع فإن أطيع فللمطيع الجنة، وإن عُصي فللعاصي النار. وجعل للمكلف عقلا مميزا للخير من الشر فإن فعل الخير فلأنه مختار بذلك، ولولا اختياره هذا ما استحق عليه الجنة. وإن فعل الشر فلأنه مختار أيضا، ولولا اختياره هذا ما استحق عليه النار. فإن كان مجبرا على فعله ما استحق جنة ولا نارا. فمن أجل أن يستحق المكلف جزاء عمله جعله الله مخيرا فيما كلفه به، وكل ما فعله، خيرا كان أو شرا، هو بإرادته تعالى لأن الله تعالى يقدر على أن يمنع عبده من فعل الشر، كما أنه يقدر أن يمنع عبده من فعل الخير، ولكن لما سبق الوعد بالجنة إن فعل الخير، والوعيد بالنار إن فعل الشر، كان من حكمته تعالى، أن يكون عبده مخيرا لا مجبرا، لأنه إذا كان مخيرا وفعل الخير فهو يستحق الجنة بفعله وعمله واختياره، وإن فعل الشر فهو يستحق النار بعمله واختياره، وإن كان مجبرا على ذلك فأي نعيم أو عذاب يستحق .. ؟
فلكي لا يكون للناس على(10/229)
الله الحجة جعلهم مخيرين في عمل الخير والشر، هذا ضمن دائرة التكليف الذي يحصل بوجود العقل والتمييز، لأن على العقل مدار التكليف أما الأمور التي لا يستطيع العقل أن يبدي فيها أو يعيد وخارجة عن نطاق التكليف فالمخلوق مجبر في هذا المضمار وبالله التوفيق. (1)
حمود بن عبد الله بن حمود التويجري (2) (1413 هـ)
الشيخ حمود بن عبد الله بن حمود بن عبد الرحمن التويجري من آل جبارة، ولد في مدينة المجمعة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف. طلب العلم منذ صباه، فقرأ مختصرات في التوحيد والحديث والفقه والنحو. ثم لازم حلقة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فاستفاد منه وأجازه إجازة مطولة بالرواية عنه كتب الصحاح والمسانيد والسنن وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وقرأ على الشيخ قاضي مكة سليمان بن حمدان، ثم عين قاضيا ببلدة رحيمة بالمنطقة الشرقية سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم ببلدة الزلفي. وكان رحمه الله يوصف بالتقى والصلاح وحسن العشرة والتواضع، وكان قويا في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، مجانبا لأهل البدع والأهواء، ومنكرا عليهم. وممن أخذ عنه عبد الله الرومي وعبد الله بن محمد بن محمود وناصر الضريري وغيرهم. اعتنى بالبحث والتأليف، وبلغت مؤلفاته أكثر من خمسين مؤلفا.
_________
(1) هامش تيسير العلي القدير (2/ 159 - 160).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 141 - 145) وإتحاف النبلاء (1/ 189 - 197).(10/230)
توفي رحمه الله في مدينة الرياض سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1 - 'الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر'.
2 - 'إثبات علو الله على خلقه'. (1)
عبد الله بن محمد بن عبد الله الخليفي (2) (1414 هـ)
الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الخليفي، ولد في بلدة البكيرية بمنطقة القصيم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف، وأخذ العلم عن والده والشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ والشيخ عبد العزيز بن سبيل والشيخ محمد بن مقبل وغيرهم. عندما بلغ الخامسة عشر من عمره، أصبح إماما في مسجد في البكيرية، ثم استدعاه الأمير فيصل بن عبد العزيز ليكون إماما خاصا به في مدينة الطائف، ثم أصبح إماما للمسجد الحرام سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فمكث فيه قرابة أربعين سنة. وكان رحمه الله يتميز بحسن الصوت، أحبه العامة والخاصة وله أعمال خيرية كثيرة يعرفها الناس.
قال الشيخ صالح بن حميد: كان رحمه الله عالما فذا، طيب المعشر، تقيا ورعا، يعامل الناس بالمعاملة الحسنة، بذل الكثير في سبيل الدعوة الإسلامية
_________
(1) علماء نجد (2/ 143).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 472 - 479) وإتحاف النبلاء (1/ 201 - 215).(10/231)
ونشرها من خلال خطبه في المسجد الحرام، وعمله في المجال التربوي بوزارة المعارف.
توفي رحمه الله سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف، وقد رثاه مجموعة من العلماء والشعراء.
موقفه من المبتدعة:
له: 'القول المبين في رد بدع المبتدعين'. (1)
أحمد بن محمد ابن تاويت (2) (1414 هـ)
أحمد بن محمد بن عمر ابن تاويت الودراسي النجار التطواني، ولد في شهر ذي الحجة عام إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، حفظ القرآن والمتون على أبيه. ومن شيوخه: أبو بكر زنيبر، وأحمد العمراوي، وأحمد الكنسوسي، وغيرهم.
كان قاضيا لتطوان وأستاذا بمعهدها الديني، ثم مديرا له، وعين أيضا أستاذا بكلية أصول الدين وعميدا بها، ثم أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية مدة سنتين باقتراح من الشيخ عبد الله كنون، وله اشتغال جيد بالفقه وأصوله يميل إلى العمل بالدليل.
_________
(1) علماء نجد (4/ 474).
(2) 'إتحاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين' لمحمد بن الفاطمي السلمي ابن الحاج (ص.25).(10/232)
توفي رحمه الله في التاسع من ربيع الأول عام أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله: قبح الله التقليد الأعمى الذي يؤدي بصاحبه إلى أن يقبل عقله تعارض الآي المحكمة أو السنة الصحيحة وقول مقلَّد، ثم يرجح أخيرا قولا معرضا للخطأ على قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -، بدعوى أن الإمام ما خالف إلا لدليل قام عنده، فيدعون المحقق الموجود لمشكوك محتمل مفقود، وينسون أو يتناسون قول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1)، وقوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) الآية، وهكذا شأنهم في كل ما يجدونه في المذهب مخالفا للكتاب والسنة، مع أن الأئمة رضي الله عنهم تبرؤوا كلهم من هذا كما تقف على تصريحاتهم بذلك إن شاء الله.
وقد نقل الإمام أبو الحسن السندي الحنفي 1138هـ في حواشيه على سنن ابن ماجة قولة عبد الله بن عمر المشهورة: (أرأيت إن كان أبي نهى عنها -المتعة في الحج- وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر أبي يتبع أم أمر رسول - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وقولة ابنه سالم في مسألة استعمال الطيب قبيل الإحرام وقبل الإفاضة: (سنة
_________
(1) الحشر الآية (7).
(2) الأحزاب الآية (21).(10/233)
رسول الله أحق أن تتبع) فخالف رضي الله عنه رأي أبيه وجده لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال السندي رحمه الله ما نصه: وغالب أهل الزمان على خلافاتهم إذا جاءهم حديث يخالف قول إمامهم يقولون: لعل هذا الحديث، قد بلغ الإمام وخالفه بما هو أقوى عنده منه، وقد روى ابن عمر حديث: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (1) فقال له بعض ولده: نحن اليوم نمنعهن، فسبه سبا ما سمع مثله، وهجره إلى أن مات. انتهى كلام السندي ...
ومن الدواهي ما قام به بعض المتفقهة في السنين القريبة من إلقائه خطبة الجمعة ببعض زوايا تطوان مؤيدا جواز الصلاة بالزوايا ذات الأضرحة والقبور ولو جمعة؛ بالقرآن والسنة القولية والفعلية، ثم إجماع الصحابة رضي الله عنهم -هكذا قال-، وزعم أيضا -عفا الله عنا وعنه- أن الأحاديث الواردة بالنهي عن الصلاة على القبور ضعيفة، وعلى فرض صحتها وسلامتها فهي محمولة على خوف عبادة الموتى. إلى آخر ما أتى به من هراء وترهات، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} (2).
وايم الله إن ضرر هذا الفريق من المسمين بالفقهاء والعلماء على المسلمين لعظيم، وللبلية بهم شديدة؛ لأن العامة يغترون بهم ويظنون أنهم على
_________
(1) تقدم ضمن مواقف عبد الله بن عمر سنة (73هـ).
(2) الكهف الآية (5).(10/234)
حق فيما سكتوا عنه من البدع والعصيان، فيعتمدون على ذلك فيضلون، ويوم القيامة يحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. (1)
- قال في ذم التقليد: ولو اتبعنا سنة رسول الله وهديه الذي أمرنا بالاقتداء به، ووصية إمامنا مالك رضي الله عنه ونصيحته الذهبية .. في قولته المشهورة: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وما قاله الإمام؛ مثله للأئمة الثلاثة. قال الشافعي رحمه الله: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت"، وقال أيضا: "أجمع المسلمون -أي علماؤهم- على أن من استبان له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد". ولذا قال هو وأبو حنيفة رضي الله عنه: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: "من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة" -أي هلك-.
فالأئمة -كما ترى- كلهم متفقون على وجوب التمسك بالسنة والرجوع إليها، وترك كل قول يخالفها مهما كان القائل عليما؛ فإن شأنه - صلى الله عليه وسلم - أعظم، وسبيله أقوم. فمخالفة الأئمة رضي الله عنهم في بعض آرائهم وأقوالهم لأجل آية محكمة أو سنة صحيحة لا تعد خروجا عن المذهب؛ بل اتباعا لهم وعملا بما نصحوا ووصوا به أتباعهم من لزوم الرجوع إليها، وبذلك يكونون قد خرجوا من عهدة اتباعهم وتقليدهم على الخطأ؛ فجزاهم
_________
(1) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.40 - 42).(10/235)
الله أفضل الجزاء وأوفره على اجتهادهم الواسع الشامل لمسائل الدين وأحكامه، وخدمتهم الصادقة للإسلام ونصيحتهم الخالصة للمسلمين.
وقد أوجب ذلك على المسلمين القرآن وصحيح الأخبار، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (1) الآيات، وقال عز وجل: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ} (2) إلى أن قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (3) الآية. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد» (4) الحديث. اهـ (5)
موقفه من المشركين:
له: كتاب 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نشرها مصطفى شعشوع ضمن كتاب حول شخصية المؤلف، وقد قرظها محمد كنوني المذكوري -عضو رابطة علماء المغرب ومفتيها- ومن قوله هناك: "ولقد أجاد حفظه الله وأتى بالنصوص المستمدة من الينبوع الصافي السلسبيل
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) النور الآية (47).
(3) النور الآية (51).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (32هـ).
(5) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.54 - 57).(10/236)
كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يشفي الغليل ويبرئ العليل، واسمع لو نادى حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي".
وقد قرر رحمه الله في كتابه هذا وجوب المبادرة لهدم القباب التي على القبور، لأنها أضر من مساجد الضرار، ووجوب إزالة القناديل والسرج التي على القبور، وعدم النذر والوقف لها. وحشد فيه رحمه الله الأحاديث والآثار وأقوال الفقهاء المبينة لحرمة هذا العمل الشنيع، ومن بين أقواله العظيمة في ذلك؛ قوله: .. فلا مرية أنها بدعة يهودية منهي عنها ومحذر منها بنص الحديث الصحيح الشريف، وأصحابها وأنصارها محادون لله والرسول؛ لا سند لهم إلا فعل الأمراء الجهلاء والفقهاء الجبناء، ويا ما أكثرهم اليوم وقبل اليوم. (1)
محمد المكي الناصري (1414 هـ)
هو أبو عبد الله محمد المكي بن اليمني بن سعيد الناصري ولد بالرباط في الرابع عشر من شوال عام أربع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة.
تتلمذ على شيوخ كثير من أشهرهم: أبو شعيب الدكالي والمدني بن الحسني ومحمد السائح والحجوي الثعالبي وشقيقه محمد الناصري، ومن المشارقة: مصطفى عبد الرزاق ومنصور فهمي ويوسف كرم وعبد الوهاب عزام.
_________
(1) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.53).(10/237)
كانت له جهود في مقاومة المستعمر الفرنسي والإسباني بالمغرب ونفي بسبب ذلك عدة مرات.
من آثاره:
1 - 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة' وهو في بيان الخرافات والبدع الطرقية الصوفية (1).
2 - 'حرب صليبية في مراكش'.
3 - 'فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى'.
4 - 'الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية'.
5 - 'التيسير في أحاديث التفسير'.
6 - 'مكانة الاجتهاد في الإسلام'.
7 - 'كيف نجدد رسالة الإسلام'.
8 - 'تاريخ التشريع الإسلامي'.
9 - 'نظام الفتوى في العالم الإسلامي'. وغيرها كثير.
عين رئيسا للمجلس العلمي بالرباط وسلا، ووزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، وأمينا عاما لرابطة علماء المغرب، اشتهر بحلقات التفسير بالإذاعة المغربية.
توفي في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
_________
(1) وهو أول ما ألف وقد اجتمع بعض أشياخ الزوايا فردوا عليه في مسودة باسم أحدهم وهو الشرقي وسموها 'غاية الانتصار ونهاية الانكسار' فانتفض أخوه للحق والدين وهو محمد بن اليمني الناصري فرد عليها برسالة 'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار'.(10/238)
موقفه من المبتدعة:
- قال عنه شيخه وشقيقه محمد بن اليمني الناصري: "أول من جاهر بين أقرانه في هذا الوسط المغربي -الذي تعود أهله السكون والسكوت والتسليم للرجال على كل حال- بالدعوة إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطهير العقائد من الخرافات، وذم البدع ومحاربة أهلها من غير أن يخش في الله لومة لائم، أو عذل عذول بحب البدع هائم". (1)
- قال في مطلع كتابه 'إظهار الحقيقة': أما بعد: فإنه في هذا العصر الزاهر الذي اهتمت الأمم فيه بإحياء ما كان لها من المفاخر والمآثر، قد اتسعت مدارك شبان المسلمين وتفتحت بينهم أزهار العلوم، وانقشع ما غشى أعينهم من كثيف السحب ومتلبد الغيوم، التي طالما حالت بينهم وبين ولوج أبواب العلوم والعرفان، وأوقعتهم في مهاوي الهلاك والخسران، فكثر التباحث والتفاوض بينهم في أسباب الترقي إلى ذروة الكمال، وإرجاع ما كان لهم من العز والعظمة والجلال، إلى أن وقفوا على الغاية المقصودة، والضالة المنشودة، فعلموا أن السبب الوحيد في ذلك، والوسيلة الموصلة إلى بلوغ ما هنالك، هو اتباع الكتاب العزيز واقتفاء المشرع الأعظم، وعدم العدول عما أتى به - صلى الله عليه وسلم -، فسارعوا إلى القيام بهذا الأمر العظيم، وحملوا الناس على اتباع السنة والخروج عما هم فيه من مورد البدع الوخيم، وغدا كل واحد منهم ينشر دعوته بين مواطنيه، ويفيدهم ما عنده في هذا الموضوع من المعلومات، ويبين لهم أحسن الوسائل لمقاومة البدع وأسهل الطرقات، رغبة
_________
(1) ضرب نطاق الحصار (ص 19).(10/239)
في الترقي إلى ذروة المجد والشرف والعروج في معارج الرقي والمكرمات، حتى لم يبق إشكال لدى جل الوطنيين في أن الحق هو ما هم عليه، والصراط المستقيم هو ما يدعون إليه، فاتفقت آراؤهم على ذلك المبدإ الحميد، وسلكوه غير ملتفتين إلى من خالفهم من كل متعصب جامد وجاهل وبليد؛ فلما رأيت ذلك منهم حملتني الغيرة الدينية على أن انخرط في سلكهم وأعينهم (وإن لم أكن أهلا للإعانة) بتقييد موجز مفيد، فشرعت في ذلك، مستعينا بالله تعالى على سلوك تلك المسالك، ملخصا له من بعض مقالات نصراء الإسلام وحماة الدين -إلى أن قال- اعلم أن ما حدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى قسمين: قسم تقتضيه أصول الدين وتتناوله أدلة الشرع الكريم وهذا من الدين قطعا.
وقسم لا تقتضيه أصول الدين ولا تتناوله أدلة الشرع وهذا هو المسمى بالبدعة والضلالة وهو المردود على صاحبه لقيام البرهان على منعه من الكتاب والسنة" -ثم ساق الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ثم قال: "إلى غير ما ذكر من الأحاديث الواردة في رد البدع على مبتدعيها وذمهم والحط من مقامهم، والأخبار الطافحة بالحض على التمسك بالكتاب والسنة والإجماع، ونبذ ما خالف هذه الأصول من البدع المحدثة في الدين، المنافية للشريعة الإسلامية؛ إذ الخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع.
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع
اتبع صراط المصطفى في كل ما ... ياتي وخل وساوس الشيطان
واعلم بأن الحق ما كانت عليـ ... ــه صحابة المبعوث من عدنان(10/240)
من أكمل الدين القويم وبين الـ ... ـحجج التي يهدي بها الثقلان
واطلب نجاتك إن نفسك والهوى ... بحران في الدركات يلتقيان
نار يراها ذو الجهالة جنة ... ويخوض فيها في حميم ءان
ويظل فيها مثل صاحب بدعة ... يتخيل الجنات في النيران
لا تبتدع فلسوف تصلى النار مذ ... موما ومأخوذا على العصيان
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ولذ بكتاب الله والسنة التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح
وإذا اقتديت فبالكتاب وسنة الـ ... ـمبعوث بالدين الحنيف الزاهر
ثم الصحابة عند عدمك سنة ... فأولاك أهل نهى وأهل بصائر
فتابع الصالح ممن سلفا ... وجانب البدعة ممن خلفا
فكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
فبالسنة الغراء كن متمسكا ... هي العروة الوثقى التي ليس تفصم
تمسك بها مسك البخيل بماله ... وعض عليها بالنواجذ تسلموإياك مما أحدث الناس بعدها ... فمرتع هاتيك الحوادث أوخم(10/241)
فالاتباع أصل الفضائل كلها، وأس الكمالات بأسرها. والابتداع رأس الفضائح والمصائب، والسبب في اضمحلال الأمم وانحطاطها، وما يصب من اللعنات عليها ويحل بها كل لحظة من القوارع والنوائب. (1)
- ذكر في كتابه 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة' مقدمة حافلة في الحض على اتباع الوحيين الكتاب والسنة والحذر من البدعة والمبتدعة، فساق آيات كثيرة وأحاديث عديدة -مع ما يشوب بعضها من ضعف- وآثار سلفية وأشعار مرضية، وفي سياق بيان أن سبب تخلف الأمة هو الابتعاد عن الأصلين الشريفين قال: فاتباع الأصول الدينية المبرأة من محدثات البدع، هو السبب في نهوض الأمة وارتقائها، وشفائها من أدوائها.
والذي نراه من عارض خللها، وهبوطها عن مكانتها، إنما نشأ عن طرح تلك الأصول ونبذها ظهريا، وحدوث بدع ليست من الدين في شيء؛ أقامها دعاة البدع مقام تلك الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد إليه الدين، وعما أتى لأجله وأعدته الحكمة الإلهية له.
فاستبدلوا بالشريعة مذاهب وتقاليد هم بها عاملون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} (2) وغرتهم الحياة الدنيا، فطغوا بالميزان، وغرهم بالله الغرور، فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث، دون العمل الصالح والسعي الحثيث، فكانت عزتهم ذلا،
_________
(1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.5 - 12).
(2) المؤمنون الآية (53).(10/242)
وكثرتهم قلا، ومكروا السيئات؛ فقادوا العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين، بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} (1) ففسدت بذلك الأعمال والنيات، واتكل الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على نصرة الحق، فخلا الجو للأمراء الظالمين، والرؤساء الغارّين، وفسد بذلك على الأمة أمر الدنيا والدين.
طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان فاختاروا الظلمات على النور، وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور، وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور. (2)
- وقال رحمه الله: لا بد أن نقف وقفة ولو قصيرة عند قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} (3). ذلك أن كثيراً من الناس عندما تسبق إلى نفوسهم فكرة من الأفكار يتعصبون لها، ويجمدون عليها، ويعتقدونها اعتقاداً أعمى، فإذا أُلقي إليهم بفكرة جديدة
_________
(1) العنكبوت الآيتان (12و13).
(2) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.15 - 17).
(3) البقرة الآية (16).(10/243)
قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}. كما أن كثيراً من الناس عندما يتورطون في نوع مرذول من أنواع السلوك، ويألفون جوّه العفن، يصبحون أكثر الناس حذراً ومخافة من كل فكرة صالحة تلقي الأضواء على ما هم عليه من انحراف وشذوذ، باعتبار أن الفكرة الجديدة قد تكشف معايبهم، وتفضح أسرارهم، وتخرجهم عن مألوفاتهم التي أصبحوا أسراء لها، وتجعلهم حقراء مرذولين أمام أنفسهم أولاً، وأمام الناس أخيراً، وهكذا لا يكتفي الفاسقون بإقفال أسماعهم عن سماع أية فكرة صالحة؛ بل يتصدون لها بالمقاومة والمحاربة سراً وعلناً، وبذلك يزدادون فسقاً على فسق، وانحرافاً فوق انحراف، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} فقد أثبتت لهم هذه الآية صفة الفسوق أولاً وسابقاً، وبتأثير هذه الصفة الملازمة لهم والمسيطرة عليهم زادوا عتواً وضلالاً، إذ الجريمة تدفع إلى أختها، والسيئة تعين على مثلها، على حد قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (1) وذلك بعكس (المتّقين) الذين لازمتهم صفة التقوى، فانفعالهم من تلقاء أنفسهم يكون مزيداً من الهداية، ومزيداً من الرشد ...
وأما فساد الفاسقين وإفسادهم في الأرض، فيتجلّى في سعيهم إلى تحطيم جميع المقدسات، وفي استهانتهم الظاهرة والباطنة بجميع القيم، وفي
_________
(1) البقرة الآية (10).(10/244)
اعتدائهم المتوالي على حقوق الأفراد والجماعات، وفي إجبارهم للغير على الرضى بالفساد والعيش في ظله، ويتجلّى بالأخص في محاربتهم لأوامر الله وانتهاكهم لحرماته، والعمل بالخصوص على إقصاء تعاليمه وطردها من جميع مجالات العيش ومواكب الحياة.
وهذه الصفات الثلاث التي وصف الله بها (الفاسقين)؛ من خيانة للعهد، وقسوة في القلب، وإفساد في الأرض، كانت ولا تزال هي شعار الفاسقين لا تتخلف واحدة منها عن الأخرى في أي عصر ولا في أي جيل. (1)
- وقال: والحل القرآني والعملي لكل تنازع يطرأ بين المسلمين كما نص عليه كتاب الله؛ هو الرجوع إلى الله ورسوله، والنظر فيما أوجب التنازع بينهم، على ضوء ما في كتاب الله وسنة رسوله، واستخراج الحل الإسلامي الملائم من تعاليمهما وتوجيهاتهما، ومن القياس على نصوص الدين وسوابقه في عهد الرسالة وعهد الخلافة الراشدة، وبذلك يهتدي المسلمون إلى حل واحد يرضاه الجميع، ويلتزم طاعته الجميع، وما دام المرجع فيه هو الله ورسوله فلا غالب ولا مغلوب، ولا منتصر ولا منهزم، وإنما تكون كلمة الله وحدها هي العليا {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (2) وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
_________
(1) التيسير في أحاديث التفسير (1/ 31 - 34).
(2) النساء الآية (65).(10/245)
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (1) على غرار قوله تعالى في آية أخرى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2).
ثم جاء التعقيب على هذا الإرشاد الإلهي بأنه هو خير وسيلة وأحسن طريقة لفض النزاع بين المسلمين إذا طرأ عليهم ما يدفع إليه، وأنه أحسن عاقبة ومآلاً، وفي ذلك إيماء إلى أن أيّة وسيلة أخرى قد يقع عليها الاختيار خارج هذا الإطار، لا تكون ناجعة ولا نافعة ولا حاسمة للنزاع، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (3).اهـ (4)
موقفه من المشركين
- قال في سياق ذكر بعض البدع الشركية:
ذكر شيء مما فشا في الإسلام من البدع وإيضاح بعض ما نشأ عنها:
نظرا لغفلة علماء الدين وتهاونهم في الهدى والإرشاد، وميل الجهلة الطغام إلى كل مبتدع غريب؛ ولو أداهم إلى مشاركة المشركين فيه لصعوبة التكاليف الشرعية عليهم، وضعوا أوضاعا تشابه أعمال المشركين في الصورة أو في الحكم، وقاموا بها لسهولتها عليهم حيث لم يدخلوا بسببها تحت أمر غيرهم حتى أوشكت حالتهم أن تصير شبيهة بحالة المشركين، وعاد بينهم
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) الشورى الآية (10).
(3) النساء الآية (59).
(4) التيسير في أحاديث التفسير (1/ 348 - 349).(10/246)
الدين غريبا كما بدأ واختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا حسب اجتهاد كل واحد منهم، ووفور ذكائه، وقوة فكره، وحدة ذهنه.
فمنهم الذين اتخذوا القبور حرمات ومعابد، فبنوا عليها المساجد والمشاهد، وزخرفوها بما يجاوز حد السرف بمراتب، واصطلحوا فيها على بناء النواويس، واتخاذ الدرابيز والكسا المذهبة، وتعليق الستور والأثاث النفيسة، وتزويق الحيطان وتنميقها، وإيقاد السرج فوق تلك القبور ككنائس النصارى، وسوق الذبائح إليها، وإراقة الدماء على جدرانها، والتمسح بها، وحمل ترابها تبركا، والسجود لها، وتقبيلها، واستلام أركانها، والطواف حولها، والنذر لأهلها، وتعليق الآمال بهم، والتوسل إليهم بالله ليقضوا لسائليهم الحوائج -كما يزعمون- فيقولون عند زيارتهم: (قدمت لك وجه الله يا سيدي فلان إلا ما قضيت لي حاجتي) جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم؛ مع أن الميت قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف لمن استغاث به، أو سأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها؛ فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، واستعانة ذلك الميت وسؤاله لم يجعلهما سبحانه سببا لإذنه، وإنما السبب في إذنه كمال التوحيد، فجاء هذا بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، على أن الميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له، كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس أولئك القبوريون هذا، وزاروهم زيارة العبادة لقضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم قريبة(10/247)
من أن تصير أوثانا تعبد، وقد شاع هذا بين المسلمين وذاع وعم كل ما يستوطنون به من البقاع. (1)
- وقال: إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زوراً وبهتاناً إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية؛ قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعاً تاماً منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها؛ فإنما تدعي زوراً وتقول بهتاناً.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم؛ فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيّرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوّهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهراً ومظهراً. (2)
- وقال عند قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} (3): وفي هذه الخاتمة يستنكر كتاب الله من جديد موقف المشركين الذي يتخذون من عباده أولياء، يوالونهم ويعبدونهم من دون الله، فيجعلونهم محل الخوف والرجاء، ويعتقدون أن بِيَدِهم المنع والعطاء، ناسين أن
_________
(1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.19 - 20).
(2) التيسير في أحاديث التفسير (1/ 83).
(3) الكهف الآية (102).(10/248)
العابد والمعبود في هذه الحالة سيّان، إذ في العجز والضعف والافتقار إلى الله خالق الخلق ورازقهم، لا يفترق إنسان عن إنسان، وإقبال العاجز الفقير على عبادة عاجز فقير مثله نوع من خَوَر الرأي، وضرب من العبودية والهوان. (1)
موقفه من الصوفية
- قال في عد بعض البدع الفاشية: ومنهم جماعات اتخذوا دين الله لهوا ولعبا، فجعلوا منه القيام والرقص حالة الذكر الجهري، ظانين أن ما يفعلونه من الرقص حالة الذكر عبادة، مع أن من ظن ذلك تجب عليه التوبة؛ فإن ناظر على ذلك وقال إنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى يخالف الإجماع؛ فيكون عاصيا آثما، إن لم يكن كافرا بناء على القول بتكفير مخالف الإجماع.
وكيف يعتقد من أودع الله فيه نور العقل أن الشطح وما شابهه مما يعبد الله به، مع تيقنه أن ذلك مجرد لهو ولعب؟
متى علم الناس في ديننا ... وأن يأكل المر أكل الحما ... وقالوا سكرنا بحب الإلـ ... كذلك البهائم إن أشبعت ... فيا للعقول ويا للنهى ... تهان مساجدنا بالسما ... بأن الغنا سنة تتبع
ر ويرقص في الجمع حتى يقع
ـه وما أسكر القوم إلا القصع
يُرقصها ريها والشبع
ألا منكر منكم للبدع ... ع وتكرم عن مثل ذاك البيع
_________
(1) التيسير في أحاديث التفسير (4/ 20).(10/249)
ومما يزيد الطين بلة، والطنبور نغمة، أنهم يخلون ذكر الله وقتئذ بإنشاد مدائح أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه سيد المتواضعين حتى لنفسه الشريفة فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله» (1).
ولا تسأل عن تغاليهم في الاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لنسبوهم إلى الكفر والزندقة والمروق من الدين؛ لأن أبلغ صيغة تلبية كانت لمشركي قريش هي قولهم (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك). وهي كما ترى أخف شركا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادا بأصوات عالية مجتمعة وقلوب محترقة خاشعة. ومنهم أقوام كثيرون اصطلحوا على جعل يوم من السنة مخصوصا بفضيلة أكل اللحوم النيئة، والطواف في الأسواق، ودق الطبول والنفخ في الأبواق، وتلطيخ الثياب بالدماء المسفوحة طول يومهم الذي يكونون فيه قرناء الشيطان، مع أكل الزجاج والشوك والحيات والعقارب وشرب القطران.
ويزيدهم قبحا وبشاعة وتمكنا في الهمجية ما يتمثلون به من الحيوانات البهيمية، ويتشبهون به من الوحوش الضارية، فيشخصون للإنسان كل ما امتازت به تلك الحيوانات بغاية البراعة والإتقان، ويستميلون نفوس الراءين ويسترعون أسماعهم بما يحسنون به تلك الأدوار من أنواع المهايتات والصياح، ويجوزون الشوارع الواسعة، ذات الأطراف الشاسعة على هذه
_________
(1) أحمد (1/ 47و55) والبخاري (6/ 591/3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(10/250)
الحالة البشيعة المنظر، مختلطين بالنساء، حاملين الرايات الشيطانية جاعلين أبناء شيوخهم وسطهم راكبين على عتاق الخيل، لابسين أحسن ما عندهم من الثياب، محفوفين بالعز والتأييد والمهابة والإقبال منظورين بعين التعظيم والإجلال؛ وذلك ليستمطروا بهم سحائب فضلات الجهال، من النساء والرجال، الذين يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم -حسب زعمهم- في ذلك اليوم المشهود عند الشياطين، المحبوب عند أعداء الأمة والدين، ولينالوا بركة أولئك الأوباش الطغام الذين ينزل عليهم من الإعانات الشيطانية، والإمدادات الجارية طبق الأهواء النفسانية ما لا يحصى بِعَدّ، ولا يقف عند حد.
ومثل هؤلاء الرعاع: قوم آخرون؛ أبشع منهم منظرا وأقبح حالة، يطوفون بالأسواق ويضربون الطبول، وينفخون في الأبواق مثل سابقيهم، إلا أن هؤلاء يشدخون رءوسهم أثناء تطوفهم، ويضربونها ويسيلون دماءها بالأسلحة والفئوس والقلال، وغيرها من أنواع الآلات المحددة التي لا أقدر على وصفها مما يتخذونه قصدا للقيام بهذا الأمر الفظيع.
ويستعينون على كل ما ذكر بشرب المسكرات، واستعمال المرقدات والمخدرات، وهم سواء مع من ذكرناهم سابقا وقدمنا وصفهم في هذا الفعل القبيح والعمل السمج؛ ولكن مع هذا كله؛ فقد حصلوا على مراكز عظمى في القلوب، واستعمروا متسعات كبيرة كانت فارغة في النفوس؛ لما لهم من القدرة على تملك المشاعر، والسيطرة على الإحساس والوجدان، بأساليب الخداع التي يستعملونها وطرق التدليس التي يسلكونها، حتى إنهم سموا(10/251)
أفعالهم تلك بالحضرة موهمين بذلك أنهم وقتئذ يكونون في حضرة الله تعالى، وحاشا لله، فماهم إلا في حضرة الشيطان لعنه الله، محى الله مددهم وعددهم.
وليس العجب من انتشار ذلك بين العامة الذين هم كالأنعام، في كل الأمم والأقوام، بل العجب دخوله على كثير ممن يدعون أنهم من الخواص والعلماء، وانتصارهم لأهله، كأنه من غريز الكمالات في الدين الإسلامي؛ حتى أصاب جسم الأمة الإسلامية بسبب ذلك أمراض فعالة، وسرت في عروقها سموم قتالة:
أولها: احتجاب نور الشريعة عن أنظار العالم الإسلامي وراء ستر تقليد من لا علاقة له بالدين.
ثانيها: شيوع البدع والأحداث ونزولها منزلة أمهات المسائل الدينية.
ثالثها: استكانة النفوس لتلك البدع والركوع أمامها من العلماء جهلا أو تجاهلا، أو تأولا أو تقولا، ومن العامة تقليدا لهم.
رابعها: قعود أهل الإيمان والنظر الصحيح عن بيان حقيقة الدين الإسلامي خوفا من علماء السوء -وهم كثيرون- أن يثيروا العامة عليهم كما اتفق ذلك لكثير من أهل العلم الصحيح المتقدمين، وبعض العلماء الموجودين.
خامسها: وقوع المسلمين في الحيرة إذا توجه عليهم اعتراض في أمر وقامت عليهم حجة العقل في قبحه ظنا منهم أن ما هم عليه هو الدين.(10/252)
وهذه الأمراض والأعراض كافية؛ لأن تفقد الدين حياته الأدبية -لا قدر الله-، ولولا أن أصول الدين محفوظة من التغيير والتبديل لم تصل إليها يد عابث لما بلغنا شيء من حقائق الدين، ولاندثر كما اندثر غيره من الأديان التي نالت أصولها أيد المتلاعبين -والأمر لله ما شاء فعل. (1)
- وقال عن الآثار السيئة للتصوف المنتشر في بلاد المغرب وشؤمه على البلاد والعباد: ... إن كل ما أصابنا من أنواع الانحطاط والجمود والفشل والافتراق، والتنازع والتباغض، والتحاسد والشقاق؛ إنما هو من نتائج بدع المتصوفة المبطلين التي اتبعناهم فيها، واعتكفنا معهم على إقامتها، وسرت في نفوسنا سريان الدم في العروق، فلا شك أن النفس الحية الثائرة على الأكاذيب والأباطيل تشمئز من ذلك، وتسعى بجد واجتهاد في مقاومته، وتستعمل جميع الوسائل لحسم مادته وإزالته ... (2)
- وقال رحمه الله في معرض حديثه عن قصة موسى والخضر: ومن المفيد في هذا المقام القضاء على بعض الشبه والأوهام، ذلك أن الاعتراضات التي اعترض بها موسى على تصرفات صاحبه إنما لم يكن لها قبول؛ لأن تصرفات صاحبه صدرت على مقتضى ما أُوحي إليه من عند الله، ولم تصدر منه عن رأيه الخاص ومحض هواه، ولذلك لم يُعدّ عمله خروجاً على شريعة موسى عليه السلام، وأقرّه موسى في النهاية على تأويله وفارقه بسلام، اقتناعاً منه بقوله دفاعاً عن نفسه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ
_________
(1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.22 - 26).
(2) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.41).(10/253)
تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)} (1).
لكن في حالة ما إذا أكمل الله دينه، وانقطع الوحي الإلهي بالمرة، وختمت الرسالة إلى الأبد، كما هو الحال بالنسبة للرسالة المحمدية التي هي خاتمة الرسالات، إذ لا نبي بعد نبينا ولا رسول؛ فإنه لا يقبل من أحد من المسلمين مهما كانت درجته في العلم والصلاح والولاية أيّ قول أو فعل مخالف لنصوص الوحي الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله، فنصوص الشريعة حاكمة على ما سواها، ومهيمنة على ما عداها، وكل ما يصدر عن الناس من الأقوال والأفعال لا بد أن يوزن بميزانها، فما وافقها كان مقبولاً، وما خالفها كان مرفوضاً، ومن هنا كان كل ما يَخْرِم قاعدة شرعية أو حكماً شرعياً ليس بحق في نفسه؛ بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، حسبما نص عليه الشاطبي في 'الموافقات'، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (2).اهـ (3)
_________
(1) الكهف الآية (82).
(2) النساء الآية (65).
(3) التيسير في أحاديث التفسير (4/ 10 - 11).(10/254)
عبد الرزاق عفيفي (1) (1415 هـ)
الشيخ الإمام عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية العفيفي النوبي الأصل. ولد في شهر رجب من عام ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة في مدينة ششور من البلاد المصرية. طلب العلم منذ الصغر فدرس في الأزهر الشريف، ثم تولى رئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر، ثم رئيسا عاما لها. وفي عام ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، سافر الشيخ إلى المملكة العربية السعودية حاجا، فاستقر بها، شاغلا مناصب عدة في التعليم وغيره. تتلمذ عليه الشيخ محمد بن العثيمين والشيخ عبد العزيز آل الشيخ وإبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ صالح البسام وغيرهم.
قال فيه الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله آل الشيخ: الشيخ أحد الأعلام الفضلاء الذين هيأ الله لهم فرصة تربية الأجيال، وهو أحد العلماء الذين عرفوا بالجد والاجتهاد والإخلاص في أداء الواجب، وهو ذو علم واسع. وقال الشيخ صالح الفوزان: إن شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي -يرحمه الله- شخصية علمية فذة، فهو شيخ المدرسين، وقدوة العلماء السلفيين في هذا الوقت، له الفضل -بعد الله- على كل متعلمي هذا الجيل ممن تخرجوا في الدراسات الشرعية في التفسير والحديث والعقيدة والأصول. وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: إنه من أفاضل العلماء، ومن القلائل الذين نرى منهم سمت أهل العلم وأدبهم ولطفهم وأناتهم وفقههم.
_________
(1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 275) والإتحاف (2/ 11) ومجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1415هـ/ص.24 - 46).(10/255)
توفي رحمه الله سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف، وصلي عليه في جامع الإمام تركي، وكانت جنازته مشهودة، ودفن في مقبرة العود في الرياض.
موقفه من المبتدعة:
بعد أن تحدث رحمه الله عن أعداء الإسلام والأساليب التي يستعملونها لبث أفكارهم وشبههم -وذكر بعضها-.
قال: وغيرها من الشبه التي زانوها واستولوا بها على عقول البسطاء، وأحيانا ينتحلون أحاديث ينسبونها زورا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويلقونها على مسامع الأغرار وأهل الغفلة والجهل بفن الحديث من الذين لا يستطيعون التمييز بين صحيحه ومكذوبه، بل يصغون لكل ما نسب إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لحسن ظنهم بالرواة، وظنهم أنه لا يجرؤ أحد على الكذب على المشرع، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن ينصر دينه وينجز وعده، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (1)، ويأبى الحق إلا أن يصرع الباطل على يد النقاد من رجال الحديث وعلماء الرواية؛ بكلاءة هذا الفن وحفظه بتدوينه وتمييز الأصيل من الدخيل، والكشف عن أحوال الرجال جرحا وتعديلا يقظة وغفلة؛ إلا أن بعض رجال العلم من بعد أهملوا هذا الميراث الثمين، ولم يسلكوا سبل سلفهم في رد الفروع إلى الأصول، ولم يسيروا على ضوء مباحث الأولين في رد الشبه والأحاديث المفتراة؛ فغمرهم ظلام الإفك، وطغى عليهم التلبيس فتخبطوا في كثير من مباحثهم، وأكثروا من
_________
(1) الحجر الآية (9).(10/256)
الاحتمالات التي لا داعي لها ولا حاجة إليها، فضعفت كلمتهم أمام المحرفين والمشبهين الملحدين. وإن ما ترزح تحته الأمم الإسلامية اليوم؛ من تفرق في الكلمة، وانحراف في الرأي، وضعف في الدفاع، وتأخر إلى الوراء حين يتقدم غيرهم؛ ليس كل ذلك إلا نتيجة غفلتهم عن تراث السلف الصالح وسلوكهم لغير خطتهم علما وعملا.
ولقد راجت شبه الملحدين من جديد رواجا مخيفا جمد إزاءه المسلمون، ولو أنهم رجعوا إلى أقوال سلفهم الصالح وسلكوا طريقهم، لردوا كيد الكائدين إلى نحورهم؛ فإنه ما من شبهة تذاع اليوم إلا وقد سبق إليها شياطين الملحدين السابقين في العصور الأولى، ووقفها وردها وأبطلها أجلة علماء السلف ببراعة فائقة؛ فلا سبيل أرشد من سبيلهم، ولا هدي أقوم مما كانوا عليه؛ فالخير كل الخير في العودة إلى كتاب الله تعالى تلاوة له وتفقها فيه، وإلى أحاديث المصطفى صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - دراية ورواية، والفتيا بهذين الأصلين وعرض أعمال الناس عليهما؛ فهذا هو الفلاح والرشاد الذي ليس بعده رشاد. (1)
- ومن مقالاته رحمه الله:
من أسباب الانحراف والصدود عن الحق:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فللصدود عن الحق أسباب عديدة وموانع كثيرة؛ منها: الغرور الفكري والتقليد عن غير بينة وبصيرة، وتحكم العادات السيئة في النفوس، والأنفة والاستكبار،
_________
(1) إتحاف النبلاء (2/ 198 - 199).(10/257)
والحسد الممقوت، وطاغوت الافتتان بالمركز والجاه وكثرة المال، وما إلى ذلك، وكلها أمراض أخلاقية وبيلة، وأدواء مستعصية فتاكة، والحديث عنها يطول؛ فليكن حديثي في هذه الحلقة عن الغرور الفكري. الغرور الفكري هو إعجاب الإنسان بعقله، وافتتانه برأيه، وإنزاله فوق منزلته، وإعطاؤه من القداسة ما ليس بأهل له حتى يتدخل فيما لا يعنيه، وما ليس في وسعه وحدود طاقته؛ فيعارض العبد ربه في خلقه وتشريعه، فضلا عن معارضته لنظرائه ومن هو أوسع منه فكرا وأكثر تجربة من العلماء. لقد وجد الشيطان منفذا لوسوسته في اغترار قوم بعقولهم وعلومهم؛ فاستهواهم، وزين لهم أن يخوضوا فيما ليس من شأنهم، وأن يهجموا على بحث ما ليس في وسعهم بحثه. (1)
- وقال رحمه الله: الحكم فيمن رد السنة جملة -أي كلها- فهو كافر، فمن لم يقبل منها إلا ما كان في القرآن فهو كافر، لأنه معارض للقرآن، مناقض لآيات القرآن: والله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (2)، ويقول تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) ويقول تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
_________
(1) إتحاف النبلاء (2/ 187 - 188).
(2) آل عمران الآية (32).
(3) الحشر الآية (7).(10/258)
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} (1). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (2) ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3)،
فقوله: {فاتبعوني} هذا عام، فحد المفعول طريق من طرق إفادة العموم، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وما من صيغ العموم، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} أي: تنازع الرعية، وأولو الأمر من العلماء والحكام {فِي شَيْءٍ} فردوه إلى الله والرسول، فلم يجعله إلى الله وحده، بل جعله إلى الله وإلى الرسول، ورده إلى الله رده إلى كتاب الله، ورده إلى الرسول بعد وفاته رده إلى سنته عليه الصلاة والسلام، فدعواه أنه يعمل بالقرآن عقيدة وعملا ويرد السنة جملة -هذه الطائفة التي تسمي نفسها (القرآنية) - دعوة باطلة، وهو مناقض لنفسه لأنه كذب آيات القرآن التي فيها الأمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ ما جاء به، وطاعته فيما جاء به من عند
_________
(1) المائدة الآية (92).
(2) النساء الآية (59).
(3) آل عمران الآية (31) ..(10/259)
الله عموما دون أن يخص آيات القرآن، ثم هو في الوقت نفسه كيف يصلي؟ وكيف يحدد أوقات الصلوات؟ وكيف يصوم؟، وعن أي شيء يصوم؟ وتفاصيل الصيام كيف يعرفها؟ وكيف يحج بيت الله الحرام؟ فليس هناك إلا أركان محدودة من الحج في سورة البقرة، وكذلك أين أنصبة الزكاة؟ وكيف يزكي؟ كل هذه التفاصيل موجودة في السنة وليست في القرآن. فمن يدعي أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة فإنه مغالط ومناقض لنفسه، ومناقض للقرآن، لأنه رد آياته الكثيرة التي ورد فيها الأمر بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام والأخذ بما جاء به، ومناقض لإجماع المسلمين ولإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جميعا لم يشذ واحد منهم عن الأخذ بالسنة، فإذا هو كافر بالقرآن وإن ادعى أنه مؤمن به، والكافر بآية منه كالكافر بكل آياته، كافر بالإجماع منكر له أي إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فما فيهم واحد شذ عن السنة وأنكرها جملة، وإذا أنكر أحدهم شيئا فإنما ينكر حديثا من جهة الراوي لا من جهة أنه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: السنة.
وهذا أيضا لا يقوى على أن يقوم بالصلوات الخمس على وجهها المعلوم من الدين بالضرورة، فصلاة العصر أربع ركعات، وصلاة الصبح ركعتان لا يجد هذا في كتاب الله فمن أين جاء هذا؟ ما جاء إلا من تعليم جبريل للرسول عليه الصلاة والسلام، وتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه، فمن أين يأتي بهذا؟ فهذا مجمل الرد عليه، وإثبات أنه كافر بالقرآن، كافر بالإجماع اليقيني، كافر بالمعلوم من الدين بالضرورة، من مثل(10/260)
أن ركعات الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، والصبح ركعتان، وكافر أيضا بتفاصيل الصيام لأنها ليست في القرآن، وهي معلومة من الدين بالضرورة، فلذلك كان كافرا. (1)
- وقال رحمه الله في جماعة التبليغ: الواقع أنهم مبتدعة ومحرفون وأصحاب طرق قادرية وغيرهم، وخروجهم ليس في سبيل الله، ولكنه في سبيل إلياس، هم لا يدعون إلى الكتاب والسنة، ولكن يدعون إلى إلياس شيخهم في بنجلادش، أما الخروج بقصد الدعوة إلى الإسلام فهو جهاد في سبيل الله، وليس هذا هو خروج جماعة التبليغ، وأنا أعرف جماعة التبليغ من زمان قديم، وهم المبتدعة في أي مكان كانوا. هم في مصر، وإسرائيل (2)، وأمريكا، والسعودية، كلهم مرتبطون بشيخهم إلياس. (3)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: وتطرف البراهمة، فأحالوا أن يصطفي الله نبيا ويبعث من عباده رسولا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادا على العقل في التمييز بين المصالح والمفاسد، واكتفاء بما يدركه مما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرا كانت أو شرا، إذ هو سبحانه لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر بمعصيتهم.
_________
(1) فتاوى ورسائل (303 - 305).
(2) هذه التسمية الأولى أن لا تطلق على دولة يهود فإن في ذلك تزكية لهم وانظر في ذلك معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد (93).
(3) فتاوى ورسائل (372 - 373)(10/261)
وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد، وحاجة العالم إلى رسالة تحقيقا لمصالحهم، مع غنى الله عن الخلق وأعمالهم، فليس إرسالهم عبثا، بل هو مقتضى الحكمة والعدالة. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: يرى أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان لكونه امتثالا للنصوص الواردة في فضلهم، وأن بغضهم نفاق وضلال لكونه معارضا لذلك، ومع ذلك فهم لا يتجاوزون الحد في حبهم أو في حب أحد منهم لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2) ولا يخطئون أحدا منهم، ولا يتبرءون منه، ولهذا ورد عن جماعة من السلف كأبي سعيد الخدري والحسن البصري وإبراهيم النخعي، أنهم قالوا: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، ومعنى ذلك أن الشهادة على مسلم معين أنه كافر أو من أهل النار، بدون دليل يرشد إلى الحكم عليه بذلك بدعة، وأن البراءة من بعض الصحابة بدعة. (3)
- وقال رحمه الله: والمراد بالشيعة هنا: كل من شايع علي بن أبي طالب خاصة، وقال بالنص على إمامته، وقصر الإمامة على آل البيت. وقال بعصمة الأئمة من الكبائر، والصغائر، والخطأ، وقال: لا ولاء لعلي إلا بالبراء من غيره من الخلفاء الذين في عصره قولا وفعلا، وعقيدة، إلا في
_________
(1) فتاوى ورسائل (180).
(2) المائدة الآية (77).
(3) فتاوى ورسائل عبد الرزاق عفيفي (321 - 322).(10/262)
حال التقية. وقد يثبت بعض الزيدية الولاء دون البراء.
فهذه أصول الشيعة التي يشترك فيها جميع فرقهم، وإن اختلفت كل فرقة عن الأخرى في بعض المسائل، فمن قال ممن ينتسب إلى الإسلام بهذه الأصول فهو شيعي. وإن خالفهم فيما سواها ومن قال بشيء منها، ففيه من التشيع بحسبه. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: إرسال الله للرسل مما يدخل في عموم قدرته، وتقتضيه حكمته فضلا من الله ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط والمذهب الحق.
وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على الله إبانة للحق، وإقامة للعدل ورعاية للأصلح، وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين وبناء الأحكام عليهما -ولو لم يرد شرع- وهو أصل فاسد. (2)
- وقال رحمه الله: ولا يغترن إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلا، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعا، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه دينا، وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موضعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا -ثقة بعقله- واطمئنانا إلى القواعد التي أصلها بتفكيره، واتهاما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو تحديدا لمهمة رسالته وتضييقا لدائرة ما
_________
(1) فتاوى ورسائل عبد الرزاق عفيفي (337).
(2) فتاوى ورسائل (ص.180).(10/263)
يجب اتباعه فيه، واتهاما لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة، ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا.
فإن في ذلك قلبا للحقائق، وإهدارا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على أصولها إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيات أو الضروريات، فأي عقل يجعل أصلا يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلا.
أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الاستواء والصفات وتحريفها عن موضعها وفي القبول بالجبر؟
أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟
أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال؟
أم عقل من قالوا بوحدة الوجود ... إلخ. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: خرج جماعة من المسلمين على الخليفة الثالث عثمان ابن عفان لأمور نقموها منه، وأحداث أنكروها عليه، ومازال بهم اللجاج في
_________
(1) فتاوى ورسائل (ص.313).(10/264)
الخصومة معه حتى قتلوه. ولما انتهت الخلافة إلى علي بن أبي طالب كان ممن اختلف عليه وقاتله طلحة بن عبيد الله القرشي، والزبير بن العوام، فأما الزبير فقتله ابن جرموز، وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله، وكانت معهما عائشة -رضي الله عنها- على جمل لها، ولكنها رجعت سالمة مكرمة لم يعترض عليها أحد، وتسمى هذه الموقعة بـ "موقعة الجمل" (1). واختلف على علي -أيضا- معاوية ومن تبعه -رضي الله عنهم- ودارت الحرب بين الفريقين حتى كان التحكيم الذي زاد الفتنة اشتعالا ودب الخلاف في جيش علي، وخرج عليه ممن كان من أنصاره فرقة تعرف بالحرورية وبالشراة. واشتهرت باسم الخوارج.
وحديث العلماء في الفرق الإسلامية عن الخوارج إنما هو عن هؤلاء الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- من أجل التحكيم. أما طلحة والزبير، ومعاوية، ومن تبعهم، فلم يعرفوا عند علماء المسلمين بهذا الاسم.
ثم صارت كلمة الخوارج تطلق على كل من خرج على إمام من أئمة المسلمين اتفقت الجماعة على إمامته في أي عصر من العصور دون أن يأتي ذلك الإمام بكفر ظاهر ليس له عليه حجة وإذن، فأول من أحدث هذه البدعة في هذه الأمة الجماعة التي خرجت على علي بن أبي طالب سنة 39هـ، وأشدهم في التمرد، والخروج عليه، الأشعث بن قيس، ومسعود بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، والذي دعاهم إلى ذلك مسألة التحكيم المشهورة في التاريخ، ورضا الملومة به مع أنهم الذين أمروه به،
_________
(1) وقعت سنة (36هـ).(10/265)
واضطروه إليه، ثم أنكروه عليه فقالوا: لم حكمت الرجال؟ لا حكم إلا لله.
ورؤوسهم ستة: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والإباضية، والثعالبة، وعنها تتفرع فرقهم.
ومن أصولهم التي اشتركت فيها فرقهم، البراءة من علي، وعثمان وطلحة والزبير، وعائشة، وابن عباس -رضي الله عنهم- وتكفيرهم.
والقول بأن الخلافة ليست في بني هاشم فقط، كما تقول الشيعة، لا في قريش فقط، كما يقول أهل السنة، بل في الأمة عربها وعجمها، فمن كان أهلا لها علما واستقامة في نفسه، وعدالة في الأمة جاز أن يختار إماما للمسلمين.
ومن أصولهم: الخروج على أئمة الجور، وكل من ارتكب منهم كبيرة. ولذلك سموا بالخوارج. والإيمان عندهم: عقيدة، وقول، وعمل.
وقد وافقوا في هذا أهل السنة في الجملة، وخالفوا غيرهم من الطوائف. ومن أصولهم -أيضا-: التكفير بالكبائر، فمن ارتكب كبيرة فهو كافر، وتخليد من ارتكب كبيرة في النار إلا النجدات في الأخيرين. ولذا سموا وعيدية.
ومن أصولهم -أيضا-: القول بخلق القرآن وإنكار أن يكون الله قادرا على أن يظلم. وتوقف التشريع والتكليف على إرسال الرسل، وتقديم السمع على العقل على تقدير التعارض، فمن وافقهم في هذه الأصول فهو منهم وإن خالفهم في غيرها، ومن وافقهم في بعضها، ففيه منهم بقدر ذلك. وقد اجتمعوا بحروراء برئاسة عبد الله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعبد الله بن(10/266)
وهب الراسبي، وعروة بن حدير، ويزيد بن عاصم المحاربي، وحرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية. وكانوا في اثني عشر ألف رجل، فقاتلهم علي يوم النهروان، فما نجا منهم إلا أقل من عشرة، فر منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى موزان، فظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع.
وأول من بويع منهم بالخلافة عبد الله بن وهب الراسبي، فتبرأ من الحكمين، وممن رضي بهما، وكفر هو ومن بايعه عليا لتحكيمه الرجال ورضاه بذلك. (1)
موقفه من المرجئة:
سئل الشيخ: الإيمان الركن هل يزيد وينقص كالإيمان الواجب والمستحب؟
فقال الشيخ رحمه الله: نعم بدليل عموم قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (2) وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} (3) وهذا يعم جميع أقسام الإيمان. (4)
_________
(1) فتاوى ورسائل (331 - 333).
(2) التوبة الآية (124).
(3) الفتح الآية (4).
(4) فتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص.371).(10/267)
أبو عبد الله شمس الدين بن محمد الأفعاني (1) (بعد سنة 1415 هـ)
أبو عبد الله شمس الدين بن محمد أشرف بن قيصر، الأفغاني السلطاني المدني السلفي، ولد حوالي سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، قرأ في صغره على والده القرآن ومبادئ النحو والصرف وشيئا من الفقه الحنفي ثم توفي والده فصار يتيما.
واصل دراسته في أفغانستان وباكستان إلى أن رحل إلى الديار السعودية، فدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية حتى حصل شهادة "ليسانس" وشهادة "ماجستير" ثم الدكتوراه.
أسس رحمه الله الجامعة الأثرية ببشاور.
موقفه من المبتدعة:
له تآليف كثيرة يذب فيها عن منهج أهل الحديث، ويرد فيها على من خالفه من أهل الزيغ والضلال منها:
1 - 'الألفية السلفية المجتناة من القصيدة النونية'.
2 - 'الإرشاد والتسديد في مباحث الاجتهاد والتقليد'.
3 - 'السير الحثيث إلى فضل أهل الحديث'.
4 - 'إطفاء المحن والفتن بإحياء الآثار والسنن'.
5 - 'القواعد واللمع لمعرفة العوائد والبدع'.
6 - 'منهج السلف في الرد على بدع الخلف'.
_________
(1) مقتطف من سيرة ذاتية للمؤلف نفسه، انظر 'عداء الماتوريدية للعقيدة السلفية' (1/ 151 - 157).(10/268)
7 - 'عمدة العُدّة لكشف الأستار عن أسرار أبي غدة'.
8 - 'الاجتهاد في الرد على البدع من أفضل الجهاد'.
وغيرها من تآليفه التي تصب في هذا المضمار، ولعل مجرد ذكر التآليف السابقة يغني عن تفصيل القول فيها.
موقفه من المشركين:
له من الآثار:
1 - 'جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية'. في ثلاث مجلدات ضخمة.
2 - 'الفريد الوحيد لقمع الشرك وحماية التوحيد'.
3 - 'إزاحة القناع عن مكر أهل الشرك والابتداع'.
قال رحمه الله في خاتمة كتابه 'جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية': لقد وصلت في التفتيش والتنقيب لجمع مادة هذا الكتاب وتصنيفه إلى عدة من النتائج، وفيما يلي ذكر أهمها:
1 - أن القبورية أشد بلاء وأعظم محنة على الإسلام والمسلمين من جميع فرق أهل القبلة.
2 - لأنهم جمعوا بين التعطيل والتشبيه، وناقضوا توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية؛ بل عارضوا توحيد الربوبية أيضا.
3 - أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بغير الله تعالى.
4 - أن القبورية أعظم عبادة وأكثر خشوعا للأموات منهم لخالق البريات.(10/269)
5 - القبورية والصوفية، والمتكلمون إخوان أشقاء خلطاء في كثير من الشركيات والخرافات.
6 - القبورية جعلوا توحيد الألوهية عينا لتوحيد الربوبية؛ كإخوانهم المتكلمين.
7 - فالغاية العظمى عندهم هي توحيد الربوبية.
8 - القبورية جانبوا الجادة الصحيحة في تفسير المطالب العظيمة من التوحيد، والشرك والعبادة والتوسل والاستغاثة ونحوها؛ حيث حرفوها إلى معان أخرى تدعم وثنيتهم.
9 - أهم عقيدة للقبورية هو الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات، أما بقية عقادئهم فهي وسائل إلى تحقيق هذه الغاية.
10 - تبرقعت القبورية لتنفيذ خططهم المدبرة ضلالا وإضلالا بتعظيم الأنبياء والأولياء وحبهم.
11 - فارتكبوا أنواعا من الإشراك تحت ستار الولاية والكرامة والحب والتعظيم.
12 - سمت القبورية عقائدهم الفاسدة بأسماء برّاقة؛ حيث سموا الإشراك بالله بالتعظيم للأولياء وزيارة قبورهم، والاستغاثة بغير الله بالتوسل، وتصرف الأولياء في الكون بالكرامة، وعلم الغيب لهم بالمكاشفة، ونحوها.
13 - القبورية فرقة بعيدة المدى، هي أم كثير من الطوائف الباطلة عبر القرون، فهي بدأت في عهد نوح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتطورت؛ فكانت الأمم الخالية من عاد وثمود ومدين والفلاسفة اليونانية واليهود والنصارى ومشركي(10/270)
العرب وأمثالهم كلهم قبورية.
14 - ولكن أعني بالقبورية قبورية هذه الأمة، وهي شاملة للروافض والباطنية والمتفلسفة في الإسلام والصوفية الطرقية والشيعة والزيدية، وكثيرا من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة.
إلى أن قال:
38 - إن القبورية من الفرق الضالة الباطلة، الموجودة في واقعنا الماضي وحياتنا المعاصرة، المنتشرة في العباد والبلاد بالكثرة الكاثرة، وليست من الفرق المنقرضة كما يزعم ذلك بعض الجهلة الضالة المضلة.
39 - القبورية لهم طرق ومكر ودهاء وخطط مدبرة لنشر عقائدهم الباطلة بشتى الطرق، وهم يظهرون بأسماء شتى ودعوات متنوعة، تارة باسم الإصلاح والإرشاد والتبليغ وتهذيب الأخلاق، وتارة في صورة منظمة سياسية أو جهادية، وتارة في لون تأسيس الجامعات لنشر العلم والمعارف؛ فهم طرق وألوان، وأنواع وأفنان ولهم ظلم وعدوان وبغي وبهتان وسلطان، ولهم اهتمام ونشاط لتحقيق ما هم عليه من التفريط والإفراط.
40 - أن كثيرا من القبورية قد تظاهروا بالتوحيد والسنة، وهم في الحقيقة على توحيد الماتريدية الجهمية وعلى سنة الصوفية النقشبندية الخرافية؛ كالديوبندية التبليغية؛ لا ينتبه لهم إلا المتمكن من العقيدة السلفية، الحكيم المجرب العارف بواقع هذه الأمة عامة وحقيقة القبورية خاصة.
41 - لعلماء الحنفية جهود عظيمة بإبطال عقائد القبورية وقطع دابرهم وقلع شبهاتهم وقمع جموعهم وكسر جنودهم، ولهم في ذلك مؤلفات مفيدة(10/271)
نافعة كثيرة بلغات شتى، ولا سيما العربية والفارسية والأردية والأفغانية، مع ما في غالبها من العقائد الماتريدية والأفكار الصوفية.
فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسامحهم.
42 - وهذا دليل على أن أئمة السنة الذين ينبذهم القبورية بالوهابية ليسوا منفردين بالرد على القبورية، بل شاركهم في ذلك هؤلاء الأعلام من الحنفية.
فلست وحيدا يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنود كالسيول تدفق
والله المستعان وعليه التكلان. (1)
موقفه من الصوفية:
قال: وهذا المثال ينطبق على كتاب 'تبليغى نصاب' الذي هو كالمصحف للتبليغية، ففيه نفع قليل انتفع به كثير من الناس ولكنه مشوب بشر كثير وخرافات قبورية صوفية، وهذا النقد في غاية من الإنصاف وعلى محكم الأساس {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (2).
وعلى هذا المنوال كتاب 'المثنوى' للرومي الحنفي إمام الطريقة الصوفية المولوية، الذي تهافت عليه كثير من الحنفية الرومية والتركية والإيرانية والأفغانية والهندية، فقد بالغوا في إكبار هذا الكتاب الخرافي إلى حد سموه 'قرآن البهلوي'، ولقد بالغ مؤلفه المولوي الرومي الصوفي الحنفي في إجلال
_________
(1) جهود علماء الحنفية (3/ 1667 - 1675).
(2) البقرة الآية (219).(10/272)
كتابه المثنوي وإكبار هذا المعدن الخرافي. فقال: "وهو أصول أصول أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، يشرق إشراقا أنور من الإصباح ... ، يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، وإنه شفاء الصدور وجلاء الأحزان، وكشاف القرآن ... ، بأيدي سفرة كرام بررة، يمنعون أن لا يمسه إلا المطهرون، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. ".
قلت: هذا كما ترى فيه مضارعة ومضاهئة ومصارعة للقرآن، مع ما فيه من الضلال والإضلال والعدوان والبهتان.
أقول: وللحنفية المولوية، الصوفية الرومية التركية، عجائب أخرى في إجلال المثنوى، وغرائب أخرى في إكبار هذا الكتاب الخرافي. (1)
موقفه من الجهمية:
لقد سخر قلمه رحمه الله لدحض شبه الجهمية غابرها وحاضرها، فألف مؤلفات تدل على ذلك منها:
1 - 'تنبيه الساه اللاه على علو الله'.
2 - 'تقويل التأويل'.
3 - 'موقف اللصوص من النصوص'.
4 - 'طبقات الماتريدية وأشقائهم الأشعرية'.
5 - 'الجارية إلى تحقيق حديث الجارية'.
6 - 'الحملات القسورية على ثرثريات الجهمية'.
_________
(1) عداء الماتريدية للعقيدة السلفية (1/ 53 - 54).(10/273)
7 - 'عداء الماتريدية للعقيدة السلفية وموقفهم من الأسماء والصفات اللهية'. في ثلاث مجلدات.
8 - 'الصارم البأسي على الكلام النفسي'.
موقفه من الخوارج:
له كتاب: 'مصاعد المعارج في عقيدة الخوارج'.
محمد أمان الجامي (1) (1416 هـ)
الشيخ العلامة محمد أمان الجامي بن علي جامي علي، أبو أحمد. ولد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف بقرية طغاطاب في منطقة هرر بالحبشة. نشأ الشيخ نشأة علمية حيث حفظ القرآن الكريم ودرس العربية والفقه على مذهب الإمام الشافعي. ثم رحل إلى مكة وتعرف على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ولازمه واستفاد منه، وأخذ عن العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد الرحمن الإفريقي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ حماد الأنصاري والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم رحمهم الله.
قال الشيخ ابن باز عنه: معروف لدي بالعلم والفضل وحسن العقيدة، والنشاط في الدعوة إلى الله سبحانه، والتحذير من البدع والخرافات. وقال الشيخ محمد عبد الوهاب مرزوق البنا: ولقد كان رحمه الله على خير ما نحب
_________
(1) مختصر ترجمة فضيلة الشيخ محمد أمان الجامي لتلميذه مصطفى بن عبد القادر الفلاني.(10/274)
من حسن الخلق وسلامة العقيدة وطيب العشرة. وقال الشيخ عمر بن محمد فلاته: كان رحمه الله صادق اللهجة، عظيم الانتماء لمذهب أهل السنة، قوي الإرادة داعيا إلى الله بقوله وعمله ولسانه. وقال الشيخ عبد المحسن العباد: عرفت الشيخ محمد أمان بن علي الجامي طالبا في معهد الرياض العلمي ثم مدرسا بالجامعة الإسلامية بالمدينة في المرحلة الثانوية ثم في المرحلة الجامعية، عرفته حسن العقيدة، سليم الاتجاه، وله عناية في بيان العقيدة على مذهب السلف، والتحذير من البدع وذلك في دروسه ومحاضرات وكتاباته.
من تلاميذه الشيخ علي بن ناصر فقيهي والشيخ ربيع المدخلي والشيخ عبد القادر السندي والشيخ صالح السحيمي والشيخ بكر أبو زيد وغيرهم كثير. ومن مؤلفاته رحمه الله كتاب 'الصفات الإلهية' وكتاب 'أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام' ورسالة 'حقيقة الديمقراطية وأنها ليست من الإسلام' وغيرها.
توفي رحمه الله يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة وألف للهجرة، فصلي عليه بعد الظهر ودفن في بقيع الغرقد بالمدينة النبوية.
موقفه من المبتدعة:
- قال: حفظ الله للقرآن الكريم يتضمن حفظ السنة لأنها بيان وتفسير له فحفظها من حفظه، وعلى كل حال فإن السنة المطهرة محفوظة ولا شك، وهو أمر يكاد أن يكون ملموسا لمس اليد، إذ قيض الله لها رجالا أمناء ونقادا أذكياء يدركون من العلل الخفية ما يعجز عن إدراكها غيرهم. منهم من(10/275)
قاموا بدراستها وحفظها سندا ومتنا، وجمعها، ومنهم من عمدوا إلى غربلتها وتصفيتها حتى يتبين المقبول من المردود. ومنهم من دققوا في أحوال الرواة حتى إنهم يدرسون أحوالهم راويا راويا، بل حتى إنهم ليعرفون آباءهم وأجدادهم ومشايخهم، وتلامذتهم الذين حدثوا عنهم، إلى آخر تلك الخدمة الفريدة التي قدمت ولا تزال تقدم للسنة المطهرة، ولله الحمد والمنة. (1)
- وقال: ويتضح مما تقدم أن مدلول السلفية أصبح اصطلاحا معروفا يطلق على طريقة الرعيل الأول ومن يقتدون بهم في تلقي العلم، وطريقة فهمه وبطبيعة الدعوة إليه. فلم يعد إذا محصورا في دور تاريخي معين. بل يجب أن يفهم على أنه مدلول مستمر استمرار الحياة وضرورة انحصار الفرقة الناجية في علماء الحديث والسنة وهم أصحاب هذا المنهج وهي لا تزال باقية إلى يوم القيامة أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم» (2).اهـ (3)
- وقال: وما يمتاز به المنهج السلفي، أن الذين ينهجونه لا يختلفون إلا في الأسلوب والتعبير على اختلاف أزمنتهم ومشاكلهم. وذلك راجع لوحدة المصدر لدعوتهم، وهو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة الموضحة لمعاني النصوص، إذ هم الذين حضروا نزول الوحي وفهموا النصوص فور نزولها، قبل أن يطول عليها العهد، ولذلك يحرص اللاحقون من السلف أن
_________
(1) الصفات الإلهية (29 - 30).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ).
(3) الصفات الإلهية (64 - 65).(10/276)
يقتدوا بالسابقين. (1)
- قال رحمه الله: بعد أن استعرضنا الأدلة النقلية والعقلية لإثبات حجية القرآن والسنة في باب العقيدة، بل أثبتنا أنه لا فرق بين الأحاديث المتواترة وبين أخبار الآحاد في هذا الباب.
نرى أن نتبع ذلك بمناقشة موقف أولئك الذين ضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم الذين زعموا وجوب الاكتفاء بالقرآن دون السنة، أو جواز ذلك في باب الأسماء والصفات خاصة، وفي إثبات جميع الأحكام عامة، فنقول وبالله التوفيق:
إبطال شبه الزاعمين الاكتفاء بالقرآن دون السنة:
على الرغم من إجماع الأمة الإسلامية على أن السنة صنو القرآن، وأنها هي الحكمة المذكورة في القرآن في عديد من الآيات، وعلى الرغم مما هو معروف من أن الدين الإسلامي مستمد من الكتاب والسنة معا عقيدة وأحكاما، على الرغم من كل ذلك، لم تسلم السنة من أقلام بعض المتهورين المتطرفين، ولفرط جهلهم أطلقوا على أنفسهم (القرآنيون) أي العاملون بالقرآن -في زعمهم- المكتفون به، المستغنون عن السنة، هذا تفسير كلمة (القرآنيون) بناء على زعمهم. ولكن التفسير المطابق لواقعهم -إذا نظرنا إلى تصرفاتهم- أنهم المخالفون للقرآن، اتباعا للهوى، وتقليدا لبعض الزنادقة التقليد الأعمى. لأنهم في واقعهم قد خرجوا على القرآن بخروجهم على السنة لأنهما كالشيء الواحد من حيث العمل بهما، إذ السنة تفسير القرآن، ولأن
_________
(1) الصفات الإلهية (ص.112).(10/277)
القرآن نفسه يدعو إلى الأخذ بالسنة والعمل بها إيجابا وسلبا. إذ يقول الله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1). والأمر بأخذ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشمل كل ما صحت به السنة المطهرة من الأحكام وإثبات صفات الله وإثبات المعاد وغير ذلك، ورد في القرآن أو لم يرد لأن ذلك من مقتضى الإيمان بالرسول ورسالته. ومما لا شك فيه أنه لا يتم الإيمان بالقرآن إلا بالإيمان الصادق بمن أنزل عليه القرآن، والإيمان به - صلى الله عليه وسلم - إنما يعني تصديقه في أخباره واتباع أوامره ونواهيه، وقد أوجب الله طاعته على وجه الاستقلال في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2). وهو أمر لا يختلف فيه اثنان مسلمان، وأما هؤلاء القرآنيون الجدد فليس لهم سلف فيما ذهبوا إليه إلا غلاة الرافضة والزنادقة الذين في قلوبهم مرض كراهة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عن أصحاب رسوله.
وهؤلاء الروافض مرضى القلوب زعموا -وبئس ما زعموا- وجوب الاكتفاء بالقرآن والاستغناء عن السنة مطلقا في أصول الدين وفروعه، لأن الأحاديث -في زعمهم- رواية قوم كفار حيث كانوا يعتقدون أن النبوة إنما كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأن جبريل أخطأ فنزل بها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بدل أن ينزل بها إلى علي رضي الله عنه، وهذا الزعم الفاسد والقولة
_________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (59).(10/278)
الجريئة هي أساس شبهة الروافض في رد الأحاديث النبوية، وهي شبهة مختلقة كما ترى.
ومن لوازم رأيهم الفاسد هذا: أن أمر الوحي مضطرب فلا يصدر من لدن عليم حكيم الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بل يتصرف فيه ملك الوحي كما يشاء ويختار، ينزل بالوحي على من يشاء ويعدل عمن يشاء بالوحي، كما يفهم من قول هؤلاء الروافض أن ملك الوحي نفسه غير معصوم أو غير أمين على الوحي وعلى أداء أمانة الرسالة. إذاً فما مدى إيمان الروافض بالله أولا، ثم بالملائكة والنبيين عامة، وبخاتم النبيين خاصة، وبالكتاب الذي نزل عليه؟
وبعد: فلقد حاول هؤلاء الزنادقة والروافض إزالة السنن من الوجود والقضاء عليها -لو استطاعوا- أو أن يجعلوا وجودها وجودا شكليا فاقدا للقيمة. إلا أنهم لم ينالوا خيرا ولم يستطيعوا أن ينالوا من السنة شيئا، فانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم كمثل الذي يحاول قلع جبل (أحد) مثلا فأخذ يحوم حوله وفي سفحه لينقل من أحجاره حجرا حجرا، ظنا منه أنه يمكنه بصنيعه هذا قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو كالذي يغترف من البحر اغترافا بيده أو بدلوه محاولا بذلك أن ينفد البحر أو ينقص.
وما من شك أن هذا المسكين سوف تنتهي أوقاته ويجيء أجله المحدود والمحتوم، والجبل باق مكانه شامخا ليصعد أصحاب الخبرة ويترددوا بين شعابه ليعثروا على ما قد يخفى على غيرهم، بين تلك الشعاب المتنوعة التي لا يفطن لها غيرهم، إذ لكل ميدان رجال.(10/279)
كما يبقى البحر ثابتا مكانه ليغوصه الغواصون من رجال هذا الشأن، فيخرجوا للناس اللآلي والدرر من مسائل علم الحديث النافعة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هذه نهاية محاولة الروافض ومن يسيرون في ركابهم وقد أرادوا أن يجدوا ما يتعللون به من الأخبار التي تشهد لما ذهبوا إليه من قريب أو من بعيد، فعثروا في أثناء بحثهم على كلام باطل بطلان مذهبهم ونصه هكذا: (ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فإني لم أقله) (1) وكل من له نظر في هذا العلم الشريف يدرك أن هذا الكلام ليس من منطق الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا يظهر عليه نور النبوة -كما ترى- وعلى الرغم من ذلك فإن القوم قد طاروا به فرحا، ظنا منهم أنه نافع لهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفلتوا بحديثهم هذا من أيدي حراس السنة الذين لم تنم عيونهم الساهرة حفاظا على السنة، بل عثروا على حديثهم ذلك فأعلنوا عنه أنه من أباطيلهم ودسائسهم، حتى عرفه الناس على حقيقته بعد أن سجلوه في كتبهم، فأجروا له (عمليتهم) الخاصة، وفندوه وجرحوه وعروه أمام القراء حتى انكشف حاله، فلله الحمد والمنة.
يقول السيوطي في رسالته الطليقة 'مفتاح الجنة' (ص.214 وما بعدها): قال البيهقي: باب بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن، قال الشافعي رحمه الله: احتج علي بعض من رد الأخبار بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله)
_________
(1) سيأتي تخريجه قريبا.(10/280)
فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير أو كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية. اهـ كلام الشافعي.
قال البيهقي: أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا اليهود، فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي المنبر فخطب الناس فقال بأن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني (1) قال البيهقي: خالد مجهول وأبو جعفر ليس صحابيا، فالحديث منقطع. وقال الشافعي ليس يخالف الحديث القرآن ولكن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين معنى ما أراد خاصا أو عاما، وناسخا ومنسوخا.
ثم التزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن الله قبل، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي نقولا كثيرة في هذا الصدد نختار منها الآتي:
1 - قال البيهقي: قال الإمام الشافعي رحمه الله: "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل نص
_________
(1) أخرجه: الطبراني في الكبير (12/ 316/13224) من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبد الله عن عبد الله ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 170) وقال بعد عزوه للطبراني: "وفيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث". وتعقبه الشيخ الألباني، بأن أبا حاضر هذا ليس هو عبد الملك بن عبد ربه. وأبو حاضر هذا عداده في المجهولين ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستغناء (ترجمة 1548). وكذا الذهبي في الميزان وابن حجر في اللسان. والحديث أعله الشيخ الألباني في الضعيفة (1088) بأربع علل.(10/281)
الكتاب.
ثانيها: ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاما أو خاصا، وكيف أراد أن يأتي به العباد.
ثالثها: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه له ورضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من التشريع، لأن الله تعالى ذكره قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) فما أحل وحرم مما بين فيه عن الله كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فثبتت سنته بفرض الله تعالى.
ومنهم من قال: كل ما سن، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى". انتهى كلام الشافعي. وقال الشافعي في موضع آخر: "كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقا، ولم يجعل له في اتباع سنن نبيه مخرجا".
_________
(1) النساء الآية (29).
(2) البقرة الآية (275).(10/282)
قال البيهقي: "باب ما أمر الله به من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والبيان أن طاعته طاعته" ثم ساق الآيات التالية: قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نفسه وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} (1) وقال عز من قائل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) إلى غيرهما من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعة رسوله طاعته سبحانه، وأن معصيته معصيته تعالى. ثم أورد البيهقي رحمه الله (3) حديث أبي رافع رضي الله عنه: قال رسول الله: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (4).
ومن حديث المقدام بن معدي كرب قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم أشياء يوم خيبر كالحمار الأهلي وغيره ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن يقعد رجل على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم
_________
(1) الفتح الآية (10).
(2) النساء الآية (80).
(3) (7/ 76).
(4) أحمد (6/ 8) وأبو داود (5/ 12/4605) والترمذي (5/ 36/2663) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 6 - 7/ 13). والحاكم (1/ 108 - 109) وقال: "قد أقام سفيان بن عيينة هذا الإسناد وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه والذي عندي أنهما تركاه لاختلاف المصريين في هذا الإسناد" ووافقه الذهبي.(10/283)
رسول الله مثل ما حرم الله» (1) ثم قال البيهقي رحمه الله: وهذا خبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد، ومما قاله الإمام البيهقي في هذا المقام: ولولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته بعد تعليمه من شهده أمر دينهم: «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» (2).
هذا ... وإذا كانت شبهة الروافض والزنادقة في رد أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - زاعمين الاكتفاء بالقرآن -ما تقدم ذكره من موقفهم العدائي من الصحابة- فما حجة القرآنيين الجدد؟ فليس لهم شبهة تذكر إلا ما كان من حب الظهور -ولو على حساب الكفر برسول الله- أو مجرد التقليد الأعمى، أو ما كانت من عداء كامن للإسلام لم يمكن إظهاره إلا في هذه الصورة، ومهما يكن من أمرهم فإن القرآنيين الجدد أصل مذهبهم راجع إلى ما كان عليه غلاة الروافض. وقد عرفت شبهتهم فبئس التابع والمتبوع أو المُقَلِّد والمُقَلَّد، وبعد أن ذكر الإمام السيوطي في رسالته 'مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة' شبهتهم تلك، قال مستهجنا لها ومستقبحا: "ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا الرأي الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار"، إلى أن قال: "وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، وتصدى الأئمة وأصحابهم للرد عليهم في دروسهم ومناظرتهم وتصانيفهم" ثم ساق من نصوص كلامهم
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي محفوظ سنة (1361هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف فالح الدوسري سنة (1392هـ).(10/284)
الشيء الكثير في الرسالة المذكورة، ولابن خزيمة كلام نفيس في هذا المعنى.
وبعد: فدعوى الاكتفاء بالقرآن ومحاولة الاستغناء عن السنة إنما تعني الاستغناء عن الإسلام، أي تعني (الكفر) بأسلوب ملتو غير صريح لأمر ما، فأصحاب هذه الفكرة لا حظ لهم في الإسلام ما لم يراجعوا الإسلام من جديد.
وبعد أن استعرضنا أدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض أهل العلم في أن السنة صنو القرآن، ولا يفرق بينهما، فلنناقش هؤلاء الزاعمين عقليا ومن واقع حياة المسلمين في عباداتهم، ومعاملاتهم، فهل يمكنهم الاكتفاء بالقرآن دون أن يجدوا أنفسهم مضطرين لمراجعة السنة في كثير من عباداتهم ومعاملاتهم، حيث يجدون في السنة تفصيل ما أجمل في القرآن -وما أكثره- وتقييد ما أطلق وعمم فيه. بل ربما وجدوا أحكاما جديدة هم بحاجة إليها لم يرد ذكرها في القرآن كما يجدون بعض الصفات الإلهية جاءت بها السنة ولم يرد لها ذكر في القرآن. إن الواقع الذي يعيشه المسلمون يجيب على هذا التساؤل، وفي القرآن آيات يأمر الله فيها نبيه أن يبين للناس القرآن الذي أنزل عليه، إذ يقول الله عز وجل: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) ويقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) ويقول سبحانه آمرا لأتباعه
_________
(1) المائدة الآية (67).
(2) النحل الآية (44).(10/285)
وحاثا لهم على طاعته: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1). {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2).
وهذه الأوامر القرآنية والتوجيهات الإلهية تشير إلى أن هناك بيانا يقوم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن على أتباعه طاعته، وأن يأخذوا ما يأتي به ويأمرهم به، وعليهم أن ينتهوا عما ينهاهم عنه، لأن طاعته من طاعة الله عز وجل، ولأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وإذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أشرنا إليها لوجدنا الشيء الكثير، منها: أن الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام جاءت في القرآن مجملة هكذا: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (3) فيا ترى كيف يقيم القرآنيون الصلاة؟! فسوف لا يجدون صفة الصلاة وكيفيتها، وبيان عدد ركعاتها ومحل الجهر والسر فيها وغير ذلك من هيئات الصلاة، إلا في السنة الفعلية أو القولية. فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشيرا إلى هذا المعنى: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (4).
ولو تركنا الكلام في الصلاة، وانتقلنا إلى الزكاة لوجدنا القرآن قد أجمل أمر الزكاة كما أجمل أمر الصلاة، إذ نجد القرآن يقول: {وَأَقِيمُوا
_________
(1) الحشر الآية (7).
(2) النساء الآية (80).
(3) الأنعام الآية (72).
(4) أخرجه: أحمد (5/ 53) من حديث مالك بن الحويرث وأخرجه البخاري (2/ 142/631) مطولا وفيه قصة.(10/286)
الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (1). {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) لتقوم السنة ببيان الأموال التي تجب فيها الزكاة وبيان أنصبة الزكاة، والمقدار المأخوذ من كل نصاب على اختلاف الأموال، وهكذا نجد في باب الصيام أحكاما لم ترد في القرآن، وبينتها السنة، منها: حكم من أتى امرأته في نهار رمضان وهو صائم ما الذي يجب عليه؟ ومن أكل في رمضان أو شرب ناسيا ماذا يصنع؟ هل يتم صيامه أو يفطر؟
أما الحج فمؤتمر إسلامي عام وضع له القرآن الخطوط العريضة، فقامت السنة ببيان تفاصيله من أوله إلى آخره، ولو تتبعنا الأبواب الفقهية من باب الطهارة إلى آخر باب في الفقه لوجدنا السنة وهي تبين ما أجمل في القرآن، أو تأتي بجديد على ضوء الآيات السالفة الذكر.
ولو تركنا الأحكام الفقهية وانتقلنا إلى مباحث العقيدة لوجدنا للسنة دورها الذي لا ينكره إلا من يجهلها أو لا يؤمن بها، إذ نجد صفات الله تعالى إما ثابتة بالكتاب والسنة معا مع الدليل العقلي التابع للدليل النقلي، وإما ثابتة بالسنة الصحيحة، ولم يرد لها ذكر في القرآن الكريم مثل الفرح والضحك والنزول والقدم مثلا.
فلا أظن الزاعم الاكتفاء بالقرآن يجد مفرا بعد هذا البيان إلا إلى أحد أمرين:
1 - الإيمان والاستسلام، وهو خير له وأسلم بأن يعامل السنة معاملته
_________
(1) البقرة الآية (43).
(2) الأنعام الآية (141).(10/287)
للقرآن باعتبارها تفسيرا للقرآن.
2 - الكفر بالقرآن والسنة مَعا دون محاولة تفريق بينهما، وهو غير عملي كما ترى ويمكن أن يقال: إنه إيمان شكلي ببعض الوحي، وكفر سافر ببعض. (1)
موقفه من الجهمية:
له 'الصفات الإلهية في الكتاب والسنة'، بين فيها مذهب السلف رضي الله عنهم ونافح عنه رحمه الله ودافع، كما أنه رد مذهب الخلف من معطلة ومؤولة ومشبهة. فلله دره من إمام رحمه الله وله كذلك رسالة لطيفة أسماها: 'العقيدة الإسلامية وتاريخها'.
موقفه من القدرية:
قال في 'العقيدة الإسلامية وتاريخها': ويدخل في المطالب الإلهية الإيمان بقدر الله السابق وقضائه النافذ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأن ما أصاب العبد في علم الله لا يخطئه، وما أخطأه في علمه لا يصيبه، إذ لا يقع شيء في ملكه دون قدره وقضائه وفعله.
وذلك لقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} (2) وقوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ
_________
(1) الصفات الإلهية (47 - 56)
(2) التوبة الآية (51).(10/288)
لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} (1) والآيات والأحاديث في وجوب الإيمان بالقدر والقضاء كثيرة جدا كما لا يخفى، وهذا المقدار الذي ذكرناه يكفي في الإيمان بالقدر، مع الكف عن الخوض في أسرار الرب تعالى في قدره وقضائه وأفعاله التي لا تصدر إلا عن حكمة، فكما لا يجوز السؤال عن كيفية صفاته تعالى بـ (كيف)، كذلك لا يجوز السؤال عن أسرار قدره وقضائه بـ (لماذا) أو بـ (لم)، فلا يجوز للمؤمن أن يقول: لم خلق الله هذا، ولم أعطى فلانا ومنع فلانا، مثلا. بل يجب الإيمان بأنه سبحانه لا يخلق ولا يرزق ولا يعطي ولا يمنع ولا يحيي ولا يميت إلا لحكمة، وليس ذلك لمجرد تعلق الإرادة بالمفعول، كما يزعم بعض أهل الكلام ذلك (وهم الأشاعرة الكلابية).
وقد ثبت عن غير واحد من السلف الصالح قولهم: (القدر سر الله، فلا نكشفه)، فالتعرض لهذا السر الإلهي مزلة الأقدام، ومن أسباب الزيغ والضلال، فليحذر كل الحذر. (2)
محمد بهجة الأثري (3) (1416 هـ)
محمد بهجة بن محمود بن عبد القادر العراقي المعروف بالأثري، ولد سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. من أشهر مشايخه محمود شكري
_________
(1) فاطر الآية (2).
(2) العقيدة الإسلامية وتاريخها (ص.10 - 11).
(3) إتمام الإعلام لنزار أباظة ومحمد رياض المالح (ص.224 - 225).(10/289)
الآلوسي، وعلي علاء الدين الآلوسي. ولشدة ولعه بالحديث والآثار لقّبه شيخه محمود شكري الآلوسي بالأثري. كان عضواً في المجلس الأعلى الاستشاري بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية بانتخاب من الملك سعود سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة. نال عدة أوسمة، وكان كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف العراقية، عين عضوا بالمجمع العلمي العراقي والمصري والسوري.
له 'أعلام العراق'، و'تاريخ مساجد بغداد' (تهذيب)، و'المجمل في تاريخ الأدب العربي'، و'المدخل في تاريخ الأدب العربي'، و'دعوة التوحيد والسنة'، و'محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث' (وقد طبعتها جامعة الإمام بالرياض).
مات رحمه الله عام ست عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في تأييده لرسالة القسام والقصاب التي قررا فيها بدعية الجهر بالذكر في تشييع الجنائز: الدين الإسلامي يكفل للبشر السعادة في كل زمان ومكان، ويفي بحاجيّاته في كل عصر ومصر؛ لانطباقه على نواميس العمران، وابتناء أحكامه على قواعد محكمة، لا تكاد تزعزعها الأعاصير والعواصف، كما يشهد بذلك فلاسفة الاجتماع وعلماء العمران.
وقد نال الصدر الأول من السعادة التامة، والملك الكبير، والسلطان العظيم ما لا يقوم بوصفه البيان، ولا يمتري فيه إنسان، ذلك بما نفخه هذا الدين فيهم من روح العلم والعمل، والتواصي بالحق، والتعاون على البر(10/290)
والتقوى، حتى إذا دار الزمان دورته؛ دسّ أناسٌ من أعداء الدين أنفسَهم فيه، وتزيّوا بزيّ أهله، وصاروا يعملون على هدمه بما يضعون من أحاديث، ويدسون من روايات ليس لها أقل حظ من الصحة والصدق، ففشت بذلك البدع والأهواء، وثارت أعاصير القلاقل والفتن بين المسلمين، وكثر بينهم الشقاق، وزاد النفاق، حتى إذا انشقت عصا وحدتهم، وانقسموا إلى فِرق وأحزاب، كل حزب فرح بما لديه، وكلّ فرقة تكفّر الأخرى؛ لمخالفتها لها في المشرب ومباينتها إياها في المذهب.
ظل أهل الإسلام على هذه الحالة حينا من الدهر، والعدو يتربص بهم الدوائر، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (1)، لا يكادون يشعرون بحالتهم، ولا يعلمون أيان مصيرهم، حتى قيض الله في هذا العصر فئة من عقلاء الأمة وحكمائها، أحسّت بالخطر المحدق، فأهابت بالأمة وأخذت تسعى لمحو الخرافات المتغلغلة في أعماق النفوس، وإعفاء آثار البدع والمحدثات التي غص بها العالم الإسلامي، وصارت شارةَ عارٍ في جبين الإسلام، هذا إلى أعمال أخرى عظيمة لها مقام غير هذا المقام.
نجحت هذه الفئة بعض النجاح فيما دعت إليه من تنقية الدين من الشوائب، وأيقظت أذهان كثير من الناس، وصار لها أتباع ومريدون، ينشرون دعوتها، ويعززون كلمتها، ويدعون إلى اطراح ما لم يرد به الدين،
_________
(1) الكهف الآية (104).(10/291)
مما عليه عامة المسلمين على ما لاقت من المقاومة والمناهضة من فريق المبتدعة: أولئك الذي مني الإسلام بهم ومنوا به!
هؤلاء المخرّقون أو أولئك الجامدون على المحدثات، العاضّون عليها بالنواجذ: قوم عالة، نشؤوا على المسكنة، فاتّخذوا الدين أحبولة يصطادون بها طائر الرزق، وآنسوا من أهله الغافلين ميلا لهم، وتعلقا بأذيالهم -وما أشد تعلق العامة بمن يظهر لهم التقوى! - فاتخذوا لهم منهم جنة، تقيهم من سلاح أهل الإصلاح الماضي، وتحفظ لهم منزلتهم الموهومة، فهم أبداً، ينزلون على إرادة الرعاع، ولا يخالفون لهم أمرا خشية من نفورهم، ومحافظة على مكانتهم عندهم، فهؤلاء القوم عقبة في سبيل المصلحين كؤود، ولو تسنّى لرجال الإصلاح القضاء عليهم؛ لرأيت النساء يدخلون في دين الله أفواجاً، ولابد أن يأتي يوم يظهر الله فيه -على أيدي المصلحين- دينه الذي ارتضاه، ويتم نوره.
على أن هؤلاء المبتدعين، فضلا عن حرصهم على حفظ مكانتهم عند الرعاع، قوم استأنسوا بظلام الجهل، وأخلدوا إلى المسكنة والذل، حتى طبع الله على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فهم يتأذى بصرهم من نور العلم، ويعزّ عليهم الخروج من غيابة الجبّ إلى استنشاق الهواء الطلق في هذا الفضاء الواسع المترامي الأطراف، وهم -مع ذلك كله- لا يخجلون من دعوى أنهم رجال الإصلاح والصلاح، وأن سعادة البشر لا تتم إلا باتباع مناهجهم وسبُلهم! ويعلم الله أنهم ليسوا إلا حشرات سامة، تحارب السعادة والبُلَهْنيّة (1)،
_________
(1) الرخاء وسعة العيش.(10/292)
وتمزق أشلاء الإنسانية بسمّها الناقع، وشرها المستطير، وأن محدثاتهم لأضرّ على الدين من طعنات ألدّ أعدائه، وأجلب للشرور إليه من أشد مناوئيه.
أجل! فإنه لولا محدثاتهم المخزية التي شوّهوا بها الدين، وتفهيمهم الدين للناس تفهيما مقلوبا لما تجرأ أحد على الطعن فيه، ولما خسر كل يوم عدداً من أبنائه غير قليل.
وليس ما يرتكبه هؤلاء جهاراً، ليلاً ونهاراً، من ضروب الموبقات، ويجرأون عليه من مقاومة المصلحين جهلاً وعدواناً بضروب الوسائل، بخافٍ على أحد، وقد كنت إخال أن للعراق النصيب الأوفر والحظ الأكبر، من هؤلاء المبتدعة حتى إذا كُتبت الرحلة لي في هذه الأيام إلى بلاد الشام، ووقفت عن كثب على أحوال قادتهم، واطلعت على بعض ما لهم من المؤلفات في الدعوة إلى حشوهم، والتهويل على المصلحين؛ دهشت مما رأيت، وعجبت لانقياد العامة لهم وتألّبهم على كل من يحضّونهم على مناهضته من رجال الإصلاح الديني والعلمي، إن حقّاً، وإن باطلاً، حتى كأن الشاعر العربي قد قصدهم بقوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا!
ومن جملة الأمور التي وقفت عليها: أن عالماً من رجال الإصلاح سئل عن (حكم الصياح في التهليل والتكبير، وغيرهما أمام الجنائز)، فأفتى بأنه "مكروه تحريما، وبدعة قبيحة، يجب على علماء المسلمين إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، مستدلا بآية قرآنية، وحديث صحيح وأقوال الفقهاء"، وسأل هذا المستفتي عن السؤال نفسه رجلاً آخر ينتمي في الظاهر إلى العلم، فأجاب(10/293)
بالسلب، ونفى ما قرره الأول نفيا رجما بالغيب، وتهجما على الحق بقول الزور، ولم يكتف بذلك وحده، بل تجاوز حدود الأدب والإنصاف، ورمى الرجل بالزيغ والضلال، وأسند إليه ما لم يقل به، ولم يجر به قلمه، شأن أصحاب الهوى والإفك، وأن في قصة الإفك لعبرة لقوم يعلمون.
إن هذه المسألة، وكذا مسألة المولد النبوي، ونظائرها؛ لمن الأمور البديهية، التي لا يحسن بمنتم إلى العلم وشاد شيئا من الفقه، أن ينازع أو يختلف فيها، ومن نازع فقد أعرب عن جهل عريق، وفهاهة باقلية، وجهالة غبشانية!
فقد أجمعت كلمة المحققين من السلف والخلف على إنكار هذه البدع التي لم ينزّل الله بها من سلطان، ولم يختلف منهم قط اثنان.
وإن فيما ساقه الأستاذان الجليلان: الشيخ كامل القصّاب، والشيخ عز الدين القسّام، من الأدلة الشافية، والنقول الوافية، عن فطاحل علماء المذاهب الأربعة في رسالتهما: 'النقد والبيان في الردّ على خزيران' -الذي أعرب عن مبلغ علمه وفهمه للدين- لَغُنية عن سرد ما نعرفه من أقوال المحققين في هذه المسائل، وعسى أن يتروّى خزيران وشيخه في رسالة الفاضلين، فيستعينا بها على الرجوع إلى الحق، ويعلنا للناس خطأهما المطلق؛ لئلا يزل معهما من يزل ممن يحسّن الظنّ بهما، ويرجع في فهم أمور الدين إليهما ... !
على أن الجدال في مثل هذه المسائل البسيطة، أصبح في هذا العصر -عصر المسابقة والمباراة، عصر الصناعات والمخترعات-، ضربا من المضحكات، التي يخجل أن يفوه بها عاقل، وإنني لأعتقد أن الأستاذين الهمامين: القصاب والقسّام(10/294)
-وهما هما- ما كانا ليبحثا في هذه المسألة ويؤلّفا لها رسالة، لولا وجوب نصرة الحقّ، ودحر شبه المضلّين في الدين.
سدّد الله خطوات الجميع، ووفّقنا إلى ما فيه خير الأمة، والسلام على من اتّبع الهدى. (1)
- وقال في كتابه: 'دعوة التوحيد والسنة': وأشهد مخلصا أن بين سيرة محمد بن عبد الوهاب ودعوته، ولأسمها: الدعوة التجديدية، رحما واشجة، وآصرة وثيقة محكمة يبدوان من غير تكلف للرؤية في هذا التطابق التام بين الفكر والتطبيق، وبين ضلاعة الدعوة وضلاعة صاحب الدعوة وشخصيته المتميزة بأنواع من الصفات الأصلية، ومنها ضلاعة تكوينه البدني وضلاعة إيمانه، وصلابته، وتمسّكه بالسّنة.
وقال: ما الصنع العظيم الذي صنعه محمد بن عبد الوهاب؟ الجواب عن هذا السؤال الكبير، يصوغه واقع التاريخ وحقائقه، ولست أنا من يصوغه.
واقع التاريخ يقرر في صراحة ووضوح بيان أنه الرجل الذي أيقظ العملاق العربي المسلم من سبات في جزيرة العرب دام دهراً داهراً، وأشعره وجوده الحيّ الفاعل، وأعاد إليه دينه الصحيح، ودولته العزيزة المؤمنة، ودفعه إلى الحياة الفاعلة ليعيد سيرة الصدر الأول عزائم وعظائم وفتوحاً ..
ويقرر غير منازَع أنه رجل التوحيد والوحدة، والثائر الأكبر الذي رفض التفرق في الدين رفضا حاسماً، فلم يكن من جنس من يأتون بالدعوات ليضيفوا إلى أرقام المذاهب والطرائق المِزَق رقما جديداً، يزيد العدد ويكثره،
_________
(1) النقد والبيان (ص.167 - 171) ضمن 'السلفيون والقضية الفلسطينية'.(10/295)
ولكنه أوجب إلغاء هذه الأرقام، ودعا لتحقيق الرقم الفرد وحده: الرقم الذي لا يقبل التجزئة كالجوهر الفرد، ألا وهو الإسلام. والإسلام طريقة واحدة لا تتفرع ولا تتعدّد.
فلما أفسد التوحيد، وزالت الوحدة، ذهب التفرق في العقيدة بهذا المجد العظيم .. فجاء محمد بن عبد الوهاب داعياً للعودة إلى الأصل الذي قام عليه ذلك المجد وعلا سمكه وعزّ وطال، وقد حقق ما أراده في جزيرة العرب، وأشاع اليقظة في العالم المسلم، وكان لدعوته في كل صقع أثر مشهود .. فهذا هو الصنع العظيم، الذي صنعه الرجل العظيم. (1)
- وقال رحمه الله: وأما الدعوة السنية السلفية التي هي المظهر الصحيح للعقائد السنية قبل أن تغشاها التحريفات والبدع فقد كانت خلفها قوة عربية صغيرة في أواسط الجزيرة العربية، بدأ ظهورها في أواخر الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وهي تحاول استعادة سلطان سياسي كبير ذاهب .. (2)
- بين أن حرب الأتراك لهذه الدعوة السلفية كانت بالقتال والدعاية ثم قال: قامت حرب الدعاية على تأليف الكتب والرسائل في تشويه صورة الإصلاح الذي تتبناه ..
وقد قوبلت هذه الرسائل والكتب بمثلها -من علماء نجد والعراق
_________
(1) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18 - 20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34).
(2) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18 - 20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34).(10/296)
والشام ومصر والهند- بدافع ديني؛ فكانت هذه الحركة وما نتج عنها من آثار قيمة من أكبر المظاهر العقلية التي ظهرت في عصر النهضة؛ زعزعت الناس عن المألوف من البدع والخرافات، ووجهت العقول إلى منابع الإسلام الصحيح كتاب الله وسنة الرسول وهدي السلف الصالح، ولذلك نعتت بـ"السلفية" كما هي طبيعتها، وبـ"الوهابية" على سبيل التنفير. (1)
عبد الله بن زيد بن عبد الله آل محمود (2) (1417 هـ)
الشيخ عبد الله بن زيد بن عبد الله بن راشد بن محمود، ولد في حوطة بني تميم سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف، ونشأ بها، وتلقى مبادئ العلم على يد الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ والقاضي عبد العزيز بن محمد الشثري. رحل إلى قطر، فلازم الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع ثلاث سنين. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة تولى القضاء في قطر، فعرف عنه العدل والنزاهة وتحري الصواب.
وكان رحمه الله معروفا بكثرة الحفظ وسرعة الاستحضار، فقد كان يحفظ بلوغ المرام وألفية السيوطي في الحديث وألفية ابن مالك وقطر الندى والكثير من الأحاديث النبوية بأسانيدها، وله اطلاع على كتب اليهود والنصارى والملل الأخرى.
_________
(1) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18 - 20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34).
(2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 120 - 133).(10/297)
قال الشيخ عبد الله البسام: وهو حنبلي المذهب سلفي العقيدة، ومن أشد المتحمسين لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وقال أيضا: كان الشيخ من المدافعين المجاهدين في سبيل رفع راية الإسلام ومحاربة البدع والمنكرات، وكانت له مواقف كثيرة من نصيحة الحاكمين إلى تطبيق الإسلام، والعمل به، وقد كافح بلسانه وقلمه في سبيل الاحتفاظ بعقيدة الأمة طاهرة نقية عن البدع والانحرافات، وكان لا يتردد في نصح أولياء أمور المسلمين بما يراه مخالفا للشرع، أو ضارا بمجموع الأمة.
توفي رحمه الله في قطر في شهر شوال سنة سبع عشرة وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1 - 'كلمة الحق في الاحتفال بمولد سيد الخلق'، رد فيه على رسالة: 'الاحتفال بذكر النعم واجب' لأحد المؤلفين حاول من خلاله تبرير الاحتفال بالمولد النبوي.
2 - 'عقيدة الإسلام والمسلمين'. (1)
موقفه من القدرية:
من آثاره السلفية:
- كتاب 'الإيمان بالقضاء والقدر'. (2)
_________
(1) علماء نجد (4/ 129).
(2) علماء نجد (4/ 129).(10/298)
صالح بن علي بن غصون رحمه الله (1) (1419 هـ)
هو الشيخ صالح بن علي بن غصون من قبيلة آل حميدان، وهبة من أهل الرس بالقصيم. ولد عام إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وتوفي والده وله من العمر ثلاث عشرة عاماً، وبعد سنتين كف بصره. سافر إلى الرياض ولازم مجالس سماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم، وكذلك أخذ عن فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الفرائض.
عين قاضياً في سدير، وكانت له دروس علمية. انتقل بعد ذلك إلى محكمة شقراء وتوابعها، ثم انتقل إلى رئاسة محاكم الأحساء، ثم عمل في محكمة التمييز.
عين عضوا في هيئة كبار العلماء يوم تشكلها. وكان له صلة بأصحاب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد بن مانع، والشيخ عبد الله ابن حميد رحمهم الله، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وكان متعاوناً مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سدير والوشم والأحساء أثناء عمله. وكان له مشاركة في برنامج نور على الدرب في الإذاعة القرآن الكريم.
توفي رحمه الله بعد موسم الحج سنة تسع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من الخوارج:
سئل رحمه الله: في السنتين الماضيتين نسمع بعض الدعاة يدندن حول مسألة وسائل الدعوة وإنكار المنكر ويدخلون فيها المظاهرات، والاغتيالات،
_________
(1) كتاب قتل الغيلة للمترجم.(10/299)
والمسيرات وربما أدخلها بعضهم في باب الجهاد الإسلامي. نرجوا بيان ما إذا كانت هذه الأمور من الوسائل الشرعية أم تدخل في نطاق البدع المذمومة والوسائل الممنوعة؟
ونرجوا توضيح المعاملة الشرعية لمن يدعو إلى هذه الأعمال، ومن يقول بها ويدعو إليها؟
فأجاب رحمه الله: الحمد لله: معروف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والإرشاد من أصل دين الله عز وجل، ولكن الله جل وعلا قال في محكم كتابه العزيز: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ولما أرسل عز وجل موسى وهارون إلى فرعون قال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} (2) والنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالحكمة وأمر بأن يسلك الداعية الحكمة وأن يتحلى بالصبر، هذا في القرآن العزيز في سورة العصر: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. فالداعي إلى الله عز وجل والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه أن يتحلى بالصبر وعليه أن يحتسب الأجر والثواب وعليه أيضاً أن يتحمل ما قد يسمع أو ما قد يناله في
_________
(1) النحل الآية (125).
(2) طه الآية (44).(10/300)
سبيل دعوته، وأما أن الإنسان يسلك مسلك العنف أو أن يسلك مسلك والعياذ بالله أذى الناس أو مسلك التشويش أو مسلك الخلافات والنزاعات وتفريق الكلمة، فهذه أمور شيطانية وهي أصل دعوة الخوارج، هم الذين ينكرون المنكر بالسلاح وينكرون الأمور التي لا يرونها وتخالف معتقداتهم بالقتال وبسفك الدماء وبتكفير الناس وما إلى ذلك من أمور، ففرق بين دعوة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلفنا الصالح وبين دعوة الخوارج ومن نهج منهجهم وجرى مجراهم، دعوة الصحابة بالحكمة وبالموعظة وببيان الحق وبالصبر وبالتحلي واحتساب الأجر والثواب، ودعوة الخوارج بقتال الناس وسفك دمائهم وتكفيرهم وتفريق الكلمة وتمزيق صفوف المسلمين، هذه أعمال خبيثة، وأعمال محدثة.
والأولى للذين يدعون إلى هذه الأمور يُجانبونَ ويُبعد عنهم ويساء بهم الظن، هؤلاء فرقوا كلمة المسلمين، الجماعة رحمة والفرقة نقمة وعذاب والعياذ بالله، ولو اجتمع أهل بلد واحد على الخير واجتمعوا على كلمة واحدة لكان لهم مكانة وكانت لهم هيبة.
لكن أهل البلد الآن أحزاب وشيع، تمزقوا واختلفوا ودخل عليهم الأعداء من أنفسهم ومن بعضهم على بعض، هذا مسلكٌ بدعي ومسلك خبيث ومسلك مثلما تقدم، أنه جاء عن طريق الذين شقوا العصا والذين قاتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة وأهل بيعة الرضوان، قاتلوه يريدون الإصلاح وهم رأس الفساد ورأس البدعة ورأس الشقاق فهم الذين فرقوا كلمة المسلمين وأضعفوا جانب(10/301)
المسلمين، وهكذا أيضاً حتى الذي يقول بها ويتبناها ويحسنها فهذا سيئ المعتقد ويجب أن يبتعد عنه.
واعلم والعياذ بالله أن شخصاً ضاراً لأمته ولجلسائه ولمن هو من بينهم. والكلمة الحق أن يكون المسلم عامل بناء وداعيا للخير وملتمسا للخير تماماً ويقول الحق ويدعو بالتي هي أحسن وباللين.
ويحسن الظن بإخوانه ويعلم أن الكمال منالٌ صعب، وأن المعصوم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن لو ذهب هؤلاء لم يأتِ أحسن منهم، فلو ذهب هؤلاء الناس الموجودون سواء منهم الحكام أو المسؤولون أو طلبة العلم أو الشعب، لو ذهب هذا كله، شعب أي بلد. لجاء أسوأ منه فإنه لا يأتي عامٌ إلا والذي بعده شرٌ منه. فالذي يريد من الناس أن يصلوا إلى درجة الكمال أو أن يكونوا معصومين من الأخطاء والسيئات، هذا إنسان ضال، هؤلاء هم الخوارج. هؤلاء هم الذين فرقوا كلمة الناس وآذوهم، هذه مقاصد المناوئين لأهل السنة والجماعة بالبدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة وسائر ألوان أهل الشر والبدع.
عبد العزيز بن باز (1) (1420 هـ)
الشيخ الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز. ولد في الرياض في شهر ذي الحجة عام ثلاثين وثلاثمائة وألف من
_________
(1) إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 283 - 285) ومقدمة مجموع الفتاوى للشيخ ابن باز (1/ 9 - 12) وإمام العصر للدكتور الزهراني ومجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1415هـ/ص.44 - 46).(10/302)
الهجرة. فقد بصره بسبب مرض ألم به سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة. أخذ عن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ومحمد بن إبراهيم وصالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين آل الشيخ وسعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق، وغيرهم. ولي القضاء فمكث فيه أربعة عشر عاما تقريبا، ثم مدرسا بالكليات والمعاهد العلمية، ثم نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ورئيسا لهيئة كبار العلماء، ومفتيا عاما للمملكة، وغيرها من الوظائف والمناصب الشامخة. كان رحمه الله علما من أعلام الدعوة السلفية، ومصباحا من مصابيح الهدى، تخرج على يده أجلة العلماء، وعرف بحدة الذكاء وسيلان الذهن وسرعة الإجابة، مع رحابة صدر وسماحة خاطر.
قلت: الشيخ الإمام البحر العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز. عرفته بالجامعة الإسلامية لما قدمت طالبا بالمعهد الثانوي، زرته في مكتبه غير ما مرة، وكان على عادته متواضعا يستقبل كل الفئات، الصغيرة والكبيرة، وهو فيما علمت ممن جمع بين العلم والعمل، وكأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كلهم من أبنائه ومن فلذات أكباده، يسأل عن كبيرهم واحدا واحدا ويدعو لعمومهم بالتوفيق والهداية، شخص لا يعرف الملل ولا تسمع من فيه الشكاوى، منهاجه الاحتساب في كل خطوات حياته، نحسبه كذلك والله حسيبه، أمواله التي تصل إلى يده كلها تنفق على طلبة العلم والمحتاجين من أهل الإسلام. ورغم ما يصل إلى يده من كثرة الأموال على يد المحسنين من الملوك وكبار الأغنياء، ومع ذلك تجد الشيخ رحمه الله يحتاج إلى من يدفع(10/303)
له الديون لينفقها في حاجة المسلمين. ليله ونهاره؛ إما في الفتوى وإما في الدرس، وإما في المحاضرة والتوجيه، وإما في الدروس العلمية والقراءة في الكتب السلفية. فما رأيت للشيخ رحمه الله -مع كثرة الالتصاق به في الجامعة الإسلامية وبالرياض وهو يتولى رئاسة الإفتاء والبحوث العلمية- وقتا يستجم فيه ويستريح استراحة يخرج فيها عن دائرة العمل الذي يتقرب به إلى الله، رغم أن الملوك والكبار يأخذون فرصة استجمام يستريحون فيها من عناء الأشغال وأتعاب الدنيا، وأما الشيخ رحمه الله فكأنه يتتبع خطوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها، لا تجد له لحظة من حياته إلا وهي مصحوبة بعمل يتقرب به إلى الله.
وفي الليلة التي توفي فيها رحمه الله، أصدر فيها فتاوى وشفاعات للمسلمين، فكان رحمه الله نموذجا عمليا وعلميا مع كل الأحوال، فهو ناصح لولاة الأمور، ومساعد لهم على تطبيق شرع الله في تلك البلاد، وهو ناصح للعلماء ومستشير لهم في كل القضايا الكبرى، فكم ترأس من مؤتمر للعلماء في الجامعة الإسلامية وفي جدة وفي الرياض وفي مكة، وكان هذا دأبه رحمه الله، يسير بالأمة الإسلامية نحو الأفضل، وما من مكرمة علمية أو دعوية أو فقهية أو جهادية إلا وتجد للشيخ عبد العزيز رحمه الله يدا بيضاء، وكم انتفع العالم الإسلامي وغير الإسلامي من سماحته رحمه الله. وإن القلم ليعجز عن الوفاء بأوصاف هذا الإمام، وقد جمع الله له رحمه الله من أوصاف الخير ما لم يجمعه لعالم معاصر له. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، وجزى الله آل سعود الذين كانوا بجانبه في كل طلباته رحمه الله التي يخدم بها(10/304)
الأمة الإسلامية.
وإن معرفتي بالشيخ في دروسه في البخاري في المسجد النبوي وفي حلقات الطائف وفي دروسه في المسجد الكبير بالرياض، وإني تشرفت بالتتلمذ عليه مدة طويلة، وأعتبر الشيخ من النوادر الذين يقل في العالم الإسلامي أمثالهم، والله تبارك وتعالى ذو الفضل الواسع يخص بفضله من يشاء وكيف يشاء. اللهم أسكنه فسيح الجنان واجعله في أعلى عليين، إنك سميع مجيب.
وقال فيه الشيخ عبد الرزاق عفيفي: يغلب على مؤلفاته وضوح المعنى وسهولة العبارة وحسن الاختيار مع قوة الحجة والاستدلال وغير ذلك مما يدل على النصح وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع وحدة الذكاء وسيلان الذهن. وقال أيضا: نبغ في كثير من علوم الشريعة، وخاصة الحديث متنا وسندا، والتوحيد على طريق السلف، والفقه على مذهب الحنابلة حتى صار فيها من العلماء المبرزين.
وقال فيه الشيخ عطية محمد سالم: كان علامة في الحديث والفقه والتوحيد، وكان موسوعة في هذه العلوم ومبرزا فيها. وقال أيضا: لا أعتقد مهما تحدثنا عن الشيخ ابن باز أن نوفيه حقه في التعريف به، ولكن كان يرحمه الله علما عالميا، وطودا أشم، وجبلا يتميز بتوحيده وحلمه، وكان لا يتحزب ولا يتعصب في البحث وفي المسائل الخلافية، إنما يبحث بمقتضاه الخاص ويتكلم فيه برأيه.
توفي الشيخ رحمه الله قبل فجر يوم الخميس في اليوم السابع والعشرين(10/305)
من شهر محرم لعام عشرين وأربعمائة وألف من الهجرة في مدينة الطائف، ورثاه مجموعة من العلماء والشعراء.
موقفه من المبتدعة:
قال: ومن المعلوم أن كتاب الله عز وجل من أوله إلى آخره، فيه الذكرى، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التذكير بأسباب النجاة والسعادة، وفيه العظة والترغيب والترهيب؛ فجدير بالمسلمين جميعا أن يعتنوا بتدبره وتعقله، وأن يكثروا من تلاوته لمعرفة ما أمر الله به وما نهى عنه، حتى يعلم المؤمن ما أمر الله به فيمتثله، ويبتعد عما نهى الله عنه. فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه الدلالة على كل خير والتحذير من كل شر، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والتحذير من سيء الأخلاق وسيء الأعمال، يقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) أي إلى الطريقة والسبيل التي هي أهدى السبل وأقومها وأصلحها، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2)، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} (3)، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4).
_________
(1) الإسراء الآية (9).
(2) فصلت الآية (44).
(3) ص الآية (29).
(4) الأنعام الآية (19).(10/306)
فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه العظة والذكرى. فوصيتي لنفسي وللجميع ومن يسمع كلمتي أو تبلغه: العناية بهذا الكتاب العظيم، فهو أشرف كتاب، وأعظم كتاب، وهو خاتم الكتب المنزلة من السماء، ومن تدبره وتعقله بقصد طلب الهداية، ومعرفة الحق، وفقه الله وهداه. وأهم ما اشتمل عليه هذا الكتاب العظيم، بيان حق الله على عباده، وبيان ضد ذلك. هذا أعظم موضوع اشتمل عليه القرآن، وهو بيان حقه سبحانه على عباده من توحيده، وإخلاص العبادة له، وإفراده بالعبادة، وبيان ضد ذلك من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، وأنواع الكفر والضلال.
ولو لم يكن في تدبر هذا الكتاب العظيم إلا العلم بهذا الواجب العظيم، وتدبر ما ذكره الله في ذلك، لكان ذلك خيرا عظيما، وفضلا كبيرا، فكيف وفيه الدلالة على كل خير، والترهيب من كل شر، كما تقدم. ثم بعد ذلك العناية بالسنة: فإنها الأصل الثاني، والوحي الثاني، وفيها التفسير لكتاب الله والدلالة على ما قد يخفى من كلامه سبحانه، فهي الموضحة لكتاب الله كما قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (1). ويقول سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2) فهو أنزل لدعوة الناس إلى الخير، وتعليمهم سبيل النجاة، وتحذيرهم من سبل الهلاك، وأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبين للناس
_________
(1) النحل الآية (44).
(2) النحل الآية (64).(10/307)
ما أنزل إليهم، وأن يشرح لهم ما اشتبه عليهم. فلم يزل عليه الصلاة والسلام من حين بعثه الله إلى أن توفاه سبحانه يدعو الناس إلى ما دل عليه كتاب الله، ويشرح لهم ما دل عليه، ويحذرهم مما نهى عنه. وكانت المدة من حين بعثه الله إلى أن توفاه ثلاثا وعشرين سنة، كلها دعوة وبيان وترهيب وترغيب، إلى أن نقل إلى الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام. (1)
- وقال: وإذا علم أن التحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والعرافين ونحوهم ينافي الإيمان بالله عز وجل؛ وهو كفر وظلم وفسق؛ يقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (2) ويقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (3) ويقول: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
_________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 29 - 30).
(2) المائدة الآية (44).
(3) المائدة الآية (45).(10/308)
الْفَاسِقُونَ (47)} (1). وبين تعالى أن الحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، وأن الإعراض عن حكم الله تعالى سبب لحلول عقابه وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، يقول سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (2). وإن القارئ لهذه الآية والمتدبر لها يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله، أكد بمؤكدات ثمانية:
الأول: الأمر به في قوله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}.
الثاني: أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال، وذلك في قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}.
الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، بقوله سبحانه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}.
الرابع: أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم
_________
(1) المائدة الآية (47).
(2) المائدة الآيتان (49و50).(10/309)
موجب للعقاب الأليم، قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}.
الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله، فإن الشكور من عباد الله قليل، يقول تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)}.
السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية، يقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ}.
السابع: تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا}.
الثامن: أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأن الواجب الانقياد له، مع الرضا والتسليم يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}. (1)
- وقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في الموالد. والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره، لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولا التابعون لهم
_________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 80 - 82).(10/310)
بالإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1) أي مردود عليه، وقال في حديث آخر: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (2) ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع، والعمل بها، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3)، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (4)، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (5).
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ).
(2) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي رحمه الله سنة (418هـ).
(3) الحشر الآية (7).
(4) النور الآية (63).
(5) الأحزاب الآية (21).(10/311)
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} (1)، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2). والآيات في هذا المعنى كثيرة، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة، ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم» (3) رواه مسلم في صحيحه، ومعلوم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه، لبينه - صلى الله عليه وسلم - للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم؛ فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين
_________
(1) التوبة الآية (100).
(2) المائدة الآية (3).
(3) أخرجه أحمد (2/ 191) ومسلم (3/ 14721 - 1473/ 1844) والنسائي (7/ 172 - 173/ 4202) وابن ماجه (2/ 1306 - 1307/ 3956).(10/312)
السابقين؛ وقد جاء في معناهما أحاديث أخرى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (1) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات، كالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر وظنوا أنها من البدع الحسنة. والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (2) وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3). وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه، فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه
_________
(1) أحمد (3/ 310 - 311و319و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2) النساء الآية (59).
(3) الشورى الآية (10).(10/313)
الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا، وأمرنا باتباع الرسول فيه.
وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم نجد فيها أنه فعله، ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود، والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات، التي أمر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} (1) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2).اهـ (3)
موقفه من المشركين:
جاء في مجموع فتاويه: بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآن أو في الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
_________
(1) البقرة الآية (111).
(2) الأنعام الآية (116).
(3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 183 - 186).(10/314)
إن الواجب الإسلامي والنصيحة لله ولعباده، كل ذلك، يوجب علينا بيان حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن بأنه متناقض، أو مشتمل على بعض الخرافات، وفيمن طعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأي نوع من أنواع الطعن غيرة لله سبحانه، وغضبا له -عز وجل- وانتصارا لكتابه العزيز، ولرسوله الكريم، وأداء لبعض حقه علينا، سواء كان ما ذكر عن أي شخص واقعا أم كان غير واقع، وسواء أعلن إنكاره له، أو التوبة منه، أم لم يعلن ذلك، إذ المقصود بيان حكم الله فيمن أقدم على شيء مما ذكرنا من التنقص لكتاب الله، أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فنقول: قد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإجماع الأمة على أن كتاب الله سبحانه محكم غاية الإحكام، وعلى أنه كله كلام الله عز وجل ومنزل من عنده، وليس فيه شيء من الخرافات والكذب، كما دلت الأدلة المذكورة على وجوب تعزير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره ونصرته، ودلت أيضا على أن الطعن في كتاب الله أو في جناب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر أكبر، وردة عن الإسلام، وإليك أيها القارئ الكريم بيان ذلك:
قال الله تعالى في سورة يونس: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} (1) وقال في أول سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} (2)، وقال عز وجل في أول سورة لقمان: {الم (1) تِلْكَ
_________
(1) يونس الآية (1).
(2) هود الآية (1).(10/315)
آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} (1) وذكر علماء التفسير رحمهم الله في تفسير هذه الآيات، أن معنى ذلك: أنه متقن الألفاظ والمعاني، مشتمل على الأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع المستقيمة، وأنه الحاكم بين العباد فيما يختلفون فيه، كما قال الله سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2) الآية، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} (3) الآية.
فكيف يكون محكم الألفاظ والمعاني، وحاكما بين الناس، وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات؟! وكيف يكون محكما وموثوقا به إذا كان الرسول الذي جاء به إنسانا بسيطا لا يفرق بين الحق والخرافة؟! فعلم بذلك أن من وصف القرآن بالتناقض أو بالاشتمال على بعض الخرافات أو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرنا فإنه متنقص لكتاب الله، ومكذب لخبر الله، وقادح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كمال عقله؛ فيكون بذلك كافرا مرتدا عن الإسلام إن كان مسلما قبل أن يقول هذه المقالة، وقال الله سبحانه في أول سورة يوسف: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
_________
(1) لقمان الآيتان (1و2).
(2) البقرة الآية (213).
(3) آل عمران الآية (23).(10/316)
أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} (1) وقال سبحانه في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (2) الآية، ومعنى {متشابهاً} في هذه الآية -عند أهل العلم- يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا؛ فكيف يكون بهذا المعنى؟! وكيف يكون أحسن الحديث وأحسن القصص وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!.
وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبه: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -» (3)، فمن طعن في القرآن بما ذكرنا أو غيره من أنواع المطاعن فهو مكذب لله عز وجل في وصفه لكتابه بأنه أحسن القصص وأحسن الحديث. ومكذب للرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: إنه خير الحديث.
وقال سبحانه وتعالى في وصف القرآن الكريم: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} (4)، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} (5) وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (6) وقال: {إِنَّا نَحْنُ
_________
(1) يوسف الآيات (1 - 3).
(2) الزمر الآية (23).
(3) تقدم تخريجه قريبا.
(4) فصلت الآية (2).
(5) الشعراء الآيتان (192و193).
(6) الأنعام الآية (155).(10/317)
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (1) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (2) إلى أمثال هذه الآيات الكثيرة في كتاب الله، فمن زعم أنه متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات التي أدخلها فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما تلقاه من بادية الصحراء أو غيرهم فقد زعم أن بعضه غير منزل من عند الله وأنه غير محفوظ، كما أنه بذلك قد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه كذب على الله وأدخل في كتابه ما ليس منه، وهو مع ذلك يقول للناس: إن القرآن كلام الله، وهذا غاية في الطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالكذب على الله وعلى عباده، وهذا من أقبح الكفر والضلال والظلم، كما قال الله سبحانه: {* فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)} (3) وقال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (4)
الآية، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
_________
(1) الحجر الآية (9).
(2) فصلت الآيتان (41و42).
(3) الزمر الآية (32).
(4) الأنعام الآية (93) ..(10/318)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (1) الآية. (2)
- وقال رحمه الله في الرد على أبيات لبعض الكاتبات نشرتها صحيفة المجتمع الكويتية: ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده.
والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم، أو دعا الأصنام أو الأشجار، أو الأحجار أو غير ذلك من المخلوقات، أو استغاث بهم، أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور، أو صلى لهم، أوسجد لهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، وجعلهم أندادا له سبحانه، وهذا يناقض هذا الأصل، وينافي معنى لا إله إلا الله، كما أن من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمدا رسول الله، وقد قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} (3) وهذه الأعمال هي أعمال من مات على الشرك بالله عز وجل، وهكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله، فإنها تكون يوم القيامة هباء منثورا لكونها لم توافق شرعه المطهر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق على صحته (4). وهذه الكاتبة
_________
(1) التوبة الآيتان (65و66).
(2) مجموع الفتاوى للشيخ ابن باز (1/ 93 - 95).
(3) الفرقان الآية (23).
(4) أخرجه أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14).(10/319)
قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضت عن رب العالمين، الذي بيده النصر والضر والنفع، وليس بيد غيره شيء من ذلك. ولا شك أن هذا ظلم عظيم وخيم، وقد أمر الله عز وجل بدعائه سبحانه، ووعد من يدعوه بالاستجابة، وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول جهنم، كما قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} (1) أي صاغرين ذليلين.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة، وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم، فإذا كانت هذه حال من استكبر عن دعاء الله، فكيف تكون حال من دعا غيره، وأعرض عنه، وهو سبحانه القريب المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء، كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} (2) وقد أخبر الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أن الدعاء هو العبادة (3)، وقال لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن
_________
(1) غافر الآية (60).
(2) البقرة الآية (186).
(3) أخرجه من حديث النعمان بن بشير: أحمد (4/ 267) وأبو داود (2/ 161/1479) والترمذي (5/ 349/3247) وقال: "حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (6/ 450/11464) وابن ماجه (2/ 1258/3828)، وصححه ابن حبان (3/ 172/890) والحاكم (1/ 490 - 491) ووافقه الذهبي. وأورد له شاهدا من حديث ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي.(10/320)
بالله». أخرجه الترمذي وغيره (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار» رواه البخاري (2). وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الذنب أعظم قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» (3) والند هو النظير والمثيل. فكل من دعا غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو صرف له شيئا من العبادة سوى ما تقدم، فقد اتخذه ندا، سواء كان نبيا أو وليا، أو ملكا أو جنيا، أو صنما أو غير ذلك من المخلوقات. (4)
حكم من يطالب بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية:
- قال رحمه الله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. أما بعد: فقد ورد إلي سؤال من بعض الإخوة الباكستانيين هذا ملخصه:
ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية، ويحاربون حكم الإسلام، وما حكم الذين يساعدونهم في هذا المطلب، ويذمون من يطالب بحكم الإسلام، ويلمزونهم ويفترون عليهم، وهل يجوز اتخاذ هؤلاء أئمة وخطباء في مساجد المسلمين؟
والجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
_________
(1) أحمد (1/ 293) والترمذي (4/ 575 - 576/ 2516) من حديث ابن عباس وقال: "حسن صحيح".
(2) أحمد (1/ 374) والبخاري (8/ 229/4497) ومسلم (1/ 94/92) من حديث عبد الله بن مسعود.
(3) أحمد (1/ 434) والبخاري (8/ 207/4477) ومسلم (1/ 90/86) وأبو داود (2/ 732 - 733/ 2310) والترمذي (5/ 314/3182) والنسائي (7/ 103 - 104/ 4024) من حديث ابن مسعود.
(4) مجموع الفتاوى (1/ 154 - 155).(10/321)
وأصحابه ومن اهتدى بهداه، لا ريب أن الواجب على أئمة المسلمين وقادتهم أن يحكموا الشريعة الإسلامية في جميع شؤونهم، وأن يحاربوا ما خالفها، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء الإسلام، ليس فيه نزاع بحمد الله، والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة معلومة عند أهل العلم، منها قوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (2) وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) وقوله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (4) وقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (5)
_________
(1) النساء الآية (65).
(2) النساء الآية (59).
(3) الشورى الآية (10).
(4) المائدة الآية (50).
(5) المائدة الآية (44).(10/322)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (2). والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر؛ كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال. وبما ذكرناه من الأدلة القرآنية، وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره، أن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام، كفار ضلال، أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيبا وإماما في مسجد من مساجد المسلمين، ولا تصح الصلاة خلفهم، وكل من ساعدهم على ضلالهم، وحسن ما يدعون إليه، وذم دعاة الإسلام ولمزهم، فهو كافر ضال، حكمه حكم الطائفة الملحدة، التي سار في ركابها وأيدها في طلبها. وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة، فهو كافر مثلهم، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ
_________
(1) المائدة الآية (45).
(2) المائدة الآية (47).(10/323)
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)} (2).
وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يكبت أعداء الإسلام، ويفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويكفي المسلمين شرهم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
س: ما رأيكم في المسلمين الذين يحتكمون إلى القوانين الوضعية مع وجود القرآن الكريم والسنة المطهرة بين أظهرهم؟
ج: رأيي في هذا الصنف من الناس الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين، في الوقت الذي يتحاكمون فيه إلى غير ما أنزل الله، ويرون شريعة الله غير كافية، ولا صالحة للحكم في هذا العصر. هو ما قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم حيث يقول سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
_________
(1) المائدة الآية (51).
(2) التوبة الآية (23).(10/324)
تَسْلِيمًا (65)} (1) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (4) إذا، فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله، ويرون أن ذلك جائز لهم، أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونون بذلك كفارا ظالمين فاسقين، كما جاء في الآيات السابقة وغيرها، وقوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (5) والله الموفق. (6)
- وقال رحمه الله: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام؛ وقد صرح الكثير منهم بذلك
_________
(1) النساء الآية (65).
(2) المائدة الآية (44).
(3) المائدة الآية (45).
(4) المائدة الآية (47).
(5) المائدة الآية (50).
(6) مجموع الفتاوى (1/ 273 - 275).(10/325)
كما سلف. وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (1). وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (2)، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (4)، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (5)
وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها، كما قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا
_________
(1) النساء الآية (65).
(2) المائدة الآية (50).
(3) المائدة الآية (44).
(4) المائدة الآية (45).
(5) المائدة الآية (47) ..(10/326)
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1).اهـ (2)
التحذير من بناء المساجد على القبور:
- قال رحمه الله: وسئلت هل يجوز أن يبنى على موضع أهل الكهف مسجد؟ فأجبت قائلا: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد فقد اطلعت على ما نشر في العدد الثالث من مجلة رابطة العلوم الإسلامية في باب (أخبار المسلمين في شهر).
إن رابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية تنوي إشادة مسجد على الكهف الذي اكتشف حديثا في قرية الرحيب، وهو الكهف الذي يقال إن أهل الكهف الوارد ذكرهم في القرآن الكريم رقدوا فيه- انتهى.
ولواجب النصح لله ولعباده رأيت أن أوجه كلمة في المجلة نفسها لرابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية مضمونها نصيحة الرابطة عن تنفيذ ما نوته من إشادة مسجد على الكهف المذكور. وما ذاك إلا لأن إشادة المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وآثارهم مما جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة بالمنع منه والتحذير عنه، ولعن من فعله لكونه من وسائل الشرك والغلو في الأنبياء والصالحين، والواقع شاهد بصحة ما جاءت به
_________
(1) الممتحنة الآية (4).
(2) مجموع الفتاوى (1/ 305 - 306).(10/327)
الشريعة ودليل على أنها من عند الله عز وجل وبرهان ساطع وحجة قاطعة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن الله وبلغه الأمة. وكل من تأمل أحوال العالم الإسلامي وما حصل فيه من الشرك والغلو بسبب إشادة المساجد على الأضرحة وتعظيمها، وفرشها وتجميلها واتخاذ السدنة لها علم يقينا أنها من وسائل الشرك وأن من محاسن الشريعة الإسلامية المنع منها والتحذير من إشادتها ومما ورد في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة: يحذر ما صنعوا، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (1). وفي الصحيحين أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» (2)
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (728هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد ابن اليمني سنة (1391هـ) ..(10/328)
تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (1) والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد نص الأئمة من علماء المسلمين من جميع المذاهب الأربعة وغيرهم على النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وحذروا من ذلك عملا بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصحا للأمة وتحذيرا لها أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من غلاة اليهود والنصارى وأشباههم من ضلال هذه الأمة. (2)
حكم إتيان الكهان ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم:
- قال رحمه الله: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شاع بين كثير من الناس أن هناك من يتعلق بالكهان والمنجمين والسحرة والعرافين وأشباههم، لمعرفة المستقبل والحظ وطلب الزواج والنجاح في الامتحان وغير ذلك من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} (3) وقال سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} (4). فالكهان والعرافون والسحرة وأمثالهم قد بين الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) مسلم (1/ 377/532).
(2) مجموع الفتاوى (1/ 433 - 435).
(3) الجن الآيتان (26و27).
(4) النمل الآية (65).(10/329)
ضلالهم وسوء عاقبتهم في الآخرة، وأنهم لا يعلمون الغيب، وإنما يكذبون على الناس ويقولون على الله غير الحق وهم يعلمون، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} (1)
وقال سبحانه: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} (2) وقال تعالى: {* وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)} (3). فهذه الآيات وأمثالها تبين خسارة الساحر ومآله في
_________
(1) البقرة الآية (102) ..
(2) طه الآية (69).
(3) الأعراف الآيتان (117و118).(10/330)
الدنيا والآخرة، وأنه لا يأتي بخير، وأن ما يتعلمه أو يعلمه غيره يضر صاحبه ولا ينفعه، كما نبه سبحانه أن عملهم باطل، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق على صحته (1).
وهذا يدل على عظم جريمة السحر لأن الله قرنه بالشرك، وأخبر أنه من الموبقات وهي المهلكات، والسحر كفر لأنه لا يتوصل إليه إلا بالكفر، كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (2). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حد الساحر ضربه بالسيف» (3). وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل السحرة من الرجال والنساء؛ وهكذا صح عن جندب الخير الأزدي رضي الله عنه أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بعض السحرة؛ وصح عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناس عن الكهان، فقال: «ليسوا بشيء»، فقالوا: يا
_________
(1) البخاري (5/ 494/2766) ومسلم (1/ 92/89) وأبو داود (3/ 294 - 295/ 2874) والنسائي (6/ 568/3673) من حديث أبي هريرة.
(2) البقرة الآية (102).
(3) أخرجه الترمذي (4/ 49/1460) والحاكم (4/ 360) من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الخير مرفوعا. قال الحاكم: "صحيح الإسناد، وإن كان الشيخان قد تركا حديث إسماعيل بن مسلم، فإنه غريب صحيح"، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن المكي يضعف في الحديث ... والصحيح عن جندب موقوفا". والحديث ضعف إسناده الحافظ في الفتح (10/ 290).(10/331)
رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه فيخلطوا معها مائة كذبة» رواه البخاري (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» رواه أبو داود وإسناده صحيح (2). وللنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه» (3). وهذا يدل على أن السحر شرك بالله تعالى كما تقدم، وذلك لأنه لا يتوصل إليه إلا بعبادة الجن والتقرب إليهم بما يطلبون من ذبح وغيره من أنواع العبادة، وعبادتهم شرك بالله عز وجل. فالكاهن من يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن، كما ورد بالحديث الذي مر ذكره، ومثل هؤلاء من يخط في الرمل أو ينظر في الفنجان أو في الكف ونحو ذلك، وكذا من يفتح الكتاب زعما منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب وهم كفار بهذا الاعتقاد؛ لأنهم بهذا الزعم يدعون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولتكذيبهم بقوله
_________
(1) أحمد (6/ 87) والبخاري (10/ 266/5762) ومسلم (4/ 1750/2228).
(2) أحمد (1/ 227و311) وأبو داود (4/ 226 - 227/ 3905) وابن ماجه (2/ 1228/3726) من حديث ابن عباس، وصحح إسناده النووي في الرياض (ص.574) والعراقي في تخريج الإحياء (5/ 2159/3404)
(3) رواه النسائي (7/ 128/4090) من طريق عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا، وابن عدي (4/ 342). قال المنذري في الترغيب (4/ 32): "رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع من أبي هريرة عند الجمهور". وقال الذهبي في الميزان (2/ 378): "هذا الحديث لا يصح للين عباد، وانقطاعه".(10/332)
تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) وقوله: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (2)
وقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} الآية (3). ومن أتاهم وصدقهم بما يقولون من علم الغيب فهو كافر. (4)
- وقال رحمه الله في الرد على رشاد خليفة المنكر للسنة: وإن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة، والقول بعدم الحاجة إليها: كفر وردة عن الإسلام، لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولايجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير من فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا
_________
(1) النمل الآية (65).
(2) الأنعام الآية (59) ..
(3) الأنعام الآية (50).
(4) مجموع الفتاوى (2/ 118 - 121).(10/333)
فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} (1). وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى 'مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة' فقال: (اعلموا -رحمكم الله- أن من أنكر أن كون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فرق الكفرة) انتهى المقصود. (2)
حكم الشريعة في غلام أحمد برويز:
قال رحمه الله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: فقد اطلعت على ما نشرته (مجلة الحج) في عددها الثاني الصادر في 16 شعبان عام 1382هـ من الاستفتاء المقدم إليها من أخينا العلامة الشيخ محمد يوسف البنوري مدير المدرسة العربية الإسلامية بكراتشي عن حكم الشريعة الإسلامية في غلام أحمد برويز الذي ظهر أخيرا في بلاد الهند، وعن حكم معتقداته التي قدم فضيلة المستفتي نماذج منها لاستفتائه، وعن حكم من اعتنق تلك العقائد واعتقدها ودعا إليها إلخ .. ؟
والجواب: كل من تأمل تلك النماذج التي ذكرها المستفتي في استفتائه من عقائد غلام أحمد برويز وهي عشرون أنموذجا موضحة في الاستفتاء المنشور في المجلة المذكورة، كل من تأمل هذه النماذج المشار إليها من ذوي العلم والبصيرة يعلم علما قطعيا لا يحتمل الشك بوجه ما أن معتنقها
_________
(1) البقرة الآيتان (159و160).
(2) مجموع الفتاوى (2/ 403 - 404).(10/334)
ومعتقدها والداعي إليها كافر كفرا أكبر مرتد عن الإسلام يجب أن يستتاب، فإن تاب توبة ظاهرة، وكذب نفسه تكذيبا ظاهرا ينشر في الصحف المحلية كما نشر فيها الباطل من تلك العقائد الزائفة، وإلا وجب على ولي الأمر للمسلمين قتله. وهذا شيء معلوم من دين الإسلام بالضرورة، والأدلة عليه من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم كثيرة جدا لا يمكن استقصاؤها في هذا الجواب. وكل أنموذج من تلك النماذج التي قدمها المستفتي من عقائد غلام أحمد برويز يوجب كفره وردته عن الإسلام عند علماء الشريعة الإسلامية.
وإلى القارئ الكريم نبذة من تلك النماذج التي أشرنا إليها ليعلم مدى بشاعتها وشناعتها وبعدها عن الإسلام، وأن معتقدها لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا بما أخبر الله به عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الآخرة والجنة والنار، وليعلم أيضا أن معتقدها بعيد كل البعد عما جاءت به الرسل، شديد العداوة والحقد والكيد للإسلام والمسلمين، بارع في المكر والتلبيس، متجرد من الحياء والأدب، نسأل الله تعالى العافية والسلامة لنا وللمسلمين من شر ما ابتلي به هذا الزنديق الملحد.
النموذج الأول: من عقائد الملحد غلام أحمد برويز على ما نشرته المجلة المذكورة في الاستفتاء المنوه عنه آنفا يقول: إن جميع ما ورد في القرآن الكريم من الصدقات والتوريث وما إلى ذلك من الأحكام المالية كل ذلك مؤقت تدريجي إنما يتدرج به إلى دور مستقل يسميه هو نظام الربوبية، فإذا جاء ذلك الوقت تنتهي هذه الأحكام لأنها كانت مؤقتة غير مستقلة.
النموذج الثاني: أن الرسول والذين معه قد استنبطوا من القرآن أحكاما(10/335)
فكانت شريعة، وهكذا كل من جاء بعده من أعضاء شورائية لحكومة مركزية لهم أن يستنبطوا أحكاما من القرآن، فتكون تلك الأحكام شريعة ذلك العصر، وليسوا مكلفين بتلك الشريعة السابقة. ثم لا تختص تلك بباب واحد بل العبادات والمعاملات والأخلاق كلها يجري فيه ذلك، ومن أجل ذلك القرآن لم يعين تفصيلات العبادة. (1)
- وقال رحمه الله: ومن العقائد المضادة للحق: ما يعتقده بعض المتصوفة من أن بعض من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير، ويتصرفون في شؤون العالم، ويسمونهم بالأقطاب والأوتاد والأغواث، وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم، وهذا من أقبح الشرك في الربوبية، وهو شر من شرك جاهلية العرب؛ لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيخلصون لله العبادة، كما قال الله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} (2). أما الربوبية فكانوا معترفين بها لله وحده كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (3). وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 268 - 269).
(2) العنكبوت الآية (65).
(3) الزخرف الآية (87).(10/336)
الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} (1)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما المشركون المتأخرون فزادوا على الأولين من جهتين:
إحداهما: شرك بعضهم في الربوبية.
والثانية: شركهم في الرخاء والشدة، كما يعلم ذلك من خالطهم وسبر أحوالهم، ورأى ما يفعلون عند قبر الحسين والبدوي وغيرهما في مصر، وعند قبر العيدروس في عدن، والهادي في اليمن، وابن عربي في الشام، والشيخ عبد القادر الجيلاني في العراق، وغيرها من القبور المشهورة التي غلت فيها العامة وصرفوا لها الكثير من حق الله عز وجل، وقل من ينكر عليهم ذلك ويبين لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ومن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله سبحانه أن يردهم إلى رشدهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم لمحاربة هذا الشرك والقضاء عليه ووسائله، إنه سميع قريب. (2)
- وقال رحمه الله: ومن أنواع الردة العقدية التي يعتقدها بقلبه وإن لم يتكلم بها ولم يفعل، بل بقلبه يعتقد: إذا اعتقد بقلبه أن الله جل وعلا فقير، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلم، ولو لم يفعل شيئا، هذا كفر -بمجرد هذه العقيدة- بإجماع المسلمين.
_________
(1) يونس الآية (31).
(2) مجموع الفتاوى (1/ 26 - 27).(10/337)
أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد بعث ولا نشور، وأن كل ما جاء في هذا ليس له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جنة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفر وردة عن الإسلام -نعوذ بالله من ذلك- وتكون أعماله باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة.
وهكذا لو اعتقد بقلبه -ولو لم يتكلم- أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس بصادق، أو أنه ليس بخاتم الأنبياء وأن بعده أنبياء، أو اعتقد أن مسيلمة الكذاب نبي صادق، فإنه يكون كافرا بهذه العقيدة.
أو اعتقد بقلبه أن نوحا أو موسى أو عيسى أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون أو أحدا منهم، هذا ردة عن الإسلام.
أو اعتقد أنه لا بأس أن يدعى مع الله غيره، كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس والكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مرتدا عن الإسلام، لأن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1)، وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} (2)، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (3)، وقال: {* وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (4)، وقال:
_________
(1) الحج الآية (62).
(2) البقرة الآية (163).
(3) الفاتحة الآية (5).
(4) الإسراء الآية (23).(10/338)
{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} (1)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} (2)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فمن زعم أو اعتقد أنه يجوز أن يعبد مع الله غيره، من ملك أو نبي أو شجر أو جن أو غير ذلك فهو كافر. وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافرا بالقول والعقيدة جميعا، وإن فعل ذلك ودعا غير الله واستغاث بغير الله صار كافرا بالقول والعمل والعقيدة جميعا، نسأل الله العافية من ذلك.
ومما يدخل في هذا: ما يفعله عُبَّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات والاستغاثة بهم وطلب المدد منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي، المدد المدد، يا سيدي، الغوث الغوث، أنا بجوارك، اشف مريضي، ورُدَّ غائبي، وأصلح قلبي. يخاطبون الأموات الذين يسمونهم: الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نسوا الله وأشركوا معه غيره -تعالى الله عن ذلك- فهذا كفر قولي وعقدي وفعلي.
وبعضهم ينادي من مكان بعيد وفي أمصار متباعدة: يا رسول الله، انصرني ... ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله، اشف مريضي، يا رسول الله، المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه، انصرنا على أعدائنا.
_________
(1) غافر الآية (14).
(2) الزمر الآية (65).(10/339)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من الشرك القولي والعملي. وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز، وأنه لا بأس به صار شركا قوليا وفعليا وعقديا، نسأل الله العافية من ذلك.
وهذا واقع في دول وبلدان كثيرة، وكان واقعا في هذه البلاد، كان واقعا في الرياض والدرعية قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كانت لهم آلهة في الرياض والدرعية وغيرهما، أشجار تعبد من دون الله، وأناس يقال: إنهم من الأولياء يعبدونهم مع الله، وقبور تعبد مع الله. وكان قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه موجودا في الجُبَيْلة حيث قتل في حروب الردة أيام مسيلمة، كان قبره يعبد من دون الله حتى هدم ذلك القبر، ونسي اليوم والحمد لله، بأسباب دعوة الشيخ محمد، قدس الله روحه وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل الجزاء.
وقد كان في نجد والحجاز من الشرك العظيم والاعتقادات الباطلة، ودعوة غير الله ما لا يعد ولا يحصى، فلما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي: قبل ما يزيد عن مائتي سنة، دعا إلى الله وأرشد الناس، فعاداه كثير من العلماء الجهلة وأهل الهوى، لكن الله أيَّده بعلماء الحق، وبآل سعود -رحم الله الجميع- فدعا إلى الله، وأرشد الناس إلى توحيد الله، وبين لهم: أن عبادة الجن والأحجار والأولياء والصالحين وغيرهم شرك من عمل الجاهلية، وأنها أعمال أبي جهل وأمثاله من كفار قريش في عبادتهم اللات والعزى ومناة وعبادة القبور، هذه هي أعمالهم.(10/340)
فبين -رحمه الله- للناس وهدى الله على يديه من هدى، ثم عمت الدعوة بلاد نجد والحجاز وبقية الجزيرة العربية، وانتشر فيها التوحيد والإيمان، وترك الناس الشرك بالله وعبادة القبور والأولياء بعد أن كانوا يعبدونها إلا من رحم الله، بل كان بعضهم يعبد أناسا مجانين لا عقول لهم، ويسمونهم: أولياء، وهذا من عظيم جهلهم الذي كانوا واقعين فيه. (1)
- وقال رحمه الله: التوحيد موضوع عظيم هو أساس الملة وأساس جميع ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. ولا ريب أن هذا المقام جدير بالعناية، وإنما ضل من ضل، وهلك من هلك بسبب إعراضه عن هذا الأصل وجهله به وعمله بخلافه، وكان المشركون قد جهلوا هذا الأمر من توحيد العبادة الذي هو الأساس الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وخلق من أجله الثقلان "الجن والإنس"، وظنوا أن ما هم عليه من الشرك دين صالح وقربة يتقربون بها إلى الله مع أنه أعظم الجرائم وأكبر الذنوب، وظنوا بجهلهم وإعراضهم وتقليدهم لآبائهم ومن قبلهم من الضالين أنه دين وقربة وحق، وأنكروا على الرسل وقاتلوهم على هذا الأساس الباطل كما قال سبحانه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} (2) وقال جل وعلا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
_________
(1) مجموع الفتاوى (8/ 17 - 20).
(2) الأعراف الآية (30).(10/341)
يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} (2). وأول من وقع في هذا البلاء واعتقد هذا الشرك: قوم نوح عليه الصلاة والسلام، فإنهم أول الأمم الواقعة في الشرك، وقلدهم من بعدهم. وكان سبب ذلك: الغلو في الصالحين، وأنهم غلوا في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان هؤلاء رجالا صالحين فيهم، فماتوا في زمن متقارب فأسفوا عليهم أسفا عظيما، وحزنوا عليهم حزنا شديدا، فزين لهم الشيطان الغلو فيهم وتصويرهم ونصب صورهم في مجالسهم، وقال لعلكم بهذا تسيرون على طريقتهم.
وفي ذلك هلاكهم وهلاك من بعدهم، فلما طال عليهم الأمر عبدوهم. وقال جماعة من السلف: فلما هلك أولئك وجاء من بعدهم عبدت هذه الأصنام، وأنزل الله فيهم جل وعلا قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)} (3). فالغلو في
_________
(1) يونس الآية (18).
(2) الزمر الآية (3).
(3) نوح الآيات (23 - 25).(10/342)
الصالحين من البشر وفي الملائكة والأنبياء والجن والأصنام هو أصل هذا البلاء، والله بين على أيدي الرسل أن الواجب عبادته وحده سبحانه، وأنه الإله الحق، وأنه لا يجوز اتخاذ الوسائط بينه وبين عباده، بل يجب أن يعبد وحده مباشرة من دون واسطة، وأرسل الرسل وأنزل الكتب بذلك، وخلق الثقلين لذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (1)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (2)، وقال عز وجل: {* وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3). وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (4)، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5).
وهذا المقام -أعني مقام التوحيد- دائما وأبدا يحتاج إلى مزيد العناية بتوجيه الناس إلى دين الله وتوحيده وإخلاص العبادة له، لأن الشرك هو أعظم الذنوب وقد وقع فيه أكثر الناس قديما وحديثا، فالواجب بيانه للناس والتحذير منه في كل وقت، وذلك بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه والنهي عن الشرك وبيان أنواعه للناس حتى يحذروه، وقد قام خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك أكمل قيام في
_________
(1) الذاريات الآية (56).
(2) البقرة الآية (21).
(3) الإسراء الآية (23).
(4) الفاتحة الآية (5).
(5) النحل الآية (36).(10/343)
مكة والمدينة، ومع هذا فقد ملئت الدنيا من هذا الشرك بسبب علماء السوء ودعاة الضلالة وإعراض الأكثر عن دين الله وعدم تفقههم في الدين، وعدم إقبالهم على الحق، وحسن ظنهم بدعاة الباطل ودعاة الشرك إلا من رحم الله، كما قال الله سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} (1)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} (2) وقال عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (3).
فلهذا انتشر الشرك في الأمم بعد نوح في عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم شعيب وقوم لوط، ومن بعدهم من سائر الأمم، وصاروا يقلد بعضهم بعضا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} (4). وإذا كان هذا البلاء قد عم وطم ولم يسلم منه إلا القليل، فالواجب على أهل العلم أن يقدموه على غيره -أعني بيان التوحيد وضده-، وأن تكون عنايتهم به أكثر من كل نوع من أنواع العلم لأنه الأساس، فإذا فسد هذا الأساس وخرب بالشرك بطل غيره من الأعمال، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا
_________
(1) يوسف الآية (103).
(2) سبأ الآية (20).
(3) الأنعام الآية (116).
(4) الزخرف الآية (22).(10/344)
لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} (1) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} (2) والصوم والحج وغير ذلك من العبادات لا تنفع. (3)
موقفه من الرافضة:
- سئل رحمه الله: من خلال معرفة سماحتكم بتاريخ الرافضة، ما هو موقفكم من مبدأ التقريب بين أهل السنة وبينهم؟
فأجاب: التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة غير ممكن، لأن العقيدة مختلفة، فعقيدة أهل السنة والجماعة: توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، وأنه لا يدعى معه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الغيب. ومن عقيدة أهل السنة: محبة الصحابة رضي الله عنهم جميعا والترضي عنهم، والإيمان بأنهم أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وأن أفضلهم أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عن الجميع. والرافضة خلاف ذلك، فلا يمكن الجمع بينهما كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيين وأهل السنة، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها.
_________
(1) الأنعام الآية (88).
(2) الزمر الآيتان (65و66).
(3) مجموع الفتاوى (9/ 63 - 66).(10/345)
- ثم سئل رحمه الله: هل يمكن التعامل معهم لضرب العدو الخارجي كالشيوعية وغيرها؟
فأجاب: لا أرى ذلك ممكنا، بل يجب على أهل السنة أن يتحدوا وأن يكونوا أمة واحدة وجسدا واحدا، وأن يدعوا الرافضة أن يلتزموا بما دل عليه كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحق، فإذا التزموا بذلك صاروا إخواننا وعلينا أن نتعاون معهم، أما ما داموا مصرين على ما هم عليه من بغض الصحابة، وسب الصحابة إلا نفرا قليلا، وسب الصديق وعمر، وعبادة أهل البيت كعلي رضي الله عنه وفاطمة والحسن والحسين، واعتقادهم في الأئمة الاثنى عشرة أنهم معصومون وأنهم يعلمون الغيب، كل هذا من أبطل الباطل، وكل هذا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة. (1)
موقفه من الصوفية:
- سأله رحمه الله سائل من سوريا قال: يوجد ناس عندنا يقولون: إننا أبناء الشيخ عيسى أو أبناء غيره من الشيوخ المعروفين عندنا، ويأتون يسألون الناس وقد لبسوا لباسا أخضر على رؤوسهم من حرير، في أيديهم أسياخ من حديد، إذا أعطيتهم أرضيتهم، وإذا لم تعطهم غضبوا وضربوا أنفسهم بهذا الحديد في بطونهم وفي رؤوسهم؟
فأجاب: هؤلاء من بعض الطوائف التي تسمى الصوفية، وهؤلاء يلعبون على الناس ويخدعونهم، بزعمهم أنهم أولاد فلان أو فلان، ويزعمون أنهم يستحقون على الناس المساعدة، وهؤلاء ينبغي منعهم من هذا العمل وتأديبهم
_________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 156 - 157).(10/346)
عليه من جهة الدولة، لما في ذلك من كف شرهم عن الناس على السؤال بهذه الطريقة المنكرة.
ولا يعطى مثل هؤلاء، لأن عطاءهم يشجعهم .. وإذا ضربوا أنفسهم فلا حرج عليك من ذلك، وإنما الحرج عليهم. والواجب نصيحتهم وتحذيرهم من هذا العمل المنكر، وهو من التشويش والتلبيس الذي يخدعون به الناس، وهم في الحقيقة يعملون هذه الأمور الشيطانية بتزيين من الشيطان وتلبيس منه، وهو ما يسمى بالتقمير، وهو من أنواع السحر، يفعلون هذا الشيء في رأي الناظر، وهم لا يفعلونه في الحقيقة، ولو فعلوه حقيقة لضرهم، لأن السلاح والحديد وأشباه ذلك يضر الإنسان إذا ضرب به نفسه، ولكنهم يسحرون العيون بما يفعلون، كما ذكر الله عن سحرة فرعون، حيث قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} (1)، وقال تعالى في سورة طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} (2) فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يساعدوا مثل هؤلاء، لأن مساعدتهم معناها مساعدة على المنكر وعلى التلبيس وعلى الشعوذة وعلى إيذاء المسلمين وخداعهم.
_________
(1) الأعراف الآية (116).
(2) طه الآية (66).(10/347)
فالواجب منع هؤلاء والقضاء على منكرهم هذا، وحسم مادتهم بالأدب البليغ، أو السجن من جهة الدولة، حتى يرتدعوا عن هذا العمل .. وفق الله قادة المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده. (1)
- وقال رحمه الله: قد دلت الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الكلام كلمة التوحيد: وهي لا إله إلا الله، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله» (2)، وقال عليه الصلاة والسلام: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» (3). وقد ذكر الله في كتابه العظيم هذه الكلمة في مواضع كثيرة، منها قوله سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (4)، وقوله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (5).
والمشروع للمسلمين جميعا أن يذكروا الله بهذا اللفظ: لا إله إلا الله، ويضاف إلى ذلك: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كل هذا من الكلام الطيب المشروع.
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 447 - 448).
(2) أخرجه: أحمد (2/ 445) والبخاري (1/ 71/9) ومسلم (1/ 63/35) وأبو داود (5/ 55 - 56/ 4676) والترمذي (5/ 12/2614) والنسائي (8/ 484/5020) وابن ماجه (1/ 22/57) كلهم من حديث أبي هريرة إلا أنه اختلف في لفظه فمنهم من يرويه بلفظ: بضع وستون ومنهم من يرويه بلفظ بضع وسبعون ومنهم من يرويه على الشك.
(3) أحمد (5/ 10) ومسلم (3/ 1685/2137) وابن ماجه (2/ 1253/3811) والنسائي في الكبرى (6/ 211/10681) من حديث سمرة بن جندب.
(4) آل عمران الآية (18).
(5) محمد الآية (19).(10/348)
أما قول الصوفية: (الله الله)، أو (هو هو)، فهذا من البدع، ولا يجوز التقيد بذلك، لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم فصار بدعة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق عليه (2).
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فهو رد» أي: فهو مردود، ولا يجوز العمل به ولا يقبل. فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتعبدوا بشيء لم يشرعه الله، للأحاديث المذكورة وما جاء في معناها لقول الله سبحانه منكرا على المشركين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (3). وفق الله الجميع لما يرضيه. (4)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: عقيدتي التي أدين الله بها وأسأله سبحانه أن يتوفاني عليها هي: الإيمان بأنه سبحانه هو الإله الحق المستحق للعبادة، وأنه سبحانه فوق العرش قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته بلا كيف، وأنه سبحانه يوصف بالعلو فوق جميع الخلق، كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 180) ومسلم (3/ 1343 - 1344/ 1718 (18)) عن عائشة رضي الله عنها.
(2) أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14).
(3) الشورى الآية (21).
(4) مجموع الفتاوى (8/ 399 - 400).(10/349)
اسْتَوَى (5)} (1)، وقال عز وجل: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الآية (2)، وقال عز وجل في آخر آية الكرسي: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} (3)، وقال عز وجل: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} (4)، وقال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (5) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأومن بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، كما قال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (6).
والواجب على جميع المسلمين: هو الإيمان بأسمائه وصفاته الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وإثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (7)، وقال عز وجل: {فَلَا
_________
(1) طه الآية (5).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) البقرة الآية (255).
(4) غافر الآية (12).
(5) فاطر الآية (10).
(6) الأعراف الآية (180).
(7) الشورى الآية (11).(10/350)
تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} (1)، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (2)، وهي توقيفية لا يجوز إثبات شيء منها لله إلا بنص من القرآن أو من السنة الصحيحة، لأنه سبحانه أعلم بنفسه وأعلم بما يليق به، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم به، وهو المبلغ عنه، ولا ينطق عن الهوى، كما قال الله سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (3).
وأومن بأن القرآن كلامه عز وجل وليس بمخلوق، وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، وأومن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك مما كان وما سيكون، مما دل عليه القرآن الكريم، أو جاءت به السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والله المسؤول أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق ولاة أمرهم ويصلح قادتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (4)
_________
(1) النحل الآية (74).
(2) سورة الإخلاص.
(3) النجم الآيات (1 - 4).
(4) مجموع الفتاوى (8/ 43 - 45).(10/351)
- وقال رحمه الله ردا على سؤال في صفة النزول: هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو القائل عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر» متفق على صحته (1)، وقد بين العلماء أنه نزول يليق بالله وليس مثل نزولنا، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، فهو ينزل كما يشاء، ولا يلزم من ذلك خلو العرش فهو نزول يليق به جل جلاله، والثلث يختلف في أنحاء الدنيا، وهذا شيء يختص به تعالى، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2)، وقال جل وعلا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (3)، وقال عز وجل في آية الكرسي: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (4)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهو سبحانه أعلم بكيفية نزوله، فعلينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ومع كونه استوى على العرش، فهو ينزل كما يليق به عز وجل ليس كنزولنا إذا نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا نزل من
_________
(1) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) الشورى الآية (11).
(3) طه الآية (110).
(4) البقرة الآية (255).(10/352)
السيارة خلت منه السيارة، فهذا قياس فاسد له، لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يشبه خلقه في شيء من صفاته.
كما أننا نقول استوى على العرش على الوجه الذي يليق به سبحانه ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه بالخلق ولا نمثله، وإنما نقول: استوى استواء يليق بجلاله وعظمته.
ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك حيرة عظيمة حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية حتى قالوا: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا كذا ولا كذا، حتى وصفوه بصفات معناها العدم وإنكار وجوده سبحانه بالكلية؛ ولهذا ذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهل السنة والجماعة تبعا لهم فأقروا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا: لا يعلم كيفية صفاته إلا هو سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان بذلك واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني: عن الكيفية. ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان بذلك واجب)، ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات كثيرة، ومن اعتقادات لأهل الباطل كثيرة عديدة، وحسبنا أن نثبت ما جاء في النصوص، وأن لا نزيد على ذلك. وهكذا نقول: يسمع ويتكلم، ويبصر ويغضب، ويرضى على وجه يليق به سبحانه، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو. وهذا هو طريق السلامة وطريق النجاة وطريق العلم، وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، وبذلك يسلم المؤمن(10/353)
من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد علم الكيفية إلى ربه سبحانه وتعالى. والله سبحانه ولي التوفيق. (1)
- وقال رحمه الله: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ س. خ وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم الذي ذكرتم فيه أنكم أثناء تحقيقكم لكتاب 'فضائل الأوقات' للبيهقي مر عليكم هذا النص: (سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزي يقول: حديث النزول (2) قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (3) والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله بلا تشبيه جل عما يقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوا كبيرا. اهـ
ولا شك أن هذا القول باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فإن الله سبحانه قد أثبت لنفسه المجيء، وكما أخبر عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالنزول ولم يبين لنا سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيفية النزول ولا كيفية المجيء. فوجب الكف عن ذلك، كما وسع السلف الصالح رضي الله عنهم ذلك، ولم يزيدوا على
_________
(1) مجموع الفتاوى (9/ 76 - 77).
(2) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(3) الفجر الآية (22).(10/354)
ما جاء في النصوص. فالواجب السير على منهاجهم ولزوم طريقهم في إثبات الصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة بلا كيف، مع الإيمان بأنه سبحانه لا كفو له ولا شبيه له ولا مثيل له كما قال عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (1)، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (2)، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (3). ومعلوم أن نفي الحركة والانتقال دخول في التكييف بغير علم، ونحن ممنوعون من ذلك لعدم علمنا بكيفية صفاته سبحانه، لأنه عز وجل لم يخبرنا بذلك ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به والثبات على الحق والسلامة من مضلات الفتن إنه سميع قريب .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. (4)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: فالخوارج كَفَّروا بالمعاصي، وخَلَّدوا العصاة في النار، والمعتزلة وافقوهم في العاقبة، وأنهم في النار مخلدون فيها؛ ولكن قالوا: إنهم في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين، وكله ضلال.
والذي عليه أهل السنة -وهو الحق- أن العاصي لا يكفر بمعصيته ما لم يستحلها، فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذا شرب الخمر لا
_________
(1) الإخلاص الآية (4).
(2) النحل الآية (74).
(3) الشورى الآية (11).
(4) مجموع الفتاوى (5/ 54 - 55).(10/355)
يكفر، ولكن يكون عاصيا ضعيف الإيمان فاسقا تقام عليه الحدود، ولا يكفر بذلك إلا إذا استحل المعصية وقال: إنها حلال.
وما قاله الخوارج في هذا باطل، وتكفيرهم للناس باطل، ولهذا قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه، يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان» (1). هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية، فيقفوا مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة والمشافهة، بالطرق الطيبة الحكيمة، وبالجدال بالتي هي أحسن، حتى ينجحوا، وحتى يقل الشر أو يزول ويكثر الخير. (2)
- قال في تعليقه على العقيدة الطحاوية: قوله: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله): مراده رحمه الله: أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه؛ كالزنا، وشرب الخمر، والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك. فإن استحله كفر؛ لكونه بذلك مكذبا لله ولرسوله، خارجا عن دينه. أما إذا لم يستحل ذلك؛ فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف
_________
(1) أخرجه أخرجه أحمد (3/ 68و73) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064) وأبو داود (5/ 121 - 122/ 4764) والنسائي (5/ 92 - 93/ 2577).
(2) مجموع الفتاوى (8/ 205).(10/356)
الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك، حسبما جاء في الشرع المطهر. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخواج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل. فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني: بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار. وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماعة سلف الأمة. وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا وبالله التوفيق. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: ولهذا لما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره» (2) ففسر الإيمان بهذه الأمور الستة التي هي أصول الإيمان، وهي في نفسها أصول الدين كله، لأنه لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، فالإيمان بهذه الأصول لا بد منه لصحة الإسلام لكن قد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، ولهذا قال الله عز وجل في حق الأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (3).
فلما كان إيمانهم ليس بكامل، بل إيمان ناقص لم يستكمل واجبات
_________
(1) بهامش حاشية ابن عتيق (ص.52).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(3) الحجرات الآية (14).(10/357)
الإيمان نفى عنهم الإيمان يعني به الكامل لأنه ينفى عمن ترك بعض الواجبات كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1)، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» (2) إلى غير ذلك، والمقصود أن الإيمان يقتضي العمل الظاهر، كما أن الإسلام بدون إيمان من عمل المنافقين، فالإيمان الكامل الواجب يقتضي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه الله ورسوله، فإذا قصر في ذلك جاز أن ينفى عنه ذلك الإيمان بتقصيره كما نفي عن الأعراب بقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (3) وكما نفي عمن ذكر في الأحاديث السابقة.
والخلاصة أن الله سبحانه ورسوله نفيا الإيمان عن بعض من ترك بعض واجبات الإيمان وأثبتا له الإسلام، فهذه الأصول الستة هي أصول الدين كله، فمن أتى بها مع الأعمال الظاهرة صار مسلماً مؤمناً، ومن لم يأت بها فلا إسلام له ولا إيمان؛ كالمنافقين فإنهم لما أظهروا الإسلام وادعوا الإيمان وصلوا مع الناس وحجوا مع الناس وجاهدوا مع الناس إلى غير ذلك، ولكنهم في
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 176) والبخاري (1/ 78/13) ومسلم (1/ 67/45) والترمذي (4/ 575/2515) وابن ماجه (1/ 26/66) من حديث أنس
(2) أخرجه: أحمد (2/ 267) والبخاري (10/ 651و652/ 6136و6138) ومسلم (1/ 68/47) وأبو داود (5/ 358/5154) والترمذي (4/ 569/2500) من حديث أبي هريرة.
(3) الحجرات الآية (14).(10/358)
الباطن ليسوا مع المسلمين بل هم في جانب والمسلمون في جانب، لأنهم مكذبون لله ورسوله، منكرون لما جاءت به الرسل في الباطن، متظاهرون بالإسلام لحظوظهم العاجلة ولمقاصد معروفة أكذبهم الله في ذلك، وصاروا كفاراً ضلالاً، بل صاروا أكفر وأشر ممن أعلن كفره، ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار، وما ذاك إلا لأن خطرهم أعظم؛ لأن المسلم يظن أنهم إخوته وأنهم على دينه وربما أفشى إليهم بعض الأسرار، فضروا المسلمين وخانوهم، فصار كفرهم أشد وضررهم أعظم.
وهكذا من ادعى الإيمان بهذه الأصول ثم لم يؤدِّ شرائع الإسلام الظاهرة، فلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو لم يصل، أو لم يصم، أو لم يزك، أو لم يحج، أو ترك غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة التي أوجبها الله عليه، فإن ذلك دليل على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه. فقد ينتفي الإيمان بالكلية كما ينتفي بترك الشهادتين إجماعاً، وقد لا ينتفي أصله ولكن ينتفي تمامه وكماله لعدم أدائه ذلك الواجب المعين كالصوم والحج مع الاستطاعة والزكاة ونحو ذلك من الأمور عند جمهور أهل العلم؛ فإنّ تركها فسق وضلال ولكن ليس ردة عن الإسلام عند أكثرهم إذا لم يجحد وجوبها. (1)
- قال رحمه الله معلقا على قول الطحاوي: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان): هذا التعريف فيه نظر وقصور!! والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، يزيد بالطاعة،
_________
(1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/ 160 - 162).(10/359)
وينقص بالمعصية. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تُحصر. وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها، فراجعها إن شئت. وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة. وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوي. ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان. (1)
موقفه من القدرية:
له رسائل وفتاوى في العقيدة والدفاع عن حياضها، جمع بعض تلامذته كثيرا من ذلك، منها ما جمعه الشيخ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار في عدة أجزاء منها ثلاثة في العقيدة، عقد فيها بابا في القضاء والقدر (2)، بين فيه الشيخ ابن باز أهمية الإيمان بالقضاء والقدر وأنه الركن السادس من أركان الإيمان فقال: قد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة: على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة، التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دلت على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
ومن ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (3)، وقوله
_________
(1) العقيدة الطحاوية تعليق ابن باز (ص.60).
(2) من (2/ 475) إلى (2/ 502).
(3) الحج الآية (70).(10/360)
تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} (1)، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله». قال: صدقت. الحديث. وهذا لفظ مسلم (3). وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فأجابه بقوله: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» فقال له جبرائيل: صدقت (4). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بأن الله سبحانه علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي، وعلم مقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك، كما قال
_________
(1) الحديد الآية (22).
(2) القمر الآية (49).
(3) أحمد (2/ 426) والبخاري (1/ 153/50) ومسلم (1/ 39/9) والنسائي (8/ 475 - 476/ 5006) وابن ماجه (1/ 25/64). وأخرجه أبو داود (5/ 74/4698) مختصرا.
(4) تقدم تخريجه في مواقف يحيى بن يعمر سنة (89هـ).(10/361)
سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} (1)، وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (2)، وقال تعالى: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} (3)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
الأمر الثاني من مراتب الإيمان بالقدر: كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر وطاعة ومعصية وآجال وأرزاق وغير ذلك، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (4)، في آيات كثيرة سبق بعضها آنفا.
وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل
_________
(1) العنكبوت الآية (62).
(2) الطلاق الآية (12).
(3) الأنعام الآية (59).
(4) الحج الآية (70).(10/362)
الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} (1). (2)، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ومنها حديث عبد الله بن مسعود المخرج في الصحيحين في ذكر خلق الجنين وأنه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد (3).
الأمر الثالث من مراتب الإيمان بالقدر: أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد، ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته؛ كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (4)، وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} (5)، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} (6)، وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} (7)، وقال عز وجل:
_________
(1) الليل الآيتان (5و6).
(2) تقدم تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).
(3) تقدم تخريجه في مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).
(4) التكوير الآيتان (28و29).
(5) المدثر الآيتان (55و56).
(6) الأنعام الآية (137).
(7) الأنعام الآية (39).(10/363)
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (1)، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا معلومة من كتاب الله.
والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة، وهي إرادة كونية قدرية بخلاف الإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (2)، فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية بمعنى المحبة.
والفرق بين الإرادتين: الأولى لا يتخلف مرادها أبدا، بل ما أراده الله كونا فلابد من وقوعه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} (3). أما الإرادة الشرعية: فقد يوجد مرادها من بعض الناس، وقد يتخلف. وإيضاح ذلك أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة، ومع ذلك أكثر الخلق لم يهتد ولم يوفق للتوبة، ولم يتبصر في الحق، لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل وبين السبيل
_________
(1) الأنعام الآية (125).
(2) النساء الآيات (26 - 28).
(3) يس الآية (82).(10/364)
وشرع أسباب التوبة وبينها، ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر، فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعا، لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين، ولا ممن يوفق للتوبة. وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته، ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة، حار فيها الكثير من الناس لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين.
ومما يزيد المقام بيانا: أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن، فهو إنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية، وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية، وفعل ما أراده الله منه شرعا وأحبه منه، وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي، فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته الكونية، وقد تخلفت عنه الإرادة الشرعية لكونه لم يأت بمرادها وهو الإسلام والطاعة، فتنبه وتأمل، والله الموفق.
الأمر الرابع من مراتب الإيمان بالقدر: أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء من ذوات وصفات وأفعال، فالجميع خلق الله سبحانه، وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته، فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله، وأفعالهم تنسب إليهم، فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها، والعبد فاعل حقيقة وله مشيئة وله قدرة قد أعطاه الله إياها، والله سبحانه هو خالقه وخالق أفعاله وقدرته ومشيئته، كما قال(10/365)
تعالى: {إِن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} (1)، وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (2)، فلا يخرج شيء من أفعال العباد ولا غيرهم عن قدرة الله ولا عن مشيئته، فعلم الله شامل، ومشيئته نافذة، وقدرته كاملة، لا يعجزه سبحانه شيء، ولا يفوته أحد، كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (3).
والعرش وما دونه من سماوات وأرضين وملائكة وبحار وأنهار وحيوان وغير ذلك من الموجودات، كلها وجدت بمشيئة الله وقدرته، لا خالق غيره ولا رب سواه ولا شريك له في ذلك كله، كما أنه لا شريك له في عبادته ولا في أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} (4)، وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} (5)، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ
_________
(1) البقرة الآية (20).
(2) التكوير الآيتان (28و29).
(3) الطلاق الآية (12).
(4) الزمر الآية (62).
(5) البقرة الآية (163).(10/366)
الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (1)، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2).
فالله سبحانه هو الخالق وما سواه مخلوق، وصفاته كذاته ليست مخلوقة، وكلامه من صفاته، والقرآن الكريم من كلامه المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو كلام الله عز وجل، منزل غير مخلوق بإجماع أهل السنة، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة.
وبما ذكرنا يتضح لطالب الحق أن مراتب القدر أربع، من آمن بها وأحصاها فقد آمن بالقدر خيره وشره.
وقد ذكر العلماء هذه المراتب في كتب العقائد وأوضحوها بأدلتها؛ وممن ذكر ذلك باختصار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه 'العقيدة الواسطية'، وذكرها وأوسع فيها الكلام تلميذه المحقق العلامة الكبير أبو عبد الله ابن القيم في كتابه 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل'، وهو كتاب نفيس عظيم الفائدة نادر المثل أو معدومه، ننصح بقراءته والاستفادة منه. والله أسأل سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه، وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (3)
_________
(1) الإخلاص الآيات (1 - 4).
(2) الشورى الآية (11).
(3) مجموع فتاوى ابن باز (2/ 475 - 481).(10/367)
محمد ناصر الدين الألباني (1) (1420 هـ)
الشيخ المحدث، علامة الشام أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني. ولد الشيخ في مدينة أشقودرة، عاصمة ألبانيا سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لعام أربع عشرة وتسعمائة وألف ميلادي، في أسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي، وكان والده فقيها حنفيا من أهل العلم. وبعد تولي "أحمد زوغو" الحكم في ألبانيا حوّلها إلى بلاد علمانية، فقرر الشيخ نوح رحمه الله الهجرة بأسرته إلى بلاد الشام فرارا بدينه.
قرأ الشيخ القرآن مجودا على والده وتلقى عليه بعض علوم اللغة وبعض كتب المذهب الحنفي، كما درس على الشيخ سعيد البرهاني 'مراقي الفلاح' في الفقه الحنفي و'شذور الذهب' في النحو، وأجازه الشيخ محمد راغب الطباخ بمروياته. وجذبه علم الحديث وتأثر به، وأول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب 'المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار' للحافظ العراقي. قام الشيخ بالدعوة إلى الله في دمشق، ورفع راية التوحيد والسنة، مستعينا في ذلك بالله ثم ببعض العلماء الدمشقيين أمثال العلامة محمد بهجة البيطار والشيخ عبد الفتاح الإمام والشيخ توفيق البزرة وغيرهم، فنصر السنة ونفض عنها غبار القرون، وأعلنها بكل قوة وجرأة، لا يخاف في الله لومة لائم. وما من أحد في العصر الحاضر له اشتغال في علم الحديث إلا وللألباني في عنقه منة، اعترف بها أو جحد.
_________
(1) 'مقالات الألباني' لنور الدين طالب (175 - 243) و'حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه' لتلميذه الشيباني.(10/368)
قلت: العلامة الفحل شيخ السنة في عصره بدون منازع، عرفته بالمدينة النبوية وأنا في المعهد الثانوي وحضرت مجالسه العلمية ومناظراته القيمة، فما رأيت أحسن منه في علم المناظرة والدفاع عن السنة. كان له الفضل الكبير في نشر علم الحديث وإظهاره للناس بالطرق العلمية الصحيحة، وأحيا عمل السلف الصالح في العناية بالسنة والتمسك بالدليل، وأشاع في الأمة الإسلامية علم الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف الذي مات ذكره من زمان. تنور الشباب بكتبه، وأصبحت نموذجا عندهم، وأثار ذلك حفيظة الأعداء وحاولوا أن ينالوا منه بالقدح والثلب، ولكن كما قال القائل:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
الإمام الألباني لم يعرف الملل والكلل في البحث العلمي، والدعوة إلى الكتاب والسنة، فكان النموذج الصالح لخدمة الكتاب والسنة، فكان موفقا في كل خطواته العلمية والدعوية.
فرحمة الله عليه رحمة واسعة.
أثنى عليه كبار علماء عصره، فقد قال فيه الشيخ ابن باز رحمه الله: لا أعلم تحت قبة الفلك أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشيخ ناصر. وقال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: صاحب سنة ونصرة للحق ومصادمة لأهل الباطل. وقال فيه الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله: الألباني الآن علم على السنة، الطعن فيه إعانة على الطعن في السنة. وقال فيه الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله: من دعاة السنة الذين وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها.(10/369)
توفي رحمة الله عليه بعد عصر يوم السبت لثمان بقين من جمادى الأولى سنة عشرين وأربعمائة وألف هجرية الموافق لعام تسع وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي في عمان.
موقفه من المبتدعة:
- قال الشيخ رحمه الله وهو يتحدث عن مسألة التشهد في الصلاة: ولهذه المسألة ونحوها مما لا يمكن معرفة الصواب فيها إلا بالرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح، وبخاصة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، نلح دائما في دروسنا ومحاضراتنا أنه لايكفي إذا دعونا الناس إلى العمل بالكتاب والسنة أن نقتصر على هذا فقط في الدعوة، بل لا بد من أن نضم إلى ذلك جملة: "على منهج السلف الصالح" أو نحوها، لقيام الأدلة الشرعية على ذلك، وهي مذكورة في غير هذا الموضع. لا بد من ذلك، وخصوصا في هذا العصر، حيث صارت الدعوة إلى الكتاب والسنة موضة العصر الحاضر، ودعوة كل الجماعات الإسلامية، والدعاة الإسلاميين -على ما بينهم من اختلافات أساسية أو فرعية- وقد يكون فيهم من هو من أعداء السنة عمليا، ومن يزعم أن الدعوة إليها يفرق الصف، عياذا بالله منهم.
أسأل الله تعالى أن يحيينا على السنة وأن يميتنا عليها، متبعين لمن أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ(10/370)
الْعَظِيمُ (100)} (1). وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (2).اهـ (3)
- وقال رحمه الله: ثم إن هناك وهما شائعا عند بعض المقلدين، يصدهم عن اتباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها، وهو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب، والتخطئة معناها عندهم الطعن في الإمام، ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز، فكيف في إمام من أئمتهم؟
والجواب: أن هذا المعنى باطل، وسببه الانصراف عن التفقه في السنة، وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القائل: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد» (4)، فهذا الحديث يرد ذلك المعنى، ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل: "أخطأ فلان" معناه في الشرع: "أثيب فلان أجرا واحدا"، فإذا كان مأجورا في رأي من خطأه، فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه؟ لا شك أن هذا التوهم أمر باطل يجب على كل من قام به أن يرجع عنه، وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين، وليس في فرد عادي منهم، بل في
_________
(1) التوبة الآية (100).
(2) الحشر الآية (10).
(3) مقدمة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص.25).
(4) تقدم تخريجه في مواقف ابن حزم سنة (456هـ).(10/371)
كبار أئمتهم، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم، فإننا نعلم يقينا أن هؤلاء الأجلة كان يخطئ بعضهم بعضا، ويرد بعضهم على بعض، أفيقول عاقل: إن بعضهم كان يطعن في بعض، بل لقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله لرؤيا كان رآها رجل، فقال - صلى الله عليه وسلم - له: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا» (1)، فهل طعن - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر بهذه الكلمة؟.
ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه، أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبهم، لأن اتباعهم إياها معناه عندهم الطعن في الإمام، وأما اتباعهم إياه -ولو في خلاف السنة- فمعناه احترامه وتعظيمه، ولذلك فهم يصرون على تقليده فرارا من الطعن الموهوم.
ولقد نسي هؤلاء -ولا أقول: تناسوا- أنهم بسبب هذا الوهم وقعوا فيما هو شر مما منه فروا، فإنه لو قال لهم قائل: إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع، ومخالفته تدل على الطعن فيه، فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذهب في خلاف السنة، وهو غير معصوم، والطعن فيه ليس كفرا؟ فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعنا فيه، فمخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أظهر في كونها طعنا فيه، بل ذلك هو الكفر بعينه -والعياذ بالله منه- لو قال لهم ذلك قائل، لم يستطيعوا عليه جوابا، اللهم،
_________
(1) أخرجه: أحمد (1/ 236) والبخاري (12/ 534/7046) ومسلم (4/ 1777 - 1778/ 2269) وأبو داود (3/ 578 - 579/ 3268) والترمذي (4/ 470 - 471/ 2293) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1289 - 1290/ 3918). كلهم من طريق ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره.(10/372)
إلا كلمة واحدة -طالما سمعناها من بعضهم- وهي قولهم، إنما تركنا السنة ثقة منا بإمام المذهب، وأنه أعلم بالسنة منا.
وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة، ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها، وهو جواب فاصل بإذن الله، فأقول: ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة، بل هناك عشرات -بل مئات- الأئمة هم أعلم أيضا منكم بالسنة، فإذا جاءت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم -وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة- فالأخذ بها -والحالة هذه- حتم لازم عندكم، لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا، فإن مخالفكم سيقول لكم معارضا، إنما أخذنا بهذه السنة ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها، فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها. وهذا بين لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى. (1)
- ومن الشبه التي ردها رحمه الله قال: قال بعضهم: "لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - في شؤون ديننا أمر واجب، لا سيما فيما كان منها عبادة محضة لا مجال للرأي والاجتهاد فيها، لأنها توقيفية، كالصلاة مثلا، ولكننا لا نكاد نسمع أحدا من المشايخ المقلدين يأمر بذلك، بل نجدهم يقرون الاختلاف، ويزعمون أنه توسعة على الأمة، ويحتجون على ذلك بحديث -طالما كرروه في مثل هذه المناسبة رادين به على أنصار السنة- «اختلاف أمتي رحمة»، فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالف المنهج الذي تدعو إليه، وألفت كتابك هذا وغيره عليه، فما قولك في هذا الحديث؟ ".
_________
(1) مقدمة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (70 - 72).(10/373)
والجواب من وجهين:
الأول: أن الحديث لا يصح، بل هو باطل لا أصل له، قال العلامة السبكي: "لم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع".
قلت: وإنما روي بلفظ: «اختلاف أصحابي لكم رحمة». و «أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم» (1).
وكلاهما لا يصح: الأول واه جدا، والآخر موضوع، وقد حققت القول في ذلك كله في 'سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة' (رقم 58و59و61).
الثاني: أن الحديث مع ضعفه مخالف للقرآن الكريم، فإن الآيات الواردة فيه -في النهي عن الاختلاف في الدين، والأمر بالاتفاق فيه- أشهر من أن تذكر، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (2)، وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (3)، وقال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (4)، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف أهل
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ).
(2) الأنفال الآية (46).
(3) الروم الآيتان (31و32).
(4) هود الآيتان (118و119).(10/374)
الباطل، فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟
فثبت أن هذا الحديث لا يصح، لا سندا ولا متنا، وحينئذ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة. (1)
- وقال رحمه الله تعقيبا على حديث: «إن من المؤمنين من يلين لي قلبه» (2): ومعنى (يلين لي قلبه) أي يسكن ويميل إلي بالمودة والمحبة. والله أعلم. وليس ذلك إلا بإخلاص الاتباع له - صلى الله عليه وسلم - دون سواه من البشر، لأن الله تعالى جعل ذلك وحده دليلا على حبه عز وجل، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3).
أفلم يأن للذين يزعمون حبه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثهم وأناشيدهم، أن يرجعوا إلى التمسك بهذا الحب الصادق الموصل إلى حب الله تعالى، ولا يكونوا كالذي قال فيه الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرك في القياس بديع
لوكان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع (4)
_________
(1) مقدمة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (58 - 60).
(2) أحمد (5/ 267) والطبراني في الكبير (8/ 103/7499). وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 63) وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وفي المجمع أيضا (10/ 276) وقال: "رواه الطبراني ورجاله وثقوا".
(3) آل عمران الآية (31).
(4) الصحيحة (3/ 87/1095)(10/375)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله في فقه حديث: «أجعلتني مع الله عدلا» (1): وفي هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره: "ما شاء الله وشئت" يعد شركا في الشريعة، وهو من شرك الألفاظ، لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى، وسببه القرن بين المشيئتين، ومثل ذلك قول بعض العامة وأشباههم ممن يدعي العلم: "ما لي غير الله وأنت"، و"توكلنا على الله وعليك"، ومثله قول بعض المحاضرين: "باسم الله والوطن"، أو "باسم الله والشعب"، ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي يجب الانتهاء عنها والتوبة منها، أدبا مع الله تبارك وتعالى.
ولقد غفل عن هذا الأدب الكريم كثير من العامة، وغير قليل من الخاصة الذين يسوغون النطق بمثل هذه الشركيات، كمناداتهم غير الله في الشدائد، والاستنجاد بالأموات من الصالحين، والحلف بهم من دون الله تعالى، والإقسام بهم على الله عز وجل، فإذا ما أنكر ذلك عليهم عالم بالكتاب والسنة، فإنهم بدل أن يكونوا معه عونا على إنكار المنكر، عادوا بالإنكار عليه، وقالوا: إن نية أولئك المنادين غير الله طيبة، وإنما الأعمال
_________
(1) أحمد (1/ 214) والبخاري في الأدب المفرد (783) والنسائي في الكبرى (6/ 245/10825) وابن ماجه (1/ 684/2117) وليس فيه: أجعلتني مع الله عدلا. من طريق الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعا. قال البوصيري في الزوائد: "في إسناده الأجلح بن عبد الله، مختلف فيه".
وضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد. ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجلي. وباقي رجال الإسناد ثقات. وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق شيعي". والحديث حسن إسناده الشيخ الألباني في الصحيحة (139).(10/376)
بالنيات كما جاء في الحديث (1).
فيجهلون أو يتجاهلون -إرضاء للعامة- أن النية الطيبة وإن وجدت عند المذكورين، فهي لا تجعل العمل السيء صالحا، وأن معنى الحديث المذكور إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، لا أن الأعمال المخالفة للشريعة تنقلب إلى أعمال صالحة مشروعة بسبب اقتران النية الصالحة بها، ذلك ما لا يقوله إلا جاهل أو مغرض، ألا ترى أن رجلا لو صلى تجاه القبر، لكان ذلك منكرا من العمل، لمخالفته للأحاديث والآثار الواردة في النهي عن استقبال القبر بالصلاة، فهل يقول عاقل: إن الذي يعود إلى الاستقبال -بعد علمه بنهي الشرع عنه- إن نيته طيبة وعمله مشروع؟ كلا ثم كلا، فكذلك هؤلاء الذين يستغيثون بغير الله تعالى، وينسونه تعالى في حالة هم أحوج ما يكونون فيها إلى عونه ومدده، لا يعقل أن تكون نياتهم طيبة، فضلا عن أن يكون عملهم صالحا، وهم يصرون على هذا المنكر وهم يعلمون. (2)
- وقال رحمه الله تحت حديث: «لا مهدي إلا عيسى»: وهذا الحديث تستغله الطائفة القاديانية في الدعوة لنبيهم المزعوم، ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادعى النبوة، ثم ادعى أنه هو عيسى بن مريم المبشر بنزوله في آخر الزمان، وأنه لا مهدي إلا عيسى بناء على هذا الحديث المنكر، وقد راجت دعواه على كثيرين من ذوي الأحلام الضعيفة، شأن كل دعوة باطلة لا تعدم
_________
(1) أحمد (1/ 25) والبخاري (1/ 11/1) ومسلم (3/ 1515 - 1516/ 1907) وأبو داود (2/ 651 - 652/ 2201) والترمذي (4/ 154/1647) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (1/ 62 - 63/ 75) وابن ماجه (2/ 1413/4227) من حديث عمر.
(2) الصحيحة (1/ 266 - 267/ 139).(10/377)
من يتبناها ويدعو إليها. (1)
- وقال رحمه الله: لا يجوز في الشرع أن يقال: فلان خليفة الله. لما فيه من إيهام ما لا يليق بالله تعالى من النقص والعجز، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقال في الفتاوى (2): وقد ظن بعض القائلين الغالطين كابن عربي، أن الخليفة هو الخليفة عن الله، مثل نائب الله، والله تعالى لا يجوز له خليفة، ولهذا قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: "لست بخليفة الله، ولكن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حسبي ذلك"، بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا» (3).
وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين، ليس له شريك ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف، وسمي خليفة لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى، وهو منزه عنها، فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب ... ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه، ولا يقوم مقامه، إنه لا سمي له ولا كفء، فمن جعل له خليفة فهو مشرك به. (4)
_________
(1) الضعيفة (1/ 176).
(2) (2/ 461).
(3) أحمد (2/ 144) والترمذي (5/ 468/3447) من حديث ابن عمر. وأصله في صحيح مسلم (2/ 978/1342). وفي الباب عن عبد الله بن سرجس.
(4) الضعيفة (1/ 197 - 198/ 85).(10/378)
- قال رحمه الله تعليقا على حديث: «إن الله عز وجل لما قضى خلقه استلقى .. » (1): الحديث يستشم منه رائحة اليهودية الذين يزعمون أن الله تبارك وتعالى بعد أن فرغ من خلق السموات والأرض استراح، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهذا المعنى يكاد يكون صريحا في الحديث فإن الاستلقاء لا يكون إلا من أجل الراحة، سبحانه وتعالى عن ذلك. وأنا أعتقد أن أصل هذا الحديث من الإسرائيليات وقد رأيت في كلام أبي نصر الغازي أنه روي عن كعب الأحبار، فهذا يؤيد ما ذكرته، وذكر أبو نصر أيضا أنه روي موقوفا عن عبد الله بن عباس وكعب بن عجرة، فكأنهما تلقياه -إن صح عنهما- عن كعب كما هو الشأن في كثير من الإسرائيليات، ثم وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على حديث: «الرقى والتمائم والتولة شرك» (3): (الرقى): هي هنا كل ما فيه الاستعاذة بالجن، أو لا يفهم معناها، مثل كتابة بعض المشايخ من العجم على كتابهم لفظة (ياكبيكج) لحفظ الكتب من الأرضة زعموا.
و (التمائم): جمع تميمة، وأصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد
_________
(1) رواه الطبراني (19/ 13/18) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 198 - 199/ 761) من طريق عبيد بن حنين عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه. وقال: "هذا حديث منكر ولم أكتبه إلا من هذا الوجه ... ". وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 100) وقال: "رواه الطبراني عن مشايخ ثلاثة جعفر بن سليمان النوفلي وأحمد بن رشدين المصري وأحمد ابن داود المكي فأحمد بن رشدين ضعيف، والاثنان لم أعرفهما، وبقية رجاله رجال الصحيح". والحديث أورده في الضعيفة (2/ 177 - 180/ 755) وتكلم عليه بكلام نفيس، فانظره هناك.
(2) الضعيفة (2/ 178/755).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبد الله بن مسعود سنة (32هـ).(10/379)
لدفع العين، ثم توسعوا فيها، فسموا بها كل عوذة.
قلت: ومن ذلك تعليق بعضهم نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان، وتعليق بعض السائقين نعلا في مقدمة السيارة أو مؤخرتها، أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل، كل ذلك من أجل العين زعموا.
وهل يدخل في (التمائم) الحجب التي يعلقها بعض الناس على أولادهم أو على أنفسهم إذا كانت من القرآن أو الأدعية الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ للسلف في ذلك قولان، أرجحهما عندي المنع، كما بينته فيما علقته على 'الكلم الطيب' لشيخ الإسلام ابن تيمية (رقم التعليق 34).
و (التولة): بكسر التاء وفتح الواو: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، قال ابن الأثير: (جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى). (1)
وقال رحمه الله: فائدة: (التميمة): خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام، كما في 'النهاية' لابن الأثير.
قلت: ولا تزال هذه الضلالة فاشية بين البدو والفلاحين وبعض المدنيين، ومثلها الخرزات التي يضعها بعض السائقين أمامهم في السيارة يعلقونها على المرآة، وبعضهم يعلق نعلا عتيقة، في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها، وغيرهم يعلقون نعل فرس في واجهة الدار أو الدكان، كل ذلك
_________
(1) الصحيحة (1/ 649 - 650/ 331).(10/380)
لدفع العين زعموا، وغير ذلك مما عم وطم بسبب الجهل بالتوحيد، وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بعثت الرسل ولا أنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها والقضاء عليها، فإلى الله المشتكى من جهل المسلمين اليوم، وبعدهم عن الدين.
ولم يقف الأمر ببعضهم عند مجرد المخالفة، بل تعداه إلى التقرب بها إلى الله تعالى، فهذا الشيخ الجزولي صاحب 'دلائل الخيرات' يقول في الحزب السابع في يوم الأحد (ص.111 طبع بولاق): "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ما سجعت الحمائم، وحمت الحوائم، وسرحت البهائم، ونفعت التمائم".
وتأويل الشارح لـ 'الدلائل' بأن "التمائم جمع تميمة، وهي الورقة التي يكتب فيها شيء من الأسماء أو الآيات، وتعلق على الرأس مثلا للتبرك" فمما لا يصح، لأن التمائم عند الإطلاق إنما هي الخرزات، كما سبق عن ابن الأثير، على أنه لو سلم بهذا التأويل، فلا دليل في الشرع على أن التميمة بهذا المعنى تنفع، ولذلك جاء عن بعض السلف كراهة ذلك. (1)
- وقال رحمه الله تعقيبا على حديث: «النشرة من عمل الشيطان» (2): و (النشرة): الرقية. قال الخطابي: "النشرة: ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به
_________
(1) الصحيحة (1/ 890/492).
(2) أحمد (3/ 294) وعنه أبو داود (4/ 201/3868) من حديث جابر بن عبد الله وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/ 286) وتعقبه الشيخ الألباني بقوله: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، غير عقيل بن معقل وهو ابن منبه اليماني، وهو ثقة اتفاقا، فقول الحافظ فيه "صدوق" وبناء عليه اقتصر في الفتح على تحسين إسناده في هذا الحديث، فهو تقصير لا وجه له عندي" الصحيحة (6/ 612).(10/381)
من كان يظن به مس الجن".
قلت: يعني الرقى غير المشروعة، وهي ما ليس من القرآن والسنة الصحيحة وهي التي جاء إطلاق لفظ الشرك عليها في غير ما حديث، وقد تقدم بعضها، فانظر مثلا: (331و1066)، وقد يكون الشرك مضمرا في بعض الكلمات المجهولة المعنى، أو مرموزا له بأحرف مقطعة، كما يرى في بعض الحجب الصادرة من بعض الدجاجلة، وعلى الرقى المشروعة يحمل ما علقه البخاري عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب (أي سحر) أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه.
ووصله الحافظ في الفتح (10/ 233) من رواية الأثرم وغيره من طرق عن قتادة عنه. ورواية قتادة أخرجها ابن أبي شيبة (8/ 28) بسند صحيح عنه مختصرا.
هذا ولا خلاف عندي بين الأثرين، فأثر الحسن يحمل على الاستعانة بالجن والشياطين والوسائل المرضية لهم كالذبح لهم ونحوه، وهو المراد بالحديث، وأثر سعيد على الاستعانة بالرقى والتعاويذ المشروعة بالكتاب والسنة. وإلى هذا مال البيهقي في 'السنن'، وهو المراد بما ذكره الحافظ عن الإمام أحمد أنه سئل عمن يطلق السحر عن المسحور؟ فقال: "لا بأس به".
وأما قول الحافظ: "ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد بها خيرا، وإلا فهو شر".
قلت: هذا لا يكفي في التفريق، لأنه قد يجتمع قصد الخير مع كون(10/382)
الوسيلة إليه شر، كما قيل في المرأة الفاجرة:
. . . . . . . . . . . ... ليتها لم تزن ولم تتصدق
ومن هذا القبيل معالجة بعض المتظاهرين بالصلاح للناس بما يسمونه بـ (الطب الروحاني) سواء كان ذلك على الطريقة القديمة من اتصاله بقرينه من الجن كما كانوا عليه في الجاهلية، أو بطريقة ما يسمى اليوم باستحضار الأرواح، ونحوه عندي التنويم المغناطيسي، فإن ذلك كله من الوسائل التي لا تشرع، لأن مرجعها إلى الاستعانة بالجن التي كانت من أسباب ضلال المشركين كما جاء في القرآن الكريم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} (1) أي خوفا وإثما. وادعاء بعض المبتلين بالاستعانة بهم أنهم إنما يستعينون بالصالحين منهم، دعوى كاذبة لأنهم مما لا يمكن -عادة- مخالطتهم ومعاشرتهم، التي تكشف عن صلاحهم أو طلاحهم، ونحن نعلم بالتجربة أن كثيرا ممن تصاحبهم أشد المصاحبة من الإنس، يتبين لك أنهم لا يصلحون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِن مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (2) هذا في الإنس الظاهر، فما بالك بالجن الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
_________
(1) الجن الآية (6).
(2) التغابن الآية (14).(10/383)
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (1).اهـ (2)
- وقال رحمه الله تعليقا على حديث: «من لقي الله لا يشرك به شيئا، يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان غفر له ... » (3): وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن المسلم لا يستحق مغفرة الله إلا إذا لقي الله عز وجل ولم يشرك به شيئا، ذلك لأن الشرك أكبر الكبائر كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة. ومن هنا يظهر لنا ضلال أولئك الذين يعيشون معنا، ويصلون صلاتنا، ويصومون صيامنا، و ... ولكنهم يواقعون أنواعا من الشركيات والوثنيات، كالاستغاثة بالموتى من الأولياء والصالحين ودعائهم في الشدائد من دون الله، والذبح لهم والنذر لهم، ويظنون أنهم بذلك يقربونهم إلى الله زلفى، هيهات هيهات. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} (4).
فعلى كل من كان مبتلى بشيء من ذلك من إخواننا المسلمين أن يبادروا فيتوبوا إلى رب العالمين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم النافع المستقى من الكتاب والسنة. وهو مبثوث في كتب علمائنا رحمهم الله تعالى، وبخاصة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ومن نحا نحوهم، وسار سبيلهم. ولا يصدنهم عن ذلك بعض من يوحي إليهم من الموسوسين
_________
(1) الأعراف الآية (27).
(2) الصحيحة (6/ 613 - 615/ 2760).
(3) أحمد (5/ 232) وصحح إسناده الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم 1315).
(4) ص الآية (27).(10/384)
بأن هذه الشركيات إنما هي قربات وتوسلات، فإن شأنهم في ذلك شأن من أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يستحلون بعض المحرمات بقوله: «يسمونها بغير اسمها» (1) ...
هذه نصيحة أوجهها إلى من يهمه أمر آخرته من إخواننا المسلمين المضللين، قبل أن يأتي يوم يحق فيه قول رب العالمين في بعض عباده الأبعدين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} (2).اهـ (3)
- وقال رحمه الله: واعلم أن من أذناب هؤلاء الضلال في القول بانتهاء عذاب الكفار الطائفة القاديانية، بل هم قد زادوا في ذلك على إخوانهم الضلال، فذهبوا إلى أن مصير الكفار إلى الجنة، نص على ذلك ابن دجالهم الأكبر محمود بشير بن غلام أحمد في كتاب 'الدعوة الأحمدية'. فمن شاء التأكد من ذلك فليراجعها فإني لم أطلها الآن. (4)
- وقال رحمه الله: طائفة القاديانية اليوم الذين أنكروا بطريق التأويل كثيرا من الحقائق الشرعية المجمع عليها بين الأمة، كقولهم ببقاء النبوة بعد النبي
_________
(1) أخرجه: أحمد (5/ 342) وأبو داود (4/ 91/3688) وابن ماجه (2/ 1333/4020) وابن حبان (15/ 160 - 161/ 6758) عن معاوية بن صالح قال: حدثني حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم، فتذاكرنا الطلاء، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها». وعلقه البخاري في صحيحه (10/ 63/5590) دون ذكر محل الشاهد، وبوب عليه: (ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه). وللحديث شواهد كثيرة عن جمع من الصحابة: عن عائشة وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وغيرهم. وقد صحح بعضها الشيخ الألباني (انظر الصحيحة 90و91و414).
(2) الفرقان الآية (23).
(3) الصحيحة (3/ 301 - 302/ 1315).
(4) الضعيفة (2/ 73/607).(10/385)
- صلى الله عليه وسلم - متأسين في ذلك بنبيهم ميرزا غلام أحمد، ومن قبله ابن عربي في 'الفتوحات المكية'، وتأولوا قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) بأن المعنى زينة النبيين وليس آخرهم! وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نبي بعدي» (2) بقولهم: أي معي! وأنكروا وجود الجن مع تردد ذكرهم في القرآن الكريم، فضلا عن السنة وتنوع صفاتهم فيهما، وزعموا أنهم طائفة من البشر! إلى غير ذلك من ضلالاتهم، وكلها من بركات التأويل الذي أخذ به الخلف في آية الاستواء وغيرها من آيات الصفات. (3)
- وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على الحديث الموضوع في توسل آدم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (4): هذا وإن من الآثار السيئة التي تركتها هذه الأحاديث الضعيفة في التوسل، أنها صرفت كثيرا من الأمة عن التوسل المشروع إلى التوسل المبتدع، ذلك لأن العلماء متفقون -فيما أعلم- على استحباب التوسل إلى
_________
(1) الأحزاب الآية (40).
(2) أحمد (1/ 182 - 183) والبخاري (8/ 141/4416) ومسلم (4/ 1870/2404) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(3) مختصر العلو (ص.32).
(4) أخرجه الحاكم (2/ 615) وعنه البيهقي في الدلائل (5/ 488 - 489) والطبراني في الأوسط (7/ 259/6498) وفي الصغير (2/ 355/971) كلهم من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب مرفوعا. قال الحاكم: "صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وتعقبه الذهبي بقوله: بل هو موضوع، وعبد الرحمن واه". وقال البيهقي: "تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف". قال الهيثمي في المجمع (8/ 253): "وفيه من لم أعرفهم". وقال ابن تيمية في القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة من مجموع الفتاوى (1/ 254 - 255): "ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتابه 'المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم' عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه". انظر الضعيفة للشيخ الألباني (25).(10/386)
الله تعالى باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته تعالى، وعلى توسل المتوسل إليه تعالى بعمل صالح قدمه إليه عز وجل.
ومهما قيل في التوسل المبتدع، فإنه لا يخرج عن كونه أمرا مختلفا فيه، فلو أن الناس أنصفوا لانصرفوا عنه، احتياطا، وعملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (1) إلى العمل بما أشرنا إليه من التوسل المشروع، ولكنهم -مع الأسف- أعرضوا عن هذا، وتمسكوا بالتوسل المختلف فيه كأنه من الأمور اللازمة التي لا بد منها، ولازموها ملازمتهم للفرائض، فإنك لا تكاد تسمع شيخا أو عالما يدعو بدعاء يوم الجمعة وغيره إلا ضمنه التوسل المبتدع، وعلى العكس من ذلك، فإنك لا تكاد تسمع أحدهم يتوسل بالتوسل المستحب، كأن يقول مثلا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي، يا قيوم، إني أسألك ... مع أن فيه الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه (2).
فهل سمعت أيها القارئ الكريم أحدا يتوسل بهذا أو بغيره مما في معناه؟
_________
(1) أحمد (1/ 200) والترمذي (4/ 576 - 577/ 2518) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 732/5727) وابن حبان (2/ 498/722 الإحسان) والحاكم (2/ 13) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه أحمد (3/ 158و245) وأبو داود (2/ 167 - 168/ 1495) والترمذي (5/ 514/3544) والنسائي (3/ 59 - 60/ 1299) وابن ماجة (2/ 1268/3858) من حديث أنس. وصححه ابن حبان (3/ 175/893) والحاكم (1/ 503 - 504) ووافقه الذهبي.(10/387)
أما أنا فأقول آسفا: إنني لم أسمع ذلك، وأظن أن جوابك سيكون كذلك، فما السبب في هذا؟ ذلك هو من آثار انتشار الأحاديث الضعيفة بين الناس، وجهلهم بالسنة الصحيحة، فعليكم بها أيها المسلمون علما وعملا، تهتدوا وتعزوا.
وبعد طبع ما تقدم اطلعت على رسالة في جواز التوسل المبتدع لأحد مشايخ الشمال المتهورين، متخمة بالتناقض الدال على الجهل البالغ، وبالضلال والأباطيل والتأويلات الباطلة والافتراء على العلماء، بل الإجماع. مثل تجويز الاستغاثة بالموتى، والنذر لهم، وزعمه أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان، وغير ذلك مما لا يقول به عالم مسلم. (1)
- وقال رحمه الله تعقيبا على حديث: «توسلوا بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم» (2): لا أصل له. وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في 'القاعدة الجليلة'. ومما لا شك فيه أن جاهه - صلى الله عليه وسلم - ومقامه عند الله عظيم، فقد وصف الله تعالى موسى بقوله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} (3)، ومن المعلوم أن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من موسى، فهو بلا شك أوجه منه عند ربه سبحانه وتعالى، ولكن هذا شيء، والتوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - شيء آخر، فلا يليق الخلط بينهما كما يفعل بعضهم، إذ إن التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - يقصد به من يفعله أنه
_________
(1) الضعيفة (1/ 94 - 95/ 25).
(2) ذكره شيخ الإسلام في القاعدة الجليلة (ص.129) وقال: "هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث".
(3) الأحزاب الآية (69).(10/388)
أرجى لقبول دعائه، وهذا أمر لا يمكن معرفته بالعقل، إذ إنه من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل في إدراكها، فلا بد فيه من النقل الصحيح الذي تقوم به الحجة، وهذا مما لا سبيل إليه البتة، فإن الأحاديث الواردة في التوسل به - صلى الله عليه وسلم - تنقسم إلى قسمين: صحيح، وضعيف.
أما الصحيح: فلا دليل فيه البتة على المدعى، مثل توسلهم به - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء (1)، وتوسل الأعمى به - صلى الله عليه وسلم - (2)، فإنه توسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، لا بجاهه ولا بذاته - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن، كان بالتالي التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته غير ممكن، وغير جائز.
ومما يدلك على هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لما استسقوا في زمن عمر، توسلوا بعمه - صلى الله عليه وسلم - العباس، ولم يتوسلوا به - صلى الله عليه وسلم -، وما ذلك إلا لأنهم يعلمون معنى التوسل المشروع، وهو ما ذكرناه من التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك توسلوا بعده - صلى الله عليه وسلم - بدعاء عمه، لأنه ممكن ومشروع، وكذلك لم ينقل أن أحدا من العميان توسل بدعاء ذلك الأعمى، ذلك لأن السر ليس في قول
_________
(1) أحمد (3/ 271) والبخاري (2/ 636 - 637/ 1013) ومسلم (2/ 612 - 613/ 897) وأبو داود (1/ 693 - 694/ 1174) والنسائي (3/ 177 - 178/ 1514) من حديث أنس.
(2) أحمد (4/ 138) والترمذي (5/ 531/3578) وابن ماجه (1/ 441/1385) والنسائي في الكبرى (6/ 169/10495) عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: «إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت» فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في». وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي جعفر وهو الخطمي". وصححه الحاكم (1/ 313) وقال: "على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.(10/389)
الأعمى: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ... "، وإنما السر الأكبر في دعائه - صلى الله عليه وسلم - له كما يقتضيه وعده - صلى الله عليه وسلم - إياه بالدعاء له، ويشعر به قوله في دعائه: "اللهم فشفعه في"، أي: اقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم -، أي: دعاءه في. "وشفعني فيه"، أي: اقبل شفاعتي. أي: دعائي في قبول دعائه - صلى الله عليه وسلم - في.
فموضوع الحديث كله يدور حول الدعاء، كما يتضح للقارئ الكريم بهذا الشرح الموجز، فلا علاقة للحديث بالتوسل المبتدع، ولهذا أنكره الإمام أبو حنيفة، فقال: "أكره أن يسأل الله إلا بالله"، كما في 'الدر المختار'، وغيره من كتب الحنفية.
وأما قول الكوثري في 'مقالاته' (ص.381): "وتوسل الإمام الشافعي بأبي حنيفة مذكور في أوائل تاريخ الخطيب بسند صحيح".
فمن مبالغاته، بل مغالطاته، فإنه يشير بذلك إلى ما أخرجه الخطيب (1/ 123) من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: "إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم -يعني زائرا- فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى".
فهذه رواية ضعيفة، بل باطلة، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، ويحتمل أن يكون هو "عمرو -بفتح العين- ابن إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي"، وقد ترجمه الخطيب (12/ 226)، وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجا سنة (341)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فهو مجهول الحال،(10/390)
ويبعد أن يكون هو هذا، إذ إن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة (247) على أكثر الأقوال، فبين وفاتيهما نحو مائة سنة، فيبعد أن يكون قد أدركه.
وعلى كل حال، فهي رواية ضعيفة لا يقوم على صحتها دليل، وقد ذكر شيخ الإسلام في 'اقتضاء الصراط المستقيم' معنى هذه الرواية، ثم أثبت بطلانها، فقال (ص.165): هذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل، فالشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده؟ ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد، وطبقتهم، لم يكونوا يتحرون الدعاء، لا عند أبي حنيفة، ولا غيره، ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين، خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف".
وأما القسم الثاني من أحاديث التوسل، فهي أحاديث ضعيفة، تدل بظاهرها على التوسل المبتدع، فيحسن بهذه المناسبة التحذير منها، والتنبيه عليها. (1)
_________
(1) الضعيفة (1/ 76 - 79/ 22).(10/391)
- وقال رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «استغاثوا بآدم» (1)، أي: طلبوا منه عليه السلام أن يدعو لهم، ويشفع لهم عند الله تبارك وتعالى. والأحاديث بهذا المعنى كثيرة معروفة في الصحيحين وغيرهما.
وليس فيه جواز الاستغاثة بالأموات، كما يتوهم كثير من المبتدعة الأموات. بل هو من باب الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه، كما في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (2) الآية.
ومن الواضح البين أنه لا يجوز -مثلا- أن يقول الحي القادر للمقيد العاجز: أعني. فالميت الذي يستغاث به من دونه تعالى أعجز منه، فمن خالف، فهو إما أحمق مهبول، أو مشرك مخذول، لأنه يعتقد في ميته أنه سميع بصير، وعلى كل شيء قدير، وهنا تكمن الخطورة، لأنه الشرك الأكبر، وهو الذي يخشاه أهل التوحيد على هؤلاء المستغيثين بالأموات من دون الله تبارك وتعالى، وهو القائل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ
_________
(1) البخاري (3/ 431/1474 - 1475) ومسلم (2/ 720/1040 (104)) مختصرا بدون لفظ: « .. استغاثوا بآدم ... » من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم». وقال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن. فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -». وزاد عبد الله: حدثني الليث حدثني ابن أبي جعفر «فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب. فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم».
(2) القصص الآية (15).(10/392)
لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (1)، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} (2).اهـ (3)
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله عقب إيراده أحاديث سبب نزول قول الله تعالى: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} (4): واعلم أن الشيعة يزعمون -خلافا للأحاديث المتقدمة- أن الآية المذكورة نزلت يوم غدير (خم) في علي رضي الله عنه، ويذكرون في ذلك روايات عديدة مراسيل ومعاضيل أكثرها، ومنها عن أبي سعيد الخدري، ولا يصح عنه كما حققته في 'الضعيفة (4922) '، والروايات الأخرى أشار إليها عبد الحسين الشيعي في 'مراجعاته (ص.38) ' دون أي تحقيق في أسانيدها كما هي عادته في كل أحاديث كتابه، لأن غايته حشد
_________
(1) الأعراف الآيتان (194و195).
(2) فاطر الآيتان (13و14).
(3) الصحيحة (5/ 191/2460).
(4) المائدة الآية (67).(10/393)
كل ما يشهد لمذهبه، سواء صح أم لم يصح على قاعدتهم: "الغاية تبرر الوسيلة"، فكن منه ومن رواياته على حذر، وليس هذا فقط، بل هو يدلس على القراء -إن لم أقل يكذب عليهم- فإنه قال في المكان المشار إليه في تخريج [حديث] أبي سعيد هذا المنكر، بل الباطل: "أخرجه غير واحد من أصحاب السنن، كالإمام الواحدي ... ".
ووجه كذبه أن المبتدئين في هذا العلم يعلمون أن الواحدي ليس من أصحاب السنن الأربعة، وإنما هو مفسر، يروي بأسانيده ما صح وما لم يصح، وحديث أبي سعيد هذا مما لم يصح، فقد أخرجه من طريق فيه متروك شديد الضعف؛ كما هو مبين في المكان المشار إليه من 'الضعيفة'.
وهذه من عادة الشيعة قديما وحديثا؛ أنهم يستحلون الكذب على أهل السنة، عملا في كتبهم وخطبهم، بعد أن صرحوا باستحلالهم للتقية، كما صرح بذلك الخميني في كتابه 'كشف الأسرار (ص.147 - 148) '، وليس يخفى على أحد أن التقية أخت الكذب، ولذلك قال أعرف الناس بهم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية: "الشيعة أكذب الطوائف".
وأنا شخصيا قد لمست كذبهم لمس اليد في بعض مؤلفيهم، وبخاصة عبد الحسين هذا، والشاهد بين يديك، فإنه فوق كذبته المذكورة، أوهم القراء أن الحديث عند أهل السنة من المسلمات بسكوته عن علته، وادعائه كثرة طرقه، فقد كان أصرح منه في الكذب الخميني؛ فإنه صرح في الكتاب المذكور (ص.149) أن آية العصمة نزلت يوم غديرخم بشأن إمامة علي بن أبي طالب(10/394)
باعتراف أهل السنة واتفاق الشيعة، كذا قال عامله الله بما يستحق. (1)
- وقال رحمه الله تحت حديث: «إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» (2): واعلم أيها القارئ الكريم أن من المعروف أن الحديث مما يحتج به الشيعة، يلهجون بذلك كثيرا، حتى يتوهم بعض أهل السنة أنهم مصيبون في ذلك، وهم جميعا واهمون في ذلك، وبيانه من وجهين:
الأول: أن المراد من الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عترتي» أكثر مما يريده الشيعة، ولا يرده أهل السنة، بل هم مستمسكون به، ألا وهو أن العترة فيه هم أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء موضحا في بعض طرقه، كحديث الترجمة «وعترتي أهل بيتي» وأهل بيته في الأصل هم نساؤه - صلى الله عليه وسلم -، وفيهن الصديقة عائشة رضي الله عنهن جميعا، كما هو صريح قوله تعالى في الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (3) بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
_________
(1) الصحيحة (5/ 645 - 646).
(2) الترمذي (5/ 621/3786) والطبراني (3/ 63/2680) عن جابر بن عبد الله. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه".
(3) الأحزاب الآية (33).(10/395)
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} (1)، وتخصيص الشيعة أهل البيت في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه - صلى الله عليه وسلم - من تحريفهم لآيات الله تعالى انتصارا لأهوائهم، كما هو مشروح في موضعه، وحديث الكساء وما في معناه غاية ما فيه توسيع دلالة الآية، ودخول علي وأهله فيها كما بينه الحافظ ابن كثير وغيره، وكذلك حديث العترة قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المقصود أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى الشامل لزوجاته وعلي وأهله.
ولذلك قال التوربشتي كما في المرقاة (5/ 600): "عترة الرجل أهل بيته ورهطه الأدنون، ولاستعمالهم العترة على أنحاء كثيرة، بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أهل بيتي» ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه".
والوجه الآخر: أن المقصود من أهل البيت إنما هم العلماء الصالحون منهم، والمتسمكون بالكتاب والسنة. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: "العترة هم أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - الذين هم على دينه وعلى التمسك بأمره" وذكر نحوه الشيخ علي القاري في الموضع المشار إليه آنفا. ثم استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذكر ما أفاده بقوله: "إن أهل البيت غالبا يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم المطلعون على سيرته، الواقفون على طريقته العارفون بحكمه وحكمته، وبهذا يصلح أن يكون
_________
(1) الأحزاب الآيات (32 - 34).(10/396)
مقابلا لكتاب الله سبحانه، كما قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (1) قلت: ومثله قوله تعالى في خطاب أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في آية التطهير المتقدمة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} فتبين أن المراد بأهل البيت المتمسكون منهم بسنته - صلى الله عليه وسلم - فتكون هي المقصودة بالذات في الحديث. (2)
- وقال رحمه الله: ثم إن روح التشيع واضح من الحديث (3)، فإن من الثابت عند أهل السنة أن فضل الخلفاء الأربعة على ترتيبهم المعروف، فأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وهذا التفضيل، ثابت عن علي نفسه، بل وفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يعدلون بأبي بكر أحدا كما في البخاري وغيره، فكيف يمكن أن يقول: "وعلي سيد العرب"، فلا شك أن هذا من وضع الشيعة. ونحن نشم رائحة التشيع من هذا الغماري وإخوته من كتاباتهم، حتى إن أحدهم ألف رسالة خاصة في توثيق الحارث الأعور الشيعي، والله المستعان. (4)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: وأما قول العامة وكثير من الخاصة: الله موجود في كل مكان، أو في كل الوجود، ويعنون بذاته، فهو ضلال بل هو مأخوذ من القول بوحدة الوجود، الذي يقول به غلاة الصوفية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق
_________
(1) الجمعة الآية (2).
(2) الصحيحة (4/ 359 - 360).
(3) أي حديث «أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب».
(4) بداية السول (ص.28).(10/397)
ويقول كبيرهم: كل ما تراه بعينك فهو الله! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. (1)
- وقال رحمه الله تعقيبا على ما أثر عن عمر رضي الله عنه من قوله يا سارية الجبل: "ومما لا شك فيه، أن النداء المذكور إنما كان إلهاما من الله تعالى لعمر، وليس ذلك بغريب عنه، فإنه "محدث" كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، ولكن ليس فيه أن عمر كشف له حال الجيش، وأنه رآهم رأي العين، فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء، وعلى إمكان اطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل، كيف لا وذلك من صفات رب العالمين، المنفرد بعلم الغيب والاطلاع على ما في الصدور. وليت شعري كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله عز وجل يقول في كتابه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (3).
فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل من رسل الله حتى يصح أن يقال إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم، سبحانك هذا بهتان عظيم. (4)
- وقال رحمه الله: إذا عرفت ما سبق بيانه أن حب الله لا ينال إلا باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - فاحرص إذا على اتباع سنته كل الحرص، وأنفق في سبيل ذلك كل جهاد ونفس، ولا تغتر بما عليه بعض الضالين المغرورين، من المتصوفة واللاهين، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، ونشيدا ونغما، يزعمون
_________
(1) الصحيحة (3/ 38/1046).
(2) تقدم تخريجه قريبا.
(3) الجن الآيتان (26و27).
(4) الصحيحة (3/ 102/1110).(10/398)
أنهم بذلك يرضون محمدا - صلى الله عليه وسلم -، بما يسمونه بالأناشيد الدينية، ويكثرون منها في أذكارهم واجتماعاتهم التي يعقدونها في بعض الأعياد البدعية، كعيد المولد ونحوه، فإنهم -والله- لفي ضلال مبين، وعن الحق متنكبين، كيف لا وهم قد خلطوا الدين الحق باللهو الباطل، وقلدوا المغنين الماجنين، في موازينهم وأنغامهم الموسيقية، ويلتزمون في كل ذلك طرائقهم المميتة للقلوب، الصادة عن ذكر الله وتلاوة القرآن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (1)
لا سيما وأنهم قد يضيفون إلى ذلك بعض الآلات الموسيقية، أو التصفيق بالأكف لتتم المشابهة بين الفريقين، ولذلك تذيعها بعض الإذاعات الأجنبية، فضلا عن الإذاعات العربية، إرضاء للناس باسم الذكر أو الأناشيد الدينية ومن المؤسف أن بعض الإذاعات الإسلامية بدأت تحذو حذوها. والله المستعان.
وقد بلغني أن بعض محطات الرائي (التلفزيون) عرضت شيئا من هذا على أنه الإسلام الذي يدعو إليه من سمتهم بالمسلمين الحنفاء.
وإن نسيت فلن أنسى أنني حضرت قديما في مركز لبعض الجماعات
_________
(1) البخاري (13/ 612/7527) من طريق أبي عاصم عن ابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال الدارقطني في الإلزامات والتتبع (ص127 - 128): "وهذا يقال إن أبا عاصم وهم فيه. والصواب ما رواه الزهري ومحمد بن إبراهيم ويحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو وغيرهم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به». وقول أبي عاصم وهم وقد رواه عقيل ويونس وعمرو بن الحارث وعمرو بن دينار وعمرو بن عطية وإسحاق بن راشد ومعمر وغيرهم عن الزهري بخلاف ما رواه أبو عاصم عن ابن جريج. وقال أبو بكر النيسابوري: قول أبي عاصم فيه: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، وهم من أبي عاصم لكثرة من رواه عنه هكذا". وتابعه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (1/ 395) على توهيم رواية أبي عاصم النبيل. والحديث أخرجه: أحمد (1/ 175) وأبو داود (2/ 155 - 156/ 1469) والحاكم (1/ 569) وصححه، ووافقه الذهبي .. وابن حبان (1/ 326 - 327/ 120 الإحسان) عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن أبي نهيك عن سعد بن أبي وقاص.(10/399)
الإسلامية، وإذا بي أفاجأ بسماع صوت تلحين للأذان بآلة موسيقية فسألت عن الخبر؟ فقيل: هؤلاء بعض الشباب المسلم من بعض البلاد العربية نزلوا ضيوفا على الجماعة، وأحدهم يسمعهم الأذان ملحنا تلحينا موسيقيا، وهذا مما نسمعه اليوم من بعض الإذاعات الإسلامية كثيرا وما أحسن ما قاله ابن القيم رحمه الله بهذه المناسبة في 'إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان' (1):
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت: يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحت هوة ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار في النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا (2)
- وقال رحمه الله تحت حديث: «حسبي من سؤالي علمه بحالي»: لا أصل له. أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع، وقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيرا لضعفه، فقال: "روي عن كعب الأحبار أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ... لما رموا به في المنجنيق إلى النار استقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال جبريل: فسل ربك. فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي".
_________
(1) (1/ 226).
(2) بداية السول في تفضيل الرسول (ص.9 - 11).(10/400)
وقد أخذ هذا المعنى بعض من صنف في الحكمة على طريقة الصوفية، فقال: "سؤالك منه -يعني الله تعالى- اتهام له".
وهذه ضلالة كبرى فهل كان الأنبياء صلوات الله عليهم متهمين لربهم حين سألوه مختلف الأسئلة؟ فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا} (1) إلى آخر الآيات، وكلها أدعية، وأدعية الأنبياء في الكتاب والسنة لا تكاد تحصى، والقائل المشار إليه قد غفل عن كون الدعاء الذي هو تضرع والتجاء إلى الله تعالى عبادة عظيمة، بغض النظر عن ماهية الحاجة المسؤولة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة». ثم تلا قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} (2). (3) اهـ (4)
- وقال رحمه الله تحت حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
_________
(1) إبراهيم الآيتان (37و38).
(2) غافر الآية (60).
(3) أحمد (4/ 267) وأبو داود (2/ 161/1479) والترمذي (5/ 194 - 195/ 2969) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (6/ 450/11464) وابن ماجه (2/ 1258/3828) وابن حبان (3/ 172/890) والحاكم (1/ 490 - 491) وصححه، ووافقه الذهبي. عن النعمان بن بشير.
(4) الضعيفة (1/ 74 - 75/ 21).(10/401)
اهتديتم» (1): وأما قول الشعراني في الميزان (1/ 28): "وهذا الحديث، وإن كان فيه مقال عند المحدثين، فهو صحيح عند أهل الكشف"، فباطل وهراء لا يلتفت إليه، ذلك لأن تصحيح الأحاديث من طريق الكشف بدعة صوفية مقيتة، والاعتماد عليها يؤدي إلى تصحيح أحاديث باطلة لا أصل لها، كهذا الحديث، لأن الكشف أحسن أحواله -إن صح- أن يكون كالرأي، وهو يخطىء ويصيب، وهذا إن لم يداخله الهوى، نسأل الله السلامة منه، ومن كل ما لا يرضيه. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله في معرض كلامه على حديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (3): فائدة: قوله في هذا الحديث: "في": هو بمعنى "على" كما في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} (4)، فالحديث من الأدلة الكثيرة على أن الله تعالى فوق المخلوقات كلها، وفي ذلك ألف الحافظ الذهبي كتابه 'العلو للعلي العظيم'، وقد انتهيت من اختصاره قريبا، ووضعت له مقدمة ضافية، وخرجت أحاديثه وآثاره، ونزهته من الأخبار الواهية. وقد يسر الله طبعه،
_________
(1) ابن عبد البر في الجامع (2/ 925) وابن حزم في الإحكام (6/ 82) عن جابر مرفوعا. قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة". وقال ابن حزم: "هذه رواية ساقطة". وانظر الضعيفة للشيخ الألباني رحمه الله (58).
(2) الضعيفة (1/ 144 - 145/ 58).
(3) أحمد (2/ 160) وأبو داود (5/ 231/4941) والترمذي (4/ 285/1924) وقال: "حسن صحيح". والحاكم (4/ 159) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) الأنعام الآية (11).(10/402)
والحمد لله. (1)
- وقال رحمه الله: وهذا إنما يجري على قاعدة الخلف وعلماء الكلام في تأويل أحاديث الصفات، خلافا لطريقة السلف رضي الله عنهم، كما خالفوهم في تأويل أحاديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا بأن المعنى نزول رحمته. وهذا كله مخالف لما كان عليه السلف من تفسير النصوص على ظاهرها دون تأويل أو تشبيه كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2)، فنزوله نزول حقيقي يليق بجلاله لا يشبه نزول المخلوقين، وكذلك دنوه عز وجل دنو حقيقي يليق بعظمته، وخاص بعباده المتقربين إليه بطاعته، ووقوفهم بعرفة تلبية لدعوته عز وجل. فهذا هو مذهب السلف في النزول والدنو، فكن على علم بذلك حتى لا تنحرف مع المنحرفين عن مذهبهم. وتجد تفصيل هذا الإجمال وتحقيق القول فيه في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وبخاصة منها مجموعة الفتاوى. فراجع مثلا (ج5/ 464 - 478). وقد أورد الحديث على الصواب فيها (ص.373)، واستدل به على نزوله تعالى بذاته عشية عرفة، وبحديث جابر المشار إليه آنفا. (3)
- وقال رحمه الله: العجب غير الضحك، فهما صفتان لله عز وجل عند أهل السنة خلافا للأشاعرة، فإنهم لا يعتقدونهما، بل يتأولونهما بمعنى الرضا. (4)
_________
(1) الصحيحة (2/ 596/925).
(2) الشورى الآية (11).
(3) الصحيحة (6/ 108/2551).
(4) الصحيحة (6/ 738/2810) بتصرف.(10/403)
- وقال رحمه الله تعليقا على حديث ضحك الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة (1): واعلم أن هذا الحديث -كغيره من أحاديث الصفات- يجب إمراره على ظاهره دون تعطيل، أو تشبيه، كما هو مذهب السلف، وليس مذهبهم التفويض كما يزعم الكوثري وأمثاله من المعطلة، كما شرحه ابن تيمية في رسالته 'التدمرية' وغيرها، والتفويض بزعمهم إمرار النصوص بدون فهم مع الإيمان بألفاظها، ولازم ذلك نسبة الجهل إلى السلف بأعز شيء لديهم وأقدسه عندهم وهو أسماء الله وصفاته.
ومن عرف هذا علم خطورة ما ينسبونه إليهم. والله المستعان. وراجع لهذا مقدمتي لكتابي 'مختصر العلو للذهبي'، يسر الله طبعه، ثم طبع والحمد لله. (2)
- وقال رحمه الله تعليقا على حديث البطاقة (3): وفي الحديث دليل على أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان، وأن الأعمال وإن كانت أعراضا فإنها توزن، والله على كل شيء قدير، وذلك من عقائد أهل السنة، والأحاديث في ذلك متضافرة إن لم تكن متواترة. (4)
- وقال رحمه الله: الميزان يوم القيامة حق ثابت وله كفتان، وهو من عقائد أهل السنة، خلافا للمعتزلة وأتباعهم في العصر الحاضر ممن لا يعتقد ما
_________
(1) تقدم تخريجه من حديث جابر. انظر مواقف الحسين البغوي الإمام المفسر سنة (516هـ).
(2) الصحيحة (2/ 385/756).
(3) أحمد (2/ 213) والترمذي (5/ 25/2639) وقال: "حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1437/4300) والحاكم (1/ 6) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(4) الصحيحة (1/ 263/135).(10/404)
ثبت من العقائد في الأحاديث الصحيحة، بزعم أنها أخبار آحاد لا تفيد اليقين، وقد بينت بطلان هذا الزعم في كتابي 'مع الأستاذ الطنطاوي' يسر الله إتمامه. (1)
- قال رحمه الله تحت حديث: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها» (2): من فوائد الحديث: إثبات عذاب القبر، والأحاديث في ذلك متواترة، فلا مجال للشك فيه بزعم أنها آحاد، ولو سلمنا أنها آحاد، فيجب الأخذ بها، لأن القرآن يشهد لها، قال تعالى: {وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} (3).
ولو سلمنا أنه لا يوجد في القرآن ما يشهد لها، فهي وحدها كافية لإثبات هذه العقيدة، والزعم بأن العقيدة لا تثبت بما صح من أحاديث الآحاد زعم باطل دخيل في الإسلام، لم يقل به أحد من الأئمة الأعلام -كالأربعة وغيرهم-، بل هو مما جاء به بعض علماء الكلام بدون برهان من الله ولا سلطان، وقد كتبنا فصلا خاصا في هذا الموضوع الخطير في كتاب لنا، أرجو أن أوفق لتبييضه ونشره على الناس (4).اهـ (5)
_________
(1) الصحيحة (1/ 260/134).
(2) أحمد (5/ 190) مختصرا ومسلم (4/ 2199 - 2200/ 2867) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(3) غافر الآيتان (45و46).
(4) وقد يسر الله طبعه ونشره. تحت عنوان: 'الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام'.
(5) الصحيحة (1/ 295 - 296/ 159).(10/405)
- وقال رحمه الله: لقد وضح من كلام الجويني رحمه الله تعالى السبب الذي حمل الخلف -إلا من شاء الله- على مخالفة السلف في تفسير آية (الاستواء)، وهو أنهم فهموا منه -خطأ كما قلنا- استواء لا يليق إلا بالمخلوق، وهذا تشبيه، فنفوه بتأويلهم إياه بالاستيلاء.
ومن الغريب حقا أن الذي فروا منه بالتأويل، قد وقعوا به فيما هو أشر منه بكثير، ويمكن حصر ذلك بالأمور الآتية:
الأول: التعطيل، وهو إنكار صفة علو الله على خلقه علوا حقيقيا يليق به تعالى. وهو بين في كلام الإمام الجويني.
الثاني: نسبة الشريك لله في خلقه يضاده في أمره، فإن الاستيلاء لغة لا يكون إلا بعد المغالبة كما ستراه في ترجمة الإمام اللغوي ابن الأعرابي، فقد جاء فيها: أن رجلا قال أمامه مفسرا الاستواء معناه: استولى. فقال له الإمام: "اسكت، العرب لا تقول للرجل: استولى على الشيء، حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: استولى. والله تعالى لا مضاد له". وسنده عنه صحيح ... واحتج به العلامة نفطويه النحوي في "الرد على الجهمية" ...
فنسأل المتأولة: من هو المضاد لله تعالى حتى تمكن الله تعالى من التغلب عليه والاستيلاء على ملكه منه؟
وهذا إلزام لا مخلص لهم منه إلا برفضهم لتأويلهم، ورجوعهم إلى تفسير السلف، ولما تنبه لهذا بعض متكلميهم جاء بباقعة أخرى، وذلك أنه تأول "الاستيلاء" الذي هو عندهم المراد من "الاستواء" بأنه استيلاء مجرد عن معنى المغالبة.(10/406)
قلت: وهذا مع كونه مخالفا للغة كما سبق عن ابن الأعرابي، فإن أحسن ما يمكن أن يقال فيه: إنه تأويل للتأويل، وليت شعري ما الذي دخل بهم إلى هذه المآزق، أليس كان الأولى بهم أن يقولوا: استعلى استعلاء مجردا عن المشابهة. هذا لو كان الاستعلاء لغة يستلزم المشابهة، فكيف وهي غير لازمة؟ لأن الاستواء في القرآن فضلا عن اللغة قد جاء منسوبا إلى الله تعالى، كما في آيات الاستواء على العرش. وقد مضى بعضها كما جاء منسوبا إلى غيره سبحانه كما قال في سفينة نوح: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (1) وفي النبات: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (2)، فاستواء السفينة غير استواء النبات. وكذلك استواء الإنسان على ظهر الدابة، واستواء الطير على رأس الإنسان واستواؤه على السطح، فكل هذا استواء، ولكن استواء كل شيء بحسبه، تشترك في اللفظ، وتختلف في الحقيقة، فاستواء الله تعالى هو استواء واستعلاء يليق به تعالى ليس كمثله شيء.
وأما الاستيلاء فلم يأت إطلاقه على الله تعالى مطلقا إلا على ألسنة المتكلمين، فتأمل ما صنع الكلام بأهله، لقد زين لهم أن يصفوا الله بشيء هو من طبيعة المخلوق واختصاصه، ولم يرضوا أن يصفوه بالاستعلاء الذي لا يماثله شيء وقد قال به السلف، فلا عجب بعد ذلك أن اجتمعوا على ذم الكلام وأهله. (3)
_________
(1) هود الآية (44).
(2) الفتح الآية (29).
(3) مختصر العلو للعلي الغفار (30 - 31).(10/407)
موقفه من الخوارج:
قال رحمه الله تعليقا على حديث أبي موسى الأشعري: «أبشروا وبشروا الناس، من قال لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة» (1): هذا وقد اختلفوا في تأويل حديث الباب وما في معناه من تحريم النار على من قال لا إله إلا الله، على أقوال كثيرة، ذكر بعضها المنذري في الترغيب (2/ 238)، وترى سائرها في الفتح. والذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر، وبه تجتمع الأدلة، ولا تتعارض، أن تحمل على أحوال ثلاثة:
الأولى: من قام بلوازم الشهادتين من التزام الفرائض والابتعاد عن الحرمات، فالحديث حينئذ على ظاهره، فهو يدخل الجنة وتحرم عليه النار مطلقا.
الثانية: أن يموت عليها، وقد قام بالأركان الخمسة، ولكنه ربما تهاون ببعض الواجبات، وارتكب بعض المحرمات، فهذا ممن يدخل في مشيئة الله ويغفر له كما في الحديث الآتي بعد هذا وغيره من الأحاديث المكفرات المعروفة.
الثالثة: كالذي قبله، ولكنه لم يقم بحقها، ولم تحجزه عن محارم الله كما في حديث أبي ذر المتفق عليه: «وإن زنى وإن سرق ... » (2) الحديث، ثم
_________
(1) أحمد (4/ 402) والطبراني في الكبير كما في المجمع (1/ 16). قال الهيثمي: "رجاله ثقات". وصححه الألباني على شرط مسلم (الصحيحة 712). وللحديث شواهد منها حديث زيد بن خالد الجهني مرفوعا عند النسائي في الكبرى (6/ 273/10949). قال الشيخ الألباني: "وسنده حسن في الشواهد". (انظر الصحيحة 712).
(2) أحمد (5/ 166) والبخاري (11/ 317 - 318/ 6444) ومسلم (1/ 94/94) والترمذي (5/ 27/2644) والنسائي في الكبرى (6/ 275/10958 - 10962).(10/408)
هو إلى ذلك لم يعمل من الأعمال ما يستحق به مغفرة الله، فهذا إنما تحرم عليه النار التي وجبت على الكفار، فهو وإن دخلها فلا يخلد معهم فيها، بل يخرج منها بالشفاعة أو غيرها ثم يدخل الجنة ولابد، وهذا صريح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه» (1). وهو حديث صحيح. (2)
- وقال رحمه الله: إذا علمت أن الآيات الثلاث: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (3) نزلت في اليهود وقولهم في حكمه - صلى الله عليه وسلم -: إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (4)، إذا عرفت هذا، فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك، وإخراجهم من الملة، إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل
_________
(1) البزار (1/ 10/3 الكشف) والطبراني في الأوسط (4/ 287/3510)، (7/ 204/6392) وفي الصغير (1/ 158/385) من طرق عن أبي هريرة. قال الهيثمي (1/ 17): "رجاله رجال الصحيح"، وانظر تفصيل الكلام عليه في الصحيحة (1932).
(2) الصحيحة (3/ 299 - 300/ 1314).
(3) المائدة الآيات (44 - 47).
(4) المائدة الآية (41).(10/409)
الله، لا يجوز ذلك، لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار، فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم: " ... وإن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه"، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلا، وسر هذا أن الكفر قسمان: اعتقادي وعملي. فالاعتقادي مقره القلب. والعملي محله الجوارح. فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به، فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبدا. وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفر عملي فقط، وليس كفرا اعتقاديا، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وعلى هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها:
1 - «اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت» (1). رواه مسلم.
2 - «الجدال في القرآن كفر» (2).
3 - «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (3). رواه مسلم.
_________
(1) أحمد (2/ 496) ومسلم (1/ 82/67) عن أبي هريرة.
(2) أحمد (2/ 258) وأبو داود (5/ 9/4603) والحاكم (2/ 223) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وابن حبان (4/ 324 - 325/ 1464) من حديث أبي هريرة.
(3) أحمد (1/ 385) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 138/4121) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود.(10/410)
4 - «كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق» (1).
5 - «التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر» (2).
6 - «لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض» (3). متفق عليه.
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها. فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي، فكفره كفر عملي، أي إنه يعمل عمل الكفار، إلا أن يستحلها، ولا يرى كونها معصية فهو حينئذ كافر حلال الدم، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضا. والحكم بغير ما أنزل الله يخرج عن هذه القاعدة أبدا، وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية: "كفر دون كفر"، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 215) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث أخرجه بلفظ: «كفر بامرئ ادعاء نسب لا يعرفه، أو جحده وإن دق». وابن ماجه (2/ 216/2744) والطبراني في الأوسط (8/ 446/7915) وفي الصغير (2/ 377/1045) قال البوصيري في الزوائد: "هذا الحديث في بعض النسخ دون بعض". ولم يذكره المزي في الأطراف. وإسناده صحيح. وأظنه من زيادات ابن القطان.
(2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (4/ 278 و375) والبزار: البحر الزخار (8/ 226/3282) والبيهقي في الشعب (4/ 102/4419) و (6/ 516 - 517/ 9119) والخرائطي في فضيلة الشكر (ص.70 - 71) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 43 - 44/ 15) و (1/ 239/377) وابن أبي الدنيا في الشكر (ص25) من طرق عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما. وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 217 - 218) وقال: "رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني ورجالهم ثقات". وقال المنذري (صحيح الترغيب 976): "رواه عبد الله بن أحمد في زوائده بإسناد لا بأس به". وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (667) وكذا في صحيح الترغيب.
تنبيه: وقع هذا الحديث في المسند من رواية الإمام أحمد (4/ 278) في موضعين (4/ 375) في موضع واحد وهو خطأ، انظر أطراف المسند المعتلي (5/ 413/7457) وإتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة (13/ 526 - 527/ 17093).
(3) أحمد (1/ 230) والبخاري (8/ 133 - 134/ 4403) ومسلم (1/ 82/66) وأبو داود (5/ 63/4686) والنسائي (7/ 143/4136) وابن ماجه (2/ 1300/3943) عن ابن عمر رضي الله عنهما.(10/411)
رضي الله عنه، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم، ولا بد من ذكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضل اليوم في هذه المسألة الخطيرة، ونحا نحو الخوارج الذين يكفرون المسلمين بارتكابهم المعاصي، وإن كانوا يصلون ويصومون.
1 - روى ابن جرير الطبري (10/ 355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (1) قال: هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
2 - وفي رواية عنه في هذه الآية: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، كفر دون كفر.
أخرجه الحاكم (2/ 313)، وقال: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط الشيخين. فإن إسناده كذلك.
ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في 'تفسيره (6/ 163) ' عن الحاكم أنه قال: "صحيح على شرط الشيخين"، فالظاهر أن في نسخة 'المستدرك' المطبوعة سقطا، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار.
3 - وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. أخرجه ابن جرير (12063).
قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد في الشواهد.
_________
(1) المائدة الآية (44).(10/412)
4 - ثم روى (12047 - 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. وإسناده صحيح.
5 - ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية)، قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم، وروى عنه جمع.
6 - وروى (12025و12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفر من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (1) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (2) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (3) أحق هو؟ قال: نعم. قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون وإليه يدعون -[يعني الأمراء]- فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم أصابوا ذنبا. فقالوا: لا والله، ولكنك تفرق. قال: أنتم
_________
(1) المائدة الآية (44).
(2) المائدة الآية (45).
(3) المائدة الآية (47).(10/413)
أولى بهذا مني، لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك. أو نحوا من هذا، وإسناده صحيح.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10/ 346 - 357) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (10/ 358): "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا؟
قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم -على سبيل ما تركوه- كافرون. وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي".
وجملة القول، أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله، فمن شاركهم في الجحد، فهو كافر كفرا اعتقاديا، ومن لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم، فهو بذلك مجرم آثم، ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه. وقد شرح هذا وزاده بيانا الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام في 'كتاب الإيمان' (باب الخروج(10/414)
من الإيمان بالمعاصي) (ص.84 - 97 بتحقيقي)، فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.
وبعد كتابة ما سبق، رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في 'مجموع الفتاوى (3/ 268) ': "أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله".
ثم ذكر (7/ 254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال: "كفر لا ينقل عن الإيمان، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه".
وقال (7/ 312): "وإذا كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر، ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (1)، قالوا: كفرا لا ينقل عن الملة. وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة. (2)
- وقال تعليقا على قول أبي جعفر الطحاوي: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله): قلت: يعني استحلالا قلبيا اعتقاديا، وإلا فكل مذنب مستحل لذنبه عمليا أي مرتكب له، ولذلك فلا بد من التفريق بين المستحل اعتقادا، فهو كافر إجماعا، وبين المستحل عملا لا اعتقادا، فهو
_________
(1) المائدة الآية (44).
(2) الصحيحة (6/ 111 - 116/ 2552).(10/415)
مذنب يستحق العذاب اللائق به إلا أن يغفر الله له، ثم ينجيه إيمانه خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يحكمون عليه بالخلود في النار، وإن اختلفوا في تسميته كافرا أو منافقا، وقد نبتت نابتة جديدة اتبعوا هؤلاء في تكفيرهم جماهير المسلمين رؤوسا ومرؤوسين، اجتمعت بطوائف منهم في سوريا ومكة وغيرها، ولهم شبهات كشبهات الخوارج مثل النصوص التي فيها من فعل كذا فقد كفر، وقد ساق الشارح رحمه الله تعالى طائفة منها هنا، ونقل عن أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص -أن الذنب أي ذنب كان- هو كفر عملي لا اعتقادي، وأن الكفر عندهم على مراتب: كفر دون كفر، كالإيمان عندهم، ثم ضرب على ذلك مثالا هاما طالما غفلت عن فهمه النابتة المشار إليها، فقال رحمه الله تعالى (ص.363): "وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا: إما مجازيا وإما كفرا أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله-: فهذا كفر أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا مجازيا، أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطيء له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور. (1)
_________
(1) العقيدة الطحاوية شرح وتعليق (40 - 41).(10/416)
- وقال رحمه الله: فإن مسألة التكفير عموما -لا للحكام فقط، بل وللمحكومين أيضا- فتنة عظيمة قديمة، تبنتها فرقة من الفرق الإسلامية القديمة، وهي المعروفة بـ "الخوارج".
ومع الأسف الشديد فإن (البعض) -من الدعاة أو المتحمسين- قد يقع في الخروج عن الكتاب والسنة ولكن: باسم الكتاب والسنة، والسبب في هذا يعود إلى أمرين اثنين:
أحدهما: هو ضحالة العلم.
والأمر الآخر: -وهو مهم جدا- أنهم لم يتفقهوا بالقواعد الشرعية، والتي هي أساس الدعوة الإسلامية الصحيحة التي تعد كل من خرج عنها داخلا في تلك الفرق المنحرفة عن الجماعة؛ التي أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث، بل والتي ذكرها ربنا عز وجل، وبين أن من خرج عنها يكون قد شاق الله ورسوله، وذلك في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}. (1)
- وقال: ومن هؤلاء المنحرفين: الخوارج؛ قدماء ومحدثين؛ فإن أصل فتنة التكفير في هذا الزمان -بل منذ أزمان- هو آية يدندنون دائما حولها؛ ألا وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
_________
(1) التحذير من فتنة التكفير (51 - 53).(10/417)
الْكَافِرُونَ (44)} (1)؛ فيأخذونها من غير فهوم عميقة، ويوردونها بلا معرفة دقيقة.
ونحن نعلم أن هذه الآية الكريمة قد تكررت، وجاءت خاتمتها بألفاظ ثلاثة، هي: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}؛ فمن تمام جهل الذين يحتجون من هذه الآية باللفظ الأول منها فقط - {فأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} - أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص الشرعية -قرآنا أم سنة- التي جاء فيها ذكر لفظة (الكفر)؛ فأخذوها -بغير نظر- على أنها تعني الخروج من الدين وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع في الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام.
بينما لفظة (الكفر) في لغة الكتاب والسنة لا تعني -دائما- هذا الذي يدندنون حوله، ويسلطون هذا الفهم الخاطئ المغلوط عليه.
فشأن لفظة: {الكافرون} -من حيث إنها لا تدل على معنى واحد- هو ذاته شأن اللفظين الآخرين: {الظالمون} و {الفاسقون}؛ فكما أن من وصف بأنه ظالم أو فاسق لا يلزم بالضرورة ارتداده عن دينه، فكذلك من وصف بأنه كافر، سواء بسواء.
وهذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي تدل عليه اللغة، ثم الشرع
_________
(1) المائدة الآية (44).(10/418)
الذي جاء بلغة العرب -لغة القرآن الكريم-.
فمن أجل ذلك كان الواجب على كل من يتصدى لإصدار الأحكام على المسلمين -سواء أكانوا حكاما أم محكومين- أن يكون على علم واسع بالكتاب والسنة، وعلى ضوء منهج السلف الصالح.
والكتاب والسنة لا يمكن فهمهما -وكذلك ما تفرق عنهما- إلا بطريق معرفة اللغة العربية وآدابها معرفة خاصة دقيقة.
فإن كان لدى طالب العلم نقص في معرفة اللغة العربية: فإن مما يساعده في استدراك ذلك النقص الرجوع إلى فهم من قبله من الأئمة والعلماء، وبخاصة أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية.
[كفر دون كفر:]
ولنرجع إلى آية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}؛ فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة؟ أو أنه غير ذلك؟
فأقول: لابد من الدقة في فهم هذه الآية؛ فإنها قد تعني الكفر العملي؛ وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام. ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي أجمع المسلمون جميعا -إلا من كان من الفرق الضالة- على أنه إمام فريد في التفسير.
فكأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما من أن هناك أناسا(10/419)
يفهمون هذه الآية فهما سطحيا، من غير تفصيل، فقال رضي الله عنه: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه"، و"إنه ليس كفرا ينقل عن الملة"، و"هو كفر دون كفر" (1)، ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال: ليس الأمر كما قالوا، أو كما طنوا، إنما هو كفر دون كفر.
فهذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الحكم الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي أشرت إليها قبل.
ثم إن كلمة الكفر ذكرت في كثير من النصوص القرآنية والحديثية، ولا يمكن أن تحمل -فيها جميعا- على أنها تساوي الخروج من الملة، من ذلك -مثلا- الحديث المعروف في 'الصحيحين' (2) عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»؛ فالكفر هنا هو المعصية، التي هي الخروج عن الطاعة، ولكن الرسول عليه الصلاة والصلاة -وهو أفصح الناس بيانا- بالغ في الزجر قائلا: « ... وقتاله كفر».
ومن ناحية أخرى؛ هل يمكن لنا أن نحمل الفقرة الأولى من هذا الحديث - «سباب المسلم فسوق» - على معنى الفسق المذكور في اللفظ
_________
(1) وهي مخرجة جميعا في السلسلة الصحيحة تحت حديث (2552).
(2) أحمد (1/ 439) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/116 - 117) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 137 - 138/ 4116 - 4124) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود رضي الله عنه.(10/420)
الثالث ضمن الآية السابقة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؟.
والجواب: أن هذا قد يكون فسقا مرادفا للكفر الذي هو بمعنى الخروج عن الملة، وقد يكون الفسق مرادفا للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة، وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن: إنه كفر دون كفر.
وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى؛ وذلك لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) إذ قد ذكر ربنا عز وجل هنا الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة المحقة المؤمنة، ومع ذلك فلم يحكم على الباغية بالكفر، مع أن الحديث يقول: « ... وقتاله كفر» (2).
إذا؛ فقتاله كفر دون كفر؛ كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة تماما.
فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء، وفسق وكفر، ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرا عمليا، وقد يكون كفرا اعتقاديا.
ومن هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام -بحق- شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله، وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن قيم الجوزية، إذ لهما الفضل في التنبيه والدندنة على تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم
_________
(1) الحجرات الآية (9).
(2) تقدم تخريجه.(10/421)
الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة؛ فابن تيمية -يرحمه الله- وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية: يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج على جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديما، وبعض أذنابهم حديثا.
وخلاصة القول: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: « ... وقتاله كفر» لا يعني -مطلقا- الخروج عن الملة، والأحاديث في هذا كثيرة جدا؛ فهي -جميعا- حجة دامغة على أولئك الذي يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقة، ويلتزمون تفسيرها بالكفر الاعتقادي.
فحسبنا الآن هذا الحديث؛ لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي، وليس هو الكفر الاعتقادي.
فإذا عدنا إلى (جماعة التكفير) -أو من تفرع عنهم- وإطلاقهم على الحكام -وعلى من يعيشون تحت رايتهم، وينتظمون تحت إمرتهم وتوظيفهم- الكفر والردة، فإن ذلك منهم مبني على وجهة نظرهم الفاسدة؛ القائمة على أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فكفروا بذلك. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله تعقيبا على حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... » (2): والحقيقة أن الحديث وإن كان مؤولا، فهو حجة على الحنفية
_________
(1) التحذير من فتنة التكفير (ص58 - 67).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).(10/422)
الذين لا يزالون مصرين على مخالفة السلف في قولهم بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فالإيمان عندهم مرتبة واحدة، فهم لا يتصورون إيمانا ناقصا، ولذلك يحاول الكوثري رد هذا الحديث، لأنه بعد تأويله على الوجه الصحيح يصير حجة عليهم، فإن معناه: "وهو مؤمن إيمانا كاملا". قال ابن بطال: "وحمل أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي".
ذكره الحافظ (1). ومثله ما نقله (2) عن الإمام النووي قال: "والصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، هذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، والمراد نفي كماله، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا ما نيل، ولا عيش إلا عيش الآخرة".
ثم أيده الحافظ في بحث طويل ممتع، فراجعه.
ومن الغرائب أن الشيخ القارئ -مع كونه حنفيا متعصبا- فسر الحديث بمثل ما تقدم عن ابن بطال والنووي، فقال في 'المرقاة' (1/ 105): "وأصحابنا تأولوه بأن المراد المؤمن الكامل ... "، ثم قال: "على أن الإيمان هو التصديق، والأعمال خارجة عنه"!.
فهذا يناقض ذاك التأويل. فتأمل. (3)
- وقال رحمه الله تعقيبا على الحديث الموضوع: «إنما حر جهنم على
_________
(1) (10/ 28).
(2) (12/ 49).
(3) الصحيحة (6/ 1276 - 1277).(10/423)
أمتي كحر الحمام» (1): وحري بمثل هذا الحديث الباطل أن لا يرويه إلا مثل هذين الكذابين، فإنه حديث خطير يقضي على باب كبير من أبواب التربية والإصلاح في الشرع، ألا وهو باب الوعيد وما فيه من الآيات والأحاديث في إيعاد العصاة من هذه الأمة بالنار الموقدة {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)}، والأحاديث الصحيحة في بيان هذا كثيرة جدا، أذكر بعض ما يحضرني الآن منها على سبيل المثال:
1 - «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». رواه مسلم عن أبي ذر، وهو مخرج في 'إرواء الغليل' (892) و'تخريج الحلال' (170). (2)
2 - «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر». رواه مسلم عن أبي هريرة (3).
3 - قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: «حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا
_________
(1) موضوع، رواه الطبراني في الأوسط (7/ 314 - 315/ 6599) وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 360) وقال: "فيه محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف جدا"، بل رماه غير واحد بالوضع. قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الضعيفة (2/ 145): "سند هالك وفيه آفات وعلل .. ".
(2) أحمد (4/ 148) ومسلم (1/ 102/106) وأبو داود (4/ 346 - 347/ 4087) والترمذي (3/ 516/1211) وقال: "حسن صحيح". والنسائي (8/ 208/5348) وابن ماجه (2/ 744 - 745/ 2208) بنحوه.
(3) مسلم (1/ 102 - 103/ 107) وأحمد (2/ 433) والنسائي (5/ 86/2574) بلفظ: «والعامل المزهو».(10/424)
الله، أمر الله الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود. وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا». رواه الشيخان عن أبي هريرة (1).
وفي حديث أبي سعيد: «فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه و ... » رواه مسلم (2).
فهذه الأحاديث وغيرها صريحة في بطلان هذا الحديث، إذ كيف يكون العذاب أليما وهو كحر الحمام؟ بل كيف يكون كذلك وقد أحرقتهم النار، وأكلت لحمهم، حتى ظهر عظمهم؟ وبالجملة فأثر هذا الحديث سيء جدا لا يخفى على المتأمل، فإنه يشجع الناس على استباحة المحرمات، بعلة أن ليس هناك عقاب إلا كحر الحمام. (3)
- وقال رحمه الله تعالى ردا على أبي غدة: المسألة الخامسة: يقول الإمام -يعني ابن أبي العز- تبعا للأئمة مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة: "إن الإيمان هو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وقالوا: يزيد وينقص".
وشيخك تعصبا لأبي حنيفة يخالفهم مع صراحة الأدلة التي تؤيدهم من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم، بل ويغمز منهم جميعا مشيرا إليهم بقوله في 'التأنيب' (ص.44 - 45) إلى "أناس صالحون" يشير أنهم
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 293 - 294) والبخاري (13/ 516 - 517/ 7437) ومسلم (1/ 163 - 167/ 182).
(2) أحمد (3/ 94) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183) والنسائي (8/ 486 - 487/ 5025) وابن ماجه (1/ 23/60).
(3) الضعيفة (2/ 147 - 148/ 709).(10/425)
لا علم عندهم فيما ذهبوا إليه ولا فقه، وإنما الفقه عند أبي حنيفة دونهم، ثم يقول: إنه الإيمان والكلمة، وإنه الحق الصراح. وعليه فالسلف وأولئك الأئمة الصالحون هم عنده على الباطل في قولهم: بأن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد وينقص.؟ وقد نقل أبو غدة كلام شيخه الذي نقلنا موضوع الشاهد منه، نقله بحرفه، في التعليق على 'الرفع والتكميل' (ص.67 - 69)، ثم أشار إليه في مكان آخر منه ممجدا به ومكبرا له بقوله (ص.218): "وانظر لزاما ما سبق نقله تعليقا، فإنك لا تظفر بمثله في كتاب "ثم أعاد الإشارة إليه (ص.223) مع بالغ إعجابه به. وظني به أنه يجهل -أن هذا التعريف للإيمان الذي زعم شيخه أنه الحق الصراح- مع ما فيه من المخالفة لما عليه السلف كما عرفت، مخالف لما عليه المحققون من علماء الحنفية أنفسهم الذين ذهبوا إلى: إن الإيمان هو التصديق فقط ليس معه الإقرار، كما في 'البحر الرائق' لابن نجيم الحنفي (5/ 129)، والكوثري في كلمته المشار إليها يحاول فيها أن يصور للقارئ أن الخلاف بين السلف والحنفية في الإيمان لفظي، يشير بذلك إلى أن الأعمال ليست ركنا أصليا، ثم يتناسى أنهم يقولون: بأنه يزيد وينقص، وهذا ما لا يقول به الحنفية إطلاقا، بل إنهم قالوا في صدد بيان الألفاظ المكفرة عندهم: "وبقوله: الإيمان يزيد وينقص" كما في 'البحر الرائق' (باب أحكام المرتدين) فالسلف على هذا كفار عندهم مرتدون. راجع شرح الطحاوية (ص.338 - 360)، و'التنكيل' (2/ 362 - 373) الذي كشف عن مراوغة الكوثري في هذه المسألة.
وليعلم القارئ الكريم أن أقل ما يقال في الخلاف المذكور في المسألة: أن الحنفية يتجاهلون أن قول أحدهم -ولو كان فاسقا فاجرا-: أنا مؤمن(10/426)
حقا، ينافي مهما تكلفوا في التأويل - التأدب مع القرآن ولو من الناحية اللفظية على الأقل، الذي يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1).
فليتأمل المؤمن الذي عافاه الله تعالى مما ابتلى به هؤلاء المتعصبة، من هو المؤمن حقا عند الله تعالى، ومن هو المؤمن حقا عند هؤلاء؟. (2)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله في معرض كلامه على أحاديث القبضتين: إن كثيرا من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث -ونحوها أحاديث كثيرة- تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية، ما دام أنه حكم عليه منذ القديم وقبل أن يخلق: بالجنة والنار.
وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ، فمن وقع في القبضة اليمنى، كان من أهل السعادة، ومن كان من القبضة الأخرى، كان من أهل الشقاوة.
فيجب أن يعلم هؤلاء جميعا أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3)، لا في
_________
(1) الأنفال الآيات (2 - 4).
(2) شرح العقيدة الطحاوية (57 - 58).
(3) الشورى الآية (11).(10/427)
ذاته، ولا في صفاته، فإذا قبض قبضة، فهي بعلمه وعدله وحكمته، فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته، وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته، ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى، والعكس بالعكس، كيف والله عز وجل يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (1)؟!
ثم إن كلا من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم، من إيمان يستلزم الجنة، أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها، وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان، لا يكره الله تبارك وتعالى أحدا من خلقه على واحد منهما، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (2)، وهذا مشاهد معلوم بالضرورة، ولولا ذلك، لكان الثواب والعقاب عبثا، والله منزه عن ذلك.
ومن المؤسف حقا أن نسمع من كثير من الناس -حتى من بعض المشايخ- التصريح بأن الإنسان مجبور لا إرادة له! وبذلك يلزمون أنفسهم القول بأن الله يجوز له أن يظلم الناس! مع تصريحه تعالى بأنه لا يظلمهم مثقال ذرة، وإعلانه بأنه قادر على الظلم، ولكنه نزه نفسه عنه، كما في
_________
(1) القلم الآيتان (35و36).
(2) الكهف الآية (29).(10/428)
الحديث القدسي المشهور: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي ... » (1).
وإذا جوبهوا بهذه الحقيقة، بادروا إلى الاحتجاج بقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (2)، مصرين بذلك على أن الله تعالى قد يظلم، ولكنه لا يسأل عن ذلك! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا!
وفاتهم أن الآية حجة عليهم، لأن المراد بها -كما حققه العلامة ابن القيم في 'شفاء العليل' وغيره- أن الله تعالى لحكمته وعدله في حكمه ليس لأحد أن يسأله عما يفعل، لأن كل أحكامه تعالى عدل واضح، فلا داعي للسؤال.
وللشيخ يوسف الدجوي رسالة مفيدة في تفسير هذه الآية، لعله أخذ مادتها من كتاب ابن القيم المشار إليه آنفا، فليراجع.
هذه كلمة سريعة حول الأحاديث المتقدمة، حاولنا فيها إزالة شبهة بعض الناس حولها، فإن وفقت لذلك، فبها ونعمت، وإلا فإني أحيل القارئ إلى المطولات في هذا البحث الخطير، مثل كتاب ابن القيم السابق، وكتب شيخه ابن تيمية الشاملة لمواضيع هامة هذا أحدها. (3)
- وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على حديث: «لن يدخل أحدا منكم
_________
(1) أحمد (5/ 160) ومسلم (4/ 1994 - 1995/ 2577) والترمذي (4/ 566 - 567/ 2495) وقال: "حديث حسن". وابن ماجه (2/ 1422/4257) عن أبي ذر.
(2) الأنبياء الآية (23).
(3) الصحيحة (1/ 115 - 117/ 46 - 50).(10/429)
عمله الجنة» (1): واعلم أن هذا الحديث قد يشكل على بعض الناس، ويتوهم أنه مخالف لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (2) ونحوها من الآيات والأحاديث الدالة على أن دخول الجنة بالعمل، وقد أجيب بأجوبة، أقربها إلى الصواب: أن الباء في قوله في الحديث: "بعمله" هي باء الثمنية، والباء في الآية باء السببية، أي أن العمل الصالح سبب لا بد منه لدخول الجنة، ولكنه ليس ثمنا لدخول الجنة، وما فيها من النعيم المقيم والدرجات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض فتاويه: "ولهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون سببا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية بإذن الله، ولا بد من صرف الانتفاء عنه، فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره. وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم ممن أنزل ولم يولد له، بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع.
وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هي
_________
(1) أحمد (2/ 264) والبخاري (11/ 355/6463) ومسلم (4/ 2170/2816 (75)) وابن ماجه (2/ 1405/4201) عن أبي هريرة. وفي الباب عن عائشة وجابر وأبي سعيد وغيرهم.
(2) الزخرف الآية (72).(10/430)
سبب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فذكر الحديث)، وقد قال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} (1). فهذه باء السبب، أي بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - باء المقابلة، كما يقال: اشتريت هذا بهذا. أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة، بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف الدرجات.
وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس:
فريق آمنوا بالقدر وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة. وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه.
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلبه الأجير من المستأجر، متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال: فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. وهو سبحانه كما قال: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» (2). فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم، وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن
_________
(1) النحل الآية (32).
(2) هذا جزء من حديث أبي ذر، وقد تقدم قريبا.(10/431)
العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤا فلها. لهم ما كسبوا، وعليهم ما اكتسبوا، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (1).
انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله منقولا من 'مجموعة الفتاوى' (2)، ومثله في 'مفتاح دار السعادة' (3) لتلميذه المحقق العلامة ابن قيم الجوزية، و'تجريد التوحيد المفيد' (4) للمقريزي. (5)
- وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على الحديث القدسي: «قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم ... » الحديث (6): قوله: (قد أردت منك) أي: أحببت منك.
والإرادة في الشرع تطلق ويراد بها ما يعم الخير والشر والهدى والضلال، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (7)، وهذه الإرادة لا تتخلف.
_________
(1) فصلت الآية (46).
(2) (8/ 70 - 71).
(3) (ص.9 - 10).
(4) (ص.36 - 43)
(5) الصحيحة (6/ 198 - 200/ 2602).
(6) أحمد (3/ 127) والبخاري (11/ 507 - 508/ 6557) ومسلم (4/ 2160 - 2161/ 2805) عن أنس.
(7) الأنعام الآية (125).(10/432)
وتطلق أحيانا ويراد بها ما يرادف الحب والرضى، كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1). وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في هذا الحديث: "أردت منك"، أي: أحببت. والإرادة بهذا المعنى قد تتخلف، لأن الله تبارك وتعالى لا يجبر أحدا على طاعته، وإن كان خلقهم من أجلها، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (2)، وعليه، فقد يريد الله تبارك وتعالى من عبده ما لا يحبه منه، ويحب منه ما لا يريده. وهذه الإرادة يسميها ابن القيم رحمه الله تعالى بالإرادة الكونية، أخذا من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} (3)، ويسمي الإرادة الأخرى المرادفة للرضى بالإرادة الشرعية.
وهذا التقسيم، مَن فَهمه، انحلت له كثير من مشكلات مسألة القضاء والقدر، ونجا من فتنة القول بالجبر أو الاعتزال، وتفصيل ذلك في الكتاب الجليل 'شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل' لابن القيم رحمه الله تعالى.
قوله: «وأنت في صلب آدم»، قال القاضي عياض: "يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (4)، فهذا
_________
(1) البقرة الآية (185).
(2) الكهف الآية (29).
(3) يس الآية (82).
(4) الأعراف الآية (172).(10/433)
الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا، فهو مؤمن، ومن لم يوف به، فهو كافر، فمراد الحديث: أردت منك حين أخذت الميثاق، فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك. ذكره في 'الفتح'. (1)
ابن عثيمين (2) (1421 هـ)
الشيخ الفاضل، الإمام الفقيه أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي. ولد الشيخ في مدينة عنيزة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف في أسرة يعرف عنها الدين والاستقامة.
واستفاد في طلبه للعلم من عدة مشايخ بعضهم في عنيزة وبعضهم في الرياض منهم: الشيخ عبد الرحمن السعدي، أخذ عنه ولازمه قرابة إحدى عشرة سنة، ويعتبر الشيخ من أبرز طلابه، والشيخ عبد العزيز بن باز، قرأ عليه من صحيح البخاري وبعض كتب الفقه، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب التفسير المشهور، درس عليه الشيخ في المعهد العلمي في الرياض، والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، قرأ عليه مختصر العقيدة الواسطية ومنهاج السالكين كلاهما للشيخ عبد الرحمن السعدي والآجرومية والألفية في النحو والصرف، والشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان، قرأ عليه بعض كتب الفقه ودرس عليه الفرائض. لم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض، حيث فتحت المعاهد العلمية فالتحق بها، وبعد وفاة شيخه عبد الرحمن السعدي
_________
(1) الصحيحة (1/ 333 - 334/ 172).
(2) 'ابن عثيمين الإمام الزاهد' للدكتور ناصر الزهراني.(10/434)
رشح لإمامة الجامع الكبير والتدريس فيه والإفتاء، وقد عرض عليه تولي القضاء بالمحكمة الشرعية بالأحساء، لكن طلب الإعفاء منه. أما مؤلفاته فكثيرة جدا منها فتح رب البرية بتلخيص الحموية، وشرح الواسطية لابن تيمية، والشرح الممتع على زاد المستقنع، ولمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى والقول المفيد شرح كتاب التوحيد وغيرها. للشيخ من الأولاد الذكور: عبد الله وعبد الرحمن وإبراهيم وعبد العزيز وعبد الرحيم وله من الإخوة: الدكتور عبد الله رئيس قسم التاريخ في جامعة الملك سعود وعبد الرحمن.
كان رحمه الله زاهدا ورعا متواضعا، مشهودا له بمواقف الخير والجهاد في سبيل الله والدعوة إليه.
قال عنه سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ: والشيخ محمد لا تخفى على الجميع مكانته وآثاره العلمية من خلال التأليف والفتاوى والمحاضرات والدروس والمقالات ومن خلال الأشرطة التي تحمل في طياتها كل خير، ومن حيث اعتداله وبعده عن الإفراط والتفريط وكونه في أموره على طريق مستقيم، ولكم ربى من طلاب وكم شرح من كتاب واستفاد منه المستفيدون، فنسأل الله أن يجازيه عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
وقال عنه الشيخ صالح بن حميد: لقد كان رحمه الله لسان صدق صادعا بالحق ملتزما به، مقيما عليه، مع رعاية الحكمة، في حديثه ألفة، وفي ابتسامته مودة وفي كلامه بيان.
توفي رحمه الله بجدة يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة(10/435)
إحدى وعشرين وأربعمائة وألف، وصلي عليه في الحرم المكي بعد صلاة العصر من يوم الخميس، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة وأجزل مثوبته ورفع في العليين درجته وعوض المسلمين عنه خيرا.
قلت: لقد كان لي لقاءات متعددة بالشيخ رحمه الله، وآخر لقاء كان بيني وبينه في بيت الشيخ سليمان الراجحي مع زمرة من العلماء والمشايخ، وفي هذه الأثناء كان مريضا ورغم مرضه فقد ألقى كلمة فسر فيها آية من القرآن، وأبدى فيها من الاستنباط والخير ما جعل الحاضرين يدعون له. وكان الشيخ رحمه الله يمتاز بخفة الروح وحب الخير لعموم المسلمين، أما حرصه على العلم والطلبة فأمر ظاهر، وكانت مجالسه رحمه الله لا تخلو من فوائد ومناقشات، فرحمة الله عليه رحمة واسعة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في رسالته 'الابداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع': المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقا للشريعة في أمور ستة:
الأول: السبب، فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيا فهي بدعة مردودة على صاحبها. مثال ذلك: أن بعض الناس يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالتهجد عبادة، ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعا. وهذا الوصف -موافقة العبادة للشريعة في السبب- أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يظن أنه من السنة وليس من السنة.(10/436)
الثاني: الجنس، فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة. مثال ذلك: أن يضحي رجل بفرس، فلا يصح أضحية لأنه خالف الشريعة في الجنس، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام، الإبل، البقر، الغنم.
الثالث: القدر، فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول: هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالفة للشرع في القدر ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلا خمسا فإن صلاته لا تصح بالاتفاق.
الرابع: الكيفية فلو أن رجلا توضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه ثم غسل يديه، ثم وجهه فنقول: وضوؤه باطل لأنه مخالف للشرع في الكيفية.
الخامس: الزمان فلو أن رجلا ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان.
وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقربا لله تعالى بالذبح، وهذا العمل بدعة على هذا الوجه، لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية، والهدي والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة. وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز.
السادس: المكان، فلو أن رجلا اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح، وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، ولو قالت امرأة أريد أن أعتكف في مصلى البيت. فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان.(10/437)
ومن الأمثلة لو أن رجلا أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق ووجد ما حوله قد ضاق فصار يطوف من وراء المسجد فلا يصح طوافه لأن مكان الطواف البيت قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ للطائفين} (1).
فالعبادة لا تكون عملا صالحا إلا إذا تحقق فيها شرطان:
الأول: الإخلاص.
الثاني: المتابعة، والمتابعة لا تتحقق إلا بالأمور الستة الآنفة الذكر.
وإنني أقول لهؤلاء الذين ابتلوا بالبدع -الذين قد تكون مقاصدهم حسنة ويريدون الخير- إذا أردتم الخير فلا -والله- نعلم طريقا خيرا من طريق السلف رضي الله عنهم.
أيها الإخوة عضوا على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنواجذ واسلكوا طريق السلف الصالح وكونوا على ما كانوا عليه وانظروا هل يضيركم ذلك شيئا؟.
وإني أقول -وأعوذ بالله أن أقول ما ليس لي به علم- أقول إنك لتجد الكثير من هؤلاء الحريصين على البدع يكون فاترا في تنفيذ أمور ثبتت شرعيتها وثبتت سنيتها، فإذا فرغوا من هذه البدع قابلوا السنن الثابتة بالفتور، وهذا كله من نتيجة أضرار البدع على القلوب فالبدع أضرارها على القلوب عظيمة، وأخطارها على الدين جسيمة، فما ابتدع قوم في دين الله بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها أو أشد، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من السلف.
_________
(1) الحج الآية (26).(10/438)
لكن الإنسان إذا شعر أنه تابع لا مشرع حصل له بذلك كمال الخشية والخضوع، والذل، والعبادة لرب العالمين، وكمال الاتباع لإمام المتقين وسيد المرسلين ورسول رب العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- وقال في شرحه على العقيدة الواسطية: ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (2)، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضا هو مقتضى حكمة الله عزوجل، لأن الله تعالى جعل محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، والرسالة لا بد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لابد أن تبقى في الأرض، لزم أن يقيض الله عزوجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل. (3)
- وقال في رسالته منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل: إذا لو أن أحدا من أهل البدع ابتدع طريقة عقيدة (أي تعود للعقيدة) أو عملية (تعود إلى العمل) من قول أو فعل، ثم قال إن هذه حسنة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (4). قلنا له بكل بساطة هذا الحسن الذي ادعيت أنه ثابت في هذه
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل (5/ 253 - 255).
(2) الحجر الآية (9).
(3) مجموع فتاوى ورسائل (8/ 25).
(4) تقدم تخريجه في مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ).(10/439)
البدعة هل كان خافيا لدى الرسول عليه الصلاة والسلام أو كان معلوما عنده لكنه كتمه ولم يطلع عليه أحد من سلف الأمة حتى ادخر لك علمه؟
والجواب: إن قال بالأول فشر، وإن قال بالثاني فأطم وأشر.
فإن قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم حسن هذه البدعة ولذلك لم يشرعها.
قلنا: رمينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر عظيم حيث جهلته في دين الله وشريعته.
وإن قال إنه يعلم ولكن كتمه عن الخلق.
قلنا له: وهذه أدهى وأمر لأنك وصفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو الأمين الكريم، وصفته بالخيانة وعدم الجود بعلمه، وهذا أشر من وصفه بعدم الجود بماله، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أجود الناس، وهنا شر قد يكون احتمالا ثالثا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمها وبلغها ولكن لم تصل إلينا، فنقول له وحينئذ طعنت في كلام الله عزوجل لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (1) وإذا ضاعت شريعة من شريعة الذكر فمعنى ذلك أن الله لم يقم بحفظه بل نقص من حفظه إياه بقدر ما فات من هذه الشريعة التي نزل من أجلها هذا الذكر.
وعلى كل حال فإن كل إنسان يبتدع ما يتقرب به إلى ربه من عقيدة أو عمل قولي أو فعلي فإنه ضال لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» (2)
_________
(1) الحجر الآية (9).
(2) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).(10/440)
وهذه كلية عامة لا يستثنى منها شيء إطلاقا فكل بدعة في دين الله فإنها ضلالة وليس فيها من الحق شيء فإن الله تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} (1).اهـ (2)
- وقال: وإن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة عيد المولد النبوي، يجتمعون في الليلة الثانية عشر منه في المساجد أو البيوت فيصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلوات مبتدعة ويقرؤون مدائح للنبي - صلى الله عليه وسلم - تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما صنعوا مع ذلك طعاما يسهرون عليه فأضاعوا المال والزمان وأتعبوا الأبدان فيما لم يشرعه الله ولا رسوله ولا عمله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة ولا التابعون بإحسان. ولو كان خيرا لسبقونا إليه، ولو كان خيرا ما حرمه الله تعالى سلف هذه الأمة، وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة وما كان الله تعالى ليحرم سلف هذه الأمة ذلك الخير لو كان خيرا ثم يأتي أناس من القرن الرابع الهجري فيحدثون تلك البدعة. (3)
موقفه من المشركين:
قال رحمه الله في تقريب التدمرية: القرامطة، والباطنية، والفلاسفة لا يؤمنون بما أخبر الله به عن نفسه، ولا عن اليوم الآخر بل ينكرون حقائق هذا وهذا. فمذهبهم فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر أنه تخييل لا
_________
(1) يونس الآية (32).
(2) مجموع فتاوى ورسائل (5/ 192 - 193).
(3) مجموع فتاوى ورسائل (6/ 198 - 199).(10/441)
حقيقة له. وأما في الأمر والنهي فكثير منهم يجعلون للمأمورات والمنهيات تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، فيقولون: المراد بالصلوات معرفة أسرارهم، وبالصيام كتمان أسرارهم، وبالحج السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام أنه كذب وافتراء وكفر وإلحاد.
وقد يقولون إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا وصل الرجل إلى درجة العارفين والمحققين عندهم ارتفعت عنه التكاليف فسقطت عنه الواجبات وحلت له المحظورات.
وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب.
وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى لعظم إلحادهم ومخالفتهم لجميع الشرائع الإلهية. (1)
له كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد أفاد فيه وأجاد.
وكذلك شرح كشف الشبهات وشرح الأصول الثلاثة وغيرها.
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله في شرحه على الواسطية: فالرافضة هم الذين يسمَّون اليوم: شيعة، وسموا رافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ رفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما!
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل (4/ 142 - 143).(10/442)
ولكنه رضي الله عنه قال لهم: نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه، وتركوه! فسموا رافضة.
هؤلاء الروافض -والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبدا، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء: كن فيكون!!
وهم يقولون: إن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت، ونفرا قليلا ممن قالوا: إنهم أولياء آل البيت.
وقد قال صاحب كتاب 'الفصل': إن غلاتهم كفروا علي بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليّا أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم؛ صار ظالما كافراً. (1)
- وقال فيه أيضاً: الروافض: طائفة غلاة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرهاً للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال؛ فليقرأ في كتبهم وفي كتب من رد عليهم.
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 447).(10/443)
وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما وقال: هما وزيرا جدي.
أما النواصب؛ فهم الذي ينصبون العداء لآل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم؛ فهم على النقيض من الروافض.
فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن.
ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم؛ إلا من جعلهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت.
وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون: إنهم ظلمة! ويقولون: إنهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً، إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم.
وفي الحقيقة إن سب الصحابة رضي الله عنهم ليس جرحاً في الصحابة رضي الله عنهم فقط، بل هو قدح في الصحابة وفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل:
أما كونه قدح في الصحابة؛ فواضح.
وأما كونه قدحا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فحيث كان أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.
وأما كونه قدحاً في شريعة الله؛ فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم؛ لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.(10/444)
وأما كونه قدحاً في الله سبحانه؛ فحيث بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته!!
فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة رضي الله عنهم.
ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا -ولله الحمد- مملوءة من محبتهم؛ لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- وقال أيضاً: فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم.
فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عل ما يليق بهم.
فهم يحبون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويفضلونهم على جميع الخلق؛ لأن محبتهم من محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع؛ فإذا سلمت من هذا؛ ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك، وذلك للأمور التالية:
أولاً: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 615 - 616).(10/445)
ثانياً: أنهم هم الواسطة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته؛ فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة.
ثالثاً: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة.
رابعاً: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم واستجابتهم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، ونرى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوق: حق الصحبة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- وقال في القول المفيد: وأصل مذهبهم من عبد الله بن سبأ، وهو يهودي تلبَّس بالإسلام، فأظهر التشيُّع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويُفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبَّس بالنصرانية.
وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقاً -والعياذ بالله-. فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها؛ إلا أنه يقال: إن
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 587 - 588).(10/446)
عبد الله ابن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته؛ فالله أعلم.
فالمهم أن علياً رضي الله عنه رأى أمراً لم يحتمله، حيث ادّعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقاً، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر؛ لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام؛ لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة؛ كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن؛ فهم يرون أئمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، ولذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه قولا إذا اطلع عليه الإنسان عرف حالهم: "إنهم أشد الناس ضررا على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمَّروا المشاهد"؛ فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أوّل مَن بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق -وهما أبو بكر وعمر- بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك؛ كعبد الله بن أبيّ بن سلول وأشباهه والعياذ بالله؛ فانظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم؟!. (1)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله: أما فيما يتعلق بمسألة الصوفية وغنائهم ومديحهم وضربهم بالدف والتغبير التي يضربون الفراش ونحوه بالسوط فما كان أكثر
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (9/ 409 - 410).(10/447)
غبارا فهو أشد صدقا في الطلب، وما أشبه ذلك مما يفعلونه، فإن هذا من البدع المحرمة التي يجب عليه أن يقلع عنها، وأن ينهى أصحابه عنها وذلك لأن خير القرون وهم القرن الذين بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعبدوا لله بهذا التعبد، ولأن هذا التعبد لا يورث القلب إنابة إلى الله ولا انكسارا لديه ولا خشوعا لديه وإنما يورث انفعالات نفسية يتأثر بها الإنسان من مثل هذا العمل، كالصراخ وعدم الانضباط والحركة الثائرة وما أشبه ذلك، وكل هذا يدل على أن هذا التعبد باطل وأنه ليس بنافع للعبد وهو دليل واقعي غير الدليل الأثري الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوابها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة». فهذا التعبد من الضلال المبين الذي يجب على العبد أن يقلع عنه، وأن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، فإن هديهم أكمل هدي وطريقهم أحسن طريق. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (1). ولا يكون العمل صالحا إلا بأمرين: الإخلاص لله، والموافقة لشريعته التي جاء بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
_________
(1) فصلت الآية (33).
(2) فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين (1/ 206 - 207).(10/448)
1 - 'فتح رب البرية بتلخيص الحموية'.
2 - 'تقريب التدمرية'.
3 - 'تعليقات على الواسطية' (رسالة).
4 - 'شرح الواسطية' (مجلد ضخم).
5 - 'شرح لمعة الاعتقاد'.
6 - 'أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنة منها'.
7 - 'القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى'.
- قال رحمه الله في كتابه 'القول المفيد': وأما الجهمية فهم أتباع الجهم ابن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما؛ فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية؛ كالمعتزلة ومتأخري الرافضة؛ لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحوّلوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خراسان، وفيها كثير من الصابئة وعُبّاد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضا ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصابئة والمشركين.(10/449)
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية مُعطّلة في الصفات يُنكرون الصفات، ومنهم مَن أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يُضيفها الله -سبحانه- إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته؛ فالسميع عندهم بمعنى مَن خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا.
ومنهم من أنكر أن يكون الله مُتَّصفا بالإثبات أو العدم، فقالوا: لا يجوز أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة؛ حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم؛ لأننا إن قلنا موجود شبّهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات؛ فنقول: لا موجود ولا معدوم؛ فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن؛ لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لا بد أن يُوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم. (1)
- وقال فيه أيضا: توحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله عز وجل بما له من الأسماء والصفات.
وهذا يتضمن شيئين:
الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله -عز وجل- جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: نفي المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلا في أسمائه وصفاته؛ كما
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (9/ 410 - 411).(10/450)
قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1) فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابها للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعما أنه مُنزّه لله، وقد ضل؛ لأن المنزّه حقيقةً هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلا، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة؛ لم ينزه الله، بل وصَمَه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل؛ لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، {سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله -عز وجل-، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعما بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذ وصموه بالعيب والنقص؛ لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.
وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره؛ كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
_________
(1) الشورى الآية (11).(10/451)
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جنايةً في حق الله -عز وجل-، وإن كان المعطلون أعظم جرماً، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.
فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمّى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. (1)
- وقال في شرحه على العقيدة الواسطية: فإذا سئلنا: من أهل السنة والجماعة؟ فنقول: هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب. وهذا التعريف من شيخ الإسلام ابن تيمية يقتضي أن الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة؛ لأن تمسكهم مشوب بما أدخلوا فيه من البدع. وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يعد الأشاعرة والماتريدية فيما ذهبوا إليه في أسماء الله وصفاته من أهل السنة والجماعة. وكيف يعدون من أهل السنة والجماعة في ذلك مع مخالفتهم لأهل السنة والجماعة؟!
لأنه يقال: إما أن يكون الحق فيما ذهب إليه هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، أو الحق فيما ذهب إليه السلف. ومن المعلوم أن الحق فيما ذهب إليه السلف؛ لأن السلف هنا هم الصحابة والتابعون وأئمة الهدى من بعدهم. فإذا كان الحق فيما ذهب إليه السلف، وهؤلاء يخالفونهم؛ صاروا ليسوا من أهل السنة والجماعة في ذلك. (2)
موقفه من الخوارج:
- قال: أما الخوارج؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث إنهم كفروا
_________
(1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (9/ 6 - 8).
(2) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 685 - 686).(10/452)
علي بن أبي طالب وكفروا معاية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم» (1).اهـ (2)
- وسئل عن حكم طاعة الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟
فأجاب بقوله: الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله تجب طاعته في غير معصية الله ورسوله، ولا تجب محاربته من أجل ذلك، بل ولا تجوز إلا أن يصل إلى حد الكفر، فحينئذ تجب منابذته، وليس له طاعة على المسلمين.
والحكم بغير ما في كتاب الله وسنة رسوله يصل إلى الكفر بشرطين:
الأول: أن يكون عالما بحكم الله ورسوله، فإن كان جاهلا به لم يكفر بمخالفته.
الثاني: أن يكون الحامل له على الحكم بغير ما أنزل الله اعتقاد أنه حكم غير صالح للوقت وأن غيره أصلح منه، وأنفع للعباد.
وبهذين الشرطين يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرا مخرجا عن الملة، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (3).
_________
(1) تقدم تخريجه من حديث ابن مسعود ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2) شرح العقيدة الواسطية ضمن مجموع فتاواه (8/ 447 - 448).
(3) المائدة الآية (44).(10/453)
وتبطل ولاية الحاكم، ولا يكون له طاعة على الناس، وتجب محاربته، وإبعاده عن الحكم.
أما إذا كان يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن الحكم به أي بما أنزل الله هو الواجب، وأنه أصلح للعباد، لكن خالفه لهوى في نفسه أو إرادة ظلم المحكوم عليه، فهذا ليس بكافر بل هو إما فاسق أو ظالم، وولايته باقية، وطاعته في غير معصية الله ورسوله واجبة، ولا تجوز محاربته أو إبعاده عن الحكم بالقوة، والخروج عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخروج على الأئمة إلا أن نرى كفرا صريحا عندنا فيه برهان من الله تعالى. (1)
وقال: ومن الموانع أيضا (2) أن يكون له شبهة تأويل في الكفر بحيث يظن أنه على حق؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلا في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (3) ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلا في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) قال في المغني (8/ 131): "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك -يعني يكون كافرا- وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى
_________
(1) مجموع فتاوى (2/ 147 - 148).
(2) أي موانع التكفير.
(3) الأحزاب الآية (5).
(4) البقرة الآية (286).(10/454)
-إلى أن قال-: وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلالهم دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا". وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 30) مجموع ابن القاسم: "وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب" وفي (ص.210): "فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم .. وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأوله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن". وقال أيضا (1) من المجموع المذكور: "فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين".
لكنه ذكر في (7/ 217): "أنه لم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع" وفي (28/ 518): "إن هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره". وفي (3/ 282) قال: "والخوارج المارقون الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما
_________
(1) (28/ 518).(10/455)
من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين؛ فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص، والإجماع، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وقد تكون بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه". إلى أن قال: "وإذا كان المسلم متأولا في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك". إلى أن قال في (ص.288): "وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره ... والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (1) وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2).
وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين» ".
والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفرا، كما
_________
(1) الإسراء الآية (15).
(2) النساء الآية (165).
(3) البخاري (13/ 492/7416) ومسلم (2/ 1136/1499).(10/456)
يكون معذورا بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقا، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم. (1)
موقفه من المرجئة:
سئل الشيخ -أعظم الله مثوبته- عن تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة وهل يزيد وينقص؟
فأجاب بقوله: الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو: (الإقرار بالقلب، والنطق باللسان، والعمل بالجوارح). فهو يتضمن الأمور الثلاثة:
1 - إقرار بالقلب.
2 - نطق باللسان.
3 - عمل بالجوارح.
وإذا كان كذلك فإنه سوف يزيد وينقص، وذلك لأن الإقرار بالقلب يتفاضل فليس الإقرار بالخبر كالإقرار بالمعاينة، وليس الإقرار بخبر الرجل كالإقرار بخبر الرجلين وهكذا، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (2). فالإيمان يزيد من حيث إقرار القلب وطمأنينته وسكونه، والإنسان يجد ذلك من نفسه فعندما يحضر مجلس ذكر فيه موعظة، وذكر للجنة والنار يزداد الإيمان حتى كأنه يشاهد ذلك رأي العين، وعندما توجد
_________
(1) مجموع فتاوى (2/ 136 - 138).
(2) البقرة الآية (260).(10/457)
الغفلة ويقوم من هذا المجلس يخف هذا اليقين في قلبه.
كذلك يزداد الإيمان من حيث القول فإن من ذكر الله عشر مرات ليس كمن ذكر الله مئة مرة، فالثاني أزيد بكثير.
وكذلك أيضاً من أتى بالعبادة على وجه كامل يكون إيمانه أزيد ممن أتى بها على وجه ناقص.
وكذلك العمل فإن الإنسان إذا عمل عملاً بجوارحه أكثر من الآخر صار الأكثر أزيد إيماناً من الناقص، وقد جاء ذلك في القرآن والسنة -أعني إثبات الزيادة والنقصان- قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (1). وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} (2) وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن» (3). فالإيمان إذن يزيد وينقص.
_________
(1) المدثر الآية (31).
(2) التوبة الآيتان (124و125).
(3) تقدم تخريجه في مواقف ابن أبي العز سنة (792هـ).(10/458)
ولكن ما سبب زيادة الإيمان؟
للزيادة أسباب:
السبب الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله، وبأسمائه، وصفاته ازداد إيماناً بلا شك، ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله وصفاته ما لا يعلمه غيرهم تجدهم أقوى إيماناً من الآخرين من هذا الوجه.
السبب الثاني: النظر في آيات الله الكونية، والشرعية، فإن الإنسان كلما نظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيماناً قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} (1). والآيات الدالة على هذا كثيرة أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه.
السبب الثالث: كثرة الطاعات فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيماناً سواء كانت هذه الطاعات قولية، أم فعلية، فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم، والحج تزيد الإيمان أيضاً كمية وكيفية.
أما أسباب النقصان فهي على العكس من ذلك:
فالسبب الأول: الجهل بأسماء الله وصفاته يوجب نقص الإيمان لأن الإنسان إذا نقصت معرفته بأسماء الله وصفاته نقص إيمانه.
السبب الثاني: الإعراض عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية،
_________
(1) الذاريات الآيتان (21و22).(10/459)
فإن هذا يسبب نقص الإيمان، أو على الأقل ركوده وعدم نموه.
السبب الثالث: فعل المعصية فإن للمعصية آثاراً عظيمة على القلب وعلى الإيمان ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». الحديث (1).
السبب الرابع: ترك الطاعة فإن ترك الطاعة سبب لنقص الإيمان، لكن إن كانت الطاعة واجبة وتركها بلا عذر، فهو نقص يلام عليه ويعاقب، وإن كانت الطاعة غير واجبة، أو واجبة لكن تركها بعذر فإنه نقص لا يلام عليه، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء ناقصات عقل ودين، وعلّل نقصان دينها بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها لا تلام على ترك الصلاة والصيام في حال الحيض بل هي مأمورة بذلك لكن لما فاتها الفعل الذي يقوم به الرجل صارت ناقصة عنه من هذا الوجه. (2)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: القدر بفتح الدال: تقدير الله تعالى للكائنات، حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته.
والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلا، أزلا وأبدا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أوبأفعال عباده.
الثاني: الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (1/ 49 - 52).(10/460)
يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (1). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» (2).
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (3) وقال: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} (4) وقال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (5) وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} (6) وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} (7).
الرابع: الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها،
_________
(1) الحج الآية (70).
(2) أخرجه مسلم (4/ 2044/2653).
(3) القصص الآية (68).
(4) إبراهيم الآية (27).
(5) آل عمران الآية (6).
(6) النساء الآية (90).
(7) الأنعام الآية (137).(10/461)
وحركاتها، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} (1) وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} (2) وقال عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (3).
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع: فقد قال الله تعالى في المشيئة: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39)} (4) وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (5) وقال في القدرة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (6) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (7).
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش،
_________
(1) الزمر الآية (62).
(2) الفرقان الآية (2).
(3) الصافات الآية (96).
(4) النبأ الآية (39).
(5) البقرة الآية (223).
(6) التغابن الآية (16).
(7) البقرة الآية (286).(10/462)
لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى، وقدرته لقول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (1) ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} (2) ولوكان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} (3) ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
_________
(1) التكوير الآيتان (28و29).
(2) الأنعام الآية (148).
(3) النساء الآية (165).(10/463)
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة». فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر»، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} (1) الآية. وفي لفظ لمسلم: «فكل ميسر لما خلق له» (2) فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمل ونهى عن الاتكال على القدر.
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (4) ولو كان العبد مجبرا على الفعل لكان مكلفا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أونسيان، أو إكراه، فلا إثم عليه لأنه معذور.
الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
_________
(1) الليل الآية (5).
(2) تقدم تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).
(3) التغابن الآية (16).
(4) البقرة الآية (286).(10/464)
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ أفليس شأن الأمرين واحدا؟.
وإليك مثالا يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى، وقتل، ونهب، وانتهاك للأعراض وخوف، وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟
إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدا أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طرق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟
مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لاتشتهيه، وينهى عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبا للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أويفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر؟.
السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته. فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه(10/465)
على حق الله تعالى؟
ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله، فقال عمر: ونحن إنما نقطع بقدر الله.
وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الاعتماد على الله تعالى، عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى.
الثانية: أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح، وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.
الثالثة: الطمأنينة، والراحة النفسية بما يجري عليه من أقدار الله تعالى فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه، لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو كائن لا محالة وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} (1) ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا
_________
(1) الحديد الآيتان (22و23).(10/466)
للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (1) رواه مسلم.
وقد ضل في القدر طائفتان:
إحداهما: الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر.
والرد على الطائفة الأولى (الجبرية) بالشرع والواقع:
أما الشرع: فإن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه، قال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} (2) وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (3) الآية. وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (4).
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 332) ومسلم (4/ 2295/2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(2) آل عمران الآية (152).
(3) الكهف الآية (29).
(4) فصلت الآية (46).(10/467)
يفعلها بإرادته كالأكل، والشرب، والبيع، والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولامريد لما وقع عليه.
والرد على الطائفة الثانية (القدرية) بالشرع والعقل.
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء، وكل شيء كائن بمشيئته، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} (1) وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} (2).
وأما العقل: فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون، فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته. (3)
_________
(1) البقرة الآية (253).
(2) السجدة الآية (13).
(3) شرح الأصول الثلاثة (مجموع الفتاوى له 6/ 109 - 115).(10/468)
محمود مهدي الإستانبولي (حوالي 1421 هـ)
موقفه من المبتدعة:
له رسالة صغيرة المباني، غزيرة الفوائد والمعاني، أسماها: 'كتب ليست من الإسلام'. ردّ فيها على مجموعة من الكتب المشبوهة، وللإسلام أضحت مُشوِّهة.
قال فيها: لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتدارسون سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه ويعلمونها أطفالهم، كما يعلمونهم القرآن. كل ذلك على أمل التأسي به - صلى الله عليه وسلم - باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وليس ذلك بالطرب وسماع الأغاني المائعة والسخيفة وقديماً قال الشاعر:
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحبّ لمن يحبّ مطيع
ومما يؤسف له، ولعلّ ذلك كان مقصوداً من أعداء الإسلام، أنه قد وضعت في مناسبة مولده - صلى الله عليه وسلم - قصص -وكذلك في معراجه كما سنرى- قصص نسبت إلى بعض الشخصيات الإسلامية لتنطلي على العامة، فيقبلون على قراءتها. وفي هذه القصص كثير من الأكاذيب والأوهام والسخافات التي تسيء إلى سمعة هذا الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - وتنفر الأجيال وغيرهم منه. وقد كنت نشرت منذ سنوات بعيدة في الصحف الدمشقية نقد إحدى هذه القصص، وهي المسماة (بمولد العروس) وجاء فيه:
بين يديّ الآن قصة (مولد العروس) المنسوبة كذباً وافتراءً إلى العلامة الكبير ابن الجوزي لما فيها من الضلالات والأساطير المعزوّ إلى الله تعالى وإلى(10/469)
نبيّه الكريم مما لا يصحّ السكوت عنه. (1)
ثم ذكر الأباطيل والأكاذيب الواردة فيه، وردّ عليها ردّاً مباركاً.
موقفه من المشركين:
- قال في مقدمة كتابه الماتع 'طه حسين في ميزان العلماء والأدباء': في أوائل الثلاثينات من هذا القرن العشرين، ظهر الكاتب الدكتور طه حسين، فحمل على الإسلام حملات شرسة، وخصّ القرآن العظيم بالنقد والتكذيب سنة، وعمد إلى نشر أدب الفسق والدعارة والزندقة، تساعده في ذلك المراكز الاستشراقية، والدوائر الاستعمارية، ودعاة التغريب، الذين يسعون لهدم أركان هذا الدين بمختلف الوسائل الظاهرة والخفية، من أجل تحطيم أعظم معاقل الدفاع بين المسلمين، للتمكن منهم والقضاء على معاقل الدفاع فيهم وإفناء شخصيتهم، ليذوبوا في الحضارة الغربية الفاشلة ...
فقيّض الله سبحانه جماعة من كبار العلماء والأدباء، ندر أن يجود الزمن بمثلهم، للدفاع عن الإسلام والرّدّ على هذا الخصم الشرس والأديب العميل، بالكشف عن دسّه وجهله، فألقموه حجراً، وأصلوه ناراً حامية.
ولكن العاصفة هدأت، ومضى نصف قرن من النسيان على هذه المعركة بين الحق والباطل، واختفت هذه الردود في زوايا الإهمال، حتى كأنها لم تكن!
وبقيت كتب الباطل تسرح وتمرح، وازداد نشاطها لتفسق في الأرض، وتنشر الفساد والضلال.
_________
(1) كتب ليست من الإسلام (ص.47 - 48).(10/470)
وقد كان المفروض في هذه الدسائس والأكاذيب أن تندثر بعد منيّة كاتبها؛ فتموت بموته. ولكن من وراء نشرها والدعاية لها والإنفاق عليها الدوائر والمراكز التي سبق ذكرها، لاستمرار دولة الباطل على تمثيل دورها الإجراميّ المدمّر ...
لهذا كلّه سارعت لإنقاذ الموقف، فأصدرت هذا الكتاب الضخم، انتصاراً للحقّ وحماية للأجيال المسلمة، جمعت فيه أغلب هذه الردود القويّة، والشموس الساطعة، والقذائف الرّهيبة على الباطل.
اقرأه بتدبّر وإمعان، تطّلع على حقائق مذهلة وآثار قيمة منسية لا توجد في غيره، مما لا غنى عنه! ..
وقد سار طه حسين قُدُماً، في طريقه هالة من الخداع والتضليل والحماية تحت أسماء التجديد والتقدّم العصريّة والبحث العلميّ، وظهرت الأجيال الجديدة من الشباب في هذا الجوّ المطعم بالخرافة الأسطورية، فلم تستطع أن تتبيّن وجه الحق، بعدما رأت ما أطلق عليه عميد الأدب محاطاً بهالة من التبرير والدوي، فلم تعرف حقيقة الدور الذي قام به في مجال التغريب والغزو الثقافي، فكان لا بد أن ينطلق للحق لسان {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1). ومن ثم كانت هذه المحاولة السريعة التي نقدمها اليوم بين يدي القارئ ... (2)
_________
(1) الأنبياء الآية (18).
(2) طه حسين في ميزان العلماء والأدباء (ص.7 - 8).(10/471)
- ثم قال: ما كاد طه حسين المسمى بعميد الأدب العربي، يرحل من الدنيا، حتى سارع أنصاره ومحبّوه وكثير من طلابه ومن وراء كلّ ذلك المستشرقون من أعداء الإسلام، إلى تصنيف الكتب العديدة عن مزاياه وجهاده ليبهروا أصحاب العقول البسيطة، والنفوس الضعيفة بعظمته المزعومة ويفرضوا على الناس آراءه الإلحادية والهدامة.
ومن هذه المؤلفات كتاب 'قاهر الظلام' اطلعت عليه في واجهات بعض المكتبات، ولم تطاوعني نفسي حتى على تصفحه لما في عنوانه من خداع وتعريض بالإسلام. ومثله كتاب 'طه حسين وزوال المجتمع التقليدي'!
ومما يؤسف له أننا لم نجد من العلماء والأدباء المؤمنين من تصدى لهذا (العميد) ولأتباعه بعد موته كما تصدى العلماء والأدباء الغيارى في حياته في أوائل هذا العصر، فكشفوا عن تآمره على الإسلام وعلى لغة القرآن وتجنيه على الحقيقة والتاريخ وعبثه بعقول الكثير من السذج والمخدوعين.
وقد أصدرت له بعد موته دور النشر التجارية التي قد تكون مخدوعة بشهرته الواسعة، أو مدفوعة بالربح الماديّ، المؤلفات الكاملة له، مع مقدمات إضافية عن قيمتها العلمية والأدبية المزعومة، ناسية أو متناسية تبعتها أمام الله العظيم في تضليل الأجيال، وهو القائل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} (1).
ولما كان السكوت عن هذه المؤلفات يعدّ جبناً وهزيمة بل مؤامرة على
_________
(1) يس الآية (12).(10/472)
الإسلام وبعداً عن الحق وتجنياً عليه، رأيت من واجبي أن أجمع أقوال أكثر العلماء والأدباء الكبار الذين تصدوا لطه حسين في أوج مجده المصطنع، وبرهنوا بالحجج الدامغة والأدلة الساطعة على ضلاله وزيفه، وحطموا شخصيته الموهومة، وذلك خدمة للحق الناصع ودفاعاً عن الحمى المستباح، وإنقاذاً للأجيال الحاضرة والمستقبلة من أن تقع فريسة للخداع البراق والزائف.
وقد وقعت فعلاً، وظهرت بوادر ظاهرة رهيبة منذ سنوات، لا تزال مستمرة، تتلخص بجرأة بعض الكتّاب على القرآن واتهامه بالتناقض، ونعتهم قصصه بالأساطير -كما قال طه حسين من قبل- ووصفهم الله جلّ شأنه بالمكر والتناقض والخداع، مما لم نكن نعهده من قبل كأمثال صادق العظم في كتابه 'النقد الفكري والديني' وأمثاله، وقد ردّ عليه بعض العلماء والكتّاب أمثال الأخ المؤرخ والعالم الغيور 'محمد عزة دروزه' في كتابه 'القرآن والملحدون' وغيره.
ولو درسنا الأسباب متعقبين الحوادث لوجدنا ذلك نتيجة مؤلفات طه حسين. ومن المؤلم أن أحداً -كما أعلم- ممن ردّ على صادق العظم وغيره لم يذكر من قريب أو بعيد أن ذلك من نتائج أقوال من سمي بعميد الأدب فهو المسؤول الأول ... وخاصة بعد اختفاء آثار كبار العلماء والأدباء الذين ردّوا عليه وأوضحوا مبلغ تجنيه على الحق وبُعده عن الصواب، الأمر الذي يفيد في ردع الضالين وتنبيه الغافلين وتحذير المبتدئين. (1)
_________
(1) طه حسين في ميزان العلماء والأدباء (ص.9 - 10).(10/473)
موقفه من الصوفية:
قال في مقدمة رسالته 'كتب ليست من الإسلام': وبعد فإن القارئ والقارئة سيفاجآن -على الغالب- حين دراسة هذه الرسالة، بحقائق مذهلة، عما جاء في بعض الكتب المسماة إسلامية! من مبالغات وضلالات وشركيات، انكب عليها غالبية المسلمين في كثير من بلدان العالم الإسلامي، ويا للأسف، يتلون ما جاء فيها آناء الليل وأطراف النهار، مما صرفهم عن كتاب ربهم سبحانه، وحديث نبيهم محمد. وقد جاء فيها كثير من الأحاديث الموضوعة والأخبار الملفقة الكاذبة الخاطئة، ليغري مؤلفوها المسلمين بتلاوتها، متعهدين لمن يثابر على ذلك بالثواب الجزيل والأجر العظيم مما ينكره الشرع، ولا يتصوره العقل، فإن الله سبحانه لا يعبد بالضلالات والخرافات ...
وراح البوصيري ناظم 'البردة' يزعم كاذباً أنه أصيب بالفالج، فأنشدها للرسول - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فسر بها وكساه بردته، فاستيقظ في الصباح معافى، مما تكذبه الأحاديث، كما يكذبه الواقع والتجربة، الأمر الذي يجعل الكثيرين من الجهلة والمغفلين وأدعياء العالم ينشدونها، ويتلونها كما يتلون القرآن، ويكتبونها في الآنية ويشربون ماءها، مع ما فيها من الضلالات والشركيات، وكل ذلك بدعة ضلالة، فلم يعرف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك أو أمر به!
وقد رأيت إنقاذاً للموقف، وحرصاً على إيمان المسلمين مما في هذه الكتب من خرافات ووثنيات، التحدث عن كل منها بما تيسر، للكشف عما فيها من أفكار خبيثة وشركيات مضللة، تتفطر منها القلوب، وتشيب من هولها الرؤوس، وتتقزز من سخفها النفوس، خفيت على الكثيرين -ويا(10/474)
للخسارة- فأبعدتهم بسبب الجهل والغفلة والشهرة الطاغية، عن كتاب ربهم العظيم، وهو الدستور الإلهي الذي من عمل به اهتدى، ومن تركه ضلّ ضلالاً بعيداً. وفي تلاوته -وخاصة مع التدبر- الثواب الجزيل مما لا يتوفر في غيره. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها! لا أقول: (ألم) حرفاً: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (1) رواه الترمذي، وسنده صحيح، كما قال المحدثون. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيحبّ أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات (الناقة) عظام سمان؟ قلنا: نعم! قال: فثلاث آيات من يقرؤهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» (2) رواه مسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (3) رواه مسلم.
هذا -ولا شك- أن بعض أنصار هذه الكتب المشؤومة، كالعامة وسدنة القبور والمغفلين من المتعامين سيشيعون بين الناس -كما هو شأنهم في محاربة كل إصلاح، للتنفير من دراسة هذه الرسالة: (إننا لا نحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونكره الصلاة عليه) {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ
_________
(1) أخرجه من حديث ابن مسعود: الترمذي (5/ 161/2910) وقال: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، والحاكم (1/ 566) وصححه.
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 466) ومسلم (1/ 552/802) وابن ماجه (2/ 1243/3782).
(3) أخرجه من حديث أبي أمامة: أحمد (5/ 249) ومسلم (1/ 553/804).(10/475)
إِلَّا كَذِبًا (5)} (1)، وذلك ليفسدوا علينا خطتنا الإصلاحية في محاربة البدع والضلالات.
فنأمل من المسلمين الواعين مساعدتنا في إحباط هذه المؤامرة، والابتعاد عن هاتين المفسدتين: 'دلائل الخيرات' و'البردة' بعد أن يتحقق لهم البرهان من القرآن والسنة على صحة ما نقوله، لإنقاذ المسلمين من العقائد والأفكار الزائفة، ليكتب لنا الثواب معاً إن شاء الله تعالى.
والله سبحانه يشهد، وهو خير الشاهدين، أننا ما نشرنا هذا البحث إلا غيرة على القرآن وحماية للتوحيد وحبّاً بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحرصاً على المسلمين الحريصين على الصلاة على النبي، وهي خير موضوع لما فيه من الثواب العظيم والأجر الجزيل، فقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه عشرة» رواه مسلم (3)، وهناك أحاديث عديدة في فضل الصلاة على النبيّ وعظيم ثوابها. (4)
- وله ردود على كل من 'دلائل الخيرات' للجزولي، و'الطبقات'
_________
(1) الكهف الآية (5).
(2) الأحزاب الآية (56).
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 372) ومسلم (1/ 306/408) وأبو داود (2/ 184/1530) والترمذي (2/ 355 - 356/ 485) وقال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 57 - 58/ 1295).
(4) كتب ليست من الإسلام (ص.3 - 6).(10/476)
للشعراني، و'الأنوار القدسية' له، و'تائية ابن الفارض' وغيرها من الكتب المعتمدة في التصوف. قال رادا على الأنوار القدسية: يقول الشعراني تحت عنوان (لا ذكر بعد المشاهدة): ثم إذا دخل الحضرة وحضر قلبه مع الحق تعالى فليسكت حينئذٍ، لأنه لا معنى للذكر اللفظي مع شهود الحق تعالى، ثم قال:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب!!
ويقول الشعراني تحت عنوان (من شأن المريد أن لا يقول لشيخه: لِمَ؟). وقال أيضاً: (من ظهر له في شيخه نقص عدم النفع به) ويقول أيضاً: وسمعت شيخ الإسلام الشيخ برهان الدين بن أبي شريف رحمه الله يقول: (من لم ير خطأ شيخه أحسن من صوابه هو لم ينتفع به). وقال أيضاً: وكان يقول: (المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله لا كلام ولا حركة ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل ولا يخرج ولا يخالط أحداً ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه: لأنه أمين على المريد فيما يرقبه، وربّ عمل فاضل دخلته النفس وصار مفضولاً).
ويقول الشعراني: (وزار أبو تراب النخشي وشقيق البلخي أبا يزيد البسطامي فلما قدم خادمه السفرة قالا له: كل معنا يا فتى، فقال: إني صائم، فقال له أبو تراب: كل ولك أجر صوم سنة فقال: لا، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين رعاية الله عز وجلّ فسرق ذلك الشابّ بعد سنة فقطعت يده عقوبة له على سوء أدبه مع الأشياخ).
وقال الشعراني: (وسمعت سيدي علي الخواص رحمه الله يقول: لا يبلغ(10/477)
أحد مقام الإخلاص في الأعمال حتى يصير يعرف ما وراء الجدار وينظر ما يفعله الناس في قعور بيوتهم في بلاد أخرى). ويقول أيضاً: (والله ما صدق مريد في محبة الطريق إلا نبعت الحكمة من قلبه وصار يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي بإذن الله). ويقول أيضاً: (وكذلك بلغنا سيدي محمد الشوعي أحد أصحاب سيدي مدين والمدفون في زاويته تجاه قبته، إنه تزوج بكراً فمكثت معه يسيراً ومات عنها وهي بكر، وكان قال لها: لا تتزوجي بعدي أحداً أقتله، فلما مات خطبها شخص واستفتى العلماء بها فقالوا له: هذا خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل بها فلما جلس عندها قبل أن يمسها خرج الشيخ له من الحائط بحربة فطعنه فمات لوقته). وذكر بعدها عدة قصص مثل ذلك، وختم هذه الحكايات بقوله: (هذه وقائع فمن شك فليجرب، اللهم إلا أن يأمر الشيخ بذلك لما يرى لزوجته من الحظ والمصلحة مثلاً فلا بأس بذلك، فينبغي للمفتي في ذلك أن يتوقف ويقول: أنا لا أفتي على أحد من أرباب الأحوال).
ونختتم الكلام عن هذا الكتاب بهذه القصة: قال الشعراني: (وحكى لي خادم سيدي أبي الخير الكليباني أن شخصاً أتاه وأخبره أنه قال للشيخ: (إن زوجتي حامل وقد اشتهت مامونية حموية ولم أجدها، فقال له الشيخ: ائتني بوعاء، فأتاه به فتغوط له فيها مأمونية حموية سخنة، فقال الخادم: وأكلت منها لعدم اعتقادي أنها غائط.
لا شك أن القارئ تألم كثيراً من هذه الانحرافات والضلالات والسخافات التي جاءت في كتاب 'الأنوار القدسية'، ولكن ما قوله إذا(10/478)
ذكرت له أن لجنة في مصر -في بلد الأزهر- تألفت -ولا شك أن أغلب أعضائها منه- 'لإحياء التراث الصوفي'. وقد حَقَّقَتْ كتاب 'الأنوار القدسية' وقد علّق عليه أحد أعضائها!! وهي خليقة أن تسمى: 'الظلمات الصوفية'!
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إخلاص وإيمان. (1)
- وقال أيضاً رادّاً على حِكم ابن عطاء الله السكندري:
أ- أقوال يؤيد فيها نظرية وحدة الوجود القائلة بأن الخالق والمخلوق واحد ومثلها نظرية الاتحاد والحلول، وكل ذلك كفر!
1 - (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان).
إن القسم الأول من هذا الكلام حديث صحيح، والقسم الثاني وحدة وجود، فصار المعنى: كان الله ولا شيء معه، والآن هو لا شيء معه! أي: أن الله والكون واحد!
2 - (ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه! ولكن حجبك عنه، توهم موجود معه).
3 - (كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الواحد الذي ليس معه شيء)!
4 - (أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوَّن، فإذا شهدته، كانت الأكوان معك).
5 - (ما العارف من إذا أشار، وجد الحق أقرب إليه من إشارته، بل
_________
(1) كتب ليست من الإسلام (ص.72 - 75).(10/479)
العارف من لا إشارة له لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده).
6 - (الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه، فمن رأى الكون، وشهده فيه أو عنده أو قبله، أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس العارف، بسحب الآثار).
7 - (علم منك أنك لا تصبر عنه، فأشهدك ما برز منه).
8 - (لولا ظهوره في المكونات! ما وقع عليها أبصار، ولو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته).
9 - (الفكرة فكرتان: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان! فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار).
ب- أقواله في النهي عن دعاء الله، مما لا يقول به من لديه إنارة من علم أو إيمان:
1 - (سؤالك منه اتهام له).
ويستدلّ ابن عطاء الله على ذلك بحديث باطل على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي، وهو مخالف للآيات والأحاديث الكثيرة التي تحض على دعاء الله كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} وقوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1).
2 - (من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع عنه ورود العقوبة منه، فما قام بحق أوصافه).
هذا الكلام هو كقول رابعة العدوية المنحرف: (ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا رغبة في جنتك، ولكني عبدتك لأنك أهل للعبادة) وهذا مخالف لعبادة الملائكة الذين يخافون ربهم من فوقهم، وعبادة الأنبياء الذين يعبدون الله سبحانه رغباً ورهباً!.
3 - (لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج).
4 - (ربما دلهم الأدب إلى ترك الطلب).
ليت هذا الجاهل علم أن الأمر بالعكس، فإن ترك الطلب هو العصيان، وقلة الأدب!
5 - (من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه، فما
_________
(1) غافر الآية (60).(10/480)
قام بحق أوصافه).
6 - (إنما يذكر من يجوز عليه الإغفال، وإنما ينبه من يمكن منه الإهمال) ترى لماذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الدعاء ويأمر به إلى درجة الإلحاح!
7 - (ربما استحيا العارف أن يرفع حاجته إلى مولاه لاكتفائه بمشيئته (!) فكيف لا يستحي أن يرفعها إلى خليقته) لقد سمح لنا الشارع الحكيم أن نرفع حاجتنا إلى الناس، على أن نعتقد أنه هو المعطي.
8 - (كيف تطلب العوض على عمل هو متصدق به عليك؟ أم كيف تطلب الجزاء على صدق هو مهديه إليك) ومعنى ذلك أن تبقى خشباً مسندة!!(10/481)
9 - (كيف أشكو إليك حالي وهي لا يخفى عليك).
ج - أقوال تشجع على ارتكاب المعاصي:
1 - (أنت إلى حلمه إذا أطعته، أحوج منك إلى حلمه إذا عصيته).
2 - (ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب، فكان سبباً بالوصول).
هذا الكلام تشجيع على ارتكاب الذنوب، فما فتح سبحانه باب الطاعة إلا ليكافئ عليها. جاء في القرآن العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} (1).
د- أقوال تشجع على تعطيل المواهب والعزائم وتدعو إلى التماوت وترك التدبير:
1 - (أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك، لا تقم به لنفسك). وقد تكلمتُ عن ذلك مفصلاً حين الكلام على كتاب ابن عطاء الله المسموم والمضلل: (التنوير في إسقاط التدبير).
2 - (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار) فما أدرانا بهذه الأقدار؟! وقد علمنا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أن نفر من قضاء الله إلى قضاء الله ... وقد حضنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «احرص على ما ينفعك ولا تعجز» (2).
3 - (إذا فتح لك وجهة من التعرف، فلا تبالِ معها إن قلّ العمل ... ).
_________
(1) الأنبياء الآية (101).
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 366) ومسلم (2/ 2052/2664) وابن ماجه (1/ 31/79).(10/482)
4 - (ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه) أين كل هذا من قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} (1)!؟
هـ - أقوال متناقضة وسخيفة:
1 - (جل ربنا أن يعامله العبد نقداً، فيجازيه نسيئة) إذا كان الأمر كما قال، فما الفائدة من الآخرة؟!
2 - (إنما جعل الدار الآخرة محلاً لجزاء عباده المؤمنين، لأن هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم، ولأنه أجلَّ أقدارهم عن أن يجزيهم في دار لا بقاء لها).
3 - (العطاء من الخلق حرمان (!)، والمنع من الله إحسان!).
إذا كان الأمر كما يقوله هذا الجاهل، فلماذا أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من لا يشكر الناس، لا يشكر الله» (2) ولا أدري كيف يكون عطاء الله سبحانه إذا لم يكن عن طريق الناس؟! وقد قال الخليفة عمر رضي الله عنه: إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة!
4 - (من أطلق لسانك بالطلب، فاعلم أنه يريد أن يعطيك). أين هذا الكلام من سخف قوله وقد سبق ذكر: (طلبك منه اتهام له)؟!.
5 - (إن أردت أن لا تعزل، فلا تتولَّ ولاية لا تدوم لك) وأيّ شيء
_________
(1) الفرقان الآية (74).
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 258) وأبو داود (5/ 157 - 158/ 4811) والترمذي (4/ 298 - 299/ 1954) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والبخاري في الأدب المفرد (رقم 218) وابن حبان (8/ 198 - 199/ 3407 الإحسان).(10/483)
يدوم في هذه الدنيا؟!، وقد طلب هذه الولاية يوسف عليه السلام من عزيز مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} (1) وإذا لم يتولَّ الصالحون الوظائف، فهل يتركونها للأشرار؟!
6 - (كيف تطلب العوض على عمل هو متصدق به عليك؟! أم كيف تطلب الجزاء على صدق هو مهديه إليك؟) (!)
7 - (إلهي! حكمك النافذ، ومشيئتك القاهرة، لم يتركا لذي مقال مقالاً، ولا لذي حال حالاً).
8 - (إلهي! كيف أعزم، وأنت القاهر؟ وكيف لا أعزم وأنت الآمر؟).
أكتفي بهذا القدر من النقل من هذه النقم التي سميت بالحكم! وهي لا تزال تدرس في كثير من المعاهد حتى الأزهر، ويوصي بها جهلة الشيوخ طلابهم، وقد وصفها بعض أدعياء العلم الحمقى بقوله: (لو جازت الصلاة بغير كتاب الله، لجازت بحكم ابن عطاء الله)!! ومعنى ذلك أنه فضلها على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أثنى على هذه الحكم الدكتور محمد عبيد الرحمن البيصار شيخ الجامع الأزهر الحالي في مقدمته لكتاب 'التنوير ... ' فقال: (وحكم ابن عطاء الله تمضي بين الناس في رحلة خالدة! وكأنها شمس تنير للحيارى ظلام الطريق)!!
وقد شرح هذه الحكم الصوفي المحروق ابن عجيبة بكتاب سمّاه 'إيقاظ الهمم' وهو جدير بأن يسمّى 'إماتة الهمم' وقد زعم في مقدمته أن الرسول
_________
(1) يوسف الآية (55).(10/484)
- صلى الله عليه وسلم - اختص بعض الصحابة بعلم الباطن، ومعنى ذلك أنه كتم شيئاً من الدين عن المسلمين. وقد حقق هذا الكتاب أخيراً مثنياً عليه الدكتور عبد الحليم محمود.
وقد سجدت إلى الله تعالى سجدة شكر لما علمت بموته، فقد ملأ العالم الإسلامي بكتب الفلسفة السخيفة المارقة والصوفية الخرقاء الهدامة، وقد أمر بهدم قبة مسجد البدوي وبناء قبة أكبر منها، وإضافة مئذنة أخرى له، ليزيد من إضلال المسلمين الذين يطوفون حول قبره ويستغيثون به ويدعونه عند الشدائد أمام أكثر شيوخ الأزهر الساكتين عن الحق ... مما هو شرك بواح ... وقد أوصى هذا الدكتور بدفنه في المسجد الذي شيده في شارع الزيتون بالقاهرة، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعن من يفعل ذلك في أحاديث عديدة، فكتب له الأخ المكرم سماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، ينهاه عن الإقدام على هذا العلم المنحرف المخالف للشريعة، ويحذره من أن يكون قدوة سيئة لمن بعده من المسلمين بصفته شيخاً للأزهر! ومن مؤلفات هذا الدكتور ويا للأسف! رسائل عن الشاذلي والمرسي والبدوي من الصوفية والتفكير الفلسفي في الإسلام، مما يحتاج إلى كتاب ضخم في نقد ما كتب عنهم، وخاصة عن البدوي، فقد زعم في رسالته عنه أنه ذهب إليه في طنطا، واستأذنه في الكتابة عنه!! فأين عمله هذا من قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ(10/485)
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} (1)! ومثله كتابه 'التفكير الفلسفي في الإسلام' مع أن هذا الإسلام حرب على كل فلسفة، والفلاسفة المسمون مسلمين، وإن كان لهم وجه علمي مشرق، فهم في الفلسفة أتباع أرسطو معلمهم الأول كما يسمونه، وقد كفرهم حتى الغزالي في كتابه: 'المنقد من الضلال' مع العلم أن فيه كثيراً من الضلالات، في مقدمتها أنه زعم أن طريق التصوف الضال المهترئ، هو الطريق الوحيد الموصل إلى الله، لا طريق الكتاب والسنة، كبرت كلمة تخرج من فيه إن يقول إلا ضلالاً وكذباً!
ومما يجدر ذكره أن هذا الدكتور حارب في آخر حياته الفلسفة في آخر رسالة له في سلسلة 'كتابك' وأثبت أنها لا توصل إلى الحقيقة، وبذلك هدم كل ما بناه من الفلسفة بعدما ضلل بها الكثيرين، ومما يؤسف له أن كتابه 'التفكير الفلسفي في الإسلام' الذي نحن بصدد الكلام عليه طبع طبعة جديدة بعد موته، ليستمرّ في فساد الأجيال! فكم كان جديراً بهذا الدكتور بعد رسالته الأخيرة أن يعلن تبرأه من جميع كتبه الفلسفية، لينجو من تبعيتها بعد موته، وقد قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} (2)! وخاصّة وقد صرّح في الرسالة المذكورة (كتابك: ص.60): (إن هذا المنهج اليهودي -أي: المنهج الفلسفي- الذي رسموه بعد تفكير طويل، والتزموا القيام به بكل الوسائل أو بكل الطرق، وهو مذهب التشكيك في القيم والمثل والعقائد
_________
(1) فاطر الآية (22).
(2) يس الآية (12).(10/486)
والأخلاق. يستخدمون هذا المنهج في المجالات المختلفة لإفساد المجتمعات وتحلّلها أخلاقياً ودينياً، و ...
إن اليهود يهدفون من وراء كلّ ذلك إلى السيطرة على العالم! إنهم يحطمون القيم والمثل حتى لا يكون في المجتمعات قوة من عقائد، أو قوة من حق! ومن أجل ذلك تعاونوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى في الجامعات في علم الاجتماع وفي علم النفس، وفي مادّة الأخلاق، وفي تاريخ الأديان، وفي الفلسفة ... ).
ومن عجيب أمر هذا الدكتور أنه بعدما ثبت له عقم طريق الفلسفة وأنه لا يوصل إلى الحقيقة، وهو منهج اليهود لتضليل الأجيال وانحرافها، بقي على ضلاله وزعم زوراً وبهتاناً أنه طريق الكتاب والسنة: طريق الاتباع!! فكان مما قاله: ( ... وجدت في جوّ الحارث بن أسد المحاسبيّ الهدوء النفسي، أو الطمأنينة الروحية، ولكنه هدوء اليقين، وطمأنينة الثقة بما يعلم ... ) (ص.62).
وهذا الكلام من الدكتور عبد الحليم يدلّ على جهل بالسنة وعدم اطلاع على آثار السلف الذين ذمّوا الحارث المحاسبي ونهوا المسلمين عن مخالطته. وقد تعلّق به الدكتور فسبّب له هذا الانحراف والعياذ بالله.
ذكر الخطيب البغداديّ بسنده إلى سعيد بن عمر البردعي قال: (شهدت أبا زرعة -وقد سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه- فقال للسائل: إيّاك وهذه الكتب!! هذه كتب بدع وضلالات! عليك بالأثر - إلى الكتاب والسنة، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب، قيل له: في هذه عبرة،(10/487)
فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك ابن أنس وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس، وهذه الأشياء! هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم! يأتون مرة بالحارث المحاسبي وعدد أسماء بعض الصوفية. ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع!).
ويقول الحافظ ابن رجب في كتابه 'جامع العلوم والحكم' (ص.223): (وإنما ذمّ أحمد وغيره المتكلمين -ومنهم الحارث المحاسبي- على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي، بل إلى مجرد رأي وذوق، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي) ومن يطالع كتاب 'تلبيس إبليس' للإمام ابن الجوزي وما كتبه عن الحارث المحاسبي وانحرافاته، يجد العجب العجاب!
مما سبق ندرك خطر بعض الكتب التي ليست من الإسلام والتي يجب تحريقها ونسفها في اليمّ نسفاً، لإنقاذ المسلمين منها، فهي من أهم أسباب تخديرهم وضلالهم وضعفهم واستيلاء الأعداء عليهم، فأذاقوهم صنوف العذاب.
كما هي من أسباب جلب الطعن بالإسلام من قبل خصومه، فينسبون إليه ما هو منه براء!. (1)
وله آثار سلفية أخرى نفع الله بها نفعاً عظيماً. فجزاه الله خيراً.
موقفه من الجهمية:
- قال: ومما يؤسف له ويبعث في النفس الأسى أن المسائل التي يدور
_________
(1) كتب ليست من الإسلام (ص.87 - 97).(10/488)
عليها علم الكلام قديماً، قد زالت من الأذهان كخلق القرآن والجوهر والجسم ومسألة ذات الله تعالى وصفاته التي ذكرتها سابقاً، ونشأت مشكلات أخرى في العصور المتأخرة كقانون الصدفة والمادة، وهل هي ثابتة أم تزول، وقضية النشوء والتطور وغير ذلك. فمن الحماقة والجنون دراسة علم الكلام القديم وإهمال البحث في هذه الموضوعات. (1)
- وقال أيضاً: ومن أعظم جرائم علماء الكلام فتح الباب على مصراعيه للمؤولين من الفلاسفة، فراحوا يدعون أن للقرآن ظاهراً وهو للعوام، وباطناً وهو للخواص، وأن هناك شريعة وحقيقة. فخرجوا من الإسلام وهم يظنون أنهم لا يزالون مسلمين!
وقد كان هذا التأويل الذي بدأ من عند علماء الكلام أعظم نكبة أصابت المسلمين، وأبعدتهم عن دينهم، فانقسموا إلى فرق متعددة ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار! وواحدة في الجنة، وهي: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2).
وقد حكي أن ملكاً كتب إلى عماله في البلدان أني قادم عليكم، فاعملوا كذا وكذا ففعلوا إلا واحداً منهم. فإنه قعد يفكر في الكتاب فيقول: أترى كتبه بمداد أو بحبر؟ أترى كتبه قائماً أو قاعداً؟ فما زال يتفكر حتى قدم الملك، ولم يعمل مما أمره به شيئاً! فأحسن جوائز الكل وقتل هذا!!
_________
(1) كتب ليست من الإسلام (ص.111).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).(10/489)
ومن أعظم الأدلة على بطلان علم الكلام اختلاف المتكلمين، فقد انقسموا إلى معتزلة وماتريدية وأشاعرة وغيرهم. فلو كان علم الكلام يؤدي إلى الحق، لكانوا جميعاً في صف واحد، ولما كفر بعضهم بعضاً. وأغلبهم -ويا للأسف- وقعوا في حمأة التأويل فأوّلوا وعطّلوا صفات الله سبحانه، خلافاً لرأي السلف الذين لا يؤولون ولا يعطلون ولا يشبهون ولا يجسمون. بل يفوضون ويصفون الله سبحانه كما وصف به نفسه وكما وصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون تشبيه ولا تأويل. وقد سئل الإمام مالك عن قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة. (2)
- وله ردٌّ طيّب على كتاب 'الفلسفة والحقيقة' لعبد الحليم محمود.
محمد صفوت الشوادفي (3) (1421 هـ)
محمد صفوت أحمد يوسف الشوادفي، ولد في قرية الشغانبة من ضواحي مدينة بلبيس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، تربى في أحضان أسرة أصيلة متأصلة على مبادئ الشريعة الغراء تخرج في كلية الاقتصاد وحصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصادية سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لثمان وسبعين وتسعمائة وألف
_________
(1) الأعراف الآية (54).
(2) كتب ليست من الإسلام (ص.114 - 115).
(3) 'صفوت الشوادفي في ركب العلماء' لأحمد سليمان ومجلة الفرقان (العدد 125/ص.45) ومجلة التوحيد السنة التاسعة والعشرون العدد السادس جمادى الآخرة إحدى وعشرين وأربعمائة وألف.(10/490)
ميلادي، وكان أحد قادة الصحوة الإسلامية، حيث قاد الدعوة بكلية الاقتصاد أيام أن كان طالبا فيها، وألف مجموعة كانت تدعو العلماء إلى الكلية لإلقاء المحاضرات الدينية، ولما تخرج من الجامعة لم يلبث في الوظيفة إلا قليلا، ثم سافر إلى السعودية حيث سمع من شيوخ أمثال فضيلة الشيخ بن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، وكانت له علاقات طيبة معهم، وقد كان لهذا السماع أثره في تكوين عناصر فكره الديني، فقد أفاد كثيرا في تأصيل المسائل الفقهية، فجمع رحمه الله بين ترتيب الفكر وتنظيمه، وبين تأصيل المنهج وتقويمه.
ولم يكتف الشيخ -رحمه الله- بما قرأ أو سمع في السعودية، بل التحق بكلية أصول الدين بالزقازيق، رغبة في الحصول على الإجازة العالية.
سكن مدينة بلبيس ورأس فرع جماعة أنصار السنة المحمدية ببلبيس، وقد كان له جهد مشكور في بناء مجمع التوحيد ببلبيس، بل كانت له بصمات واضحة في الدعوة وأعمال البر، ولما انتقل إلى مدينة العاشر من رمضان أنشأ فرعا للجماعة.
اختير عضوا في مجلس إدارة المركز العام لجماعة أنصار السنة المحمدية عام إحدى عشر وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لإحدى وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي، وعهد إليه تنظيم إدارة الدعوة.
كان -رحمه الله- حريصا على اتصال الجماعة بمشيخة الأزهر في عهد شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق رحمه الله وبعده، فأعاد بذلك مسيرة الشيخ حامد الفقي وعبد الرحمن الوكيل وخليل هراس، حيث كانت لهم(10/491)
علاقات طيبة بشيوخ الأزهر وعلمائه.
توفي رحمه الله مساء ليلة الجمعة سبعة عشر جمادى الأولى لسنة تسعة عشر وأربعمائة وألف، إثر حادث أليم.
موقفه من المبتدعة:
كان رحمه الله رئيس تحرير مجلة التوحيد، ومن خلال هذه المجلة كان يطلع القراء على بديع مقالاته التي تلمس منها غيرة على هذا الدين، وشفقة على المؤمنين العازفين عن كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فكانت له مواقف مشرفة منها:
قال رحمه الله: فإننا ننبه إلى قضيتين:
الأولى: أن دعوة التمسك بالكتاب والسنة يدعيها كل الفرق والطوائف والطرق الصوفية والجماعات والجمعيات، وفي هؤلاء من هو صادق ومن هو كاذب .. وعلامة الصدق: مطابقة القول والفعل بمعنى اتباع السنة قولا وعملا لا قولا فقط.
الثانية: كل من دعا إلى سنة أو حارب بدعة أو حذر من ضلالة يرميه خصومه بأنه يفرق الأمة؟!! فإذا لم تكن الدعوة إلى الله قائمة على الدعوة إلى السنة والتحذير من البدعة وتصحيح المفاهيم وتوضيح العقيدة الصحيحة فعلى أي شيء تقوم الدعوة؟!! (1)
موقفه من المشركين:
خصص رحمه الله في مجلة التوحيد حلقات متواليات يبين فيها كيد
_________
(1) نقلا عن رسالة صفوت الشوادفي في ركب العلماء (ص.20).(10/492)
اليهود ابتداء من نشأتهم إلى يومنا هذا، ومحذرا من خطرهم وسياستهم الدفينة البغض للإسلام والمسلمين. كما فضح رحمه الله العلمانية وبين خطرها على الأمة المحمدية، فقال: العلمانية لا صلة لها بالعلم من قريب أو بعيد!! بل هي ضد العلم وضد الدين، وقد جاء تعريفها في دائرة المعارف البريطانية بأنها: (حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس، وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها)!. وهي وبهذا التعريف الواضح لا تهدف فقط إلى فصل الدين عن الدولة، وإنما تهدف إلى فصل الدين عن الحياة كلها، أو بمعنى أكثر وضوحا تهدف إلى القضاء على الدين، وبهذا يكون تعريفها الصحيح هو (العلمانية حركة اجتماعية تهدف إلى القضاء على الدين، وإقامة المجتمع اللاديني). وقد تسللت العلمانية إلى كثير من بلاد المسلمين خاصة في مصر! وتهدف العلمانية في مصر إلى القضاء على الإسلام بصورة متدرجة! تحت شعار محاربة التطرف! وكل من وقف في طريقهم أو اعترض على أقوالهم فهو متطرف، ولو كان شيخ الأزهر!!.
ويتبع العلمانيون نفس الخطة التي وضعها ستالين للقضاء على الدين في الاتحاد السوفيتي سابقا، وباءت بالفشل!!.
وتنقسم خطة ستالين إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مهادنة الدين، وإيهام أصحابه أنهم أحرار في عقائدهم، وقد انتهت هذه المرحلة التي كانت أقلام العلمانية فيها تظهر احترام الإسلام، وتوقير علماء الأزهر، وتكتفي فقط بالكتابة عن الحب، والإثارة الجنسية، والتماثيل، والفنون، والأفلام، والأغاني ... إلخ.(10/493)
المرحلة الثانية: محاولة تنقيح الدين، وتطويره! ومعنى ذلك تفسيره تفسيرا ماركسيا، مستغلين النقاط التي تلتقي فيها الماركسية مع الدين. وفي هذه المرحلة أيضا يتم إظهار الاهتمام بالدين ورجاله. وهي نفس الخطة التي اتبعتها الأقلام العلمانية لإقناع الرأي العام بأن الديمقراطية من الإسلام! وأن الإسلام والاشتراكية وجهان لعملة واحدة!!.
والإسلام بريء من الديمقراطية، فإنها ضلال وفساد، وأما الإسلام فيرتكز نظامه السياسي على الشورى، وهي تختلف تماما عن الديمقراطية من جميع الوجوه، ونظامه الاقتصادي متميز، فهو ليس اشتراكيا، ولا رأسماليا!!.
المرحلة الثالثة: ادعاء وإظهار معايب الدين، وبعده عن الحقائق العلمية، ومهاجمته، وادعاء أنه لا يفي بحاجات البشر، ومتطلبات العصر! وكذلك الاستهزاء برجال الدين، والسخرية من العلماء! وهذه المرحلة هي التي نعيشها اليوم، ونسأل الله السلامة.
ويمكن لكل مسلم أن يتابع هذا التدرج ويدرك خطورته.
إلى أن قال: وهم الآن يرفعون شعارين يحاربون بهما الإسلام.
الأول منهما: الدعوة إلى حرية الرأي في الدين. وحقيقة الأمر أنهم يهدفون إلى الطعن في الدين، والصد عن سبيله بأقلامهم وألسنتهم، ولأنهم لا يستطيعون الإعلان عن ذلك حتى لا ينكشف أمرهم، ولا يفتضح مكنون صدورهم، فهم يبالغون في الدعوة إلى حرية الرأي في الدين!.
وقد كتبوا في الآونة الأخيرة كلاما هو الكفر بعينه {قَدْ بَدَتِ(10/494)
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (1).
وأما الثاني: فدعوة خبيثة إلى عدم احترام العلماء، وإسقاط هيبتهم من نفوس المسلمين. والهدف هو القضاء على الدين من خلال علمائه بالتقليل من شأنهم، والحط من قدرهم.
والعلماء هم قادة الأمة، وسراجها المنير ولكن هؤلاء لا يعلمون! (2).
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله: فإنه من المعلوم أن الشيعة أكثر فرق الأمة الضالة ضلالا وكفرا، وعقيدتهم تشهد عليهم بذلك؛ حيث يكتشف من يقف عليها أن الكذب والبهتان ركن من أركان الإيمان عندهم!! ومع ذلك فمازال في المسلمين من هو مخدوع بهم، بل قد يتصور -خطأ- أن بالإمكان حدوث تقارب بينهم وبين أهل السنة!! والحق أن السنة والشيعة ضدان لا يجتمعان ونقيضان لا يلتقيان! وإذا أردت شاهدا على ذلك فإليك البيان ... (3)
ثم ذكر اعتقادهم في القرآن والسنة والصحابة وغير ذلك.
موقفه من الصوفية:
- قال: وأما الصوفية فقد حكم عليها العلماء قديما وحديثا بالبدعة والضلال، وحاصل كلامهم أن الصوفية قد أدخلت على الدين ما ليس منه،
_________
(1) آل عمران الآية (118).
(2) مجلة التوحيد (السنة الثالثة والعشرون العدد الخامس 1415هـ/ص.7 - 12).
(3) مجلة التوحيد (السنة الثانية والعشرون العدد السادس 1415هـ/ص.6 - 9).(10/495)
وابتدعت فيه بدعا كثيرة تزداد بمرور العصور وتعاقب السنين. (1)
- وقال: فإن الطرق الصوفية قد جمعت في صفوفها من يعبد الشيطان، ويسمع له ويطيع! وإليك البيان:
بالقرب من ميدان السيدة زينب، رضي الله عنها، يوجد مقر لطريقة صوفية سرية باطنية، شيخها يسمى (عمر أمين حسنين)، مات منذ ست سنوات، ويسمون أنفسهم الطريقة البيومية العمرية نسبة إلى شيخ الطريقة، ومقر الطريقة شقة فاخرة بأغلى وأحلى أنواع الأثاث عامرة، وتقدم فيها للمريدين أطعمة شهية فاخرة لم ترها عين الفقراء في مصر، ولا سمعت بها آذانهم، ولا خطرت على قلوبهم! وهذا الطعام والشراب والأثاث الذي يزيد في مستواه على فنادق السبعة نجوم دليل قاطع على الزهد الذي تتغنى به الصوفية في الماضي والحاضر! وهذه الطريقة يجتمع فيها الشرك مع الموسيقى، والغناء مع الاختلاط، والخرافات مع الضلالات، والبدع مع الأطعمة الشهية، التي تجعل لعاب المريدين يسيل أنهارا، حتى يفنى الأكل في البطن حسب نظرية الفناء الصوفي!! ونحن نسوق هنا بعض الوقائع التي تقع في مقر الطريقة يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع، فإن الدعوى لا تقبل إلا ببينة. (2)
- كما أنه رحمه الله تحدى صوفية مصر بعشرين سؤالا أن يجيبوا عنها، يتبين بها خلطهم وتناقضهم، فقال رحمه الله بعد ذكر هذه الأسئلة العشرين: وإن مما يلفت النظر ويثير الانتباه أن قراء (عقيدتي) قد لاحظوا بوضوح
_________
(1) مجلة التوحيد (السنة الثانية والعشرون العدد التاسع 1414هـ/ص.7).
(2) مجلة التوحيد (السنة الخامسة والعشرون العدد الحادي عشر 1417هـ/ص.6 - 7).(10/496)
وجلاء أن الصوفية قد فشلت فشلا ذريعا في الرد على الأسئلة العشرين، وعن كشف الغموض والطلاسم، وعلامات الاستفهام الكثيرة التي تحيط بالطرق الصوفية .. وقد خرجت جميع الأقلام الصوفية عن الموضوع، وانحرفت بعيدا عنه ثلاثة اتجاهات:
الأول: اتجاه السب والشتم واتهام النيات .. وهذا قد تخصص فيه الأخ محمد المهنا من العشيرة المحمدية، وقلده في بعض ذلك تلميذ الطريقة العزمية غفر الله لهما.
الثاني: اتجاه ترديد محاسن التصوف وفضله على الإسلام، ومحاولة تفهيم القراء أن الله حفظ دينه بالصوفية وأن الأمة المسلمة لا حياة لها إلا به!!. وهذا الاتجاه تتبناه كل الطرق.
الثالث: فهو الدعوة إلى الحوار والجلوس على مائدة البحث والمناظرة، وقد تبناه شيخ الطريقة العزمية، ونحن نرحب بهذا الحوار؛ بل ننتظره منذ فترة وقد قمنا على الفور بالاتصال ببعض علماء الأزهر الكبار ليتولى ترتيب هذا اللقاء وتنسيقه على الوجه الأكمل .. تحت رعاية جريدة عقيدتي. (1)
موقفه من الجهمية:
قال: عقيدتنا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكذلك الإيمان بكل ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة. ونعتقد أن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى التي
_________
(1) صفوت الشوادفي في ركب العلماء (ص.17 - 18).(10/497)
وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل؛ وأنه -سبحانه- استوى على العرش، أي علا وارتفع، كما فسره السلف بكيفية لا نعلمها.
وأنه -سبحانه- ينزل إلى السماء الدنيا كما أخبرت بذلك السنة الصحيحة بكيفية لا نعلمها، والله في السماء، وعلمه في كل مكان! كما نؤمن أنه -سبحانه- خلق آدم بيده، وأن يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، كما نثبت له -سبحانه- وجها، وسمعا، وبصرا، وعلما، وقدرة، وقوة، وعزة، وكلاما، وغير ذلك من صفاته، على الوجه الذي يليق به، فإنه -جل شأنه-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1).
ونحن نثبت لله كل صفة أثبتها لنفسه، كما ننفي عنه -سبحانه- كل صفة نفاها عن نفسه، ونسكت عما سكتت عنه النصوص، فإذا قيل: هل لله جسم؟ نقول: هذا مسكوت عنه فلا نثبته، ولا ننفيه، بل نسكت عنه طاعة لله. (2)
مقبل بن هادي الوادعي (3) (1422 هـ)
الشيخ الإمام مقبل بن هادي بن مقبل بن قائدة الهمداني الوادعي الخلالي، من قبيلة آل راشد. ولد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف تقريبا.
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) مجلة التوحيد (السنة الثالثة والعشرون العدد السادس 1418هـ/ص.6 - 7).
(3) 'ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي' بقلم المترجَم له.(10/498)
بدأ الشيخ دراسته قي قريته دماج، حيث تعلم مبادئ الخط والكتابة بالمكتب، ثم انتقل إلى جامع الهادي لطلب العلم فلم يساعد عليه، ثم رحل إلى بلاد الحرمين ونجد، فكان يسمع من بعض الواعظين والدعاة، واستنصحهم في شراء بعض الكتب، فأرشدوه إلى صحيح البخاري وبلوغ المرام ورياض الصالحين وشروح كتاب التوحيد وغيرها من الكتب وبعد زمن عاد إلى بلده، فأنكر عليهم ما وجدهم فيه من البدع والضلالات، فحاربوه بشتى الوسائل.
وبعد ذلك درس في جامع الهادي بمدينة صعدة، ثم توجه إلى أرض الحرمين وسكن بنجد، فأخذ عن الشيخ محمد بن سنان الحدائي والشيخ يحيى ابن عثمان الباكستاني. ثم فتح معهد الحرم المكي، فتقدم للاختبار فنجح، وفيه أخذ عن عدة مشايخ منهم الشيخ عبد العزيز السبيل والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد وغيرهما.
ثم انتقل الشيخ إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة، فدرس بكلية الدعوة وأصول الدين، ومن أبرز من درس عنه فيها الشيخ السيد محمد الحكيم والشيخ محمود عبد الوهاب فائد المصريان. كما كان رحمه الله يحضر دروس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ الألباني رحمهما الله وغيرهما.
ثم عاد رحمه الله إلى اليمن، فتوافد عليه طلاب العلم من شتى أنحاء العالم للاستفادة وتحصيل العلم الشرعي.
من مؤلفاته رحمه الله: 'الطليعة في الرد على غلاة الشيعة'، و'الصحيح المسند من أسباب النزول'، و'شرعية الصلاة في النعال' و'تحريم الخضاب(10/499)
بالسواد'، وغيرها من الكتب النافعة.
توفي رحمه الله في ثلاثين ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف بمدينة جدة، ودفن بمكة المكرمة بناء على وصيته.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله: وما اختلفنا فيه ينبغي أن نرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وأن نترك العادات والتقاليد التي تخالف الكتاب والسنة وننبذها. (1)
- وقال رحمه الله مبينا خطورة التقليد: المذاهب الأربعة ما أنزل الله بها من سلطان وما ورد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذاك يكون شافعيا وذاك يكون حنبليا إلى آخر ذلك، بل قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (3) وقال سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (4). وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
_________
(1) إجابة السائل (66).
(2) الشورى الآية (10).
(3) النساء الآية (59).
(4) الأعراف الآية (3).(10/500)
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (1). فهذه المذاهب فرقت الناس، وقد تحدينا غير واحد من المتعصبين لهذه المذاهب أن يأتوا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن المسلم ملزم بالتعبد بمذهب من هذه المذاهب، بل جاء القرآن على كراهة هذا فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2)
ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» (3) أو بهذا المعنى. ففي هذا التحذير؛ وأهل الكتاب اختلفوا، فنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يحذرنا من أن نسلك سبيلهم في الاختلاف فقال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة شبرا بشبروذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» (4) أو بهذا المعنى، وهو وارد في الصحيح من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد والمعنى متقارب، فهذه المذاهب فرقت الناس وأدخلت بينهم البغضاء والعداوة، وما تعبدنا الله إلا بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مبتدعة ما جاءت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما حدثت هذه البدعة إلا بعد القرون المفضلة، ولقد أحسن محمد ابن إسماعيل الأمير إذ يقول:
_________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) الأنعام الآية (159) ..
(3) تقدم تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).
(4) تقدم تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).(10/501)
وأقبح من كل ابتداع سمعته ... وأنكاه للقلب المولع للرشد
مذاهب من رام الخلاف لبعضها ... يعض بأنياب الأساود والأسد
ويعزي إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي
وليس له ذنب سوى أنه غدا ... يتابع قول الله في الحل والعقد
لئن عده الجهال ذنبا فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي
على ما جعلتم أيها الناس ديننا ... لأربعة لا شك في فضلهم عندي
هم علماء الأرض شرقا ومغربا ... ولكن تقليدهم في غد لا يجدي
ولا زعموا حاشاهموا أن قولهم ... دليل فيستهدي به كل من يهدي
بل صرحوا أنا نقابل قولهم ... إذا خالف المنصوص بالقدح والرد
فأصبح التعصب لهذه المذاهب شنيعا، تقدم أقوال أصحاب المذاهب على كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال منذر بن سعيد الأندلسي قال:
عذيري من قوم يقولون كلما ... طلبت دليلا هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا قال سحنون مثله ... ومن لم يقل ما قاله فهو آفك
فإن زدت قالوا قال أشهب مثله ... وقد كان لا تخفى عليه المسالك
فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا ... وقالوا جميعا أنت قرن مماحك
فإن قلت قد قال الرسول فقولهم ... أتت مالكا في ترك ذاك المسالك
لم يزل العلماء يتوجعون من التقليد الأعمى الذي باعد الناس عن كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحال بين الناس وبين كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ألف العلماء المؤلفات القيمة في التحذير من التقليد منها:(10/502)
جزء كبير لابن القيم في كتابه 'إعلام الموقعين' ومنها كتاب للشوكاني 'القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد' ولم يزل علماء السنة يحذرون من هذا التقليد الذي حال بين الناس وبين كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- ثم قال: لسنا نقول: إن كتب الأئمة الأربعة لا يستفاد منها ولا ينتفع بها، فالحمد لله نحن نقتني كتب الأئمة الأربعة ونستفيد منها، لكن ننصح إخواننا بالإقبال على كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب الأئمة الأربعة تقتنى وتكون مرجعا كغيرها من المراجع، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
فنحن وإن كنا نقول: إننا لسنا متعبدين بأفهامهم فنحن نقول أيضا: إن أفهام الأئمة وأفهام الصحابة خير لنا من أفهامنا، لكنا لسنا متعبدين بأفهامهم، وفي كثير من المسائل قد اختلفوا رحمهم الله تعالى، وتعصب المتأخرون لهم غاية التعصب حتى قال أبو عبد الله البوشنجي:
ومن شعب الإيمان حب ابن شافع ... وفرض أكيد حبه لا تطوع
أنا شافعي ما حييت وإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتشفعوا
أبو عبد الله البوشنجي من رجال تهذيب التهذيب وتعقبه أو خلفه: عبد الله بن محمد بن إسماعيل الهروي (حنبلي) فهو يقول:
أنا حنبلي ما حييت وإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
هذا التعصب الأعمى لسنا منه ومنه نحذر، وكفانا كتاب الله وسنة
_________
(1) إجابة السائل (317 - 319).(10/503)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأئمة نستفيد من أفهامهم ونستعين بالله سبحانه وتعالى ثم بأفهامهم على فهم الكتاب والسنة، لأنهم لديهم من الفهم ومن الاطلاع والعلم ما ليس لدينا، وليس معناه أننا متعبدون بأفهامهم. والله المستعان. (1)
- وقد سئل عن حكم الشرع في الذي يرفض العمل بالسنة ويقصر العمل والحجة على القرآن؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فحكم هذا الذي يقصر العمل على القرآن ويرفض العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كافر؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} (2) ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {بِالْبَيِّنَاتِ والزبر وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (3) ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول كما في
_________
(1) إجابة السائل (334 - 335).
(2) الحشر الآية (7).
(3) النحل الآية (44).(10/504)
الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (1) ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (2)، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (3)،
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (4).
هؤلاء لهم شبهة وهي شبهة قديمة، وهي حديث موضوع باطل: "إذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فهو مني وأنا قلته وما لم يوافق فليس مني ولم أقله"، الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول إنه سند مجهول فالحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه 'إرشاد الفحول' ذكر عن يحيى بن معين، وعبد الرحمن بن مهدي أنهما قالا إن الحديث مما وضعته الزنادقة ليردوا به السنن.
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ).
(2) النساء الآية (65).
(3) النور الآية (63) ..
(4) الأحزاب الآية (36).(10/505)
فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستغنى عنها، فتأتي مؤكدة للقرآن، وتأتي مبينة للقرآن، وتأتي أيضا ناسخة للقرآن على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ فالسنة مبينة ومخصصة وتأتي أيضا بشرع مستقل. فالنهي عن لحوم الحمر الأهلية لم يرد في كتاب الله، والنهي عن أكل كل ذي ناب من السبع وذي مخلب من الطير لم يرد في كتاب الله، وهكذا أشياء كثيرة لم ترد في كتاب الله فالسنة تأتي بشرع مستقل وجب قبوله والله المستعان. وتفصيل الصلاة والزكاة مأخوذ من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- وسئل رحمه الله: ما هو رأيكم فيمن يجعل هذه الجماعات والأحزاب من أهل البدع والفرق ويقول: إنهم يدخلون تحت حديث الافتراق؟
فأجاب: هذا هو الذي يظهر، لأنها فرقت كلمة المسلمين وخصوصا من كان منهم صوفيا أو شيعيا أو يوالي ويعادي من أجل الحزب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما في سنن أبي داود من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة» (2) وجاء بيانها في سنن أبي داود أيضا من حديث معاوية رضي الله عنه بأنها الجماعة (3).
فهذه التفرقة لوحدة المسلمين تعتبر تفرقة، ثم بعد ذلك يصدر كتاب في
_________
(1) إجابة السائل (388 - 390).
(2) تقدم تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).
(3) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).(10/506)
هذه الأيام أن لا بأس بتعدد الجماعات، بل به بأس وبأس وبأس، فإن الله عزوجل يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (1)، ويقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} (2)، فهم يريدون أن يستروا على أنفسهم.
فأعداء الإسلام يدأبون ليلا ونهارا في تنفيذ مخططاتهم والمسلمون متفرقون، لكن هل الفرقة من قبل أهل السنة؟ لا، أهل السنة يقولون لهم: نحن نريد أن نتبع نحن وأنتم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأولئك يقولون: نحن نريد أن نزاحم الشيوعيين والبعثيين والناصريين، أنحن مفوضون في هذا الدين؟ الله عزوجل يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} (3). وقد بلغني أن شخصا أقام اجتماعا في جبل الأهنوم وسئل: ما رأيك في الأحزاب؟ قال: بيننا وبينهم اتفاق ألا يتكلم بعضنا في بعض.
فهذه هي آثار الحزبية، وآثار الكراسي والدنيا؛ فأنصح كل طالب علم أن يبتعد عن هذه الحزبية، وأن يحذر المسلمين منها بالكتابة والخطابة
_________
(1) الأنعام الآية (159).
(2) الأنبياء الآية (92).
(3) الإسراء الآيتان (74و75).(10/507)
والأشرطة وبالمناقشة، والمناظرة العلنية حتى ينكشف للمجتمع أنهم ليسوا متمسكين بهذا الدين كما ينبغي.
فالمسألة مسألة كراسي ومصالح، أنحن نستطيع أن ننصر أنفسنا حتى نكون أو نعمل بما نريد، لا، الله عزوجل يقول في كتابه الكريم: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} (1)، ويقول أيضا في كتابه الكريم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (2). فلا نستطيع أن ننصر أنفسنا حتى نتحذلق ونكتم بعض العلم، فلا تتكلم في موضوع كذا وكذا ولا تتكلم في موضوع كذا وكذا، من أجل أن الناس ينفرون، ورب العزة يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (3)، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وضائقٌ بِهِ صَدْرُكَ} (4).
فلسنا مفوضين في هذا الدين حتى نؤجل بعض القضايا ونسكت عن بعض الأمور، فربما بعض الأمور تكون شركية، ويقولون: اسكت عنها وأخرها حتى ننقض ونثب على الكرسي، ثم ماذا تعملون إذا وثبتم على
_________
(1) آل عمران الآية (160).
(2) محمد الآية (7).
(3) المائدة الآية (67).
(4) هود الآية (12).(10/508)
الكرسي؟ تعترفون بقرارات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، وبغيرها والله المستعان. (1)
من آثاره السلفية:
1 - 'المخرج من الفتنة'.
2 - 'إجابة السائل على أهم المسائل'.
3 - 'المصارعة'.
4 - 'قمع المعاند وزجر الحاقد الحاسد'.
5 - 'غارة الأشرطة على أهل الجهل والسفسطة'.
6 - 'الصحيح المسند من دلائل النبوة'.
7 - 'رياض الجنة في الرد على أعداء السنة'.
موقفه من المشركين:
سئل رحمه الله: ما حكم دعاء الحسين المقبور بريدة وغيره من الأموات وكذا النذر له؟ وما حكم من أتى إليه من الجاهلين ليحصل به الأولاد؟
فأجاب رحمه الله: دعاء الحسين وغيره من الأموات يعتبر شركا لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} (2)، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ
_________
(1) قمع المعاند (2/ 386 - 388).
(2) المؤمنون الآية (117).(10/509)
اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دعائهم غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} (1)، وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)} (2).
المقبور سواء أكان الحسين أم غيره لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (3) ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} (4) ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ
_________
(1) الأحقاف الآيتان (5و6).
(2) الرعد الآية (14).
(3) النمل الآية (62).
(4) الحج الآية (73).(10/510)
هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} (1) فالحسين لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ودعاؤه يعتبر شركا، الذي يدعوه بعد أن يبين له يعتبر مشركا، وإذا كانت امرأته لا تدعو الحسين فهي تعتبر حراما عليه، وإذا كانت المرأة تدعو الحسين بعد ما تبلغ وهو لا يدعوه فهو يعتبر محرما عليها، لأنه لا يجوز لمسلم أن يتزوج بمشركة، ولا المشرك أن يتزوج بمسلمة، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2)
هكذا أيضا النذر للحسين وللهادي وللحسين الذي يزعمون أن رأسه مقبور بمصر، وغيرهم النذر باطل، معصية لا يجوز الوفاء به ولا يحل أن يستلمه أحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» وهو نذر معصية والرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير ولكن يستخرج به من البخيل» (3) وإن كان هذا أعم من الدعوى، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِن اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (4)، ويقول في مدح الموفين بالنذر -مما يدل على أنه عبادة-: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} (5)؛ وامرأة عمران
_________
(1) الزمر الآية (38).
(2) الممتحنة الآية (10) ..
(3) أخرجه: البخاري (11/ 705/6693) ومسلم (3/ 1261/1736 (4)) وأبو داود (3/ 591 - 592/ 3287) والنسائي (7/ 21/3809) وابن ماجه (1/ 686/2122) واللفظ لمسلم والنسائي. كلهم من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(4) البقرة الآية (270).
(5) الإنسان الآية (7).(10/511)
تقول: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (1)، فنذرت لله، ما نذرت للحسين ولا للهادي ولا لزعطان ولا لفلتان، نذرت لمن؟ لله عزوجل.
النذر يكون لله عزوجل، وأما النذر وكذلك الخوف من الميت إذا لم ينذر له، أو إذا ظن أنه إذا نذر له سيعطيه الأولاد أو يفرج عنه الكرب هذا يعتبر شركا.
وأما بالنسبة لمن أتى إليه من الجاهلين ليحصل لهم الأولاد هذا العمل يعتبر شركا لأن الله هو الذي يعطي الأولاد، لكن بقي الجاهل المسكين الذي لا يدري فلا يحكم عليه بالشرك إلا بعد أن يبلغ، فنحن لسنا نقول: إن آباءنا ومن قبلنا كانوا مشركين، نقول: إن العمل الذي كانوا يعملونه يعد شركا لكنهم كانوا جاهلين، ويكونون إن شاء الله معذورين بجهلهم لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (2) ويقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (3) والله المستعان. (4)
- وقال رحمه الله: وهكذا اعتقاده أن الأولياء يعلمون الغيب -أيضا- يعتبر شركا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي
_________
(1) آل عمران الآية (35).
(2) الإسراء الآية (15).
(3) التوبة الآية (115).
(4) إجابة السائل (194 - 196).(10/512)
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} (1)، ويقول سبحانه وتعالى: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (2)، ويقول سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} (3). فالذي يعتقد أن هناك أحدا يعلم الغيب غير الله سبحانه وتعالى يعتبر مشركا، وقد يقول القائل: إن المنجمين أو الكهان يخبرون ببعض الأشياء فيصدقون. هؤلاء أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة (4) أنهم يكذبون مائة كذبة ويسترقون من السمع كلمة واحدة ثم يقول الناس: ألم يقل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، أي: يصدقه الناس في مائة كذبة من أجل أنه قال كلمة واحدة صدقا. (5)
من آثاره السلفية:
1 - 'ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر'.
2 - 'السيوف الباترة لإلحاد الشيوعية الكافرة'.
3 - 'حكم القبة المبنية على قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - '.
موقفه من الرافضة:
لقد سخر الشيخ رحمه الله قلمه للرد على الروافض، فألف فيهم
_________
(1) النمل الآية (65).
(2) الأنعام الآية (59).
(3) الجن الآيتان (26و27).
(4) تقدم قريبا ضمن مواقف ابن باز سنة (1420هـ).
(5) إجابة السائل (ص.203).(10/513)
مؤلفات منها:
1 - 'الإلحاد الخميني في أرض الحرمين'.
2 - 'صعقة الزلزال لنسف أهل الرفض والاعتزال'.
3 - 'إرشاد ذوي الفطن لإبعاد غلاة الروافض من اليمن'.
4 - 'الطليعة في الرد على غلاة الشيعة'.
- قال رحمه الله في 'إجابة السائل': والمذهب الشيعي، هو مذهب مبتدع كسائر المذاهب الأخرى التي سمعتموها؛ بل هو أبعد من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تلكم المذاهب، فالمذهب الشيعي خصوصاً في زماننا هذا هو يبطل علم السنة -سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعتمد على هواه وعلى ما قال يحيى بن الحسين، وما قال: فلان وفلان، حتى إن نشوان الحميري يتوجع من هذا ويقول:
إذا جادلت بالقرآن خصمي ... أجاب مجادلاً بكلام يحيى
فقلت كلام ربك عنه وحي ... أتجعل قول يحيى عنه وحياً
المذهب الهادوي بعيد من السنة؛ لكن ما تعبدنا الله بمذهب زيدي ولا بمذهب هادوي، تعبدنا الله بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهذه كما رأيتم أورثت العداوة، وأورثت البغضاء بين المسلمين. (1)
- وقال: وهكذا الرافضة يزعمون أنه لا يدخل الجنة إلا أئمتهم وشيعتهم، ومن ثَمَّ يحكمون بالكفر على سائر الفرق الإسلامية، ومن حكم
_________
(1) إجابة السائل (ص.319).(10/514)
بالكفر على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلن يتحاشى من غيرهما، وما رَدُّهم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما رواه أئمة أهل السنة إلا من هذا الباب، فهم يعتقدون أن من عداهم كفار كفراً صريحاً أو كفر تأويل، وناهيك بقوم كفّروا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يجرءون على تكفير من عداهم من المسلمين!! وأنت إذا نظرت إلى مذاهب الرافضة وجدتهم يأخذون من المذاهب أرداها، فمذهبهم في التكفير أردى من الخوارج، وفي الأسماء والصفات تابعون لأسيادهم المعتزلة، وفي الغلو في أهل البيت إليهم المنتهى في ذلك.
وجدير بمن حارب علم الكتاب والسنة أن يكون متخبطا تائهاً، وهم أيضاً دعاة فتن وضلال، ولا يعصمك من ترهاتهم إلا الله سبحانه وتعالى، ثم التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة عقائدهم الخبيثة، وحسبنا الله ونعم الوكيل. (1)
- وقال أيضاً: ولا تظنن أن فتنة عبد الله بن سبأ وعلي بن الفضل قد انقطعتا، فهذه الرافضة بإيران آلة لأعداء الإسلام أزعجوا المسلمين حتى في تلك الأيام المباركة والمشاعر المحترمة في أيام الحج وفي مكة ومنى وعرفة، الناس يتقربون إلى الله بذكره وأولئك الحمقى أشباه الأنعام يدندنون بذكر إمام الضلالة الخميني ويهتفون بهتافات كاذبة. (2)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد
_________
(1) الإلحاد الخميني (ص.203).
(2) الإلحاد الخميني (ص.154).(10/515)
وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فإن بدعة التصوف حدثت بعد مائتي سنة من الهجرة، ولم تكن موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد الصحابة والتابعين. ثم إنهم اختلفوا في نسبة التصوف، فمنهم من يقول: إنها نسبة إلى صوفة، وهي قبيلة من الجاهلية كانت تتعبد، وكل من تعبد وانقطع نسب إليها. ومنهم من يقول: إنه نسبة إلى الصفة، وهذا ليس بصحيح إذ لو كانت نسبة إلى الصفة لقيل فيه: صفي. ومنهم من يقول: إنه نسبة إلى الصفاء، وهذا أيضا ليس بصحيح، ولو كان صحيحا لقيل فيه: صفوي. ومنهم من يقول: هي نسبة إلى الصوف. وعلى كل فهي نسبة مبتدعة، والله سبحانه وتعالى سمانا مؤمنين وسمانا مسلمين، ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا تسمية مؤمن ومسلم، لسنا نتكلم عن الكفار وعن المنافقين.
ثم إن الصوفية أقسام: منهم من انتهى به الحال إلى أن نبذ الكتاب والسنة، وسخر من أهل العلم وصار يقول: حدثني قلبي عن ربي، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب العلم من فتح الباري يقول -نقلا عن القرطبي-: من انتهى به الحال إلى هذه الحالة فهو كافر، والأمر كما يقول رحمه الله تعالى، الذي يظن أنه يستغني عن كتاب الله وعن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر بالله عز وجل، وهكذا يزهدون في العلم من زمن، وربما دفن بعضهم كتبه -يكتب الكتب ثم يدفنها- والله المستعان، منهم أيضا من أصبح زنديقا، وقتل بسبب الزندقة وهو الحسين بن منصور الحلاج، وتبعه(10/516)
على هذا أبو العباس بن عطاء فقتل الحسين بن منصور الحلاج ثم بعد زمن قتل أبو العباس بن عطاء على الزندقة.
سمع الحسين بن منصور الحلاج رجلا يتلو آية فقال: لو شئت لقلت مثلها، وهذا ذكره ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه 'تلبيس إبليس'، وهكذا أيضا: ابن الفارض فإنه أيضا تزندق؛ وفي تائيته التي أثنى عليها محمد ابن إبراهيم الوزير في كتابه 'الروض الباسم' فيها الكفر الصراح، وقد أخطأ ابن الوزير رحمه الله تعالى في الثناء على هذه التائية. انتهينا من أولئكم الذين يقولون بأنهم غنيون عن الشرع أو يدخلون في الصوفية ثم يتزندقون. ومن الصوفية أهل وحدة الوجود الذين يقول قائلهم: أنا هو وهو أنا. ويقول أيضا: ما في الوجود إلا الله، وحتى قال بعضهم:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الرب إلا عابد في كنيسته
وقال بعضهم:
الرب عبد والعبد رب ... يا ليت شعري من المكلف
وهكذا أيضا في أشعارهم الكفر البواح، وقد أشبع الرد: صالح بن مهدي المقبلي رحمه الله تعالى في كتابه 'العلم الشامخ' أشبع الرد على خرافة وعلى كفريات ابن عربي (محي الدين) في زعمهم وهو (مميت الدين) ابن عربي، فعنده من الكفر الصراح في 'فصوصه' وهكذا أيضا في سائر كتبه، وتجدونه معظما عند كثير من الصوفية، ولو تكلمت فيه وأنت بالشام ما سلمت من الضرب من الصوفية، وقد أوذي شيخ الإسلام ابن تيمية، وأوذي أيضا غيره من أجل ابن عربي الزنديق الذي يقول: إن فرعون موحد وإن(10/517)
موسى مشرك، وهكذا يقول في شأن العذاب: أنه ما سمي عذابا إلا من عذوبته، تعطيل للكتاب والسنة ولشرع الله، وزندقة ظاهرة، ثم نجد من يدافع عنه من المصلين. ومن خرافات الصوفية أنهم ربما أنهم يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم من الزواج -وهو سنة من سنن المرسلين-، رب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (1).
ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني الصلاة» (2) وقد جاء ثلاثة نفر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: وأنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا لا أتزوج النساء، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر بهذا فقال: «أنتم القائلون كذا وكذا، أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (3)، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا
_________
(1) الرعد الآية (38).
(2) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 285) والنسائي (7/ 72/3949) وصححه الحاكم (2/ 160) على شرط مسلم ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ في التلخيص (3/ 116).
(3) أحمد (3/ 241،259) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217).(10/518)
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (1)، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {* يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} (2)،
يمتنعون من النساء اقتداء بمن؟ اقتداء بالقساوسة وبالرهبان النصارى، ولكن يمتنعون من النساء وماذا يفعلون يا رجال؟ يفتنون بالمردان، حتى إن شخصا تولع بشخص أمرد -كما في 'تلبيس إبليس'- فرق بينهما فتحيل إلى أن دخل إليه وقتله، وجعل يبكي عنده واعترف أنه قاتله، فجاء والد الولد وقال: أنا قتلته، وأنا أسألك بالله أن تقيدني به، فعفا عنه، فصار يحج وينذر بثواب الحج لذلكم الولد، وأقبح من هذا أن شخصا ارتكب الفاحشة بصبي ثم بعد ذلك طلع إلى سطح بيته -وكان بيته على البحر- فرمى بنفسه وتلا قول الله عزوجل: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (3).
هذا شأن الصوفية، ولهم فضائح وقبائح أكثر وأكثر من هذا -أعني في شأن النساء- وربما تأتي المرأة الأجنبية ويلبسها الخرقة المكذوبة المزعومة المفتراه عندهم سند للخرقة، يزعمون أن من لبس الخرقة فقد انتهى به الحال وقد أصبح صوفيا، ولا يلبسونها إلا من قد ارتقى درجة في التصوف ... الصوفي عندهم إذا قد بلغ رتبة عالية يحل عندهم كل شيء، ويستدلون بقول
_________
(1) المائدة الآية (87).
(2) الأعراف الآية (31) ..
(3) البقرة الآية (54).(10/519)
الله -عز وجل-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (1)، وأخطأوا في فهم الآية، أو كابروا في فهم الآية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد ربه حتى تفطرت قدماه وقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» (2) وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، الذين أساء أبو نعيم في ذكرهم .. وفي ذكر أبي ذر وقال: إنهم صوفية، أخطأت يا أبا نعيم رحمك الله تعالى.
ما كانت الصوفية موجودة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا على عهد الصحابة، فأخطأ في ذكرهم حيث ذكرهم في الحلية، فهم برآء من هذه الترهات. الصوفية أيضا كما سمعتم حرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم، فقد جاء أن أبا يزيد البسطامي كان عنده قدر ستين أو سبعين دينارا فاشتغل بها قلبه، فأخذها ورماها في البحر، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بل رب العزة يقول: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)} (3) ويقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (4)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال، وأخبر أن العبد لا تزول قدمه حتى يسأل عن أربع ومنها: «عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه» (5) وغلو الصوفية أمر ليس له نظير، يطلبون من المريد أن يجلس بين
_________
(1) الحجر الآية (99).
(2) أخرجه من حديث المغيرة: أحمد (4/ 255) والبخاري (3/ 18/1130) ومسلم (4/ 2171 - 2172/ 2819) والترمذي (2/ 268 - 269/ 412) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 242/1643) وابن ماجه (2/ 456/1419).
(3) الأنعام الآية (141).
(4) الإسراء الآية (27).
(5) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 372) ومسلم (3/ 1340/1715).(10/520)
يدي مريده كالميت بين يدي الغاسل، وهذا ما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -! .. (1)
موقفه من الجهمية:
له كتاب 'الصحيح المسند من دلائل النبوة'. قال في مقدمته: هذا: وبما أن دلائل النبوة أكبر برهان على صدق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع ما أكرمه به من مكارم الأخلاق فقد ضاقت صدور أقوام بالآيات البينات والدلائل الواضحات كما حكى الله عنهم بقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)} (2) هذا كان شأن كفار قريش. أما المسلمون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يعتبرون التشريع كله دلالة على صدق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من الأسرار العجيبة، والحكم البليغة. وهكذا التابعون لهم بإحسان؛ حتى نبغ أقوام من ذوي الاعتزال فاعتزلوا الكتاب والسنة إلا ما يوافق أهواءهم وهم يزعمون أنهم يعتمدون على عقولهم، وهم في الحقيقة يعتمدون على أهوائهم لأن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصحيح. فضاقت صدورهم ببعض المعجزات النبوية، فهذه يؤولونها وتلك يضعفونها، فأراد الله أن يحق الحق ويبطل الباطل، وكاد مذهب الاعتزال أن ينقرض.
وفي هذه الأزمنة المتأخرة نبغ أقوام من ذوي الأهواء فأرادوا أن يأخذوا بالثأر للمعتزلة فتاهوا كما تاه أسلافهم من أولئك التائهين الحيارى ومن
_________
(1) المصارعة (375 - 379).
(2) القمر الآيات (1 - 3).(10/521)
أولئك الثائرين للاعتزال به ومنهم من هو ثائر للإلحاد.
1 - جمال الدين الأفغاني الرافضي الإيراني.
2 - محمد عبده المصري.
3 - محمد رشيد رضا، وليس كسابقيه في الضلال.
4 - محمود شلتوت (راجع 'إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام').
5 - طه حسين.
6 - أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وضحاه وظهره.
7 - أبو رية.
8 - محمد الغزالي. في كثير من كتاباته استخفاف بأهل السنة، وتهوين العمل بالسنة. من ذلكم:
كتاب 'دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين' وكذا كتاب 'هموم داعية'. ومحمد الغزالي مميع وإن لم يكن في الضلال كسابقيه.
هؤلاء في آخرين (والذي أنصح به طلبة العلم هو الإعراض عن هذه الكتب الزائغة. وقد أغنى الله طلبة العلم عن هذه بكتب أهل السنة جزاهم الله عن الإسلام خيرا) قاموا بحملة على السنة وانتصروا للاعتزال، ومنهم من انتصر للرفض وأصبح العلم في مصر ألعوبة بين رادّ ومردود عليه، وصدق الله إذ يقول: {* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)، ويقول:
_________
(1) التوبة الآية (34).(10/522)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (275) ولوشِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} (1).
وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: «أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان» رواه أحمد في مسنده من حديث عمر (2). ويقول: «أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» رواه أبو داود في سننه (3).
غالب هؤلاء متاجرون إما من أعداء السنة من الرافضة ولكن يأبى الله إلا أن ينصر سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويظهر دينه ولو كره الملحدون، فقد استيقظ شباب في جميع الأقطار الإسلامية، ديدنهم: قال الله، قال رسول الله، فباء أعداء السنة بالخزي.
_________
(1) الأعراف الآيتان (175و176).
(2) أخرجه من حديث عمر رضي الله عنه: أحمد (1/ 22،44) وعبد بن حميد كما في المنتخب حديث رقم11 (ص.32) والبزار كما في كشف الأستار (1/ 97/168) وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 187) وقال: "رواه البزار وأحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون" والحديث صحح إسناده أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه للمسند (1/ 217/143). وللحديث شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه: البزار كما في كشف الأستار (1/ 97 - 98/ 170) والطبراني في الكبير (18/ 237/593) وابن حبان (1/ 281/80). قال البزار: "لا نحفظه إلا عن عمر وإسناد عمر صالح فأخرجناه عنه وأعدناه عن عمران لحسن إسناد عمران". وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 187) وقال: "رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح".
(3) أخرجه من حديث ثوبان: أحمد (5/ 278،284) ومسلم (4/ 2215 - 2216/ 2889) دون ذكر محل الشاهد، وأبو داود (4/ 450 - 452/ 4252) والترمذي (4/ 437/2229) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1304/3952).(10/523)
بالأمس كان يلقب جمال الدين ومحمد عبده بالإمامين المجددين، واليوم عرفا بالماسونيين {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (1).
هؤلاء الضالون التائهون منهم من تصدى للطعن في قصص القرآن، ومنهم من تصدى للطعن في معجزات الأنبياء عليهم السلام. ومنهم من تصدى للطعن في الصحابة الذين هم نقلة الدين إلينا، ومنهم من تصدى للطعن في بعض الأحكام وسنوا سنناً سيئة ترى كتبهم تشجع من قبل الرافضة ومن قبل الملحدين.
وإني أحمد الله فقد رأيت من الإجابة على كتبهم بل على أباطيلهم وترهاتهم ما تقر به أعين أهل السنة، فجزى الله إخواننا الذين تصدوا لهذا خيراً.
هؤلاء المتهالكون الحيارى من ذوي الاعتزال الأقدمون والمتأخرون قوبلوا بأناس من القصاصين يحدثون الناس بالغث والسمين والحق والباطل، ومنهم من يدفعه التعصب الأعمى إلى وضع أحاديث باطلة. وقد قرأت في رسالة لعلي العجري بعنوان 'نصيحة أولاد السبطين ومن تبعهم من المؤمنين في التمسك بمذهب الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين' فإذا فيه أحاديث في فضل زيد بن علي والهادي أحاديث مكذوبة وليس هو الذي افتراها، ولكنه جاهل بعلم الحديث متعصب لأجداده رحمهم الله، وأمثال هذا كثير: كبعض
_________
(1) آل عمران الآية (8).(10/524)
الأحاديث الموضوعة في فضل بعض الخلفاء العباسيين كما في العلل المتناهية لابن الجوزي. وهناك فريق آخر نظر في دلائل النبوة فحمّلها ما لا تتحمل. وبين يدي الآن كتاب من كتب الضلال بعنوان 'مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية' حرّف كثيرا من الأدلة وحمل أدلة أخرى ما لا تتحمل، وقد رد عليه الشيخ حمود التويجري بكتاب أسماه 'إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة'.
فمن أجل هؤلاء وأولئك استعنت بالله على جمع ما تيسر لي من صحيح دلائل النبوة وسميته 'الصحيح المسند من دلائل النبوة'. (1)
موقفه من الخوارج:
قال: من فضائح الإباضية: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فقد استمعت إلى شريطين من رجل إباضي، وهو الخليلي مفتي عمان. وهذان الشريطان فيهما مهاجمة السنة ومهاجمة أهل السنة، وأعتقد أنهما سيكونان شؤما على الفرقة الإباضية، لأنه قد استقر لدى أهل السنة: أن الإباضية هي أقرب طوائف الخوارج إلى أهل السنة، ولكن المفتي أبان لنا أن الإباضية تعادي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأعتقد بعد ما تأتيهم الردود من أهل السنة أنهم سيقولون: لا جزى الله هذا المفتي خيرا إذ فضحنا ونبش ما كان مدفونا، ويكون حالهم كحال بني نمير الذين كان أحدهم إذا قيل له:
_________
(1) الصحيح المسند (ص.9 - 11).(10/525)
من أين أنت؟ قال: أنا نميري بمد الياء فلما قال جرير لبعضهم:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
أصبحوا يخجلون ويستحي أحدهم أن ينتسب إلى قبيلة نمير، وهكذا أيضا الفرقة الإباضية إذا جاءتهم ردود أهل السنة، وبيان ما هم عليه من البدعة، فإنهم سيقولون: لا جزى الله هذا المفتي الداعي إلى الفرقة والداعي إلى نبش ما كان مدفونا، لا جزاه الله خيرا. والإباضية هي طائفة من الخوارج، وبدعة الخوارج هي أول البدع حدثت في الإسلام، حدثت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. أصلها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم غنائم حنين فجاءه رجل فقال: اعدل يا محمد قال: «ويلك ومن يعدل؟ خبت وخسرت» وجاء أيضا: «خبت وخسرت إن لم أعدل» -جاء بفتح التاء وبضمها- فقال خالد بن الوليد: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعله يصلي» ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه سيخرج من ضئضيء هذا -أي من صلبه- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم، مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (1)، ووقع ما أخبربه النبي - صلى الله عليه وسلم - ... (2)
- وقال في نصيحته لشباب الصحوة الإسلامية: عدم الخروج على ولاة الأمور إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان، كما في حديث
_________
(1) أحمد (3/ 65) والبخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744 - 745/ 1064 [148]) والنسائي في الكبرى (5/ 159/8560) وابن ماجه (1/ 60/169) مختصرا من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) واستفاض رحمه الله في الرد عليهم (انظر المصارعة ص.358 - 374).(10/526)
عبادة المتفق عليه (1)، لما في الخروج عليهم من إثارة الفتن وقتل الأنفس البريئة والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} (2). وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» (3).اهـ (4)
- سئل رحمه الله تعالى: هل خروج الخوارج خروج منهجي أم عقدي؟ وعندما قاتلهم علي رضي الله عنه للاثنين أم لخروج العقيدة أم لخروجهم عليه باعتباره إمام المسلمين؟ وهل الخروج عن منهج السلف يؤدي إلى الخلل في العقيدة أم أن مخالفة المنهج في كيفية وفهم وتلقي العقيدة يؤدي إلى الخلل والمخالفة في المنهج في كيفية نشر الدعوة ولا يؤدي إلى الخلل في العقيدة؟
جواب: أما الخوارج فهم أخطئوا في فهم الأدلة: خطأ أوجب ضلالهم، فهم كفروا علي بن أبي طالب وكفروا أيضا معاوية، كما قال قائلهم:
أبرأ إلى الله من عمرو وشيعته ومن معاوية الطاغي وشيعته ... ومن علي ومن أصحاب صفين
لا بارك الله في القوم الملاعين
فقد كفروا خيار الصحابة في عصرهم، فقد أجمع العلماء أن علي بن أبي
_________
(1) البخاري (13/ 238/7200) ومسلم (3/ 1470/1709).
(2) النساء الآية (93).
(3) انظر تخريجه في مواقف ابن حجر سنة (852هـ).
(4) المصارعة (ص.102).(10/527)
طالب خير صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عصره -أي في وقت خلافته- وكان أحق بالخلافة، وفي قولهم: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (1)، ثم إن علي بن أبي طالب سئل: أكفار هم يا أمير المؤمنين؟ قال: من الكفر فروا، كما في 'تعظيم قدر الصلاة' لمحمد بن نصر المروزي (2).
فالخوارج خروجهم خروج عقدي، وهكذا منهجي خاطئ، وعلي بن أبي طالب لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خباب وقطعوا الطريق؛ فراسلهم وأرسل إليهم ابن عباس، فرجع منهم خلق كثير وبقي منهم من بقي، وعند أن وصل إليهم ابن عباس قالوا: إن هذا ممن قال الله فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} (3) أي: من قريش فلا تجادلوه، ثم جاء أناس وجادلوه واقتنعوا ورجعوا عن العقيدة الخارجية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيهم: «إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». ويقول: «إنهم كلاب أهل النار».
فخروجهم خروج منهجي عقدي، وأما قتال علي بن أبي طالب لهم فلكونهم ابتدءوا ولكونه يتوقع منهم شرا، ويقول فيهم علي بن أبي طالب: لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا تسبى نساؤهم، ولا يؤخذ فيؤهم، فهذا دليل على أنهم مسلمون ضلوا عن سواء السبيل. (4)
_________
(1) الأنعام الآية (57).
(2) تعظيم قدر الصلاة (2/ 543 - 544/ 591 - 593) وابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 1/ 469).
(3) الزخرف الآية (58).
(4) غارة الأشرطة (1/ 76 - 77).(10/528)
حمود بن عقلاء الشعيبي (1422 هـ)
هو الشيخ أبو عبد الله حمود بن عبد الله بن عقلاء الشعيبي الخالدي من آل جماح من قبيلة بني خالد. ولد في بلدة الشقة من أعمال بريدة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ فيها ولما بلغ السابعة من عمره كف بصره بسبب مرض الجدري وذلك عام اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، وفي سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة رحل إلى الرياض لطلب العلم، فبدأ بالتلقي على فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، ثم انتقل للقراءة على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، فقرأ عليه كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب ابن تيمية رحمهما الله، وغيرها من الكتب، وبعد ذلك انتقل إلى المعهد العلمي في سنته الأولى عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فدرس على المشايخ: عبد العزيز بن باز ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد الرحمن الإفريقي وغيرهم. وكل واحد من هؤلاء يعد إماما في وقته، وهذا من عناية الله بالشيخ حيث يسر له هؤلاء الأئمة وقلما يجتمع هذا لأحد.
وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عين مدرسا في المعهد لمدة سنة واحدة، ثم انتقل للتدريس في كلية الشريعة وذلك عام سبع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة وبقي فيها إلى عام سبع وأربعمائة وألف للهجرة، ثم طلب الإحالة على المعاش.
هذا، وقد تتلمذ على يد الشيخ تلاميذ كثر، سواء في المعهد أو في(10/529)
الكلية، نذكر من بينهم: المفتي عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ والدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وفضيلة الشيخ صالح الفوزان ومحمد بن عثيمين وعبد الله الغنيمان وغيرهم.
وكانت وفاة الشيخ رحمه الله في أربع ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف.
موقفه من المبتدعة:
آثاره السلفية:
1 - 'الإمامة العظمى' وهو بحث كتبه لنيل درجة أستاذ كرسي في جامعة محمد بن سعود، ونشر في مجلة الجامعة في عددها الصادر سنة أربعمائة وألف للهجرة.
2 - 'القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار'.
3 - 'البراهين المتظاهرة في حتمية الإيمان بالله والدار الآخرة'.
4 - 'كتاب مختصر العقيدة'.
5 - 'شرح كتاب التوحيد'.
6 - 'شرح التدمرية'.
7 - 'شرح الواسطية'.
8 - 'شرح الطحاوية'.
9 - 'رسالة حكم الخلاف في أصول الدين'.
10 - 'رسالة في الأعياد البدعية'.
11 - 'بيان لضلالات حسن فرحان المالكي'.(10/530)
12 - 'تعليق على كتاب السنة لعبد الله بن أحمد'.
13 - 'تعليق على حائية ابن أبي داود وشرحها للسفاريني'.
14 - 'تعليق على اقتضاء الصراط المستقيم'. (1)
وغيرها من الكتب والرسائل النافعة.
عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام (2) (1423 هـ)
الشيخ الفاضل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حمد البسام. ولد في بلدة أسرته مدينة عنيزة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة. درس في صباه على الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي، ثم انخرط في سلك الطلاب الملازمين عند الشيخ عبد الرحمن السعدي فقرأ عليه ولازمه ثمان سنوات.
ومن مشايخه كذلك الشيخ سليمان بن ابراهيم البسام وعبد الرحمن المقوشي ومحمد بن عبد العزيز المطوع وعبد الله بن عبد العزيز بن عقيل وعبد الرزاق عفيفي وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين.
ومن محفوظاته -كما ذكر ابنه خالد- القرآن الكريم وبلوغ المرام ومختصر المقنع والقطر في النحو والألفية لابن مالك ومتن الورقات في الأصول وغيرها.
وعندما فتحت دار التوحيد بالطائف برئاسة الشيخ محمد بن عبد العزيز
_________
(1) ذكرها عبد الرحمن بن عبد العزيز الجفن في 'إيناس النبلاء في سيرة شيخنا العقلاء'.
(2) ترجمة الشيخ عبد الله البسام بقلم ابنه خالد البسام، انظر مقدمة علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 81 - 116).(10/531)
ابن مانع التحق بها وأتم دراسته بها، ثم انتقل إلى كلية الشريعة وكلية اللغة بمكة المكرمة فتخرج منها عام أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ومن بين الأعمال التي كلف بها تعيينه للقضاء في المحكمة المستعجلة الثالثة كما عين مدرسا رسميا بالمسجد الحرام ثم رئيسا للمحكمة الكبرى التمييز للمنطقة الغربية ثم صار عضوا في مجلس كبار العلماء في المملكة العربية السعودية إلى غير ذلك من المناصب التي شغلها رحمه الله تعالى.
ومن مؤلفاته:
1 - 'تيسير العلام شرح عمدة الأحكام'.
2 - 'الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية'.
3 - 'توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام'.
4 - 'علماء نجد خلال ثمانية قرون'.
5 - 'شرح على كشف الشبهات'.
6 - 'رسالة مضار'.
7 - 'مفاسد تقنين الشريعة'. وغيرها.
ومن الذين أخذوا عنه الشيخ عبد العزيز المسند والشيخ صالح العلي الناصر والشيخ عبد العزيز الربيعة والشيخ محمد الصالح المرشد والشيخ عبد الله الخزيم والشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن آل الشيخ وغيرهم.
توفي رحمه الله سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وآلف.
موقفه من الخوارج:
- قال في 'تيسير العلام': "أحرورية أنت" نسبة إلى بلدة قرب الكوفة،(10/532)
اسمها "حروراء" خرجت منها أول فرقة من الخوارج على علي بن أبي طالب، فصار الخوارج يعرفون بالحرورية. (1)
- وقال فيه أيضا: سألت معاذة عائشة عن السبب الذي من أجله جعل الشارع أن الحائض تقضي أيام حيضها التي أفطرتها، ولا تقضي صلواتها، زمن الحيض، مع اشتراك العبادتين في الفرضية، بل إن الصلاة أعظم من الصيام. وكان عدم التفريق بينهما في القضاء، هو مذهب الخوارج المبني على الشدة والحرج. فقالت لها عائشة -منكرة عليها-: أحرورية أنت تعتقدين مثل ما يعتقدون، وتشددين كما يشددون؟. فقالت: لست حرورية، ولكن أسأل سؤال متعلم مسترشد. (2)
- وقال في 'توضيح الأحكام': البغي: بغى عليه بالغين المعجمة بغيا بفتح الموحدة وسكون المعجمة، عدا وظلم وعدل عن الحق. والمراد هنا البغاة الظلمة الخارجون عن طاعة الإمام، المعتدون عليه، فإذا خرجوا عن طاعة الإمام الواجبة عليهم، دعاهم الإمام وكشف شبهتهم، فإن أقروا بأن رجعوا عن بغيهم تركهم، فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال، وإن أصروا قاتلهم لقوله تعالى: {الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3). قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا خرج على إمام المسلمين طائفة ذات شوكة بتأويل
_________
(1) (1/ 98).
(2) المصدر نفسه (1/ 98 - 99).
(3) الحجرات الآية (9).(10/533)
سائغ، فإنه يباح قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. (1)
- وقال: من خرج عن طاعة الإمام وفارق الجماعة، فشذ عن جماعتهم، فقد ذكر العلماء أنهم أحد أصناف أربعة:
أحدها: قوم خرجوا على الإمام وطاعته بلا تأويل، فهؤلاء قطاع طريق.
الثاني: خرجوا بتأويل إلى أنهم نفر يسير لا منعة لهم، كالعشرة ونحوهم فهؤلاء حكمهم حكم قطاع الطريق.
الثالث: قوم خرجوا على الإمام وراموا خلعه بتأويل سائغ، سواء أكان تأويلهم خطأ أو صوابا، ولهم شوكة ومنعة، فهؤلاء هم البغاة، فعلى الإمام أن يراسلهم وينظر ما يدعون وما ينقمون، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ذكروا شبهة كشفها، فإن فاءوا وإلا قاتلهم وجوبا، وعلى رعيته إعانته.
الرابع: الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم، فهؤلاء فسقة يجوز قتالهم ابتداء.
فأي إنسان خرج من المسلمين بداع من هذه الدواعي الأربعة، فهو خارج عن طاعة الإمام، ومفارق جماعة المسلمين، فإذا مات على هذه الحال فقد مات على طريق أهل الجاهلية الذين لا ينظمهم إمام ولا تجمعهم كلمة. (2)
_________
(1) (5/ 244).
(2) المصدر السابق (5/ 246).(10/534)
محمد صفوت نور الدين (1423 هـ)
محمد صفوت بن نور الدين بن أحمد بن مرسي. ولد في قرية من قرى محافظة الشرقية بمصر في العشرين من يونيو سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لثلاث وأربعين وتسعمائة وألف ميلادي. كلف في جماعة أنصار السنة المحمدية عضواً بمجلس إدارتها منذ ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لثمان وسبعين وتسعمائة وألف ميلادي. وكان أميناً للدعوة بها منذ عام ثمان وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لثمان وثمانين وتسعمائة وألف ميلادي حتى وفاة الشيخ محمد علي عبد الرحيم رحمه الله تعالى حيث توفي عام اثني عشرة وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي، فكلف برئاسة الجماعة.
توفي رحمه الله يوم الجمعة ثلاثة عشر رجب لسنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة. وصلي عليه بالمسجد الحرام بمكة حرسها الله.
موقفه من المبتدعة:
له قلم سيّال يُرى واضحاً من خلال مقالاته في مجلة التوحيد، قال رحمه الله مبيّناً سبيل توحيد الأمة: والحديث عن وحدة المسلمين يعني ثلاثة أمور:
الأول: وحدة المسلمين اعتقاداً. وذلك يعني لزوم عقيدة أهل السنة والجماعة، ومخالفة الفرق الضالة الثنتين والسبعين وأصول هذه الفرق في الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة القدرية.
الثاني: وحدة المسلمين في تعبدهم. بمعنى لزوم السنة وترك البدعة ولزوم الطاعة وترك المعصية.(10/535)
الثالث: وحدة المسلمين صفّاً. بأن يكونوا (كلٌّ على من عاداهم ويسعى بذمتهم أدناهم).
أما الأمر الأول: فقد اتفق علماء الصدر الأول عليه، ومن خالفهم فيه كانوا هم فرق الضلال فلا يجوز التسامح في أقوالهم، فإذا أردنا أن ندعو المسلمين إلى الوحدة دعوناهم للالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة لأنه لا سبيل للوحدة سواه.
أما الأمر الثاني: فهو دعوة المسلمين لإقامة شرع الله وعبادته كما أمر من غير أهواء ولا بدع. فنأتي المأمور ونجتنب المحظور. وكلاًّ من هذين الأمرين في الاعتقاد والتعبد يخاطب فيه أفراد الأمة وجماعاتها حكاماً ومحكومين، فإذا استقاموا على اعتقاد أهل السنة والجماعة وعلى نبذ الأهواء والبدعة عندئذ تصبح الدعوة لوحدة صف المسلمين نافعة. وعندئذ ينزل الله عليهم نصره ويؤيدهم بجنده ويحيق بأعدائهم بأسه.
لكن إن ظنوا أنهم يمكن أن يتحد صفهم بغير وحدة اعتقادهم وصحة تعبدهم فذلك خيال وخبال؛ لذلك وجب على العلماء التعرف على العقيدة الصحيحة أي عقيدة أهل السنة والجماعة بغير خلط مع الفرق الضالة، فيعرفوا الفرق الناجية بعقيدتها وبأئمتها من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم بعد ذلك ليعرفوا الحق فيعرفوا أهله. فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.
ولا يجوز أن ندعو إلى غير أهل السنة والجماعة، أو أن نهون من أمرهم فندعو لموافقة فرق الضلال، ولا أن نقول قول الحائرين (لا ندري أين الحق؟)(10/536)
لأن الدين كامل بإكمال الله له، لا يعوزه قول مجمع من مجامع العلماء اليوم فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تركتكم على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك» (1).
فالنجاة في طريق الفرقة الناجية المنصورة فرقة أهل السنة والجماعة وهي واضحة المعالم، بيّنة القسمات، متميّزة عمّا عداها، فهيّا يا دعاة الوحدة، وهيّا يا من تعالجون الفُرقة. هيّا إلى الطريق الواضح الصحيح. والله ناصر من نصر دينه. (2)
- وقال رحمه الله كاشفاً عن أضرار البدعة: أضرار البدع:
1 - ادعاء حق التشريع للبشر واتخاذهم أرباباً من دون الله تعالى: قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (3) {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} (4).
2 - اعتقاد أن التشريع جاء ناقصاً وأنه يكمله بالبدعة هذه والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 126) وابن ماجه (1/ 16/43) وأصله عند أبي داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/ 178/5) والحاكم (1/ 95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي. من حديث العرباض بن سارية.
(2) مجلة التوحيد (السنة الثانية والعشرون العدد السابع رجب 1414هـ/ص.4 - 5).
(3) التوبة الآية (31).
(4) النحل الآية (116).(10/537)
الْإِسْلَامَ دِينًا} (1).
ومن وصية عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة (عليك بالسنة فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وتقوى) فإذا كان المبتدع يرى أن ابتداعه لم يكن إلا لخير الناس في دينهم فما أجدره بالحزن العميق على نفسه بموقفه من البدعة التي عرف الشارع ما فيها من خطإ وزلل وحمق.
3 - تلبيس الدين على الناس بحيث يعتقدون الدين فيما ليس ديناً كما هو قائم اليوم بشأن كثير من بدع المساجد والصلاة وغيرها من العبادة، حتى إن ترك سنة من السنن لم يلمه أحد، وإن ترك البدعة هاجت لها أنوف، والله تعالى يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} (2).
وإذا جئت تذكرهم بأن هذا ليس في شرع الله ألقى الشيطان على ألسنتهم ما يحتجون به لبدعتهم وأنهم بذلك إنما يحسنون صنعاً والله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (3).
_________
(1) المائدة الآية (3).
(2) آل عمران الآية (71).
(3) الكهف الآيتان (103و104).(10/538)
4 - إن صاحب البدعة محروم من ثواب العمل «مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (1) (متفق عليه).
5 - أن يحرم يوم القيامة من الشرب من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت هو أحوج ما يكون إلى شفاعته لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا ليُذادنّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضّالّ، أناديهم ألا هلمّ ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول فسحقاً فسحقاً فسحقاً» (الموطأ والبخاري ومسلم. واللفظ للموطأ). (2)
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: وإن أشر البدع تلك التي تفرقت بسببها الأمة، وأشرها قاطبة بدع الشيعة الذين يزعمون حبّ آل البيت، مع أنهم أشدّ أعداء أهل البيت، حيث جعلوا ذلك ذريعة ومطية لارتكاب كل منكر وهجر كل شرع، وزعموا أن للقرآن باطناً غير ما يظهر للناس، فمن هذه الأقوال تفرعت أقوال أهل الضلال، فزرعوا فرق التصوف بين أهل السنة، وشوهوا للناس جمال دينهم، وأضلوهم عن طريق ربهم. (3)
- وقال أيضاً: وإن هذه القضية هي أم القضايا عند الشيعة إذا انهارت انهار كلّ مذهبهم، فإذا ثبت أن أهل البيت يدخل فيهم آل عباس وآل عقيل وآل جعفر، بل وبقية آل عليّ، فضلاً عن دخول الزوجات انهار كل مذهب
_________
(1) تقدم في مواقف الخلال سنة (311هـ).
(2) مجلة التوحيد (السنة الرابعة والعشرون العدد الثالث ربيع الأول 1416هـ/ص.3 - 4).
(3) مجلة التوحيد (السنة الثلاثون العدد الخامس 1422هـ/ص.4).(10/539)
الشيعة وتهاوى ولم يبقَ لهم من قول يعتمد بعد. وسائر القضايا التي يبني عليها الشيعة مذهبهم إنما يتبعون فيها الشبهات للزيغ الذي في قلوبهم ليضلوا الناس، ودين الشيعة مبني على عبادة القبور والشرك الصريح بالله ربّ العالمين، والمطالع لكتبهم في القديم والحديث يعلم أنهم عباد أوثان ينسبون لأئمتهم ما لا ينسب إلا لله ربّ العالمين، ويفضلون أئمتهم على الأنبياء والمرسلين، ولا يغرك دعواهم فهم صنيعة اليهود وتاريخهم في الكيد للمسلمين ملوث بالدماء، أقول هذا لأن دعاوى التقريب تريد أن تجعلهم مذهباً فقهيّاً خلافاته في الفرعيات وليست في الأصول.
فانظر كيف أن الهوى يهوي بصاحبه ليبلغه المهالك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، والحمد لله على الهداية، ونسأل الله أن يجنبنا الهوى والغواية. (1)
أحمد بن حجر آل بوطامي (1423 هـ)
أحمد بن حجر بن محمد بن حجر آل بوطامي البنعلي، ولد برأس الخيمة عام ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة. حفظ القرآن في صغره. سافر إلى الأحساء عام تسع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فمكث بها أربع سنوات منكبّاً على طلب العلم على كبار أهل العلم البارزين منهم: أحمد نور ابن عبد الله، وعبد الله محمد حنفي، وأحمد بن علي العرفج، وغيرهم.
تولّى التدريس في معهد إمام الدعوة بالرياض بطلب من الشيخ محمد
_________
(1) مجلة التوحيد (السنة التاسعة والعشرون العدد الرابع 1421هـ/ص.5).(10/540)
ابن إبراهيم آل الشيخ. كما تولى القضاء الشرعي في دولة قطر، فاستقر بها رحمه الله إلى أن توفي في الخامس من جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
له مؤلفات عديدة في هذا الباب، كلها دعوة إلى السنة ونبذ للبدعة، منها:
1 - الدرر السنية في عقد أهل السنة المرضية (منظومة).
2 - اللآلي السنية في التوحيد والنهضة والأخلاق المرضية (منظومة).
3 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه.
4 - الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر.
5 - الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب.
6 - تطهير المجتمعات من أرجاس الموبقات.
7 - تحذير المسلمين من البدع والابتداع في الدين.
8 - سبيل الجنة بالتمسك بالقرآن والسنة.
9 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر المفترى عليه.
10 - شرح العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية.
11 - نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين.
12 - الأدلة الساطعات في إثبات المعجزات والكرامات.
13 - القول الأقوم في عموم رسالة سيدنا محمد إلى جميع الأمم.(10/541)
14 - الرد المبين على من نسب النقص في الدين وطعن في الصحابة والفقهاء المعتبرين.
- قال رحمه الله: ومثل هؤلاء المقلدين للمجتهدين؛ الذين يخالفون آي القرآن ونص الحديث الصحيح الآتي بخلاف مذهبهم، فيجمدون على المذهب ويتعصبون له، بحجة أن صاحب المذهب أعلم منا، والمتحذلق منهم يؤول الآية على حسب أهوائه ومذهبه، ويرد الحديث بلعله لم يصح عند إمامنا، أو لعل له ناسخاً أو مخصصاً لا نعلمه، ونحو ذلك من الأعذار الواهية والشبهات الداحضة، وأين هؤلاء من هذه الآية الشريفة، ومن قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (1) ومن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (2).
على أن الأئمة -رحمهم الله- لهم الفضل في تدوين العلوم، ومكانتهم لا تخفى، وقد نهوا عن تقليدهم وتقليد غيرهم، وليس كلامنا في العاجز، أو من لم يظهر له الدليل؛ فإن هذا لا بأس له أن يقلد، وإنما كلامنا فيمن حوى من العلوم ما يمكنه من فهم الآيات والأحاديث، أو ظهر له الدليل بخلاف المذهب وإن لم يحو من العلم شيئاً كثيراً؛ فإن مثل هذا لا عذر له في ترك النص والأخذ بالتقليد. (3)
- وقال رادّاً على محسّني البدع: وكيف لتقسيمهم إلى حسنة وقبيحة أصل وهو ينافي القرآن والحديث. وإليك البيان على وجه الاختصار.
1 - أما القرآن، فقد قال الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (4) فما انتقل الرسول من الدنيا إلا والدين كاملاً لا يحتاج إلى الزيادة.
ونضيف إلى ذلك: أن التشريع من حق رب العالمين، وليس من حق البشر، ولئن جازت الزيادة في الدين، جاز النقص، ولا قائل بذلك.
بدين المسلمين، إن جاز زيد ... كفى ذا القول قبحاً يا خليلي
فجاز النقص أيضاً أن يكونا ... ولا يرضاه إلا الجاهلونا
2 - وأما الحديث: ففي الصحيح: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة» (5) ولفظ (كل) للعموم. ولا يخرج فرد من الأفراد المبتدعة إلا بمخصص، فأين المخصص هنا، حتى يقال: هذه البدعة وحسنة وخرجت من حيز العموم؟ فإن كان المخصص حديث «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله أحسن» فالجواب:
أولاً: إن هذا ليس بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل من كلام ابن مسعود.
_________
(1) الأعراف الآية (3).
(2) النساء الآية (59).
(3) تطهير الجنان والأركان (ص.42 - 43).
(4) المائدة الآية (3).
(5) أخرجه: أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود (5/ 13 - 15/ 4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16 - 17/ 43 - 44) والحاكم (1/ 95 - 97) وقال: "هذا حديث صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان (1/ 178 - 179/ 5).(/)
وثانياً: إن (ال) في كلمة (المسلمون) إن كان للاستغراق، أي: كل المسلمين فإجماع، والإجماع حجة ولا كلام فيه. وإن كان للجنس فيستحسن بعض المسلمين هذا الأمر ويستقبحه البعض الآخر، كما هو الواقع في أكثر البدع. وعليه فقد سقط الاحتجاج بهذا الأثر. (1)
موقفه من المشركين:
لقد دأب رحمه الله على الذب عن التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله، فألف في ذلك المؤلفات، فمن ذلك:
1 - تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران.
2 - تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران.
3 - القاديانية ودعايتها الضالة والرد عليها.
4 - البابية والبهائية وأهدافها في دعوة النبوة والرد عليهما.
- قال رحمه الله: سبب الشرك الغلوّ في الصالحين:
ومن هنا نعلم أن الشرك إنما حدث في بني آدم بسبب الغلو في الصالحين.
ومعنى الغلو: الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد. ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} (2). أي: لا
_________
(1) تطهير الجنان والأركان (ص.48).
(2) النساء الآية (171).(10/544)
تفرطوا في تعظيمه حتى ترفعوه عن منزلته التي أنزله الله، فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله.
والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم، كما فعلت النصارى في عيسى، واليهود في عزير.
ولهذا ورد في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله». (1)
أي: لا تتجاوزوا الحد في مدحي، فتنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله بها، كما غلت النصارى في عيسى فادّعوا فيه الألوهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني كما وصفني ربي.
ولكن أبى الجاهلون والمخرفون إلا مخالفة أمر رسول الله، وارتكاب نهيه، فناقضوه أعظم مناقضة، وضاهؤوا النصارى في غلوهم وشركهم، وبنوا القباب والمساجد على أضرحة الأولياء والصالحين، وصلوا فيها -وإن كان لله- لكن بقصد التعظيم للمقبورين، وطافوا بقبورهم، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وقضاء الحاجات، ورأوا أن الصلاة في أضرحة الأولياء أفضل من الصلاة في المساجد.
وقد ورد في الحديث الشريف عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لما نُزِل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها، فقال -وهو كذلك-: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف المكي الناصري سنة (1414هـ).(10/545)
مساجد»، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. أخرجه الشيخان. (1)
وجرى منهم الغلو في الشعر والنثر ما يطول عده، حتى جوزوا الاستغاثة بالرسول وسائر الصالحين، في كل ما يستغاث فيه بالله، ونسبوا إليه علم الغيب! حتى قال بعض الغلاة: لم يفارق الرسول الدنيا حتى علم ما كان وما يكون!، وخالفوا صريح القرآن: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (2)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} (3)، وقال تعالى مخبراً عن رسوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (4)، وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (5).
وإذ علمتم أن الشرك حدث بسبب الغلو في الصالحين، وأنه إنما جاءت الرسل من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله بالعبادة، لا إلى إثبات
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف فوزان السابق سنة (1373هـ).
(2) الأنعام الآية (59).
(3) لقمان الآية (34).
(4) الأعراف الآية (188).
(5) النمل الآية (65).(10/546)
أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرّون بذلك، كما قررناه وكررناه. ولذا قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} (1) أي: لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا! (2)
موقفه من الصوفية:
- قال: ليعلموا أن كثيراً من صلواتهم وأدعيتهم وأذكارهم وأحزابهم مما ابتدعه بعض الفقهاء الجامدين، أو المتصوفة المبطلين، أنها من البدع والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، مثل الذكر بالاسم المفرد: (الله الله، أو يا هو يا هو). ومثل حلق المريدين (اجتماعهم في حلقات) الذين يزعمون أنهم يذكرون الله بمثل هذه الأذكار المخترعة.
وكصلاة الرغائب ومثل حزب البحر وأمثاله، وابتهالات وصلوات ومناجاة وإنشاد قصائد في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق المنائر قبل الفجر وفي ليلة الجمعة ويومها، وبعض صيغ صلوات على الرسول لم ترد السنة بها.
مثل قوله: (اللهم صل على محمد عدد ما في علم الله، صلاة دائمة بدوام ملك الله) وكقوله: (اللهم صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون)؛ لأن الصلاة على الرسول من أجل القربات، كيف لا وقد أمرنا الله بها في كتابه المجيد، بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ
_________
(1) الأعراف الآية (70).
(2) تطهير الجنان والأركان (ص.27 - 31).(10/547)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (1).
والصيغ الواردة في الصلاة على الرسول مدوّنة في كتب السنة، لا حاجة إلى الاختراع والابتداع في صيغها؛ لأن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عبادة، والعبادة مبنية على التوقيف. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال: والحاصل أننا لا نتعدى القرآن والحديث، ولا نؤول صفات الله الواردة في الوحيين بتأويلات الجهمية والمعتزلة القائلين: إن اليد بمعنى النعمة، والاستواء بمعنى الاستيلاء، والوجه بمعنى الذات، والرحمة بمعنى التفضل، ونزوله بمعنى نزول أمره أو رحمته، أو ملائكته .. وما أشبه ذلك من التأويلات الفاسدة، والنابعة من منابع الفلاسفة الضالين.
تلك التأويلات التي تؤول بالإنسان إلى الكفر، وتجعل الشريعة ألعوبة بأيدي المبطلين والهدامين؛ بحيث أنه لا يريد مبطل أن يهدم عقيدة أو حكماً شرعياً، إلا وقد أتى من باب التأويل، وكفى بهذا قبحاً وضلالاً.
وعلى اعتقاد ما وصف الله به نفسه، أو وصفه رسوله، بما أتى في القرآن والأحاديث الصحيحة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل، مضى عصر الرسول والصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة المعتبرين، كالإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل، والبخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبي داود، والثوري، وابن عيينة، وغيرهم من
_________
(1) الأحزاب الآية (56).
(2) تطهير الجنان والأركان (ص.47 - 50).(10/548)
المحدثين والفقهاء المعتبرين، والصوفية المحققين، كالجنيد والجيلاني وأبي نعيم واللغويين المحققين، كالخليل بن أحمد، وثعلب وغيرهما. (1)
عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم (2) (1425 هـ)
أبو عبد الرحمن عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، ولد سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة بمدينة الرياض. نشأ في بيت ديانة، وصلاح. تميز منذ صغره بالذكاء، والحزم، والجد، والاجتهاد، فحفظ القرآن. تلقى تعليمه بمدينة الرياض، فبعد المرحلة الابتدائية التحق بالمعهد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم التحق بكلية الشريعة من الجامعة نفسها، فتخرج منها عام عشر وأربعمائة وألف للهجرة. ثم التحق بالمعهد العالي للقضاء، وحصل فيه على درجة الماجستير. ثم حصل بعدها على شهادة الدكتوراه سنة ثنتين وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة.
عين مدرساً في المعهد العلمي بالقويعية، وقاضياً بوزارة العدل.
تتلمذ على جمع غفير من أهل العلم. من أبرزهم: الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ عبد الله الدويش، والشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، رحمهم الله.
_________
(1) تطهير الجنان والأركان (ص.83 - 84).
(2) 'نزهة الأنفس في سيرة الشيخ عبد السلام بن برجس' لأبي قرة فريد المرادي. مقال في جريدة 'الجزيرة' السعودية بقلم هاني بن سالم الحسيني الحارثي.(10/549)
توفي رحمه الله مساء يوم الجمعة الثاني عشر من صفر سنة خمس وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة، وكان عمره حين وفاته ثمانا وثلاثين سنة.
موقفه من المبتدعة:
له -رحمه الله- رسالة وافية وفية، حوت درراً من الفوائد السّنيّة أسماها: 'ضرورة الاهتمام بالسنن النبويّة'. حرص رحمه الله أن يجلي فيها معنى السنة وبيان أهميتها وفضل متبعها.
- قال رحمه الله في مقدمتها: فإن أحق ما اعتنى به المسلم، وأولى ما صرف فيه أوقاته: العمل الدؤوب على اقتفاء آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتجسيدها في حياته اليومية، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ذلك بأن غاية المؤمن تحصيل الهداية الموصلة إلى دار السعادة، وقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (1) وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (2) وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (3). وهذه الآية -كما قال ابن كثير-: (أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أقواله، وأفعاله، وأحواله).
وهذه الأسوة إنما يسلكها ويوفق لها من كان يرجو الله واليوم الآخر.
_________
(1) النور الآية (54).
(2) الأعراف الآية (158).
(3) الأحزاب الآية (21).(10/550)
فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثّه على التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وشرف المؤمن ومنزلته إنما تقاس باتباعه، فكلما كان تحرّيه للسنة أكثر كان بالدرجات العلى أحقّ وأجدر.
ولذا كان العلماء السابقون من السلف الصالح يجعلون معيار من يؤخذ عنه العلم -وهو أشرف مأخوذ- تمسّكه بالسنة، كما قال إبراهيم النخعي -رحمه الله-: (كانوا إذا أتوا الرجل يأخذون عنه العلم نظروا إلى صلاته، وإلى سنته، وإلى هيئته؛ ثم يأخذون عنه).
وقال أبو العالية: (كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه فننظر إذا صلى: فإن أحسنها جلسنا إليه، وقلنا: هو لغيرها أحسن؛ وإن أساءها قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ). (1)
- وقال: فلو أن كل فرد من أبناء هذه الأمة نشأ وبين عينيه سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأخذ منها آدابه وأخلاقه، وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لنشأ جيل إيمانه كالجبال، يقذف الرعب في قلوب أعدائنا على مسيرة شهر، وينهض بالأمة إلى أعلى ما تصبو إليه من السعادة والسيادة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (2). هذا وللالتزام بالسنة ثمار وفوائد لا تحصى. (3)
_________
(1) ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية (ص.11 - 13).
(2) الحج الآية (40).
(3) ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية (ص.45).(10/551)
ثم ذكرها مفصلة.
- وقال: فالله الله يا أمة الإسلام في سنن رسولكم - صلى الله عليه وسلم -، من لها سواكم؟ أحيوها جهدكم، وأرشدوا الناس إلى العمل بها، فهي عنوان المحبة الكاملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلامة المتابعة الصادقة له - صلى الله عليه وسلم -.
ولا يجرمنّكم شنآن المتعصبين، ولا تهويل المبطلين، ولا حيصة العوامّ المفتونين، فإن السنة اليوم غريبة، معاول الهدم تخدشها من كل جانب، فهي اليوم في أشد الحاجة إلى أبنائها المخلصين، الذين يتحملون في سبيلها المشاقّ، ويؤثرونها على حظوظ أنفسهم، قائدهم في ذلك الرفق واللين، والمجادلة بالتي هي أحسن، وسيكون التوفيق حليفهم، والعاقبة الحسنى لهم، متى ما أخلصوا النية لله عز وجل، واحتسبوا منه وحده الثواب على هذا العمل الجسيم.
وما أحوجنا هنا أن نذكّرهم بتلك التجربة التي جرت على يد الإمام الشاطبي -رحمه الله- عندما عقد العزم على إحياء السنة والتجرد لها وإن خالفها الناس، فتعرض بسبب ذلك لمقت الناس، وإزرائهم به، واتهامه بكل سوء، ولكن العاقبة للمتقين: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}.
قال الشاطبي في الاعتصام: ( ... فتردّد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس؛ فلا بد من حصول نحوٍ مما حصل لمخالفي العوائد -لاسيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها- إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل. وبين أن أتّبعهم على شرط(10/552)
مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضُّلاّل -عائذاً بالله من ذلك- إلا أني أوافق المعتاد، وأُعَدّ من المؤالفين لا من المخالفين.
فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً). (1)
وله أيضاً رسالة أخرى عنون لها 'الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية'. وهي ماتعة في بابها. قال فيها: وليعتبر المسلم بما قاله تعالى في حقّ النصارى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} (2)، والمعنى: أنم ابتدعوا لأنفسهم عبادة، ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموها من عند أنفسهم، وقصدهم بذلك: تحصيل رضا الله سبحانه.
فانظر كيف مقتهم الله وذمّهم مع حسن قصدهم فيما التزموه من العبادة المحدثة. فإن الله تعالى لا يريد من عباده أن يعبدوه إلا بما شرع على ألسنة رسله، وبذلك يظهر صدق المستجيبين لله وللرسول إذا دعاهم لما
_________
(1) ضرورة الاهتمام بالكتاب والسنة (ص.86 - 88).
(2) الحديد الآية (27).(10/553)
يحييهم.
فكما أن الله تعالى لا يقبل من مشرك في توحيد الإلهية عملاً مهما كبر، فكذلك لا يقبل ممن أشرك في توحيد المتابعة عملاً مهما كثر. قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} (1).
فليس لأحد أن يتبع ما يحبّه، فيأمر به، ويتخذه ديناً، وينهى عما يبغضه، ويذمه، ويتخذ ذلك ديناً: إلا بهدىً من الله، وهدى الله هو شريعته التي بعث بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن اتبع ما يهواه حبّاً وبغضاً بغير الشريعة؛ فقد اتبع هواه بغير هدىً من الله.
وأيّ اتباع للهوى أعظم من الإعراض عمّا شرع الله تعالى من الوسائل الشرعية في الدعوة إلى الوسائل البدعيّة، التي يظنّها الفاعل لها قربة وطاعة لله تعالى، وهي -والله- عين الضلال ومنبع الفساد. وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (2).اهـ (3)
_________
(1) القصص الآية (50).
(2) الزخرف الآيتان (36 - 37).
(3) الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية (ص.88 - 89).(10/554)
وله أيضاً من الآثار السلفية:
1 - 'المعتقد الصحيح الواجب على كل مسلم اعتقاده'.
2 - 'بيان المشروع والممنوع من التوسل'.
موقفه من المشركين:
له رسالة 'القول المبين في حكم الاستهزاء بالدين'.
- قال فيها: وبعد: فإن هناك ظاهرة من الظواهر الدخيلة على بلاد المسلمين، سارت مسير الريح، وانتشرت انتشار الشمس، فلم تعد بلدة إسلامية إلا جثمت عليها، ولا دار مسلم إلا دخلت فيه. وهي ظاهرة لا تبشّر بخير أبداً، بل هي منذرة بسيل عذاب من الله جلّ وعلا قد انعقد غمامه، ومؤذنة بليل بلاء قد ادلهمّ ظلامه، ما عُهد أنها حلّت في مجتمع إلا أبادته وقضت عليه، فارتفعت عنه الخيرات، ونزلت عليه المصائب والنكبات ...
أتدرون ما هذه الظاهرة الموبوءة؟ إنها السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا؛ فأتوا بما يحبّه الله ويرضاه، واجتنبوا ما يكرهه ويمقته.
حقاً إنها ظاهرة قذرة، حَرِيّة بكل وصف سيء مشين، وذلك لأنها تأتي إلى أصول الدين، وقواعده فتنقضها، وإلى أركانه ومبانيه فتهدمها.
وأيّ شيء من الدين يبقى بعد السخرية بأتباعه لا لشيء؛ ولكن لأنهم آمنوا بالله، واتبعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأتون ويذرون؟ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ(10/555)
إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} (1).
والمستقرئ للتاريخ الإسلامي، يعلم أن هذه الظاهرة الخبيثة؛ لم تنتشر في زمن؛ كانتشارها في زمننا هذا، وذلك لعدّة أسباب؛ منها:
ابتعاد المسلمين عن تعاليم كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
إحياء المستعمرين الصليبيّين هذه الظاهرة، ليتمكّنوا من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بسهولة ويسر.
تسخير جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لبثّ هذه الظاهرة، خدمة لأغراض اليهود وأذنابهم.
دخول أجسام غريبة بين صفوف المسلمين؛ باسم الإسلام والعلم؛ تعمل على تشويه صورة الإسلام، وإظهار المسلمين بمظهر السوء.
وكلّ هذه الأسباب حقائق واضحة؛ لا يرتاب فيها مؤمن، وسيأتي تدعيم ذلك بالأدلّة الجليّة -إن شاء الله تعالى-. (2)
- وقال مبيّناً حكم الاستهزاء بالمسلم: الاستهزاء بالمسلم لما قام به من أحكام الله سبحانه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك كالاستهزاء بمن حافظ على الصّلوات، أو حثّ الناس على الطاعات، أو بمن أعفى لحيته ورفع ثوبه فوق الكعبين تأسّياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) البروج الآيتان (8و9).
(2) القول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين (ص.7 - 10).(10/556)
وهذا القسم حكمه غليظ شديد، لا أحبّ أن أفجع به أسماعكم حتى أذكر أمرين إن وُجدا فيمن قام به هذا القسم لم يُحكم عليه بهذا الحكم الغليظ الشديد:
أحدهما: أن يكون المستهزئ جاهلاً بأن ما استهزأ به من الشريعة الإسلاميّة. كأن يستهزئ بقِصَر الثوب، ولا يعلم أن تقصير الثياب إلى أنصاف الساقين من سنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيهما: أن لا يقصد باستهزائه ذاتَ العبادة التي قام بها الرجل المسلم. كأن يستهزئ بلحية رجل مسلم لما فيها من عيب خَلقيّ، لا لكونها سنة من سنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
فمن لم يكن فيه أحد هذين الأمرين؛ واستهزأ برجل مسلم لما قام به من الواجبات أو السنن؛ فإنه يُصبح مرتدّاً عن دين الإسلام إن كان مسلماً -والعياذ بالله- يجب على الإمام أن يُجري عليه أحكام الرّدّة التي قرّرها الفقهاء في كتبهم. (1)
- وقال في آخرها ناظماً بعد أبيات طويلة:
يا ساخرون من الدعاة سمعتُمُ ... حكماً غليظاً جاء من بارِينا
فإن انتهيتم فالسعادةُ خلفَكم ... وإن استبحتم فالشقاء قرينا
أو ما علمتم أن باعث عزنا ... ذلك الكتاب وسنة تهدينا
فبها أقمنا للحضارة معلماً ... وبها فتحنا فارساً والصينا
_________
(1) القول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين (ص.22 - 24).(10/557)
وبها نشرنا العلم في أرجائها ... حتى تعالى كالجبال رصِينا
واليومَ لمّا للكتاب نبذتُمُ ... صار الهوان مخيِّماً كاسِينا
هذا هو السّرّ الوحيد لنقصكم ... وكمالِ سادة قومنا الماضينا (1)
موقفه من الخوارج:
له كتاب 'الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم والتحذير من مفارقتهم'، كما له أيضاً رسالة 'معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة'.
- قال في مقدمتها: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول العقيدة السلفية، قلّ أن يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذاك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معاً، وبالافتيات عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا.
وقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة.
يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في الأمراء: (هم يَلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا. والله لما يُصلح الله بهم أكثر مما يُفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وإن فرقتهم لكفر).
_________
(1) القول المبين (ص.71 - 72).(10/558)
ولقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يُولون هذا الأمر اهتماماً خاصّاً، لا سيّما عند ظهور بوادر الفتنة؛ نظراً لما يترتب على الجهل به أو إغفاله من الفساد العريض في العباد والبلاد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد.
واهتمام السلف بهذا الأمر تحمله صور كثيرة نُقلت إلينا عنهم، من أبلغها وأجلّها ما قام به الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة -رضي الله عنه-؛ حيث كان مثالاً للسنة في معاملة الولاة.
فلقد تبنى الولاة في زمنه أحد المذاهب الفكريّة السيئة، وحملوا الناس عليه بالقوة والسيف، وأُهريقت دماء جمّ غفير من العلماء بسبب ذلك، وفُرض القول بخلق القرآن الكريم على الأمة، وقُرّر ذلك في كتاتيب الصبيان ... إلى غير ذلك من الطاّمّات والعظائم، ومع ذلك كلّه؛ فالإمام أحمد لا ينزعه هوى، ولا تستجيشُه العواطف (العواصف)، بل يثبت على السنة؛ لأنها خير وأهدى؛ فيأمر بطاعة وليّ الأمر، ويجمع العامّة عليه، ويقف كالجبل الشامخ في وجه من أراد مخالفة المنهج النبوي والسّير السّلفيّة انسياقاً وراء العواطف المجرّدة عن قيود الكتاب والسنة، أو المذاهب الثوريّة الفاسدة.
يقول حنبل -رحمه الله تعالى-: (اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى-، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون: إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك-، ولا نرضى بإمارته، ولا سلطانه. فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، لا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا(10/559)
دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برّ ويُستراح من فاجر. وقال: ليس هذا -يعني: نزع أيديهم من طاعته- صواباً؛ هذا خلاف الآثار).
فهذه صورة من أروع الصور التي نقلها الناقلون، تشرح صراحة التطبيق العمليّ لمذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب.
ومن الصور أيضاً ما جاء في كتاب 'السنة' للإمام الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى حيث قال: (إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان؛ فاعلم أنه صاحب هوى. وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح؛ فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى).
يقول الفضيل بن عياض: (لو كان لي دعوة ما جعلتها إلاّ في السلطان. فأُمِرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نُؤمر أن ندعو عليهم، وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وعلى المسلمين، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين).
ومما يجدر العلم به أن قاعدة السلف في هذا الباب زيادة الاعتناء به كلّما ازدادت حاجة الأمة إليه؛ سدّاً لباب الفتن، وإيصاداً لطريق الخروج على الولاة، الذي هو أصل فساد الدنيا والدين. (1)
- وقال: فإن سألت عن الطريقة الشرعية للإنكار على السلاطين، فهي مبسوطة في كتب السنة وغيرها من كتب أهل العلم، وفي مقدَّم الإجابة عن هذا السؤال أمهّد بنقلين، ثم أورد الأدلّة على ما أقرّره، والله الموفق:
_________
(1) معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة (ص.5 - 8).(10/560)
النقل الأول:
قال ابن مفلح في 'الآداب الشرعية': (ولا ينكر أحد على سلطان إلا وعظاً له وتخويفاً، أو تحذيراً من العاقبة في الدنيا والآخرة؛ فإنه يجب، ويحرم بغير ذلك، ذكره القاضي، وغيره. والمراد: ولم يَخَف منه بالتخويف والتحذير، وإلا سقط، وكان حكم ذلك كغيره.
قال ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين: التعريف والوعظ، فأما تخشين القول؛ نحو: يا ظالم! يا من لا يخاف الله! فإن كان ذلك يحرّك فتنة يتعدّى شررها إلى الغير؛ لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه؛ فهو جائز عند جمهور العلماء. قال: والذي أراه المنع من ذلك ... ) اهـ.
النقل الثاني:
قال ابن النحاس في كتابه 'تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين': (ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد، بل يودّ لو كلّمه سرّاً، ونصحه خفية؛ من غير ثالث لهما) اهـ.
لقد كان موقف سلفنا الصالح من المنكرات الصادرة من الحكّام وسطاً بين طائفتين:
إحداهما: الخوارج والمعتزلة، الذين يرون الخروج على السلطان إذا فعل منكراً.
والأخرى: الروافض الذين أضفوا على حكّامهم قداسة، حتى بلغوا بهم(10/561)
مرتبة العصمة.
وكلا الطائفتين بمعزلٍ عن الصواب، وبمنأى عن صريح السنة والكتاب.
ووفق الله أهل السنة والجماعة -أهل الحديث- إلى عين الهدى والحقّ، فذهبوا إلى وجوب إنكار المنكر، لكن بالضوابط الشرعية، التي جاءت بها السنة، وكان عليها سلف هذه الأمة.
ومن أهم ذلك وأعظمه قدراً أن يناصح ولاة الأمر سرّاً فيما صدر عنهم من منكرات، ولا يكون ذلك على رؤوس المنابر وفي مجامع الناس؛ لما ينجم عن ذلك -غالباً- من تأليب العامة، وإثارة الرّعاع عليهم، وإشعال الفتن.
وهذا ليس دأب أهل السنة والجماعة، بل سبيلهم ومنهجهم: جمع قلوب الناس على ولاتهم، والعمل على نشر المحبّة بين الراعي والرعية، والأمر بالصبر على ما يصدر عن الولاة من استئثار بالمال أو ظلم للعباد مع قيامهم بمناصحة الولاة سرّاً، والتحذير من المنكرات عموماً أمام الناس؛ دون تخصيص فاعل؛ كالتحذير من الزنى عموماً، ومن الربا عموماً، ومن الظلم عموماً ... ونحو ذلك.
يقول العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى-: (ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتّبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم(10/562)
وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتّصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان؛ قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تنكر على عثمان؛ قال: أُنكر عليه عند الناس؟! لكن أُنكر عليه بيني وبينه، ولا أفتح باب شر على الناس.
ولما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه، وأنكروا على عثمان جهرة؛ تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي بأسباب ذلك، وقتل جمّ كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً، حتى أبغض الناس ولي أمرهم، وحتى قتلوه؛ نسأل الله العافية) اهـ.
وهذا الذي قرّره الشيخ -حفظه الله- هو امتداد لما قرّره أئمة الدعوة -رحمهم الله تعالى- في كتبهم، وهو في الحقيقة امتداد لما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم من أهل العلم والدين. (1)
- وقال أيضاً: وبهذا يُعلم أن إثارة الرعية على الولاة، وتأليب العامة
_________
(1) معاملة الحكام (ص.41 - 44).(10/563)
عليهم؛ داء عضال، تجب المبادرة إلى كيّه، وورم خبيث يتعيّن استئصاله، لئلا يستفحل فيخرج خبثه، فتستحكم البليّة، وتعظم الرزيّة، ولا ينفع الندم عندئذ. فإن المثير والمثبط؛ كفأرة السّدّ، إن تركت أغرقت العباد والبلاد، وأشاعت في الأرض الفساد. فيتعين على الناس عموماً: التكاتف لدفع المثير الساعي إلى الفتنة، وعزله كما تعزل الجرباء، ونفيه من المجتمع؛ كلّ حسب جهده وطاقته.
وهذا من أفضل الأعمال وأجلّ القرب إلى الله تعالى، إذ به يندفع شرّ عظيم، وتُطفأ فتنة عمياء. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. والله سبحانه العاصم منها وحده؛ نسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الحميدة أن يؤمّننا في أوطاننا، ويصلح أئمتنا وولاة أمورنا. (1)
- وله أيضاً تعليق على رسالة 'أصول وضوابط في التكفير' لعبد اللطيف ابن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. قال في مقدمتها: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: هذا خطاب محرّر، كتبه العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمه الله تعالى- لردّ فتنة خطيرة، طالما زخرفها الشيطان فتساقط بعض المنتسبين إلى الخير في شَرَكِها، وظنوها حقاً ...
تلك الفتنة هي فتنة التكفير التي ترتبط جذورها بالخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأفسدوا أيّما فساد، مع ما فيهم من طول صلاة وكثرة صيام، حتى إن الأمة في القرون المفضلة تحقر
_________
(1) معاملة الحكام (ص.101).(10/564)
صلاتها عند صلاتهم، وصيامها عند صيامهم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد سئل نافع: كيف رأي ابن عمر في الحروريّة؟ قال: يراهم شرارَ خلق الله؛ إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفّار، فجعلوها على المؤمنين.
فسُرّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتّبع الحرورية من المتشابه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (1) ويقرنون معها: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} (2) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحقّ؛ قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربّه، ومن عدل بربّه فقد أشرك؛ فهذه الأمة مشركون، فيخرجون، فيقتلون ما رأيت؛ لأنهم يتأوّلون هذه الآية. اهـ.
فهذا حال المبتدعين لهذه الفتنة المشعلين لنارها، عند السلف الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين- من الصحابة والتابعين.
ورسالتنا هذه سوف تعالج هذه الفتنة عن طريق بيان منهج السلف الصالح في قضايا التكفير، فمن سار على نهجهم نجا -إن شاء الله- من مغبّة هذه الفتنة، ومن حاد عنه تخطّفته كلاليبها.
وكان سبب هذه الرسالة أن جماعة من أهل الدين في هذا البلد نزعهم
_________
(1) المائدة الآية (44).
(2) الأنعام الآية (1).(10/565)
عرق خارجي فخاضوا في مسائل التكفير بغير علم، فأتوا بطامّات، وولجوا في متاهات ... فكفّروا بما ليس مكفّراً من الأعمال، وكفّروا من ليس كافراً في شرع الله تعالى ... ولم يقتصروا على ذلك، بل افتروا على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب، ونسبوا أنفسهم إليه، وزعموا أن أفكارهم هذه مستمدّة من كتبه ... فلمّا بلغ بهم الأمر هذا المبلغ استدعاهم عالم نجد ومفتيها العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهّاب -رحم الله الجميع- فكشف شبهتهم، وأدحض حجّتهم، وبرّأ ساحة جدّه شيخ الإسلام منهم ومن منهجهم ... فرجعوا وفاؤوا إلى الحقّ في ذلك المجلس ... ثم نكصوا على أعقابهم، وأصرّوا على باطلهم. (1)
- كما له أيضاً رسالة لطيفة له فيها الجمع والترتيب بعنوان: 'نصيحة مهمة في ثلاث قضايا' وغيرها من الرسائل النافعة.
عبد القادر الأرناؤوط (1425 هـ)
أصله من كوسوفا بألبانيا وتسمى أيضاً بلاد الأرناؤوط وبذلك يلقب الأتراك كل ألباني. ولد بقرية "فريلا" سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، واسمه في الهوية: قدري بن صوقل بن عبدول بن سنان. هاجر مع أبيه إلى دمشق سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة جرّاء اضطهاد الشيوعيين للعرب وللمسلمين.
_________
(1) أصول وضوابط في التكفير (ص.5 - 7).(10/566)
درس الفقه والنحو والصرف على سليمان غاوجي الألباني، ولازم محمد صالح الفرفور قريباً من عشر سنوات، درس عليه خلالها الفقه الحنفي والتفسير وعلوم اللغة من بيان وبديع ومعاني. ومن بين شيوخه الكبار العالم السلفي محمد بهجة البيطار رحمه الله، فقد تأثّر به، وكان يقول له: "أنت يا بنيّ مشربك من مشربنا، فأرى أن تدرّس مكاني". وكذلك كان فقد درّس مكانه في جامعي الدقاق والشربجي.
وكانت له صحبة طيبة مع بلديّه الإمام الألباني، وكان كل واحد منهما يحبّ الآخر حبّاً عظيماً، ويجلّه ويثني على علمه ومنهجه، فكان يزور الألباني كلما نزل بالأردن، وكان الألباني كلما طبع كتاباً أرسل له هدية منه. تولّى الخطابة وهو في العشرين من عمره، واستمرّ فيها وفي تدريس العلم الشرعي من عقيدة وحديث وفقه وتفسير وغيرها مدة خمسين سنة في مساجد ومدارس دمشق.
حقّق الكثير من الكتب بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، وله تآليف حسنة منها 'الوجيز في منهج السلف الصالح'، و'وصايا نبوية'.
توفي رحمه الله يوم الجمعة لأربع عشرة خلون من شوال عام خمس وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله: إذا ما سألتَ عن مذهبي أقول: أنا مسلم أعود إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الأئمة بأدلتها، وأعمل بما هو(10/567)
الأقوى والأرجح الذي رجّحه العلماء على منهج السلف الصالح. (1)
- قال: ومن عقائد السلف الصالح أنه لا يجب على أحد من المسلمين التقيد بمذهب فقيه معين، وأن له أن ينتقل من مذهب إلى آخر لقوة الدليل، وأن العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه.
وأن على طالب العلم إذا كانت عنده أهلية يستطيع أن يعرف بها أدلة الأئمة أن يعمل بها، وينتقل من مذهب إمام في مسألة إلى مذهب إمام آخر أقوى دليلاً وأرجح فقهاً في مسألة أخرى، ويكون بذلك متبعاً وليس بمجتهد؛ فإن الاجتهاد استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، كما كان عليه الأئمة الأربعة وسواهم من الفقهاء والمحدثين. (2)
- طرده شيخه محمد صالح الفرفور لما رُفع إليه أنه اشترى 'الوابل الصيب' لابن القيم، فوبّخه وقال له: لم جئت بالكتاب؟ فقال التلميذ: لأني قرأت في مقدمته في الذكر مائة فائدة، ثم سردها، فقال الشيخ: هل تعرف ابن القيم تلميذ من؟ قال: تلميذ ابن تيمية، فقال الشيخ مغضباً مستنكراً: نحن نقرأ لابن تيمية؟!! قُم! وهكذا طرد وأبعد وقوطع بتهمة الوهابية.
- منع من الخطابة بتحريض من مشايخ السوء الذين حذّروا منه بتهمة الوهابية، وكذلك لما رفع صوته عالياً بالتحذير من مشاركة النصارى في أعياد رأس السنة الميلادية، ومقارعة الخمور، وتقاليد الكفّار، فمنع على إثرها بتهمة الدعوة إلى الطائفية وذلك سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف للهجرة.
_________
(1) من ترجمته بقلم أحد تلامذته.
(2) الوجيز في منهج السلف الصالح.(10/568)
- قال: ومن عقائد السلف أنه يجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن وأمرنا الله تعالى به، وترك كل ما نهانا عنه جملة وتفصيلاً، ونؤمن بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصح النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، سواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه، نأتمر بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وننتهي عما نهانا الله تعالى ونهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونقف عند حدود كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء عن الخلفاء الراشدين المهديين، وعلينا اتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وسلوك طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون الأربعة المهديون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة؛ لأن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة النبوية. (1)
موقفه من المشركين:
قال رحمه الله في براءته التي كتبها لما حذف أحد مراقبي المطبوعات بالسعودية قصة العتبي من كتاب الأذكار للنووي الذي حقّقه، ومفادها أن العتبي كان جالساً عند قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي وقال مخاطباً النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره: جئتك مستغفراً من ذنبي. ولما انصرف رأى العتبي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقال له: يا عتبي! الحق الأعرابي فبشّره بأن الله قد غفر له. قال: هذه القصة ليس لها إسناد صحيح، ومتنها مخالف للأحاديث الصحيحة، ثم قال: وقد قال
_________
(1) المصدر نفسه.(10/569)
الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي -تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذ الحافظ المزّيّ- في كتابه 'الصارم المنكي في الرّدّ على السبكي': (ذكرها الحافظ البيهقي في 'شعب الإيمان' بإسناد مظلم). قال: (ووضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي رضي الله عنه). وقال أيضاً ابن عبد الهادي في 'الصارم المنكي في الرد على السبكي' (ص.430): (هذا خبر موضوع، وأثر مختلَق مصنوع، لا يصلح الاعتماد عليه، ولا يحسن المصير إليه، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض).
وقد أخطأ الإمام النووي -رحمه الله- حيث ذكر هذه القصة وسكت عليها؛ وكان الأَولى أن لا يذكرها حتى لا يغر بها القراء ويستشهدوا بها.
أقول: كيف تصح هذه القصة وفيها يقول العتبي: جاء الأعرابي إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: جئتك مستغفراً من ذنبي. بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبره؟ والله تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (1). أي: لا يغفرها أحد سواه. قال الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي: (ولم يفهم أحد من السلف والخلف من الآية الكريمة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (2)، إلا المجيء إليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم).
وهذه قضية لها علاقة بالعقيدة والتوحيد، فلا يجوز التساهل فيها والسكوت
_________
(1) آل عمران الآية (135).
(2) النساء الآية (64).(10/570)
عنها؛ وإن عقائد السلف الصالح أنهم يعبدون الله تعالى وحده ولا يشركون به شيئاً، فلا يَسألون إلا الله تعالى، ولا يستعينون إلا بالله عز وجل، ولا يستغيثون إلا به سبحانه، ولا يتوكلون إلا عليه جل وعلا، ويتوسّلون إلى الله تعالى بطاعته وعبادته والقيام بالأعمال الصالحة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (1). أي: تقربوا إليه بطاعته وعبادته سبحانه وتعالى. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم". وقال عمر ابن عبد العزيز رحمه الله: "قف حيث وقف القوم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا". وقال الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام رحمه الله: "عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الزم طرق الهدى، ولا يغرّك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين".
هذا؛ وإن شريعة الله تعالى محفوظة من التغيير والتبديل، وقد تكفّل الله تعالى بحفظها فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (2). ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديثه: «يحملُ هذا العلمَ من كلّ خلَفٍ عُدولُهُ: ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (3). وهو
_________
(1) سورة المائدة الآية (35).
(2) الحجر الآية (9).
(3) رواه الآجري في الشريعة (1/ 101 - 104/ 1 - 2) والبيهقي (10/ 209) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، وهذا مرسل. وله شواهد يتقوى بها عن جمع من الصحابة منهم: أسامة بن زيد وأبو هريرة وابن عمر وابن مسعود وعلي وغيرهم رضوان الله عليهم.(10/571)
حديث حسن بطرقه وشواهده. نسأل الله تعالى أن يهدينا للعقيدة الصافية، والسريرة النقية الطاهرة، والأخلاق المرضية الفاضلة عند الله تعالى ... (1)
موقفه من الرافضة:
قال: ونشهد للعشرة المبشرين بالجنة، كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ونتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونكفّ عن مساويهم، وما شجر بينهم، وأمرهم إلى ربهم، ولا نسبُّ أحداً من الصحابة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (2).
وإن الصحابة ليسوا بمعصومين عن الخطأ، والعصمة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ، وأن الله تعالى عصم مجموع الأمة عن الخطأ، لا الأفراد، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه: «إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة، ويد الله على الجماعة» (3).
ونترضى عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمهات
_________
(1) الوجيز في منهج السلف الصالح.
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ).
(3) رواه الترمذي (4/ 405/2167) وقال: "غريب من هذا الوجه" والحاكم (1/ 115و116) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 39/80) والطبراني (12/ 447/13623و13624) من طرق عن ابن عمر. قال الهيثمي في المجمع (5/ 218):"رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة. وللحديث شواهد من حديث ابن عباس وأنس وكعب بن عاصم الأشعري وأبي مسعود رضي الله عنهم.(10/572)
المؤمنين، ونعتقد أنهن مطهرات مبرآت من كل سوء. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال: فأصول الدين التي استمسك بها هؤلاء الذين مضوا من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، والسلف الصالحين، ودعوا الناس إليها: هي أنهم يؤمنون بالكتاب والسنة إجمالاً وتفصيلاً، ويشهدون لله عز وجل بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة والرسالة، ويعرفون ربهم بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على ما وردت به الأخبار الصحيحة ونقله عنه العدول والثقات، ويثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، من غير تشبيه بمخلوقاته، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تمثيل، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2).
قال الإمام الزهري: "على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"، وقال الإمام سفيان بن عيينة: "كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عنه"، وقال الإمام الشافعي: "آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله".
وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، وكلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله تعالى وسنة
_________
(1) الوجيز في منهج السلف الصالح.
(2) الشورى الآية (11).(10/573)
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير تعرُّض لتأويله، وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم. (1)
موقفه من الخوارج:
قال: ومن عقائد السلف أنهم لا يكفرون أحداً من المسلمين بذنب، ولو كان من الكبائر، إلا إذا جحد شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، ويعلمه الخاص والعام، وكان ثابتاً بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. (2)
موقفه من المرجئة:
قال: ومن عقائد السلف الصالح قولهم الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان وعقد بالقلب والجنان، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. (3)
موقفه من القدرية:
قال: ومن عقائد السلف أن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ولكن ليس الشر بأمره تعالى، كما يقول بعضهم: كله بأمر الله؛ لأن الله تعالى أمر بالخير، ونهى عن الشر، وهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وإنما ينهى عنها، والإنسان غير مجبر، يختار أفعاله وعقائده، ويستحق العقاب أو الثواب على حسب اختياره، وهو مختار في الأمر والنهي، قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.(10/574)
وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (1).اهـ (2)
_________
(1) الكهف الآية (29).
(2) المصدر نفسه.(10/575)