ذاك، وهو الشيخ نجم الدين الخبوشاني، فإنه عدد مساوئ هؤلاء، وسلب عنهم الإيمان. (1)
- وكانوا أربعة عشر متخلفا لا خليفة، والعاضد في اللغة أيضا القاطع، فكان هذا عاضدا لدولة أهل بيته. (2)
- وفيها: قال أبو شامة: كان منهم ثلاثة بإفريقية: المهدي، والقائم، والمنصور، وأحد عشر بمصر آخرهم العاضد، ثم قال: يدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي، حتى اشتهر لهم ذلك، وقيل: الدولة العلوية، والدولة الفاطمية، وإنما هي الدولة اليهودية أو المجوسية الملحدة الباطنية.
ثم قال: ذكر ذلك جماعة من العلماء الأكابر، وأن نسبهم غير صحيح. بل المعروف أنهم بنو عبيد. وكان والد عبيد من نسل القداح المجوسي الملحد. قال: وقيل: والده يهودي من أهل سلمية. وعبيد كان اسمه سعيدا، فغيره بعبيد الله لما دخل إلى المغرب، وادعى نسبا ذكر بطلانه جماعة من علماء الأنساب، ثم ترقى، وتملك، وبنى المهدية. قال: وكان زنديقا خبيثا، ونشأت ذريته على ذلك. وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها.
قال الذهبي: وكانت دولتهم مائتي سنة وثمانيا وستين سنة، وقد صنف القاضي أبو بكر بن الباقلاني كتاب 'كشف أسرار الباطنية' فافتتحه ببطلان انتسابهم إلى الإمام علي، وكذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي. (3)
_________
(1) السير (15/ 212).
(2) السير (15/ 211 - 212).
(3) السير (15/ 213).(7/174)
الملك العادل نور الدين محمود (1) (569 هـ)
صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين، ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم، محمود بن الأتابك. ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة. تملك حلب بعد وفاة أبيه، وكان نور الدين حامل رايَتَي العدل والجهاد، قل أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق ثم تملكها، وافتتح حصونا كثيرة، وهزم الفرنج مرات عديدة، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة، وبنى المدارس والمساجد، وأبطل المكوس، وأنصف الرعية، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخراج العين بأُحُد، دفنها السيل، ووقف كتبا كثيرة مثمنة.
وكان بطلا شجاعا، وافر الهيبة، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير، وكان يميل إلى التواضع وحب العلماء والصلحاء، وكان زاهدا عابدا، متمسكا بالشرع، مجاهدا، له من المناقب ما يستغرق الوصف.
توفي رحمه الله سنة تسع وستين وخمسمائة.
موقفه من المشركين والرافضة:
- جاء في البداية والنهاية: وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر
_________
(1) السير (20/ 531 - 539) والمنتظم (18/ 209 - 210) والكامل في التاريخ (11/ 402 - 405) ووفيات الأعيان (5/ 184 - 189) البداية (12/ 297 - 306) وشذرات الذهب (4/ 228 - 231) وتاريخ الإسلام (حوادث 561 - 570/ص.370 - 387).(7/175)
بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولة أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل. لأن شعار الرفض كان ظاهرا بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مرارا عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين. (1)
- وجاء في السير: افتتح أولا حصونا كثيرة، وفامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحب أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة. (2)
- وفيها: وكانت الفرنج قد استضرت على دمشق، وجعلوا عليها قطيعة، وأتاه أمير الجيوش شاور مستجيرا به، فأكرمه، وبعث معه جيشا ليرد إلى منصبه، فانتصر، لكنه تخابث وتلاءم، ثم استنجد بالفرنج، ثم جهز نور الدين رحمه الله جيشا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، وقتل شاور، وصفت الديار المصرية لشيركوه نائب نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العبيديين، واستأصلهم، وأقام الدعوة العباسية. (3)
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 298).
(2) السير (20/ 532).
(3) السير (20/ 533).(7/176)
موقف السلف من الحسن بن ضافي الرتكي الرافضي (569 هـ)
جاء في البداية: كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيا خبيثا متعصبا للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره ثم نقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة. وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدا منهم إلا يحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك. (1)
موقف السلف من المعبد لغير الله: عبد النبي الزنديق (569 هـ)
قال الذهبي: فقام بعده (أي بعد أبيه الباطني) عبد النبي هذا، ففعل كأبيه، وسبى الحريم، وتزندق، وبنى على قبر أبيه المهدي قبة عظيمة، وزخرفها، وعمل أستار الحرير عليها وقناديل الذهب، وأمر الناس بالحج إليها، وأن يحمل كل أحد إليها مالا، ولم يدع أحد زيارتها إلا وقتله، ومنعهم من حج بيت الله، فتجمع بها أموال لا تحصى، وانهمك في الفواحش إلى أن أخذه الله على يد شمس الدولة أخي السلطان صلاح الدين، عذبه، ثم قتله، وأخذ خزائنه، فلله الحمد على مصرع هذا الزنديق، وكان ذلك في قرب سنة
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 292).(7/177)
سبعين وخمسمائة فإن مضي شمس الدولة توران شاه إلى اليمن وأخذها كان في سنة تسع وستين، فأسر هذا المجرم، وشنقه، وتملك زبيد وعدن وصنعاء، ولعبد النبي أخبار في الجبروت والعتو، فلا رحمه الله. (1)
عضد الدين (2) (573 هـ)
وزير العراق، الأوحد المعظم، عضد الدين أبو الفرج محمد بن عبد الله ابن هبة الله بن مظفر بن الوزير الكبير البغدادي. ولد سنة أربع عشرة وخمسمائة. وسمع من هبة الله بن الحصين وعبيد الله بن محمد بن البيهقي وزاهر بن طاهر. حدث عنه حفيده داود بن علي وغيره.
وكان أولا أستاذ دار المقتفي والمستنجد، ثم وزر للإمام المستضيء، وكان جوادا سريا مهيبا كبير القدر. فيه مروءة وإكرام للعلماء، وكان يشتغل هو وأولاده بالحديث والفقه والأدب، وكان الناس معهم في سعة. قتل سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: وقد عزل ثم أعيد، وتمكن ثم تهيأ للحج، وخرج في رابع ذي القعدة في موكب عظيم، فضربه باطني على باب قَطُفْتا أربع ضربات، ومات ليومه من سنة ثلاث وسبعين، وكان قد هيأ ست مئة جَمل، سَبَّل
_________
(1) السير (20/ 583).
(2) المنتظم (18/ 246) والكامل في التاريخ (11/ 182) والسير (21/ 75 - 76) وتاريخ الإسلام (حوادث 571 - 580/ص.130 - 133) والبداية والنهاية (12/ 318) والوافي بالوفيات (3/ 235) وشذرات الذهب (4/ 245).(7/178)
منها مئة، صاح الباطني: مظلوم مظلوم وتقرب، فزجره الغلمان، فقال: دعوه، فتقدم إليه، فضربه بسكين في خاصرته، فصاح الوزير: قتلني، وسقط وانكشف رأسه، فغطى رأسه بكمه، وضرب الباطني بسيف، فعاد وضربَ الوزيرَ، فهبَّروه بالسيوف، وكان معه اثنان فأُحرِقوا، وحُمِل الوزير إلى دارٍ، وجرح الحاجب، وكان الوزير قد رأى في النوم أنه معانق عثمان رضي الله عنه، وحكى عنه ابنه أنه اغتسل قبل خروجه، وقال: هذا غسل الإسلام، فإنني مقتول بلا شك. ثم مات بعد الظهر، ومات الحاجب بالليل. (1)
موقف السلف من صدقة بن حسين (575 هـ)
قال ابن الجوزي: يظهر من فلتات لسانه ما يدل على سوء عقيدته، وكان لا ينضبط، وله ميل إلى الفلاسفة، قال لي مرة: أنا الآن أخاصم فلك الفلك. وقال لي القاضي أبو يعلى الصغير: مذ كتب صدقة 'الشفاء' لابن سينا تغير. وقال للظهير الحنفي: إني لأفرح بتعثيري لأن الصانع يقصدني. (2)
_________
(1) السير (21/ 76)
(2) السير (21/ 67) والمنتظم (18/ 243).(7/179)
المستضيء بأمر الله (1) (575 هـ)
الخليفة أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي الهاشمي العباسي من الأئمة الموفقين. ولد سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وبويع بالخلافة وقت موت أبيه في ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة. واستوزر عضد الدين أبا الفرج.
كان كثير السخاء، حسن السيرة، ذا حلم وأناة ورأفة وبر وصدقات، وأمر برفع المكوس ورد المظالم. وفرق مالا عظيما على الهاشميين. وفي خلافته زالت دولة العبيدية بمصر. وخطب له باليمن وبرقة وبلاد الترك، ودانت له الملوك، وضعف بدولته الرفض ببغداد وبمصر، وظهرت السنة، وحصل الأمن.
مات رحمه الله تعالى في شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وبايعوا بعده ولده الناصر لدين الله.
موقفه من المبتدعة:
قال الحافظ ابن كثير في البداية: وكان من خيار الخلفاء، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مزيلا عن الناس المكوسات والضرائب، مبطلا للبدع والمعائب، وكان حليما وقورا كريما. (2)
_________
(1) المنتظم (18/ 190 وما بعدها) والكامل في التاريخ (11/ 459) والسير (21/ 68 - 72) وتاريخ الإسلام (حوادث 571 - 580/ص.165 - 168) والوافي بالوفيات (12/ 309 - 311) والبداية والنهاية (12/ 325) وشذرات الذهب (4/ 250 - 251).
(2) البداية والنهاية (12/ 325).(7/180)
أبو طاهر السِّلَفِي (1) (576 هـ)
هو الإمام العلامة المحدث الحافظ المفتي، شيخ الإسلام شرف المعمرين، أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني، ويلقب جده أحمد بسِلَفَة، وهو الغليظ الشفة، ولد الحافظ أبو طاهر سنة خمس وسبعين وأربعمائة أو قبلها بسنة. كان إماما مقرءا، محمودا، ومحدثا، حافظا، جهبذا، وفقيها متقنا، ونحويا ماهرا، ولغويا محققا، ثقة فيما ينقله، حجة، ثبتا، انتهى إليه علو الإسناد في البلاد. سمع الحديث الكثير ورحل في طلبه إلى الآفاق، ومن شيوخه محمد بن عبد الرحمن المديني، وأحمد بن عبد الرحمن اليزدي، وأبو مسعود محمد بن عبد الله السوذرجاني وغيرهم، وجالس في الفقه إلكيا الهراسي، وأخذ الأدب عن أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاما، يكتب الحديث والفقه والأدب، ثم استوطن الإسكندرية إلى أن مات. وحدث عنه الحافظ ابن طاهر المقدسي وعبد الغني المقدسي وعمر بن عبد المجيد الميانشي وغيرهم.
قال ابن السمعاني: هو ثقة ورع، متقن، متيقظ، حافظ، فهم، له حفظ من العربية، كثير الحديث، حسن الفهم والبصيرة فيه. وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: وكان له عند ملوك مصر الجاه والكلمة النافذة مع مخالفة لهم في المذهب. وتوفي سنة ست وسبعين وخمسمائة.
_________
(1) السير (21/ 5 - 39) والكامل في التاريخ (11/ 191) ووفيات الأعيان (1/ 105) وتذكرة الحفاظ (4/ 1298) وميزان الاعتدال (1/ 155) والوافي بالوفيات (7/ 351) والبداية والنهاية (12/ 328) واللسان (1/ 299) وتاريخ الإسلام (حوادث 571 - 580/ص.195 - 207).(7/181)
موقفه من المبتدعة:
- هذا الحافظ الكبير رغم إمامته العلمية في الحديث وعلومه، وما أكثر ما نقل عنه ابن الصلاح في مقدمته في علم المصطلح، لم يسلم من لسان الشيخ النجدي الذي جعله الله من سلالة أبي بن خلف، لا يترك أحدا اختار منهج السلف منهجه إلا ونال منه، ولكن الله إذا أراد بعبد خيرا هيأ له من يطعن فيه، حتى تعظم حسناته وتوضع الأوزار على الساب والشاتم، وإليك قصيدة هذا الإمام. وهي قصيدة طويلة نأخذ منها ما يتعلق بموضوعنا، ذكرها الذهبي في السير:
وها أنا شارع في شرح ديني ... ووصف عقيدتي وخفي حالي
وأجهد في البيان بقدر وسعي ... وتخليص العقول من العقال
بشعر لا كشعر بل كسحر ... ولفظ كالشمول بل الشمال
فلست الدهر إمعة وما أن ... أزل ولا أزول لذي النزال
فلا تصحب سوى السني دينا ... لتحمد ما نصحتك في المآل
وجانب كل مبتدع تراه ... فما إن عندهم غير المحال
ودع آراء أهل الزيغ رأسا ... ولا تغررك حذلقة الرذال
فليس يدوم للبدعي رأي ... ومن أين المقر لذي ارتحال
يوافي حائرا في كل حال ... وقد خلى طريق الاعتدال
ويترك دائبا رأيا لرأي ... ومنه كذا سريع الانتقال
وعمدة ما يدين به سفاها ... فأحداث من أبواب الجدال
وقول أئمة الزيغ الذي لا ... يشابهه سوى الداء العضال(7/182)
كمعبد المضلل في هواه ... وواصل أو كغيلان المحال
وجعد ثم جهم وابن حرب ... حمير يستحقون المخالي
وثور كاسمه أو شئت فاقلب ... وحفص الفرد قرد ذي افتعال
وبشر لا أرى بشرى فمنه ... تولد كل شر واختلال
وأتباع بن كلاب كلاب ... على التحقيق هم من شر آل
كذاك أبو الهذيل وكان مولى ... لعبد القيس قد شان الموالي
ولا تنس ابن أشرس المكنى ... أبا معن ثمامة فهو غالي
ولا ابن الحارث البصري ذاك الـ ... مضل على اجتهاد واحتفال
ولا الكوفي أعنيه ضرار بـ ... ـن عمرو فهو للبصري تالي
كذاك ابن الأصم ومن قفاه ... من أوباش البهاشمة النغال
وعمرو هكذا أعني بن بحر ... وغيرهم من أصحاب الشمال
فرأي أولاء ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
وكل هوى ومحدثة ضلال ... ضعيف في الحقيقة كالخيال
فهذا ما أدين به إلهي ... تعالى عن شبيه أو مثال
وما نافاه من خدع وزور ... ومن بدع فلم يخطر ببالي
قال الذهبي عقبها: صدق الناظم رحمه الله وأجاد، فلأن يعيش المسلم أخرس أبكم خير له من أن يمتلأ باطنه كلاما وفلسفة. (1)
- قال الحافظ عبد القادر: وكان السلفي آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر
_________
(1) السير (21/ 34 - 36).(7/183)
حتى إنه قد أزال من جواره منكرات كثيرة. ورأيته يوما وقد جاء جماعة من المقرئين بالألحان، فأرادوا أن يقرأوا فمنعهم من ذلك وقال: هذه القراءة بدعة بل اقرأوا ترتيلا فقرأوا كما أمرهم. (1)
التعليق:
هذا الموقف من هذا السلفي يرد على جميع باعة القرآن والمتلاعبين به في كل وقت وزمان، ولو عاش إلى وقتنا هذا لرأى العجب العجاب والله المستعان.
- وقال رحمه الله:
إن علم الحديث علم رجال ... تركوا الابتداع للاتباع
فإذا جن ليلهم كتبوه ... وإذا أصبحوا غدوا للسماع (2)
موقفه من الجهمية:
من أبياته في العقيدة السلفية:
ضل المجسم والمعطل مثله ... عن نهج الحق المبين ضلالا
وأبى أماثلهم بنكر لا رعوا ... من معشر قد حاولوا الاشكالا
غدوا يقيسون الأمور برأيهم ... ويدلسون على الورى الأقوالا
فالأولون تعذروا الحق الذي ... قد حده في وصف الإله تعالى
وتصوروه صورة من جنسنا ... جسما وليس الله عز مثالا
والآخرون يعطلون ما جاء في الـ ... ـقرآن أقبح بالمقال مقالا
_________
(1) السير (21/ 25).
(2) السير (21/ 36).(7/184)
وأبوا حديث المصطفى أن يقبلوا ... ورأوه حشوا لا يفيد منالا (1)
الإمام السُّهَيْلِي (2) (581 هـ)
الحافظ العلامة، البارع أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد. ولد سنة بضع وخمسمائة. وكف بصره وهو ابن سبع عشرة سنة. أخذ القراءات عن أبي داود الصغير سليمان بن يحيى، وسمع من أبي عبد الله ابن معمر والقاضي أبي بكر بن العربي وشريح بن محمد. وله مصنفات منها: الروض الأنف كالشرح للسيرة النبوية، جمع بين الرواية والدراية، وحمل الناس عنه، وقد استدعي من مالقة إلى مراكش ليأخذوا عنه، سمع منه أبو الخطاب بن دحية والحافظ أبو محمد القرطبي وجماعة. قال ابن دحية: كان يتسوغ بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش فطلبه وأحسن إليه، وقال أبو جعفر بن الزبير: كان السهيلي واسع المعرفة غزير العلم نحويا متقدما لغويا عالما بالتفسير وصناعة الحديث عارفا بالرجال والأنساب. توفي بمراكش في إحدى وثمانين وخمسمائة.
موقفه من الصوفية:
جاء في درء التعارض عنه رضي الله عنه قال: أعوذ بالله من قياس
_________
(1) طبقات الشافعية (4/ 46).
(2) تذكرة الحفاظ (4/ 1348) والاستقصا (1/ 187) والسير (21/ 157) والبداية والنهاية (12/ 339 - 340) والأعلام (3/ 313) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.113 - 116).(7/185)
فلسفي وخيال صوفي. (1)
موقفه من الجهمية والقدرية:
قال السهيلي في نتائج الفكر: اعلم أن (ما) إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه عمل أو صنع أو فعل وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري -سبحانه وتعالى- فلا يصح وقوعها إلا على مصدر، لإجماع العقلاء من الأنام، في الجاهلية والإسلام، على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: عملت جبلا، ولا: صنعت جملا ولا حديدا، ولا حجرا، ولا ترابا ولا شجرا، فإذا ثبت ذلك وقلت: أعجبني ما عملت وما فعلت زيد، فإنما تعني الحدث. فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (2) إلا قول أهل السنة: إن المعنى: والله خلقكم وأعمالكم. ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول، لأنهم زعموا أن (ما) واقعة على الأصنام والحجارة التي كانوا ينحتونها، وقالوا: تقدير الكلام: خلقكم والأصنام التي تعملون، إنكارا منهم بأن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه. واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوه، لأنه قد تقدم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} (3)، فما واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى، أما النحو فقد تقدم أن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرا.
_________
(1) درء التعارض (5/ 357).
(2) الصافات الآية (96).
(3) الصافات الآية (95).(7/186)
وأما المعنى فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإنما كانوا يعبدون المنحوت. فلما ثبت هذا وجب أن تكون الآية التي هي رد عليهم وتقييد لهم كذلك ما فيها واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة، فيكون التقدير: أتعبدون حجارة تنحتونها، والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون؟ هذا كله، معنى قول المعتزلة، وشرح ما شبهوا به، والنظم على تأويل أهل الحق أبدع والحجة أقطع والمعنى لا يصح غيره.
والذي ذهبوا إليه فاسد لا يصح بحال، لأنهم مجمعون معنا على أن أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام.
فإن قيل: فقد تقول: عملت الصحفة، وصنعت الجفنة، وكذلك الأصنام معمولة على هذا؟
قلنا: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب، وهي نفس العمل، وأما الجوهر المؤلف المركب فليس بمعمول لنا، فقد رجع العمل والفعل إلى الأحداث دون الجوهر. وهذا إجماع منا ومنهم، فلا يصح حملهم على غير ذلك، وأما ما زعموا من حسن النظم وإعجاز الكلام فهو ظاهر، وتأويلنا معدوم في تأويلهم، لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، فقال: أتعبدون ما تنحتون، أي: ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، وتدعون عبادة من خلقكم وأعمالكم التي تعملون، ولو لم يضف خلق الأعمال إليه في الآية، وقد نسبها بالمجاز إليهم، لما قامت له حجة عليهم من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم، وهو خالق(7/187)
لأجناس أخر، فيشركهم معه في الخلق -تعالى الله عن قول الزائغين، ولا ولعا لعثرات المبطلين- فما أدحض حجتهم وما أوهى قواعد مذهبهم، وما أبين الحق لمن اتبعه .. نسأل الله الكريم أن يجعلنا من أتباع الحق وحزبه، وأن يعصمنا من شبه الباطل وريبه. (1)
عبد المغيث بن زهير (2) (583 هـ)
الشيخ الإمام عبد المغيث بن زهير بن زهير بن علوي، أبو العز بن أبي حرب البغدادي الحربي. ولد سنة خمسمائة. سمع أبا القاسم بن الحصين وأبا العز بن كادش وأبا غالب بن البناء وهبة الله بن الطبر.
وروى عنه الشيخ الموفق والحافظ عبد الغني والبهاء المقدسي وأبو عبد الله الدبيثي وغيرهم.
قال ابن رجب: كان صالحا متدينا، صدوقا أمينا، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق، مجتهدا في اتباع السنة والآثار، منظورا إليه بعين الديانة والأمانة. وقال الحافظ المنذري: اجتهد في طلب الحديث، وجمعه وصنف وأفاد، وحدث بالكثير. صنف كتابا في فضائل يزيد، أتى فيه بالعجائب، ورد عليه أبو الفرج بن الجوزي. قال الذهبي: ولو لم يصنفه لكان خيرا له. ثم إن الخليفة الناصر لما بلغه نهي الشيخ عبد المغيث عن لعنة يزيد قصده متنكرا،
_________
(1) نتائج الفكر (147 - 149).
(2) الكامل لابن الأثير (11/ 562 - 563) وسير أعلام النبلاء (21/ 159 - 161) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.155 - 157) والبداية والنهاية (12/ 350) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 354 - 358) وشذرات الذهب (4/ 275 - 276).(7/188)
وسأله عن ذلك، فعرفه الشيخ ولم يعلمه بأنه قد عرفه، فسأله الخليفة عن يزيد أيلعن أم لا؟ فقال: لا أسوغ لعنه لأني لو فتحت هذا الباب لأفضى الناس إلى لعن خليفتنا، فقال الخليفة: ولم؟ قال: لأنه يفعل أشياء منكرة كثيرة، منها كذا وكذا، ثم شرع يعدد على الخليفة أفعاله القبيحة، وما يقع منه من المنكر لينزجر عنها، فتركه الخليفة وخرج من عنده وقد أثر كلامه فيه، وانتفع به. توفي رحمه الله في الثالث والعشرين من المحرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة.
موقفه من الصوفية:
له كتاب الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح، يشتمل على تحريم الغناء وآلات اللهو، وذكر فيه: تحريم الدف بكل حال في العرس وغيره. (1)
ابن أبي عصرون (2) (585 هـ)
الشيخ الإمام العلامة، الفقيه البارع، شيخ الشافعية، عالم أهل الشام، أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله، ولد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. تفقه على المرتضى الشهرزوري، وأخذ القراءات عن أبي عبد الله الحسين بن محمد البارع وأبي بكر المزرفي، سمع من أبي القاسم بن الحصين وجماعة، وولي قضاء دمشق وحران وسنجار وديار ربيعة، ودرس وأقرأ القراءات والفقه،
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 357).
(2) السير (21/ 125 - 129) والكامل في التاريخ (12/ 18) ووفيات الأعيان (3/ 53) والبداية والنهاية (12/ 355) وشذرات الذهب (4/ 283) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.217 - 220).(7/189)
واشتهر ذكره، وعظم قدره، ومن تأليفه: كتاب التنبيه في معرفة الأحكام، وكتاب فوائد المهذب وغيرهما. وانتفع به خلق كثير، وانتهت إليه رئاسة المذهب، ومن شعره:
أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة ... وما أنا إلا مثلهم غير أن لي ... تمر بي الموتى تهز نعوشها
بقايا ليال في الزمان أعيشها
وحدث عنه موفق الدين ابن قدامة، والقاضي أبو نصر بن الشيرازي، والعماد أبو بكر عبد الله بن النحاس. توفي سنة خمس وثمانين وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
جاء في طبقات الشافعية الكبرى: قال شيخنا الذهبي وقد سئل عنه الشيخ الموفق فقال: كان إمام أصحاب الشافعي في عصره، وكان يذكر الدرس في رواية الدولعي ويصلي صلاة حسنة، ويتم الركوع والسجود، ثم تولى القضاء في آخر عمره وعمي، وسمعنا درسه مع أخي أبي عمر، وانقطعنا عنه، فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعد انقطاعنا فقال: لم انقطعتم عني؟ فقلت: إن أناسا يقولون: إنك أشعري. فقال: والله ما أنا بأشعري. هذا معنى الحكاية. (1)
التعليق:
انظر إلى اهتمام هؤلاء العلماء بالعقيدة السلفية، فعندهم من لم يكن سلفيا لا ينبغي أن يحضر في درسه، ولا يتلقى عنه العلم، مهما كان شأنه. ثم
_________
(1) السير (21/ 129) وطبقات الشافعية (4/ 238 - 239).(7/190)
انظر إلى جواب هذا الإمام الكبير، ما أفصحه، ولا تلتفت إلى مهاترات ابن السبكي فإنه كالأحمق، لا يدري ما يقول نرجو الله له المغفرة.
ابن صَصْرَى (1) (586 هـ)
الإمام العلامة الحافظ المجود البارع، الرئيس النبيل أبو المواهب، الحسين ابن العدل أبي البركات هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى التغلبي البلدي الأصل الدمشقي، الشافعي. ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
سمع من جده، والفقيه المصيصي وعبدان بن رزين، وعدة. ولازم الحافظ ابن عساكر وأكثر عنه وتخرج به. وارتحل وسمع بحماة وبحلب وبالموصل وببغداد وغيرها. جمع المعجم وصنف التصانيف منها: رباعيات التابعين وفضائل الصحابة وعوالي ابن عيينة، وكان ثقة متقنا، مستقيم الطريقة، لين الجانب، سمحا، كريما. مات رحمه الله تعالى سنة ست وثمانين وخمسمائة. وله تسع وأربعون سنة.
موقفه من الرافضة:
صنف كتابا في فضائل الصحابة. (2)
_________
(1) السير (21/ 264 - 266) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.237 - 238) وتذكرة الحفاظ (4/ 1358) والوافي بالوفيات (12/ 292 - 294) وشذرات الذهب (4/ 285).
(2) السير (21/ 265).(7/191)
موقف السلف من السهروردي شهاب الدين يحيى بن حبش الفيلسوف (586 هـ)
قال شيخ الإسلام: وأما القدماء -أرسطو وأمثاله- فليس لهم في النبوة كلام محصل. والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا، كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا، وكان قد جمع بين النظر والتأله، وسلك نحوا من مسلك الباطنية، وجمع بين فلسفة الفرس واليونان، وعظم أمر الأنوار، وقرب دين المجوس الأول، وهي نسخة الباطنية الإسماعيلية، وكان له يد في السحر والسيمياء، فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين. (1)
قال ابن خلكان: وكان يتهم بالانحلال والتعطيل ويعتقد مذهب الأوائل اشتهر ذلك عنه، وأفتى علماء حلب بقتله، وأشدهم الزين والمجد ابنا جهبل.
قال الذهبي عقبه: أحسنوا وأصابوا. (2)
نصر بن منصور النُّمَيْرِي (3) (588 هـ)
الأمير الأديب، أبو المرهف نصر بن منصور بن حسن النميري، وأمه بنَّةُ بنت سالم بن مالك ابن صاحب الموصل بدران بن مقلد العقيلي. ولد
_________
(1) المنهاج (8/ 24 - 25).
(2) السير (21/ 210 - 211).
(3) وفيات الأعيان (5/ 383) والسير (21/ 213 - 214) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.311 - 314) والبداية والنهاية (12/ 375) وشذرات الذهب (4/ 295).(7/192)
بالرافقة سنة إحدى وخمسمائة. وقال الشعر وهو مراهق وله ديوان، ضعف بصره بالجدري. قدم بغداد، وحفظ القرآن وتفقه لأحمد وقرأ العربية على أبي منصور بن الجواليقي. وسمع من ابن الحصين وأبي بكر الأنصاري، ويحيى الفارقي وعبد الرحمن الأنماطي. صحب الصالحين والأخيار ومدح الخلفاء وكان فصيح القول، حسن المعاني، وفيه دين وتسنن. روى عنه عثمان بن مقبل، ويوسف بن خليل، وآخرون. وهو القائل:
يزهدني في جميع الأنام ... وهل عرف الناس ذو نهية ... هم الناس ما لم يجربهم ... وليتك تسلم حال البعاد ... قلة إنصاف من يصحب
فأمسى له فيهم مأرب
وطلس الذئاب إذا جربوا
منهم، فكيف إذا قربوا؟
مات في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في البداية: وله ديوان شعر كبير حسن، وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاده فأنشأ يقول:
أحب عليا والبتول وولدها وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى ويعجبني أهل الحديث لصدقهم ... ولا أجحد الشيخين فضل التقدم
كما أتبرأ من ولاء ابن ملجم
فلست إلى قوم سواهم بمنتمي (1)
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 375) وهو في سير أعلام النبلاء (21/ 214) وشذرات الذهب (4/ 296).(7/193)
صلاح الدين الأيّوبي (1) (589 هـ)
السلطان صلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين، أبو المظفر الملك الناصر. ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. سمع من أبي طاهر السلفي والفقيه علي بن بنت أبي سعد وأبي الطاهر بن عوف وغيرهم. وروى عنه يونس ابن محمد الفارقي والعماد الكاتب. أمره نور الدين وبعثه مع عمه إلى مصر فقهر بني عبيد ومحا دولتهم. قال الذهبي: وكان خليقا للإمارة مهيبا شجاعا حازما مجاهدا كثير الغزو عالي الهمة، كانت دولته نيفا وعشرين سنة. تملك بعد نور الدين واتسعت بلاده وفتح اليمن وغيرها وسار إلى دمشق، فأخذها من ابن نور الدين وكثيرا من النواحي والأقطار. ثم حاصر القدس وجد في ذلك فأخذها بالأمان، فقامت قيامة الفرنج وأقبلوا كقطع الليل المظلم برا وبحرا، فحاصرهم ودام عليهم نيفا وعشرين شهرا وما فكوا حتى أخذوها. ومحاسن صلاح الدين جمة لا سيما الجهاد ومحافله آهلة بالفضلاء، ويؤثر سماع الأحاديث بالأسانيد، حليما مقيلا للعثرة تقيا نقيا وفيا صفيا. توفي بقلعة دمشق بعد الصبح من يوم الأربعاء في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
موقفه من المشركين:
- قال الذهبي: وفيها -أي سنة 585 هـ - وفي المقبلة: كان الحصار الذي لم يسمع بمثله أبدا على عكا، كان السلطان قد افتتحها وأسكنها
_________
(1) السير (21/ 278 - 291) ووفيات الأعيان (7/ 139 - 205) والبداية والنهاية (13/ 3 - 8) والنجوم الزاهرة (6/ 20 - 61) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.351 - 367) والعبر (2/ 154) وشذرات الذهب (4/ 298 - 300).(7/194)
المسلمين، فأقبلت الفرنج برا وبحرا من كل فج عميق، فأحاطوا بها، وسار صلاح الدين فيدفعهم، فما تزعزعوا ولا فكروا بل أنشأوا سورا وخندقا على معسكرهم، وجرت غير وقعة، وقتل خلق كثير يحتاج بسط ذلك إلى جزء، وامتدت المنازلة والمطاولة والمقاتلة نيفا وعشرين شهرا، وكانت الأمداد تأتي العدو من أقصى البحار، واستنجد صلاح الدين بالخليفة وغيره، حتى إنه نفذ رسولا إلى صاحب المغرب يعقوب المؤمني يستجيشه فما نفع، وكل بلاء النصارى ذهاب بيت المقدس منهم. قال ابن الأثير: لبس القسوس السواد حزنا على القدس، وأخذهم بترك القدس وركب بهم البحر يستنفرون الفرنج، وصوروا المسيح وقد ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجرحه، فعظم هذا المنظر على النصارى، وحشدوا وجمعوا من الرجال والأموال ما لا يحصى، فحدثني كردي كان يغير مع الفرنج بحصن الأكراد أنهم أخذوه معهم في البحر، قال: فانتهى بنا الطواف إلى رومية، فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني الأربعة فضة. قال ابن الأثير: فخرجوا على الصعب والذلول برا وبحرا، ولولا لطف الله بإهلاك ملك الألمان وإلا لكان يقال: إن الشام ومصر كانتا للمسلمين. قلت: كانت عساكر العدو فوق المئتي ألف، ولكن هلكوا جوعا ووباء وهلكت دوابهم، وجافت الأرض بهم، وكانوا قد ساروا فمروا علىجهة القسطنطينية ثم على ممالك الروم تقتل وتسبي، والتقاه سلطان الروم فكسره ملك الألمان، وهجم قونية فاستباحها، ثم هادنه ابن قلج رسلان ومروا على بلاد سيس ووقع فيهم الفناء فمات الملك وقام ابنه.
قلت: قتل من العدو في بعض المصافات الكبيرة التي جرت في حصار عكا في يوم اثنا عشر ألفا وخمس مئة،(7/195)
والتقوا مرة أخرى فقتل منهم ستة آلاف، وعمروا على عكا برجين من أخشاب عاتية، البرج سبع طبقات فيها مسامير كبار يكون المسمار نصف قنطار، وصفحوا البرج بالحديد، فبقي منظرا مهولا، ودفعوا البرج ببكر تحته حتى ألصقوه بسور عكا وبقي أعلى منها بكثير فسلط عليه أهل عكا المجانيق حتى خلخلوه، ثم رموه بقدرة نفط فاشتعل مع أنه كان عليه لبود منقوعة بالخل تمنع عمل النفط، فأوقد وجعل الملاعين يرمون نفوسهم منه وكان يوما مشهودا، ثم عملوا كبشا عظيما رأسه قناطير مقنطرة من حديد ليدفعوه على السور فيخرقه فلما دحرجوه وقارب السور ساخ في الرمل لعظمه، وهد الكلاب بدنة وبرجا فسد المسلمون ذلك وأحكموه في ليلة، وكان السلطان يكون أول راكب وآخر نازل في هذين العامين، ومرض وأشرف على التلف ثم عوفي. قال العماد: حزر ما قتل من العدو فكان أكثر من مئة ألف.
ومن إنشاء الفاضل إلى الديوان وهم على عكا: يمدهم البحر بمراكب أكثر من أمواجه، ويخرج لنا أمر من أجاجه، وقد زر هذا العدو عليه من الخنادق دروعا، واستجن من الجنونات بحصون، فصار مصحرا ممتنعا حاسرا مدرعا، وأصحابنا قد أثرت فيهم المدة الطويلة في استطاعتهم لا في طاعتهم، وفي أجوالهم لا في شجاعتهم فنقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة، ونرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة، وقد حرم باباهم لعنه الله كل مباح واستخرج منهم كل مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبسوا الحداد، وحكم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، فيا عصبة نبينا - صلى الله عليه وسلم - اخلفه في أمته بما تطمئن به مضاجعه، ووفه الحق فينا، فها نحن عندك ودائعه، ولولا أن في التصريح ما(7/196)
يعود على العدالة بالتجريح لقال الخادم ما يبكي العيون وينكي القلوب، ولكنه صابر محتسب وللنصر مرتقب، رب لا أملك إلا نفسي وهاهي في سبيلك مبذولة، وأخي وقد هاجر هجرة نرجوها مقبولة، وولدي وقد بذلت للعدو صفحات وجوههم، ونقف عند هذا الحد ولله الأمر من قبل ومن بعد. ومن كتاب إلى الديوان: قد بلي الإسلام منهم بقوم استطابوا الموت، وفارقوا الأهل طاعة لقسيسهم، وغيرة لمعبدهم، وتهالكا على قمامتهم، حتى لسارت ملكة منهم بخمس مئة مقاتل التزمت بنفقاتهم، فأخذها المسلمون برجالها بقرب الإسكندرية، فذوات المقانع مقنعات دارعات تحمل الطوارق والقبطاريات، ووجدنا منهم عدة بين القتلى، وبابا رومية حكم بأن من لا يتوجه إلى القدس فهو محرم لا منكح له ولا مطعم، فلهذا يتهافتون على الورود ويتهالكون على يومهم الموعود، وقال لهم إنني واصل في الربيع جامع على استنفار الجميع، وإذا نهض فلا يقعد عنه أحد، ويقبل معه كل من قال: لله ولد.
ومن كتاب: ومعاذ الله أن يفتح الله علينا البلاد ثم يغلقها، وأن يسلم على يدينا القدس ثم ننصره، ثم معاذ الله أن نغلب عن النصر أو أن نغلب عن الصبر {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} (1).
ولست بقرم هازم لنظيره ... ولكنه الإسلام للشرك هازم
إلى أن قال: والمشهور الآن أن ملك الألمان خرج في مئتي ألف وأنه
_________
(1) محمد الآية (35).(7/197)
الآن في دون خمسة آلاف. (1)
- وقال الذهبي أيضا: وكان نور الدين قد أَمَّره، وبعثه في عسكره مع عمه أسد الدين شيركوه، فحكم شيركوه على مصر، فما لبث أن توفي، فقام بعده صلاح الدين، ودانت له العساكر، وقهر بني عبيد، ومحا دولتهم، واستولى على قصر القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت الذي وزنه سبعة عشر درهما؛ قال مؤلف الكامل ابن الأثير: أنا رأيته ووزنته. (2)
- وقال: قال ابن واصل في حصار عزاز: كانت لجاويلي خيمة كان السلطان يحضر فيها، ويحض الرجال، فحضر باطنية في زي الأجناد، فقفز عليه واحد ضربه بسكين، لولا المغفر الزرد الذي تحت القلنسوة، لقتله فأمسك السلطان يد الباطني بيديه، فبقي يضرب في عنق السلطان ضربا ضعيفا، والزرد تمنع، وبادر الأمير بازكوج، فأمسك السكين، فجرحته، وما سيبها الباطني حتى بضعوه، ووثب آخر، فوثب عليه ابن منكلان، فجرحه الباطني في جنبه، فمات، وقتل الباطني، وقفز ثالث، فأمسكه الأمير علي بن أبي الفوارس، فضمه تحت إبطه، فطعنه صاحب حمص، فقتله، وركب السلطان إلى مخيمه، ودمه يسيل على خده، واحتجب في بيت خشب، وعرض جنده، فمن أنكره أبعده. (3)
_________
(1) السير (22/ 209 - 212).
(2) السير (21/ 279).
(3) السير (21/ 281 - 282).(7/198)
- وقال ابن كثير: وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى إنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول: هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثا، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب. وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين. كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة والأبواب النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره، ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال الذهبي رحمه الله: تلاشى أمر العاضد مع صلاح الدين إلى أن خلعه، وخطب لبني العباس، واستأصل شأفة بني عبيد، ومحق دولة الرفض. (2)
- جاء في البداية والنهاية: وفيها -أي سنة ست وستين وخمسمائة هجرية- عزل صلاح الدين قضاة مصر لأنهم كانوا شيعة، وولي قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قضاة شافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية. (3)
_________
(1) البداية (13/ 6).
(2) السير (15/ 211 - 212).
(3) البداية (12/ 282).(7/199)
- وفيها: قطع صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها. (1)
موقف السلف من سنان بن سليمان الباطني (589 هـ)
قال الذهبي عنه: راشد الدين، كبير الإسماعيلية وطاغوتهم ... الباطني صاحب الدعوة الترارية. (2)
قال ابن العديم في 'تاريخه': أخبرني شيخ أدرك سنانا أنه كان بصريا يعلم الصبيان، وأنه مر وهو طالع إلى الحصون على حمار، فأراد أهل إقميناس أخذ حماره، فبعد جهد تركوه، ثم آل أمره إلى أن تملك عدة قلاع. أوصى يوما أتباعه، فقال: عليكم بالصفاء بعضكم لبعض، لا يمنعن أحدكم أخاه شيئا له، فأخذ هذا بنت هذا، وأخذ هذا أخت هذا سفاحا، وسموا نفوسهم الصفاة، فاستدعاهم سنان مرة، وقتل خلقا منهم.
قال ابن العديم: تمكن في الحصون، وانقادوا له. وأخبرني علي بن الهواري أن صلاح الدين سير رسولا إلى سنان يتهدده، فقال للرسول: سأريك الرجال الذين ألقاه بهم، فأشار إلى جماعة أن يرموا أنفسهم من أهل الحصن من أعلاه، فألقوا نفوسهم فهلكوا.
قال: وبلغني أنه أحل لهم وطء أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم، وأسقط عنهم
_________
(1) البداية (12/ 283).
(2) السير (21/ 182 - 183).(7/200)
صوم رمضان.
قال: وقرأت بخط أبي غالب بن الحصين أن في محرم سنة تسع وثمانين هلك سنان صاحب الدعوة بحصن الكهف، وكان رجلا عظيما خفي الكيد، بعيد الهمة، عظيم المخاريق، ذا قدرة على الإغواء، وخديعة القلوب، وكتمان السر، واستخدام الطغام والغفلة في أغراضه الفاسدة. وأصله من قرى البصرة، خدم رؤساء الإسماعيلية بألموت، وراض نفسه بعلوم الفلاسفة، وقرأ كثيرا من كتب الجدل والمغالطة ورسائل إخوان الصفاء، والفلسفة الإقناعية المشوقة لا المبرهنة، وبنى بالشام حصونا، وتوثب على حصون، ووعر مسالكها، وسالمته الأنام، وخافته الملوك من أجل هجوم أتباعه بالسكين، دام له الأمر نيفا وثلاثين سنة، وقد سير إليه داعي الدعاة من قلعة ألموت جماعة غير مرة ليقتلوه لاستبداده بالرئاسة، فكان سنان يقتلهم، وبعضهم يخدعه، فيصير من أتباعه.
قال: وقرأت على حسين الرازي في 'تاريخه' قال: حدثني معين الدين مودود الحاجب أنه حضر عند الإسماعيلية في سنة اثنتين وخمسين، فخلا بسنان، وسأله فقال: نشأت بالبصرة، وكان أبي من مقدميها، فوقع هذا الأمر في قلبي، فجرى لي مع إخوتي أمر، فخرجت بغير زاد ولا ركوب، فتوصلت إلى الألموت، وبها إلكيا محمد بن صباح، وله ابنان حسن وحسين، فأقعدني معهما في المكتب، وكان يبرني برهما، ويساويني بهما، ثم مات، وولي حسن بن محمد، فنفذني إلى الشام، فخرجت مثل خروجي من البصرة، وكان قد أمرني بأوامر، وحملني رسائل، فدخلت مسجد التمارين بالموصل، ثم سرت إلى الرقة، فأديت رسالته إلى رجل، فزودني، واكترى لي بهيمة إلى(7/201)
حلب، ولقيت آخر برسالته، فزودني إلى الكهف، وكان الأمر أن أقيم هنا، فأقمت حتى مات الشيخ أبو محمد صاحب الأمر، فولي بعده خواجا علي بغير نص، بل باتفاق جماعة، ثم اتفق الرئيس أبو منصور ابن الشيخ أبي محمد والرئيس فهد، فبعثوا من قتل خواجا، وبقي الأمر شورى، فجاء الأمر من الألموت بقتل قاتله وإطلاق فهد، وقرئت الوصية على الجماعة، وهي:
هذا عهد عهدناه إلى الرئيس ناصر الدين سنان، وأمرناه بقراءته على الرفاق والإخوان، أعاذكم الله من الاختلاف واتباع الأهواء، إذ ذاك فتنة الأولين، وبلاء الآخرين، وعبرة للمعتبرين، من تبرأ من أعداء الله وأعداء وليه ودينه، عليه موالاة أولياء الله، والاتحاد بالوحدة سنة جوامع الكلم، كلمة الله والتوحيد والإخلاص، لا إله إلا الله عروة الله الوثقى، وحبله المتين، ألا فتمسكوا به، واعتصموا به، فبه صلاح الأولين، وفلاح الآخرين، أجمعوا آراءكم لتعليم شخص معين بنص من الله ووليه، فتلقوا ما يلقيه إليكم من أوامره ونواهيه بقبول، فلا وربك لا تؤمنون حتى تحكموه فيما شجر بينكم ثم لا تجدوا في أنفسكم حرجا مما قضى وتسلموا تسليما، فذلك الاتحاد بالوحدة التي هي آية الحق المنجية من المهالك، المؤدية إلى السعادة، إذ الكثرة علامة الباطل المؤدية إلى الشقاوة المخزية، فنعوذ بالله من زواله، وبالواحد من آلهة شتى، وبالوحدة من الكثرة، وبالنص والتعليم من الأدواء والأهواء، وبالحق من الباطل، وبالآخرة الباقية من الدنيا الملعونة، إلا ما أريد به وجه الله، فتزودوا منها للأخرى، وخير الزاد التقوى، أطيعوا أميركم ولو كان عبدا حبشيا. (1)
_________
(1) السير (21/ 185 - 188).(7/202)
الشاطبي القاسم بن فِيرُّهْ (1) (590 هـ)
الشيخ الإمام، سيد القراء، أبو محمد وأبو القاسم القاسم بن فِيرُّهْ بن خلف بن أحمد الرعيني الأندلسي الشاطبي، الضرير، المقرئ، ناظم الشاطبية وغيرها. ولد في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. سمع من السلفي، وقرأ ببلده بالسبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، وارتحل إلى بلنسية، فقرأ على أبي الحسن بن هذيل. وسمع منه أبو الحسن بن خيرة ومحمد بن يحيى الجنجالي وأبو بكر بن وضاح وأبو محمد بن عبد الوارث المعروف بابن فار اللبن وغيرهم. تصدر للإقراء بمصر، فعظم شأنه، وبعد صيته، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء. قال الذهبي: وكان إماما علامة، نبيلا، محققا، ذكيا، واسع المحفوظ، كثير الفنون، بارعا في القراءات وعللها، حافظا للحديث، كثير العناية به، أستاذا في العربية. وقال ابن كثير: وكان دينا خاشعا ناسكا كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه. سارت الركبان بقصيدتيه حرز الأماني والرائية، وخضع لهما فحول الشعراء وحذاق القراء، وقيل: إنه كان يحفظ وقر بعير من الكتب. توفي رحمه الله بمصر في جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال أبو شامة في 'الباعث على إنكار البدع والحوادث' في معرض بيان إنكار السلف للصلوات المبتدعة: وعهدي بأن مثل هذه الصلوات لا يحافظ
_________
(1) وفيات الأعيان (3/ 234 - 236) ومعرفة القراء الكبار (2/ 573 - 575) والسير (21/ 261 - 264) والبداية والنهاية (13/ 11 - 12) وغاية النهاية (2/ 20 - 23) وحسن المحاضرة (1/ 496 - 497) وشذرات الذهب (4/ 301 - 303).(7/203)
عليها إلا عامي جاهل، وإن أهل العلم مطبقون على إنكارها كما حدثنا الشيخ أبو الحسن العلامة قال: كنت جالسا بعد المغرب، عند الشيخ أبي القاسم بن فِيْرُّه الشاطبي رحمه الله تعالى، وحدثني بحجرته التي كان يقرأ فيها القرآن، بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة، من الديار المصرية، والناس يصلون صلاة الرغائب بالمدرسة، وأصواتهم تبلغنا، فلما فرغوا منها، سمعت الشيخ الشاطبي يقول: لا إله إلا الله، فرغت البدعة، فرغت البدعة مرتين.
قلت: وكان هذا الشيخ الشاطبي جامعا بين العلم والعمل، وليا من أولياء الله تعالى، ذا كرامات مشهورة، وقد بينت من أحواله في أول شرح قصيدته في القراءات.
وقد حدثني عنه شيخنا المذكور، أنه قال: ما أتكلم كلمة إلا لله.
فما أراد الشاطبي رحمه الله بهذا الكلام إلا إعلام صاحبه، بأنها بدعة، نصحا لله ولدينه. (1)
الطالقاني (2) (590 هـ)
أحمد بن إسماعيل بن يوسف، أبو الخير الطالقاني القزويني، الفقيه الشافعي، الواعظ رضي الدين أحد الأعلام. ولد سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بقزوين. وتفقه على الفقيه أبي بكر بن ملكداذ بن علي العمركي ثم ارتحل إلى
_________
(1) الباعث (223 - 224).
(2) السير (21/ 190 - 193) وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 581 - 590هـ/ص.368 - 372) وتذكرة الحفاظ (4/ 1356) والنجوم الزاهرة (6/ 134و136) وشذرات الذهب (4/ 300) والبداية والنهاية (13/ 11).(7/204)
نيسابور. وسمع من الكثير من أبيه وأبي الحسن بن علي الشافعي القزويني وخلق. قال ابن النجار: كان رئيس أصحاب الشافعي وكان إماما في المذهب، والخلاف والأصول والتفسير والوعظ. حدث بالكتب الكبار كصحيح مسلم ومسند إسحاق وتاريخ نيسابور للحاكم والسنن الكبير للبيهقي ودلائل النبوة والبعث والنشور له أيضا.
رد إلى بلده فأقام مشتغلا بالعبادة إلى أن توفي في المحرم سنة تسعين وخمسمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قال الموفق: كان يعمل في اليوم والليلة ما يعجز المجتهد عنه في شهر، وظهر التشيع في زمانه بسبب ابن الصاحب، فالتمس العامة منه على المنبر يوم عاشوراء أن يلعن يزيد، فامتنع، فهموا بقتله مرات، فلم يرع، ولا زل، وسار إلى قزوين، وضجع لهم ابن الجوزي. (1)
موقفه من الجهمية:
ذكر له ابن العماد كتابا لعله يصلح مرجعا يستفيد منه السلفي وهو: التبيان في مسائل القرآن ردا على الحلولية والجهمية. انظر الشذرات. (2)
تنبيه: قال ابن كثير عنه في البداية: وكان يذهب إلى قول الأشعري في الأصول. (3)
_________
(1) السير (21/ 193) والبداية (13/ 11).
(2) (4/ 300 - 301).
(3) البداية (13/ 11).(7/205)
يعقوب المنصور (1) (595 هـ)
السلطان الكبير، الملقب بأمير المؤمنين المنصور، أبو يوسف يعقوب بن السلطان يوسف بن السلطان عبد المؤمن. عقدوا له بالأمر سنة ثمانين وخمسمائة عند مهلك أبيه، فكان سنه يومئذ ثنتين وثلاثين سنة. وكان فارسا شجاعا، قوي الفراسة، خبيرا بالأمور، خليقا للإمارة، ينطوي على دين وخير وتأله ورزانة، أبطل الخمر في ممالكه، وتوعد عليها فعدمت. وكان يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار وثوب ورغيف، وكان يعود المرضى في الجمعة، وكان يقصد لفضله ولعدله ولبذله وحسن معتقده، وكانت مجالسه مزينة بحضور العلماء والفضلاء، تفتتح بالتلاوة ثم بالحديث، وكان يجيد حفظ القرآن ويحفظ الحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر وينسبونه إلى مذهب الظاهر، وله فتاوى، وصنف في العبادات. توفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الاستقصا: كان المنصور يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمال الذين تشكوهم الرعايا، وأمر برفض فروع الفقه وإحراق كتب المذاهب، وأن الفقهاء لا يفتون إلا من الكتاب والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم
_________
(1) السير (21/ 311 - 319) ووفيات الأعيان (7/ 3 - 19) والاستقصا (2/ 158) والبداية والنهاية (13/ 22) وشذرات الذهب (4/ 321) والأعلام (8/ 203).(7/206)
القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس. (1)
- وجاء في السير: قال عبد الواحد بن علي: كنت بفاس، فشهدت الأحمال يؤتى بها فتحرق، وتهدد على الاشتغال بالفروع، وأمر الحفاظ بجمع كتاب في الصلاة من الكتب الخمسة والموطأ، ومسند ابن أبي شيبة، ومسند البزار، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي، كما جمع ابن تومرت في الطهارة. ثم كان يملي ذلك بنفسه على كبار دولته، وحفظ ذلك خلق، فكان لمن يحفظه عطاء وخلعة. -إلى أن قال-: وكان قصده محو مذهب مالك من البلاد، وحمل الناس على الظاهر، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده، فلم يظهراه، فأخبرني غير واحد أن ابن الجد أخبرهم قال: دخلت على أمير المؤمنين يوسف، فوجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال: أنا أنظر في هذه الآراء التي أحدثت في الدين، أرأيت المسألة فيها أقوال، ففي أيها الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له، فقطع كلامي، وقال: ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى (سنن أبي داود) أو هذا وأشار إلى السيف. (2)
- وكان لا يقول بالعصمة في ابن تومرت.
وسأل فقيها: ما قرأت؟ قال: تواليف الإمام (3)، قال: فزورني، وقال: ما كذا يقول الطالب، حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت من السنة،
_________
(1) الاستقصا (2/ 200).
(2) السير (21/ 313 - 314). وانظر المعجب في تلخيص أخبار المغرب (ص.400 - 402).
(3) يعني ابن تومرت.(7/207)
ثم بعد ذا قل ما شئت. (1)
موقفه من المشركين:
- قال الإمام الذهبي: وكان ابن رشد الحفيد قد هذب له كتاب الحيوان. وقال: الزرافة رأيتها عند ملك البربر، كذا قال غير مهتبل، فأحنقهم هذا، ثم سعى فيه من يناوئه عند يعقوب، فأروه بخطه حاكيا عن الفلاسفة أن الزهرة أحد الآلهة، فطلبه، فقال: أهذا خطك؟ فأنكر، فقال: لعن الله من كتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أقامه مهانا، وأحرق كتب الفلسفة سوى الطب والهندسة. (2)
- وقال أيضا: قيل: إن الأدفنش كتب إليه يهدده، ويعنفه، ويطلب منه بعض البلاد، ويقول: وأنت تماطل نفسك، وتقدم رجلا وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطأ بك، أو التكذيب بما وعدك نبيك؟ فلما قرأ الكتاب، تنمر، وغضب، ومزقه، وكتب على رقعة منه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} (3) الآية، الجواب ما ترى لا ما تسمع.
ولا كتب إلا المشرفية عندنا ... ولا رسل إلا للخميس العرمرم
ثم استنفر سائر الناس، وحشد، وجمع، حتى احتوى ديوان جيشه على مئة ألف، ومن المطوعة مثلهم، وعدى إلى الأندلس، فتمت الملحمة الكبرى،
_________
(1) السير (21/ 316).
(2) السير (21/ 317).
(3) النمل الآية (37).(7/208)
ونزل النصر والظفر، فقيل غنموا ستين ألف زردية. قال ابن الأثير: قتل من العدو مائة ألف وستة وأربعون ألفا، ومن المسلمين عشرون ألفا. (1)
موقف السلف من ابن رشد الحفيد (595 هـ)
جاء في السير: قال شيخ الشيوخ ابن حمويه: لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد؛ لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش في أواخر سنة أربع ... أو خمس. (2)
الشهاب الطوسي (3) (596 هـ)
محمد بن محمود بن محمد الشهاب الطوسي أبو الفتح الفقيه الشافعي، نزيل مصر، إمام مفت علامة مشهور، ولد سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
حدث عن أبي الوقت السجزي وغيره. روى عنه الإمام بهاء الدين ابن الجميزي وشهاب الدين القوصي. سافر إلى مصر وأظهر مذهب الأشعري، وثارت عليه الحنابلة، وكان يجري بينه وبين زين الدين بن نجية العجائب من السباب ونحوه. قاله أبو شامة.
_________
(1) السير (21/ 318 - 319).
(2) السير (21/ 309).
(3) تاريخ الإسلام (42/ 267 - 268) والسير (21/ 387 - 388) والشذرات (4/ 327 - 328).(7/209)
جرى له مع العادل ومع ابن شكر قضايا عجيبة لما تعرضوا لأوقاف المدارس فذب عن الناس وثبت. مات بمصر سنة ست وتسعين وخمسمائة.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: قال الإمام أبو شامة: وبلغني أنه سئل: أيما أفضل دم الحسين، أو دم الحلاج؟ فاستعظم ذلك، قالوا: فدم الحلاج كتب على الأرض: الله، الله، ولا كذلك دم الحسين؟ قال: المتهم يحتاج إلى تزكية.
قلت: -أي الذهبي- لم يصح هذا عن دم الحلاج، وليسا سواء: فالحسين رضي الله عنه شهيد قتل بسيف أهل الشر، والحلاج فقتل على الزندقة بسيف أهل الشرع. (1)
العِمَاد الكَاتِب (2) (597 هـ)
القاضي الإمام، العلامة المفتي، المنشيء البليغ، الوزير عماد الدين، أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد الأصبهاني الكاتب، ويعرف بابن أخي العزيز. ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان وقدم بغداد وهو ابن عشرين سنة، وتفقه وبرع في الفقه على أبي منصور بن الرزاز وأتقن الخلاف والنحو والأدب والنظم. وسمع من أبي منصور بن خيرون والمبارك السمذي وأبي القاسم بن الصباغ وطائفة. وسمع بالثغر من السلفي وغيره. روى عنه
_________
(1) السير (21/ 388).
(2) الكامل في التاريخ (12/ 171) ووفيات الأعيان (5/ 147 - 153) والسير (21/ 345 - 350) وتاريخ الإسلام (حوادث 591 - 600/ص.316 - 323) وشذرات الذهب (4/ 332).(7/210)
ابن خليل، والشهاب القوصي، والعز الإربلي، وآخرون. اتصل بابن هبيرة ثم اتصل بالدولة وخدم بالإنشاء الملك نور الدين. صنف كتاب خريدة القصر وجريدة العصر والبرق الشامي. قال ابن البزوري في تاريخه: العماد إمام البلغاء، شمس الشعراء، وقطب رحى الفضلاء، أشرقت فضائله وأنارت، وأنجدت الركبان بأخباره وأغارت، هو في الفصاحة قس دهره، وفي البلاغة سحبان عصره، فاق الأنام طُرّا، نظما ونثرا. توفي رحمه الله تعالى في أول رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
موقفه من الرافضة:
ومما نظمه العماد في ذلك (أي في وفاة العاضد العبيدي ودعوة صلاح الدين):
توفي العاضد الدعي فما ... يفتح ذو بدعة بمصر فما
وعصر فرعونها انقضى وغدا ... يوسفها في الأمور محتكما
قد طفئت جمرة الغواة وقد ... داخ من الشرك كل ما اضطرما
وصار شمل الصلاح ملتئما ... بها وعقد السداد منتظما
لما غدا مشعرا شعار بني الـ ... ـعباس حقا والباطل اكتتما
وبات داعي التوحيد منتظرا ... ومن دعاة الإشراك منتقما
وظل أهل الضلال في ظلل ... داجية من غبائة وعمى
وارتكس الجاهلون في ظلم ... لما أضاءت منابر العلما
وعاد بالمستضيء معتليا ... بناء حق بعدما كان منهدما
أعيدت الدولة التي اضطهدت ... وانتصر الدين بعدما اهتضما(7/211)
واهتز عطف الإسلام من جلل ... وافتر ثغر الإسلام وابتسما
واستبشرت أوجه الهدى فرحا ... فليقرع الكفر سنه ندما
عاد حريم الأعداء منتهك الـ ... ـحمى وفي الطغاة منقسما
قصور أهل القصور أخربها ... عامر بيت من الكمال سما
أزعج بعد السكوت ساكنها ... ومات ذلا وأنفه رغما (1)
ابن الجَوْزِي (2) (597 هـ)
الشيخ الإمام عبد الرحمن بن علي بن محمد، جمال الدين، أبو الفرج بن الجوزي القرشي التيمي البغدادي، صاحب التصانيف المشهورة. ولد سنة تسع أو عشر وخمسمائة، وعرف جدهم بالجوزي لجوزة في وسط داره بواسط، ولم يكن بواسط جوزة سواها. سمع من ابن الحصين وأبي الحسن الزاغوني وابن ناصر وأبي الوقت وأبي السعادات المتوكلي وغيرهم. وروى عنه ابنه محيي الدين يوسف وسبطه شمس الدين الواعظ والشيخ الموفق والحافظ عبد الغني وابن النجار وآخرون. قيل كان يحضر مجلسه مائة ألف نفس. برع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء مصره وعلا على فضلاء دهره، ولم يترك فنا من الفنون إلا وله فيه مصنف. قال سيف الدين بن المجد: وما رأيت أحدا يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله راضيا عنه.
_________
(1) البداية (12/ 284).
(2) وفيات الأعيان (3/ 140 - 142) والسير (21/ 365 - 384) وتاريخ الإسلام (حوادث591 - 600/ص.287 - 304) والوافي بالوفيات (18/ 186 - 194) والنجوم الزاهرة (6/ 174) وشذرات الذهب (4/ 329 - 331)(7/212)
قال جدي رحمه الله: كان أبو المظفر بن حمدي أحد العدول والمشار إليهم ببغداد ينكر على ابن الجوزي كثيرا كلمات يخالف فيها السنة. قال الذهبي: وكلامه في السنة مضطرب، تراه في وقت سنيا، وفي وقت متجهما محرفا للنصوص، والله يرحمه ويغفر له. نالته محنة في أواخر عمره، فحبس بواسط، وما أطلق إلا بعد خمس سنين. توفي رحمه الله في الثالث عشر من رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في كتابه النفيس 'تلبيس إبليس': واعلم أن الأنبياء جاؤوا بالبيان الكافي، وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي، وتوافقوا على منهاج لم يختلف. فأقبل الشيطان يخلط بالبيان شبهاً، وبالدواء سمّاً، وبالسبيل الواضح جرداً مضلا، وما زال يلعب بالعقول إلى أن فرق الجاهلية في مذاهب سخيفة، وبدع قبيحة، فأصبحوا يعبدون الأصنام في البيت الحرام، ويحرمون السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، ويرون وأد البنات، ويمنعونهن الميراث، إلى غير ذلك من الضلال الذي سوله لهم إبليس فابتعث الله سبحانه وتعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فرفع المقابح، وشرع المصالح. فسار أصحابه معه وبعده في ضوء نوره، سالمين من العدوّ وغروره. فلما انسلخ نهار وجودهم. أقبلت أغباش الظلمات، فعادت الأهواء تنشئ بدعاً، وتضيق سبيلاً ما زال متسعاً، ففرق الأكثرون دينهم وكانوا شيعاً، ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف، وإنما يصح له التلصص في ليل الجهل، فلو قد طلع عليه صبح العلم افتضح.
فرأيت أن أحذر من مكايده، وأدلّ على مصايده. فإن في تعريف الشر(7/213)
تحذيراً عن الوقوع فيه. (1)
- قال رحمه الله: دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين:
أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف.
والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه، فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.
فأما الطريق الأول، فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم. وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية. واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم، لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال. وقد ذم الله سبحانه وتعالى الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ} (2) المعنى أتتبعونهم؟ وقد قال عز وجل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} (3). قال المصنف: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه. وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.10 - 11).
(2) الزخرف الآيتان (23و24).
(3) الصافات الآيتان (69و70).(7/214)
أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة. واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن حوط وقد قال له: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعْرَف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. (1)
- وقال: واعلم أن من نظر إلى تعظيم شخص ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه، كان كمن ينظر إلى ماجرى على يد المسيح صلوات الله عليه من الأمور الخارقة ولم ينظر إليه فادعى فيه الإلهية. ولو نظر إليه وأنه لا يقوم إلا بالطعام، لم يعطه إلا ما يستحقه. (2)
- وقال: فإن قال قائل: قد مدحت السنة وذممت البدعة، فما السنة وما البدعة؟ فإنا نرى أن كل مبتدع في زعمنا يزعم أنه من أهل السنة؟ (فالجواب): أن السنة في اللغة الطريق، ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه هم أهل السنة، لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
والبدعة: عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان. فإن
_________
(1) التلبيس (100 - 101).
(2) التلبيس (209).(7/215)
ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها؛ فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا، حفظا للأصل وهو الاتباع. (1)
- وقال رحمه الله: قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن. وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها، فلم يروا بفعلها بأسا، كما روي أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحدانا، وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته الجماعة، فجمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنه، فلما خرج فرآهم قال: نعمت البدعة هذه، لأن صلاة الجماعة مشروعة. وإنما قال الحسن في القصص: نعمت البدعة، كم من أخ يستفاد، ودعوة مستجابة؛ لأن الوعظ مشروع، ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم.
فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة، وإن كانت مضادة فهي أعظم.
فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون، وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له، ولهذا استتروا ببدعتهم، ولم يكتم أهل السنة مذهبهم، فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم. (2)
- وبالسند إلى محمد بن الفضل العباسي قال: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو يقرأ علينا كتاب الجرح والتعديل، فقال: أظهر أحوال أهل
_________
(1) تلبيس إبليس (24 - 25).
(2) تلبيس إبليس (26).(7/216)
العلم من كان منهم ثقة أو غير ثقة. فقال له يوسف بن الحسين: استحييت إليك يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مئة سنة أو مئتي سنة، وأنت تذكرهم وتغتابهم على أديم الأرض، فبكى عبد الرحمن، وقال: يا أبا يعقوب، لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب، لم أصنفه.
قال ابن الجوزي: عفا الله عن ابن أبي حاتم، فإنه لو كان فقيها، لرد عليه كما رد الإمام أحمد على أبي تراب، ولولا الجرح والتعديل، من أين كان يعرف الصحيح من الباطل؟ ثم كون القوم في الجنة لا يمنع أن نذكرهم بما فيهم. وتسمية ذلك غيبة حديث سوء.
ثم من لا يدري الجرح والتعديل كيف هو يزكي كلامه؟ (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: اعلم أن القوم -أي الباطنية- أرادوا الانسلال من الدين، فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم حتى أخرسوهم عن النطق بما يعتقدونه من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون، ورأوا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - قد استطار في الأقطار، وأنهم قد عجزوا عن مقاومته فقالوا: سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلا وأتحفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب وهم الروافض، فنتحصن بالانتساب إليهم، ونتودد
_________
(1) تلبيس إبليس (409).(7/217)
إليهم بالحزن على ما جرى على آل محمد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة. فإذا هان أولئك عندهم لم يلتفتوا إلى ما نقلوا، فأمكن استدراجهم إلى الانخداع عن الدين، فإن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة في اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم، فإذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج باقي الفرق. ثم قالوا: وطريقنا أن نختار رجلا ممن يساعد على المذهب ويزعم أنه من أهل البيت وأنه يجب على كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته لكونه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة الله عز وجل، ثم لا تظهر هذه الدعوة على القرب من جوار هذا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة، فإن قرب الدار يهتك الأستار. وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن حال الإمام أو يطلع على حقيقة أمره. وقصدهم بهذا كله الملك والاستيلاء على أموال الناس، والانتقام منهم لما عاملوهم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما، فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم. (1)
- وقال رحمه الله: فانظر كيف تلاعب الشيطان بهؤلاء وذهب بعقولهم فنحتوا بأيديهم ما عبدوه، وما أحسن ما عاب الحق سبحانه وتعالى أصنامهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ
_________
(1) التلبيس (128 - 129).(7/218)
أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (1). وكانت الإشارة إلى العباد، أي: أنتم تمشون وتبطشون وتبصرون وتسمعون والأصنام عاجزة عن ذلك وهي جماد وهم حيوان فكيف عبد التّامُّ النّاقصَ. ولو تفكروا لعلموا أن الإله يصنع الأشياء ولا يُصنع، ويجمع وليس بمجموع، وتقوم الأشياء به ولا يقوم بها، وإنما ينبغي للإنسان أن يعبد من صنعه لا ما صنعه. وما خيل إليهم أن الأصنام تشفع فخيال ليس فيه شبهة يتعلق بها. (2)
- وقال مبيّناً سخف الفلاسفة ومن ضاهاهم: وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم، فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة، كما ينقل من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وجالينوس، وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أموراً خفية إلا أنهم لما تكلموا في الإلهيات خلطوا؛ ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا في الحسيات والهندسيات. وقد ذكرنا جنس تخليطهم في معتقداتهم.
وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة، والرجوع فيها إلى الشرائع. وقد حكي لهؤلاء المتأخرين في أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع، ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس وحيلاً، فصدقوا فيما حكي لهم عنهم، ورفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا
_________
(1) الأعراف الآية (195).
(2) تلبيس إبليس (ص.77 - 78).(7/219)
المحذورات واستهانوا بحدود الشرع وخلعوا ربقة الإسلام، فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات، والمبتدعة في الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر في الأدلة، وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء. أتراهم ما علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة؟
وما قد حكي لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال؛ فإن أكثر القوم يثبتون الصانع ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها وشذ منهم قليل، فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة، وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير، فلا هم يعملون بمقتضاه ولا بمقتضى الإسلام؛ بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي، ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق وعلى النبوات، ويتكلم في إنكار بعث الأجساد ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر فَأَضَرَّ بِهِ، فهو عامة زمانه في تسخط على الأقدار والاعتراض على المقدر، حتى قال لي بعضهم: أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك. وكان يقول أشعاراً كثيرة في هذا المعنى، فمنها قوله في صفة الدنيا قال:
أتراها صنعة من غير صانع ... أم تراها رمية من رام
وقوله:
واحيرتا من وجود ما تقدمه ... منا اختيار ولا علم فيقتبس
كأنه في عماء ما يخلصنا ... منه ذكاء ولا عقل ولا شرس
ونحن في ظلمة ما إن لها قمر ... فيها يضيء ولا شمس ولا قبس(7/220)
مدلهين حيارى قد تكنفنا ... جهل يجهمنا في وجهه عبس
فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل ... والقول فيه كلام كله هوس
ولما كانت الفلاسفة قريباً من زمان شريعتنا، والرهبنة كذلك، مدّ بعض أهل ملتنا يده إلى التمسك بهذه وبعضهم مدّ يده إلى التمسك بهذه، فترى كثيراً من الحمقى إذا نظروا في باب الاعتقاد تفلسفوا، وإذا نظروا في باب التزهد ترهبنوا، فنسأل الله ثباتاً على ملتنا وسلامة من عدونا، إنه ولي الإجابة. (1)
- وقال: قد لبس على خلق كثير فجحدوا البعث، واستهولوا الإعادة بعد البلاء، وأقام لهم شبهتين:
إحداهما: أنه أراهم ضعف المادة.
والثانية: اختلاط الأجزاء المتفرقة في أعماق الأرض. قالوا: وقد يأكل الحيوان الحيوان فكيف يتهيأ إعادته؟ وقد حكى القرآن شبهتهم فقال تعالى في الأولى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} (2). وقال في الثانية: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (3). وهذا كان مذهب أكثر الجاهلية، قال قائلهم:
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.63 - 65).
(2) المؤمنون الآيتان (35و36).
(3) السجدة الآية (10).(7/221)
يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام
وقال آخر (وهو أبو العلاء المعريّ):
حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو
والجواب عن شبهتهم الأولى: أن ضعف المادة في الثاني وهو التراب يدفعه كون البداية من نطفة ومضغة وعلقة: ثم أصل الآدميين وهو آدم من تراب على أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً مستحسناً إلا من مادة سخيفة. فإنه أخرج هذا الآدمي من نطفة، والطاووس من البيضة المدرة والطرفة الخضراء من الحبة العفنة.
فالنظر ينبغي أن يكون إلى قوة الفاعل وقدرته لا إلى ضعف المواد. وبالنظر إلى قدرته يحصل جواب الشبهة الثانية، ثم قد أرانا كالأنموذج في جمع التمزق فإن سحالة الذهب المتفرقة في التراب الكثير إذا أُلقي عليها قليل من زئبق اجتمع الذهب مع تبدده، فكيف بالقدرة الإلهية التي من تأثيرها خلق كل شيء لا من شيء، على أنا لو قدرنا أن نحيل هذا التراب ما استحالت إليه الأبدان لم يصر بنفسه، لأن الآدمي بنفسه لا ببدنه؛ فإنه ينحل ويسمن، ويهزل ويتغير من صغر إلى كبر وهو هو، ومن أعجب الأدلة على البعث أن الله عز وجل قد أظهر على يدي أنبيائه ما هو أعظم من البعث وهو قلب العصا حية حيواناً، وأخرج ناقة من صخرة، وأظهر حقيقة البعث على يدي عيسى صلوات الله وسلامه عليه. (1)
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.97 - 98).(7/222)
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: وقام إليه رجل بغيض، فقال: يا سيدي: نريد كلمة ننقلها عنك، أيما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال: اجلس، فجلس، ثم قام، فأعاد مقالته، فأقعده، ثم قام، فقال: اقعد، فأنت أفضل من كل أحد. (1)
- وفيها: سئل ابن الجوزي والخليفة يسمع: من أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أفضلهم بعده من كانت بنته تحته. وهذا جواب جيد يصدق على أبي بكر وعلى علي. (2)
- وفيها: وقد نالته محنة في أواخر عمره، ووشوا به إلى الخليفة الناصر عنه بأمر اختلف في حقيقته، فجاء من شتمه، وأهانه، وأخذه قبضا باليد، وختم على داره، وشتت عياله، ثم أقعد في سفينة إلى مدينة واسط، فحبس بها في بيت حرج، وبقي هو يغسل ثوبه، ويطبخ الشيء، فبقي على ذلك خمس سنين ما دخل فيها حماما. قام عليه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر، وكان ابن الجوزي لا ينصف الشيخ عبد القادر، ويغض من قدره، فأبغضه أولاده، ووزر صاحبهم ابن القصاب، وقد كان الركن رديء المعتقد، متفلسفا، فأحرقت كتبه بإشارة ابن الجوزي، وأخذت مدرستهم، فأعطيت لابن الجوزي، فانسم الركن، وقد كان ابن القصاب الوزير يترفض، فأتاه الركن، وقال: أين أنت عن ابن الجوزي الناصبي؟! وهو أيضا من أولاد أبي بكر، فصرف الركن في الشيخ، فجاء وأهانه، وأخذه معه
_________
(1) السير (21/ 371).
(2) السير (22/ 200).(7/223)
في مركب، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل، وعلى رأسه تخفيفة، وقد كان ناظر واسط شيعيا أيضا، فقال له الركن: مكني من هذا الفاعل لأرميه في مطمورة، فزجره، وقال: يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي، لبذلت روحي في خدمته، فرد الركن إلى بغداد. وكان السبب في خلاص الشيخ أن ولده يوسف نشأ واشتغل، وعمل في هذه المدة الوعظ وهو صبي، وتوصل حتى شفعت أم الخليفة، وأطلقت الشيخ، وأتى إليه ابنه يوسف، فخرج، وما رد من واسط حتى قرأ هو وابنه بتلقينه بالعشر على ابن الباقلاني، وسن الشيخ نحو الثمانين، فانظر إلى هذه الهمة العالية. (1)
- وقال في التلبيس: وكما لبس إبليس على هؤلاء الخوارج حتى قاتلوا علي بن أبي طالب. حمل آخرين على الغلو في حبه. فزادوه على الحد، فمنهم من كان يقول هو الإله. ومنهم من يقول هو خير من الأنبياء. ومنهم من حمله على سب أبي بكر وعمر، حتى إن بعضهم كفر أبا بكر وعمر إلى غير ذلك من المذاهب السخيفة التي يرغب عن تضييع الزمان بذكرها. (2)
- وفيه: وغلو الرافضة في حب علي رضي الله عنه حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه. (3)
_________
(1) السير (21/ 376 - 377).
(2) تلبيس إبليس (ص.118).
(3) تلبيس إبليس (ص.120).(7/224)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين، ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس، ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى. والحديث بإسناد عن الطوسي يقول سمعت أبا بكر بن المثاقف يقول: سألت الجنيد بن محمد عن التصوف، فقال: الخروج عن كل خلق رديء، والدخول في كل خلق سني، وبإسناد عن عبد الواحد بن بكر قال: سمعت محمد بن خفيف يقول: قال رويم: كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق. وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق.
قال المصنف: وعلى هذا كان أوائل القوم فلبس إبليس عليهم في أشياء، ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم، فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني، فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن.
وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات. فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم. وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح، وبالغوا في الحمل على النفوس، حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم(7/225)
على غير الجادة. وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري.
ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات، وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي. وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة. ثم ما زال الأمر ينمي والأشياخ يضعون لهم أوضاعاً ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر. ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه فكأنهم تخايلوا شخصاً مستحسن الصورة فهاموا به. وهؤلاء بين الكفر والبدعة ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم. فمن هؤلاء من قال بالحلول، ومنهم من قال بالاتحاد. وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سنناً، وجاء أبو عبد الرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم. وإنما حملوه على مذاهبهم. والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن. وقد أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري: كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئاً يسيراً، فلما مات الحاكم أبو عبد الله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين(7/226)
وبأشياء كثيرة سواه. وكان يضع للصوفية الأحاديث.
قال المصنف: وصنف لهم أبو نصر السراج كتاباً سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى. وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة، وما لا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع، وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول -قال بعض المكاشفين- وهذا كلام فارغ، وذكر فيه عن بعض الصوفية أن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه. أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال أبو طاهر محمد بن العلاف: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، فخلط في كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق. فبدعه الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك، قال الخطيب: وصنف أبو طالب المكي كتاباً سماه قوت القلوب على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستبشعة في الصفات.
قال المصنف: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية. وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة، ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة رضي الله عنهم. فذكر عنهم فيه العجب، وذكر منهم شريحاً القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل. وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية الفضيل وإبراهيم بن أدهم ومعروفاً الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار(7/227)
إلى أنهم من الزهاد.
فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد، ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره، وصنف لهم عبد الكريم بن هوازن القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء، والقبض والبسط، والوقت والحال، والوجد والوجود، والجمع والتفرقة، والصحو والسكر، والذوق والشرب، والمحو والإثبات، والتجلي والمحاضرة، والمكاشفة واللوائح، والطوالع واللوامع، والتكوين والتمكين، والشريعة والحقيقة إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء، وتفسيره أعجب منه.
وجاء محمد بن طاهر المقدسي فصنف لهم صفوة التصوف، فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها، سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة: قال وصنف كتاباً في جواز النظر إلى المرد، أورد فيه حكاية عن يحيى بن معين قال: رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها. فقيل له: تصلي عليها. فقال: صلى الله عليها وعلى كل مليح. قال شيخنا ابن ناصر: وليس ابن طاهر بمن يحتج به، وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه. وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله(7/228)
عز وجل ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه المفصح بالأحوال: إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
قال المصنف: وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنن والإسلام والآثار، وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم. وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد، وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة، ولا كلاماً أرق من كلامهم، وفي سير السلف نوع خشونة. ثم إن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع، والطباع تميل إليها. وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء. (1)
- وقال أيضاً: تأملت أحوال الصوفية والزهاد، فرأيت أكثرها منحرفاً عن الشريعة؛ بين جهل بالشرع، وابتداع بالرأي؛ يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، وبأحاديث لها أسباب، وجمهورها لا يثبت.
فمن ذلك أنهم سمعوا في القرآن العزيز: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} (2)، {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} (3)، ثم سمعوا في
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.201 - 206).
(2) آل عمران الآية (185).
(3) الحديد الآية (20).(7/229)
الحديث: «للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها» (1)؛ فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها! وذلك أنه ما لم يُعرف حقيقةُ الشيء؛ فلا يجوز أن يُمدح ولا أن يُذمّ.
فإذا بحثنا عن الدنيا؛ رأينا هذه الأرض البسيطة التي جُعلت قراراً للخلق؛ تخرج منها أقواتهم، ويُدفن فيها أمواتهم. ومثل هذا لا يذمّ لموضع المصلحة فيه. ورأينا ما عليها من ماء وزرع وحيوان؛ كله لمصالح الآدمي، وفيه حفظ لسبب بقائه، ورأينا بقاء الآدمي سبباً لمعرفة ربه وطاعته إياه وخدمته. وما كان سبباً لبقاء العارف العابد يُمدح ولا يُذمّ. فبان لنا أنّ الذّمّ إنما هو لأفعال الجاهل أو العاصي في الدنيا. فإنه إذا اقتنى المال المباح، وأدّى زكاته؛ لم يُلَمْ؛ فقد علم ما خلّف الزبير وابن عوف وغيرهما. وبلغت صدقة عليّ رضي الله عنه أربعين ألفاً. وخلّف ابن مسعود تسعين ألفاً. وكان الليث ابن سعد يستغل كل سنة عشرين ألفاً. وكان سفيان يتجر بمال. وكان ابن مهديّ يستغلّ كل سنة ألفي دينار.
وإن أكثر من النكاح والسراري؛ كان ممدوحاً لا مذموماً: فقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - زوجات وسراريّ. وجمهور الصحابة كانوا على الإكثار في ذلك. وكان لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أربع حرائر وسبع عشرة أمة. وتزوج ولده الحسن نحواً من أربع مئة. فإن طلب التزوج للأولاد؛ فهو الغاية في التعبد، وإن أراد التلذذ؛ فمباح، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى؛ من
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 365) والبخاري في الأدب المفرد (962) ومسلم (4/ 2272/2957) وأبو داود (1/ 130/186) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(7/230)
إعفاف نفسه والمرأة ... إلى غير ذلك.
وقد أنفق موسى عليه السلام من عمره الشريف عشر سنين في مهر ابنة شعيب. فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء؛ لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (خيار هذه الأمة أكثرها نساءً). (1) وكان يطأ جارية له، وينزل في أخرى. وقالت سرية الربيع بن خثيم: كان الربيع يعزل.
وأما المطعم؛ فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل، وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل ما وجد؛ فإن وجد اللحم؛ أكله، ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل، وما نُقل عنه أنه امتنع من مباح.
وجيء علي رضي الله عنه بفالوذج، فأكل منه، وقال: ما هذا؟ قالوا: يوم النوروز. فقال: نَوْرِزونا كل يوم.
وإنما يُكره الأكل فوق الشبع، واللبس على وجه الاختيال والبَطَر.
وقد اقتنع أقوام بالدون من ذلك؛ لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد، وإلا فقد لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - حلة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيراً، وكان لتميم الداري حلة اشتريت له بألف درهم يصلي فيها بالليل.
فجاء أقوام، فأظهروا التزهد، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى، ثم
_________
(1) البخاري (9/ 140/5069).(7/231)
تطلبوا لها الدليل، وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقاً ويتطلب دليلها! ثم انقسموا:
فمنهم متصنع في الظاهر، ليث الشرى في الباطن، يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات، ويُري الناس بزيّه أنه متصوف متزهد، وما تزهد إلا القميص، وإذا نظر إلى أحواله؛ فعنده كبر فرعون. ومنهم سليم الباطن؛ إلا أنه في الشرع جاهل. ومنهم من تصدر، وصنف، فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة، وكانوا كعمي اتبعوا أعمى، ولو أنهم تلمّحوا للأمر الأول الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم؛ لما زلّوا.
ولقد كان جماعة من المحققين لا يبالون بمعظَّم في النفوس إذا حاد عن الشريعة، بل يوسعونه لوماً.
فنُقل عن أحمد أنه قال له المروزي: ما تقول في النكاح؟ فقال: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: فقد قال إبراهيم. قال: فصاح بي وقال: جئتنا ببُنيّات الطريق؟
وقيل له: إن سريّاً السقطيّ قال: لما خلق الله تعالى الحروف؛ وقف الألف وسجدت الباء. فقال: نفّروا الناس عنه.
واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم؛ كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أتظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل؟ فقال له: إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق؛ تعرفْ أهله.
ولعمري؛ إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام؛ فإذا نُقل عنهم شيء،(7/232)
فسمعه جاهل بالشرع؛ قبله؛ لتعظيمهم في نفسه. كما ينقل عن أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال: تراعنت علي نفسي، فحلفت لا أشرب الماء سنة. وهذا إذا صحّ عنه؛ كان خطأ قبيحاً وزلة فاحشة؛ لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء؛ فإذا لم يشرب؛ فقد سعى في أذى بدنه، وقد كان يُستعذب الماء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكها؟!
وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية أنه قال: سرتُ إلى مكة على طريق التوكل حافياً، فكانت الشوكة تدخل في رجلي، فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان عليَّ مِسْحٌ، فكانت عيني إذا آلمتني؛ أدلكها بالمسح، فذهبت إحدى عينيّ.
وأمثال هذا كثير، وربما حملها القصاص على الكرامات، وعظموها عند العوامّ، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي وأحمد!!
ولعمري؛ إن هذا من أعظم الذنوب وأقبح العيوب: لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (1). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن لنفسك عليك حقّاً» (2).
وقد طلب أبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظلاًّ، حتى
_________
(1) النساء الآية (29).
(2) جزء من حديث رواه أحمد (2/ 200) والبخاري (3/ 48/1153) ومسلم (2/ 816/1159 [188]) والنسائي (4/ 527 - 528/ 2390) من طرق عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.(7/233)
رأى صخرة، ففرش له في ظلها.
وقد نُقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط، وكان سببه من وجهين: أحدهما: الجهل بالعلم. والثاني: قرب العهد بالرهبانية. وقد كان الحسن يعيب فرقداً السبخي ومالك بن دينار في زهدهما، فرُئِي عنده طعام فيه لحم، فقال: لا رغيفَيْ مالك، ولا صَحْنَيْ فرقد.
ورأى على فرقد كساء، فقال: يا فرقد! إن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية.
وكم قد زوّق قاصّ مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد ولا ماء، وهو لا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال، وأن الله تعالى لا يجرب عليه؛ فربما سمعه جاهل من التائبين، فخرج، فمات في الطريق، فصار للقائل نصيب من إثمه!!
وكم يروون عن ذي النون: أنه لقي امرأة في السياحة، فكلمها وكلمته، وينسون الأحاديث الصحاح: «لا يحلّ لامرأة أن تسافر يوماً وليلةً إلا بمحرم» (1)!!
وكم ينقلون أن أقواماً مشوا على الماء؛ وقد قال إبراهيم الحربيّ: لا يصحّ أنّ أحداً مشى على الماء قطً! فإذا سمعوا هذا؛ قالوا: أتُنكرون كرامات الأولياء الصالحين؟! فنقول: لسنا من المنكرين لها، بل نتّبع ما صحّ،
_________
(1) رواه: أحمد (2/ 236) والبخاري (2/ 720/1088) ومسلم (2/ 977/1339 [421]) وأبو داود (2/ 347/1724) والترمذي (3/ 473/1170) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم.(7/234)
والصالحون هم الذين يتّبعون الشرع ولا يتعبّدون بآرائهم. وفي الحديث: «إنّ بني إسرائيل شدّدوا فشدّد الله عليهم» (1).
وكم يحثّون على الفقر، حتى حملوا أقواماً على إخراج أموالهم، ثم آل بهم الأمر: إما إلى التّسخّط عند الحاجة، وإما إلى التّعرضّ بسؤال الناس!
وكم تأذّى مسلم بأمرهم الناس بالتقلّل! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثلثٌ طعام، وثلث شراب، وثلث نفس» (2)؛ فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل.
فحكى أبو طالب المكي في 'قوت القلوب': أن فيهم من كان يزن قوته بكَرَبَة رطبة؛ ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل! وكنت أنا ممّن اقتدى بقوله في الصّبا، فضاق المعي، وأوجب ذلك مرض سنين! أفترى هذا شيئاً تقتضيه الحكمة أو ندب إليه الشرع؟! وإنما مطية الآدمي قُواه؛ فإذا سعى في تقليلها؛ ضعف عن العبادة.
ولا تقولن: الحصول على الحلال المحض مستحيل؛ لذلك وجب الزهد؛ تجنباً للشبهات؛ فإن المؤمن حسبه أن يتحرى في كسبه هو الحلال، ولا عليه من الأصول التي نبتت منها هذه الأموال؛ فإنا لو دخلنا ديار الروم، فوجدنا أثمان الخمور وأجرة الفجور؛ كان لنا حلالاً بوصف الغنيمة.
أفتُريد حلالاً على معنى أن الحبّة من الذهب لم تنتقل مذ خرجت من
_________
(1) رواه أبو داود (5/ 209 - 210/ 4904) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: « ... لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد عليكم، فإن قوماً شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ... ».
وقد ضعّفه ابن القيّم رحمه الله في تهذيب السنن (انظر مختصر سنن أبي داود للمنذري (7/ 227 - 228)).
(2) رواه: أحمد (4/ 132) والترمذي (4/ 509 - 510/ 2380) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1111/3349) من حديث المقدام بن معديكرب.(7/235)
المعدن على وجه لا يجوز؟! فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أَوَلَيس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تُصدق على بريرة بلحم، فأهدته؛ جاز له أكل تلك العين لتغيُّر الوصف. وقد قال أحمد بن حنبل: أكره التقلل من الطعام؛ فإن أقواماً فعلوه؛ فعجزوا عن الفرائض. وهذا صحيح؛ فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل، ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير قد كان يفعله.
ولا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحثّ على الجوع، فإن المراد بها: إما الحث على الصوم، وإما النهي عن مقاومة الشبع؛ فأما تنقيص المطعم على الدوام؛ فمؤثر في القوى؛ فلا يجوز.
ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يود أن يأكله كل يوم.
واسمع مني بلا محاباة: لا تحتجنّ عليّ بأسماء الرجال، فتقول: قال بشر، وقال إبراهيم بن أدهم؛ فإن من احتجّ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أقوى حجّة. على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظّنّ ... وهل الناس إلا صاحب أثر يتّبعُهُ، أو فقيه يفهم مراد الشرع ويُفتي به؟! نعوذ بالله من الجهل وتعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل! فإن من ورد المشرب الأول؛ رأى سائر المشارب كدرة.
والمحنة العظمى مدائح العوامّ؛ فكم غرّت! كما قال علي رضي الله عنه: ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً.
ولقد رأينا وسمعنا من العوامّ أنهم يمدحون الشخص، فيقولون: لا ينام(7/236)
الليل، ولا يفطر النهار، ولا يعرف زوجة، ولا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً؛ قد نحل جسمه، ودق عظمه، حتى إنه يصلي قاعداً؛ فهو خير من العلماء الذين يأكلون ويتمتعون! ذلك مبلغهم من العلم! ولو فقهوا؛ علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمة، فتناولها عالم يفتي عن الله ويخبر بشريعته؛ كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً وأفضل من عبادة ذلك العابد باقي عمره. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد.
ومن سمع هذا الكلام؛ فلا يظنّنّ أنني أمدح من لا يعمل بعلمه، وإنما أمدح العاملين بالعلم، وهم أعلم بمصالح أنفسهم؛ فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش؛ كأحمد بن حنبل، وكان فيهم من يستعمل رقيق العيش؛ كسفيان الثوري مع ورعه، ومالك مع تدينه، والشافعي مع قوة فقهه.
ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره فيضعف هو عنه؛ فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه.
وقد قالت رابعة: إن كان صلاح قلبك في الفالوذج؛ فكله.
ولا تكوننّ أيها السامع ممّن يرى صور الزهد؛ فربّ متنعّم لا يريد التنعم، وإنما يقصد المصلحة، وليس كل بدن يقوى على الخشونة، خصوصاً من قد لاقى الكدّ وأجهده الفكر، أو أمضّه الفقر؛ فإنه إن لم يرفق بنفسه؛ ترك واجباً عليه من الرفق بها.
فهذه جملة؛ لو شرحتُها بذكر الأخبار والمنقولات؛ لطالت، غير أني(7/237)
سطرتها على عجل حين جالت في خاطري. والله وليّ النفع برحمته. (1)
- قال في تلبيس إبليس: ومن تلبيسه على الزهاد: إعراضهم عن العلم شغلا بالزهد، فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وبيان ذلك: أن الزاهد لا يتعدى نفعه عتبة بابه والعالم نفعه متعد. وكم قد رد إلى الصواب من متعبد. ومن تلبيسه عليهم: أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات، فمنهم من لا يزيد على خبز الشعير. ومنهم من لا يذوق الفاكهة. ومنهم من يقلل المطعم حتى ييبس بدنه، ويعذب نفسه بلبس الصوف، ويمنعها الماء البارد. وما هذه طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا طريق أصحابه وأتباعهم. (2)
- وفيه أيضا قال مخاطبا الصوفية: وإنما خدعكم الشيطان فصرتم عبيد شهواتكم، ولم تقفوا حتى قلتم هذه الحقيقة. وأنتم زنادقة في زي عباد، شرهين في زي زهاد، مشبهة تعتقدون أن الله عز وجل يعشق ويهام فيه. ويؤلف ويؤنس به، وبئس التوهم، لأن الله عز وجل خلق الذوات مشاكلة، لأن أصولها مشاكلة فهي تتوانس وتتوالم بأصولها العنصرية وتراكيبها المثلية في الأشكال الحديثة، فمن ههنا جاء التلاؤم والميل وعشق بعضهم بعضا، وعلى قدر التقارب في الصورة يتأكد الأنس. (3)
- وفيه أيضا قال: اعلم أن أول تلبيس إبليس على الناس صدهم عن العلم لأن العلم نور، فإذا أطفأ مصابيحهم خبطهم في الظلم كيف شاء. وقد
_________
(1) صيد الخاطر (ص.61 - 79).
(2) التلبيس (186).
(3) التلبيس (302).(7/238)
دخل على الصوفية في هذا الفن من أبواب. أحدها أنه منع جمهورهم من العلم أصلا، وأراهم أنه يحتاج إلى تعب وكلف فحسن عندهم الراحة، فلبسوا المراقع وجلسوا على بساط البطالة. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال في معرض ذكره لتلبيس إبليس على هذه الأمة في العقائد والديانات: فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد وساقهم سوق البهائم. ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم على قدر تمكنه منهم، فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد وأمره بالنظر، ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز. فساقهم إلى مذهب الفلاسفة، ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام. وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة. ومن هؤلاء من حسن له أن لا يعتقد إلا ما أدركته حواسه. فيقال لهؤلاء: بالحواس علمتم صحة قولكم؟ فإن قالوا: نعم كابروا، لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا، إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف، وإن قالوا بغير الحواس، ناقضوا قولهم. ومنهم من نفره إبليس عن التقليد وحسن له الخوض في علم الكلام والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عن غمار العوام. وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد.
ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يروي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض
_________
(1) التلبيس (389).(7/239)
فيه.
ثم قال: قلت وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا: إن الله عز وجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها. وقال جهم بن صفوان، علم الله وقدرته وحياته محدثة. وقال أبو محمد النوبختي عن جهم أنه قال: إن الله عز وجل ليس بشيء. وقال أبو علي الجبائي وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين: المعدوم شيء وذات ونفس وجوهر وبياض وصفرة وحمرة، وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ولا العرض عرضا ولا الجوهر جوهرا وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود. (1)
- وقال أيضا: قلت أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة. وقد زعم أرباب الكلام أنه لا يتم الإيمان إلا بمعرفة ما رتبوه وهؤلاء على خطأ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإيمان ولم يأمر ببحث المتكلمين، ودرجت الصحابة الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس على ذلك. (2)
- وقال: فإن قال قائل قد عبت طريق المقلدين في الأصول وطريق المتكلمين، فما الطريق السليم من تلبيس إبليس؟ فالجواب أنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير ولا بحث عما ليس في قوة البشر إدراكه، وأن القرآن كلام الله غير
_________
(1) التلبيس (102 - 103).
(2) التلبيس (104).(7/240)
مخلوق. (1)
- وقال يوما: أهل الكلام يقولون: ما في السماء رب، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، ثلاث عورات لكم. (2)
وقال رحمه الله: ليس على العوامّ أضرّ من سماعهم علم الكلام. وإنما ينبغي أن يُحذر العوامّ من سماعه والخوض فيه، كما يُحذر الصبيّ من شاطئ النهر خوف الغرق.
وربما ظنّ العامّيّ أن له قوة يدرك بها هذا، وهو فاسد؛ فإنه قد زلّ في هذا خلقٌ من العلماء؛ فكيف العوامّ؟!
وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا؛ فإنه يحضر عندهم العوامّ الغُشم، فلا ينهونهم عن خمر وزنى وغيبة، ولا يعلِّمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبّد، بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات، وأن الكلام قائم بالذات، فيتأذى بذلك مَن كان قلبه سليماً.
وإنما على العامّيّ أن يؤمن بالأصول الخمسة؛ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآٍخر، ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، والاستواء حق، والكيف مجهول.
وليعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكلّف الأعراب سوى مجرّد الإيمان، ولم تتكلّم الصحابة في الجواهر والأعراض؛ فمن مات على طريقهم؛ مات مؤمناً سليماً من بدعة. ومن تعرّض لساحل البحر، وهو لا يحسن السباحة؛
_________
(1) التلبيس (108 - 109).
(2) السير (21/ 376).(7/241)
فالظاهر غرقه. (1)
- وقال: ثم نظر إبليس، فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة، فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوامّ، فحسّن لهم علوم الكلام، وصاروا يحتجّون بقول بقراط وجالينوس وفيثاغورس!! وهؤلاء ليسوا بمتشرِّعين، ولا تبعوا نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قالوا بمقتضى ما سوّلت لهم أنفسهم.
وقد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد؛ شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث، فيثبت الإيمان في قلبه؛ فقد توانى الناس عن هذا، فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل، وينبذ أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: أخبار آحادٍ! وأصحاب الحديث عندهم يسمّون: حشويّة!!
ويعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة والهيولى والجزء الذي لا يتجزّأ ... ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق، فيدفعون ما صحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواقعاتهم:
فيقول المعتزلة: إن الله لا يُرى؛ لأن المرئيّ يكون في جهة! ويخالفون قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تُضامون في رؤيته»؛ فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته وإن عجزنا عن فهم كيفيّتها.
وقد عُزِلَ هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن، وقالوا: مخلوقٌ! فزالت حُرمته من القلوب. وعن السنة، وقالوا: أخبارُ آحادٍ! وإنما مذاهبهم السّرقة من بقراط وجالينوس.
_________
(1) صيد الخاطر (ص.569).(7/242)
وقد استفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفِّه نفسَه عن تعب الصلاة والصوم! وقد كان كبار العلماء يذمّون علم الكلام، حتى قال الشافعي: حكمي فيهم أن يُركبوا على البغال، ويشهروا، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل بالكلام.
وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم!!
فاللهَ اللهَ من مخالطة المبتدعة، وعليكم بالكتاب والسنة؛ ترشُدوا. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: أول الخوارج وأقبحهم حالةً ذو الخويصرة أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب ثنا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا محمد ابن فضيل ثنا عمارة بن القعقاع عن ابن أبي يعمر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه من اليمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذهبة في أديم مقروظ لم تخلص من ترابها، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة بين زيد الخيل والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل شك عمارة فوجد من ذلك بعض أصحابه والأنصار وغيرهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً؟» ثم أتاه رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين ناتئ الجبهة كث اللحية مشمر الإزار محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا رسول الله! فرفع رأسه إليه فقال: «ويحك أليس أحق الناس أن يتقي الله أنا؟» ثم
_________
(1) صيد الخاطر (ص.760 - 762).(7/243)
أدبر فقال خالد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلعله يصلي». فقال: إنه ربّ مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم». ثم نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مقفٍ فقال: «إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كم يمرق السهم من الرميّة». (1)
قال المصنف: هذا الرجل يقال له ذو الخويصرة التميمي، وفي لفظ أنه قال له: اعدل! فقال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وذلك أنه لما طالت الحرب بين معاوية وعلي رضي الله عنهما رفع أصحاب معاوية المصاحف ودعوا أصحاب علي إلى ما فيها، وقال: تبعثون منكم رجلاً ونبعث منا رجلاً. ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله عز وجل. فقال الناس قد رضينا. فبعثوا عمرو بن العاص فقال أصحاب علي: ابعث أبا موسى. فقال علي: لا أرى أن أوليّ أبا موسى، هذا ابن عباس. قالوا: لا يزيد رجلاً منك. فبعث أبا موسى وأخر القضاء إلى رمضان. فقال عروة بن أذينة: تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله. ورجع علي من صفين، فدخل الكوفة ولم تدخل معه الخوارج؛ فأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً؛ وقالوا: لا حكم إلا لله. وكان ذلك أول ظهورهم ونادى مناديهم أن أمير القتال شبيب بن ربعي التميمي وأمير
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 4 - 5) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم [2/ 741 - 742/ 1064 (143و144)] بهذا اللفظ.(7/244)
الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري. وكانت الخوارج تتعبد إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهذا مرض صعب. (1)
- وقال: ولهم قصص تطول ومذاهب عجيبة لهم، لم أر التطويل بذكرها، وإنما المقصود النظر في حيل إبليس وتلبيسه على هؤلاء الحمقى الذين عملوا بواقعاتهم، واعتقدوا أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الخطأ ومن معه من المهاجرين والأنصار على الخطأ، وأنهم على الصواب. واستحلوا دماء الأطفال ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها وتعبوا في العبادات وسهروا، وجزع ابن ملجم عند قطع لسانه من فوات الذكر. واستحل قتل علي كرم الله وجهه.
ثم شهروا السيوف على المسلمين، ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم واعتقادهم أنهم أعلم من علي رضي الله عنه، فقد قال ذو الخويصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اعدل فما عدلت! وما كان إبليس ليهتدي إلى هذه المخازي نعوذ بالله من الخذلان. (2)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث، وهذا العلم يوجب نفي الاعتراض على القدر. وقد لهج خلقٌ بالاعتراض قدحاً في الحكمة، وذلك كفر. وأولهم إبليس في قوله: {خَلَقْتَنِي
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.110 - 112).
(2) تلبيس إبليس (ص.116 - 117).(7/245)
مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} (1)! ومعنى قوله: إن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة!! وقد رأيت من كان فقيهاً دأبه الاعتراض! وهذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل، ولو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا؛ حَسُنَ أن يُعترض عليه؛ فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته؛ فاعتراض الناقص الجاهل عليه جنون.
فأما اعتراض الخلعاء؛ فدائم؛ لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم؛ فمتى انكسر لأحدهم غرض؛ اعترض. وفيهم من يتعدى إلى ذكر الموت، فيقول: بنى ونقض!! وكان لنا رفيق؛ قرأ القرآن والقراءات، وسمع الحديث الكثير، ثم وقع في الذنوب، وعاش أكثر من سبعين سنة، فلما نزل به الموت؛ ذُكر لي أنه قال: قد ضاقت الدنيا إلا من روحي!! ومن هذا الجنس سمعتُ شخصاً يقول عند الموت: ربّي يظلمني!!
وهذا كثير! ويُكره أن يُحكى كلامُ الخلعاء في جنونهم واعتراضاتهم الباردة.
ولو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة ومارستان صبر ليبين بذلك أثرُ الخالق؛ لما اعترضوا، والذي طلبوه من السلامة وبلوغ الأغراض أمامهم لو فهموا؛ فَهُمْ كالزورجاري يتلوّث بالطين؛ فإذا فرغ لبس ثياب النظافة.
ولما أريد نقضُ هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء نُحّيت عنه النفس الشريفة، وبُني بناء لا يقبل الدوام.
_________
(1) ص الآية (76).(7/246)
وبعد هذا؛ فقُلْ للمعترض: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} (1).
قل له إن اعترض: لم يمنع ذلك جريان القدر، وإن سلّم: جرى القدر؛ فلأن يجريَ وهو مأجور خيرٌ من أن يجري وهو مأزور. (2)
لُؤْلُؤ العَادِلِي (3) (598 هـ)
لؤلؤ صاحب الحاجب العادلي من أبطال الإسلام وكبار الدولة. قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: كان شيخا أرمنيا في الأصل من أجناد القصر، وخدم مع صلاح الدين مقدما للأصطول، وكان حيثما توجه فتح وانتصر وغنم. إلى أن قال: وكان يتصدق كل يوم باثني عشر ألف رغيف مع قدور الطعام. وكان يضعّف ذلك في رمضان، ويضع ثلاثة مراكب كل مركب طوله عشرون ذراعا مملوء طعاما ويدخل الفقراء أفواجا. حارب الإفرنج -أي الصليبيين الذين أرادوا احتلال المدينة النبوية- وأسرهم، وتولى قتلهم الفقهاء والصالحون.
توفي رحمه الله بمصر في صفر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
موقفه من المشركين:
_________
(1) الحج الآية (15).
(2) صيد الخاطر (ص.768 - 770).
(3) تاريخ الإسلام (حوادث 591 - 600/ص.363 - 365) والسير (21/ 384 - 385) وشذرات الذهب (4/ 336) والبداية والنهاية (13/ 26).(7/247)
قال الذهبي: وقيل: إن الملاعين (يعني الصليبيين) التجؤوا منه إلى جبل، فترجل، وصعد إليهم في تسعة أجناد، فألقي في قلوبهم الرعب، وطلبوا منه الأمان، وقتلوا بمصر، تولى قتلهم العلماء والصالحون. (1)
أبو الحسن ابن نُجَيَّة (2) (599 هـ)
الشيخ الواعظ الفقيه، زين الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الدمشقي الحنبلي المشهور بابن نجية. ولد سنة ثمان وخمسمائة وسمع من علي ابن أحمد بن قبيس المالكي، ومن خاله شرف الإسلام، عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الحنبلي، وسعد الخير الأنصاري، وتزوج بابنته المسندة فاطمة. حدث عنه ابن خليل، والشيخ الضياء، ومحمد ابن البهاء. وكان صدرا محتشما نبيلا، ذا جاه ورياسة وسؤدد. قال عنه ابن النجار: كان متدينا، حميد السيرة. وقال أبو شامة: كان كبير القدر. توفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
قال أبو شامة: كان يجري بينه وبين الشهاب الطوسي العجائب، لأنه كان حنبليا وكان الشهاب أشعريا واعظا. جلس ابن نجية يوما في جامع القرافة، فوقع عليه وعلى جماعة سقف، فعمل الطوسي فصلا ذكر فيه {فَخَرَّ
_________
(1) السير (21/ 385).
(2) السير (21/ 393 - 396) والبداية والنهاية (13/ 39) والنجوم الزاهرة (6/ 183) وتاريخ الإسلام (حوادث 591 - 600/ص.398 - 400).(7/248)
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (1).
جاء يوما كلب يشق الصفوف في مجلس ابن نجية، فقال: هذا من هناك، وأشار إلى جهة الطوسي. (2)
محمد بن سام بن حسين الغُورِي صاحب غَزْنَة (3) (599 هـ)
السلطان أبو الفتح محمد بن سام بن حسين الغوري، غياث الدين، صاحب غزنة، أخو السلطان شهاب الدين.
قال ابن البزوري: كان ملكا عادلا، وللمال باذلا. محسنا إلى رعيته، رؤوفا بهم في حكمه وسياسته، كانت به ثغور الأيام باسمة، وكلها بوجوده مواسم، قرب العلماء، وأحب الفضلاء، وبنى المساجد والربط والمدارس، وأدر الصدقات.
قال ابن الأثير: وكان عادلا سخيا، قرب العلماء، وبنى المدارس والمساجد، وكان مظفرا في حروبه لم ينكسر له عسكر. وكان ذا دهاء ومكر وكرم. أسقط المكوس ولم يتعرض لمال أحد. وكان من مات بلا وارث تصدق بما خلفه. وكان فيه فضل وأدب. وقد نسخ عدة مصاحف، لم يبد منه تعصب لمذهب.
وقال ابن كثير: وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له
_________
(1) النحل الآية (26).
(2) السير (21/ 395).
(3) الكامل لابن الأثير (12/ 180 - 182) وسير أعلام النبلاء (21/ 320 - 322) وتاريخ الإسلام (حوادث591 - 600/ص.404 - 406) وتاريخ ابن الوردي (2/ 173) والبداية والنهاية (13/ 38) وشذرات الذهب (4/ 342).(7/249)
راية مع كثرة حروبه، وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة. توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فتملك بعده أخوه السلطان شهاب الدين.
موقفه من المبتدعة:
كان يقول: التعصب في المذاهب قبيح. (1)
أبو البركات التكريتي (2) (599 هـ)
محمد بن أحمد بن سعيد أبو البركات التكريتي المؤيد، له معرفة بالأدب والشعر.
موقفه من المبتدعة:
جاء في إرشاد الأريب -وهو الكتاب المعروف بمعجم الأدباء-:
وكان الوجيه رحمه الله حنبليا ثم صار حنفيا، فلما درس النحو بالنظامية صار شافعيا، فقال فيه المؤيد أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي ثم البغدادي وكان أحد تلامذته، وسمعته من لفظه غير مرة:
ألا مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت دين الشافعي تدينا ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
_________
(1) السير (21/ 321).
(2) ذيل تاريخ بغداد (15/ 10) وذكره الحافظ ابن كثير في وفيات سنة (599هـ) من البداية والنهاية (13/ 39 - 40).(7/250)
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل (1)
أبو محمد اليمني (2) (من القرن السادس الهجري)
من علماء اليمن من القرن السادس الهجري. له كتاب عقائد الثلاث والسبعين فرقة، كان راسخ العلم، واسع الاطلاع في شتى فنون العلم، يدل على ذلك مناقشاته العلمية لآراء الفرق وعقائدها. من كلامه رحمه الله: فإني أذكر لك مقالة الفرقة الهادية المهدية، أهل السنة والجماعة وهم أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وأحمد رحمهم الله تعالى، وهم فرقة واحدة، لأنهم مجمعون على الأصول وإن كانوا مختلفين في الفروع.
موقفه من الجهمية:
قال في كتابه عقائد الثلاث والسبعين فرقة وهو يتحدث عن قول المعتزلة في القرآن: زعموا أنه مخلوق ليس بكلام الله تعالى، واحتجوا بقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (3) قالوا: فذكر الله تعالى أنه محدث، وكل محدث مخلوق، واحتجاجهم في هذا احتجاج فاسد؛ لأن الله تعالى ما عنى بهذا القرآن نفسه أنه محدث، وإنما الحوادث التي يأتي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من المواعظ والأحكام فيه، أي: ما يأتيهم من موعظة من حكم فيه محدث إلا
_________
(1) إرشاد الأريب لياقوت الحموي (17/ 66 - 67) والسير (22/ 88) والبداية والنهاية (13/ 39 - 40) والكامل في التاريخ (12/ 312) وذيل تاريخ بغداد (15/ 10).
(2) مقدمة كتابه عقائد الثلاث والسبعين فرقة تحقيق محمد الغامدي (1/ 1 - 18).
(3) الأنبياء الآيتان (2و3).(7/251)
استمعوه بآذانهم {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي: لم يعملوا به، {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي: غافلة عنه، فهذا المعنى، لا ما ذهبوا إليه والله تعالى أعلم.
فأما القرآن عندنا فغير محدث فيكون مخلوقا، بل هو كلام الله تعالى منه بدا وإليه يعود، والكلام من الذات، والذات قديمة لا نهاية لها، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (1)، وبقوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (2) فذكر أنه علمه ولم يخلقه كالإنسان، ففرق بين الخلق والتعليم، لأن الإنسان من خلقه، والقرآن من علمه، وفيه أسماؤه، كالرحمن الرحيم وغير ذلك، فلو كان القرآن مخلوقا كما ذهبوا إليه، لوجب أن تكون أسماؤه مخلوقة لأنها منه، وإذا لم يجز أن تكون مخلوقة فقد صح أن القرآن غير مخلوق، وبطل ما ذهبوا إليه، وفي هذا كفاية والحمد لله. (3)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله في معرض ذكره لفرق الخوارج: واعلم أن هذه الفرق اجتمعت على أشياء، وانفرد بعضها عن بعض بأشياء، فالذي اجتمعت عليه القول بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان إلى وقت الحدث، وعلي إلى وقت التحكيم، وقالوا: من أتى كبيرة مما وعد الله تعالى عليها العذاب فهو كافر،
_________
(1) النساء الآية (164).
(2) الرحمن الآيات (1 - 3).
(3) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 405 - 406).(7/252)
ومن نظر نظرة إلى امرأة أجنبية أو قبلها فهو مشرك.
قال صاحب الكتاب (1): وهذا باطل، لأنه لو كان كافرا كما ذكروا لوجب عليه ضرب عنقه لأنه قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (2). وهو عندهم لا يجوز قتله، قالوا: ومن زنى وهو بكر، أو سرق ما يجب به القطع، وأقيم به الحد استتيب فإن تاب وإلا قتل، وهذا أيضا خلاف قول الله حيث يقول: {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (3) هذا ما اجتمعوا عليه، فأما ما انفردوا به، فإن نافع بن الأزرق أحد شيوخهم وعظمائهم، انفرد هو وفرقته بإباحة قتل الأطفال والعميان والعرجان والعجائز والمرضى، وحتى إنهم كانوا يطرحون الأطفال في قدور الأقط وهي تغلي، واستحلوا الأمانات، فبلغ ذلك نجدة ابن عامر أحد الخوارج أيضا فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإني يوم فارقتك، وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ في البر، لا تأخذك في الله لومة لائم ولا ترضى معونة ظالم، فقد شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، فأصبت من الحق عينيه، فحزن ذلك الشيطان فأغواك، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، واستمالك فأغواك فغويت حين كفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه من قُعَّدِ المسلمين وضعفهم، فقال عز من
_________
(1) أي أبو محمد اليمني.
(2) محمد الآية (4).
(3) النساء الآية (16).(7/253)
قائل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (1) واستحللت أنت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلهم (2).
ثم كان من رأيك أن لا تؤدي الأمانة إلى أهلها فاتق الله يا نافع، وانظر لنفسك فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل والسلام.
قال مصنف هذا الكتاب (3): نجدة هذا، وفرقته أشبه فرق الخوارج، فكتب إليه نافع بن الأزرق بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فقد أتاني كتابك تقر عيني فيه، وتذكرني وتنصح لي، فتزجرني وتصف ما كنت عليه من الحق، وكنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما تماديت به من إكفار القعد وقتل الأطفال، واستحلال الأمانات، وسأفسر لك إن شاء الله تعالى: أما هؤلاء القعدة، فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن هؤلاء كانوا بمكة -حرسها الله- مقهورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا، وهؤلاء بخلافهم، وأما الأطفال فإن نبي الله نوحا - صلى الله عليه وسلم - كان أعرف بالله مني ومنك،
_________
(1) براءة الآية (91).
(2) الطبراني في الكبير (11/ 330/11906) وفي الأوسط (3/ 15 - 16/ 2018) والبزار في مسنده (3/ 32/2173 كشف الأستار) .. قال الهيثمي (7/ 218): "رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه هلال بن خباب وهو ثقة، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح". وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار (2/ 161 - 162/ 1619).
(3) أي أبو محمد اليمني.(7/254)
حيث قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} (1)، فسماهم بالكفر وهم أطفال، فكيف جاز ذلك في قوم نوح، ولا يجوز ذلك في قومنا، وما بيننا وبينهم إلا السيف، وأما استحلال الأمانات ممن خالفنا، فإن الله تعالى أحل لنا ذمة أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فاتقوا الله يا نجدة، وراجع نفسك لا عذر لك إلا بالتوبة، ولا يسعك خذلاننا والقعود عنا والسلام على من أقر بالحق وعمل به. (2)
- وقال أبو محمد أيضا: فاعلم أيدك الله وأرشدك للصواب أن الناس افترقوا في الإمامة على فرق شتى، قالت الخوارج ومن لف لفيفها بإمامة أبي بكر رضي الله عنه ابتداء، وعمر بعده، وعثمان إلى وقت الحدث، وعلي إلى وقت التحكيم، وتولوهم وأثنوا عليهم خيرا، وقبلوا أقوالهم وأعمالهم بأحسن قبول، وذكروهم بأحمد ذكر، وأمسكوا عن عثمان من وقت الحدث، ورفضوا إمامة علي من وقت التحكيم، وقالوا: حكمتم الرجال في دين الله تعالى، وتبرؤوا منه، وذكروه بأقبح ذكر، وقالوا: شك في دينه، وهو الحيران الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وحملوا قوله وحكمه على البطلان والعصيان. (3)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل
_________
(1) نوح الآيتان (26و27).
(2) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 20 - 23).
(3) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 81).(7/255)
بالجوارح، وكل خصلة من خصال الطاعات المفروضة إيمان. فعلى هذا الإيمان عندهم التصديق، وموضعه القلب والمعبر عنه باللسان، وظاهر الدليل عليه بعد الإقرار شهادة الأركان وهي ثلاثة أشياء: شهادة، واعتقاد، وعمل، فالشهادة تحقن الدم وتمنع المال وتوجب أحكام الله، والعمل يوجب الديانة والعدالة، وهذان ظاهران يوجبان الظاهرة الشريعة، فأما العقيدة فإنها تظهرها الآخرة، لأنها خفية لا يعلمها إلا الله، فمن ترك العقيدة بالقلب وأظهر الشهادة فهو منافق، ومن اعتقدها بقلبه وعبر عنها لسانه وترك العمل بالفرائض عصيانا منه فهو فاسق غير خارج بذلك عن إيمانه، لكنه يكون ناقصا، وتجري عليه أحكام المسلمين، اللهم إلا إن تركها وهو جاحد بوجوبها: فهو كافر حلال الدم ويجب قتله. وأما من اعتقد بقلبه أن الله وحده لا شريك له وأثبته معرفة ووجودا، كما قال أبو جعفر بن محمد رضي الله عنه للأعرابي الذي قال له: رأيت الله حين عبدته؟ قال: ما كنت لأعبد ما لم أره، قال له الأعرابي: فكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة الأعيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس ولا يشبه بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في القضيات، ذلك الله الذي لا اله إلا هو. قال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
فعلى هذا لئن عبر عنه لسانه بما تقدم ذكره، وعمل بجوارحه ما فرض عليه، وصدق بما جاء من عند ربه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه صواب وحكمة وعدل، وأن الطاعة له فيها لازمة، واجتنب الكبائر الموبقة: فهو مؤمن حقا، يزيد إيمانه بالطاعات وينقص بالمعاصي، فيستحق بالطاعات الثواب، ويأمن(7/256)
بترك المعاصي العذاب والعقاب، لكنه يكون بين حالين: خائفا لربه بما أوعد من العقوبات، راجيا له بما وعد من العفو، فيكون بين مخافة ورجا. (1)
وذكر رحمه الله الأدلة على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد.
- وقال أيضا: وأما كسر ما ذهبوا إليه من أن الإيمان لا ينقص بالمعاصي ولا يزداد بالطاعات فغير مسلم لهم، بل يكسره قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} (2) فذكر الله تعالى الزيادة في الإيمان بأفعال الخير، وذكر نقص الإيمان بالمعاصي بقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (3)، فمنع من المساواة بينهم لأن عملهم السيئات نقص في إيمانهم.
وقال أيضا عز من قائل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (4)، حاشا الله ما هم سواء كما قالت المرجئة، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا
_________
(1) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 313 - 314).
(2) الأنفال الآية (2).
(3) الجاثية الآية (21).
(4) ص الآية (28).(7/257)
لَا يَسْتَوُونَ (18)} (1)، فمنع المساواة بينهم. وقالت المرجئة: بل هم سواء. معاذ الله أن نقول بهذا، وأن نجعل إيمان المطهرين الأبرار كإيمان الفجار الفاسقين، ولهذا حكي أن المرجئة يهود هذه الأمة، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} (2) أفليس هذا نقصا؟
وقال أيضا عز من قائل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (3)، أفليس قد أخرجهم عن إيمانهم إذا لم يرضوا بقضيته - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر إيمانهم بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ}.
والمرجئة ترد على الله قضيته وحكمه الذي حكم به، فيزعمون أن إيمانهم كإيمان جبرائيل عليه السلام، كذبوا وأفكوا، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4) أفليس إذا أكلوها بينهم بالباطل نقصهم إيمانهم؟ ثم تواعدهم على إثر ذلك فقال: {وَمَنْ
_________
(1) السجدة الآية (18).
(2) النساء الآية (10).
(3) النساء الآية (65).
(4) النساء الآية (29).(7/258)
يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} (1).
وقال عز من قائل في قاعدة اليتامى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)} (2) أفليس الحوب نقصا في الإيمان؟ وقال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} (3)، أفليس هذا إن فعله فاعله نقصا في إيمانه، والمرجئة تقول بخلاف هذا، وأن عندهم من قتل أو سرق أو زنا أو نكح ابنته أو أخته أو بعض جميع ما ذكر الله تعالى تحريمهن، [وعدت من مضى عليها، وتوعد من عملها في هذه الآية بعذابها ونارها] (4)، مؤمن كإيمان الملائكة والنبيين صلى الله تعالى عليهم أجمعين. هل هذا إلا كفر عظيم؟!!.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) أفليس قد سماهم مسلمين مؤمنين؟ وأمرهم أن يتركوا ما بقي
_________
(1) النساء الآية (30).
(2) النساء الآية (2).
(3) النساء الآية (22).
(4) قال محققه: هكذا النص في الأصل وفي النسخة (ر)، والكلام مستقيم بدونه فلعله ورد خطأ، أو أن في الكلام نقصا.
(5) البقرة الآيتان (278و279).(7/259)
من الربا، فيكون ذلك لهم زيادة في إيمانهم إذا أطاعوا، ونقصا لهم إذا عصوا ولم يتركوه؟.
وقال أيضا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (1) أفليس كسب الخير يزيد في الإيمان، وكسب المعصية ينقص منه؟
وقال أيضا عز من قائل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (2). أفليس هذا دليلا على أنهم إذا فعلوا الفاحشة نقص ذلك من إيمانهم فلم يدخلهم الجنة؟ فإن استغفروا عنها وتابوا غفر لهم وأدخلهم الجنة لأنهم ازدادوا في إيمانهم بالتوبة عنها.
ثم سرد الأدلة من السنة على ذلك. (3)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله في شأن فرقة القدرية: قالوا: قضاء الله وقدره في
_________
(1) الأنعام الآية (158).
(2) آل عمران الآيتان (135و136).
(3) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 306 - 310).(7/260)
معاصي عباده منهم دونه، وأنه تعالى يريد منهم ما لا يكون، ويكون منهم ما لا يريد، وأنه لم يخلق أفعال العباد بل هم الخالقون لها دونه، وأن العبد مخير يفعل ما يشاء من خير وشر، ليس لله تعالى في فعله صنع، قالوا: ولأنه لو كان له صنع في فعل عبده لما سأله عنه، ولو أنه سأله عنه لكان جورا منه، قالوا: والعبد إذا تغذا بغذاء حرام ليس من رزق ربه، بل هو من رزق نفسه، قالوا: وقد يقتل الإنسان دون أجله، قالوا: وعلم الله تعالى سابق غير سابق، والعباد يشاؤون لأنفسهم ما لا يشاء ربهم لهم، وأنهم قادرون على الخروج من علمه، وأنهم يجعلون لأنفسهم قوة يفعلون بها ما أرادوا، وأن أمر الاستطاعة إليهم دون ربهم. (1)
- ثم قال: وغلا قوم منهم غلوا شديدا إلى أن قالوا: إن الله عزوجل لا يعلم الشيء قبل أن يكون، وكذبوا، بل هو سبحانه يعلم الشيء الذي يكون قبل أن يكون، ويعلم ما لا يكون أن كيف كان لو كان يكون (2)
ثم ذكر الأدلة على ذلك.
- وقد أطال النفس رحمه الله في الاحتجاج بينه وبين القدرية من الكتاب والسنة وأقوال السلف وكنموذج على ذلك قوله: فإن قال: فإنما عنى بالإرادة خلق الطاعة دون خلق المعصية.
قيل: قولك هذا كقول المجوس لأنهم أثبتوا خالقين: أحدهما يخلق الخير وهو الله تعالى، والثاني يخلق الشر وهو الشيطان لعنه الله، وهذا رد على
_________
(1) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 354 - 355).
(2) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 355).(7/261)
القرآن لأنه تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} (1)، فذكر أنه خالق الشر لا خالق له سواه، وأنت تقول بخلافه من أنه خلق الخير وغيره خلق الشر، وليس في قوله تعالى نقص ولا تقصير ولا استثناء، فيكون خالق الشيء دون الشيء، بل هو خالق كل شيء كما قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (2)، وهذه آية عامة لا خاصة.
فإن قال: فيلزمكم على هذا أن إبليس اللعين وهو شيطان رجيم، وكل كافر ومشرك مستوجب للعذاب داخل في رحمة الله تعالى، لأنه يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (3) فما تراهم إلا قد دخلوا في رحمته، لأنهم شيء، ونحن مجمعون وإياكم أنهم غير داخلين في رحمته.
قيل: هذا تمويه بين وتأويل فاسد، لأنه سبحانه استثنى من الآية من لا يدخل في رحمته بقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
_________
(1) الفلق الآيات (1 - 5).
(2) غافر الآية (62).
(3) الأعراف الآية (156).(7/262)
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1)، وإبليس ومن ذكرت لا يعملون بهذا فخرجوا من الرحمة. والآية التي ذكرناها ما فيها استثناء ولا نقص ولا تقصير، فافهم هذا أرشدك الله، ففيه كفاية لكسر تمويهك والحمد لله.
فإن زاد واعترض ولم يقنع بما مضى، وقال: ألستم تقولون: إن الله رضي من عباده المعصية وأرادها منهم؟ فكيف يعذبهم على ما قد مضى منهم؟
قيل له: لسنا نقول: إنه أمر بها ولا رضي، لأنه يقول سبحانه: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (2)، بل نقول: أراد المعصية منهم إرادة كتب وعلم سابق، لا إرادة أمر ولا خير ورضى، لأن الخلق لا يقدرون أن يخرجوا من علمه الذي هو قد علم أنه سيكون منهم، ولا على اكتسابه إلا بمعونته، فالذي يوجد منهم من الطاعات بهداه وتوفيقه ولطفه، والذي تركوا من المعاصي بعصمته وتسديده، والذي كان منهم من فعل المعصية بخذلانه وإرادته ومشيئته، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء، لأنه لا يكون في سلطانه ما لا يريد وما لا يشاء، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَمَا
_________
(1) الأعراف الآيتان (156و157).
(2) الزمر الآية (7).(7/263)
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (1).اهـ (2)
وذكر غيرها من الأدلة.
عبد الغني المقدسي (3) (600 هـ)
الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق القدوة العابد الأثري المتبع عالم الحفاظ، تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي. ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أكبر من أخيه الشيخ الموفق بن قدامة، ومن شيوخه: أبو طاهر السلفي، وأبو الفتح بن البطي، وهبة الله بن هلال الدقاق، وله مصنفات كثيرة، منها: الكمال في معرفة الرجال، والصفات، والتوحيد، والاقتصاد في الاعتقاد، ومناقب الصحابة وغيرها كثير.
قال ضياء الدين: كان شيخنا الحافظ لا يكاد يسأل عن حديث إلا ذكره وبينه، وذكر صحته أو سقمه، وقال إسماعيل بن ظفر: قال رجل للحافظ عبد الغني: رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث، فقال: لو قال أكثر لصدق.
وقال التاج الكندي: لم يكن بعد الدارقطني مثل الحافظ عبد الغني. وقال الموفق: كان الحافظ لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. وقال الضياء: ما
_________
(1) التكوير الآية (29).
(2) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 372 - 374).
(3) السير (21/ 443 - 471) وتذكرة الحفاظ (4/ 1372 - 1380) والبداية والنهاية (13/ 42 - 43) وشذرات الذهب (4/ 345 - 346).(7/264)
أعرف أحدا من أهل السنة رآه إلا أحبه ومدحه كثيرا، سمعت محمود بن سلامة الحراني بأصبهان قال: كان الحافظ يصطف الناس في السوق ينظرون إليه، ولو أقام بأصبهان مدة وأراد أن يملكها لملكها.
توفي رحمه الله سنة ستمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: قال الشيخ الموفق: كان رفيقي وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وقيامهم عليه، ورزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة إلا أنه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها ونشرها. (1)
- وقال ابن النجار: وكان كثير العبادة ورعا متمسكا بالسنة على قانون السلف. (2)
- وقال الضياء: وكان المبتدعة قد أوغروا صدر العادل على الحافظ وتكلموا فيه عنده وكان بعضهم يقول: ربما يقتله إذا دخل عليه، فسمعت أن بعضهم بذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار. قال الضياء: سمعت أبا بكر ابن أحمد الطحان يقول: جعلوا الملاهي عند درج جيرون، فجاء الحافظ فكسر كثيرا منها وصعد المنبر، فجاءه رسول القاضي يطلبه ليناظره في الدف والشبابة فقال: ذاك حرام ولا أمشي إليه إن كان له حاجة يجيء هو، قال فعاد الرسول فقال: لا بد من مجيئك قد عطلت هذه الأشياء على السلطان،
_________
(1) التذكرة (4/ 1376) والسير (21/ 453).
(2) التذكرة (4/ 1373).(7/265)
فقال: ضرب الله رقبته ورقبة السلطان، فمضى الرسول فخفنا من فتنة، فما أتى أحد بعد. (1)
- وقال في حديثه عن أهل السنة: ووسعتهم السنة المحمدية، والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المردية الردية، فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية. (2)
- وقال: فالزم -رحمك الله- ما ذكرت لك من كتاب ربك العزيز، وكلام نبيك الكريم، ولا تحد عنه ولا تبتغ الهدى في غيره، ولا تغتر بزخارف المبطلين، وآراء المتكلفين، فإن الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله، لا فيما أحدثه المحدثون، وأتى به المتنطعون من آرائهم المضمحلة، ونتائج عقولهم الفاسدة، وارض بكتاب الله وسنة رسوله عوضا من قول كل قائل، وزخرف وباطل. (3)
- وقال في خاتمة كتابه 'الاقتصاد في الاعتقاد': فهذه جملة مختصرة من القرآن والسنة، وآثار من سلف، فالزمها، وما كان مثلها مما صح عن الله ورسوله، وصالح سلف الأمة ممن حصل الاتفاق عليه من خيار الأمة، ودع أقوال من كان عندهم محقورا مهجورا، مبعدا مدحورا، ومذموما ملوما، وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل. (4)
_________
(1) التذكرة (4/ 1377).
(2) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.80).
(3) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.205 - 207).
(4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.221).(7/266)
موقفه من المشركين:
قال الذهبي نقلا عن الضياء: وسمعت الحافظ يقول: أضافني رجل بأصبهان، فلما تعشينا كان عنده رجل أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يصل، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجل شمسي، فضاق صدري، وقلت للرجل: ما أضفتني إلا مع كافر، قال: إنه كاتب، ولنا عنده راحة، ثم قمت بالليل أصلي وذاك يستمع، فلما سمع القرآن تزفر، ثم أسلم بعد أيام، وقال: لما سمعتك تقرأ، وقع الإسلام في قلبي. (1)
موقفه من الرافضة:
- ألف في ذكر فضائل الصحابة كتابه 'مناقب الصحابة' ذكره الإمام الذهبي في السير. (2)
- وقال في الاقتصاد: ونعتقد أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار أبو بكر الصديق، وزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته، عبد الله ابن عثمان عتيق بن أبي قحافة. ثم بعده الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به وأظهر الدين. ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان الذي جمع القرآن وأظهر العدل والإحسان. ثم ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم. فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون.
ثم الستة الباقون من العشرة: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام،
_________
(1) السير (21/ 453).
(2) (21/ 448).(7/267)
وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم.
فهؤلاء العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة (1)، فنشهد لهم بها كما شهد لهم بها، اتباعا لقوله وامتثالا لأمره اهـ. ثم ذكر بعضا ممن شهد لهم بالجنة. (2)
موقفه من الجهمية:
لقد مضت سنة الله تعالى في خلقه على هذا الإمام بالامتحان والاختبار في عقيدته. وكان ممن شرفه الله بالصبر في سبيل عقيدته السلفية، وكان من خيرة الأمثلة في ذلك.
- جاء في ذيل طبقات الحنابلة: اجتمع الشافعية والحنفية والمالكية عند المعظم عيسى والصارم برغش والي القلعة، وكانا يجلسان بدار العدل للنظر في المظالم. قال: وكان ما اشتهر من إحضار اعتقاد الحنابلة، وموافقة أولاد الفقيه نجم الدين الحنبلي الجماعة، وإصرار الفقيه عبد الغني المقدسي على لزوم ما ظهر به من اعتقاده وهو الجهة والاستواء والحرف. وأجمع الفقهاء على الفتوى بكفره وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين ولا يحل لولي الأمر أن يمكنه من المقام معهم، وسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب.
وذكر غيره: أنهم أخذوا عليه مواضع منها قوله: ولا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة
_________
(1) أحمد (1/ 187) وأبو داود (5/ 39/4649) والترمذي (5/ 609/3757) وقال: "حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 55/8150) وابن ماجة (1/ 48/133) من طرق عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
(2) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.198 - 203).(7/268)
النزول. ومنها قوله: كان الله ولا مكان وليس هو اليوم على ما كان. ومنها مسألة الحرف والصوت. فقالوا له: إذا لم يكن على ما قد كان فقد أثبت له المكان، وإذا لم تنزهه تنزيها تنفي حقيقة النزول فقد أجزت عليه الانتقال. وأما الحرف والصوت فإنه لم يصح عن إمامك الذي تنتمي إليه فيه شيء، وإنما المنقول عنه: أنه كلام الله عز وجل غير مخلوق. وارتفعت الأصوات فقال له صارم الدين: كل هؤلاء على ضلال وأنت على الحق؟ قال: نعم.
ثم ذكر معهم من الصلاة بالجامع قال: فخرج عبد الغني إلى بعلبك ثم سافر إلى مصر، فنزل عند الطحانين، وصار يقرأ الحديث، فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه، وكتب أهل مصر إلى الصفي بن شكر وزير العادل: أنه قد أفسد عقائد الناس، ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد، فكتب إلى والي مصر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب. (1)
التعليق:
انظر ما كان يعمله علماء الأشاعرة بالعلماء السلفيين: لا رحمة ولا شفقة ولا رجوع إلى النصوص ولا إلى أثر السلف، فعلى الأقل ينبغي أن يكون مخطئا، مع العلم أنه هو صاحب الحق، ولكن العصبية تعمي صاحبها حتى لا يميز ما يقول ويفعل، والله المستعان.
وأما الإمام، فرزقه الله الثبات، فلم يبال لا بالحاكم ولا بالمحكوم ولا بمن يوقد له نار الفتنة. فهنيئا لك يا عالم السلف، أثابك الله ورفع بما لقيته في سبيل عقيدتك الدرجات.
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 22).(7/269)
- جاء في السير: عن عبد الله بن أبي الحسن الجبائي بأصبهان قال: أبو نعيم قد أخذ على ابن منده أشياء في كتاب الصحابة فكان الحافظ أبو موسى يشتهي أن يأخذ على أبي نعيم في كتابه الذي في الصحابة فما كان يجسر، فلما قدم الحافظ عبد الغني أشار إليه بذلك، قال: فأخذ على أبي نعيم نحوا من مئتين وتسعين موضعا، فلما سمع بذلك الصدر الخجندي طلب عبد الغني وأراد هلاكه، فاختفى. وسمعت محمود بن سلامة يقول: ما أخرجنا الحافظ من أصبهان إلا في إزار، وذلك أن بيت الخجندي أشاعرة، كانوا يتعصبون لأبي نعيم، وكانوا رؤساء البلد. (1)
- قال ابن النجار: سمعت يوسف بن خليل بحلب يقول عن عبد الغني: كان ثقة، ثبتا، دينا، مأمونا، حسن التصنيف، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، دعي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فأبى، فمنع من التحديث بدمشق، فسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات. (2)
- قال الضياء: وسمعت بعض أصحابنا يقول: إن الحافظ أمر أن يكتب اعتقاده، فكتب: أقول كذا؛ لقول الله كذا، وأقول كذا؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلما وقف عليها الملك الكامل، قال: إيش في هذا؟ يقول بقول الله عز وجل، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فخلى عنه. (3)
- قال في كتابه الاقتصاد (4): اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل، أن صالح السلف، وخيار
_________
(1) السير (21/ 458 - 459).
(2) ذيل الطبقات (2/ 19 - 20) والتذكرة (4/ 1373).
(3) ذيل الطبقات (2/ 26) والتذكرة (4/ 1380).
(4) (ص.76 - 79).(7/270)
الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة، اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل.
وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة التي نطق بها كتابه العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (1)، وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الملة، وأوضح المحجة، وأكمل الدين، وقمع الكافرين، ولم يدع لملحد مجالا، ولا لقائل مقالا.
فروى طارق بن شهاب قال: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر يهود نزلت نعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2).
فقال: إني لأعلم اليوم الذي نزلت والمكان، نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بعرفة عشية جمعة. (3)
_________
(1) فصلت الآية (42).
(2) المائدة الآية (3).
(3) أخرجه البخاري (1/ 141/45) ومسلم (4/ 2312/3017 [5،4،3]) والترمذي (5/ 233/3043) وقال: "حسن صحيح". والنسائي (5/ 277/3002).(7/271)
فآمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه، وصح عن نبيه، وأمروه كما ورد من غير تعرض لكيفية، أو اعتقاد شبهة أو مثلية، أو تأويل يؤدي إلى التعطيل، ووسعتهم السنة المحمدية، والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المردية الردية، فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية. (1)
- وقال في الكتاب نفسه: والقرآن كلام الله عز وجل، ووحيه، وتنزيله، والمسموع من القاري كلام الله عز وجل، قال الله عزوجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (2) وإنما سمعه من التالي. وقال الله عزوجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (3) وقال عزوجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (4) وقال عزوجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} (5) وهو محفوظ في الصدور، كما قال عزوجل: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (6) وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور
_________
(1) الاقتصاد في الاعتقاد (78 - 80).
(2) التوبة الآية (6).
(3) الفتح الآية (15).
(4) الحجر الآية (9).
(5) الشعراء الآيتان (192و194).
(6) العنكبوت الآية (49).(7/272)
الرجال من النعم من عقله» (1). وهو مكتوب في المصاحف منظور بالأعين، قال الله عزوجل: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} (2) وقال عزوجل: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (3).
وروى عبد الله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. (4)
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة حتى أنظر في كلام الله عزوجل) يعني القراءة في المصحف.
وقال عبد الله بن أبي مليكة: كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يأخذ المصحف فيضعه على وجهه فيقول: كتاب ربي عزوجل وكلام ربي عزوجل). وأجمع أئمة السلف، والمقتدى بهم من الخلف على أنه غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر. (5)
- وقال: فمن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ونطق بها كتابه، وأخبر بها نبيه أنه مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه فقال عز من قائل في
_________
(1) أحمد (2/ 64و112) والبخاري (9/ 97/5031) ومسلم (1/ 543/789) والنسائي (2/ 492/941) وابن ماجه (2/ 1243/3783) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(2) الطور الآيات (1 - 3).
(3) الواقعة الآيات (77 - 79).
(4) أحمد (2/ 7) والبخاري (6/ 164/2990) ومسلم (3/ 1490/1869) وأبو داود (3/ 82/2610) وابن ماجة (2/ 961/2879).
(5) الاقتصاد في الاعتقاد (132 - 136).(7/273)
سورة الأعراف: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1). وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2). وقال في سورة الرعد: {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3). وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (4). وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (5). وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (6). فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش. (7)
ثم ذكر عدة أحاديث وختمها بقوله (8): وروى معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجاريته: «أين الله؟ قالت: في السماء،
_________
(1) الأعراف الآية (54).
(2) يونس الآية (3).
(3) الرعد الآية (2).
(4) طه الآية (5).
(5) الفرقان الآية (59).
(6) السجدة الآية (4).
(7) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.80 - 82).
(8) المصدر السابق (ص.88 - 89).(7/274)
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة». رواه مسلم (1) ابن الحجاج وأبو داود (2)، وأبو عبد الرحمن النسائي (3).
ومن أجهل جهلا، وأسخف عقلا، وأضل سبيلا ممن يقول إنه لا يجوز أن يقال: أين الله، بعد تصريح صاحب الشرعية بقوله: أين الله؟!
- وقال: ومن الصفات التي نطق بها القرآن، وصحت بها الأخبار: الوجه. قال الله عزوجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (4) وقال عزوجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (5). وروى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنات الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» (6).
وروى أبو موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع
_________
(1) (1/ 381 - 384/ 537).
(2) (1/ 570/930).
(3) (3/ 19 - 22/ 1217).
(4) القصص الآية (88).
(5) الرحمن الآية (27).
(6) أحمد (4/ 416) والدارمي (2/ 333) والطيالسي (529) والبيهقي في البعث (239) من طريق أبي قدامة الحارث ابن عبيد الإيادي عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر عن أبي موسى عن أبيه به. وفي آخره ذكر الأنهار التي تجشب من الجنة.
وأبو قدامة متكلم في حفظه وقد ضعفه غير واحد، ولكن قال الساجي: صدوق عنده مناكير وقال الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ". ومما ينكر عليه في هذا الحديث أوله: «جنات الفردوس أربع» وآخره. فقد خالف عبد العزيز بن عبد الصمد فرواه بلفظ: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب ... » الحديث. أخرجه أحمد (4/ 411) والبخاري (13/ 520/7444) ومسلم (1/ 163/296) والترمذي (4/ 673/2528) والنسائي في الكبرى (4/ 419 - 420/ 7765) وابن ماجة (1/ 66/186).(7/275)
فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» ثم قرأ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} (1) رواه مسلم. (2)
فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب وخبر الصادق الأمين، فيجب الإقرار بها، والتسليم كسائر الصفات الثابتة بواضح الدلالات.
وتواترت الأخبار، وصحت الآثار (3) بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيجب الإيمان به، والتسليم له، وترك الاعتراض عليه، وإمراره من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول. (4)
- وقال: ومن صفاته سبحانه الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان. قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (5) وقال عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (6). وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: التقى آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا،
_________
(1) النمل الآية (8).
(2) أحمد (4/ 395و401) ومسلم (1/ 161/179 [295]) وابن ماجة (1/ 70/195).
(3) منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد (2/ 258) والبخاري (3/ 36/1145) ومسلم (1/ 52/758) وأبو داود (2/ 77/1315) والترمذي (2/ 307/446) والنسائي في الكبرى (6/ 123/10311) وابن ماجه (1/ 435/1366).
(4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.96 - 100).
(5) المائدة الآية (64).
(6) ص الآية (75).(7/276)
خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أنت موسى، كلمك الله تكليما، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته، فبكم وجدت في كتاب الله {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} (1)؟ قال: بأربعين سنة، قال: فتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فحج آدم موسى». (2)
فلا نقول: يد كيد، ولا نكيف، ولا نشبه، ولا نتأول اليدين على القدرتين كما يقول أهل التعطيل والتأويل، بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة من غير تحديد ولا تشبيه، ولا يصح حمل اليدين على القدرتين، فإن قدرة الله عز وجل واحدة، ولا على النعمتين، فإن نعم الله عز وجل لا تحصى، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (3) وكل ما قال الله عز وجل في كتابه، وصح عن رسوله بنقل العدل عن العدل، مثل المحبة، والمشيئة والإرادة، والضحك، والفرح، والعجب، والبغض، والسخط، والكره، والرضا، وسائر ما صح عن الله ورسوله، وإن نبت عنها أسماع بعض الجاهلين واستوحشت منها نفوس المعطلين. (4)
_________
(1) طه الآية (121).
(2) أحمد (2/ 248،268،287) والبخاري (8/ 554 - 555/ 4736و4738) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 78/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2134) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجة (1/ 31 - 32/ 80).
(3) إبراهيم الآية (34).
(4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.112 - 122).(7/277)
- وقال: وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله تعالى يرى في الآخرة، كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (1). وروى جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوسا ليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: «إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} (2). وفي رواية: «سترون ربكم عيانا» (3). وروى صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا لم تروه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ثم تلا: {* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (4) رواه مسلم (5). وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: (الناس ينظرون إلى الله تعالى بأعينهم يوم القيامة). وقال أحمد بن حنبل:
_________
(1) القيامة الآيتان (22و23).
(2) ق الآية (39).
(3) أحمد (4/ 362) والبخاري (2/ 66/573) ومسلم (1/ 439/633 [211]) وأبو داود (5/ 97 - 98/ 4729) والترمذي (4/ 592 - 593/ 2551) والنسائي في الكبرى (4/ 419/7762) وابن ماجه (1/ 63/177).
(4) يونس الآية (26).
(5) أحمد (4/ 332) ومسلم (1/ 163/181 [298]) والترمذي (4/ 593/2552) والنسائي في الكبرى (4/ 420/7766) وابن ماجه (1/ 67/187) عن صهيب رضي الله عنه.(7/278)
"من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر".
ومن مذهب أهل الحق أن الله عز وجل لم يزل متكلما بكلام مسموع، مفهوم، قال الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (1). وروى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل». (2)
وروى جابر بن عبد الله قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا جابر، ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى، قال: وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، كلم أباك كفاحا، قال: يا عبد الله تمن علي أعطيك، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي. فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} (3). رواه ابن ماجة (4).اهـ (5)
- وقال: ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع يوم القيامة لأهل
_________
(1) النساء الآية (164).
(2) أحمد (4/ 256) والبخاري (11/ 488/6539) ومسلم (2/ 703 - 704/ 1016 [67]) والترمذي (4/ 528/2415) وابن ماجه (1/ 66/185).
(3) آل عمران الآية (169).
(4) أحمد (3/ 361) والترمذي (5/ 214 - 215/ 3010) وابن ماجه (1/ 68/190) وصححه ابن حبان (15/ 490 - 491/ 7022 الإحسان) والحاكم (2/ 119 - 120) و (3/ 201 - 204).
(5) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.125 - 132).(7/279)
الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع في المذنبين من أمته فيخرجهم من النار بعدما احترقوا. كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد إن شاء الله أن أختبي دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة». (1) اهـ (2)
موقفه من المرجئة:
قال في كتابه 'الاقتصاد في الاعتقاد': والإيمان بأن الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (3). وقال عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (4). وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (5). وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون»، وفي رواية: «بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان»، ولمسلم وأبي داود: «فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». (6)
والاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله. روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي،
_________
(1) أحمد (2/ 275) والبخاري (11/ 115/6304) ومسلم (1/ 180/198) وابن ماجه (2/ 1440/4307).
(2) الاقتصاد (ص.164 - 165).
(3) التوبة الآية (124).
(4) الفتح الآية (4).
(5) المدثر الآية (31).
(6) تقدم تخريجه في مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).(7/280)
ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض وغيرهم. وهذا استثناء على يقين، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (1).اهـ (2)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره، بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلا، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلا، فهو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (3).
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (4). وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (5)، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (6). (7)
ثم ساق أدلة أخرى على ذلك.
_________
(1) الفتح الآية (27).
(2) (ص.181 - 186).
(3) الأنبياء الآية (23).
(4) الأعراف الآية (179).
(5) السجدة الآية (13).
(6) القمر الآية (49).
(7) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.151 - 152).(7/281)
الغُورِي شهاب الدين (1) (602 هـ)
أبو المظفر محمد بن سام أخو السلطان الكبير أبي الفتح. كان بطلا شجاعا مهيبا جيد السيرة، يحكم بالشرع. وينصف الضعيف والمظلوم، وكان يحضر عنده العلماء.
قال الذهبي: بلغنا أن فخر الدين الرازي وعظ مرة عنده، فقال: يا سلطان العالم، لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقى {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَن الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)} (2) قال: فانتحب السلطان بالبكاء. عظم شأنه وعلا محله وأحبه أمراء الغورية. قتلته الباطنية في شعبان سنة اثنتين وستمائة، رحمه الله تعالى.
موقفه من المشركين:
قال ابن كثير: ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري صاحب غزنة وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء، وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب. (3)
_________
(1) السير (21/ 322 - 323) وتاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.88 - 90) والكامل في التاريخ (12/ 189) والبداية والنهاية (13/ 47) والشذرات (5/ 7).
(2) غافر الآية (43).
(3) البداية (13/ 47).(7/282)
فخر الدين الرازي (1) (606 هـ)
العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي. ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة. اشتغل على أبيه الإمام ضياء الدين خطيب الري، ثم الزين قصد الكمال السمياني فاشتغل عليه مدة، وانتشرت تواليفه في البلاد شرقا وغربا، وكان يتوقد ذكاء، وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر.
قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: حدثني القطب الطوغاني مرتين أنه سمع الفخر الرازي يقول: ليتني لم أشتغل بالكلام، وبكى. وقال رحمه الله في وصيته لما احتضر: ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن.
توفي سنة ست وستمائة.
توبته من الكلام وبراءته منه:
هذا الرجل معروف بعداوته لعقيدة السلف الصالح، وألف الكتب في ذلك، وألف التفسير وبسط فيه المذهب الأشعري بسطا، وقد تكلمت عليه في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات'. (2)
وله كذلك 'تأسيس التقديس' وهو عبارة عن جمع لحجج الجهمية والدفاع عنها، وقد قيض الله له من ألقمه حجرا فرد عليه في تلبيس الجهمية،
_________
(1) سير أعلام النبلاء (21/ 500 - 501) والكامل في التاريخ (12/ 120) ووفيات الأعيان (4/ 248 - 252) والوافي بالوفيات (4/ 248 - 259) والبداية والنهاية (13/ 60 - 61) واللسان (4/ 426) وشذرات الذهب (5/ 21) وميزان الاعتدال (3/ 340).
(2) (2/ 911 - 959).(7/283)
وكتبه في هذا كثيرة، ولكن قد يمن الله على المرء بالهداية فيتوب ويرجع عما كان عليه من الخطأ، ولعل هذا هو الذي حصل للرازي.
قال شيخ الإسلام: وأنشد أبو عبد الله الرازي في غير موضع من كتبه مثل كتاب أقسام اللذات لما ذكر أن هذا العلم أشرف العلوم، وأنه ثلاث مقامات: العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلى كل مقام عقدة، فعلم الذات عليه عقدة: هل الوجود هو الماهية أو زائد على الماهية؟ وعلم الصفات عليه عقدة: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وعلم الأفعال عليه عقدة: هل الفعل مقارن للذات أو متأخر عنها؟ ثم قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب؟ ثم أنشد:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (1)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3)
_________
(1) طه الآية (5).
(2) فاطر الآية (10).
(3) الشورى الآية (11).(7/284)
{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (1)، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} (2)، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي. (3)
ونقل عنه ابن القيم في اجتماع الجيوش من كتابه أقسام اللذات كلاما يدل على رجوعه، وقال ابن القيم إنه آخر ما ألف. قال: واعلم أن بعد التوغل في هذه المضايق والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق، رأيت الأصوب الأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل، فأقرأ في التنزيل قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (4) وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (5) وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (6) وأقرأ في الإثبات قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (7) وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (8) وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (9)
_________
(1) طه الآية (110).
(2) مريم الآية (65).
(3) درء التعارض (1/ 159 - 160).
(4) محمد الآية (38).
(5) الشورى الآية (11).
(6) الإخلاص الآية (1).
(7) طه الآية (5).
(8) النحل الآية (50).
(9) فاطر الآية (10).(7/285)
وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (1) وفي تنزيهه عما لا ينبغي قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (2) الآية. وعلى هذا القانون فقس. (3)
التعليق:
كان الرازي إذا سمع مثل هذه الآيات كأنك أشعلت فيه نارا، فيحترق لإثبات الفوقية والاستواء، ويأتي بكل ما أوتي لإبطال الفوقية والاستواء، ويأتي بكل تأويلاته الباردة ويصورها كأنها جبال من الحجج، فيفرعها ويجزئها، لكنه تاب ورجع عفا الله عنه وغفر له. وله وصية كذلك تثبت توبته ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام (4) والسبكي في طبقات الشافعية (5) وغيرهما. وإثباتي للرازي في هذا البحث حتى يتعرف القراء عليه وعلى رجوعه.
قال الحافظ في الفتح: وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال: إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره، هو أصح الأقوال نقلا وعقلا. (6)
_________
(1) النساء الآية (78).
(2) النساء الآية (79).
(3) اجتماع الجيوش (ص.274 - 275).
(4) في حوادث (601 - 610هـ) (ص.220 - 222).
(5) (5/ 37 - 38).
(6) الفتح (13/ 455).(7/286)
أبو عمر بن قُدَامة (1) (607 هـ)
محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة أبو عمر المقدسي الإمام الفقيه المقرئ المحدث الزاهد. مولده في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية جماعيل من عمل نابلس، وتحول إلى دمشق مع أسرته فسكنوا سفح قاسيون. سمع أباه وأبا المكارم ابن هلال وسلمان بن علي الرحبي وغيرهم. حدث عنه أخوه موفق الدين وابناه عبد الله وعبد الرحمن والضياء وغيرهم. وكتب وقرأ وحصل وتقدم وكان من العلماء العاملين. كان لا يسمع دعاء إلا ويحفظه في الغالب ويدعو به، ولا حديثا إلا وعمل به، ولا صلاة إلا صلاها، وكان قدوة صالحا عديم النظير كبير القدر والمروءة والصفات الحميدة. لكن تذكر له بعض المبالغات في بعض العبادات. قال الصريفيني: ما رأيت أحدا قط ليس عنده تكلف غير الشيخ أبي عمر.
توفي عشية الاثنين في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة سبع وستمائة.
موقفه من الجهمية:
جاء في البداية والنهاية: ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة. قال: وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة والآثار المروية، يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين. وكان ينهى عن صحبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك:
_________
(1) السير (22/ 5 - 9) والوافي بالوفيات (2/ 116) والبداية والنهاية (13/ 66) والنجوم الزاهرة (6/ 201 - 202) والعبر (2/ 183 - 184) وشذرات الذهب (5/ 27 - 30) وتاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.266 - 278).(7/287)
أوصيكم بالقول في القرآن ... بقول أهل الحق والإتقان
ليس بمخلوق ولا بفان ... لكن كلام الملك الديان
آياته مشرقة المعاني ... متلوة لله باللسان
محفوظة في الصدر والجنان ... مكتوبة في الصحف بالبنان
والقول في الصفات يا إخواني ... كالذات والعلم مع البيان
إمرارها من غير ما كفران ... من غير تشبيه ولا عطلان (1)
الأمير صارم الدين برغش (2) (سنة 608 هـ)
فيها -أي سنة خمس وتسعين وخمسمائة- ادعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى ابن مريم، فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديما، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين. (3)
عبد الجليل القصري (4) (608 هـ)
أبو محمد عبد الجليل بن موسى بن عبد الجليل. من مدينة القصر الكبير بالمغرب
_________
(1) البداية والنهاية (13/ 66) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 59).
(2) جاء في تاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.290): بزغش (بالزاي) بدل برغش (بالراء).
(3) تاريخ الإسلام (حوادث 591 - 595/ص.25) والبداية والنهاية (13/ 22).
(4) تاريخ الإسلام (43/ 295) والسير (22/ 11).(7/288)
الأقصى. قال الذهبي: الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو محمد الأنصاري الأوسي الأندلسي القرطبي، شهر بالقصري لنزوله قصر عبد الكريم وهو قصر كتامة، حمل الموطأ عن أبي الحسن بن حنين الكناني محدث فاس، وصحب الشيخ أبا الحسن بن غالب الزاهد بالقصر ولازمه، وكان رأساً في العلم والعمل منقطع القرين.
له: 'تفسير للقرآن'، و'شعب الإيمان'، و'شرح الأسماء الحسنى'، و'الأسئلة والأجوبة'، و'شرح مشكل الحديث' ... وغير ذلك.
موقفه من الجهمية:
- قال في مقدمة كتابه 'شرح مشكل الحديث': الحمد لله الذي فات بعلوّه على الأشياء مواقع رجم المتوهّمين، فارتفع عن أن يحوي كنه عظمته رويّات المتفكّرين، وليس له مثل فيكون بالخلق مشبهاً، ومازال عند أهل العلم عن ذلك منزَّهاً، وكذب العادلون إذ شبّهوه بأصنافهم، وحلّوه بحلية المخلوقين بأوهامهم، ولم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إياه بالحدود متناهياً، وجلّ الله الذي ليس كمثله شيء عن صفات المخلوقين متعاليا، وصلى الله على النبي محمد الذي لم يزل إلى ربه داعياً، وبالحق آمراً وناهياً، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
وبعد حمد الله وشكره فهذا كتاب أذكر فيه ما تيسّر من معاني مشكل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الناس فيه، وبالله نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اعلم أن الناس انقسموا في المشكل على أقسام ترجع بالحصر إلى أربعة: مبطل معطّل للذات من الصفات، ومشبّه لباريه بخلقه في الجوارح والأدوات، ومتأوّل لها على حسب ما وهب له الوهّاب، ومُمِرٍّ لها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل.(7/289)
وهذا القسم الأخير هو اعتقاد الجمّ الغفير. إلا أن قولهم: (أمرّوها كما جاءت) يحتمل معنيين:
أحدهما: يعتقِدُ إثباتها من غير تفهم لها.
والآخر: إثباتها كما جاءت مع فهمها، أي: يفهم الشيء على ما هو عليه، وهذا الغاية القصوى في الفهم والتوفيق لمن أُعطيه من أهل الإنابة والتحقيق. وقد نطق الأيمة الذين أُمروا بإمرارها كما جاءت بذلك في أقوالهم كمالك رحمه الله في الاستواء حيث قال -مجيباً للسائل عن الاستواء-: (الاستواء معلوم، والكيف غير معقول). فأخبر أن الاستواء معلوم، والمعلوم مفهوم بلا شكّ. وكذلك الأوزاعي قد أجاب في حديث النزول أيضاً جواباً يُنبئ عن فهمه له، واعتقاده فيه. وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: قال أهل العلم في حديث الصفات مثل ما ورد في حديث النزول، وذكر الرجل، والقدم، واليدين، وما أشبهه: يُؤمَن بهذا كله، ولا يُتوهَّم، ولا يُقال كيف، ولا لم، مع اعتقاد التمجيد والتنزيه عن التمثيل والتشبيه، وينسبون من أنكرها إلى الجهمية؛ لأن جهماً ردّها، والصحيح إمرارها كما جاءت، وبه قال الفقهاء مالك والشافعي وسفيان الثوري وابن عيينة وابن المبارك، وإلى ذلك ذهب البخاري وجميع المحدِّثين، وأهل العلم من السنة والجماعة من السلف والخلف رحمة الله عليهم، إلا أن الظن بهؤلاء أنهم فهموها على ما هي عليه. وفهم الشيء على ما هو عليه هو الغاية القصوى. ويكون معنى قولهم: (أمرّوها كما جاءت) نفي التعطيل، ونفي التشبيه، ونفي التأويل الخارج عن الحق. فهذه(7/290)
ثلاثة أقسام مذمومة، والقسم الرابع هو الحق هو الإمرار لها كما جاءت. (1)
- وقال: فكل ما وصف الباري عز وجل به نفسه وأضافه إليه فهو الكمال واجب اعتقاده. وفي وصفه سبحانه لنفسه بما وصف به نفي لضدّه، وتنزيه عنه؛ لأنه عيب وعور ونقص. فكل من نفى الصفات، فقد نفى عن الله الكمال، وأضاف إليه العيب والنقص والعور. ومن أثبتها وشبّهها بصفات الخلق، فكذلك أيضاً؛ فإن من أوصافه عدم التشبّه، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2)، فكذلك صفاته لا تشبه الخلق. فنفي الصفات إلحاد، وتشبيهها بالمحدثات إلحاد. فكما أخطأت المشبِّهة، ضلت المعطِّلة. والصراط المستقيم بينهما، وهو إثبات ونفي معاً، أي: إثبات الصفات لله عز وجل، ونفي الجسمية والمثلية عنها. (3)
القاضي إبراهيم بن نصر (4) (610 هـ)
إبراهيم بن نصر بن عسكر، قاضي السلامية أبو إسحاق، الملقب ظهير الدين، الشافعي الموصلي. تفقه على القاضي أبي عبد الله الحسين بن نصر بن خميس، وسمع منه، وقدم بغداد وسمع بها، وأخذ بإربل عن أبي البركات عبد الرحمن ابن محمد الأنباري النحوي. وولي قضاء السلامية (وهي بلدة بأعمال الموصل).
_________
(1) شرح مشكل الحديث (مخطوط).
(2) الشورى الآية (11).
(3) شرح مشكل الحديث (مخطوط).
(4) وفيات الأعيان (1/ 37 - 38) وتاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.359) والبداية والنهاية (13/ 72).(7/291)
قال ابن خلكان: كان فقيها فاضلا، أصله من العراق من السندية.
له شعر جيد، منه:
جود الكريم إذا ما كان عن عدة ... وقد تأخر لم يسلم من الكدر
إن السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعا إذا هي لم تمطر على الأثر
وما طال الوعد مذموم وإن سمحت ... يداه من بعد طول المطل بالبدر
يا دوحة الجود لا عتب على رجل ... يهزها وهو محتاج إلى الثمر
توفي رحمه الله يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر عام عشر وستمائة بالسلامية.
موقفه من الصوفية:
جاء في البداية والنهاية: من شعره، في شيخ له زاوية، وفي أصحابه يقال له مكي:
ألا قل لمكي قول النصوح ... وحق النصيحة أن تستمع
متى سمع الناس في دينهم ... بأن الغنا سنة تتبع
وأن يأكل المرء أكل البعير ... ويرقص في الجمع حتى يقع
ولو كان طاوي الحشا جائعا ... لما دار من طرب واستمع
وقالوا: سكرنا بحب الإله ... وما أسكر القوم إلا القصع
كذاك الحمير إذا أخصبت ... يهيجها ريها والشبع
تراهم يهزوا لحاهم إذا ... ترنم حاديهم بالبدع
فيصرخ هذا وهذا يئن ... و «يس» لو تليت ما انصدع (1)
_________
(1) البداية والنهاية (13/ 72).(7/292)
أبو الحسن علي بن الأَنْجَب (1) (611 هـ)
الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن القاضي الأنجب أبي المكارم اللخمي المقدسي الأصل، الإسكندراني المولد، الفقيه المالكي، القاضي. ولد ليلة السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة. تفقه على أبي طاهر السلفي وأبي طاهر بن عوف وأبي عبيد نعمة الله بن زيادة الله الغفاري وأحمد بن الحافظ أبي العلاء العطار وغيرهم. وأخذ عنه أبو محمد المنذري والرشيد العطار والمجد علي بن وهب بن دقيق العيد المالكي وغيرهم.
قال عنه المنذري: كان متورعا حسن الأخلاق، كثير الإغضاء، جماعا لفنون من العلم. وقال عنه ابن خلكان: كان فقيها فاضلا في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، ومن أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه. وقال الذهبي: كان ذا دين وورع وتصون وعدالة وأخلاق رضية، ومشاركة في الفضل قوية.
توفي في مستهل شعبان بالقاهرة سنة إحدى عشرة وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
من شعره:
أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل ... وأصحابه والتابعين تمسكي
عساكي إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب من عرف له أن تمسكي
وخافي غدا يوم الحساب جهنما ... إذا لفحت نيرانها أن تمسكي (2)
_________
(1) التكملة للمنذري (2/ 306 - 307) ووفيات الأعيان (3/ 290 - 292) والبداية والنهاية (13/ 74 - 75) وسير أعلام النبلاء (22/ 66 - 69) وتاريخ الإسلام (حوادث 611 - 620/ص.79 - 81) وحسن المحاضرة (1/ 354).
(2) البداية (13/ 74).(7/293)
الكِنْدِي (1) (613 هـ)
العلامة زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن، تاج الدين، أبو اليمن الكندي البغدادي المقرئ النحوي اللغوي. ولد في شعبان سنة عشرين وخمسمائة. حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وكمل القراءات العشر وله عشر سنين. أخذ عن شيخه أبي محمد سبط أبي منصور الخياط، والقاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي وابن الجواليقي وغيرهم، وحدث عنه الحافظ عبد الغني والشيخ الموفق والبرزالي والضياء وابن نقطة.
قال ابن نقطة: كان الكندي مكرما للغرباء، حسن الأخلاق، فيه مزاح، وكان من أبناء الدنيا المشتغلين بها وبإيثار مجالسة أهلها، وكان ثقة في الحديث والقراءات، صحيح السماع، سامحه الله. وقال الإمام موفق الدين: كان الكندي إماما في القراءة والعربية، انتهى إليه علو الإسناد في الحديث، وانتقل إلى مذهب أبي حنيفة من أجل الدنيا إلا أنه كان على السنة. أنشد رحمه الله في قتل عمارة اليمني حين كان مالأ الكفرة والملحدين على قتل الملك صلاح الدين:
عمارة في الإسلام أبدى خيانة ... وحالف فيها بيعة وصليبا
فأمسى شريك الشرك في بغض أحمد ... وأصبح في حب الصليب صليبا
وكان طبيب الملتقى إن عجمته ... تجد منه عودا في النفاق صليبا
توفي رحمه الله سنة ثلاث عشرة وستمائة بدمشق.
_________
(1) الكامل في التاريخ (12/ 315) وتاريخ ابن الوردي (2/ 192 - 193) ووفيات الأعيان (2/ 339 - 342) والجواهر المضيئة (2/ 216 - 217) وسير أعلام النبلاء (22/ 34 - 41) وتاريخ الإسلام (حوادث 611 - 620/ص.141 - 147) والبداية والنهاية (13/ 78 - 81).(7/294)
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: ومن شعر التاج الكندي:
دع المنجم يكبو في ضلالته ... إن ادعى علم ما يجري به الفلك
تفرد الله بالعلم القديم فلا ال ... إنسان يشركه فيه ولا الملك
أعد للرزق من أشراكه شركا ... وبئست العدتان: الشرك والشرك (1)
الغَزْنَوِي (2) (618 هـ)
أحمد بن علي بن الحسين، أبو الفتح الغزنوي الأصل، البغدادي. ولد في التاسع من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. روى عن أبي الحسن بن صرما والأرموي وأبي سعد بن البغدادي. وروى عنه ليث بن الحافظ بن نقطة وابن النجار. وقال الدبيثي: لما بلغ أوان الرواية، واحتيج إليه لم يقم بالواجب، ولا أحب ذلك لميله إلى غيره وشنئه له، ولم يكن محمود الطريقة، وسمعنا منه على ما فيه. توفي رحمه الله في رمضان سنة ثمان عشرة وستمائة.
موقفه من الرافضة والجهمية:
جاء في السير: قال ابن نقطة: هو مشهور بين العوام برذائل ونقائص من شرب ورفض، ثم سئل وأنا أسمع عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، وعمن يسب الصحابة، فقال: كافر، وعمن يستحل شرب الخمر -وقيل: إنهم
_________
(1) السير (22/ 40).
(2) التكملة للمنذري (3/ 59 - 60) والسير (22/ 103 - 104) وتاريخ الإسلام (حوادث 611 - 620/ص.390 - 391) وميزان الاعتدال (1/ 122 - 123) ولسان الميزان (1/ 232).(7/295)
يعنونك بذلك-، فقال: أنا بريء من ذلك، وكتب خطه بالبراءة.
قال الذهبي: لعله تاب وارعوى. (1)
عبد الله بن أحمد بن قدامة (2) (620 هـ)
الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي صاحب المغني، عالم أهل الشام في زمانه. ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، حفظ القرآن ولزم الاشتغال بطلب العلم من صغره، وسمع من هبة الله بن الحسن الدقاق، وأبي الفتح بن البطي، وأبي زرعة وغيرهم. وحدث عنه الجمال أبو موسى بن الحافظ، وابن نقطة، والضياء، وأبو شامة. وكان من بحور العلم وأذكياء العالم، قال ابن النجار: كان إمام الحنابلة بدمشق، وكان ثقة حجة نبيلا، غزير الفضل، نزها، ورعا عابدا، على قانون السلف. قال أبو بكر بن محمد ابن غنيمة: ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق. وصفه البهاء بالشجاعة وقال: كان يتقدم إلى العدو وجرح في كفه وكان يرامي العدو.
صنف الشيخ رحمه الله التصانيف الكثيرة الحسنة في المذهب، فروعا وأصولا، وفي الحديث، واللغة، والزهد، والرقائق. وتوفي سنة عشرين وستمائة.
_________
(1) السير (22/ 104).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 133) والسير (22/ 165 - 173) وفوات الوفيات (2/ 158 - 159) والبداية والنهاية (13/ 107 - 109) وشذرات الذهب (5/ 88 - 92) والوافي (17/ 37 - 39).(7/296)
موقفه من المبتدعة:
- قال عبد الله بن قدامة المقدسي في كتابه 'لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد' تحت عنوان: (الترغيب في السنة والتحذير من البدعة): وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم والاهتداء بمنارهم وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (1).اهـ (2)
- وقال: ومن السنة: هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة. (3)
- وقال: نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله، آمين. (4)
موقفه من الرافضة:
- جاء في طبقات الحنابلة: سئل عن خلافة أبي بكر: ثبتت بالنص أو بالقياس؟ فأجاب ابن المتقنة: ثبتت بإجماع الصحابة واتفاقهم. فكتب الشيخ
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) لمعة الاعتقاد (39).
(3) لمعة الاعتقاد (159).
(4) لمعة الاعتقاد (164).(7/297)
الموفق (أي ابن قدامة): ثبتت بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -، في أخبار كثيرة، ذكر بعضها. (1)
له من الآثار السلفية: فضائل الصحابة.
ذكره الذهبي في سيره (2) وذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (3) قال: وأظنه (منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين).
موقفه من الجهمية:
ترك هذا الإمام تراثا سلفيا قيما سلك فيه طريقة السلف ولم يرض بغيرها بديلا، فرضي الله عنه وأرضاه.
- جاء في ذيل الطبقات: وتصانيفه في أصول الدين في غاية الحسن، أكثرها على طريقة أئمة المحدثين، مشحونة بالأحاديث والآثار وبالأسانيد، كما هي طريقة الإمام أحمد وأئمة الحديث، ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام ولو كان بالرد عليهم. وهذه طريقة أحمد والمتقدمين. وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات من غير تفسير ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل. (4)
- قال في كتاب 'إثبات صفة العلو': أما بعد، فإن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة من الفقهاء،
_________
(1) طبقات الحنابلة (4/ 146).
(2) (22/ 168).
(3) (4/ 139).
(4) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 139).(7/298)
وتواترت الأخبار في ذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله -عز وجل- عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طبائع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون عندها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم سبحانه، وينطقون بذلك بألسنتهم، لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته.
- وقال في عقيدته: ومن السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا» (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لله أفرح بتوبة عبده» (2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يعجب ربك». (3)
إلى أن قال: فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به، ولا نرده، ولا نجحده، ولا نعتقد فيه تشبيهه بصفات المخلوقين ولا سمات المحدثين، بل نؤمن بلفظه، ونترك التعرض لمعناه، قراءته تفسيره، ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (4). وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (5).
_________
(1) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) رواه أحمد (1/ 383) والبخاري (11/ 123/6308) ومسلم (4/ 2103/2744) والترمذي (4/ 568/2498) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن النعمان بن بشير وأبي هريرة وأنس بن مالك والبراء بن عازب رضي الله عنهم.
(3) أحمد (4/ 145و157 - 158) وأبو داود (2/ 9/1203) والنسائي (2/ 348/665) وابن حبان (4/ 545/1660 الإحسان) عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يعجب ربك من راعي الغنم في رأس الشظية .. » الحديث.
وفي الباب عن أبي هريرة وغيره. وانظرها في السنة لابن أبي عاصم (1/ 249 - 251).
(4) طه الآية (5).
(5) الملك الآية (16).(7/299)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ربنا الذي في السماء» (1) وقوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: اعتقها إنها مؤمنة. رواه مالك بن أنس وغيره من الأئمة. (2)
وروى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا» (3) وذكر الحديث إلى أن قال: وفوق ذلك العرش، والله تعالى فوق ذلك نؤمن بذلك ونتلقاه بالقبول من غير رد له ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تأويل، ولا نتعرض له بكيف. ولما سئل مالك بن أنس -رضي الله عنه- فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (4) كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأخرج. (5)
آثاره السلفية:
1 - 'مسألة العلو': ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش (6) وذكره ابن
_________
(1) أخرجه أبو داود (4/ 218/3892) والنسائي في الكبرى (6/ 257/10877) والحاكم (1/ 343 - 344) وقال: قد احتج الشيخان بجميع رواة هذا الحديث، غير زيادة بن محمد وهو شيخ من أهل مصر قليل الحديث وقال الذهبي في التلخيص: "قال البخاري وغيره: منكر الحديث. وفي الباب عن فضالة بن عبيد الأنصاري".
(2) تقدم تخريجه. انظر مواقف أبي عمرو السهروردي سنة (458هـ).
(3) أحمد (1/ 206 - 207) وأبو داود (5/ 93 - 94/ 4723) والترمذي (5/ 395 - 396/ 3320) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (1/ 69/193) والحاكم (2/ 288،412) عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وصحح إسناده. وتعقبه الذهبي بقوله: "يحيى واه" يعني: يحيى بن العلاء، وهو متروك متهم. وهذا سند ضعيف. قال الذهبي في الميزان: "عبد الله بن عميرة فيه جهالة. قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس".
(4) طه الآية (5).
(5) اجتماع الجيوش (175 - 177).
(6) (175 - 176).(7/300)
رجب في ذيل طبقات الحنابلة (1) وذكره الذهبي في السير (2).
2 - 'ذم التأويل': طبع مفردا محققا، ومع مجموعة.
3 - 'مسألة تحريم النظر في كتب الكلام': ذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (3).
4 - 'الاعتقاد': وقد طبع وهو عبارة عن رسالة صغيرة تسمى بـ'لمعة الاعتقاد'. نشرتها المكتبة السلفية بمصر، وقد شرحها الشيخ العثيمين رحمه الله.
5 - 'البرهان في مسألة القرآن': ذكره الذهبي في سيره (4) وذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (5).
6 - 'جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن': ذكره ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (6).
7 - 'رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار': ذكرها ابن رجب في ذيل الطبقات (7).
موقفه من الخوارج:
قال في المغني: كتاب قتال أهل البغي: والأصل في هذا الباب قول الله
_________
(1) (2/ 139).
(2) (22/ 168).
(3) (2/ 139).
(4) (22/ 168).
(5) (4/ 139).
(6) (2/ 139).
(7) (2/ 139).(7/301)
سبحانه: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (1) ففيها خمس فوائد:
أحدها: أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان، فإنه سماهم مؤمنين.
الثانية: أنه أوجب قتالهم.
الثالثة: أنه أسقط قتالهم إذا قاموا إلى أمر الله.
الرابعة: أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم.
الخامسة: أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه. وروى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم (2). وروى عرفجة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستكون هنات وهنات ورفع صوته: ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف، كائنا من كان» (3). فكل من ثبتت إمامته، وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
_________
(1) الحجرات الآيات (2 - 10).
(2) أحمد (2/ 161 - 191 - 193) ومسلم (3/ 1472 - 1473/ 1844) وأبو داود (4/ 448/4248) والنسائي (7/ 172 - 173/ 4202) وابن ماجه (2/ 1306 - 1307/ 3956).
(3) أحمد (4/ 341) ومسلم (3/ 1479/1852) وأبو داود (5/ 120/4762).(7/302)
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1). وروى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله (2). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات فميتته جاهلية». رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد (3).
وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة، فإن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وعلي قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان. والخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة:
أحدهما: قوم امتنعوا وخرجوا عن طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل، فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد، يأتي حكمهم في باب مفرد.
الثاني: قوم لهم تأويل، إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم، كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم، فهؤلاء قطاع طريق، في قول أكثر أصحابنا، وهو مذهب الشافعي؛ لأن ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن: إن برئت رأيت رأيي، وإن مت فلا تمثلوا به. فلم يثبت لفعله حكم البغاة. ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) أحمد (3/ 441) و (5/ 314 - 318 - 319 - 321) والبخاري (13/ 238/7199 - 7200) ومسلم (3/ 1470/1709) والنسائي (7/ 155 - 156/ 4160 - 4161) وابن ماجه (2/ 957/2866).
(3) الصواب أن ابن عبد البر قال: (وروي من حديث ... ) ولم يسقها بسنده كما يفهم من كلام ابن قدامة. انظر (1/ 130 فتح البر). أما حديث أبي هريرة فرواه: أحمد (2/ 269) ومسلم (3/ 1476/1848) والنسائي (7/ 139/4125). وأما حديث ابن عباس فرواه: أحمد (1/ 275) والبخاري (13/ 152/7143) ومسلم (3/ 1477/1849) .. وأما حديث أبي ذر فرواه: أحمد (5/ 180) وأبو داود (5/ 118/4758) وابن أبي عاصم (892 - 1053) والحاكم (1/ 117).(7/303)
البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه، أفضى إلى إتلاف أموال الناس. وقال أبو بكر: لا فرق بين الكثير والقليل، وحكم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام.
الثالث: الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم، إلا من خرج معهم، فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث. ومالك يرى استتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم. وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون، حكمهم حكم المرتدين، وتباح دماؤهم وأموالهم، فإن تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة؛ صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وكانت أموالهم فيئا، لا يرثهم ورثتهم المسلمين، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق» رواه مالك في موطئه والبخاري في صحيحه (1)، وهو حديث صحيح ثابت الإسناد، وفي لفظ قال: «يخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون
_________
(1) الموطأ (1/ 204 - 205/ 10) والبخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 745/1065).(7/304)
القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» رواه البخاري (1). وروي معناه من وجوه: خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منها بشيء كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني الخوارج.
وعن أبي أمامة أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (2) إلى آخر الآية، فقيل له: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه ابن ماجه عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب أنه سمع أبا أمامة يقول: «شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا، كلاب أهل النار، كلاب أهل النار، كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا»، قلت: يا أبا أمامة هذا شيء تقوله، قال: بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3). وعن علي رضي الله عنه، في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} (4) قال: هم أهل النهروان (5). وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هم شر الخلق
_________
(1) البخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066 (154)) من حديث علي رضي الله عنه.
(2) آل عمران الآية (106).
(3) تقدم انظر مواقف أبي أمامة سنة (86هـ).
(4) الكهف الآية (103).
(5) أخرجه الحاكم كما في الفتح (8/ 543) وعبد الرزاق في التفسير (2/ 413).(7/305)
والخليقة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد. وقال: لا يجاوز إيمانهم حناجرهم.
وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة، ولا يرون تكفيرهم. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين. وقال ابن عبد البر: في الحديث الذي رَوَيناه: قوله: يتمارى في الفوق. يدل على أنه لم يكفرهم؛ لأنهم علقوا من الإسلام بشيء، بحيث يشك في خروجهم منه. (1)
وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لأصحابه: لا تبدؤوهم بالقتال. وبعث إليهم: أقيدونا بعبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله. فحينئذ استحل قتالهم لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم. وذكر ابن عبد البر: عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن أهل النهر أكفارهم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة، فعموا فيها وصموا، وبغوا علينا، (وحاربونا) (2) وقاتلونا فقاتلناهم (3). ولما جرحه ابن ملجم، قال للحسن: أحسنوا إساره، فإن عشت فأنا ولي دمي، وإن مت فضربة كضربتي. وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم، وكثير من العلماء. والصحيح إن شاء الله، أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء، والإجازة على جريحهم، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، ووعده بالثواب من قتلهم، فإن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم، بدليل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عظم ذنبهم، وأنهم شر
_________
(1) انظر فتح البر (1/ 461).
(2) زيادة من التمهيد.
(3) انظر فتح البر (1/ 469).(7/306)
الخلق والخليقة، وأنهم يمرقون من الدين، وأنهم كلاب النار، وحثه على قتلهم، وإخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد، فلا يجوز إلحاقهم بمن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكف عنهم، وتورع كثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتالهم، ولا بدعة فيهم.
الصنف الرابع: قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة، الذين نذكر في هذا الباب حكمهم، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتال البغاة؛ لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأنهم لو تركوا معونته لقهره أهل البغي، وظهر الفساد في الأرض. (1)
موقفه من المرجئة:
له كتاب في معتقد السلف سماه: 'لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد' قال فيه:
فصل: الإيمان قول وعمل: والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (2). فجعل عبادة الله تعالى وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (3).
_________
(1) المغني (12/ 237 - 242).
(2) البينة الآية (5).
(3) تقدم تخريجه في مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).(7/307)
فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (1) وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} (2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة، أو خردلة، أو ذرة من الإيمان» (3) فجعله متفاضلا. (4)
وقال: وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع؛ كالرافضة، والجهمية والخوارج والقدرية والمرجئة، والمعتزلة والكرامية والكلابية ونظائرهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها. (5)
موقفه من القدرية:
له من الآثار السلفية: 'القدر' ذكره الذهبي في السير (6) وابن رجب في ذيل الطبقات. (7)
إبراهيم بن عثمان بن دِرْبَاس (8) (622 هـ)
الإمام المحدث جلال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن عيسى ابن درباس الماراني الكردي المصري. سمع من فاطمة بنت سعد الخير،
_________
(1) التوبة الآية (124).
(2) الفتح الآية (4).
(3) أحمد (3/ 116) والبخاري (1/ 138 - 139/ 44) ومسلم (1/ 182/193 (325) والترمذي (4/ 613/2593) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312).
(4) (ص.98).
(5) (ص.161).
(6) (22/ 168).
(7) (4/ 139).
(8) تاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.98 - 99) والسير (22/ 290).(7/308)
والأرتاحي وابن طبرزد، والمؤيد الطوسي وخلق. وروى عنه الحافظ عبد العظيم وغيره. كان عارفا بمذهب الشافعي وكان خيرا صالحا زاهدا قانعا مقلا مقبلا على شأنه. توفي رحمه الله سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في مجموع الفتاوى: وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه: تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب. وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه -يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد- كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها.
فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مجبرة، والمرجئة تسميهم شكاكا، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حشوية، ونوابت وغثاء، وغثرا، إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة مجنونا، وتارة شاعرا، وتارة كاهنا، وتارة مفتريا. (1)
المعظم عيسى بن محمد (2) (624 هـ)
السلطان الملك المعظم شرف الدين عيسى بن محمد الحنفي الفقيه صاحب دمشق. مولده بالقصر من القاهرة في سنة ست وسبعين وخمسمائة. نشأ بالشام، وحفظ القرآن، وتفقه وبرع في المذهب. لازم تاج الدين
_________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 111).
(2) وفيات الأعيان (3/ 494 - 496) وتاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.203 - 206) والسير (22/ 120 - 122).(7/309)
الكندي مدة وسمع من عمر بن طبرزد وغيره. كان يوصف بالشجاعة والكرم والتواضع وكان عالما بعدة علوم. نفق سوق العلم في أيامه.
توفي رحمه الله في سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: قال: اعتقادي في الأصول ما سطره الطحاوي. وأوصى أن لا يبنى على قبره. (1)
التعليق:
أصاب ووافق السنة، وكذا فليكن سلاطين المسلمين، وله هنات ذكرها الذهبي في السير نسأل الله أن يغفرها له.
المَنْجَنِيقِي (2) (626 هـ)
الشاعر المشهور أبو يوسف يعقوب بن صابر بن بركات الحراني ثم البغدادي، نجم الدين المنجنيقي. ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة. روى عن أبي منصور بن الشطرنجي وأبي المظفر بن السمرقندي، وكتب عنه ابن الحاجب وغيره. كان شيخا لطيفا، كثير التواضع والتودد، شريف النفس، طيب المحاورة، بديع النظم وكان ذا منزلة عظيمة عند الإمام الناصر. توفي في صفر سنة ست وعشرين وستمائة.
موقفه من الصوفية:
أنشد في الصوفية:
_________
(1) السير (22/ 122).
(2) التكملة للمنذري (3/ 242) ووفيات الأعيان (7/ 35 - 46) والسير (22/ 309 - 310) وتاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.271 - 272) والبداية والنهاية (13/ 125) وشذرات الذهب (5/ 120).(7/310)
قد لبس الصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر لشرب العصير
الرقص والشاهد من شأنهم ... شر طويل تحت ذيل قصير (1)
ابن القطان (2) (628 هـ)
الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد المجود القاضي أبو الحسن علي بن محمد ابن عبد الملك الحميري الكتامي المغربي الفاسي المالكي المعروف بابن القطان. سمع أبا عبد الله بن الفخار فأكثر عنه وأبا الحسن بن النقرات وأبا ذر الخشني وطائفة.
قال الحافظ ابن مسدي: كان من أئمة هذا الشأن قصري الأصل مراكشي الدار، كان شيخ شيوخ أهل العلم في الدولة المؤمنية، فتمكن من الكتب وبلغ غاية الأمنية. وقال الأبار: كان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله وأشدهم عناية بالرواية. قال الذهبي: علقت من تأليفه كتاب 'الوهم والإيهام' فوائد تدل على قوة ذكائه، وسيلان ذهنه، وبصره بالعلل.
توفي في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة.
موقفه من الخوارج:
قال الشوكاني (3): قال ابن القطان: الإجماع عندنا إجماع أهل العلم، فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه. قال قال أصحابنا في الخوارج: لا
_________
(1) وفيات الأعيان (7/ 39).
(2) السير (22/ 306 - 307) وشذرات الذهب (5/ 128) وتذكرة الحفاظ (4/ 1405 - 1407) وتاريخ الإسلام (45/ 321 - 322) والأعلام (4/ 331) ومعجم المؤلفين (7/ 213).
(3) إرشاد الفحول (ص.147).(7/311)
مدخل لهم في الإجماع والاختلاف لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين.
الموفق النحوي (1) (629 هـ)
الشيخ الإمام أبو محمد عبد اللطيف ابن الفقيه يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد الموصلي ثم البغدادي الشافعي نزيل حلب، يعرف بابن اللباد. ولد ببغداد سنة سبع وخمسين وخمسمائة. سمع من أبي زرعة المقدسي وشُهْدَة الكاتبة وأبي الحسين عبد الحق، وحدث عنه البرزالي والمنذري والشهاب القوصي.
قال ابن نقطة: كان حسن الخلق، جميل الأمر، عالما بالنحو والغريبين، له يد في الطب. وهو من بيت العلم والحديث.
ومن كلامه: ينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول، فاقرأ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتتبع أفعاله وأحواله، واقتف آثاره، وتشبه به ما أمكنك، وإذا وقفت على سيرته في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته وتمرضه وتمتعه وتطيبه، ومعاملته مع ربه ومع أزواجه وأصحابه وأعدائه، وفعلت اليسير من ذلك، فأنت السعيد كل السعيد.
توفي سنة تسع وعشرين وستمائة.
موقفه من الجهمية:
آثاره السلفية:
_________
(1) التكملة للمنذري (3/ 297 - 298) والسير (22/ 320 - 323) وتاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.353) وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 132) وطبقات الشافعية لابن كثير (2/ 817 - 819).(7/312)
من تصانيفه: الرد على الفخر الرازي في تفسير سورة الإخلاص فيه رد على الأشاعرة. وله مصنفات كثيرة منها: غريب الحديث، الواضحة في إعراب الفاتحة ومقالة في الرد على اليهود والنصارى. (1)
إدريس بن يعقوب المنصور (2) (630 هـ)
السلطان الملك المأمون أمير المؤمنين أبو العلاء إدريس بن السلطان يعقوب المنصور، كان بطلا شجاعا مهيبا، فقيها، علامة. خطب له بالخلافة بالأندلس، سنة إحدى وعشرين وستمائة، ثم خلص له الأمر وبايعه كافة الموحدين، وخطب له بحضرة مراكش، وكان جريئا وافر الجلالة، وأزال ذكر ابن تومرت من الخطبة، وأبطل القول بعصمته. مات في الغزو سنة ثلاثين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الاعتصام: وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي منهم (3)، ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات، فأمر -حين استقر بمراكش- خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى، وأن ما ادّعوه أنه المهدي بدعة أزالها وأسقط اسم
_________
(1) السير (22/ 323).
(2) شذرات الذهب (5/ 135) والسير (22/ 342 - 343) والاستقصا (2/ 231).
(3) أي أتباع ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي المنتظر.(7/313)
من لا تثبت عصمته. (1)
التعليق:
رحمك الله يا أمير المؤمنين وجزاك الله خيرا على فعلك المبارك الذي كان أبوك يريد تنفيذه ولكن ادخر لك هذا الأجر، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على سعة علمك وشجاعتك، حيث لم تخش أحدا في إبطال هذه الضلالات، وأدركت أنها مجرد خداع للعامة.
تنبيه: عيسى عليه السلام ليس هو المهدي المنتظر، والحديث الوارد في ذلك، قال عنه الذهبي: منكر. وقال الصغاني: موضوع. وثبتت أحاديث في المهدي نؤمن بها وليس هذا موضع بسطها.
السهروردي (630 هـ)
موقفه من المشركين:
جاء في السير: قال ابن النجار: أملى في آخر عمره كتابا في الرد على الفلاسفة. (2)
موقفه من الجهمية:
هذا الرجل، وإن كان صوفيا في سلوكه فقد كان سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات، له كتاب 'عقيدة أولي التقى'؛ نقل منه الحافظ في الفتح نموذجا طيبا وإليك النموذج:
- جاء في الفتح: قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب
_________
(1) (1/ 327).
(2) السير (22/ 376).(7/314)
العقيدة له: أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله الاستواء والنزول والنفس واليد والعين فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى. قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح. (1)
الآمدي (631 هـ)
موقفه من الجهمية:
قال ابن تيمية في درء التعارض: وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال: "أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام" أو كلاما هذا معناه. (2)
نصر بن عبد الرزاق (3) (633 هـ)
ابن شيخ الإسلام عبد القادر بن أبي صالح. الإمام العالم، الأوحد القاضي عماد الدين أبو صالح ولد الحافظ الزاهد أبي بكر، الجيلي ثم البغدادي الأزجي الحنبلي. ولد في سنة أربع وستين وخمسمائة في ربيع الآخر. سمع من أبويه وعلي بن عساكر البطائحي، وخديجة بنت النهرواني وشُهْدَة الكاتبة، ومسلم ابن ثابت وعدة. تفقه على والده وأبي الفتح ابن المني ودرس وأفتى. حدث عنه
_________
(1) الفتح (13/ 390).
(2) درء التعارض (3/ 262).
(3) السير (22/ 396 - 399) وتاريخ الإسلام (حوادث 631 - 640/ص.173 - 175) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 189 - 192) وشذرات الذهب (5/ 161 - 162).(7/315)
ابن الدبيثي، وابن النجار، وابن النابلسي وأبو الحسن بن بليان وعدة.
جمع الأربعين لنفسه ودرس بمدرسة جده وبالمدرسة الشاطئة وتكلم في الوعظ، وولي القضاء للظاهر بأمر الله، وفي أوائل دولة المستنصر سار السيرة الحسنة، وسلك الطريقة المستقيمة، وأقام ناموس الشرع، ولم يحاب أحدا في دين الله ثم عزل. قال الضياء: هو فقيه كريم النفس خير.
توفي رحمه الله في سادس عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: قال ابن النجار: سمعته يقول: كنت في دار الوزير القمي، وهناك جماعة، إذ دخل رجل ذو هيئة، فقاموا له وخدموه، فقمت وظننته بعض الفقهاء، فقيل: هذا ابن كرم اليهودي عامل دار الضرب، فقلت له: تعال إلى هنا، فجاء ووقف، فقلت: ويلك، توهمتك فقيها فقمت إكراما لك، ولست -ويلك- عندي بهذه الصفة، ثم كررت ذلك عليه، وهو قائم يقول: الله يحفظك الله يبقيك ثم قلت له: اخسأ هناك بعيدا عنا، فذهب.
قال: وحدثني أبو صالح أنه رُسِم له برزق من الخليفة، وأنه زار يومئذ قبر الإمام أحمد، فقيل لي: دفع رسمك إلى ابن توما النصراني، فامض إليه فخذه، فقلت: والله لا أمضي ولا أطلبه. فبقي ذلك الذهب عنده إلى أن قتل إلى لعنة الله في السنة الأخرى، وأُخِذ الذهب من داره، فنفذ إِليَّ. (1)
_________
(1) السير (22/ 398).(7/316)
أبو الخطاب ابن دحية (633 هـ)
موقفه من المبتدعة:
قال أبو شامة: وأنبأنا الحافظ أبو الخطاب ابن دحية قال في كتاب 'أداء ما وجب': وقد روى الناس الاغفال في صلاة ليلة النصف من شعبان، أحاديث موضوعة، وواحدا مقطوعا وكلفوا عباد الله بالأحاديث الموضوعة فوق طاقتهم من صلاة مائة ركعة، في كل ركعة الحمد لله مرة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} عشر مرات، فينصرفون وقد غلبهم النوم فتفوتهم صلاة الصبح التي ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله». (1)
وقال في كتاب 'ما جاء في شهر شعبان' من تأليفه أيضا: قال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث النصف من شعبان حديث يصح، فتحفظوا عباد الله من مفتر، يروي لكم حديثا يسوقه في معرض الخير، فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا صح أنه كذب خرج عن المشروعية وكان مستعمله من خدم الشيطان لاستعماله حديثا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل الله به من سلطان.
ثم قال: ومما أحدثه المبتدعون، وخرجوا به عما وسمه المتشرعون، وجروا فيه على سنن المجوس، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا: الوقيد ليلة النصف من شعبان، ولم يصح فيها شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نطق بالصلاة فيها والإيقاد ذو صدق من الرواة، وما أحدثه إلا متلاعب بالشريعة المحمدية،
_________
(1) أحمد (4/ 313) ومسلم (1/ 454/657) والترمذي (1/ 434/222) من حديث جندب بن سفيان البجلي.(7/317)
راغب في دين المجوسية، لأن النار معبودهم. وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة فأدخلوا في دين الإسلام ما يموهون به على الطغام، وهو جعلهم الإيقاد في شعبان، كأنه سنة من سنن الإيمان ومقصودهم عبادة النيران، وإقامة دينهم، وهو أخس الأديان، حتى إذا صلى المسلمون، وركعوا وسجدوا، كان ذلك إلى النار التي أوقدوا، ومضت على ذلك السنون والأعصار، وتبعت بغداد فيه سائر الأمصار، هذا مع ما يجتمع في تلك الليلة من الرجال والنساء واختلاطهم، فالواجب على السلطان منعهم، وعلى العالم ردعهم. وإنما شرف شعبان بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه، فقد صح الحديث في صيامه - صلى الله عليه وسلم - شعبان كله أو أكثره (1) والله أعلم. (2)
إسحاق بن محمد العلثي (3) (634 هـ)
إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي الزاهد القدوة أبو الفضل، ويقال: أبو محمد، ابن عم طلحة بن المظفر. سمع من أبي الفتح بن شاتيل، وقرأ بنفسه على ابن كليب وابن الأخضر. وحدث وسمع منه جماعة، وكان قدوة صالحا زاهدا، فقيها عالما، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، لا يخاف أحدا إلا الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم. أنكر على الخليفة الناصر فمن دونه وواجه الخليفة الناصر وصدعه بالحق. قال ناصح الدين بن الحنبلي: هو
_________
(1) أحمد (6/ 128) والبخاري (4/ 267/1970) ومسلم (2/ 809 - 811/ 1156) وأبو داود (2/ 813/2434) والنسائي (4/ 459 - 460/ 2178) وابن ماجه (1/ 545 - 546/ 1710).
(2) الباعث (ص.126 - 129).
(3) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 205) وشذرات الذهب (5/ 123).(7/318)
اليوم شيخ العراق، والقائم بالإنكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه. وقال المنذري: قيل: إنه لم يكن في زمانه أكثر إنكارا للمنكر منه، وحبس على ذلك مدة. وقال ابن رجب: وله رسائل كثيرة إلى الأعيان بالإنكار عليهم والنصح لهم. ورأيت بخطه كتابا أرسله إلى الخليفة ببغداد. وأرسل أيضا إلى الشيخ علي بن إدريس الزاهد -صاحب الشيخ عبد القادر- رسالة طويلة، تتضمن إنكار الرقص والسماع والمبالغة في ذلك. وله في معنى ذلك عدة رسائل إلى غير واحد، وأرسل رسالة طويلة إلى الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي بالإنكار عليه فيما يقع في كلامه من الميل إلى أهل التأويل. توفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة بالعلث رضي الله عنه.
موقفه من الجهمية:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: من عبيد الله إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي إلى عبد الرحمن بن الجوزي حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح ووفقنا وإياه لاتباع السلف الصالح وبصرنا بالسنة السنية، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية، وأعاذنا من الابتداع في الشريعة المحمدية فلا حاجة إلى ذلك فقد تركنا على بيضاء نقية. وأكمل الله لنا الدين، وأغنانا عن آراء المتنطعين، ففي كتاب الله وسنة رسوله مقنع لكل من رغب أو رهب، ورزقنا الله الاعتقاد السليم ولا حرمنا التوفيق، فإذا حرمه العبد لم ينفع التعليم، وعرفنا أقدار نفوسنا وهدانا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وفوق كل ذي علم عليم. وبعد حمد الله سبحانه والصلاة على رسوله، فلا(7/319)
يخفى أن «الدين النصيحة» (1)، خصوصا للمولى الكريم والرب الرحيم، فكم قد زل قلم وعثر قدم وزلق متكلم، ولا يحيطون به علما قال عز من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} (2).
وأنت يا عبد الرحمن فما يزال يبلغ عنك ويسمع منك ويشاهد في كتبك المسموعة عليك، تذكر كثيرا ممن كان قبلك من العلماء بالخطإ، اعتقادا منك أنك تصدع بالحق، من غير محاباة، ولابد من الجريان في ميدان النصح: إما لتنتفع إن هداك الله، وإما لتركيب حجة الله عليك. ويحذر الناس قولك الفاسد، ولا يغرك كثرة اطلاعك على العلوم، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه لا فقه له، ورب بحر كدر ونهر صاف، فلست بأعلم من الرسول حيث قال له الإمام عمر: أتصلي على ابن أبي؟ فنزل القرآن: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} (3).
ولو كان لا ينكر من قل علمه على من كثر علمه إذا لتعطل الأمر بالمعروف وصرنا كبني إسرائيل حيث قال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (4).
بل ينكر المفضول على الفاضل وينكر الفاجر على الولي -على تقدير
_________
(1) أخرجه أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 74/55) وأبو داود (5/ 233 - 234/ 4944) والنسائي (7/ 176/4208) عن تميم الداري. والحديث ذكره البخاري تعليقا (1/ 182). قال ابن حجر في الفتح: "هذا الحديث أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة".
(2) الحج الآية (8).
(3) التوبة الآية (84). والحديث أخرجه أحمد (1/ 16) والبخاري (3/ 292/1366) والترمذي (5/ 260 - 261/ 3097) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (4/ 370/1965) كلهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول ... فذكره. وفي الباب عن عبد الله عمر رضي الله عنهما.
(4) المائدة الآية (79).(7/320)
معرفة الولي- وإلا فابن التنقا ليطلب وابن السمندل ليجلب - إلى أن قال:
واعلم أنه قد كثر النكير عليك من العلماء والفضلاء والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات، وقد أبانوا وهاء مقالتك، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة، فعندك من الأقوال التي لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها، فذكر عنك أنك ذكرت في الملائكة المقربين، الكرام الكاتبين، فصلا زعمت أنه مواعظ، وهو تشقيق وتفهيق، وتكلف بشع، خلا أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام السلف الصالح الذي لا يخالف سنة، فعمدت وجعلتها مناظرة معهم. فمن أذن لك في ذلك؟ وهم مستغفرون للذين آمنوا ولا يستكبرون عن عبادة الله. وقد قرن شهادته بشهادتهم قبل أولي العلم، وما علينا كان الآدمي أفضل منهم أم لا، فتلك مسألة أخرى.
فشرعت تقول: إذا ثارت نار الحسد فمن يطفيها؟ وفي الغيبة ما فيها، مع كلام غث. أليس منا فلان؟ ومنا فلان؟ ومنا الأنبياء والأولياء. من فعل هذا من السلف قبلك؟ ولو قال لك قائل من الملائكة: أليس منكم فرعون وهامان؟ أليس منكم من ادعى الربوبية؟.
فعمن أخذت هذه الأقوال المحدثة، والعبارات المزوقة، التي لا طائل تحتها وقد شغلت بها الناس عن الاشتغال بالعلم النافع. أحدهم قد أنسي القرآن وهو يعيد فضل الملائكة ومناظرتهم، ويتكلم به في الآفاق.
فأين الوعظ والتذكير من هذه الأقوال الشنيعة البشعة؟
ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى، كأنها صدرت لا من صدر سكن فيه احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلب مليء بالهيبة والتعظيم، بل من واقعات(7/321)
النفوس البهرجية الزيوف. وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقوها وما فهموا. وحاشاهم من ذلك. بل كفوا عن الثرثرة والتشدق، لا عجزا -بحمد الله- عن الجدال والخصام، ولا جهلا بطرق الكلام. وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية، لا عن جهل وعماية.
والعجب ممن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض في الكلام. ثم يقدم على تفسير ما لم يره أولا، ويقول: إذا قلنا كذا أدى إلى كذا، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده. فهذا الذي نهيت عنه.
وكيف تنقض عهدك وقولك بقول فلان وفلان من المتأخرين؟ فلا تشمت بنا المبتدعة فيقولون: تنسبوننا إلى البدع وأنتم أكثر بدعا منا، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عقده، وتثبتون معرفته وفضله؟ كيف أقول ما لم يقل، فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه، ثم تنكر عليهم؟ هذا من العجب العجيب. ولو أن مخلوقا وصف مخلوقا مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق، لكان كاذبا في إخباره. فكيف تصفون الله سبحانه بشيء ما وقفتم على صحته، بل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات التي رضيها لنفسه، وأخبر بها رسوله بنقل الثقات الأثبات، بيحتمل، ويحتمل.
ثم لك في الكتاب الذي أسميته الكشف لمشكل الصحيحين مقالات عجيبة، تارة تحكيها عن الخطابي وغيره من المتأخرين، أطلع هؤلاء على الغيب؟ وأنتم تقولون: لا يجوز التقليد في هذا، ثم ذكره فلان، ذكره ابن عقيل، فنريد الدليل من الذاكر أيضا، فهو مجرد دعوى، وليس الكلام في الله(7/322)
وصفاته بالهين ليلقى إلى مجاري الظنون - إلى أن قال:
إذا أردت: كان ابن عقيل العالم، وإذا أردت: صار لا يفهم، أوهيت مقالته لما أردت. ثم قال:
وذكرت الكلام المحدث على الحديث، ثم قلت: والذي يقع لي. فبهذا تقدم على الله، وتقول: قال علماؤنا، والذي يقع لي. تتكلمون في الله عز وجل بواقعاتكم تخبرون عن صفاته؟ ثم ما كفاك حتى قلت: هذا من تحريف بعض الرواة. تحكما من غير دليل. وما رويت عن ثقة آخر أنه قال: قد غيره الراوي فلا ينبغي بالرواة العدول: أنهم حرفوا، ولو جوزتم لهم الرواية بالمعنى، فهم أقرب إلى الإصابة منكم. وأهل البدع إذا كلما رويتم حديثا ينفرون منه، يقولون: يحتمل أنه من تغيير بعض الرواة. فإذا كان المذكور في الصحيح المنقول من تحريف بعض الرواة، فقولكم ورأيكم في هذا يحتمل أنه من رأي بعض الغواة.
وتقول: قد انزعج الخطابي لهذه الألفاظ. فما الذي أزعجه دون غيره؟ ونراك تبني شيئا ثم تنقضه، وتقول قد قال فلان وفلان، وتنسب ذلك إلى إمامنا أحمد -رضي الله عنه- ومذهبه معروف في السكوت عن مثل هذا ولا يفسره، بل صحح الحديث، ومنع من تأويله.
وكثير ممن أخذ عنك العلم إذا رجع إلى بيته علم بما في عيبته من العيب، وذم مقالتك وأبطلها. وقد سمعنا عنك ذلك من أعيان أصحابك المحبوبين عندك، الذين مدحتهم بالعلم، ولا غرض لهم فيك، بل أدوا النصيحة إلى عباد الله، ولك القول وضده منصوران. وكل ذلك بناء على الواقعات والخواطر.
وتدعي أن الأصحاب خلطوا في الصفات، فقد قبحت أكثر منهم، وما وسعتك(7/323)
السنة. فاتق الله سبحانه. ولا تتكلم فيه برأيك فهذا خبر غيب، لا يسمع إلا من الرسول المعصوم، فقد نصبتم حربا للأحاديث الصحيحة. والذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام.
ثم لك قصيدة مسموعة عليك في سائر الآفاق، اعتقدها قوم، وماتوا بخلاف اعتقادك الآن فيما يبلغ عنك، وسمع منك، منها:
ولو رأيت النار هبت، فعدت ... تحرق أهل البغي والعناد
وكلما ألقى فيها حطمت ... وأهلكته، وهي في ازدياد
فيضع الجبار فيها قدما ... جلت عن التشبيه بالأجساد
فتنزوي من هيبته وتمتلي ... فلو سمعت صوتها ينادي
حسبي حسبي قد كفاني ما أرى ... من هيبة أذهبت اشتداد
فاحذر مقال مبتدع في قوله ... يروم تأويلا بكل وادي
فكيف هذه الأقوال وما معناها؟ فإنا نخاف أن تحدث لنا قولا ثالثا، فيذهب الاعتقاد الأول باطلا. لقد آذيت عباد الله وأضللتهم، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب، وابن عقيل سامحه الله قد حكي عنه أنه تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال، بمدينة السلام -عمرها الله بالإسلام والسنة- فهو بريء على هذا التقدير مما يوجد بخطه أو ينسب إليه من التأويلات والأقوال المخالفة للكتاب والسنة.
وأنا وافدة الناس والعلماء والحفاظ إليك، فإما أن تنتهي عن هذه المقالات وتتوب التوبة النصوح كما تاب غيرك، وإلا كشفوا للناس أمرك، وسيروا ذلك في البلاد، وبينوا وجه الأقوال الغثة، وهذا أمر تشور فيه وقضي بليل، والأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، والجرح لا شك مقدم على(7/324)
التعديل. والله على ما نقول وكيل وقد أعذر من أنذر.
وإذا تأولت الصفات على اللغة، وسوغته لنفسك وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس الله روحه، فلا يمكنك الانتساب إليه بهذا، فاختر لنفسك مذهبا إن مكنت من ذلك، ومازال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت، ولو ضربوا بالسيوف لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون بشناعة مشنع، ولا كذب كاذب، ولهم من الاسم العذب الهني وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالا بالآخرة، ما هو معلوم معروف.
ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك كأنك جبار من الجبابرة. ولا كرامة لك ولا نعمى، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة، ولو استقبل من الرأي ما استدبر: لم يحك عنك كلام في السهل ولا في الجبل، ولكن قدر الله وما شاء فعل، بيننا وبينك كتاب الله وسنة رسوله قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1). ولم يقل: إلى ابن الجوزي، وترى كل من أنكر عليك نسبته إلى الجهل، ففضل الله أوتيته وحدك؟ وإذا جهلت الناس فمن يشهد لك أنك عالم؟ ومن أجهل منك، حيث لا تصغى إلى نصيحة ناصح؟ وتقول: من كان فلان، ومن كان فلان؟ من الأئمة الذين وصل العلم إليك عنهم من أنت إذا؟ فلقد استراح من خاف مقام ربه، وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم لئلا يندم.
_________
(1) النساء الآية (59).(7/325)
فانتبه يا مسكين، قبل الممات، وحسن القول والعمل، فقد قرب الأجل، لله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (1)
التعليق:
يستفاد من هذه الرسالة المباركة الأمور الآتية.
- ما كان عليه علماء السلف من الاعتناء بعقيدتهم السلفية.
- النصيحة والحرص عليها مهما كان المنصوح، صغيرا أو كبيرا، عالما أو جاهلا، حاكما أو محكوما.
- تذكير الإنسان بنسبته إلى أبيه إن كان ذا أصل، أو جماعته أو عقيدته وتبيين خطر الانحراف عن هذا الأصل الطيب.
- النصيحة تكون مصحوبة بالبيان الكافي للمنصوح، وبيان وجه الخطأ والصواب.
- ما كان عليه أصحاب الإمام أحمد من التمسك بالعقيدة السلفية.
- ذكر الشواهد الماضية وعواقبها للاعتبار والتذكير فقط.
- فضل الإمام العلثي، وما كان عليه من قوة العلم والدين والعقيدة والاتباع لمنهج السلف.
- حالة ابن الجوزي، وبيان اضطرابه وتقلبه وعدم ثباته، وهذا يفسر لنا ما ألفه في العقيدة وخصوصا كتابه المنشور 'دفع شبه التشبيه' وأما تفسير زاد المسير فقد بينت حاله في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات
_________
(1) طبقات الحنابلة (4/ 205 - 211).(7/326)
الصفات'. (1)
- رصانة أسلوب السلف وقوة حججهم وقيامهم لله بما يجب.
الأشرف موسى بن العادل (2) (635 هـ)
صاحب دمشق السلطان الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى شاه أرمن بن العادل. ولد بالقاهرة سنة ست وسبعين وخمسمائة. فهو من أقران أخيه المعظم. روى عن ابن طبرزد وحدث عنه أيضا القوصي في معجمه وسمع الصحيح في ثمانية أيام من ابن الزبيدي. تملك القدس ثم خلاط ثم دمشق فعدل وخفف الجور وأحبته الرعية. وكان فيه دين وخوف من الله على لعبه. وكان جوادا سمحا، فارسا شجاعا، لديه فضيلة. وكان سلطانا كريما حليما واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطاء، لا يوجد في خزانته شيء من المال مع اتساع مملكته، ولا تزال عليه الديون للتجار وغيرهم. وكان مليح الهيئة، حلو الشمائل. قيل ما هزمت له راية. وكان له عكوف على الملاهي والمسكر عفا الله عنه. ويبالغ في الخضوع للفقراء ويزورهم ويعطيهم، ويبعث في رمضان بالحلاوات إلى أماكن الفقراء، ويشارك في صنائع وله فهم وذكاء وسياسة. قال سبط ابن الجوزي: كان الأشرف يحضر مجالسي بحران وبخلاط ودمشق وكان ملكا عفيفا، قال لي: ما مددت عيني
_________
(1) (2/ 846 - 859).
(2) السير (22/ 122 - 127) ووفيات الأعيان (5/ 330 - 336) والبداية والنهاية (13/ 157 - 159) وشذرات الذهب (5/ 175 - 177).(7/327)
إلى حريم أحد قط ولا ذكر ولا أنثى. وكان يميل إلى أهل الخير والصلاح ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، فوض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين عثمان المعروف بابن الصلاح. وقد تاب الأشرف في مرضه وابتهل، وأكثر الذكر والاستغفار، مات في رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان آخر كلامه: لا إله إلا الله فيما قيل.
موقفه من الجهمية:
- جاء في البداية والنهاية: ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة، نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نفي من البلد. (1)
- وفي السير: وكان للأشرف ميل إلى المحدثين والحنابلة، قال ابن واصل: وقعت فتنة بين الشافعية والحنابلة بسبب العقائد. قال وتعصب الشيخ عز الدين بن عبد السلام على الحنابلة، وجرت خبطة حتى كتب عز الدين رحمه الله إلى الأشرف يقع فيهم وأن الناصح ساعد على فتح باب السلامة لعسكر الظاهر والأفضل، عندما حاصروا العادل فكتب الأشرف: يا عز الدين الفتنة ساكنة لعن الله مثيرها. (2)
- وفيها: قال: وكان أولاد العادل كلهم يكرهونه لما اشتهر عنه من علم الأوائل والمنطق، وكان يدخل على المعظم فلا يتحرك له، فقلت: قم له عوضا عني، فقال: ما يقبله قلبي. ومع ذا ولاه تدريس العزيزية، فلما مات
_________
(1) البداية والنهاية (13/ 158).
(2) السير (22/ 126).(7/328)
أخرجه منها الأشرف، ونادى في المدارس: من ذكر غير التفسير والفقه، أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته، فأقام السيف -هو سيف الدين علي بن أبي علي- خاملا في بيته إلى أن مات، ودفن بتربته بقاسيون. (1)
موقف السلف من ابن عربي الحاتمي (638 هـ)
قال عنه الذهبي في السير: ... ثم تزهد وتفرد وتعبد وتوحد وسافر وتجرد، وأتهم وأنجد، وعمل الخلوات وعلق شيئا كثيرا في تصوف أهل الوحدة. (2)
جاء في المنهاج: قال ابن عربي في 'الفصوص': وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء، وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء؛ حتى إن الرسل إذ رأوه لا يرونه -إذا رأوه- إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة -أعني رسالة التشريع ونبوته- تنقطعان، وأما الولاية فلا تنقطع أبدا. فالمرسلون، من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف بمن دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، ومن وجه يكون أعلى.
قال: ولما مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوة بالحائط من اللَّبِن، فرآها قد كملت إلا
_________
(1) السير (22/ 365 - 366).
(2) السير (23/ 48).(7/329)
موضع لبنة، فكان هو - صلى الله عليه وسلم - موضع اللبنة (1). وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرى نفسه في الحائط موضع لبِنتين، ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكمل الحائط. والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهب ولبنة من فضة، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن؛ فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول. (2)
وقال ابن تيمية أيضا: ولهذا ادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الأنبياء. والنبي عنده يأخذ من المَلَك الذي يوحى به إلى الرسل، لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني العقلية في الصور الخيالية، وتلك الصور عنده هي الملائكة، وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا، ولهذا يفضل الولاية على النبوة، ويقول:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي (3)
قال الذهبي: ومن أردإ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 398) والبخاري (6/ 693/3535) ومسلم (4/ 1790/2286) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين».
(2) المنهاج (5/ 336 - 338).
(3) المنهاج (8/ 22).(7/330)
فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله.
وقال: ولا ريب أن كثيرا من عباراته له تأويل إلا كتاب الفصوص. (1)
قال ابن تيمية: وهذا الذي ذكره الجنيد من الفرق بين القديم والمحدث والفرق بين المأمور والمحظور بهما يزول ما وقع فيه كثير من الصوفية من هذا الضلال، ولهذا كان الضلال منهم يذمون الجنيد على ذلك، كابن عربي وأمثاله، فإن له كتابا سماه 'الإسرا إلى المقام الأسرى' مضمونه حديث نفس ووساوس شيطان حصلت في نفسه، جعل ذلك معراجا كمعراج الأنبياء، وأخذ يعيب على الجنيد وعلى غيره من الشيوخ ما ذكروه وعاب على الجنيد قوله: "التوحيد إفراد الحدوث عن القدم" وقال: "قلت له يا جنيد ما يميز بين الشيئين إلا من كان خارجا عنهما، وأنت إما قديم أو محدث، فكيف تميز؟ " وهذا جهل منه؛ فإن المميز بين الشيئين هو الذي يعرف أن هذا غير هذا، ليس من شرطه أن يكون ثالثا، بل كل إنسان يميز بين نفسه وبين غيره وليس هو ثالثا. والرب سبحانه يميز بين نفسه وبين غيره وليس هناك ثالث. (2)
وجاء في السير: وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول عن ابن العربي: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا. (3)
ومواقف سلفنا رحمهم الله كثيرة هذا بعضها، وسيأتي معنا بقية أخرى بإذن الله.
_________
(1) السير (23/ 49).
(2) المنهاج (5/ 340 - 341).
(3) السير (23/ 48 - 49).(7/331)
موقف السلف من الرفيع الفيلسوف الدهري (642 هـ)
قال الذهبي: وقال سبط الجوزي: حدثني جماعة أعيان أن الرفيع كان فاسد العقيدة دهريا يجيئ إلى الجمعة سكران، وأن داره مثل الحانة. وحكى لي جماعة أن الوزير السامري بعث به في الليل على بغل بأكاف إلى قلعة بعلبك ونفذ به إلى مغارة أفقه فأهلكه بها، وترك أياما بلا أكل، وأشهد على نفسه ببيع أملاكه للسامري، وأنه لما عاين الموت قال: دعوني أصل، فصلى فرفسه داود من رأس شقيف فما وصل حتى تقطع، وقيل: بل تعلق ذيله بسن الجبل، فضربوه بالحجارة حتى مات. وقال رئيس النيرب: سلم الرفيع إلي وإلى سيف النقمة داود، فوصلنا به إلى شقيف فيه عين ماء فقال: دعوني أغتسل، فاغتسل وصلى ودعا فدفعه داود فما وصل إلا وقد تلف، وذلك في أول سنة اثنتين وأربعين وستمائة. (1)
محمد بن عبد الواحد المقدسي (2) (643 هـ)
الحافظ الكبير ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي الصالحي الحنبلي، الشيخ الإمام الحافظ القدوة المحقق المجود الحجة بقية السلف صاحب التصانيف
_________
(1) السير (23/ 110 - 111).
(2) السير (23/ 126 - 130) والوافي بالوفيات (4/ 65 - 66) والبداية والنهاية (13/ 181) وشذرات الذهب (5/ 224) وفوات الوفيات (3/ 426 - 427).(7/332)
والرحلة الواسعة. شهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره. ولد في خامس جمادى الآخرة سنة تسع وستين وخمسمائة بالدير المبارك بقاسيون.
سمع من عبد الرحمن بن علي الخرقي وأبي القاسم البوصيري والقاسم ابن أبي المطهر الصيدلاني وأبي المظفر بن السمعاني وخلق كثير. وسمع منه: ابن نقطة وزكي الدين البرزالي وعبد الله بن أبي الطاهر المقدسي، وزينب بنت عبد الله بن الرضي وعدة.
قال الحافظ محب الدين بن النجار في تاريخه: كتبت عنه ببغداد ونيسابور ودمشق، وهو حافظ متقن ثبت ثقة صدوق نبيل حجة عالم بالحديث وأحوال الرجال، وله مجموعات وتخريجات، وهو ورع تقي زاهد عابد محتاط في أكل الحلال مجاهد في سبيل الله، ولعمري ما رأت عيناي مثله في نزاهته وعفته وحسن سيرته وطريقته في طلب العلم.
قال الذهبي رحمه الله: ولم يزل ملازما للعلم والرواية والتأليف إلى أن مات، وتصانيفه نافعة مهذبة، أنشأ مدرسة إلى جانب الجامع المظفري، وكان يبني فيها بيده. ويتقنع باليسير، ويجتهد في فعل الخير، ونشر السنة، وفيه تعبد وانجماع عن الناس، وكان كثير البر والمواساة، دائم التهجد، أمارا بالمعروف، بهي النظر، مليح الشيبة، محببا إلى الموافق والمخالف، مشتغلا بنفسه رضي الله عنه.
توفي يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون ودفن به رحمه الله تعالى.(7/333)
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله: وقد أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن كل محدثة بدعة (1)، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (2)، وأن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذارع. (3)
وقد كثر في زماننا هذا البدع، فظهرت وعمل بها خلق كثير من الناس، وزاولها طريقا إلى الله تعالى، فمن ذلك:
حضور الغناء والمزامير والرقص، ومؤاخاة النسوان، والحضور مع المُردان، حتى إن بعضهم ليرى ذلك أفضل من الصلاة وقراءة القرآن، فنعوذ بالله من الخذلان، ونستعينه على أداء الشكر وكثرة الذكر في جميع الأحيان، ونسأله بكرمه أن لا يجعل للشيطان علينا سلطانا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (4) الآية. (5)
آثاره السلفية:
'الأمر باتباع السنن واجتناب البدع'. وهو مطبوع في جزء صغير بتحقيق الشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي.
_________
(1) تقدم تخريجه مطولا ضمن مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(4) المائدة الآية (41).
(5) اتباع السنن واجتناب البدع (41).(7/334)
موقفه من الرافضة:
له كتاب: 'النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب'. وهو مطبوع ومتداول.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1 - 'جزء في أحاديث الحرف والصوت'.
2 - 'صفة النار'. جزءان
3 - 'صفة الجنة'. ثلاثة أجزاء.
وذكر هذه جميعا ابن رجب في ذيل الطبقات (1).
4 - ذكر الحوض: ذكره الذهبي في السير (2) وابن رجب في ذيل الطبقات (3) وسماه طرق حديث الحوض النبوي.
عبد الله بن محمد الحنبلي (4) (643 هـ)
المحدث الحافظ أبو منصور عبد الله بن أبي الفضل محمد بن أبي محمد بن الوليد البغدادي أحد المكثرين والرحالين. سمع من عبد العزيز بن الأخضر وابن منينا والحافظ عبد القادر الرهاوي، وخلق. وأجاز لسليمان بن حمزة الحاكم،
_________
(1) (2/ 239).
(2) (23/ 128).
(3) (2/ 239).
(4) السير (23/ 213 - 214) وتذكرة الحفاظ (4/ 1432) وشذرات الذهب (5/ 219) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 233) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.172 - 173).(7/335)
وأبي بكر بن أحمد بن عبد الدائم وعيسى المطعم وغيرهم من المتأخرين. قال الشريف أبو العباس الحسيني: كان حافظا مفيدا، أسمع الناس الكثير بقراءته، وكان مشهورا بسرعة القراءة وجودتها، وجمع وحدث. قال الذهبي: وهو من أئمة السنة له تواليف.
توفي في ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ببغداد رحمه الله تعالى.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
رسالة إلى السامري صاحب المستوعب، ينكر عليه فيها تأويله لبعض الصفات وقوله: إن أخبار الآحاد لا تثبت بها الصفات. (1)
ابن الصّلاح (2) (643 هـ)
الإمام، الحافظ، العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي. ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة بشرخان. سمع من أبي المظفر بن السمعاني بمرو ومن الإمامين فخر الدين بن عساكر وموفق الدين بن قدامة وعدة بدمشق. وحدث عنه الإمام شمس الدين بن نوح المقدسي والمحدث عبد الله بن يحيى
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 233).
(2) السير (23/ 140 - 144) ووفيات الأعيان (3/ 243 - 245) وتذكرة الحفاظ (4/ 1430 - 1433) والبداية والنهاية (13/ 179 - 180) وشذرات الذهب (5/ 221).(7/336)
الجزائري وكمال الدين أحمد بن أبي الفتح الشيباني وغيرهم. درس بالمدرسة الصلاحية ببيت المقدس مديدة ثم بالرواحية بدمشق مدة ثم بالأشرفية وكان شيخها ثم الشامية الصغرى. واشتغل وأفتى وجمع وألف، وتخرج به الأصحاب وكان من كبار الأئمة. ذكره المحدث عمر بن الحاجب في معجمه فقال: إمام ورع وافر العقل، حسن السمت، متبحر في الأصول والفروع، بالغ في الطلب حتى صار يضرب به المثل، وأجهد نفسه في الطاعة والعبادة. قال الذهبي: كان ذا جلالة عجيبة، ووقار وهيبة، وفصاحة، وعلم نافع، وكان متين الديانة سلفي الجملة، صحيح النحلة، كافا عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمنا بالله، وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البزة، وافر الحرمة، إلى أن قال رحمه الله: وكان مع تبحره في الفقه مجودا لما ينقله، قوي المادة من اللغة والعربية، متفننا في الحديث متصونا، مكبا على العلم عديم النظير في زمانه. توفي رحمه الله يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
موقفه من المشركين:
موقفه من كتب الفلسفة والمنطق:
جاء في فتاوى ابن الصلاح: مسألة: فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليما وتعلما، وهل المنطق جملة وتفصيلا مما أباح الشارع تعليمه وتعلمه؟ والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون ذكروا ذلك أو أباحوا الاشتغال به أو سوغوا الاشتغال به أم لا؟
وهل يجوز أن يستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات(7/337)
المنطقية أم لا؟
وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا؟ وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهرا به ما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره؟
وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروفا بتعليمها وإقرائها والتصنيف فيها وهو مدرس في مدرسة من مدارس العلم، فهل يجب على سلطان تلك البلاد عزله وكفاية الناس شره؟
أجاب رضي الله عنه: الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه -أظلم قلبه- عن نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكره ذاكر، وكلما غفل عن ذكره غافل مع انتشار آياته المستبينة، ومعجزاته المستنيرة، حتى لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها فجمع منها ألف معجزة، وعددناه مقصرا، إذ فوق ذلك بأضعاف لا تحصى، فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره - صلى الله عليه وسلم - بل لم تزل تتجدد بعده - صلى الله عليه وسلم - على تعاقب العصور ...
وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه(7/338)
وطهرهم من أوضاره.
وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية.
والحمد لله، فالافتقار إلى المنطق أصلا، وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها بالطريق الأقوم، والسبيل الأسلم الأطهر كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به، فالواجب على السلطان -أعزه الله وأعز به الإسلام وأهله- أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أوالإسلام، لتخمد نارهم، وتنمحي آثارها وآثارهم، يسر الله ذلك وعجله، ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله، ومن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم، فإن حاله يكذبه، والطريق في قلع الشر قلع أصوله وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملة، والله تبارك وتعالى ولي التوفيق والعصمة وهو أعلم. (1)
التعليق:
اختص الله تعالى بإحياء الموتى من قبورهم وجعله آية لبعض الأنبياء،
_________
(1) فتاوى ابن الصلاح (1/ 209 - 212).(7/339)
وإلا أحيينا ابن الصلاح من قبره وتجولنا به في العالم الإسلامي، وأوقفناه على جامعة انتدبت نفسها للقيام بهذه المهمة التي سل سيفه من أجلها، ولعقدنا له لقاءات مع آلاف الناس الذين يتبنون هذا الفكر الشاذ المحير والمتحير، ولمررنا به على أكبر المدارس غير التي تقدم ذكرها، والتي نصبت نفسها حامية للعلوم الشرعية، لكن جعلت من أهم مناهجها المنطق والفلسفة بل لا تدرس العقيدة، على هذا السبيل الأزهر والزيتونة والقرويين ولأوقفناه على آلاف المكتبات الخاصة والعامة، ولرأى ما يسوؤه من الحال والاعتناء بهذه العلوم الكافرة، وما أدري ماذا سيفعل الشيخ بشهادة الدكتوراه وما دونها من الشواهد في هذا الباب، التي تخول لصاحبها التدريس في الجامعات لنشر كفره وإلحاده بين أبناء الأمة الإسلامية حتى يعم الإلحاد في أرباع المعمورة.
موقفه من الجهمية:
قال شيخ الإسلام: إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما وأمثلهم اعتقادا. (1)
موقفه من المرجئة:
جاء في مجموع الفتاوى: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله» إلى آخره؛ «والإيمان أن تؤمن بالله
_________
(1) الفتاوى (9/ 7).(7/340)
وملائكته وكتبه ورسله» إلى آخره (1). قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأربع لكونها أظهر شعائر الإسلام ومعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بحل قيد انقياده أو انحلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث. وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، مقومات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث وفد عبد القيس (2) بالشهادتين، والصلاة والزكاة، والصوم، وإعطاء الخمس من المغنم؛ ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة، لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (3) واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام.
قال: فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، قال: فهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات النصوص الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون؛ وما
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(2) أحمد (1/ 228) والبخاري (1/ 172/53) ومسلم (1/ 46/17) وأبو داود (4/ 94/3692) والترمذي (5/ 9 - 10/ 2611) والنسائي (8/ 495/5046) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).(7/341)
حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. (1)
موقفه من القدرية:
جاء في فتاويه: مسألة: فيمن يعتقد أن في ملك الله سبحانه وتعالى ما لا يرضاه ولا يريده فهل هو مخطئ أو مصيب في هذا القول والاعتقاد أم لا؟.
أجاب -رضي الله عنه-: أصاب في قوله أنه يوجد ما لا يرضاه تبارك وتعالى مثل الكفر، قال الله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (2) وضل وابتدع في قوله: أنه يوجد ما لا يريده، بل ذلك محال، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وفرق بين الرضا والإرادة، ثم ما لكم والخوض في هذا البحر المغرق. عليكم بالعمل ففيه شغل شاغل والله أعلم. (3)
أحمد بن عيسى بن قدامة المقدسي (4) (643 هـ)
الإمام الحافظ المتقن سيف الدين أبو العباس أحمد بن مجد الدين عيسى ابن الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي. ولد سنة خمس وستمائة.
وسمع أبا اليمن الكندي وابن ملاعب وأحمد بن عبد الله السلمي
_________
(1) الفتاوى (7/ 361 - 362).
(2) الزمر الآية (7).
(3) فتاوى ومسائل ابن الصلاح (1/ 214 - 215).
(4) السير (23/ 118 - 119) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.152 - 153) والذيل على طبقات الحنابلة (2/ 241) والوافي بالوفيات (7/ 273) وتذكرة الحفاظ (4/ 1449 - 1447) وشذرات الذهب (5/ 217).(7/342)
العطار وابن أبي لقمة، وتخرج بخاله الحافظ ضياء الدين. رحل إلى بغداد، وصنف وخرج، وكان ثقة حجة، بصيرا بالحديث ورجاله، عاملا بالأثر، صاحب عبادة وتهجد وإنابة. روى عنه أبو بكر أحمد بن محمد الدشتي وغيره.
قال الذهبي: وكان ثقة ثبتا، ذكيا، سلفيا، تقيا، ذا ورع وتقوى، ومحاسنه جمة، وتعبد وتأله، ومروءة تامة، وقول بالحق، ونهي عن المنكر، ولو عاش لساد في العلم والعدل، فرحمه الله تعالى. توفي في أول شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون، وله ثمان وثلاثون سنة.
موقفه من الصوفية:
قال الذهبي: ألف السيف رحمه الله تعالى مجلدا كبيرا في الرد على الحافظ محمد بن طاهر المقدسي لإباحته للسماع، وفي أماكن من كتاب ابن طاهر في صفوة أهل التصوف، وقد اختصرت هذا الكتاب على مقدار الربع، وانتفعت كثيرا بتعاليق الحافظ سيف الدين. (1)
وله أيضا مصنف في الاعتقاد، فيه آثار كثيرة وفوائد. (2)
موقف بدر الدين صاحب الموصل من ابن عدي الضال الصوفي (644 هـ)
قال الذهبي: كان هذا من رجال العالم دهاء وهمة وسموا، له فضيلة وأدب وتواليف في التصوف الفاسد، وله أتباع لا ينحصرون وجلالة عجيبة.
_________
(1) التذكرة (4/ 1447) وانظر ذيل طبقات الحنابلة (4/ 241).
(2) ذيل الطبقات (4/ 241).(7/343)
بلغ من تعظيمهم له أن واعظا أتاه فتكلم بين يديه، فبكى تاج العارفين وغشي عليه، فوثب كردي، وذبح الواعظ، فأفاق الشيخ فرأى الواعظ يختبط في دمه، فقال: أيش هذا؟ فقالوا: أي شيء هذا من الكلاب حتى يبكي سيدي الشيخ. وزاد تمكن الشيخ حتى خاف منه بدر الدين صاحب الموصل، فتحيل عليه حتى اصطاده، وخنقه بالموصل؛ خوفا من غائلته. وهناك جهلة يعتقدون أن الشيخ حسنا لا بد أن يرجع إلى الدنيا، وكان يلوح في نظمه بالإلحاد، ويزعم أنه رأى رب العزة عيانا، واعتقاده ضلالة. (1)
أبو عبد الله الطَّرَّاز (2) (645 هـ)
الإمام العلامة المقرئ محمد بن سعيد بن علي بن يوسف، أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي الغرناطي، يعرف بالطراز. سمع أبا القاسم بن سمحون وعلي بن جابر وطائفة، وأجاز له أبو اليمن الكندي. روى عنه أبو عبد الله الطنجالي، وحميد القرطبي، وأبو إسحاق البلفيقي والكاتب أبو الحسن بن فرج.
قال ابن الزبير: وكان ضابطا متقنا، ومفيدا حافلا، بارع الخط، حسن الوراقة، عارفا بالأسانيد والطرق والرجال وطبقاتهم، مقدما عارفا بالقراءات، مشاركا في علوم العربية والفقه والأصول، كاتبا نبيلا، مجموعا فاضلا
_________
(1) السير (23/ 223 - 224).
(2) السير (23/ 258 - 261) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.293) والديباج المذهب (2/ 277 - 279) وغاية النهاية (2/ 144) وشجرة النور الزكية (1/ 182 - 183).(7/344)
متخلقا، ثقة عدلا، كتب بخطه كثيرا وأمهات. وقال ابن فرحون: كان رحمه الله تعالى مقرئا جليلا، ومحدثا حافلا، به ختم بالمغرب هذا الباب ألبتة. تجرد آخر عمره إلى كتاب مشارق الأنوار للقاضي عياض، وكان قد تركه في مبيضته، فجمع عليه أصولا حافلة وأمهات هائلة من الأغربة وكتب اللغات، وعكف على ذلك مدة، وبالغ في البحث والتفتيش، حتى تخلص الكتاب على أتم وجه، وبرزت محاسنه. توفي رحمه الله في شوال سنة خمس وأربعين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير أنه وصى أن لا يقرأ على قبره ولا يبنى عليه، وكان ممن وضع الله له ودا في قلوب عباده، معظما عند جميع الناس خصوصا في غير بلده، ولقد كان من أشد الناس غيرة على السنة وأهلها وأبغضهم في أهل الأهواء والبدع. (1)
موقف السلف من الحريري علي بن أبي الحسن (645 هـ)
قال الذهبي: قرأت بخط السيف الحافظ: كان الحريري من أفتن شيء وأضره على الإسلام، تظهر منه الزندقة والاستهزاء بالشرع، بلغني من الثقات أشياء يستعظم ذكرها من الزندقة والجرأة على الله، وكان مستخفا بأمر الصلوات. وحدثني أبو إسحاق الصريفيني، قال: قلت للحريري: ما الحجة في
_________
(1) السير (23/ 260).(7/345)
الرقص؟ قال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} (1) وكان يطعم وينفق ويتبعه كل مريب. شهد عليه خلق كثير بما يوجب القتل، ولم يقدم السلطان على قتله، بل سجنه مرتين ... وعندي مجموع من كلام الشيخ الحريري، فيه: إذا دخل مريدي بلاد الروم، وتنصر، وأكل الخنزير، وشرب الخمر كان في شغلي. وسأله رجل: أي الطرق أقرب إلى الله؟ قال: اترك السير وقد وصلت. وقال لأصحابه: بايعوني على أن نموت يهود ونحشر إلى النار حتى لا يصحبني أحد لعلة. وقال: لو قدم علي من قتل ولدي وهو بذلك طيب وجدني أطيب منه ... وقال علي بن أنجب في تاريخه: الفقير الحريري شيخ عجيب، كان يعاشر الأحداث، كان يقال عنه: إنه مباحي ولم تكن له مراقبة، كان يخرب، والفقهاء ينكرون فعله، وكان له قبول عظيم. وروي عن الحريري: لو ضربنا عنقك على هذا القول ولعناك لاعتقدنا أنا مصيبون ... (2)
يوسف بن خليل (3) (648 هـ)
الإمام المحدث الصادق الرحالة شيخ المحدثين راوية الإسلام أبو الحجاج شمس الدين يوسف بن خليل بن قراجا عبد الله الدمشقي الأدمي الإسكاف،
_________
(1) الزلزلة الآية (1).
(2) السير (23/ 224 - 226).
(3) السير (23/ 151 - 155) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.406 - 408) وتذكرة الحفاظ (4/ 1410) الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 244 - 245) وشذرات الذهب (5/ 243 - 244).(7/346)
نزيل حلب وشيخها. ولد في سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وتشاغل بطلب الرزق حتى كبر وقارب الثلاثين ثم بعد ذلك حبب إليه الحديث. وعني بالرواية وسمع الكثير، وكتب بخطه المتقن شيئا كثيرا. وكان ذا علم حسن ومعرفة جيدة ومشاركة قوية في الإسناد والمتن. سمع من يحيى الثقفي ومحمد بن صدقة وأبي طاهر الخشوعي وأقرانهم، وصحب الحافظ عبد الغني وتخرج به مدة. ورحل إلى البلدان، وسمع بها. حدث عنه الحافظ بن الأنماطي، والبرزالي والقوصي، وابن العديم وابنه وعدة. وكان حسن الأخلاق مرضي السيرة، خرج لنفسه الثمانيات، وأجزاء عوالي كعوالي هشام بن عروة والأعمش وما اجتمع فيه أربعة من الصحابة، وكان ينطوي على سنة وخير، روى كتبا كبارا للمتقدمين، وانقطع بموته سماع أشياء كثيرة لخراب أصبهان. توفي رحمه الله تعالى في عاشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة وله ثلاث وتسعون سنة.
موقفه من الصوفية:
قال الذهبي: بلغني أنه كان يذم الحريري (الصوفي) وطريقة أصحابه. (1)
علي بن محمد الشَّارِي (2) (649 هـ)
الإمام الحافظ المقرئ شيخ المغرب، علي بن محمد بن يحيى، أبو الحسن الغافقي الشاري ثم السبتي، نزيل مالقة. وشارة: بليدة من عمل مرسية، شرق
_________
(1) السير (23/ 154).
(2) السير (23/ 275 - 278) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.424 - 425) وغاية النهاية (1/ 574 - 575) والوافي بالوفيات (22/ 95).(7/347)
الأندلس. ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. قرأ القراءات إلا بعضها على والده وعلى يحيى بن محمد الهوزني وأبي محمد بن عبيد الله الحجري، وأخذ العربية من أبي ذر الخشني وأبي الحسن بن خروف، وأجاز له الإمام أبو زيد السهيلي. وروى عنه أبو جعفر بن الزبير وأثنى عليه، وسمع منه شيئا كثيرا. قال تلميذه ابن الزبير: وكان ثقة، متحريا، ضابطا عارفا بالأسانيد والرجال والطرق، بقية صالحة وذخيرة نافعة، رحلت إليه فقرأت عليه كثيرا، وتلوت عليه ... حسن النية، من أهل المروءة والفضل التام والدين القويم، منصفا، متواضعا، حسن الظن بالمسلمين، محبا في الحديث وأهله. وقال ابن رشيد: أحيا الشاري بسبتة العلم حيا وميتا، وحصل الكتب بأغلى الأثمان، وكان له عظمة في النفوس. توفي رحمه الله بمالقة في التاسع والعشرين من رمضان سنة تسع وأربعين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: كان منافرا لأهل البدع والأهواء، معروفا بذلك ... محبا في الحديث وأهله. (1)
موقف السلف من الخونجي محمد بن ناماور (649 هـ)
قال ابن تيمية رحمه الله: والخونجي المصنف في أسرار المنطق الذي سمى كتابه 'كشف الأسرار' يقول لما حضره الموت: أموت ولم أعرف شيئا إلا أن
_________
(1) السير (23/ 276).(7/348)
الممكن يفتقر إلى الممتنع، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت ولم أعرف شيئا - حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت. (1)
التعليق:
انظر رحمك الله إلى مآل سعي هؤلاء، كيف اغتر المساكين باتباع سراب حسبوه ماء. فجعلوا -زيفا- ينهلون منه ويرتوون، حتى إذا حضرهم الموت التفتوا يمينا وشمالا فلم يجدوا شيئا، فوجدوا الله عنده فوفاهم الحساب. نسأل الله السلامة.
موقف السلف من سبط ابن الجوزي يوسف بن قزغلي وتلبسه بالرفض (654 هـ)
جاء في المنهاج: ... وإن أرادَ سبَطه يوسف بن قزغلي صاحب التاريخ المسمى بـ 'مرآة الزمان' وصاحب الكتاب المصنف في 'الاثنى عشر' الذي سماه 'إعلام الخواص'، فهذا الرجل يذكر في مصنفاته أنواعا من الغث والسمين، ويحتج في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة، وكان يصنف بحسب مقاصد الناس: يصنف للشيعة ما يناسبهم ليعوضوه بذلك، ويُصنف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك؟ قال: في أي مدينة؟
ولهذا يوجد في بعض كتبه (ثلب) الخلفاء الراشدين وغيرهم من
_________
(1) درء التعارض (1/ 162).(7/349)
الصحابة رضوان الله عليهم لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم. (1)
وجاء في الميزان: وما أظنه بثقة فيما ينقله، بل يجنف ويجازف، ثم إنه ترفض، وله مؤلف في ذلك. نسأل الله العافية.
مات سنة أربع وخمسين وستمائة بدمشق، قال الشيخ محيي الدين السوسي: لما بلغ جدي موت سبط ابن الجوزي قال: لا رحمه الله، كان رافضيا. (2)
المُرْسِي (3) (655 هـ)
الإمام العلامة البارع القدوة المفسر المحدث النحوي ذو الفنون شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي المرسي الأندلسي. ولد بمرسية في أول سنة تسعين وخمسمائة. سمع الموطأ من المحدث الحجري، وسمع من ابن الفرس، وحج ثم أكثر الأسفار، وسمع من عدة مشايخ، وكتب وجمع من الكتب النفيسة كثيرا، ومهما فتح به عليه صرفه في ثمن الكتب، وكان متضلعا في العلم جيد الفهم، متين الديانة. حدث عنه ابن النجار والدمياطي والقاضي الحنبلي والفزاري وأبو الفضل الإربلي وعدة. وكان زاهدا متورعا كثير العبادة. قال أبو شامة: كان متقنا،
_________
(1) منهاج السنة (4/ 97 - 98).
(2) ميزان الاعتدال (4/ 471).
(3) معجم الأدباء (18/ 209 - 213) والسير (23/ 312 - 318) وتاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.211 - 214) والوافي بالوفيات (3/ 354 - 355) وشذرات الذهب (5/ 269).(7/350)
محقق البحث، كثير الحج، مقتصدا في أموره. وقال عمر بن الحاجب: سألت الحافظ بن عبد الواحد عن المرسي فقال: فقيه، مناظر نحوي، من أهل السنة، صحبنا في الرحلة، وما رأينا منه إلا خيرا. توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة.
موقفه من الجهمية:
قال ابن النجار: أنشدني لنفسه:
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الضلالة والغواية والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إن اتبعت هو الهدى
ودع السؤال بلم وكيف فإنه ... باب يجر ذوي البصيرة للعمى
الدين ما قال الرسول وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا (1)
موقف السلف من ابن أبي الحديد أبي حامد عبد الحميد بن عبد الله (655 هـ)
قال شيخ الإسلام: وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة، وله أشعار في هذا الباب، كقوله:
فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول، فما ... ربحت إلا أذى السفر
_________
(1) السير (23/ 314).(7/351)
فلحى الله الألى زعموا ... أنك المعروف بالنظر
كذبوا، إن الذي ذكروا ... خارج عن قوة البشر
هذا مع إنشاده:
وحقك لو أدخلتني النار قلت ... للذين بها: قد كنت ممن يحبه
وأفنيت عمري في علوم كثيرة ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه
أما قلتم: من كان فينا مجاهدا ... سيكرم مثواه ويعذب شربه؟
أما رد شك ابن الخطيب وزيغه ... وتمويهه في الدين إذ جل خطبه
وآية حب الصب أن يعذب الأسى ... إذا كان من يهوى عليه يصبه (1)
الصرصري (2) (656 هـ)
الشيخ العلامة القدوة أبو زكرياء يحيى بن يوسف بن يحيى الصرصري الأصل، نسبة إلى صرصر بفتح الصادين المهملتين، قرية على فرسخين من بغداد. ولد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قرأ القرآن بالروايات على أصحاب ابن عساكر البطائحي وسمع الحديث من الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي الزاهد، وأجاز له الشيخ عبد المغيث الحربي وغيره. وسمع منه الحافظ الدمياطي وحدث عنه وذكره في معجمه. إليه المنتهى في معرفة اللغة وحسن الشعر وديوانه، ومدائحه سائرة وكان حسان وقته، وكان ذكيا يتوقد نورا، وكان
_________
(1) درء التعارض (1/ 161).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ 303 - 306) وفوات الوفيات (4/ 298 - 319) والبداية (13/ 211) وشذرات اللذهب (5/ 285 - 286).(7/352)
ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم الكافي الذي ألفه موفق الدين ابن قدامة ومختصر الخرقي، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة. وكان صالحا قدوة كثير التلاوة عظيم الاجتهاد، صبورا قنوعا، وكان شديدا في السنة، منحرفا على المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة ومدح أهلها وذم مخالفيها. وتوفي رحمه الله مقتولا سنة ست وخمسين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله في داليته التي أولها:
واها لفرط حرارة لا تبرد ... ولواعج بين الحشا تتوقد
في كل يوم سنة مدروسة ... بين الأنام وبدعة تتجدد
صدق النبي ولم يزل متسربلا ... بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد
إذ قال يفترق الضلال ثلاثة ... زيدت على السبعين قولا يسند
وقضى بأسباب النجاة لفرقة ... تسعى بسنة مهتدين وتحفد
فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة ... فاقبل مقالة ناصح يتقلد
إياك والبدع المضلة إنها ... تهدي إلى نار الجحيم وتورد
وعليك بالسنن المنيرة فاقفها ... فهي المحجة والطريق الأقصد
فالأكثرون بمبدعات عقولهم ... نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا
منهم أناس في الضلال تجمعوا ... وبسب أصحاب النبي تفردوا
قد فارقوا جمع الهدى وجماعة الإسـ ... ـلام واجتنبوا الهدى وتمردوا
بالله يا أنصار دين محمد ... نوجوا على الدين الحنيف وعددوا(7/353)
لعبت بدينكم الروافض جهرة ... وتألبوا في دحضه وتحشدوا
نصبوا حبائلهم بكل بلية ... وتغلظوا في المعضلات وشددوا
ورموا خيار الخلق بالكذب الذي ... هم أهله، لا من رموه وأفسدوا
عابوا الصحاب وهم أجل مراتبا ... في الفخر في أفق السماء وأمجد
ولرتبة الصديق جف لسانهم ... يبغون وهي من التناول أبعد
أو ما هو السباق في عرف العلى ... ولقد زكى من قبل منه المحتد
ولقد أشار بذكره رب العلى ... فثناؤه في المكرمات مسدد
نطق الكتاب بمجده الأعلى ففي ... آي الحديد مناقب لا تنفد
(لا يستوي منكم) وفيها مقنع ... و (الليل) يثبت فضله ويؤكد
و (براءة) تثني بصحبته وهل ... يزرى على الصديق إلا ملحد
أو ما هو الأتقى الذي استولى عـ ... ـلى الإخلاص طارف ماله والمتلد
لما مضى لسبيله خير الورى ... وحوى شمائله صفيح ملحد
منع الأعاريب الزكاة لفقده ... وارتد منهم حائر متردد
وتوقدت نار الضلال وخالطت ... إبليس أطماع كوامن رصد
فرمى أبو بكر بصدق عزيمة ... وثبات إيمان ورأي يحمد
فتمزقت عصب الضلال وأشرقت ... شمس الهدى وتقوم المتأود
وهو الموفق للصواب كأنما ... ملك يصوب قوله ويسدد
بوفاقه آي الكتاب تنزلت ... وبفضله نطق المشفع أحمد
لو كان من بعدي نبيا كنته ... خبرا صحيحا في الرواية يسند
وبعدله الأمثال تضرب في الورى ... وفتوحه في كل قطر توجد(7/354)
وتمام فضلها جوار المصطفى ... في تربة فيها الملائك تحشد
وتعمقوا في سب عثمان الذي ... ألفاه كُفُوًا لابنتيه محمد
ولبيعة الرضوان مد شماله ... عوض اليمين وهي منه أوكد
وحباه في بدر بسهم مجاهد ... إذ فاته بالعذر ذاك المشهد
من هذه من بعض غر صفاته ... ما ضره ما قال فيه الحسد
ثم ادعوا حب الإمام المرتضى ... هيهات مطلبهم عليهم يبعد
أنى وقد جحدوا الذين بفضلهم ... أثنى أبو الحسن الإمام السيد
ما في علاه مقالة لمخالف ... فمسائل الإجماع فيه تعقد
ولنحن أولى بالإمام وحبه ... عقد ندين به الإله مؤكد
وولاؤه لا يستقيم ببغضهم ... واضرب لهم مثلا يغيظ ويكمد
مثل الذي جحد ابن مريم وادعى ... حب الكليم وتلك دعوى تفسد
وبقذف عائشة الطهور تجشموا ... أمرا تظل له الفرائص ترعد
تنزيهها في سبع عشرة آية ... والرافضي بضد ذلك يشهد
لو أن أمر المسلمين إليهم ... لم يبق في هذي البسيطة مسجد
ولو استطاعوا لا سعت بمرامهم ... قدم ولا امتدت بكفهم يد
لم يبق للإسلام ما بين الورى ... علم يسود ولا لواء يعقد
علقوا بحبل الكفر واعتصموا به ... والعالقون بحبله لم يسعدوا
موقفه من الجهمية:
كان يحيى الصرصري من الشعراء، وله قصائد كثيرة ذكر بعضها ابن(7/355)
القيم في اجتماع الجيوش. (1)
قال رحمه الله في قصيدته اللامية التي نظم فيها اعتقاد الشافعي -رضي الله عنه- التي أولها:
أيشعر حزب الجهم ذاك المضلل ... بأني حرب للعدى غير أفكل
تشن عليهم غيرتي وحميتي ... لدين الهدى غارات أشوس مقبل
فوقع قريضي في صميم قلوبهم ... أشد عليهم من سنان ومنصل
أفوق عليهم حين أنظر نحوهم ... مقاتل تصمي منهم كل مقتل
هم انحرفوا عن منهج الحق سالكي ... مهالك من تحريفهم والتأول
لقد برئ الحبر ابن إدريس منهم ... براءة موسى من يهود محول
ويعقد عند الشافعي يمين مَنْ ... غدا حالفا بالمصحف المتقبل
فهذا دليل منه إذ كان لا يرى ... انعقادا بمخلوق لخلق مؤبل
ومذهبه في الاستواء كمالك ... وكالسلف الأبرار أهل التفضل
ومستويا بالذات من فوق عرشه ... ولا تقل: استولى، فمن قال يبطل
فذلك زنديق يقابل قسوة ... لذي خطل راوي لعيب معطل
وهو بان منه خلقه وهو بائن ... من الخلق، محض للخفي مع الجلي
وأقرب من حبل الوريد مفسِّرا ... وما كان معناه به العلم فاعقل
علا في السماء الله فوق عباده ... دليلك في القرآن غير مقلل
وإثبات إيمان الجويرية اتخذ ... دليلا عليه مسند غير مرسل (2)
_________
(1) (280 - 286).
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية (282).(7/356)
وقال رحمه الله في قصيدته اللامية يهجو ابن خنفر الجهمي الخبيث:
نبذ الكتاب وراء ظهر واقتدى ... شيخ الضلالة للصفات يعطل
وعقيدة الملعون أن المصحف المكنـ ... ــون منبوذ تطؤه الأرجل
ما قالت الكفار مثل مقالته ... وكذا النصارى واليهود الضلل
آل الجحود به إلى واد لظى ... للغاية السفلى فبئس الموئل
وزعمت أن الحنبلي مجسم ... حاشا لمثل الحنبلي يمثل
بل يورد الأخبار إذ كانت تصححها ... الرواة عن الثقات وتنقل
إن المهيمن ليس تمضي ليلة ... إلا وفي الأسحار فيها ينزل
قد قالها خير الورى في صحبه ... لم ينكروا هذا ولم يتأولوا
وتقبلوها مع غزارة علمهم ... أفأنت أم تلك العصابة أعقل (1)
وقال رحمه الله في داليته (2):
وأشدهم كفرا جهول يدعي ... علم الأصول وفاسق متزهد
فَهُمُو وإن وهنوا أشد مضرة ... في الدين من فأر السفين وأفسد
وإذا سألت فقيههم عن مذهب ... قال: اعتزال في الشريعة يلحد
كالخائض الرمضاء أقلقه اللظى ... منها ففر إلى جحيم يوقد
إن المقال بالاعتزال لخطة ... عمياء حل بها الغواة المرد
هجموا على سبل الهدى بعقولهم ... ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا
صم إذا ذكر الحديث لديهم ... نفروا كأن لم يسمعوه وأبعدوا
_________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية (283).
(2) اجتماع الجيوش (285 - 286).(7/357)
واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت ... أسد العرين فهن منهم شردوا
إلى أن قال:
والجاحد الجهمي أسوأ منهما ... حالا وأخبث في القياس وأفسد
أمسى لرب العرش قال منزها ... من أن يكون عليه رب يعبد
ونفى القرآن برأيه والمصحف ... الأعلى المطهر عنده يتوسد
وإذا ذكرت له على العرش استوى ... قال: هو استولى، يحيل ويخلد
فإلى من الأيدي تمد تضرعا ... وبأي شيء في الدجى يتهجد
ومن الذي هو للقضاء منزل ... وإليه أعمال البرية تصعد
وبما ينزل جبرائيل مصدقا ... ولأي معجزة الخصوم تبلد
ومن الذي استولى عليه بقهره ... إن كان فوق العرش ضد أيد
جلت صفات الحق عن تأويلهم ... وتقدست عما يقول الملحد
لما نفوا تنزيهه بقياسهم ... ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد
ويقول: لا سمع ولا بصر ولا ... وجه لربك، ذي الجلال ولا يد
من كان هذا وصفه لإلهه ... فأراه للأصنام سرا يسجد
الحق أثبتها بنص كتابه ... ورسوله، وعدا المنافق يجحد
فمن الذي أولى بأخذ كلامه ... جهم أم الله العلي الأمجد
والصحب لم يتأولوا لسماعها ... فهم إلى التأويل أم هو أرشد
هو مشرك ويظن جهلا أنه ... في نفي أوصاف الإله موحد
يدعو من اتبع الحديث مشبها ... هيهات ليس مشبها من يسند
لكنه يروي الحديث كما أتى ... من غير تأويل ولا يتردد(7/358)
وإذا العقائد بالضلال تخالفت ... فعقيدة المهدي أحمد أحمد
هي حجة الله المنيرة فاعتصم ... بحبالها لا يلهينك مفسد
إن ابن حنبل اهتدى لما اقتدى ... ومخالفوه لزيغهم لم يهتدوا
ما زال يقفو راشدا أثر الهدى ... ويروم أسباب النجاة ويجهد
حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة ... ما فوقها لمن ابتغاها مصعد
نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل ... في فتنة نيرانها تتوقد
ما صده ضرب السياط ولا ثنى ... عزماته ماضي الغرار مهند
فهناه حب ليس فيه تعصب ... لكن محبة مخلص يتودد
وودادنا للشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ليس فيه تردد
أبو العباس بن عمر القرطبي (1) (656 هـ)
الفقيه المحدث أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر، أبو العباس ضياء الدين الأنصاري القرطبي. ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وسمع بها من علي بن محمد اليحصبي وأبي محمد بن عبد الله بن سليمان بن حوط الله، وبتلمسان من محمد بن عبد الرحمن التجيبي، وبمصر من أبي إبراهيم عوض بن محمود تقي الدين.
قال الذهبي: كان بارعا في الفقه والعربية، عارفا بالحديث. وقال ابن فرحون: كان من الأئمة المشهورين والعلماء المعروفين، جامعا لمعرفة علوم،
_________
(1) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.224 - 226) والوافي بالوفيات (7/ 264 - 265) والديباج المذهب (1/ 240) والبداية والنهاية (13/ 226) وشذرات الذهب (5/ 273 - 274).(7/359)
منها: علم الحديث والفقه والعربية وغير ذلك. أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المفسر وأبو محمد عبد المؤمن الدمياطي وأبو الحسن بن يحيى القرشي. له كتاب المفهم في شرح ما أشكل من تلخيص كتاب مسلم وتلخيص صحيح مسلم ومختصر البخاري والإعلام بمعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها.
تنبيه: سقط القرطبي في حمأة التأويل على عادة الأشاعرة، فأول صفة العلو واليد والإصبع وغيرها.
توفي رحمه الله بالإسكندرية في رابع عشر ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في مسألة قراءة القرآن بالألحان: وقد أجاز ذلك أبو حنيفة وجماعة من السلف، وقال بجوازه الشافعي في التحزين وكرهه مالك وأكثر العلماء، ولا يشك في أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يغير التلحين لفظ القرآن بزيادة أو نقصان، أو ينبهم معناه بترديد الأصوات، والتقطيعات، وتكرر النغمات، حتى لا يفهم السامع ما يقرؤه القارئ، فهذا مما لا يشك فيه أنه حرام فأما إذا سلم من تلك الأمور، وحذا به حذو أساليب الغناء والتطريب، والتحزين فهو الذي اختلف فيه، فنقول: إن ذلك لا يجوز لوجهين:
أحدهما: أن كيفية قراءة القرآن نقلت إلينا نقلاً متواتراً، وليس فيها شيء مما يشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، فينبغي ألا يجوز غيرها، وإنما قلنا ذلك، لأنا قرأنا القرآن على مشايخنا، وهم العدد الكثير، والجم(7/360)
الغفير، ومشايخنا على مشايخهم، وهكذا إلى العصر الكريم، وتلقينا عنهم كيفية قراءته بالمشافهة، فلو كان التلحين فيه مشروعاً لتعلموه من مشايخهم، ولنقلوه عنهم، كما نقلوا عنهم المد والقصر وما بين اللفظين والإمالة والفتح والإدغام والإظهار، وكيفية إخراج الحروف على مخارجها، فإنه لما نقله الخلف عن السلف وعلموا عليه اتصل ذلك لنا وتلقناه عنهم، وهذا جاء مع توفر الدواعي على النقل وكثرة المتعمقين من القراء الغالين في كيفية قراءته، ومع ذلك فلم ينقل عن أحد من القراء المشاهير ولا عن الرواة عنهم شيء من ذلك، فدل ذلك على أن تلحين القرآن ما كان معروفاً عندهم، ولا معمولاً به فيما بينهم، فوجب ألا يعمل به، ولا يعرج عليه، فإنه أمر محدث، «وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة» (1)، كما قاله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- وقال في رده لشبهة النظر إلى المعنى، وهو أنه قراءته بالألحان ينشط السامع، وتطيب له القراءة فينتفي عنه الملل ... قال: إنا لا نسلم أن كل ما استخرج خشوعاً ورقّةً وبكاءً يكون مندوباً إليه ولا مباحاً، فإن ذلك ينتقض بالأوتار وبعض المزامير، والندب في النياحة فإنها تستخرج كل ذلك، وهي محرمة.
سلمنا ذلك، لكنها تجر أيضاً إلى أمور ممنوعة كما سيأتي، وإذا أمكن أن يحصل منها مصلحة ومفسدة، وليست إحداهما راجحة منع الكل اتقاءً للمفسدة، وترجيحاً لجانبها فينبغي أن لا يكون التطريب بالقرآن مشروعاً.
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف القاسم بن محمد سنة (106هـ).
(2) كشف القناع (ص.113 - 114).(7/361)
سلمنا أن كل ما ذكروه من الاستدلال بالنوعين صحيح، لكنهما إنما يفيدان غلبة الظن فإنها ظواهر وقياس، غير أنهما في مقابلة المتواتر المقطوع به، وهو مما قدمناه من أن كيفية القراءة المتواترة ليس فيها تلحين ولا تطريب، فلا يكون ذلك مشروعاً، فإنها زيادة على القدر المتواتر إذ لم يقرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على من نقل القرآن عنه فيكون مقطوعاً بنفيها، وبهذه الطريق قطعنا بنفي صلاة سادسة، وبنفي ركعة رابعة في المغرب، إذ قد نقل كل ذلك بالعمل المتواتر، فليلزم نفي غيره، والله أعلم.
وأما الوجه الثاني: من الوجهين السابقين، فهو أن قراءة القرآن بألحان الشعر تؤدي إلى أمور ممنوعة فيكون ممنوعاً.
أولها: الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك أن التلحين لا بد فيه من ترنين وتمطيط، وذلك يقتضي الزيادة في المدات، والحروف ولا بد فيه من تقطيع وتقصير وذلك يقتضي النقصان.
وثانيها: تشبيه القرآن بالغناء الذي هو لهو ولعب وهزل، وقد نزه الله تعالى القرآن عن كل ذلك بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)} (1).
وثالثها: تشبيهه بالشعر، وقد نزهه الله عن الشعر وأحواله بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} (2) وبقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ
_________
(1) الطارق الآيتان (13و14).
(2) الحاقة الآيتان (40و41).(7/362)
الشِّعْرَ} (1).
ورابعها: أنه يؤدي إلى إبهام معانيه، وإعجامها على سامعيه، فقد سمعنا التلحين له ولم نعرف ما يقولون إلا بعد أن سمعنا كلمة أو كلمتين من القرآن، فعرفنا أن الذي يغنونه قرآن وحاشى المجيز للقراءة بالألحان من الفقهاء أن يجيز تلك القراءة الشنعاء، ولو سمع عمر بن الخطاب تلك القراءة مرة لعلا دماغ قارئها بالدرة، فقد ثبت بتلك المسائل ما ذهب إليه مالك. (2)
• موقفه من الصوفية:
- لقد أفرد الشيخ رحمه الله كتاب 'كشف القناع عن حكم الوجد والسماع' في الرد على هذه الطائفة فقال في خطبته:
فاعلم وفقنا الله وإياك، إن شياطين الإنس والجان، من الزنادقة والبطالين المجان، لم يزالوا يعادون أهل الأديان على مرّ الحقب، وتوالي الأزمان، من غير فتور ولا توان، يلقون الشبه على العلماء، ويستذلون أغمار الضعفاء، فأما العلماء فلا يزالون كاشفين عن تمويههم، ومظهرين تلبيس تضليلهم، فكلما هبت رياح الباطل أسكنها زعازع الدلائل، كل ذلك وفاء بمضمون {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} (3).
وأما الضعفاء، فقد تم للشياطين والزنادقة عليهم مرامهم، وأصمتهم سهامهم، وجرت عليهم أحكامهم، فهم يسلكون بهم أيه سلكوا، ويهلكونهم
_________
(1) يس الآية (69).
(2) كشف القناع (ص.118 - 120).
(3) الأعراف الآية (181).(7/363)
فيمن أهلكوا، حتى وسموهم وهم لا يشعرون بسمة الرعاع الغثر الذين لا يعقلون، فلما تمت عليهم حيل مكرهم، وحصلوا في قبضتهم، وأسرهم، وضحكوا منهم، وسخروا بهم، حتى انتهى الحال بطائفة من المنتمين إلى الخير، والعبادة، والزهد، والإرادة، إلى أن اعتقدوا أن الرقص بالأكمام، والاهتزاز بالأردان، على صلاصل الطارات، وتقطيع المزامير والشبابات، بأرق الأصوات والتلحينات، من أفضل العبادات، وأجلّ القربات، وزعموا أن ذلك يحصل لهم من المشاهدات السنية، والأذواق الحالية، والمكاشفات الإلهية، ما لا يصفه واصف، ولا يدرك كنهه إلا عارف، فجعلوا ذلك شعارهم، ودثارهم، وقطعوا في ذلك ليلهم ونهارهم، واكتفوا بذلك عن المجاهدات والأوراد، بل قالوا: قد وصلنا إلى المطلوب، وظفرنا بالمراد، وسموا ذلك بالسماع، وأتوا في ذلك بما تنفر عنه العقول، وتمجه الأسماع، وهذه كلها نتائج الجهل الصميم، والفهم السقيم، والطبع غير المستقيم، الجانح عن الخيرات والعبادات، الجانح إلى اللهو والشهوات، مع تزيين الشياطين المطيعة وتسويل النفوس المردية، وحيل الزنادقة المضنية، والعصمة من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. (1)
- وقال في السماع عند الصوفية: فأما الصوفية: فمتقدموهم كانوا يطلقون السماع على فهم يقع لأحدهم بغتة، يكون عنده وجد وغيبة، سواء كان ذلك في نظم أو نثر أو غيرهما، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وأما عند الملقبين اليوم بالصوفية في هذه الديار، فهو عبارة عن مجموع أمور
_________
(1) كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص.40 - 42).(7/364)
جديرة بالإنكار وذلك أنهم يستدعون المعروفين بصنعة الغناء، وإن كانوا مشتهرين بالمفاسد والفحشاء ومعهم آلات اللهو المعروفة عند أهل البطالة والمجون واللغو، كالمزامير، والشبابات، والصلاصل والطارات، حتى إذا غصت المجالس بسكانها وأحضرت الأطعمة والحلاوات بألوانها، فأكلوا ملء بطونهم حتى لا يجدوا مساغاً لنفسهم ولا لمغنيهم، قد شغلهم استلذاذ تلك المآكل والنهم الذي هو أشغل شاغل عن اتقاء الحرام وخبث المواكل، فاندفع المغنون بتلك الأصوات والنغمات، وحركوا على مطابقته تلك المزامير والآلات، فحينئذٍ يذهب الحياء والوقار، ويختلط الشيوخ بالصغار، ويقوم الحاضرون على قدم، ويطربون طرب من شرب بنت الكرم، مع بنات الكرم فمنهم المشير بالأكمام والمتحرك بالأردان، والراقص رقص المجان، ومنهم من يكون له زعيق وزئير، و {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} (1)، لاسيما إن كان هناك شاهد، فكلهم له ساجد، وعليه متواجد ولحظ النفس الشهوانية واجد، ولتقوى الله والحياء منه فاقد، فيا للإسلام لهذا الداء العقام، كيف يرتاب أحد من عقلاء الأنام في أن مجموع هذا السماع حرام، وأن حضوره من الذنوب العظام، وإن هؤلاء على القطع والبت، كما قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (2) لكن من غلبت عليه الأهواء، ركب عميا، وخبط خبط عشواء، ومن منع الأسماع والأبصار،
_________
(1) لقمان الآية (19).
(2) المائدة الآية (42).(7/365)
استوى في حقه الليل والنهار، نسأل الله تعالى الوقاية من الخذلان، وكفاية أحوال المبتدعين المجان.
تنبيه: لا يخفى أن هذا السماع الذي وصفناه بجملته لا يختلف في تحريمه وفحشه، لكنا نشرع -إن شاء الله- في بيان أحكام أفراد مسائله على التفصيل، ونذكرها مسألة مسألة، فنبين منها الصحيح من السقيم، والمعوج من المستقيم، والزلال من الآل، والحرام من الحلال، فإنه قد يخالف حكم الجملة حكم الأفراد، ومن الله المعونة والإمداد، والتوفيق إلى الحق والإرشاد. (1)
- وقال: إن الغناء على الصفة التي ذكرناها، يجر إلى ما يجر إليه الخمر من المفاسد فيكون حراماً كالخمر، وإنما قلنا ذلك، لأنه يذهب الحياء والوقار، ويخل بالعقول والفعال وكل ذلك مشاهد لمن يحضره، وذلك أنك ترى الرجل الكبير القدر العظيم المنصب على سمة العقلاء، ووقار الفضلاء وأبهة أهل الدين، وسيماء المتقين، حتى إذا حضره ولابس أهله، زال حياؤه ووقاره، وبدأ تغيره واصفراره، فيبعث بيديه ويجبذ صاحبه ويجره إليه، ويضرب برجليه، ويهز منكبيه، حتى إذا أخذ السماع منه مأخذه وخالطه وأشربه، قام فرقص رقص المجان، وتعاطى حركات المخانيث والنسوان، وربما يصعق ويصيح ويغط، ولا غطيط الذبيح، ويتغشاه غشاوات حتى يظن أنه قد مات، وقد لا يرجع إلى عقله إلا بعد أوقات، وربما ضيع واجبات، أو فرط في صلوات، حتى إذا أفاق من غشيته، وصحا من سكرته، وعاد إلى حياته وهيئته، وذكر له ما كان منه في تلك الحال خجل من ذلك، ولا خجلة من
_________
(1) كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص.44 - 46).(7/366)
قبيح الفعال، وهذه أفعال الخمر، فيلزم أن يحكم بتحريمه كما يحكم بتحريمها والله أعلم.
فإن أنكر منكر أن يكون الأمر كما ذكرنا فليشاهده حتى يصح له ما وصفناه وكيف ينكر ما يشهد به العيان، ويعرفه من المباشرين له كل إنسان وقد مضى على ذلك في وصاياهم الحكماء ونظمه في شعرهم الشعراء، ولذلك قال يزيد بن الوليد: (يا بني أمية إياكم والغناء فإنه يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل كفعل المسكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا).
وعلى هذا المعنى نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لأنجشة الحادي: «رويدك رفقاً بالقوارير» (1) قال الراوي يعني ضعفة النساء، مع أنه حداء ليس فيه من الطرب ما في الغناء الذي فرضنا الكلام فيه، وقد صرح بعض الشعراء بهذا المعنى فقال وغنى:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح
ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح
فلم ترفيهم إلا نشاوى ... سروراً والسرور هناك صاح
إذا لبى أخو اللذات فيه ... ينادى اللهو حي على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئاً ... أرقناها لألحاظ ملاح (2)
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 252) والبخاري (10/ 725/6210) ومسلم (4/ 1811/2323 (70)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) كشف القناع (ص.93 - 96).(7/367)
- وقال في الوجد والتواجد: التواجد: استدعاء الوجد لضرب من الاختيار، وذلك أنهم إذا اجتمعوا للسماع فمنهم المتكلف حركة ظاهرة مستجلباً بذلك حضور باطنه فيميل يميناً وشمالاً، ويترنح يميناً وشمالاً ويحرك رأسه ومنكبيه، ويضرب صدره، ويصفق بيديه إلى أن يستغرقه -بزعمه- الوجد فيغيب عن الوجد بما يلوح له من المشاهد والشهود، حتى إذا أفاق من غشيته أخذ يخبر بما لاح له في مشاهدته، فمنهم من ينطق بمثل ما منعه الكليم، ومنهم من يصرح بنفس المكالمة والتكليم، ومنهم من يشير إلى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} (1)، ويرمز إلى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} (2)، وربما صرح بعضهم بنفي التعداد وقضى بالاتحاد.
قال الشيخ -رحمه الله-: وهذه أفعال مليمة واجتماعات ذميمة، وأحوال صادة عن اعتقادات سقيمة، فما هي إلا أهواء دحيضة وعقول مريضة، ودعوى عريضة ويدلك على ما ذكرناه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان لم يكونوا على شيء من تلك الأساليب والطرائق، ولا اقتحموا تلك المهامه والمضايق، ولا نطقوا بتلك العبارات، ولا ارتضوا تلك الإشارات، ولا اجتمعوا لذلك، ولا حوموا على شيء مما هنالك، مع أنهم قدوة العارفين، وخيرة الله من العالمين، الفاهمون عن الله، الآخذون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم له لحمل أمانته وبيان شريعته، فلو كان الأمر على
_________
(1) الإسراء الآية (1).
(2) النجم الآية (10).(7/368)
ما اخترعه أصحاب التواجد، لكان أولئك الملأ أول سابق إليه وأول واجد، وتناطقوا بتلك العبارات، وأشاروا بتلك الإشارات، ولفشا ذلك في السابقين المتشرعين، كما فشا في المتأخرين المبتدعين، فلما لم يكن شيء من ذلك، علمنا أنه من المحدثات التي هي بدع وضلالات. (1)
- قال في الفصل الثاني في بيان سماع السلف وأحوالهم عنده: اعلم وقانا الله وإياك بدع المبتدعين، ونزغات الزائغين أن سماع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، إنما كان القرآن، فإياه يتدارسون وفيه يتفاوضون، ومعانيه يتفهمون، يستعذبونه في صلواتهم، ويأنسون به في خلواتهم، ويتمسكون به في محاولاتهم ويلجؤون إليه في جميع حالاتهم، فإذا سمعوه أنصتوا إليه كما أمروا، وإذا قرؤوه تدبروا واعتبروا، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتبسوا أحكامه، يتخلقون بأخلاقه، ويعملون على وفاقه، علماً منهم بأنه طريق النجاة ونيل الدرجات، وتلاوته أفضل العبادات، وأجل القربات، فإنه حبل الله المتين، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم، هكذا قاله من عليه الصلاة والسلام والتسليم (2)، وكان لهم عند سماعه من الأحوال ما قاله ذو الجلال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
_________
(1) كشف القناع (ص.153 - 154).
(2) حديث الحارث الأعور في فضل القرآن، وهو حديث ضعيف. أخرجه: الترمذي ((5/ 185 - 159) 2906) وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال". والدارمي (2/ 435).(7/369)
إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} (1) وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} (2) وقال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3)
وقال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (4)، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} (6)، وقال تعالى حكاية عن الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا
_________
(1) الأنفال الآية (2).
(2) التوبة الآية (124).
(3) الزمر الآية (23) ..
(4) الرعد الآيتان (28و29).
(5) المائدة الآية (83).
(6) الإسراء الآيات (107 - 109).(7/370)
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} (1) الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} (2).
وفي الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى وقرأ سمع له أزيز كأزيز المرجل (3)، وقرأ عليه عبد الله بن مسعود سورة النساء، حتى إذا بلغ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} (4) دمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: حسبك (5)، وفيه عن حذيفة أنه صلى معه ليلة فقرأ فافتتح البقرة، قال حذيفة فقلت: يركع عند المائة، فمضى فقلت عند المائتين فمضى حتى ختمها ثم افتتح بسورة النساء حتى كملها ثم افتتح سورة آل عمران فختمها يقرأ مترسلاً كلما مر بآية فيه تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بآية فيها تعوذ تعوذ. (6)
وفي كتاب أبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة بقوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ
_________
(1) الأحقاف الآية (29).
(2) الأعراف الآية (204).
(3) أخرجه: أحمد (4/ 25،26) وأبو داود (1/ 557/904) والنسائي (3/ 18/1213) وصححه ابن حبان (3/ 30 - 31/ 753) والحاكم (1/ 264) ووافقه الذهبي من حديث عبد الله بن الشخير.
(4) النساء الآية (41).
(5) تقدم تخريجه في مواقف ابن مسعود رضي الله عنه سنة (32هـ) (في ترجمته).
(6) أخرجه من حديث حذيفة: أحمد (5/ 384) ومسلم (1/ 536/772) والنسائي (3/ 250/1663).
وأخرجه مختصراً: أبو داود ((1/ 543) 871) والترمذي (2/ 48 - 49/ 262 - 263) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 429/1351).(7/371)
عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} (1) فما زال يكررها حتى أصبح (2)، ثم قرأها في صلاة الصبح ...
وقد ثبت أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سرية فبات ربيئة لأصحابه فقام يصلي فجاءه العدو فرماه بسهم فأصابه فلم يتحرك من موضعه ولم يقطع صلاته، ثم رماه بسهم آخر فلم يقطع صلاته، ثم رماه فلم يقطع حتى أكمل السورة وسلم وأعلم أصحابه فعدلوه على ذلك فقال ما معناه: والله لو أتى على نفسي ما قطعت تلك السورة لأني وجدت حلاوتها. (3)
وقد تقدم من حديث العرباض بن سارية أنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. (4)
وفي حديث حنظلة الأسيدي أنه لقيه أبو بكر وهو يقول: نافق حنظلة، فقال: مالك؟ فقال: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) المائدة الآية (118).
(2) أخرجه: أحمد (5/ 170و177) والنسائي (2/ 519/1009) وابن ماجه (1/ 429/1350) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات". وصححه الحاكم (1/ 241). ووافقه الذهبي من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3) علقه البخاري (1/ 371 (الفتح)) ووصله أحمد (3/ 343 - 344،359) وأبو داود (1/ 136 - 137/ 198) وصححه ابن حبان (3/ 375 - 376/ 1096) وابن خزيمة (1/ 24 - 25/ 36) والحاكم (1/ 156 - 157) ووافقه الذهبي من حديث جابر رضي الله عنه. وانظر صحيح أبي داود (1/ 357).
(4) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (23هـ).(7/372)
فأخبراه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على طرقكم وفي فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة». (1)
فهذا سمعهم وسماعهم، وشرعهم وشراعهم، ليس فيه شيء من اللهو واللعب، ولا بين أحوالهم وأحوال المجان والمخانيث تشابه ولا سبب. (2)
موقفه من الجهمية:
قال القرطبي في المفهم في شرح حديث «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (3): وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وسلف أمته إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان،
_________
(1) تقدم في مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة (13هـ).
(2) كشف القناع (ص.179 - 184).
(3) أحمد (6/ 55) والبخاري (5/ 134/2457) ومسلم (4/ 2054/2668) والترمذي (5/ 198/2976) والنسائي (8/ 639/5438) عن عائشة رضي الله عنها.(7/373)
والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع، أو بالأوصاف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؟ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته، فإن العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه، ولا فرق بين البحث في كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير: {لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1) ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنك قد حجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفية إدراكاتك، مع أنك تدرك بها. وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك، فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز.
وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات منزه عن صفاتها، مقدس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به.
ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه، وأسمائه قبلناه،
_________
(1) الشورى الآية (11).(7/374)
واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة السلف، وما سواها مهاو وتلف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشغل، والدين قد فرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه. وقال مالك: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال: كان يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنك، فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك. وقال الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في علم الكلام. وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمى، أو غير المسمى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، علماء الكلام زنادقة. وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيته. قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وأصل ذلك: أنهم ما قنعوا بما بعثت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكم التي انفرد بها، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خرجه(7/375)
الترمذي: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (1).
اهـ (2)
موقفه من الخوارج:
قال: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «سبق الفرث والدم». وبظاهر هذا التشبيه تمسك من حكم بتكفيرهم من أئمتنا. وقد توقف في تكفيرهم كثير من العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيتمارى في الفوق» وهذا يقضي بأنه يشك في أمرهم فيتوقف فيهم، وكأن القول الأول أظهر من الحديث. فعلى القول بتكفيرهم: يقاتلون، ويقتلون، وتسبى أموالهم. وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج. وعلى قول من لا يكفرهم: لا يجهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم. ولا تقتل أسراهم ولا تستباح أموالهم. وكل هذا إذا خالفوا المسلمين، وشقوا عصاهم، ونصبوا راية الحرب. فأما من استتر ببدعته منهم، ولم ينصب راية الحرب؛ ولم يخرج عن الجماعة: فهل يقتل بعد الاستتابة، أو لا يقتل؟ وإنما يجتهد في رد بدعته، ورده عنها. اختلف في ذلك. وسبب الخلاف في تكفير من هذه حاله: أن باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئا. (3)
وقال: وقوله: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان» هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إخبار عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر عنه، فكان دليلا من أدلة نبوته
_________
(1) أحمد (5/ 252؛256) والترمذي (5/ 353/3253) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 19/48) والحاكم (2/ 447 - 448) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ..
(2) المفهم (6/ 690 - 692).
(3) المفهم (3/ 110 - 111).(7/376)
- صلى الله عليه وسلم -، وذلك: أنهم لما حكموا بكفر من خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة، وقالوا: نفي لهم بذمتهم. وعدلوا عن قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين. وهذا كله من آثار عبادات الجهال الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق، ولا صحبهم في حالهم ذلك توفيق. وكفى بذلك: أن مقدمهم رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، ونسبه إلى الجور، ولو تبصر لأبصر عن قرب أنه لا يتصور الظلم والجور في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما لا يتصور في حق الله تعالى؛ إذ الموجودات كلها ملك لله تعالى، ولا يستحق أحد عليه حقا، فلا يتصور في حقه شيء من ذلك. والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ حكم الله تعالى، فلا يتصور في حقه من ذلك ما لا يتصور في حق مرسله. ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصحة إيمانه، وبأنه من أهل الجنة، كعلي وغيره من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ مع ما وقع في الشريعة، وعلم على القطع والثبات من شهادات الله ورسوله لهم، وثنائه على علي والصحابة عموما وخصوصا. (1)
وقال: وقوله: «محلقة رؤوسهم» وفي حديث آخر: «سيماهم التحليق» أي: جعلوا ذلك علامة لهم على رفضهم زينة الدنيا. وشعارا ليعرفوا به، كما يفعل البعض من رهبان النصارى يفحصون عن أوساط رؤوسهم. وقد جاء في وصفهم مرفوعا: «سيماهم التسبيد» أي: الحلق يقال: سبد رأسه؛ إذا حلقه. وهذا كله منهم جهل بما يزهد فيه، وما لا يزهد فيه، وابتداع منهم في
_________
(1) المفهم (3/ 114 - 115).(7/377)
دين الله تعالى شيئا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون وأتباعهم على خلافه. فلم يرو عن واحد منهم: أنهم اتسموا بذلك، ولا حلقوا رؤوسهم، في غير إحلال، ولا حاجة. (1)
موقفه من المرجئة:
قال رحمه الله: ولأهل العلم فيه تأويلان:
أحدهما: أن هذا العموم يراد به الخصوص ممن يعفو الله تعالى عنه من أهل الكبائر، ممن يشاء الله تعالى أن يغفر له ابتداء؛ من غير توبة كانت منهم ولا سبب يقتضي ذلك، غير محض كرم الله تعالى وفضله، كما دل عليه قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2). وهذا على مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للمبتدعة المانعين تَفَضُّلَ الله تعالى بذلك، وهو مذهب مردود بالأدلة القطعية العقلية والنقلية، وبَسْط ذلك في علم الكلام.
وثانيهما: أنهم لا يُحجبون عن الجنة بعد الخروج من النار. وتكون فائدته الإخبار بخلود كل من دخل الجنة فيها، وأنه لا يُحجب عنها، ولا عن شيء من نعيمها، والله تعالى أعلم. (3)
وقال: ومن باب: لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب
هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين: إن التلفظ
_________
(1) المفهم (3/ 122).
(2) النساء الآية (48).
(3) المفهم (1/ 199 - 200).(7/378)
بالشهادتين كاف في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعاً. (1)
وقال أيضا: وقوله في حديث معاذ: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرّمه الله على النار» (2) هكذا وقع هذا الحديث في كتاب مسلم عن جميع رواته فيما علمته، وقد زاد البخاري فيه: «صدقاً من قلبه» وهي زيادة حسنة تنص على صحة ما تضمّنته الترجمة المتقدمة، وعلى فساد مذهب المرجئة كما قد قدّمناه. (3)
وقال: قوله عليه الصلاة والسلام وقد سُئل عن أفضل الأعمال: «الإيمان بالله» يدل على أن الإيمان من جملة الأعمال وهو داخل فيها، وهو إطلاق صحيح لغة وشرعا، فإنه عمل القلب وكسبه، وقد بينا أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه منقسم إلى ما يكون عن برهان وعن غير برهان، ولا يُلتفت لخلاف مَن قال: إن الإيمان لا يُسمى عملاً؛ لجهله بما ذكرناه، ولا يخفى أن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال كلها؛ لأنه متقدم عليها، وشرط في صحتها، ولأنه من الصفات المتعلقة، وشرفها بحسب متعلقاتها، ومتعلق الإيمان هو الله تعالى وكتبه ورسله. ولا أشرف من ذلك، فلا أشرف في الأعمال من الإيمان ولا أفضل منه. (4)
_________
(1) المفهم (1/ 204).
(2) أخرجه البخاري (1/ 300 - 301/ 128) ومسلم (1/ 61/32).
(3) المفهم (1/ 208).
(4) المفهم (1/ 275).(7/379)
وقال: قوله: «اعط فلاناً فإنه مؤمن فقال: "أو مسلم"» دليل على صحة ما قدمناه من الفرق بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وأن الإيمان من أعمال الباطن، وأن الإسلام من أعمال الجوارح الظاهرة، وفيه رد على غلاة المرجئة والكرامية؛ حيث حكموا بصحة الإيمان لمن نطق بالشهادتين وإن لم يعتقد بقلبه، وهو قول باطل قطعا؛ لأنه تسويغ للنفاق، وفيه حجة لمن يقول: "أنا مؤمن" بغير استثناء، وهي مسألة اختلف فيها السلف، فمنهم المجيز والمانع، وسبب الخلاف النظر إلى الحال أو إلى المآل، فمن مَنَعَ خاف من حصول شك في الحال أو تزكية، ومن أجاز صرف الاستثناء إلى الاستقبال، وهو غيب في الحال، إذ لا يدري بما يختم له، والصواب: الجواز إذا أمن الشك والتزكية، فإنه تفويض إلى الله تعالى. (1)
موقف السلف من الوزير ابن العلقمي الرافضي (656 هـ)
جاء في البداية والنهاية: ... وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة، نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير. فاشتد حنقه على ذلك فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع، الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد،
_________
(1) المفهم (1/ 366).(7/380)
وإلى هذه الأوقات. ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بالسلطان هولاكو خان -لعنه الله- ثم أعاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة. فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية، ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هلاكوخان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغي والجواهر والأشياء النفيسة. وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة. وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك. وحسنوا له قتل الخليفة. فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله. ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي.
وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزع من أيدي الاسماعيلية، وكان النصير وزير لشمس الشموس ... ثم ذكر الشيخ المصيبة(7/381)
مفصلة والله المستعان. (1)
وجاء في السير: وعمل ابن العلقمي على ترك الجمعات، وأن يبني مدرسة على مذهب الرافضة، فما بلغ أمله، وأقيمت الجمعات. (2)
التعليق:
هل هناك درس أكبر من هذا الذي لقنه "فضيلة الإمام" ابن العلقمي مع فضيلة نصير الطوسي للمسلمين؟ هل يجوز للمسلمين أن يغفلوا هذه الحقائق التاريخية ويتجاهلونها ويأتي مثقفوهم ويقولون: الشيعة إخواننا والفرق بيننا وبينهم يسير كالفرق بين الشافعي والمالكي؟! وهذا أيضا فيه عقوبة للخليفة كيف يثق بهؤلاء ويقربهم إليه ويعتمدهم ويجعلهم في مرتبة الوزارة ولم يلتفت إلى خبث هذا المجرم وما يفعله بعسكر الخليفة؟
وقد عبر الحافظ ابن كثير عن ذلك فقال: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين والله غالب على أمره، وقد رد كيده
_________
(1) البداية والنهاية (13/ 214 - 215).
(2) السير (23/ 183).(7/382)
في نحره وأذله بعد العزة القعساء وجعله "حوشكاشا" للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء. (1)
التعليق:
سبحان الله! التاريخ تتكرر حوادثه وتتشابه أفعاله وأقواله، ويصرفها الله كيف يشاء، الآن الروافض يخدعون عامة المسلمين في كل البلاد: تعالوا نتعاون على إزالة إسرائيل من القدس. ولغفلة الناس يحسبونهم صادقين، والحقيقة: تعالوا معنا حتى نمحي السنة من وجه الأرض، ونقيم المجوسية متعاونة مع اليهودية والنصرانية والله المستعان.
موقف السلف من يوسف القميني (657 هـ)
جاء في السير: الشيخ يوسف القميني الموله بدمشق، كان للناس في هذا اعتقاد زائد لما يسمعون من مكاشفته التي تجري على لسانه كما يتم للكاهن سواء في نطقه بالمغيبات. كان يأوي إلى القمامين والمزابل التي هي مأوى الشياطين، ويمشي حافيا، ويكنس الزبل بثيابه النجسة ببوله، ويترنح في مشيه، وله أكمام طوال، ورأسه مكشوف، والصبيان يعبثون به، وكان طويل السكوت، قليل التبسم، يأوي إلى قمين حمام نور الدين، وقد صار باطنه
_________
(1) البداية والنهاية (13/ 215).(7/383)
مأوى لقرينه، ويجري فيه مجرى الدم، ويتكلم فيخضع له كل تالف ويعتقد أنه ولي لله، فلا قوة إلا بالله. وقد رأيت غير واحد من هذا النمط الذين زال عقلهم أو نقص يتقلبون في النجاسات، ولا يصلون، ولا يصومون، وبالفحش ينطقون، ولهم كشف كما والله للرهبان كشف وكما للساحر كشف وكما لمن يصرع كشف، وكمالمن يأكل الحية ويدخل النار حال مع ارتكابه للفواحش، فوالله ما ارتبطوا على مسيلمة والأسود إلا لإتيانهم بالمغيبات. (1)
الملك المظفر قُطُز (2) (658 هـ)
السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي التركي. كان أكبر مماليك المعز أيبك التركماني ثم صار نائب السلطنة لولده المنصور، وكان بطلا شجاعا، مقداما حازما حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، قال الذهبي: وله اليد البيضاء في جهاد التتار. وكان محببا إلى الرعية، حسن السيرة، ناصحا للإسلام وأهله، بويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة. بعدما دهم التتار الشام، فعزل الصبي من الملك (المنصور). وثب عليه بعض الأمراء وهو راجع إلى مصر فقتل في سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة. ولم يكمل سنة في السلطنة رحمه الله.
_________
(1) السير (23/ 302 - 303).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.352 - 355) والسير (23/ 200 - 201) والبداية والنهاية (13/ 238 - 239) وشذرات الذهب (5/ 293) والنجوم الزاهرة (7/ 72 وما بعدها).(7/384)
موقفه من المشركين:
قال ابن كثير: والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة، وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام، بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير ابن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو، فأبى إلا أن يناجزه سريعا، فساروا إليه وسار المظفر إليهم، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فاقتتلوا قتالا عظيما، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، وقد قيل إن الذي قتل كتبغانوين الأمير جمال الدين آقوش الشمسي، واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع، وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالا شديدا، وكذلك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين الملك السعيد بن العزيز بن العادل، فأمر المظفر بضرب عنقه، واستأمن الأشرف صاحب حمص، وكان مع التتار، وقد جعله هولاكو خان نائبا على الشام كله، فأمنه الملك المظفر ورد إليه حمص، وكذلك رد حماه إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها، وأطلق سلمية للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من(7/385)
الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان.
فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدا، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب، فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها، فاحترق دور كثيرة إلى النصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخا رافضيا كان مصانعا للتتار على أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. (1)
الكامل ناصر الدين محمد بن شهاب الدين (2) (658 هـ)
الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك، المظفر شهاب الدين، غازي
_________
(1) البداية (13/ 234).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.366 - 368) والسير (23/ 201 - 202) والوافي بالوفيات (4/ 306 - 307) وشذرات الذهب (5/ 295) والنجوم الزاهرة (7/ 91).(7/386)
ابن السلطان، الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب. تملك ميافارقين وغيرها بعد أبيه سنة خمس وأربعين وستمائة. وكان شابا عاقلا شجاعا مهيبا محسنا إلى رعيته، مجاهدا غازيا، دينا تقيا، حميد الطريقة. حاصره عسكر هولاكو نحوا من عشرين شهرا. وقتل رحمه الله تعالى على يد اللعين هولاكو -بعد ما سب هولاكو وبصق في وجهه- سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان شديد البأس قوي النفس.
موقفه من المشركين:
جاء في السير عن الشيخ محمود بن عبد الكريم الفارقي قال: سار الكامل إلى قلاع بنواحي آمد فأخذها، ثم نقل إليها أهله، وكان أبي في خدمته، فرحل بنا إلى قلعة منها، فعبرت التتار علينا، فاستنزلوا أهل الملك الكامل بالأمان من قلعة أخرى، وردوا بهم علينا، وأنا صبي مميز، وحاصروا ميافارقين أشهرا، فنزل عليهم الثلج، وهلك بعضهم، وكان الكامل يبرز إليهم ويقاتلهم، وينكي فيهم فهابوه، ثم بنوا عليهم سورا بإزاء البلد بأبرجة، ونفدت الأقوات، حتى كان الرجل يموت فيؤكل، ووقع فيهم الموت، وفتر عنهم التتار وصابروهم، فخرج إليهم غلام أو أكثر، وجلوا للتتار أمر البلد، فما صدقوا، ثم قربوا من السور وبقوا أياما لا يجسرون على الهجوم، فدلى إليهم مملوك للكامل حبالا فطلعوا إلى السور فبقوا أسبوعا لا يجسرون، وبقي بالبلد نحو التسعين بعد ألوف من الناس، فدخلت التتار دار الكامل وأمنوه، وأتوا به هولاكو بالرها، فإذا هو يشرب الخمر، فناول الكامل كأسا فأبى، وقال: هذا حرام، فقال لامرأته: ناوليه أنت، فناولته فأبى، وشتم وبصق -فيما(7/387)
قيل- في وجه هولاكو. وكان الكامل ممن سار قبل ذلك، ورأى القان الكبير، وفي اصطلاحهم من رأى وجه القان لا يقتل، فلما واجه هولاكو بهذا استشاط غضبا وقتله. ثم قال: وكان الكامل شديد البأس، قوي النفس، لم ينقهر للتتار بحيث إنهم أخذوا أولاده من حصنهم، وأتوه بهم إلى تحت سور ميافارقين، وكلموه أن يسلم البلد بالأمان فقال: ما لكم عندي إلا السيف. (1)
العز بن عبد السلام (2) (660 هـ)
الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبو محمدالسلمي الدمشقي الشافعي، شيخ المذهب، ومفيد أهله، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة. سمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طبرزد، وحنبل بن عبد الله الرصافي وغيرهم. وسمع منه تلامذته شيخ الإسلام ابن دقيق العيد وهو الذي لقب الشيخ عز الدين سلطان العلماء، والإمام علاء الدين أبو الحين الباجي والشيخ تاج الدين ابن الفركاح والحافظ أبو محمد الدمياطي وغيرهم.
قرأ الأصول على الآمدي وبرع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف أقوال الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد. ورحل إليه الطلبة من
_________
(1) السير (23/ 201 - 202).
(2) البداية (13/ 235 - 236) وشذرات الذهب (5/ 301 - 302) وطبقات الشافعية (5/ 80).(7/388)
سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة. وكان لطيفا ظريفا يستشهد بالأشعار مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، وعزل نفسه من القضاء في آخر حياته، وعزله السلطان من الخطابة، فلزم بيته. وبالجملة فشهرته تغني عن الإطناب في وصفه. له مؤلفات عديدة، تظهر عليها آثار الأشعرية والتصوف، منها كتابه قواعد الأحكام وكتاب ملحة الاعتقاد. وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليه ذلك، رحم الله الجميع.
توفي رحمه الله بمصر في جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وحضر جنازته الخاص والعام، ولما بلغ السلطان خبر موته قال: لم يستقر ملكي إلا الساعة لأنه لو أمر الناس فيَّ بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الاعتصام: ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة. (1)
- وجاء في الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة الدمشقي: واتفق أن ولي الخطابة والإمامة بجامع دمشق حرسها الله تعالى في سنة سبع وثلاثين وستمائة، أحق الناس بها يومئذ الفقيه المفتي، ناصر السنة، مظهر الحق؛ أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام أيده الله بحراسة، وقواه على طاعته، فجرى في إحياء السنن وإماتة البدع على عادته، فلما قرب دخول شهر رجب، أظهر للناس أمر صلاة الرغائب، وأنها بدعة منكرة، وأن حديثها كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخطب بذلك على المنبر يوم جمعة، وأعلم الناس أنه لا يصليها،
_________
(1) الاعتصام (1/ 36).(7/389)
ونهاهم عن صلاتها، ووضع في ذلك جزءا لطيفا سماه 'الترغيب عن صلاة الرغائب'. حذر الناس فيه من ركوب البدع، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرع، وأراد فطام الناس عنها قولا وفعلا، فشق ذلك على العوام، وكثير من المتميزين الطغام، اغترارا منهم بمجرد كونها صلاة -فهي طاعة وقربة، فلماذا ينهى عنها- وركونا إلى ذلك الحديث الباطل، وشق على سلطان البلد وأتباعه إبطالها، فصنف لهم بعض مفتي البلد جزءا في تقريرها، وتحسين حالها، وإلحاقها بالبدع الحسنة من جهة كونها صلاة، ورام نقض رد الجزء في تصنيفه هذا، فرد عليه الفقيه أبو محمد أحسن رد، وبين أنه هو الذي أفتى فيما تقدم بالفتيتين المقدم ذكرهما، فخالف ما كان أفتى به أولا، وجاء بما وافق هوى السلطان، وعوام الزمان، وهو من العلماء الصالحين، والأئمة المفتين ولكن الله تعالى قال: وهو أصدق القائلين: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} (1) {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (2) {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} (3).اهـ (4)
موقفه من الصوفية:
جاء في نقض المنطق عنه قال: ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان، ويعزر فاعله تعزيرا بليغا رادعا. وأما لبس الحلق والدمالج
_________
(1) الكهف الآية (7).
(2) محمد الآية (4).
(3) الفرقان الآية (20).
(4) الباعث (149).(7/390)
والسلاسل والأغلال، والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة. وشر الأمور محدثاتها، وهي لهم في الدنيا، وهي لباس أهل النار، وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك، ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات، ولا تقبيل القبور، ويعزر فاعله. ومن لعن أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا. والمؤمن لا يكون لعَّانا، وما أقربه من عود اللعنة عليه. قال: ولا تحل الصلاة عند القبور، ولا المشي عليها من الرجال والنساء، ولا تعمل مساجد للصلاة فإنه اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1).اهـ (2)
تنبيه: هذا الرجل اشتهر بالعلم، وسماه من كتب في ترجمته: سلطان العلماء. وقد أطال ابن السبكي في ترجمته في طبقات الشافعية. غير أنه لم يكن سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات. وله أفعال مع الصوفية تدل على اقتناعه بهم. وكان معروفا بعداوته للحنابلة. وكثير ممن ألف في البدع وتأييدها يعتمد عليه في تقسيم البدع إلى الأحكام الخمسة المعروفة، وهو تقسيم باطل لا معنى له، مصادم لعموم النصوص. وقد رده الشاطبي في الاعتصام وغيره من أهل العلم.
_________
(1) سيأتي تخريجه قريبا.
(2) نقض المنطق (14 - 15).(7/391)
عبد الرزاق أبو محمد الجزري (1) (661 هـ)
عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الجزري أبو محمد، الإمام الحافظ، مولده برأس عين الخابور سنة تسع وثمانين وخمسمائة. سمع من عبد العزيز ابن منينا وطبقته، وأبي اليمن الكندي وطبقته، وأبي المجد القزويني وغيرهم، وسمع منه: ولده العدل شمس الدين محمد والدمياطي في معجمه وغير واحد. صنف تفسيرا حسنا روى فيه بأسانيده، وكان إماما محدثا فقيها أديبا شاعرا دينا صالحا وافر الحرمة. ولي مشيخة دار الحديث بالموصل توفي في سنة إحدى وستين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
قال ابن رجب: وكان متمسكا بالسنة والآثار، ويصدع بالسنة عند المخالفين من الرافضة وغيرهم. (2)
أبو البقاء النَّابُلْسِي (3) (663 هـ)
خالد بن يوسف بن سعد بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو البقاء النابلسي ثم الدمشقي. ولد بنابلس سنة خمس وثمانين وخمسمائة. سمع من بهاء الدين القاسم بن عساكر ومحمد بن الخصيب وحنبل وطائفة. روى عنه
_________
(1) تذكرة الحفاظ (4/ 1452 - 1455) وتاريخ الإسلام (حوادث 661 - 670/ص.72 - 74) والبداية والنهاية (13/ 254) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 274 - 276).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 275).
(3) تذكرة الحفاظ (4/ 1447 - 1448) وتاريخ الإسلام (حوادث 661 - 670/ص.145 - 147) وفوات الوفيات (1/ 403 - 404) والبداية والنهاية (13/ 259 - 260).(7/392)
الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري، وأخوه الخطيب شرف الدين، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد. كتب وحصل الأصول النفيسة، ونظر في اللغة والعربية، كان إماما متقنا ذكيا فطنا ظريفا، عالما بصناعة الحديث، حافظا لأسماء الرجال، وكان حسن الأخلاق، حلو النادرة صاحب مزاح ونوادر. قال ابن جماعة: أحد المحدثين المشهورين والحفاظ المعروفين، كان خيرا صالحا، حسن الأخلاق، ملازما لقراءة الحديث والنظر في الأسانيد. توفي رحمه الله في سلخ جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في المنهاج: وكان من أهل العلم أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسى رحمه الله، سأله بعض الشيعة عن قتال علي الجن، فقال: أنتم معشر الشيعة ليس لكم عقل، أيما أفضل عندكم: عمر أو علي؟ فقالوا: بل علي. فقال: إذا كان الجمهور يروون عن النبي صلى عليه وسلم أنه قال لعمر: ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك (1) فإذا كان الشيطان يهرب من عمر، فكيف يقاتل عليا؟ (2)
_________
(1) أحمد (1/ 171،182،187) والبخاري (6/ 417/3294) ومسلم (4/ 1863 - 1864/ 2396) والنسائي في عمل اليوم والليلة (231 - 232/ح207).
(2) منهاج السنة (8/ 162).(7/393)
أبو شَامَة الدِّمَشْقِي (1) (665 هـ)
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان، أبو شامة المقدسي الأصل، الدمشقي الشافعي الفقيه المقرئ النحوي المؤرخ، صاحب التصانيف، ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة بدمشق، وسمي بأبي شامة لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر. سمع من موفق الدين المقدسي، وداود بن ملاعب، وأحمد بن عبد الله السلمي، وكريمة عز الدين بن عبد السلام، وطائفة. وسمع منه الشيخ أحمد اللبان، وبرهان الدين الإسكندراني، وشرف الدين الفراوي الخطيب، وجماعة. ختم القرآن وله دون عشر سنين، وأتقن فن القراءة على السخاوي، وله ست عشرة سنة، وسمع الكثير حتى عد في الحفاظ، وكان مع براعته في العلوم متواضعا، تاركا للتكلف، ثقة في النقل؛ وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، ولي مشيخة الإقراء بالتربة الأشرفية، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، ووقف كتبه بخزانة العادلية، وشرط أن لا تخرج، فاحترقت جملة وجرت له محنة في سابع جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة، توفي من جرائها في تاسع عشر رمضان رحمه الله رحمة واسعة.
موقفه من المبتدعة:
له كتاب 'الباعث على إنكار البدع والحوادث'، وهو وإن كان فيه بعض ما يخالف عقيدة السلف كقوله بالمولد. فهو كتاب يمكن أن يستفيد
_________
(1) البداية والنهاية (13/ 264 - 265) وتذكرة الحفاظ (4/ 1460) وفوات الوفيات (2/ 269) وشذرات الذهب (5/ 318 - 319) وتاريخ الإسلام (حوادث 661 - 670/ص.194 - 197).(7/394)
منه السلفي في ذم البدع.
وقد طبع الكتاب مرارا.
- قال فيه: وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فمن بعدهم أهل زمانهم البدع ومحدثات الأمور، وأمروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور، وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع ما يرتفع معه النزاع. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1).
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (2). وهذا نص فيما نحن فيه. (3)
- وقال: ومن اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم أجمعين- إنكار المنكر، وإحياء السنن، وإماتة البدع، ففي ذلك أفضل أجر، وأجمل ذكر. (4)
- وقال: فقد بان ووضح -بتوفيق الله تعالى- صحة إنكار من أنكر شيئا من هذه البدع، وإن كان صلاة ومسجدا، ولا مبالاة بشناعة جاهل
_________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) الباعث (53).
(4) الباعث (76).(7/395)
يقول: كيف يؤمر بتبطيل صلاة وتخريب مسجد، فما وازنه إلا وزان من يقول: كيف يؤمر بتخريب مسجد، إذا سمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرب مسجد الضرار (1)، ومن يقول كيف ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإذا سمع حديث علي رضي الله عنه المخرج في الصحيح: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ القرآن في الركوع والسجود (2).
فاتباع السنة أولى من اقتحام البدعة، وإن كانت صلاة في الصورة، فبركة اتباع السنة أكثر فائدة، وأعظم أجرا. (3)
- وقال: ومما ابتدع وروي به، واستميلت قلوب الجهال والعوام بسببه: التماوت في المشي والكلام، حتى صار ذلك شعارا لمن يريد أن يظن فيه التنسك والتورع، فليعلم أن الدين خلاف ذلك، وهو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم السلف الصالح. (4)
محمد بن أحمد القرطبي (5) (671 هـ)
محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي المالكي أبو
_________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور لابن اسحاق وابن مردويه من حديث أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وابن عباس.
(2) مسلم (1/ 348/480) وأبو داود (4/ 322 - 323/ 4044و4045) والترمذي (2/ 49 - 50/ 264) والنسائي (2/ 531 - 532/ 1039 - 1043).
(3) الباعث (214 - 215).
(4) الباعث (245).
(5) الديباج المذهب (2/ 308 - 309) ونفح الطيب (2/ 210 - 212) وشذرات الذهب (5/ 335) والوافي بالوفيات (2/ 122 - 123) وطبقات المفسرين للداودي (2/ 65 - 66).(7/396)
عبد الله القرطبي -صاحب التفسير- كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعينهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف. سمع من ابن رواج، ومن ابن الجميزي، والشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي شارح مسلم ولم يتمه. وروى عنه ولده شهاب الدين أحمد.
قال الذهبي: إمام متقن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته، وكثرة اطلاعه ووفور فضله. وكان القرطبي رحمه الله أشعري العقيدة في باب الأسماء والصفات، وعمدته في ذلك كبار الأشاعرة كالجويني وابن الباقلاني والرازي وغيرهم.
من مؤلفاته: الجامع لأحكام القرآن، الكتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى، التذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأمور الآخرة وغيرها. توفي في شوال من سنة إحدى وسبعين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في الجامع لأحكام القرآن: الثامنة: اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع كما قاله مَن بَعُد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة: الرافضة وبعض أهل الظاهر، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع.
وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين(7/397)
ثمان عشرة، تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار، والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وأخرج مالك في موطئه، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان بن سلمة (1) الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن» (2). في كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اختر منهن أربعا» (3). (4)
وقال في شرح قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} الآية (5) من سورة الفتح: الخامسة: روى أبو عروة الزبيريّ من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (6). فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على
_________
(1) في الاصل: بن أمية والصواب ما أثبتناه.
(2) مالك (2/ 586/76) عن ابن شهاب مرسلا. ووصله أحمد (2/ 13،14) والترمذي (3/ 435/1128) وابن ماجه (1/ 628/1953)، وعزاه الحافظ في التلخيص للنسائي (3/ 169)، وصححه ابن حبان (9/ 465 - 466/ 4157).
(3) أبو داود (2/ 677/2241) وابن ماجه (1/ 628/1952) وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله بمجموع طرقه. انظر الإرواء (6/ 295 - 296).
(4) الجامع لأحكام القرآن (5/ 13).
(5) رقم (29).
(6) الفتح الآية (29).(7/398)
أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية؛ ذكره الخطيب أبو بكر.
قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردّ على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين؛ قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (1) الآية. وقال: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (2) إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح؛ قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (3). وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} (4)، ثم قال عزّ من قائل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (5). وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) الفتح الآية (29).
(2) الفتح الآية (18).
(3) الأحزاب الآية (23).
(4) الحشر الآية (8).
(5) الحشر الآية (9).(7/399)
«خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» وقال: «لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه». قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مدّ أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد؛ فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعُشْرِ عَشِير، وللخُمس خَميس، وللتسع تَسيع، وللثّمن ثَمين، وللسّبع سَبيع، وللسّدس سَدِيس، وللرّبع رَبيع، ولم تقل العرب للثّلث ثليث ...
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة؛ فحذارِ من الوقوع في أحد منهم، كما فعل مَن طعن في الدين فقال: إن المُعوِّذتين ليستا من القرآن، وما صحّ حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطّرحة. وهذا ردّ لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطالٌ لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجُهَني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجراً عظيماً. فمن نسبه أو واحداً من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومتى ألحِق واحد منهم تكذيباً فقد سُبّ؛ لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظمُ من الكذب، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سبّ أصحابه؛ فالمكذّب لأصغرهم -ولا صغير فيهم- داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وألزمها كلَّ مَن سبّ واحداً من أصحابه أو طعن عليه.
وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعَلَت أصواتهم، فاحتج(7/400)
بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يُقبل هذا الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أبا هريرة مُتَّهم فيما يرويه، وصرّحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره؛ فنظر إليّ الرشيد نظر مُغْضِب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب؛ فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنّط وتكفّن فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيّك، وأجللت نبيّك أن يطعن على أصحابه، فسَلِّمْني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسيّ من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النِّطْع؛ فلما بَصُرَ بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقّاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به؛ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به؛ إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كلّه مردود غير مقبول؛ فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله! وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم؛ فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في(7/401)
بُداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك؛ ثم تغيّرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء؛ فلا بدّ من البحث. وهذا مردود؛ فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعليّ وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكّاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: {مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (1). وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القُدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيّهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم؛ إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة الحجرات مبيّنة إن شاء الله تعالى.
علي بن وضاح الشهراياني (2) (672 هـ)
كمال الدين أبو الحسن بن أبي بكر علي بن محمد بن محمد بن أبي سعيد بن وضاح الشهراياني، نزيل بغداد، الفقيه الحنبلي. ولد في رجب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة بشهرايان. سمع الصحيحين وغيرهما من عدة شيوخ، وسمع منه ابن حصين الفخري، والحافظ الدمياطي، وأبو الحسن البندنيجي، وإبراهيم الجعبري المقرئ، وخلق كثير.
قال ابن رجب: عني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الحسن، وسمع الكتب الكبار، واشتغل بالعلم ببغداد، وتفقه وبرع في العربية، وشارك
_________
(1) الفتح الآية (29).
(2) شذرات الذهب (5/ 336) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 282).(7/402)
في فنون من العلم. وقال الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق: كان شيخا صالحا، منور الوجه، كيسا، طيب الأخلاق، سمح النفس، صحب المشايخ والصالحين، وكان عالما بالفقه والفرائض والأحاديث. وله إجازات من جماعة كثيرين، منهم الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وأبو محمد بن عمرو بن الصلاح وغيرهما.
توفي رحمه الله، ليلة الجمعة ثالث صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
'الدليل الواضح في اقتفاء نهج السلف الصالح'.
ذكره في ذيل الطبقات (1).
موقفه من المشركين:
من آثاره: 'الرد على أهل الإلحاد'. (2)
الإمام النووي (3) (676 هـ)
الإمام الحافظ محيي الدين يحيى بن شرف بن مرا بن حسن، أبو زكريا الحزامي النووي، ذو التصانيف النافعة. ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة بقرية نوى من أعمال دمشق بالشام. قال الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي: رأيت
_________
(1) (4/ 283).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 283).
(3) السير (17/ 321 - 324) [دار الفكر]، تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين لابن العطار، المنهل العذب الروي في ترجمة الإمام النووي للسخاوي، المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي للسيوطي، البداية والنهاية (13/ 294) وشذرات الذهب (5/ 354 - 355). وانظر الردود والتعقبات للشيخ مشهور سلمان.(7/403)
الشيخ محيي الدين -وهو ابن عشر سنين- بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن.
حفظ القرآن وقد ناهز الاحتلام، وحفظ كتاب التنبيه وشيئا من المهذب، وكلاهما للشيرازي. أخذ عن الشيخ إسحاق بن أحمد المغربي، وعبد الرحمن بن نوح المقدسي، وأبي حفص عمر بن أسعد الرَّبعَي، والشيخ أبي البقاء النابلسي وغيرهم. قال عنه الذهبي: أكب على طلب العلم ليلا ونهارا اشتغالا، فضرب به المثل، وهجر النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته إلا بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة، أو التردد إلى الشيوخ، وترك كل رفاهية وتنعم، مع تقوى وقناعة وورع وحسن مراقبة لله في السر والعلانية.
وذكر الشيخ أبو الحسن علي بن العطار أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنتي عشر درسا على المشايخ، شرحا وتصحيحا، درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جني في النحو، ودرسا في إصلاح المنطق لابن السكيت في اللغة، ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين. وكان يعلق جميع ما يتعلق بها من شرح لمشكل، وتوضيح لعبارة، وضبط لغة وبيان لغريب.
تخرج به جماعة من العلماء منهم: أبو عبد الله محمد بن أبي إسحاق الكناني، وابن النقيب، وأحمد بن فرح الإشبيلي، وسليمان بن هلال الجعفري وغيرهم. درس في المدرسة الإقبالية نيابة عن الشيخ أحمد بن خلكان، وولي(7/404)
مشيخة دار الحديث الأشرفية حتى وفاته سنة ست وسبعين وستمائة للهجرة.
من مؤلفاته رحمه الله شرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، والمجموع شرح المهذب، والأذكار، وروضة الطالبين وغيرها.
تنبيه: أول النووي رحمه الله بعض الصفات لا سيما الفعلية منها، وفوض معناها، ونسب هذا القول إلى جمهور السلف، وخاصة في شرحه على صحيح مسلم. لذلك قال الذهبي: إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت، وإمراراها كما جاءت، وربما تأول قليلا في شرح مسلم. وقال السخاوي: وصرح اليافعي والتاج السبكي رحمهما الله أنه أشعري.
موقفه من الخوارج:
قال رحمه الله: قولها: (حرورية أنت) (1) هو بفتح المهملة وضم الراء الأولى وهي: نسبة الى حروراء، وهي قرية بقرب الكوفة، قال السمعاني: هو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به قال الهروى تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها. فمعنى قول عائشة رضي الله عنها، أن طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض، وهو خلاف إجماع المسلمين، وهذا الاستفهام الذي استفهمته عائشة هو استفهام إنكار، أي هذه طريقة الحرورية، وبئست الطريقة. (2)
وقال: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «والتارك لدينه المفارق للجماعة» (3) فهو عام في
_________
(1) تقدم ضمن مواقف عائشة رضي الله عنها سنة (57هـ).
(2) شرح مسلم (4/ 24).
(3) تقدم ضمن مواقف الأوزاعي سنة (157هـ).(7/405)
كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، وكذا الخوارج، والله أعلم. (1)
وقال أيضا: قوله: «نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ» (2) فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين، وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على علي التحكيم وأقام الحجة عليهم. (3)
وقال: الباب الثاني: في قتال البغاة.
وفيه أطراف: الأول في صفتهم. الباغي في اصطلاح العلماء: هو المخالف للإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره بشرطه الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، قال العلماء: ويجب قتال البغاة، ولا يكفرون بالبغي، وإذا رجع الباغي إلى الطاعة قبلت توبته، وترك قتاله، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة، ثم أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وبأن الباغين ليسوا بفسقة، كما أنهم ليسوا بكفرة، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل، ومنهم من يسميهم عصاة، ولا يسميهم فسقة ويقول: ليس كل معصية بفسق، والتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الإمام، وفي مخالفته كحديث «من حمل علينا السلاح فليس منا» (4) وحديث
_________
(1) شرح مسلم (11/ 137).
(2) تقدم ضمن مواقف سعد بن معاذ رضي الله عنه سنة (5هـ).
(3) شرح مسلم (12/ 79).
(4) تقدم ضمن مواقف عوف بن أبي جميلة سنة (146هـ).(7/406)
«من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (1)، وحديث «من خرج من الطاعة والجماعة فميتته جاهلية» (2) كلها محمولة على من خرج عن الطاعة وخالف الإمام بلا عذر ولا تأويل.
فصل: الذين يخالفون الإمام بالخروج عليه وترك الانقياد، والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم، ولكل واحد من الصنفين أحكام خاصة، فنصف البغاة بما يتميزون به، ونذكر في ضمنهم غيرهم من المخالفين. أما البغاة فتعتبر فيهم خصلتان: إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام، أو منع الحق المتوجه عليهم، فلو خرج قوم عن الطاعة ومنعوا الحق بلا تأويل، سواء كان حدا أو قصاصا أو مالا لله تعالى أو للآدميين، عنادا أو مكابرة، ولم يتعلقوا بتأويل فليس لهم أحكام البغاة، وكذا المرتدون، ثم التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنونا فهو معتبر، وإن كان بطلانه مقطوعا به فوجهان: أوفقهما لإطلاق الأكثرين أنه لا يعتبر كتأويل المرتدين وشبهتهم، والثاني: يعتبر، ويكفي تغليظهم فيه، وقد يغلط الإنسان في القطعيات.
فرع: الخوارج صنف من المبتدعة، يعتقدون أن من فعل كبيرة كفر وخلد في النار، ويطعنون لذلك في الأئمة ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات، قال الشافعي وجماهير الأصحاب رضي الله عنهم: لو أظهر قوم رأي الخوارج وتجنبوا الجماعات، وكفروا الإمام ومن معه، فإن لم يقاتلوا
_________
(1) أخرجه مسلم (3/ 1478/1851).
(2) تقدم ضمن مواقف القاضي عبد الوهاب سنة (422هـ).(7/407)
وكانوا في قبضة الإمام لم يقتلوا، ولم يقاتلوا، ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا، وإن عرضوا ففي تعزيرهم وجهان:
قلت: أصحهما لا يعزرون قاله الجرجاني، وقطع به صاحب التنبيه. والله أعلم، ولو بعث الإمام إليهم واليا فقتلوه فعليهم القصاص. وهل يتحتم قتل قاتله كقاطع الطريق لأنه شهر السلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق؟ وجهان، قلت: أصحهما لا يتحتم، والله أعلم. (1)
موقفه من المرجئة:
قال رحمه الله: أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا، وأن الأعمال من الإيمان أم لا، وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه.
ثم ساق أقوال الخطابي والبغوي وابن بطال وابن الصلاح وغيرهم، ثم قال: فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكاً وكفراً. قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها. قالوا: وفي هذا توفيق بين ظاهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون،
_________
(1) روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/ 50 - 51).(7/408)
وهذا الذي قاله هؤلاء، وإن كان ظاهراً حسناً فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال. وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم، فليسوا كذلك. فهذا مما لا يمكن إنكاره ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل. والله أعلم.
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) أجمعوا على أن المراد صلاتكم، وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات، والله أعلم. (2)
طه بن إبراهيم الهمذاني (3) (677 هـ)
طه بن إبراهيم بن أبي بكر، الشيخ جمال الدين أبو محمد الإربلي، الفقيه
_________
(1) البقرة الآية (143).
(2) شرح مسلم (1/ 129 - 133).
(3) فوات الوفيات (2/ 130 - 131) والبداية والنهاية (13/ 297 - 298) والنجوم الزاهرة (7/ 281) وشذرات الذهب (5/ 357 - 358).(7/409)
الشافعي. ولد بإربل سنة بضع وتسعين وخمسمائة. سمع محمد بن عمار وغيره، وروى عنه الدمياطي والدواداري وغيرهما، كان أديبا فاضلا شاعرا، ومات في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وستمائة.
موقفه من المشركين:
قال ابن كثير: من إنشاده:
دع النجوم لطرقي يعيش بها ... إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك
عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا (1)
عبد الساتر بن عبد الحميد الحنبلي (2) (679 هـ)
الإمام الفقيه تقي الدين أبو الفضل عبد الساتر بن عبد الحميد بن محمد ابن ماضي المقدسي الحنبلي. ولد سنة ثمان وستمائة. سمع موسى بن عبد القادر، والشيخ الموفق وجماعة. روى عنه ابن الخباز وخطيب أفرى علي الكتاني.
قال الإمام الذهبي: رأيت له مصنفا في الصفات غالبه جيد. وقال: تلطخ بالتجسيم وكان بريئا منه. لكنه كان لهجا بإيراد الصفات، والتحرش بالخصوم، ومن صير ذلك ديدنه رمي بالتجسيم، كما أن من تتبع غرائب الحديث كذب.
يحكي عنه المبغضون أشياء لا تصح نعوذ بالله منها. مات سنة تسع
_________
(1) البداية (13/ 297).
(2) السير (17/ 313) والعبر (2/ 310) وشذرات الذهب (5/ 363 - 364).(7/410)
وسبعين وستمائة، عن نيف وسبعين سنة.
موقفه من الجهمية:
قال الذهبي: حدثني الشيخ إبراهيم بن بركات أن بعض الأشعرية قال لعبد الساتر: يا شيخ أنت تقول إن الله استوى على العرش؟ فقال: لا والله، لكن الله تعالى قاله، والرسول عليه السلام بلغه، وأنا صدقته وأنت رددته، فبهت ذلك الرجل. (1)
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: عني بالسنة. وجمع فيها. وناظر الخصوم وكفرهم. وكان صاحب جرأة، وتحرق على الأشعرية، فرموه بالتجسيم. قال الذهبي: ورأيت له مصنفا في الصفات. فلم أر به بأسا. (2)
الصاحب علاء الدين صاحب الديوان (3) (681 هـ)
عَطَا مَلِك بن محمد بهاء الدين بن محمد الجويني الخراساني، علاء الدين، صاحب ديوان بغداد. أخو الصاحب والوزير شمس الدين. تأدب بخراسان، ولزم النظم والنثر، والمكارم والسؤدد، وكان فيه عدل ورفق بالرعية حيث أسقط المغارم عن الفلاحين، ولمَّ شعث الناس، وعُمِّرت بغداد به، وكان له إحسان إلى الفقهاء والفضلاء. وقيل في كرمه وجوده الشيء الكثير حتى
_________
(1) السير (17/ 313).
(2) ذيل الطبقات (2/ 299).
(3) السير (الجزء المفقود/333 - 335) وفوات الوفيات (2/ 452 - 453) والسلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (2/ 156و164) والعبر (2/ 318) وشذرات الذهب (5/ 382 - 383).(7/411)
قال بعض الناس: كانت بغداد أيام الصاحب علاء الدين أجود ما كانت أيام الخليفة. ولما عاد منكوتمر (من أبناء هولاكوخان) مهزوما من الشام، حُمِل علاء الدين معهم إلى همذان، وهناك مات أبغا ومنكوتمر واختفى الأخوان علاء الدين وشمس الدين، فتوفي علاء الدين بعد الخفية بشهر سنة إحدى وثمانين وستمائة وقيل سنة ثلاث وثمانين، ثم ظفر أرغون (الملك الجديد) بالوزير شمس الدين فقتله.
موقفه من المشركين:
- قال ابن كثير: وفيها -أي سنة ستة وستين وستمائة- قتل الصاحبُ علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة، منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية، حضر ابن الخشكري عنده وأنشده قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب، فقال ابن الخشكري: يا مولانا اسمع شيئا جديدا، وأعرض عن شيء له سنين، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه، ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئا مما قال حتى استعلم ما عنده، فإذا هو زنديق، فلما ركب قال لإنسان معه: استفرده في أثناء الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه: أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنهم، ثم قال انزعوا عنه ثيابه، فسلبوها وهو يخاصمهم ويقول: إنكم أجلاف، وإن هذا لعب بارد، ثم قال:(7/412)
اضربوا عنقه، فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه. (1)
- وقال أيضا: وفيها -أي سنة اثنتين وسبعين وستمائة- فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شابا من أولاد التجار يقال له لي قد قرأ القرآن وشيئا من الفقه والإشارات لابن سينا، ونظر في النجوم، ثم ادعى أنه عيسى بن مريم، وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الآخرة، فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكيا، إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيرا، وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه. (2)
محمد بن أحمد القَسْطَلاَنِي (3) (686 هـ)
محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن ميمون، الإمام قطب الدين القسطلاني أبو بكر التَّوْزَرِي الأصل، المصري، ثم المكي، ثم المالكي الشافعي. ولد بمصر سنة أربع عشرة وستمائة. وسمع من ابن البناء، وابن الزبيدي ومحمد بن نصر بن الحصري، وطائفة كثيرة. وروى عنه الدمياطي، والمزي، والبرزالي، وخلق. كان شيخا عالما زاهدا عابدا، كريم النفس، كثير الإيثار، حسن الأخلاق، قليل المثال، ولي مشيخة الكاملية إلى
_________
(1) البداية (13/ 267).
(2) البداية (13/ 281).
(3) الوافي بالوفيات (2/ 132 - 134) وفوات الوفيات (3/ 310 - 312) والبداية والنهاية (13/ 328) وشذرات الذهب (5/ 397).(7/413)
أن مات رحمه الله سنة ست وثمانين وستمائة.
موقفه من المشركين:
ذكر شيخ الإسلام عن أبي الحسن علي بن قرباص: أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني، فوجده يصنف كتابا. فقال: ما هذا؟ فقال: هذا في الرد على ابن سبعين، وابن الفارض وأبي الحسن الجزلي، والعفيف التلمساني. (1)
ابن النفيس علي بن أبي الحزم (2) (687 هـ)
إمام الطب علاء الدين بن أبي الحزم بن النفيس القرشي الدمشقي الطبيب صاحب التصانيف. ولد بدمشق واشتغل على المهذب الدخوار شيخ الأطباء. وساد أهل زمانه، وكان لا يضاهى ولا يجارى في هذا الشأن استبحارا واستكثارا واستنباطا واستحضارا. ذكره الإمام أبو حيان فقال: كان يصنف من صدره من غير مراجعة. قرأت عليه جملة من الهداية وكان يقررها أحسن تقرير، وصنف في الفقه وأصوله وفي العربية وفي الحديث وعلم البيان.
قيل: أشير عليه أن يتداوي بخمر فقال: لا ألقى الله وفي بطني منه شيء. توفي سنة سبع وثمانين وستمائة.
موقفه من المشركين:
قال شيخ الإسلام: كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا
_________
(1) الفتاوى (2/ 243).
(2) السير (17/ 238 - 239) والنجوم الزاهرة (7/ 377) والسلوك (2/ 209) والشذرات (5/ 401) والبداية والنهاية (13/ 331) والعبر (2/ 325).(7/414)
مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف.
قال ابن تيمية عقيبه: يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة، فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة. (1)
إبراهيم بن معضاد (2) (687 هـ)
أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد الجعبري الزاهد الواعظ المذكر. سمع الحديث من أبي الحسن السخاوي بالشام، وقدم القاهرة، وحدث بها فسمع منه أبو حيان شيخ ابن عماد الحنبلي.
كان لكلامه وقع في القلوب لصدقه وإخلاصه وصدعه بالحق. مات سنة سبع وثمانين وستمائة عن سبع وثمانين سنة وشهر.
موقفه من الصوفية:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان الشيخ إبراهيم بن معضاد يقول -لمن رآه من هؤلاء كاليونسية والأحمدية- يا خنازير. يا أبناء الخنازير. ما أرى لله ورسوله عندكم رائحة {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى
_________
(1) درء التعارض (1/ 203).
(2) العبر (2/ 325) وشذرات الذهب (5/ 399 - 400).(7/415)
صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)} (1) كل منهم يريد أن يحدثه قلبه عن ربه فيأخذ عن الله بلا واسطة الرسول {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (2).اهـ (3)
الأمير نوروز (4) (696 هـ)
نوروز نائب القان غازان محمود. كان دينا مسلما عالي الهمة، وهو الذي اجتهد وحرص وبالغ في أمر غازان حتى أسلم وملكه البلاد. ثم إنه وقع بينهما ما وقع مما أدى إلى قتل الأمير نوروز رحمه الله سنة ست وتسعين وستمائة.
موقفه من المشركين:
قال ابن تيمية: كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله، ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام، والتزم له أن ينصره إذا أسلم، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم، وهدم البذخانات، وكسر الأصنام، ومزق
_________
(1) المدثر الآية (52).
(2) الأنعام الآية (124).
(3) مجموع الفتاوى (13/ 224).
(4) أعيان العصر (4/ 2134 - 2135).(7/416)
سدنتها كل ممزق، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم. (1)
هبة الله القِفْطِي (2) (697 هـ)
القاضي أبو القاسم بهاء الدين هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القفطي نسبة إلى فقط بلد بصعيد مصر، واختلف في مولده فقيل سنة ستمائة أو إحدى وستمائة، وقيل في أواخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ولعل الأقرب إحدى وستمائة -كما في طبقات الشافعية-.
سمع من الشيخ مجد الدين القشيري، والإمام شمس الدين الأصبهاني، والفقيه أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، وغيرهم، وسمع منه تقي الدين ابن دقيق العيد، والدشناوي، وطلحة بن تقي الدين القشيري وغيرهم.
برع في الفقه والأصول والنحو والفرائض والجبر والمقابلة والحديث وانتفع به الناس، وتخرجت به الطلبة، وولي قضاء أسنا وتدريس المدرسة المعزية بها، وترك القضاء أخيرا، واستمر على العلم والعبادة إلى أن توفي رحمه الله بأسنا سنة سبع وتسعين وستمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في شذرات الذهب: وولى قضاء أسنا، وتدريس المدرسة المعزية بها، وكانت أسنا مشحونة بالروافض، فقام في نصرة السنة وأصلح الله به
_________
(1) المنهاج (3/ 447 - 448).
(2) شذرات الذهب (5/ 439) طبقات الشافعية الكبرى (5/ 163) وكشف الظنون (2/ 1955).(7/417)
خلقا، وهمت الروافض بقتله فحماه الله منهم. (1)
وله من الآثار:
1 - 'النصائح المفترضة في فضائح الرافضة'.
المصدر: كشف الظنون (2) وطبقات الشافعية لابن السبكي (3).
2 - 'الأنباء المستطابة في فضائل الصحابة والقرابة'.
المصدر: كشف الظنون (4) وطبقات الشافعية لابن السبكي (5).
الدباغ القيرواني (6) (699 هـ)
عبد الرحمن بن محمد بن علي، أبو زيد الأنصاري الأسيدي القيرواني المعروف بالدباغ. ولد سنة خمس وستمائة. أخذ عن أعلام منهم: والده، وأبو عبد الله المعروف بالحنفي، وعن أبي عمر عثمان بن سفيان المعروف بابن شقر، وأبي المكارم محمد بن أحمد بن يوسف بن موسى، وغيرهم. وهم أكثر من ثمانين شيخا، وله برنامج فيه أسماؤهم وما روى عنهم.
قال العبدري في رحلته: لقيته يوم ورودنا القيروان، فرأيت شيخا زكيا حصيفا، ذا سمت وهيئة وسكون ظاهر، محبا لأهل العلم، حسن الرجاء، بر
_________
(1) شذرات الذهب (5/ 439 - 440).
(2) (2/ 1955).
(3) (5/ 164).
(4) (1/ 171).
(5) (5/ 164).
(6) تذكرة الحفاظ (4/ 1489) وشجرة النور الزكية (1/ 193) والحال السندسية في الأخبار التونسية (1/ 249 - 256) والأعلام للزركلي (3/ 329).(7/418)
اللقاء، لم يؤثر الكبر في جسمه على علو سنه، ولا تغير شيء من ذهنه وحواسه.
له من المؤلفات: 'معالم الإيمان وروضات الرضوان في مناقب المشهورين من صلحاء القيروان'، وتاريخ ملوك الإسلام، وجلاء الأفكار في مناقب الأنصار وغيرها.
توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين وستمائة عن أربع وتسعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
قال في معالم الإيمان: وأما فضل القيروان عموما فمعلوم على تعاقب الزمان، متداول بين الأمم لا يختلف فيه اثنان، ناهيك من قوم سلفهم الأول أفاضل الصحابة والتابعين الذين فتح الله بهم أقطار المغارب، وجالت في أرجائه منهم أفضل الجيوش والكتائب، وعلى أيديهم أسلم سائره، وانتصفت من طائفة الكفر جنود الحق وعساكره، وأما من جاء بعدهم فعلماء الدين، والقدوة لسائر المسلمين، مصابيح الظلام، وأئمة الاقتداء، وهم الذين كانت تشد إليهم الإبل، وبالجملة فالذي كان أهل القيروان عليه قديما من قوة الإيمان بالله، والانتصار للحق، والصبر على الأذى في الله، والجهاد لإعزاز الدين، والقيام بالرد على أهل الأهواء بالدلائل القاطعة. والحجج الدامغة لتثبيت عقائد عامة الموحدين، فقد ناضلوا بالسيوف، وجادلوا باللسان في تقرير الدين وتثبيت قواعد اليقين، فذلك كله شيء لا يسعه ديوان، ولا يمليه لسان، قد امتحنوا باستيلاء الخوارج عليهم من الصفرية والإباضية، وكذلك امتحنوا بخلق القرآن في زمن الواثق، وعزم محمد بن الأغلب على قتل محمد(7/419)
ابن سعيد، فما زالوا على اعتقاد أهل السنة، وصبروا على الأذى في دين الله وما زادهم إلا يقينا وبصيرة في دينهم، ولما استولى العبيديون على إفريقية وانضافت إليهم طوائف كثيرة من أهل الشيع الغالبة، قدموا عليهم من البلاد متوسلين إليهم بحب أهل البيت والتعصب لهم، حتى ولوهم الولايات ورفعوا منازلهم، ثم أظهروا مذهبهم الفاسد في سب الصحابة رضوان الله عليهم وتبديل الشرائع والإضرار بأهل السنة، مثل محمد بن عمر المروزي لعنه الله، وعبد الله بن محمد الكاتب، ومحمد بن أبي سعيد، حتى كشف الله أستارهم فقتلوا بالعذاب، وبعد ذلك هجم أهل القيروان على هؤلاء الأشرار بعد ما تولى المعز بن باديس، فقتلوهم عن آخرهم وطهر الله القيروان من رجسهم والحمد لله رب العالمين.
ولم يزل أهل القيروان في جهاد مع الفرق الضالة والفئة المارقة، ولم يزل الشيخ الأوحد أبو عثمان سعيد بن الحداد، وأبو محمد عبد الله بن إسحاق التبان، يناظران على مذهب أهل السنة ويرون ذلك من أعظم الجهاد، حتى أخمد الله نارهم، وقل عددهم، وظهر حزب الحق، وأعلا الله كلمته، والحمد لله رب العالمين. (1)
أبو محمد ابن أبي جمرة (2) (699 هـ)
عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، أبو محمد
_________
(1) معالم الإيمان (1/ 24 - 25).
(2) البداية والنهاية (13/ 366) وشجرة النور الزكية (1/ 199) والأعلام للزركلي (4/ 89).(7/420)
المحدث الراوية المقرئ. أخذ عن جماعة منهم أبو الحسن الزيات، وأخذ عنه صاحب المدخل ابن الحاج.
له جمع النهاية اختصر به صحيح البخاري، وشرحه بهجة النفوس.
قال عنه ابن كثير: كان قوالا بالحق، أمارا بالمعروف، ونهاء عن المنكر.
وله ميل إلى التصوف واضح خصوصا في كتابه بهجة النفوس.
توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين وستمائة هجرية، وقيل سنة خمس وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
قال في كتابه 'بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها'، وهو شرح مختصر صحيح البخاري المسمى جمع النهاية في بدء الخير والغاية -ويظهر من خلال هذا الشرح صوفية الرجل- وله كلمات في الذب عن السنة وذم البدعة، منها ما قاله عند شرح حديث: «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في أهل الأرض» (1): ويؤخذ بقوة الكلام من مفهوم هذا الحديث الندب على توفية أفعال البر على اختلاف أنواعها من فرض وسنة وندب إلى غير ذلك من أنواعه، إذ أن بذلك يحصل للعبد بفضل الله هذه المنزلة الرفيعة ويفهم منه أيضا كثرة الحذر وشدة النهي عن المعاصي والبدع التي بها يحرم العبد هذه
_________
(1) أحمد (2/ 514) والبخاري (6/ 373/3209) ومسلم (4/ 2030/2637) والترمذي (5/ 297 - 298/ 3161) من حديث أبي هريرة.(7/421)
المنزلة الجليلة. (1)
أحمد بن إبراهيم (2) (708 هـ)
الحافظ أحمد بن إبراهيم بن الزبير، أبو جعفر الأندلسي النحوي. ولد سنة سبع وعشرين وستمائة. وتلا بالسبع على أبي الحسن الشاري، وسمع منه ومن إسحاق بن إبراهيم الطوسي والمؤرخ أحمد بن يوسف بن فرتون وأبي الوليد إسماعيل بن يحيى الأزدي وأبي الحسين بن السراج وغيرهم، وبه تخرج أبو حيان. قال ابن ناصر الدين: كان نحويا حافظا علامة، أستاذ القراء ثقة عمدة. وقال الكمال جعفر: كان ثقة قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قامعا لأهل البدع، وله مع ملوك عصره وقائع وكان معظما عند الخاصة والعامة، حسن التعلم ناصحا. توفي رحمه الله سنة ثمان وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في البدر الطالع: من مناقبه أن الفازاري الساحر ادعى النبوة فقام عليه فاستظهر عليه بتقربه إلى أميرها بالسحر، وأوذي أبو جعفر فتحول إلى غرناطة، فاتفق قدوم الفازاري رسولا من أمير (مالقه)، فاجتمع أبو جعفر بصاحب غرناطة، ووصف له حال الفازاري، فأذن له إذا انصرف بجواب رسالته أن يخرج إليه ببعض أهل البلد، ويطالبه من نائب الشرع، ففعل، فثبت عليه الحد، وحكم بقتله، فضرب بالسيف فلم يؤثر فيه. فقال أبو جعفر
_________
(1) بهجة النفوس (4/ 282).
(2) العبر (2/ 365) والدرر الكامنة (1/ 84 - 86) والبدر الطالع (1/ 33 - 35) وشذرات الذهب (6/ 16).(7/422)
جردوه، فجردوه فوجدوا جسده مكتوبا فغسل، ثم وجد تحت لسانه حجرا لطيفا فنزعه، فعمل فيه السيف فقتله. قال بعض من ترجمه -أي أحمد بن إبراهيم الأندلسي- كان ثقة قائما بالمعروف والنهي عن المنكر، دامغا لأهل البدع. وله مع ملوك عصره وقائع، وكان معظما عند الخاصة والعامة. (1)
مسعود بن أحمد (2) (711 هـ)
سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود أبو محمد وأبو عبد الرحمن، الحافظ قاضي الحنابلة الحارثي، ولد سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وستمائة. سمع بمصر من الرضى بن البرهان، والنجيب الحراثي، وجماعة من أصحاب البوصيري وطبقته، وبالإسكندرية من عثمان بن عوف، وابن الفرات، وبدمشق من أبي زكريا بن الصيرفي، وخلق من هذه الطبقة. سمع منه: إسماعيل ابن الخباز -وهو أسن منه- وأبو الحجاج المزي وأبو محمد البرزالي. عني بالحديث. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، وخرج لجماعة من الشيوخ معاجم، ودرس بعدة أماكن، كالمنصورية، وجامع الحاكم، وولي القضاء سنتين ونصفا، وكان سنيا أثريا، متمسكا بالحديث، قال الذهبي: وكان عارفا بمذهبه ثقة متقنا صيتا مليح الشكل، فصيح العبارة، وافر التجمل، كبير القدر حج غير مرة وشرح بعض السنن لأبي داود. وانتقل إلى الله في سحر يوم الأربعاء رابع
_________
(1) البدر الطالع (1/ 34 - 35) والدرر الكامنة (1/ 85 - 86).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 362) وشذرات الذهب (6/ 28 - 29) والبداية والنهاية (14/ 67) وتذكرة الحفاظ (4/ 1495).(7/423)
عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة بالقاهرة رحمه الله.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين عنه قال: الحمد لله، ما ذكر من الكلام المنسوب إلى الكتاب المذكور -أي الفصوص- يتضمن الكفر. ومن صدق به فقد تضمن تصديقه بما هو كفر يجب في ذلك الرجوع عنه، والتلفظ بالشهادتين عنده. وحق على كل من سمع ذلك إنكاره. ويجب محو ذلك وما كان مثله وقريبا منه من هذا الكتاب، ولا يترك بحيث يطلع عليه، فإن في ذلك ضررا عظيما على من لم يستحكم الإيمان في قلبه، وربما كان في الكتاب تمويهات وعبارات مزخرفة وإشارات إلى ذلك لا يعرفه كل أحد فيعظم الضرر. وكل هذه التمويهات ضلالات وزندقة. والحق إنما هو في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقول القائل: إنه أخرج الكتاب بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنام رآه، فكذب منه على رؤياه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (1)
محمد بن يوسف الجَزَرِي (2) (711 هـ)
محمد بن يوسف بن عبد الله بن محمود الجزري المصري أبو عبد الله. ولد في حدود سنة ثلاثين وقيل سبع وثلاثين وستمائة بجزيرة ابن عمر. سمع من الشيخ شمس الدين الأصبهاني شارح المحصول في العقليات، ومن أبي المعالي أحمد بن إسحاق الأبرقوهي. وسمع منه: السبكي، وانتفع به الناس. كان
_________
(1) العقد الثمين (2/ 284).
(2) طبقات الشافعية (6/ 31) والوافي بالوفيات (5/ 263) الدرر الكامنة (4/ 299) وشذرات الذهب (6/ 42).(7/424)
خطيبا بالجامع الصالحي بمصر ثم بالجامع الطولوني وكان إماما في الأصلين والفقه والنحو والمنطق والبيان والطب ودرس بالمعزية والشريفية، وانتصب للإقراء فكان لا يفرغ لنفسه ساعة واحدة، ويقرأ عليه المسلمون واليهود والنصارى، وكان حسن الصورة مليح الشكل حلو العبارة كريم الأخلاق يسعى في قضاء حوائج الناس، ويبذل جاهه لمن يقصده. توفي بمصر في سادس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين عنه قال -في الرد على ابن عربي الصوفي-: الحمد لله. قوله: فإن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانا، تشبيه وكذب باطل، وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر لا يقر قائله عليه. وقوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه، كلام باطل متناقض، وهو كفر. وقوله في قوم هود: إنهم حصلوا في عين القرب، افتراء على الله ورد لقوله فيهم. وقوله: زال البعد وصيرورة جهنم في حقهم نعيما، كذب وتكذيب للشرائع، بل الحق ما أخبر الله به من بقائهم في العذاب.
وأما من يصدقه فيما قاله -لعلمه بما قال- فحكمه كحكمه من التضليل والتكفير إن كان عالما، فإن كان ممن لا علم له فإن قال ذلك جهلا عرف بحقيقة ذلك، ويجب تعليمه وردعه عنه مهما أمكن، وإنكاره الوعيد في حق سائر العبيد كذب ورد لإجماع المسلمين، وإنجاز من الله عز وجل للعقوبة، فقد دلت الشريعة دلالة ناطقة أن لابد من عذاب طائفة من عصاة المؤمنين،(7/425)
ومنكر ذلك يكفر عصمنا الله من سوء الاعتقاد وإنكار المعاد والله أعلم. (1)
التعليق:
من قرأ هذا الجواب -الذي يثلج الصدر على كتاب الفصوص للزنديق ابن عربي- يحمد الله تعالى على وجود أمثال هؤلاء العلماء القائمين لله بالحق، والرادين للباطل مهما كان قائله، ويكشفون حاله سواء تلبس بولاية أو صوفية أو حب آل البيت إلى غير ذلك من الأشكال التي يتلبس بها المبتدعة، فعليك يا ابن عربي ما تستحق من ربك، لقد ضل بك خلق كثير في كل وقت وحين وما يزال المثقفون الآن والدعاة يقولون: الولي الكبير سيدي ابن عربي. هداهم الله للتعرف على عقيدتهم الحقة.
عماد الدين الحزامي (2) (711 هـ)
أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عماد الدين أبو العباس الشيخ القدوة ابن شيخ الحزامية الواسطي الشافعي. ولد في حادي عشر أو ثاني عشر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة بشرقي واسط. اجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره، وصاحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية حين قدم دمشق واستفاد منه. كان يقرأ الكافي على الشيخ مجد الدين الحراني، وكتب عنه الذهبي والبرزالي، وسمع منه جماعة من شيوخ ابن رجب وغيرهم. تفقه وتأدب ولقي المشايخ وتزهد وتعبد. كان ابن تيمية رحمه الله
_________
(1) العقد الثمين (2/ 284 - 285).
(2) طبقات الحنابلة (4/ 358 - 360) وشذرات الذهب (6/ 24 - 25).(7/426)
يعظمه ويجله، وكتب إليه كتابا من مصر أوله: إلى شيخنا الإمام العارف القدوة السالك. كان ذا ورع وإخلاص ومنابذة للاتحادية وذوي العقول والمبتدعة، وكان داعية إلى السنة، وكان يتقوت من النسخ، ولا يكتب إلا مقدار ما يدفع به الضرورة، وكان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ بينهم، وتأثر بهم في تصوفهم إلى أن وفق له شيخ الإسلام ابن تيمية، فدله على مطالعة السيرة النبوية، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، فتخلى عن جميع أحوالهم وطرائقهم وسلوكهم، واقتفى آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه. وكان محبا لأهل الحديث، معظما لهم، وأوقاته محفوظة. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي آخر نهار السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وسبعمائة بالمارستان الصغير بدمشق.
موقفه من الصوفية:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ الشيخ عماد الدين بينهم، وألهمه الله من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عن البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره. وقرأ شيئا من الفقه على مذهب الشافعي.
ثم دخل بغداد، وصحب بها طوائف من الفقهاء، وحج واجتمع بمكة بجماعة منهم. وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الفقهاء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم ما يطلبه من لوايح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذلك عنهم، ... واقتفى طريقتهم وهديهم.(7/427)
ثم قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصاحبه، فدله على مطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخصها واختصرها، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله، وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وطرائقه المأثورة عنه في كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولا وفروعا، وشرع في الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم. (1)
له من الآثار:
جزء في الرد على الاتحادية والمبتدعة، انظر ذيل طبقات الحنابلة (2).
أم زينب فاطمة بنت عباس (3) (714 هـ)
فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح البغدادية أم زينب الواعظة العالمة المسندة المفتية، الخيرة الصالحة، المتقنة المحققة الكاملة الفاضلة، الواحدة في عصرها، والفريدة في دهرها، المقصودة في كل ناحية. أخذت عن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وغيره من المقادسة، وكانت تحضر مجلس الشيخ ابن تيمية وتستفيد منه وانتفع بها نساء أهل دمشق حيث ختّمت كثيرا منهن القرآن. كان ابن تيمية يثني عليها ويتعجب من حرصها وذكائها ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها. وكانت آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، وقل من أنجب من النساء مثلها. توفيت ليلة عرفة سنة أربع عشرة وسبعمائة، رحمها الله تعالى.
موقفها من الصوفية:
جاء في البداية والنهاية: ... وكانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان. وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا تقدر عليه الرجال. وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 359).
(2) (4/ 360).
(3) البداية والنهاية (14/ 74 - 75) وشذرات الذهب (6/ 34) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 467 - 468) والدرر الكامنة (3/ 226).(7/428)
أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي خَتَّمَتْ نساء كثيرا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته آمين. (1)
التعليق:
والحمد لله الذي أوجد حتى من النساء من يدافع عن العقيدة السلفية. وغير هذه الصالحة كثيرات، ولكن لعل المؤرخين بخلوا بنقلهن إلينا. ذلك
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 74 - 75).(7/429)
فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
موقف السلف من محمد بن الحسن الزنديق (717 هـ)
جاء في البداية والنهاية: وفي هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعي علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف، وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها، وخرجوا منها يقولون لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد وا إسلاماه، وا سلطاناه، وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال تلك الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين. وقال لهم: لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة، ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها. ونادى في تلك البلاد: إن بالمقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي، الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان، وتجهزوا(7/430)
وعملوا أمرا عظيما جدا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتل المهدي أضلهم، وهو يكون يوم القيامة مقدمهم إلى عذاب السعير، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} (1).اهـ (2)
محمد بن قوام (3) (718 هـ)
الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن أبي بكر بن قوام البالسي. ولد سنة خمسين وستمائة ببالس. سمع من أصحاب ابن طبرزد. قال ابن كثير: كان حسن العقيدة وطويته صحيحة، محبا للحديث وآثار السلف. وقال الذهبي: كان محمود الطريقة، متين الديانة. وقال: كان ذا همة وجلادة وذكر وعبادة، لكنه أَضَرَّ وثقل سمعه. توفي رحمه الله سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وحضر جنازته خلق كثير، من جملتهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
موقفه من المبتدعة:
جاء في البداية والنهاية: قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة، وكتبوا عليه
_________
(1) الحج الآيتان (3و4).
(2) البداية (14/ 85 - 86).
(3) العبر (2/ 384) والبداية والنهاية (14/ 91 - 92) والدرر الكامنة (4/ 124) وشذرات الذهب (6/ 49).(7/431)
محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل العلم، فأحضر إلى دار العدل، فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيرا بليغا عنيفا وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادى عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة، ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه. (1)
محمد بن حَنَش (2) (719 هـ)
محمد بن يحيى بن أحمد بن حنش اليماني. ولد بعد سنة خمسين وستمائة. وقرأ على علماء عصره حتى برع في فنون عدة وبلغ رتبة الاجتهاد وأخذ عنه جماعة من أكابر العلماء كالإمام محمد بن المطهر، وله مصنفات. وكان زاهدا عابدا فصيح العبارة سريع الجواب، مستحضرا للفنون محققا في جميع مباحثه توفي سنة تسع عشرة وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
آثاره السلفية:
'القاطعة في الرد على الباطنية'. (3)
_________
(1) البداية (14/ 68).
(2) البدر الطالع (2/ 277) الأعلام (7/ 138) ومعجم المؤلفين (12/ 98).
(3) البدر الطالع (2/ 277).(7/432)
شرف الدين أبو عبد الله ابن النجيح (1) (723 هـ)
محمد بن سعد الله بن عبد الأحد شرف الدين أبو عبد الله الحراني المعروف بابن النجيح الحنبلي. سمع من الفطر بن البخاري وزينب بنت مكي وتفقه ولازم ابن تيمية وأذن له. طلب الحديث وقرأ بنفسه وتفقه وأفتى. كان صحيح الذهن جيد المشاركة في العلوم، من خيار الناس وعقلائهم وعلمائهم. كان مع شيخ الإسلام في مواطن كبار صعبة، لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيدا مشكور السيرة جيد العقل والفهم عظيم الديانة والزهد. ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة بوادي بني سالم، وحمل إلى المدينة النبوية على أعناق الرجال ودفن بالبقيع رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
محنته وصبره على عقيدته السلفية:
قال الحافظ ابن كثير: قد صحب شيخَنا العلامة تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبة لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الأذى وأوذي بسببه مرات ... (2)
_________
(1) الدرر الكامنة (3/ 443 - 444) وشذرات الذهب (6/ 61) والبداية والنهاية (14/ 114) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 376).
(2) (14/ 114).(7/433)
شهاب الدين ابن مري (1) (كان حيا سنة 725 هـ)
الشيخ أحمد بن محمد بن مري شهاب الدين البعلبكي الحنبلي. كان رحمه الله في بداية أمره منحرفا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم اجتمع به فأحبه، وأصبح من المدافعين عنه، وعن عقيدته السلفية. رحل إلى مصر واجتمع بالأمير بدر الدين خبكلي بن الباب فأذن له بالتحديث بجامع الأمير شرف الدين حسين بن جندربحكر جوهر النوبي وحدث أيضا بجامع عمرو ابن العاص. وقعت له محنة مع العوام، فمنعه القاضي المالكي من الجلوس في سادس عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ثم حبس وضرب ثم سفر وأهله إلى بلد الخليل. وكان يتردد على دمشق.
موقفه من المبتدعة:
محنته بسبب عقيدته السلفية:
جاء في البداية والنهاية: وفيها منع الشيخ شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر على طريقة الشيخ تقي الدين ابن تيمية. وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء ثم سُفِّرَ إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق، وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات. (2)
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 121) وأعيان العصر (1/ 231) والدرر الكامنة (1/ 302 - 303).
(2) (14/ 121).(7/434)
موقفه من المشركين والصوفية:
محنته بسبب عقيدته السلفية:
جاء في الدرر الكامنة: أحمد بن محمد بن مري البعلي الحنبلي كان منحرفا عن ابن تيمية، ثم اجتمع به، فأحبه وتتلمذ له وكتب مصنفاته، وسلك طريقه في الحط على الصوفية، ثم إنه تكلم في مسألة التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي مسألة الزيارة وغيرهما على طريق ابن تيمية فوثب به جماعة من العامة ومن يتعصب للصوفية وأرادوا قتله فهرب فرفعوا أمره إلى القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي فطلبه وتغيب عنه فأرسل إليه وأحضره وسجنه ومنعه من الجلوس وذلك بعد أن عقد له مجلس بين يدي السلطان وذلك في ربيع الآخر سنة 725هـ فأثنى عليه بدر الدين ابن جنكلي وبدر الدين ابن جماعة وغيرهما من الأمراء، وعارضهم الأمير -إيدمر- الحظيري، فحط عليه وعلى شيخه وتفاوض هو وجنكلي حتى كادت تكون فتنة ففوض السلطان الأمر لأرغون النائب فأغلظ القول للفخر ناظر الجيش وذكر أنه يسعى للصوفية بغير علم، وأنهم تعصبوا عليه بالباطل فآل الأمر إلى تمكين المالكي منه، فضربه بحضرته ضربا مبرحا حتى أدماه ثم شهره على حمار أركبه مقلوبا ثم نودي عليه: هذا جزاء من يتكلم في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكادت العامة تقتله ثم أعيد إلى السجن ثم شفع فيه، فآل أمره إلى أن سفر من القاهرة إلى الخليل فرحل بأهله وأقام به ... (1)
_________
(1) الدرر الكامنة (1/ 302 - 303).(7/435)
موقف السلف من الزنادقة (726 هـ)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس. قال الشيخ علم الدين البرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن. قال وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة. قال: وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن. وعنده نباهة وفهم، وكان منزلا في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزا للإسلام وذلا للزنادقة وأهل البدع. قلت: وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضرا يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك. (1)
التعليق:
جزى الله خيرا علماء المسلمين وأمراءهم الذين ما تركوا زنديقا إلا صلبوه أو ضربوا عنقه إلا من هرب وفلت. واليوم لو أردت أن تطبق حد
_________
(1) البداية (14/ 127).(7/436)
الزندقة في بلاد المسلمين التي عطلت الحدود الشرعية بالكلية إلا من شاء الله منها، فلا أدري كم يصفو لك من هذا؟! لأن الإلحاد الذي هو أكبر الزندقة يدرس في المدارس، وما أهداف الشيوعيين والاشتراكيين والبعثيين وأذنابهم إلا نشره في المجتمعات الإسلامية. ولهذا هم لا يحبون أن يسمعوا شيئا يسمى إسلاما، لأن فيه تطبيق حد الزندقة على أمثالهم ممن يأكلون دريهمات روسيا والصين وغيرها من دول الزندقة.
شرف الدين ابن تيمية (1) (727 هـ)
عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تيمية الحراني شرف الدين أبو محمد الدمشقي أخو الشيخ الإمام العلامة تقي الدين. ولد في حادي عشر محرم سنة ست وستين وستمائة بحران. سمع من ابن أبي اليسر وابن علان وابن الصيرفي وابن أبي عمر وخلق كثير وسمع منه الطلبة. ذكره الذهبي في معجم شيوخه. فقال: كان إماما بارعا، فقيها عارفا بالمذهب وأصوله وأصول الديانات، عارفا بدقائق العربية، وبالفرائض والحساب والهيئة، كثير المحفوظ، له مشاركة جيدة في الحديث، ومشاهير الأئمة والحوادث، ويعرف قطعة كثيرة من السيرة، وكان متقنا للمناظرة وقواعدها، والخلاف. وكان حلو المحاضرة متواضعا، كثير العبادة والخير ذا حظ من صدق وإخلاص وتوجه وعرفان، وانقطاع بالكلية عن الناس، قانعا
_________
(1) الدرر الكامنة (2/ 266) وشذرات الذهب (6/ 76) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 382) والوافي بالوفيات (17/ 240).(7/437)
بيسير اللباس. سمع المسند والصحيحين وكتب السنن، وكان كثير العبادة والتأله، والمراقبة والخوف من الله تعالى. سئل عنه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني فقال: هو بارع في فنون عديدة من الفقه، والنحو والأصول، ملازم لأنواع الخير، وتعليم العلم، حسن العبارة قوي في دينه، جيد التفقه مستحضر لمذهبه، مليح البحث، صحيح الذهن، قوي الفهم، رحمه الله تعالى. وكان أخوه يتأدب معه ويحترمه. تمرض أياما ومات يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة بدمشق. وكانت جنازته مشهودة، وحمل على الرؤوس.
موقفه من الجهمية:
جاء في البداية والنهاية: وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه -يعني من ذي الحجة سنة ست وسبعمائة- طلب أخوا الشيخ تقي الدين: شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان: سلار وحضر ابن مخلوف المالكي، وطال بينهم كلام كثير، فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع ادعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام وفي مسألة النزول. (1)
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 45).(7/438)
شيخ الإسلام ابن تيمية (1) (728 هـ)
إن يكن في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مجددون -وهم فيها- فمن أفضلهم شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، جدد الله به السنة وأمات به البدعة. أحيا ما اندثر من آثار السلف، ولم يكن من أصحاب الزوايا وأرباب الصوامع التكايا، ولكن كان إماما معلما، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر باليد واللسان والقلب. فتح الله به قلوبا غلفا، وآذانا صما، فجعل الله له ذكرا في الأولين والآخرين، وكان حقا من أئمة الدين، الذين يدعون إلى الحق وبه يعدلون، وأثمرت دعوته تلامذة أبرارا، حملوا رسالته ونشروا دعوته، وكانوا فحولا في الحفظ والفقه والدعوة إلى العقيدة السلفية. بذل نفسه في سبيل الله، وهانت عليه حتى مات في السجن في سبيل عقيدته السلفية.
وقد أشبع الباحثون في القديم والحديث شخصية الشيخ دراسة وبحثا، سواء منهم الأعداء أو المحبون، المسلمون أو الكافرون، حتى إنه بلغني أن جامعة باريز الغربية خصصت مستشرقا لدراسة شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد سجلت فيه رسائل علمية في عدة جامعات، ونيلت بها درجات علمية في الدكتوراه والماجستير. وقد كتب كثير من الكتاب في جزئيات من المسائل التي تناولها الشيخ في كثير من بحوثه وفتاواه، كالتصوف والتأويل والفلسفة وغير ذلك مما هو معروف. لكن ينبغي للقارئ أن يكون على حذر من هؤلاء الكتاب، فإن المُحْدثين منهم أكثرهم غير سلفيين، كصاحب
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 141 - 146) والرد الوافر (56 - 225) والوافي بالوفيات (7/ 15 - 33) وتذكرة الحفاظ (4/ 1496 - 1498) والدرر الكامنة (1/ 144 - 160) وشذرات الذهب (6/ 80 - 86) والبدر الطالع (1/ 63 - 72).(8/1)
'المدرسة السلفية' وهي رسالة علمية في جامعة الأزهر، فإنها من أخبث ما كتب عن الشيخ وقواعده السلفية. وإن أطال الله في العمر، ألقمته حجرا. ولعل بعض طلبة العلم النشيطين يسبقني إلى ذلك.
ونقول في التعريف به على وجه الاختصار: هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني شيخ الإسلام، أبو العباس، الإمام العالم المفسر الفقيه المجتهد الحافظ المحدث، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط. ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران. سمع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان وشمس الدين الحنبلي وابن أبي الخير وابن علان وخلق كثير، وقرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث واشتغل بالعلوم حتى صار من الأئمة الأعلام؛ كان عالما باختلاف العلماء، وأعرف الناس بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، متضلعا في الأصول والفروع والنحو واللغة، وله التصانيف الكثيرة.
قال الذهبي: وبرع في التفسير والحديث والاختلاف والأصلين، وكان يتوقد ذكاء، ما رأيت أسرع انتزاعا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارا لمتون الأحاديث وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو السنن، كأن ذلك نصب عينيه وعلى طرف لسانه. قال: وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الدين، ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة، فكان لا يشق فيها غباره، مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة، والفراغ عن ملاذ النفس.(8/2)
قال الحافظ المزي: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أتبع لهما منه.
وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد.
وقال ابن عبد الهادي: الشيخ الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين.
وقال ابن كثير: وبالجملة؛ كان -رحمه الله- من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضا مغفور له. توفي رحمه الله تعالى محبوسا في قلعة دمشق سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
• موقفه من المبتدعة:
فمن أقواله رحمه الله:
- اعلم أن هذه القاعدة وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها. وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة. بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح (نعمت البدعة هذه) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليست بمكروهة، أو هي حسنة، للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس؛ وربما يضم إلى ذلك(8/3)
من لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها، فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع: إما بأن يجعل ما اعتاد هو ومن يعرفه إجماعا، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} (1). وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها؛ والغرض: أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على حسن بعض البدع إما من الأدلة الشرعية الصحيحة، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين، أو المتأولين في الجملة. ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان:
أحدهما: أن يقولوا: إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح؛ بل قد يكون حسنا، فهذا مما يقوله بعضهم.
المقام الثاني: أن يقال عن بدعة معينة: هذه البدعة حسنة، لأن فيها من المصلحة كيت وكيت. وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة.
والجواب: أما القول: «إن شر الأمور محدثاتها، وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، والتحذير من الأمور المحدثات. فهذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، فلا
_________
(1) المائدة الآية (104).
(2) سيأتي تخريجه قريبا.(8/4)
يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم.
وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين: إما أن يقال: إن ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه. وإما أن يقال: ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص.
فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم، احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص، وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوي موجبا للنهي. ثم المخصص هو الأدلة الشرعية، من الكتاب والسنة والإجماع، نصا واستنباطا، وأما عادة بعض البلاد، أو أكثرها، أو قول كثير من العلماء، أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك، فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يعارض به. ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها، بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها، فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل، ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، وما يجوز دعوى الإجماع بعمل بلد، أو بلاد من بلاد المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟! وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم، مع ما أوتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترأسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم، لا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم(8/5)
فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل، عن غير روية، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكون فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين؟!
والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم، لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وقد يبدي ذو العلم والدين فيها مستندا آخر من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله بها وعمله لها ليس مستندا إلى ما أبداه من الحجة الشرعية، وإن كانت شبهة، وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ورسوله، من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان، وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره، ودفعا لمن يناظره.
والمجادلة المحمودة، إنما هي إبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل، فنوع من النفاق في العلم والجدل، والكلام والعمل.
وأيضا فلا يجوز حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» على البدعة التي نهى عنه بخصوصها، لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي، قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم، سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه، سواء كان مفعولا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن، وما نهى عنه، فهو منكر، سواء كان بدعة أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، لا يدل وجوده على القبح، ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله: «كل بدعة ضلالة» بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة. أو: كل ما عليه العرب أو(8/6)
العجم فهو ضلالة. ويراد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة .. وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ، وفيه من المفاسد أشياء. (1)
ثم ذكر هذه المفاسد من خمسة أوجه في المقام الأول في الرد عليهم ثم بسط القول في المقام الثاني إلى أن قال:
ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية، وهي قوله: «كل بدعة ضلالة» بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل، بل الذي يقال فيما ثبت أنه حسن من الأعمال التي قد يقال هي بدعة-: إن هذا العمل المعين -مثلا- ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث، أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا، الذي هو أقوى من العموم، مع أن الجواب الأول أجود. وهذا الجواب فيه نظر: فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصده -بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام. (2)
- وقال: وكذلك ما يحدثه بعض الناس: إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع -من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا (3). مع
_________
(1) الاقتضاء (2/ 582 - 586).
(2) الاقتضاء (2/ 587 - 588).
(3) هذا القول لا يسلم لشيخ الإسلام رحمه الله وقد رد عليه الشيخ حامد الفقي ضمن تعليقه على الاقتضاء ونقلنا رده هذا في مواقفه رضي الله عنه فلينظر هناك.(8/7)
اختلاف الناس في مولده- فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه. ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. (1)
- وقال: ودين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل.
وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس،
_________
(1) الاقتضاء (2/ 615 - 616).(8/8)
كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجا عن دين الإسلام. فكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم. (1)
- وقال: والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم، والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل. (2)
- وقال: وتارة يجعلون -يعني أهل الكلام- إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: (طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم)، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل؛ وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط.
ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرا للسلف -كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج- ولا تفسيقا لهم -كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم- كان تجهيلا لهم وتخطئة وتضليلا، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقا، فزعما: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة؛ ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة
_________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 189 - 190).
(2) مجموع الفتاوى (2/ 230).(8/9)
والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة -في الأعمال والأقوال والاعتقاد، وغيرها من كل فضيلة، أن خيرها-: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه (1)، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم؛ كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات. فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)، وقال غيره: (عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامنٌ لم يعلموه). (2)
- وقال: ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا يعتمدون لا على السنة، ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف إسماعيل الأصبهاني سنة (535هـ).
(2) مجموع الفتاوى (4/ 157 - 158).(8/10)
رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضا؛ إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة، وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار، فلا يلتفتون إليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (1)
- وقال: وأهل السنة في الإسلام؛ كأهل الإسلام في الملل؛ وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم؛ وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة؛ وأئمة أهل البدع، أضر على الأمة من أهل الذنوب. ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة، وأولئك لهم نهمة في العلم والعبادة؛ فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم -وهم يظنونها هدى، فيطيعونها- ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم. (2)
- وقال: فالمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة ولا يعذب، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فهو كافر، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين، وقواعد الإيمان التي اتفق
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 119).
(2) مجموع الفتاوى (7/ 284 - 285).(8/11)
عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة، ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام، كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم. وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس؛ ولكن يجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله. (1)
- وقال: ومن البدع المنكرة: تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم، كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك، فإن هذا عظيم لوجهين:
أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها، بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها. وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضا، فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر، كفر هؤلاء وهؤلاء. وإن قدر أنه لم يكفر لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء، فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى ولا تكفر طائفتها، هو من الجهل والظلم، وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2).
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 357).
(2) الأنعام الآية (159).(8/12)
والثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولا أخطأ فيه، فإن الله سبحانه قال: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) وثبت في الصحيح أن الله قال: «قد فعلت» (2) وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (3) وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان» وهو حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره. (4)
وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولا
_________
(1) البقرة الآية (286).
(2) أخرجه أحمد (1/ 233) ومسلم (1/ 116/126) والترمذي (5/ 206/2992) والنسائي في الكبرى (6/ 307/11059) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) الأحزاب الآية (5).
(4) أخرجه ابن ماجه (1/ 659/2045) من طريق الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: وقال البوصيري: "إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن عمير في الطريق الثاني -يشير إلى طريق الطحاوي والبيهقي والحاكم- وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس". وقال الحافظ في الفتح (5/ 201 - 202): "وأخرجه الفضل بن جعفر التيمي في فوائده بالإسناد الذي أخرجه به ابن ماجه ورجاله ثقات إلا أنه أعل بعلة غير قادحة فإنه من رواية الوليد عن الأوزاعي عن عطاء عنه، وقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعي فزاد (عبيد بن عمير) بين عطاء وابن عباس". وأخرجه أيضا الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 95) والدارقطني (4/ 170 - 171) وابن حبان (16/ 202/7219) والطبراني في الصغير (1/ 282/752) والبيهقي (7/ 356) والحاكم (2/ 198) وابن حزم في الأحكام (5/ 149) من طريق بشر بن بكر وأيوب بن سويد قالا: ثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس به. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي". والحديث حسنه النووي في الأربعين وأقره الحافظ في التلخيص الحبير (1/ 281) .. وقال البيهقي: "جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات". وللحديث شواهد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (2/ 64 - 65) وابن رجب في شرح الأربعين (361) والسخاوي في المقاصد الحسنة (228 - 230) وقال: "ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا".(8/13)
أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع. (1)
- وقال: فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين: الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعا لما أمر الله به، فلا يكون له مع أمر الله وحكمه هوى يخالف ذلك. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (2)، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (3) رواه أبو حاتم في صحيحه. وفي الصحيح أن عمر قال له: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من نفسي. قال: «الآن يا عمر» (4). وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (5) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 684 - 685).
(2) النساء الآية (65).
(3) سيأتي تخريجه في مواقف ابن كثير سنة (774هـ).
(4) أخرجه أحمد (4/ 233و336) والبخاري (11/ 641/6632).
(5) أخرجه أحمد (3/ 177و275) والبخاري (1/ 80/15) ومسلم (1/ 67/44) والنسائي (8/ 488/5028) وابن ماجه (1/ 26/67 من حديث أنس رضي الله عنه.(8/14)
وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (1)
فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله ويسلم له، ويكون هواه تبعا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدما على حب الإنسان نفسه وماله وأهله، فكيف في تحكيمه الله تعالى والتسليم له؟! (2)
- وقال: وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» متعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة، والمتصوفة، والمتعبدة؛ إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة. (3)
- وقال: فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه، ولا يستفتى ولا يصلى خلفه، قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا؛ إذ الهجرة
_________
(1) براءة الآية (24) ..
(2) مجموع الفتاوى (10/ 288).
(3) مجموع الفتاوى (10/ 370 - 371).(8/15)
مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله. (1)
- وقال: وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة. والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2)، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (3). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (4). وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى» (5). وفي الصحيح: «أنه قيل لعبد الله بن أبي أوفى: هل وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ قال: لا، قيل: فلم، وقد كتب الوصية على الناس؟
_________
(1) مجموع الفتاوى (10/ 376 - 377).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) الأعراف الآية (3).
(4) سيأتي تخريجه قريبا.
(5) أخرجه مسلم: (2/ 890/1218) وأبو داود (2/ 462/1905) وابن ماجه (2/ 1025/3074) كلهم من حديث جابر الطويل في حجة الوداع بلفظ " ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ ... ".(8/16)
قال: «وصى بكتاب الله» (1).
وقد قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3)، ومثل هذا كثير. وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضا، فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. (4)
- وقال: وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (5). فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 381) والبخاري (5/ 448/2740) ومسلم (3/ 1256/1634) والترمذي (4/ 376/2119) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (6/ 550/3622) وابن ماجه (2/ 900/2696).
(2) البقرة الآية (213).
(3) النساء الآية (59).
(4) درء التعارض (1/ 234 - 235).
(5) أحمد (3/ 310 - 311و319و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(8/17)
الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي، غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينصب لهم كلاما يوالى عليه ويعادى، غير كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. (1)
- وقال في مناظرته للبطائحية: وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (2). وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وفي رواية: «وكل ضلالة في النار» (3).
فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثا في ذم الزنا، فقلت: هذا
_________
(1) درء التعارض (1/ 272) ومجموع الفتاوى (20/ 164) بنحوه.
(2) تقدم تخريجه قريبا.
(3) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).(8/18)
حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقا يعتقدون تحريم ماهم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله. وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.
قلت مخاطبا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب: أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان كلما أتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - جلده الحد، فلعنه رجل مرة، وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله». (1) قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه.
وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما -دخل حديث بعضهم في بعض- أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين، كث
_________
(1) أخرجه البخاري (12/ 89/6780).(8/19)
اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل» وفي رواية: «شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه». (1)
قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله، خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر، أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز -يعني أتباع أحمد ابن الرفاعي-، فقلت منكرا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذا (2) الزرجنة تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله؟! فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 68و73) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064) وأبو داود (5/ 121 - 122/ 4764) والنسائي (5/ 92 - 93/ 2577).
(2) بالأصل "يا ذو" والصواب ما أثبتناه.(8/20)
الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب -فإن فيهم من الغلو، والشرك، والمروق عن الشريعة، ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم، أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف، حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم- وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم، {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} (1).
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتبا صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك. وأعيد الكلام: أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك. والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. (2)
- وقال: فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ. (3)
- وقال: فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علما يقينيا؛ وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم
_________
(1) هود الآية (55).
(2) مجموع الفتاوى (11/ 471 - 475).
(3) مجموع الفتاوى (8/ 425).(8/21)
للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك: مثل من كان سائرا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها، فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها، ولا يعرف منتهاها؛ وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك.
وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة؛ فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة، إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنا من كان، فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور مالا يحصيه إلا العليم بذات الصدور!! (1)
- وقال: وإنما المقصود هنا التنبيه على الجمل، فإن كثيرا من الناس يقرأ كتبا مصنفة في أصول الدين وأصول الفقه بل في تفسير القرآن والحديث ولا يجد فيها القول الموافق للكتاب والسنة الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، بل يجد أقوالا كل منها فيه نوع من الفساد والتناقض، فيحار ما الذي يؤمن به في هذا الباب؟! وما الذي جاء به الرسول، وما هو الحق والصدق، إذ لم يجد في تلك الأقوال ما يحصل به ذلك؟! وإنما الهدى فيما جاء به الرسول الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
_________
(1) مجموع الفتاوى (13/ 258 - 259).(8/22)
الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} (1).اهـ (2)
- وقال: ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في البيان، وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه: كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ ما يكون، وأتم ما يكون، وأعظم ما يكون بيانا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك. فمن وقر هذا في قلبه لم يقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (3). فنسأل الله أن يجعلنا وإخواننا ممن رفع درجاته من أهل العلم والإيمان. (4)
- وقال: فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. (5)
_________
(1) الشورى الآيتان (52و53).
(2) مجموع الفتاوى (17/ 102).
(3) المجادلة الآية (11).
(4) مجموع الفتاوى (17/ 129).
(5) مجموع الفتاوى (20/ 161 - 162).(8/23)
- وقال: ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا، أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به، مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة. (1)
- وقال: ويجب أن يعلم: أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه؛ بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام، فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين.
وقد أوجب الله على المؤمنين: الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته. (2)
- وقال: ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل، فتجد أتباع أرسطو طاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإلهيات، مع أن كثيرا منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه، مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البين ما لا ريب فيه؛ كما ذكر في غير هذا الموضع. وأما
_________
(1) مجموع الفتاوى (20/ 163).
(2) مجموع الفتاوى (20/ 164 - 165).(8/24)
كلامه وكلام أتباعه: كالإسكندر الأفروديسي، وبرقلس، وثامسطيوس، والفارابي، وابن سينا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم في الإلهيات، فما فيه من الخطأ الكثير، والتقصير العظيم، ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض ما لا يكاد يستقصى.
وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة، وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففيها أيضا من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله، كأتباع أبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام، وأبي القاسم الكعبي، وأبي علي، وأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، وأمثالهم.
وكذلك أتباع من هو أقرب إلى السنة من هؤلاء، كأتباع حسين النجار، وضرار بن عمرو، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي ناظر أحمد بن حنبل، ومثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي.
وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد ابن كلاب وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن كرام، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وغيرهم.
بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء، وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائما يجد في كلامهم ما يراه هو باطلا، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلا وعلما ودينا، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه، ولا تجد أحدا من هؤلاء يقول: إذا تعارض(8/25)
قولي وقول متبوعي قدمت قولي مطلقا، لكنه إذا تبين له أحيانا الحق في نقيض قول متبوعه، أو أن نقيضه أرجح منه قدمه، لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه. فكيف يجوز أن يقال: إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل؟! وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم رأيه على نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أنباء الغيب التي ضل فيها عامة من دخل فيها بمجرد رأيه، بدون الاستهداء بهدى الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الاضطراب. (1)
• موقفه من المشركين:
كان الشيخ رضي الله عنه معارضا للشرك ومظاهره، وكم له من الأيادي البيضاء في ذلك بالفعل وباللسان وبالقلم، وسأذكر نماذج من فعله بيده الشريفة ثم نعرج على ذكر المحنة.
- جاء في البداية والنهاية: وفي هذا الشهر بعينه -أي رجب-، راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما. وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم ولا
_________
(1) درء التعارض (1/ 151 - 155).(8/26)
بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه. (1)
- قال ابن كثير: وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقا منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع مؤيدا منصورا. (2)
- وجاء في الكواكب الدرية: (ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها) قالوا: لما كان سنة ست وعشرين وسبعمائة، وقع الكلام في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، وكثر القيل والقال بسبب العثور على جواب الشيخ الآتي، وعظم التشنيع على الشيخ، وحرف عليه، ونقل عنه ما لم يقله، وحصلت فتنة طار شررها في الآفاق، واشتد الأمر، وخيف على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار الشامية والمصرية، وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجبن منهم من كانت له همة.
وأما الشيخ رحمه الله فكان ثابت الجأش، قوي القلب، وظهر صدق توكله واعتماده على ربه.
ولقد اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ،
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 36).
(2) البداية (14/ 37).(8/27)
فقال أحدهم: ينفى. فنفي القائل.
وقال آخر: يقطع لسانه، فقطع لسان القائل. وقال آخر: يعزر، فعزر القائل.
وقال آخر يحبس فحبس القائل، أخبر بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها.
واجتمع جماعة آخرون بمصر، وقاموا في هذه القضية قياما عظيما، واجتمعوا بالسلطان، وأجمعوا أمرهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك، وأرضى خاطرهم بالأمر بحبسه.
فلما كان يوم الاثنين سادس شعبان من السنة المذكورة، ورد مرسوم السلطان بأن يكون في القلعة، وأحضر للشيخ مركوب، فأظهر السرور بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا ذلك، وهذا فيه خير عظيم، فركب إلى القلعة، وأخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له بما يقوم بكفايته.
وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور، قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد بذلك، وبمنعه من الفتيا ... (1)
ثم ذكر السؤال الذي وجه إلى الشيخ، وأجوبة الشيخ على السؤال، وهي معروفة بحمد الله فلا نطيل بنقلها.
وله من المواقف المنثورة في كتبه ما يشرف هذه المسيرة التاريخية:
- وقال رحمه الله في بيان ضلال ابن سينا: وابن سينا تكلم في أشياء
_________
(1) الكواكب الدرية (148 - 149).(8/28)
من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض ...
والمقصود هنا: أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة: كأرسطو وأتباعه، فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه ...
وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه. ومما أحدثه: مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود ونحو ذلك. (1)
- وقال: والمعنى الثالث، الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله، قالوا: نقول العالم محدث، أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته، فلم يزل معها، وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره: الحدوث الزماني. والتعبير بلفظ "الحدوث"
_________
(1) مجموع الفتاوى (9/ 133 - 135) باختصار.(8/29)
عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات، لا العرب ولا غيرهم، إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى. والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة، ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة على هذا القول، وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس.
وهذا القول، إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين، كابن سينا وأمثاله. وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه: أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه، ويقولون: إنه محدث، ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلا موجبا له بذاته، وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها، ثم جاء الذين أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أولى لغيرها، كما جعلها الفارابي وغيره، ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة، لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق، وإن كان لا شعور له ولا قصد، وجعلوه مدبرا بهذا الاعتبار -كما فعل ابن رشد وابن سينا- جعلوه موجبا بالذات لما سواه، وجعلوا ما سواه ممكنا. (1)
- وقال: وهذه الطرق التي أخذها ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ونحوهم، وخلطها بكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين. وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم،
_________
(1) درء التعارض (1/ 126 - 127).(8/30)
وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية.
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعالي فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} (1). ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن، مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك، كما صنفه الرازي وغيره في ذلك. (2)
- وقال: وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كالإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيدا، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم. ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم، ويمكن إظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم. فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور
_________
(1) المائدة الآية (54).
(2) درء التعارض (8/ 239).(8/31)
ترجيحه لقول القائلين بالقدم. وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب؛ فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد. وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه.
وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه. ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد، وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا. ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء. (1)
- وقال: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد: التوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من الممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات
_________
(1) درء التعارض (8/ 241 - 243).(8/32)
إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم إخراج الحوادث كلها عن فعله.
وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه: وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا. وهذا النفي الذي سموه توحيدا، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول. (1)
- وقال: وحدثني غير مرة رجل، وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين، أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي، وهو من أكابر أهل الكلام والنظر، دروسا من 'المحصل' لابن الخطيب، وأشياء من 'إشارات' ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير. وكان له نور وهدى، ورؤيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك.
و'إشارات' ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا، بخلاف 'المحصل' يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود. قال فكتبت عليه:
محصل في أصول الدين حاصله أصل الضلالات والشك المبين فما ... من بعد تحصيله أصل بلا دين
فيه فأكثره وحي الشياطين
قلت: وقد سئلت أن أكتب على 'المحصل' ما يعرف به الحق فيما
_________
(1) درء التعارض (8/ 246 - 247).(8/33)
ذكره، فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه. وكذلك تكلمت على ما في 'الإشارات' في مواضع أخر. (1)
- وقال: والمقصود هنا: أن 'الزنديق' في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينا من الأديان: كدين اليهود والنصارى أو غيرهم. أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة.
ومن الناس من يقول: 'الزنديق' هو الجاحد المعطل، وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس؛ ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه: هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره. وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة، فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان، بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (2)، وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (3).
_________
(1) المنهاج (5/ 433 - 434).
(2) التوبة الآية (37).
(3) النحل الآية (88).(8/34)
فهذا "أصل" ينبغي معرفته فإنه مهم في هذا الباب. فإن كثيرا ممن تكلم في "مسائل الإيمان والكفر" -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم؛ بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. ومن تدبر هذا، علم أن كثيرا من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنا مخطئا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون منافقا زنديقا، يظهر خلاف ما يبطن. (1)
- قال: فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه، مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (2).اهـ (3)
- وقال: وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته، أعني الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين. كما
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 471 - 472).
(2) البقرة الآية (165).
(3) مجموع الفتاوى (10/ 267).(8/35)
قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة ... (1)
- وقال: إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس عيون الخفافيش بالنهار. فاحذر مثل هؤلاء، وعليك بصحبة أتباع الرسل المؤيدين بنور الهدى وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية، العالمين العاملين {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (2).اهـ (3)
- وسئل عن 'كتب المنطق'. فأجاب: أما 'كتب المنطق' فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية. وقال بعض الناس: إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد. فهذا غلط عظيم عقلا وشرعا:
أما عقلا: فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني.
وأما شرعا: فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان.
وأما هو في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه
_________
(1) مجموع الفتاوى (9/ 186).
(2) المجادلة الآية (22).
(3) مجموع الفتاوى (11/ 697).(8/36)
أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء، وكانت سبب نفاقهم، وفساد علومهم.
وقول من قال إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية، وأقسام القياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع، وقد بين ذلك علماء المسلمين والله أعلم. (1)
- وقال: وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأمورا به إيجابا أو استحبابا، أو منهيا عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأمورا به ولا منهيا عنه.
وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح، فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها. فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها، لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم.
فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، ويسأل الله تعالى ويقسم عليه بالخنس الجوار الكنس، والليل إذا عسعس،
_________
(1) مجموع الفتاوى (9/ 269 - 270).(8/37)
والصبح إذا تنفس، ويسأل بالذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا، ويسأل بالطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفا، وسائر ما أقسم الله به في كتابه.
فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته. فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته ورحمته، وحكمته وعظمته وعزته. فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه. ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع. بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك؛ بل ذلك شرك منهي عنه.
ومن سأل الله بها، لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والتين، والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله؛ كالشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، والمسيح، والعزير، وغير ذلك مما عبد من دون الله، ومما لم يعبد من دونه.
ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات، أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام. ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالإقسام والعزائم التي تكتب في الحروز(8/38)
والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون؛ بل ويقال: إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم، والإقسام التي يقسم بها، على الجن مشروعة في دين الإسلام. وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام، بل ومن دين الأنبياء أجمعين.
وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم.
قيل له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض، فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها ندا لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل عليه، ولا يخشى، ولا يتقى، ولا يصام له، ولا يسجد له، ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت» (1) وقال: «لاتحلفوا إلا بالله» (2)، وفي السنن عنه أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (3).
فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين
_________
(1) أحمد (2/ 11 و17) والبخاري (11/ 649/6646) ومسلم (3/ 1266/1646 (3)) وأبو داود (3/ 569/3249) والترمذي (4/ 93/1534) والنسائي (7/ 7و8/ 3775) وابن ماجه (1/ 677/2094) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2) أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود (3/ 569/3248) والنسائي (7/ 8/3778) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن حبان (10/ 199/4357).
(3) أحمد (2/ 125) وأبو داود (3/ 570/3251) والترمذي (4/ 93 - 94/ 1535) وقال: "حديث حسن".
وصححه ابن حبان (10/ 199 - 200/ 4358) والحاكم (1/ 18) و (4/ 297) وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي.(8/39)
الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، ولا فرق بين نبي ونبي. (1)
- وقال: واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان:
صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة.
وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها -من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة- يزعمون أنها من ذات الله، وهؤلاء أشر قولا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه. ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد. وقد كفر الله النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد حتى في فرعون وهامان وقارون؟ وكلما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن الله ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة. (2)
- وقال: وتحرير القول فيه: إن الساب -أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان مسلما: فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. (3)
_________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 289 - 291).
(2) مجموع الفتاوى (4/ 221 - 222).
(3) الصارم المسلول (10).(8/40)
- وقال: أما من اقترن بسبه -أي الصحابة- دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرئيل في الرسالة؛ فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم -مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك- فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم؛ لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا عامتهم؛ فهذا لا ريب أيضا في كفره، لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا، فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (1)، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارا أو فساقا، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم
_________
(1) آل عمران الآية (110).(8/41)
بالاضطرار من دين الإسلام. ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه زنديق، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات، وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك، وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب، وما جاء فيه من الإثم والعقاب.
وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من تردد فيه. (1)
- وقال شيخ الإسلام رحمه الله: والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون: ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود، وهو واجب بنفسه. وهو القول الذي أظهره فرعون، لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الاسم، فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله، وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله، وأولئك يحسبون أن الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود، وأولئك لا يقولون هذا، وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق، وأولئك ليس لهم توجه إليه. وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه منها: العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر والسحاب والحيوان والنبات والمعدن، وغير ذلك من الصور والأعراض، فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة، ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت. فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة، ليست واجبة ولا ممتنعة. (2)
_________
(1) الصارم المسلول (590 - 591).
(2) درء التعارض (3/ 163 - 164).(8/42)
- وقال: وكلام ابن عربي صاحب 'فصوص الحكم'، وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يدور على ذلك لمن فهمه، ولكن يسمون هذا العالم الله. فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة، كفرعون وأمثاله، ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم، بخلاف أولئك. وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق، مع قولهم بالوحدة والاتحاد، كما رأينا منهم طوائف، مع ما دخلوا فيه من العلم والدين، لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه. وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم، ومن كان كذلك فهو أحد رجلين: إما مؤمن عليم، علم أن هذا يناقض الحق، وينافي دين الإسلام؛ فذمهم وعاداهم. وإما زنديق منافق، علم حقيقة أمرهم، وأظهر ما يظهرون، وكان من أئمتهم. فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون، الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار. والأول من أتباع الرسل والأنبياء، كآل إبراهيم، الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره. (1)
- وقال: ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء -أي الأشاعرة- يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له؛ فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من
_________
(1) درء التعارض (8/ 243 - 244).(8/43)
نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن؛ وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل. فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء، وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء؛ وأنه صحيح عندهم. (1)
- وقال: بل نقول قولا عاما كليا: إن النصوص الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعارضها قط صريح معقول، فضلا عن أن يكون مقدما عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معان متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقلية. (2)
- وقال: وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفه، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة
_________
(1) درء التعارض (1/ 6 - 8).
(2) درء التعارض (1/ 155 - 156).(8/44)
وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ (1)
- وقال: وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر، كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته، كمشكاة الأنوار وغيرها: أن الكواكب والشمس والقمر: هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك. (2)
- قال: إن كثيرا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة، ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين، هؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضا.
وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه، مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة، وغالية المتكلمة والمتصوفة، أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى. (3)
- وقال: إذ صاحب كتاب 'مشكاة الأنوار' إنما بنى كلامه على
_________
(1) درء التعارض (1/ 157 - 158).
(2) درء التعارض (1/ 315).
(3) مجموع الفتاوى (12/ 496 - 497).(8/45)
أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى بن عمران النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل "خلع النعلين" الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة، وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي. وهو من جنس قول من يقول: إن النبوة مكتسبة، ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة، فكان السهروردي المقتول يقول: لا أموت حتى يقال لي: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (1) وكان ابن سبعين يقول: لقد زَرَب ابن آمنة حيث قال: «لا نبي بعدي»، ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك، أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه في: 'خلع النعلين، واقتباس النور من موضع القدمين' من مثل هذا الكلام. ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى، كما فعل صاحب 'الفصوص' ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق.
وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع، لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين، بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع، فإن نفور الجمهور عن مذهب الرافضة مما نفر الجمهور عن
_________
(1) المدثر الآية (2).(8/46)
مثل هؤلاء، بخلاف جنس أهل الفقر والزهد، ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصوف وفقير وناسك وغير هؤلاء، فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة، يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفى من إلحاد ملاحدة الشيعة، وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم، كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال للعفيف التلمساني: أنت نصيري، فقال: نصير جزء مني. والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا. (1)
- وقال: فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به: تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به، وألحد في أسماء الله وآياته.
وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة، الذين ذمهم السلف والأئمة، لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد، بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع -الذين هم أبعد عن السنة منهم- بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول، وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول، فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان، ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد، وأخذوا يقولون إنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات، وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده -تكذيبا أو تأويلا أو تفويضا- لأنها أصل السمعيات.
وإذا حقق الأمر عليهم، وجد الأمر بالعكس، وأنه لا يتم الإيمان
_________
(1) درء التعارض (1/ 317 - 319).(8/47)
بالرسول والجهاد لأعدائه، إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات، وتبين أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول، لا يناقضه ولا يعارضه، وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة، وينقطع الكفار، فتحصل مطابقة العقل للسمع، وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد، ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول، واتباع صريح المعقول، والتمييز بين البينات والشبهات. (1)
- وقال رحمه الله: ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف -بعضهم مع بعض- تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام الأكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدث، الذي ذمه السلف والأئمة، وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله: "أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام". ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء، ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة، مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن بمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطعن في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا، فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لظنه أنه بهذا
_________
(1) درء التعارض (1/ 373 - 374).(8/48)
الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي. وإذا أمعن النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول، وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول، ولهذا قال من قال من الأئمة: (قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق، وكان في قلبه غل على أهل الإسلام) بل قالوا: (علماء الكلام زنادقة). (1)
- وقال في كلام أهل الكلام المذموم: يطولون في الحدود والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه، ثم يكون ما طولوا به مانعا من التعريف والبيان، فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق، فلم يصل إلى مكة. (2)
- وقال: والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعون أن كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات، هذا اضطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات، بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته، ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة، تورطوا معهم في مجاراتهم، وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا.
والفلسفة هي باطن الباطنية، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء من نوع من الإلحاد، في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه. (3)
_________
(1) درء التعارض (2/ 205 - 206).
(2) درء التعارض (3/ 191 - 192).
(3) درء التعارض (3/ 269).(8/49)
- وقال: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم، ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين، ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا، والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا، بكلام فيه تلبيس وتدليس. (1)
- وقال رحمه الله -يبين أن الرد على أهل الباطل من أعظم الجهاد-: والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم، وبين ضلالهم، كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. (2)
_________
(1) درء التعارض (3/ 427).
(2) درء التعارض (4/ 206).(8/50)
- وقال رحمه الله -يبين أن عامة أهل الكلام مقلدة-: فمن تبحر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين به أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت معرفة الرجل بذلك، عظمت موافقته للرسول.
ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوما كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع من العلوم: إما طبيعية كالحساب والطب، وإما شرعية كالفقه مثلا. وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك، وهي أعظم المطالب، وأجل المقاصد، فخاضوا فيها بحسب أحوالهم، وقالوا فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة، لعل كثيرا من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات، ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم فيها.
وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم، وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم، يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام، وأمثاله من اليونان بكلام، وأبى الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام، ويبقى ذلك الكلام دائرا في الأتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه. وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذا حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر، ولا وقعوا له على عين ولا أثر. وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة. وكذلك النصارى(8/51)
تعظم ما هو من هذا الباب. وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون: الصفات الذاتية والعرضية، والمقوم والمقسم، والمادة والهيولي، والتركيب من الكم ومن الكيف، وأنواع ذلك من العبارات، عظمها قبل أن يتصور معانيها، ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم. ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله، ويسمونها عقليات، وإنما هي عندهم تقليديات، قلدوا فيها ناسا يعلمون أنهم ليسوا معصومين، وإذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك، بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة، ثم يعارض ما تبين لعقله فيقول: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل، أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفى عليه مثل هذا؟! أو أن يقول مثل هذا؟! وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (1) قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز، ورضوا بقبول قول لا يعلمون حقيقته، وهو مع هذا يقبل أقوالا لا يعلم حقيقتها، وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون.
وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة -ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم، وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم- إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به، فر إلى التقليد، ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر
_________
(1) النجم الآية (4).(8/52)
يدعو إلى النظر والمناظرة، والاعتصام بالعقليات، والإعراض عن الشرعيات. ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)} (1). وكما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} (2). وكما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} (3). وكما قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} (4). وكما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} (5)
وكما قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ
_________
(1) الحج الآية (3).
(2) الحج الآية (8).
(3) الأنعام الآية (110).
(4) الفرقان الآية (44).
(5) الفرقان الآيتان (27و29) ..(8/53)
يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} (1). وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء. ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا، وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر، إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه بموافقة ذلك المتبوع، لتناقض أوامره. بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد، في المعاش والمعاد، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (2).اهـ (3)
- وقال: فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم، يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى،
_________
(1) الأحزاب الآيات (66 - 68).
(2) النساء الآية (82).
(3) درء التعارض (5/ 315 - 318).(8/54)
-كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة، كابن الخطيب وابن سينا وابن عربي وأمثالهم- خيرا من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب الذي ليس فيه كذب في نفسه، -وإن كانت نسبته إلى الله كذبا، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا الجليل- عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيرا من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه ولا فساد، بل يضحك المستمع كما يضحك الناس من أمثاله. وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسوله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا -إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل. (1)
- وقال: وهم فيما خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص، في حيرة وشبهة وشك، من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات إقدامهم، كان في حيرة وشك، ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء، فهو يدع تقليد النبي المعصوم، وإجماع المؤمنين المعصوم، ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة، الذين هم في شك وحيرة، ولهذا لا يوجد أحد من
_________
(1) درء التعارض (5/ 364 - 365).(8/55)
هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك، وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه، فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما، لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام، أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة، وعقائد غير مطابقة، وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية، وأدلة يقينية، فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها، ويبينون أنها شبهات فاسدة، وحجج عن الحق حائدة.
وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء، بخلاف أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتبعين له، فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول، هو الموافق لصريح المعقول، وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض. (1)
- وقال: وهذا موجود في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة: متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوها، وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والإلهية القول الذي هو الحق، بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها، إما أن يكون الكل خطأ، وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة، مثل إطلاق القول بإثبات الصانع، وأنه لا إله إلا هو، وأن محمدا رسول الله، لكن لا يعطون هذا القول حقه: لا تصورا ولا تصديقا، فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك، ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق، وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها، بل قد لا يحتاج إليها. وأما المطالب العالية، والمقاصد السامية، من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم
_________
(1) درء التعارض (7/ 283 - 284).(8/56)
الآخر، فلا يعرفونه كما يجب، وكما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول. (1)
- وقال: ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين -بني عبيد الباطنية- كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقا وإلحادا في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسبا ودينا، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل. وقولهم في الصفات صريح قول جهم، بل وشرا منه، وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم، تلقيا عن سلفهم الدهرية، وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع، فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فأصحاب 'الإشارات'، هم من جنس هؤلاء، لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد. (2)
- وقال في رده على مذهب الرازي ومن سار عليه: فيقال: من العجائب، بل من أعظم المصائب، أن يجعل مثل هذا الهذيان برهانا في هذا المذهب، الذي حقيقته أن الله لم يخلق شيئا، بل الحوادث تحدث بلا خالق، وفي إبطال أديان أهل الملل وسائر العقلاء من الأولين والآخرين. لكن هذه الحجج الباطلة وأمثالها لما صارت تصد كثيرا من أفاضل الناس وعقلائهم وعلمائهم عن الحق المحض الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول، بل تخرج أصحابها عن العقل والدين، كخروج الشعرة من العجين، إما بالجحد
_________
(1) درء التعارض (9/ 67 - 68).
(2) درء التعارض (10/ 60 - 61).(8/57)
والتكذيب، وإما بالشك والريب؛ احتجنا إلى بيان بطلانها، للحاجة إلى مجاهدة أهلها، وبيان فسادها من أصلها، إذ كان فيها من الضرر بالعقول والأديان، ما لا يحيط به إلا الرحمن. (1)
- وقال: والولي على أصله الفاسد -يعني ابن عربي- يأخذ عن الله بلا واسطة، لأنه يأخذ عن عقله، وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة، إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي، والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا للمخلوقات، بل هو وجود مطلق، أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله، أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية، وقد يقولون: هو وجود المخلوقات أو حال فيها، أو لا هذا ولا هذا. فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي: النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية، ويسمونها القوة القدسية، فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة. وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله، وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة، وهؤلاء -يعني الروافض- يعظمون أمر الإمامة، حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء، والإمام أعظم من النبي، كما يقوله الإسماعيلية. وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا، ويقولون: إنه يختص بقوة قدسية، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي، ويزعمون أن النبوة مكتسبة، وهؤلاء يقولون:
_________
(1) المنهاج (1/ 259).(8/58)
إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات، من حصلت له فهو نبي: أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم، وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولي العالم، وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله، ومرئيا في نفسه، ومسموعا في نفسه. هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة، وعنه أخذ ذلك الغزالي في كتبه 'المضنون به على غير أهلها'. (1)
- وجاء في مجموع الفتاوى: وحدثني الثقة أنه قرأ عليه 'فصوص الحكم' لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين. فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول، وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه: هذا أيضا هو ذات الله؟ فقال: وهل ثم شيء خارج عنها؟ نعم، الجميع في ذاته.
وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدا فينافقه، فلم يثبت الخالق وإن كان في الباطن مقرا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض، والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار كما قال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ
_________
(1) المنهاج (8/ 22 - 24).(8/59)
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} (1).
وأما هؤلاء، فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال، يحسبون أنهم على حق وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندا مظهرا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جهال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر. وحدثني الشيخ "عبد السيد" الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلاما، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له: الشرف البلاسي يطلب منه المعرفة والعلم. قال: فدعاني إلى هذا المذهب، فقلت له: قولكم يشبه قول فرعون. قال: ونحن على قول فرعون. فقلت لعبد السيد: واعترف لك بهذا؟ قال: نعم، وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب فقلت له: هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون فحدثني بهذا، فقلت له: ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يحتاج إلى بينة، قال عبد السيد: فقلت له: لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون فقال: ولم؟ قلت: لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد -وكان هذا قبل أن يسلم-: نفعتك اليهودية يهودي خير من فرعوني. (2)
_________
(1) النمل الآيتان (13و14).
(2) مجموع الفتاوى (13/ 186 - 188).(8/60)
كلمة الشيخ في تائية ابن الفارض:
جاء في نقض المنطق: وابن الفارض -من متأخري الاتحادية- صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك. الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد. (1)
? التعليق:
هذه القصيدة اليوم، هي قرآن كثير من المتصوفة، ينشدونها في محافلهم وموالدهم وأمكنة بدعهم، ويعتبرون ذلك من أعظم الذكر، وأحيانا يرفقونها باسم الله على حسب تغنيهم.
- وله رسالة بعنوان 'الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم' تكلم فيها عن ابن عربي وكتبه وأصحابه. وقد لخصه التقي الفاسي في كتابه 'العقد الثمين' ومن تلخيصه أنقل: قال الفاسي: ثم قال ابن تيمية: فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو 'فصوص الحكم' وأمثاله، مثل صاحبه الصدر القونوي التلمساني، وابن سبعين، والششتري، وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما تتصف به المخلوقات من
_________
(1) نقض المنطق (ص.62).(8/61)
حسن وقبيح، ومدح وذم، إنما المتصف به عندهم عين الخالق.
ثم قال ابن تيمية: ويكفيك بكفرهم أن من أخف أقوالهم: إن فرعون مات مؤمنا بريئا من الذنوب، كما قال -يعني ابن عربي-: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرا مطهرا، ليس فيه شيء من الخبث قبل أن كتب عليه شيء من الآثام، والإسلام يجب ما قبله. وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق.
واستدل ابن تيمية على ذلك بما تقوم به الحجة، ثم قال: فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس والجن، أو من هو من أعظم أعدائه، فجعلوه مصيبا محقا فيما كفره به الله، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم؟
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه حال في كل مكان، فكان مما أنكروه عليهم، أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فكيف من جعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟
ثم قال ابن تيمية: وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن أولئك غاية كفرهم أن جعلوه مثل المخلوقات، لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة، وهؤلاء جعلوه عين المحدثات، وجعلوه نفس المصنوعات، ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بها كل فاجر وكافر وكل شيطان، وكل سبع(8/62)
وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم، ثم قال: وهؤلاء يقولون إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم حيث قالوا: إن الله هو المسيح، فكل ما قالته النصارى في المسيح يقولونه في الله سبحانه وتعالى، ومعلوم شتم النصارى لله وكفرهم به، وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء، ولما قرأوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم، قال له قائل: إن هذا الكتاب يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا هذا، يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد، وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد، فقال له قائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي؟ قال: لا فرق، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم، وهؤلاء إذا قيل: مقالتهم إنها كفر، لم يفهم هذا اللفظ حالها، فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، بل كفر كل كافر جزء من كفرهم، ولهذا قيل لرئيسهم: أنت نصيري، قال: نصير جزء مني.
ثم قال ابن تيمية: وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالاضطرار من دين المسلمين، أن من قال عن أحد من البشر: إنه جزء من الله، فإنه كافر في جميع الملل، إذ النصارى لم تقل هذا، وإن كان قولهم من أعظم الكفر، لم يقل أحد إن عين المخلوقات هي أجزاء الخالق، ولا إن الخالق هو المخلوق، ولا إن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار بين جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا(8/63)
عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) واستدل على ذلك بآيات أخر.
ثم قال: فمن قال: إن عباد الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها أكفر من اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها، مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حين عبد، فإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوة المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، بل هو أعظم كفرا من كفر عباد الأصنام، فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2) وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ
_________
(1) الممتحنة الآية (4).
(2) الزمر الآية (3).(8/64)
كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} (1).
وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالق الأصنام كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (2). واستدل على ذلك بغير هذه الآية.
ثم قال: وهؤلاء أعظم كفرا من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدا لله لا عابدا لغيره، وأن الأصنام من الله تعالى بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان، ومنزلة قوى النفس من النفس، وعباد الأصنام اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة. ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب كانوا مقرين بأن للسماوات والأرض ربا غيرهما هو خالقهما، وهؤلاء ليس عندهم للسماوات والأرض وسائر المخلوقات مغاير للسماوات والأرض وسائر المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق. ولهذا جعل أهل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم، وجعلهم في القرب، وجعل أهل النار يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله تعالى قصته من أعداء الله تعالى، وأنهم معذبون في الآخرة، وأن الله لعنهم وغضب عليهم، فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم فهو أكفر من اليهود والنصارى.
وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم،
_________
(1) الزمر الآية (43).
(2) الزمر الآية (38).(8/65)
فإنهم من جنس القرامطة الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل ...
وفي كتبه مثل الفتوحات المكية وأمثالها من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب، ثم قال: لم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر، ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لا يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتشيعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم، ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقا منافقا أو جاهلا ضالا، وهكذا هؤلاء الاتحادية، فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهم الذين يبهمون قولهم ومخالفتهم لدين الإسلام، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم وأخذ يعتذر عنهم أو لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، ومن قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشائخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا، ويصدون عن سبيل الله، فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم، كقطاع الطرق، وكالتتار الذين يأخذون أموالهم ويبقون على دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أطم(8/66)
وأعظم من أن يوصف.
ثم قال: ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم عرف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم وجعل منهم، وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رؤوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيا، فإنه يعرف كذب نفسه فيما قال، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا، فهو أكفر من النصارى. (1)
? التعليق:
لله درك يا شيخ الإسلام، ما أحسن هذه الأحكام النابعة عن علم واستقراء، لا عن جهل وعاطفة. فإن هؤلاء الذين وصفت حالهم وبينت لنا وللمسلمين وحكامهم كيف ينبغي أن نتعامل معهم. فإن كتبهم ملأت أسواق المسلمين، ومكتباتهم، وصار الرجل يوصي صاحبه باقتناء 'الفتوحات المكية' و'فصوص الحكم' بل كتب ذلك في الجرائد والمجلات. فلا أدري متى ينتبه المسلمون من هذه الغفلة، ومتى يخرجون من هذه الجهالة العمياء، يلقبون هذا الزنديق بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. وكل ما ورد من ألفاظ كفرية أولوها وزعموا أنهم هم أصحاب الذوق.
- وقال في حديثه عن القبوريين: وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستنزلهم عن إخلاص الدين لله إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة والرجاء لغير الله، والرغبة إليه ويشدون الرحال:
_________
(1) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (2/ 279 - 283).(8/67)
إما إلى قبر لنبي أو صاحب أو صالح. أو من يظن أنه نبي، أو صاحب أو صالح. داعين له راغبين إليه. إلى أن قال: ومن أكابرهم من يقول: (الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان -مع استدبار الكعبة- قبلة الخاصة) وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين. (1)
- وقال: من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء. وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة. وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار (2)، إذ الغرض القاعدة الكلية، وإن كان تحريم ذلك ذكره غير واحد من علماء الطوائف: من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا. (3)
- وقال: ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرا أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين، أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر، وبإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع هذا لأمته.
_________
(1) الاقتضاء (2/ 841 - 843).
(2) وقد ذكر رحمه الله بعضها قبل هذا، فلتنظر هنالك.
(3) الاقتضاء (1/ 295).(8/68)
وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها: أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يشفع له، أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين.
وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا قبر الخليل، ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم؛ بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين. (1)
- وقال: وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء. فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة، لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فعلها الصحابة، لا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عند غيره، وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك.
_________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 161 - 162).(8/69)
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرما منهيا عنه، ولكان صاحبه متعرضا لغضب الله ولعنته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (1) وقال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا» (2). وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (3).
فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت، والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات، وقضاء الحاجات، وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم. (4)
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 246) وابن سعد (2/ 241 - 242) وأبو يعلى (12/ 33 - 34/ 6681) والحميدي (2/ 445/1025) وأبو نعيم (7/ 317) كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وتمامه: لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (25) وأورد له شاهدين مرسلين: الأول عن زيد بن أسلم، والآخر عن عطاء. قال ابن عبد البر تعليقا على مرسل عطاء في التمهيد (فتح البر: 1/ 281): "فهذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات".
(2) أحمد (2/ 284) والبخاري (1/ 700/437) ومسلم (1/ 376/530) وأبو داود (3/ 553/3227) والنسائي (4/ 401/2046) وفي الكبرى (4/ 257/7092) من طرق عن أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (1/ 377 - 378/ 532) من حديث جندب بن عبد الله.
(4) مجموع الفتاوى (1/ 166 - 167).(8/70)
- وقال: وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة؛ فهذا لا نعرفه قولا لأحد. وبعده قول من يقول: ما ثم عذاب أصلا وإنما هو تخويف لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة والكفار. وربما احتج بعضهم بقوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} (1) فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفا إذا كان هناك مخوف يمكن وقوعه بالمخوف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له، كما توهم الصبي الصغير. ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخوف للعقلاء المميزين، لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف، وهذا شبيه بما تقول "الملاحدة" المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له، فإنما يعلق لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريقة. و"هذا القول" مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل؛ فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، فتنكشف
_________
(1) الزمر الآية (16).(8/71)
أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن، حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون.
فلو كان -والعياذ بالله- دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزوما لطاعة أمره -سرا وعلانية- ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه وبه أخص وبباطنه أعلم -كأبي بكر وعمر كانوا أعظمهم لزوما للطاعة سرا وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم، باطنا وظاهرا، وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور واجبا على السالك حتى يصير عارفا محققا في زعمهم؛ وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (1) زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، واليقين هنا الموت، وما بعده، كما قال تعالى عن أهل النار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} (2).اهـ (3)
- وقال: وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولا الطاعة والمعصية، ثم
_________
(1) الحجر الآية (99).
(2) المدثر الآيات (45 - 48).
(3) مجموع الفتاوى (7/ 501 - 503).(8/72)
شهد طاعة بلا معصية -يريد بذلك طاعة القدر- كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، فقال: إن كان عصى الأمر، فقد أطاع الإرادة. ثم ينتقلون "إلى المشهد الثالث" لا طاعة ولا معصية، وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان. وفيها من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب. (1)
- وقال: و'المتفلسفة' أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم، فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئا نزرا قليلا، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط والجهل المركب؛ فإن كلامهم في الطبيعيات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. فإن كلامهم في "واجب الوجود" ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في "العقول" و"النفوس" التي تزعم أتباعهم من أهل الملل، أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل؛ وليس الأمر كذلك، بل
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 504).(8/73)
زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه -لكنه معلول له- وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله، بكثير كثير. (1)
- وقال: وأما قول الشاعر:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى فشاهد حقا حين يشهده الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر
بأن صلاة العارفين من الكفر
فهذا الكلام -مع أنه كفر- هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب؛ هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة؛ حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين، لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان. (2)
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 586 - 587).
(2) مجموع الفتاوى (2/ 343).(8/74)
- وقال: وأما 'الإيمان بالرسول' فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه؛ ولهذا كان ركنا الإسلام: 'أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله'. ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق. والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد- تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به والعبادة له؛ فالنفاق يقع كثيرا في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته. والكفر: هو عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب أو استكبار، أو إباء أو إعراض؛ فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر. ثم هنا "نفاقان": نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة-.
فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه: فأن لا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر -علما وعملا- وأنه يجوز تصديقه وطاعته؛ لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدا، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته؛ إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر، كما هو قول الصابئة الفلاسفة في هذه المسألة وفي غيرها؛ فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض؛ بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذبا؛ بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أو طاعة ملك؛ وهذا(8/75)
دين التتار ومن دخل معهم.
أما النفاق الذي هو دون هذا، فأن يطلب العلم لله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يبتلى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة، فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك، بل يسلكون مسلكا آخر: إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد؛ وإما من جهة التقليد؛ وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه؛ فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطنا وظاهرا بأن محمدا أكمل الخلق، وأفضل الخلق، وأنه رسول، وأنه أعلم الناس، لكن إذا لم يوجبوا متابعته وسوغوا ترك متابعته كفروا، وهذا كثير جدا لكن بسط الكلام في حكم هؤلاء له موضع غير هذا. (1)
- وقال: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله، فيسمون بعضهم عبد الكعبة، كما كان اسم عبد الرحمن بن عوف، وبعضهم عبد شمس كما كان اسم أبي هريرة، واسم عبد شمس بن عبد مناف، وبعضهم عبد اللات، وبعضهم عبد العزى وبعضهم عبد مناة وغير ذلك مما يضيفون فيه التعبيد إلى غير الله، من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك مما قد يشرك بالله.
ونظير تسمية النصارى عبد المسيح. فغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وعبدهم لله وحده، فسمى جماعات من أصحابه: عبد الله وعبد الرحمن، كما سمى عبد الرحمن بن عوف ونحو هذا، وكما سمى أبا معاوية وكان اسمه عبد العزى
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 638 - 640).(8/76)
فسماه عبد الرحمن، وكان اسم مولاه قيوم فسماه عبد القيوم.
ونحو هذا من بعض الوجوه ما يقع في الغالية من الرافضة ومشابهيهم الغالين في المشائخ، فيقال هذا غلام الشيخ يونس أو للشيخ يونس أو غلام ابن الرفاعي أو الحريري ونحو ذلك مما يقوم فيه للبشر نوع تأله، كما قد يقوم في نفوس النصارى من المسيح، وفي نفوس المشركين من آلهتهم رجاء وخشية، وقد يتوبون لهم، كما كان المشركون يتوبون لبعض الآلهة، والنصارى للمسيح أو لبعض القديسين.
وشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده: تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية، والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، وعامة ما سمى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، عبد الله وعبد الرحمن. كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (1) فإن هذين الاسمين هما أصل بقية أسماء الله تعالى. وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى، وكذلك أهل بيتنا؛ غلب على أسمائهم التعبيد لله، كعبد الله؛ وعبد الرحمن، وعبد الغني؛ والسلام؛ والقاهر؛ واللطيف؛ والحكيم؛ والعزيز؛ والرحيم؛ والمحسن؛ والأحد؛ والواحد، والقادر؛ والكريم؛ والملك؛ والحق. وقد ثبت في صحيح مسلم عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحب الأسماء
_________
(1) الإسراء الآية (110).(8/77)
إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة» (1) وكان من شعار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه في الحروب: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، كما قالوا يوم بدر؛ وحنين؛ والفتح؛ والطائف؛ فكان شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. (2)
- وقال: فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة، إلا ولا بد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (3). والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين أهل العلم والإيمان، والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب: الذين إذا ذكروا بآيات ربهم يخرون عليها صما وعميانا، ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب: الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. فهذا أحد الوجهين وهو منع أن تكون هذه من المتشابه. (4)
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 24) ومسلم (3/ 1682/2132) وأبو داود (5/ 236/4949) والترمذي (5/ 121/2833) وحسنه. وابن ماجه (2/ 1229/3728) من حديث ابن عمر.
(2) مجموع الفتاوى (1/ 378 - 380).
(3) النساء الآية (82).
(4) مجموع الفتاوى (13/ 305).(8/78)
- وقال رحمه الله في أبي معشر البلخي: وأبو معشر البلخي له 'مصحف القمر' يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه. (1)
- وقال في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} (2): بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شركة لهم، ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير، لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق، كما يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة: استوح الشيخ فلانا فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناد: يا شيخ، تقضى حاجتك. وهذا غلط لا يحل فعله، وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا، فذلك شيطان يمثل له، كما وقع مثل هذا لعدد كثير. ونظير هذا، قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره: كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده.
والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، -ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت-، فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ. وهذا كلام أهل الشرك والضلال، فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا
_________
(1) مجموع الفتاوى (17/ 507).
(2) سبأ الآية (22).(8/79)
يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه. (1)
- وقال في استعانة الإنس بالشياطين: والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه، وخلقه وبدنه وماله. والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام، وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم، فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالا ليقتل من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة. ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله -بالنجاسة- وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما -غيرهما- إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة. ويكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم: إما تغوير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك. وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومن وقعت له ممن أعرفه، ما يطول حكايته، فإنهم كثيرون جدا. (2)
- وقال: والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة
_________
(1) مجموع الفتاوى (18/ 322 - 323).
(2) مجموع الفتاوى (19/ 34 - 35).(8/80)
على غير الوجه الشرعي، ولهم أحيانا مكاشفات، ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التي نهي عن الصلاة فيها، لأن الشياطين تتنزل عليهم بها، وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الأصنام، وتعينهم في بعض المطالب كما تعين السحرة، وكما تعين عباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر والكواكب، إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها، من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك، فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب، وقد تقضي بعض حوائجهم، إما قتل بعض أعدائهم أو إمراضه، وإما جلب بعض من يهوونه، وإما إحضار بعض المال، ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع، بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع. (1)
- وقال: وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل، وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا، وأن الحق بين جمود الحنابلة وبين انحلال الفلاسفة، وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك، ثم ينظر في السمع: فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا. وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق.
وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب: سلك مسلك التخييل،
_________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 41 - 42).(8/81)
وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم، مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة.
وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا: إنهم كذبوا للمصلحة.
وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق، وأنهم بينوه، مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه، فمن قال: إنهم كذبوا للمصلحة، فهو من إخوان المكذبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول: كذبوا لطلب العلو والفساد، بل قال: كذبوا لمصلحة الخلق، كما يحكى عن ابن التومرت وأمثاله.
ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حسن القصد، فإن النبي يقصد الخير، والساحر يقصد الشر، وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد، والنبي عندهم يكذب للمصلحة، إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب. (1)
- وقال: قد تدبرت عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكدر، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع
_________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 157 - 158).(8/82)
كثرتها واضطرابها. (1)
- وقال: فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية، لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف أقوال أهل البدع القولية فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين، فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل وهم أبعد عن متابعة الرسول. ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعي الإلهية والحلول والاتحاد، ومن يدعي أنه أفضل من الرسول وأنه مستغن عن الرسول، وأن لهم إلى الله طرقا غير طريق الرسول، وهذا ليس من جنس بدع المسلمين، بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة ونحوهم، وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين، وهؤلاء يدعون أنهم أولياء الله مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكفر من اليهود والنصارى، وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول، بل عند طائفة منهم أن أهل الصفة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك، وعند آخرين أن الرسول أمر أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم، وأنهم لم يأذنوا له وقالوا: اذهب إلى من أرسلت إليهم، وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول: خويدمكم جاء ليسلم عليكم، فجبروا قلبه وأذنوا له بالدخول. فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودي ولا نصراني يقر بأنه رسول الله إلى الأميين، يقولون: إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به، واعترف أنهم خواص الله، وأن الله يخاطبهم بدون الرسول، لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه، ويحتجون بقصة الخضر مع
_________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 232 - 233).(8/83)
موسى، وهي حجة عليهم لا لهم، من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر. (1)
- وقال: والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع، وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة؛ فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه، أو ناقصا لا يحصل المقصود، وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها، وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة، وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم. (2)
- وقال: ونوح عليه السلام أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيح (3)، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل، وكلا المرسلين بعث إلى مشركين يعبدون هذه الأصنام التي صورت على صور الصالحين من البشر، والمقصود بعبادتها عبادة أولئك الصالحين.
وكذلك المشركون من أهل الكتاب ومن مبتدعة هذه الأمة وضلالها هذا غاية شركهم، فإن النصارى يصورون في الكنائس صور من يعظمونه
_________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 275 - 276).
(2) درء التعارض (8/ 238).
(3) أحمد (3/ 116) والبخاري (13/ 519 - 520/ 7440) ومسلم (1/ 180 - 181/ 193) وابن ماجة (2/ 1442 - 1443/ 4312) من حديث أنس رضي الله عنه.(8/84)
من الإنس غير عيسى وأمه: مثل مارجرجس وغيره من القداديس، ويعبدون تلك الصور، ويسألونها ويدعونها ويقربون لها القرابين، وينذرون لها النذور، ويقولون: هذه تذكرنا بأولئك الصالحين. والشياطين تضلهم كما كانت تضل المشركين: تارة بأن يتمثل الشيطان في صورة ذلك الشخص الذي يدعى ويعبد، فيظن داعيه أنه قد أتى، أو يظن أن الله صور ملكا على صورته، فإن النصراني مثلا يدعو في الأسر وغيره مارجرجس أو غيره فيراه قد أتاه في الهواء، وكذلك آخر غيره، وقد سألوا بعض بطارقتهم عن هذا كيف يوجد في هذه الأماكن، فقال: هذه ملائكة يخلقهم الله على صورته تغيث من يدعوه، وإنما تلك شياطين أضلت المشركين.
وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة، فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، أو يستغيث به عند قبره ويسأله، وقد ينذر له نذرا ونحو ذلك، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلمه ببعض ما سأله عنه، ونحو ذلك فيظنه الشيخ نفسه أتى إن كان حيا، حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له. هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال قال: هذا ملك صوره الله على صورتي. وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابا، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث(8/85)
الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيث بهم.
ولهذا أعرف غير واحد من الشيوخ الأكابر الذين فيهم صدق وزهد وعبادة لما ظنوا هذا من كرامات الصالحين صار أحدهم يوصى مريديه يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث بي، وليستنجدني وليستوصني، ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي، وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصورت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه أنا نفعل بعد موتك بأصحابك ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي في قلبه، فيأمر أصحابه بذلك. وأعرف من هؤلاء من كان له شياطين تخدمه في حياته بأنواع الخدم، مثل خطاب أصحابه المستغيثين به، وإعانتهم، وغير ذلك، فلما مات صاروا يأتون أحدهم في صورة الشيخ، ويشعرونه أنه لم يمت، ويرسلون إلى أصحابه رسائل بخطاب، وقد كان يجتمع بي بعض أتباع هذا الشيخ، وكان فيه زهد وعبادة، وكان يحبني ويحب هذا الشيخ، ويظن أن هذا من الكرامات، وأن الشيخ لم يمت، وذكر لي الكلام الذي أرسله إليه بعد موته فقرأه فإذا هو كلام الشياطين بعينه، وقد ذكر لي غير واحد ممن أعرفهم أنهم استغاثوا بي فرأوني في الهواء وقد أتيتهم وخلصتهم من تلك الشدائد، مثل من أحاط به النصارى الأرمن ليأخذوه، وآخر قد أحاط به العدو ومعه كتب ملطفات من مناصحين لو اطلعوا على ما معه لقتلوه، ونحو ذلك، فذكرت لهم أني ما دريت بما جرى أصلا، وحلفت لهم على ذلك حتى لا يظنوا أني كتمت ذلك كما تكتم الكرامات، وأنا قد علمت أن الذي(8/86)
فعلوه ليس بمشروع، بل هو شرك وبدعة، ثم تبين لي فيما بعد، وبينت لهم أن هذه شياطين تتصور على صورة المستغاث به.
وحكى لي غير واحد من أصحاب الشيوخ أنه جرى لمن استغاث بهم مثل ذلك، وحكى خلق كثير أنهم استغاثوا بأحياء وأموات فرأوا مثل ذلك، واستفاض هذا حتى عرف أن هذا من الشياطين، والشياطين تغوي الإنسان بحسب الإمكان، فإن كان ممن لا يعرف دين الإسلام أوقعته في الشرك الظاهر، والكفر المحض، فأمرته أن لا يذكر الله، وأن يسجد للشيطان، ويذبح له، وأمرته أن يأكل الميتة والدم ويفعل الفواحش، وهذا يجري كثيرا في بلاد الكفر المحض، وبلاد فيها كفر وإسلام ضعيف، ويجري في بعض مدائن الإسلام في المواضع التي يضعف إيمان أصحابه، حتى قد جرى ذلك في مصر والشام على أنواع يطول وصفها، وهو في أرض الشرق قبل ظهور الإسلام في التتار كثير جدا، وكلما ظهر فيهم الإسلام وعرفوا حقيقته، قلت آثار الشياطين فيهم، وإن كان مسلما يختار الفواحش والظلم أعانته على الظلم والفواحش، وهذا كثير جدا أكثر من الذي قبله في البلاد التي في أهلها إسلام وجاهلية، وبر وفجور. وإن كان الشيخ فيه إسلام وديانة ولكن عنده قلة معرفة بحقيقة ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرف من حيث الجملة أن لأولياء الله كرامات، وهو لا يعرف كمال الولاية، وأنها الإيمان والتقوى واتباع الرسل باطنا وظاهرا، أو يعرف ذلك مجملا ولا يعرف من حقائق الإيمان الباطن وشرائع الإسلام الظاهرة ما يفرق به بين الأحوال الرحمانية، وبين النفسانية والشيطانية، كما أن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا من الله، ورؤيا(8/87)
مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ورؤيا من الشيطان. (1)
• موقفه من الرافضة:
قال الشيخ مرعي: فصل في توجه الشيخ إلى مصر ومحنته بها:
- وسبب محنته وابتلائه قيامه في الله، والرد على أهل البدع والعقائد الفاسدة على غزو الكسروانيين الروافض وغيرهم من الدروز والنصيرية. وغزاهم بمن معه من المسلمين. وفتح بلادهم. وكاتب السلطان فيهم بحسم مادة شيوخهم الذين يضلونهم، والأمر بإقامة شعائر الإسلام وقراءة الأحاديث ونشر السنة ببلادهم كما مر ذكره. وكان استئصالهم في المحرم سنة خمس وسبعمائة. (2)
- جاء في درء التعارض: وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كفضلاء الصحابة، مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصي عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين، والآخرين، بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء؟ فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله
_________
(1) مجموع الفتاوى (17/ 456 - 459).
(2) الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية (ص.126).(8/88)
لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع، كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم. (1)
- جاء في مجموع الفتاوى: والمقصود بهذا الأصل -أي طاعة الأنبياء والرسل طاعة مطلقة- أن من نصب إماما فأوجب طاعته مطلقا اعتقادا أو حالا فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية، حيث جعلوا في كل وقت إماما معصوما تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت، منهم من كان خليفة راشدا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو علي. ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين، كعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق. ومنهم دون ذلك. (2)
- وجاء في الفتاوى الكبرى: فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع. (3)
- وجاء في المنهاج: وهذا بين، فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم، والغلاة النصيرية وغير النصيرية، إنما يظهرون التشيع، وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى. فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر
_________
(1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 69).
(2) مجموع الفتاوى (19/ 69).
(3) الفتاوى الكبرى (5/ 47).(8/89)
والنفاق. (1)
- قال شيخ الإسلام في أثناء رده على ابن المطهر الرافضي: الثالث: أن يقال: الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكذبه غيرهم، وردوا من الصدق ما لم يرده غيرهم، وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم، مثل قولهم: إن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} (2) نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة. وقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} (3) علي وفاطمة، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} (4): الحسن والحسين، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} (5): علي بن أبي طالب، {* إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ} (6): هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران، {فَقَاتِلُوا أئمة الْكُفْرِ} (7):
_________
(1) منهاج السنة (8/ 486).
(2) المائدة الآية (55).
(3) الرحمن الآية (19).
(4) الرحمن الآية (22).
(5) يس الآية (12).
(6) آل عمران الآية (33).
(7) التوبة الآية (12).(8/90)
طلحة والزبير، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ} (1) هم: بنوا أمية، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (2): عائشة و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (3): لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية.
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم، ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرمات، فهم أئمة التأويل، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه. ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات، والتكذيب بالحق منها، والتحريف لمعانيها، ما لا يوجد في صنف من المسلمين. فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد، وحرفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه. (4)
وقال في رده على الحِلِّي الرافضي الذي يحتج بمن عرف بالإلحاد والزندقة:
- وفيه: فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا
_________
(1) الإسراء الآية (60).
(2) البقرة الآية (67).
(3) الزمر الآية (65).
(4) منهاج السنة (3/ 403 - 405).(8/91)
يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها، كالفواحش والخمر، في مثل شهر رمضان، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، وسلكوا غير طريق المؤمنين، فهم كما قيل فيهم:
الدين يشكو بلية ... لا يشهدون صلاة ... ولا ترى الشرع إلا ... ويؤثرون عليه ... من فرقة فلسفية
إلا لأجل التقية
سياسة مدنية
مناهجا فلسفية
ولكن هذا حال الرافضة: دائما يعادون أولياء الله المتقين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، ويوالون الكفار والمنافقين. فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين، كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق، ومعاداة لأهل الإيمان.
ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذاب المفتري، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان، وسائر السابقين الأولين والتابعين، وسائر أئمة المسلمين -من أهل العلم والدين- بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله، فيقول: "قال شيخنا الأعظم"، ويقول: "قدس الله روحه" مع شهادته بالكفر عليه وعلى(8/92)
أمثاله، ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين.
وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} (1).
فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب، إذ كانوا مقرين ببعض ما في الكتاب المنزل، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر، والطاغوت وهو [ما] يعبد من دون الله، فإنهم يعظمون الفلسفة المتضمنة لذلك، ويرون الدعاء والعبادة للموتى، واتخاذ المساجد على القبور، ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك، ويقولون: "مناسك حج المشاهد".
وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت.
وهم يقولون لمن يقرون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب، والمسوغين للشرك، هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فإنهم فضلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وليس هذا ببدع من الرافضة، فقد عرف
_________
(1) النساء الآيتان (51و52).(8/93)
من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين، ومعاونتهم على قتال المسلمين، ما يعرفه الخاص والعام، حتى قيل: إنه ما اقتتل يهودي ومسلم، ولا نصراني ومسلم، ولا مشرك ومسلم، إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك. (1)
- وفيه: وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقا وعلما، وعملا وتبليغا، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين.
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله. ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة، لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين، لنوع من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى، فقبل معه الضلالة، وهذا أصل كل باطل. (2)
- وفيه: ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي، بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم، وكتبهم كلها شاهدة بذلك، وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك، مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة، وذكر جهلهم وضلالهم. وهم دائما يذكرون من جهل الرافضة وضلالهم ما يعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم، وأبعد طوائف الأمة عن الهدى. كيف
_________
(1) منهاج السنة (3/ 449 - 452).
(2) منهاج السنة (1/ 18).(8/94)
ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة، فإنهم جهمية قدرية رافضة. وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله، والكتب مشحونة بذلك، ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك، وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية.
والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم، ما علمت رجلا له في الأمة لسان صدق يتهم بمذهب الإمامية، فضلا عن أن يقال: إنه يعتقده في الباطن. (1)
- وفيه: وليس في شيوخ الرافضة إمام في شيء من علوم الإسلام، لا علم الحديث ولا الفقه ولا التفسير ولا القرآن، بل شيوخ الرافضة إما جاهل وإما زنديق، كشيوخ أهل الكتاب. (2)
- وفيه: ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين:
إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام، يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام، وهذا حال المعلم الأول للرافضة، أول من ابتدع الرفض، وحال أئمة الباطنية.
وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى، وهو الغالب على عامة الشيعة،
_________
(1) منهاج السنة (4/ 130 - 131).
(2) منهاج السنة (7/ 286 - 287).(8/95)
إذا كانوا مسلمين في الباطن. (1)
- وفيه: والبدع مشتقة من الكفر، فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر.
وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة، فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم. فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل، وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله، وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة. وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة، وأدخل في الفتنة.
فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة، كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله.
وإذا كان الصحابة، ثم أهل الحديث والسنة المحضة، أولى بالهدى ودين الحق، وأبعد الطوائف عن الضلال والغي، فالرافضة بالعكس. (2)
- وفيه: [و] الكلام في تفضيل الصحابة يتقى فيه نقص أحد عن رتبته أو الغض من درجته، أو دخول الهوى والفرية في ذلك، كما فعلت الرافضة
_________
(1) منهاج السنة (6/ 115).
(2) منهاج السنة (6/ 368 - 369).(8/96)
والنواصب الذين يبخسون بعض الصحابة حقوقهم. (1)
- وفيه: ولولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله، وسادات أهل الأرض، خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين، ويسلط الكفار والمنافقين، ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره، وهتك أستاره، والله حسيبه وحسيب أمثاله. (2)
- وجاء في الاقتضاء: والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد، كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب، كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركا، فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجماعات والجمعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها، والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (3) ولم يقل مشاهد الله وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (4) ولم يقل عند
_________
(1) منهاج السنة (7/ 257).
(2) منهاج السنة (7/ 292).
(3) البقرة الآية (114).
(4) الأعراف الآية (29).(8/97)
كل مشهد. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (1) ولم يقل مشاهد الله. بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ويرجو غير الله، ولا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك، وقال الله تعالى: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (2)،
وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (3). وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} (4) ولم يقل: وأن المشاهد لله.
_________
(1) التوبة الآيتان (17و18).
(2) الحج الآية (40) ..
(3) النور الآيات (36 - 38).
(4) الجن الآية (18).(8/98)
وكذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة كقوله في الحديث الصحيح: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» (1) ولم يقل مشهدا، وقال أيضا في الحديث: «صلاة الرجل في المسجد تفضل عن صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة» (2) وقال في الحديث الصحيح: «من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم خرج إلى المسجد لا تنهزه إلا الصلاة، كانت خطواته إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة. فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث» (3). وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها، ولم يأمر ببناء مشهد لا على قبر نبي، ولا غير قبر نبي، ولا على مقام نبي.
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي، لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون
_________
(1) أحمد (1/ 70) والبخاري (1/ 716/450) ومسلم (1/ 378/533) والترمذي (2/ 134/318) وابن ماجه (1/ 243/736) كلهم من حديث عثمان بن عفان. وفي الباب عن عمرو بن عبسة وجابر وعلي وأبي ذر وعمر رضي الله عنهم.
(2) أحمد (2/ 252) والبخاري (2/ 166 - 167/ 647) ومسلم (1/ 459/649) وأبو داود (1/ 378 - 379/ 559) والترمذي (1/ 421/216) وابن ماجه (1/ 258/786).
(3) أحمد (2/ 252) والبخاري (2/ 166 - 167/ 647) ومسلم (1/ 459/649) وأبو داود (1/ 378 - 379/ 559) والترمذي (2/ 499 - 500/ 603) وابن ماجه (1/ 103/281).(8/99)
على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه. (1)
- وقال رحمه الله: ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم، لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركا وبدعا، ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم، ويخربون المساجد أكثر من غيرهم، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة ولا جماعة، ولا يصلون فيها إن صلوا إلا أفرادا، وأما المشاهد فيعظمونها أكثر من المساجد، حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام، ويسمونها الحج الأكبر، وصنف ابن المفيد منهم كتابا سماه 'مناسك حج المشاهد' وذكر فيه من الأكاذيب والأقوال ما لا يوجد في سائر الطوائف، وإن كان في غيرهم أيضا نوع من الشرك والكذب والبدع، لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، كان أعظم توحيدا لله وإخلاصا له في الدين، وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك، فإذا كثر بعده عنه ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه إلى اتباع الرسول. (2) ثم ذكر نحوا مما سبق نقله عنه آنفا.
- وقال في أصل مذهب الرافضة: فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديا أظهر الإسلام نفاقا، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان.
_________
(1) الاقتضاء (2/ 751 - 753).
(2) مجموع الفتاوى (17/ 497 - 498).(8/100)
ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة. فإنه يكون الرجل واقفا، ثم يصير مفضلا، ثم يصير سبابا، ثم يصير غاليا، ثم يصير جاحدا معطلا. ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة، من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق.
فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قدح في الرسول عليه السلام، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله: ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد؛ وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب. فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفارا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك، لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.
_________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 428 - 429).(8/101)
فإذا ادعى المدعي أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة، فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول: أومن ببعض، وأكفر ببعض، ولا يدعى أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين.
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن (الولاية) أفضل من (النبوة) ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته وينشدون:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي
ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون. (1)
- وقال أيضا: فإن ابن عربي وأمثاله، وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة. (2)
- وقال: والغلو في الأمة وقع في طائفتين: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين؛ فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية؛ فهو من جنس النصارى وإنما حقوق
_________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 225).
(2) مجموع الفتاوى (11/ 233).(8/102)
الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم. (1)
وقال: فكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة، لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعا لما جاء به الرسول، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعا لما ورد عليه.
وهؤلاء الذين أخطأوا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول. وصار أحدهم يقول: أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، فيقال له: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين، وإما من اليهود والنصارى. وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من الله؟ ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان؟ (2)
- وقال: ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص، إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة كقول الغالية في علي، أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور، كصور المردان. ويقول أحدهم: إنما أنظر إلى صفات خالقي، وأشهدها في هذه الصورة، والكفر في هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن بالله ورسوله. ولو قال مثل هذا الكلام في نبي كريم لكان كافرا، فكيف إذا قاله في صبي أمرد! فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها. (3)
_________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 66).
(2) مجموع الفتاوى (13/ 74).
(3) مجموع الفتاوى (15/ 424).(8/103)
- وجاء في الكواكب الدرية: ولما كان تاسع جمادى الأولى من سنة خمس، بالغ الشيخ في الرد على الفقراء الأحمدية والرفاعية بسبب خروجهم عن الشريعة بعد أن حضروا لنائب السلطنة، وشكوا من الشيخ، وطلبوا أن يسلم لهم حالهم، وأن لا يعارضهم، ولا ينكر عليهم. وطلبوا حضور الشيخ فلما حضر وقع بينهم كلام كثير فقال الشيخ -في كلام طويل-: إنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر، والسلوك، ويوجد في بعضهم من التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة، والكشف والتصرف، فيوجد في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر والبدع في الإسلام، والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الكاذبة، مثل ملامسة النار والحيات، وإظهار الدم واللادن والزعفران وماء الورد والعسل وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة كطلي أجسامهم لدخول النار بدهن الضفادع، وباطن قشر النرنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل وقال لهم بحضرة نائب السلطنة: أدخل أنا وهم النار، ومن احترق فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار بالحمام، فلما زيفهم الشيخ وأظهر تلبيسهم. قال: حتى لو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين، وطرتم في الهواء ومشيتم على الماء لا عبرة بذلك مع مخالفة الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، وليس لأحد(8/104)
الخروج عن الشريعة ولا عن كتاب الله وسنة رسوله. (1)
- وفي البداية والنهاية زيادة في القصة: ... فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتار، ليست تنفق عند الشرع، فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه. وصنف الشيخ جزءا في طريقة الأحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه، وأخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة. (2)
التعليق:
فلله در الشيخ ما أكثر علمه بأحوال الدجاجلة الذين يلبسون على الناس بهذه الخزعبلات، التي أكثرها مستند إلى السحر والشيطان، وأحواله الكاذبة. وما أكثرها في زماننا هذا، وأكثر رواجها على علماء المسلمين، وعامتهم يعدونها من الكرامات لأولياء الله، فيجد هؤلاء الشياطين كل التقدير والاحترام والله المستعان.
- وفي الكواكب الدرية: وقال الحافظ الذهبي: أقام بمصر يقرئ العلم واجتمع خلق عنده، إلى أن تكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، وهم ابن سبعين وابن عربي والقونوي وأشباههم، فتحزب عليه صوفية وفقراء
_________
(1) الكواكب (ص.126 - 127).
(2) البداية والنهاية (14/ 38).(8/105)
وسعوا فيه، واجتمع خلائق من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا على أن يشتكوا الشيخ للسلطان، فطلع منهم خلق إلى القلعة وخلق تحت القلعة، وكانت لهم ضجة شديدة حتى قال السلطان: ما لهؤلاء؟ فقيل له: جاءوا من أجل الشيخ ابن تيمية يشكون منه، ويقولون: إنه يسب مشايخهم ويضع من قدرهم عند الناس، واستعانوا فيه وجلبوا عليه، ودخلوا على الأمراء في أمره، ولم يبقوا ممكنا. وأمر أن يعقد له مجلس بدار العدل، فعقد له يوم الثلاثاء في عشر شوال الأول سنة سبع وسبعمائة، وظهر في ذلك المجلس من علم الشيخ وشجاعته وقوة قلبه وصدق توكله وبيان حجته ما يتجاوز الوصف، وكان وقتا مشهودا ...
وذكر علم الدين البرزالي وغيره، أن في شوال من سنة سبع وسبعمائة، شكا شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدين الآملي وابن عطاء، وجماعة نحو الخمسمائة من الشيخ تقي الدين وكلامه في ابن عربي وغيره، إلى الدولة فخيروه بين الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط، فأجابهم. فأركبوه خيل البريد ليلة ثامن عشر شوال، ثم أرسل خلفه من الغد بريد آخر، فرده على مرحلة من مصر، ورأوا مصلحتهم في اعتقاله، وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء، فقال بعضهم له: ما ترضى الدولة إلا بالحبس. فقال قاضي القضاة: وفيه مصلحة له، واستناب شمس الدين التونسي المالكي، وأذن أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى(8/106)
الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين، فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس. فأرسل إلى حبس القضاة بحارة الديلم، وأجلس في الموضع الذي جلس فيه تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن في أن يكون عنده من يخدمه، وكان كل ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي ووجاهته في الدولة. (1)
التعليق:
هكذا يظلم الشيخ بالسجون، مع اعترافهم أن الحق معه، ولكن إرضاء الغوغاء والحمقى يفعل ما يفعل، ولإخلاص الشيخ لعقيدته السلفية جعل الله له الفرج من كل ضيق. وكان السجن أفضل له، حتى تفرغ التفرغ الكامل، واستجمع ذهنه. ففتح الله عليه من جواهر العلم والفهم ما لم يصل له أن لو كان في بيته جالسا: كما صرح بذلك هو نفسه رضي الله عنه.
- وقال رحمه الله: وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (2) وقال في كتابه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (3) أي: بسكينة، ووقار.
وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق
_________
(1) الكواكب (ص.133 - 134).
(2) لقمان الآية (19).
(3) الفرقان الآية (63).(8/107)
لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة والسكينة. ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع. كسماع القرآن ونحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له: مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال: ورد علي الحال، وأنا سكران قيل له: إذا كان السبب محظورا، لم يكن السكران معذورا.
فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقا فهو مبتدع ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة، من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى والمشركين والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، ومن كان كاذبا فهو منافق ضال. (1)
موقفه من الجهمية:
إن مواقف الشيخ مع هذه النحلة وفروعها متعددة، وكتبه طافحة بالرد عليهم وتفنيد آرائهم بالحجج البينات من صحيح المنقول وصريح المعقول. نقتطف بعضا منها:
- قال: وأما الذي أقوله الآن وأكتبه -وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس-: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء
_________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 599 - 600).(8/108)
الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد -إلى ساعتي هذه- عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات، بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله. وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير. (1)
- نموذج من مناظراته في العقيدة الواسطية رضي الله عنه:
قال: أما بعد: فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة، في أمر الاعتقاد، بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد.
فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة، قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشائخ، ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة. فقال لي: هذا المجلس عقد لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك، وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد. وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء وتتباحثون في ذلك.
فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه سلف الأمة. فما كان في القرآن وجب
_________
(1) مجموع الفتاوى (6/ 394).(8/109)
اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم.
وأما الكتب، فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زور علي كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير: أستاذ دار السلطان، يتضمن ذكر عقيدة محرفة ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أنه مكذوب.
وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد وغيره، فأجيبه بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك. فقلت: اكتبوا. فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب، فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر ومسائل الإيمان والوعيد والإمامة والتفضيل.
وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة: الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة، وأحبها ورضيها، ونهى عن المعصية وكرهها. والعبد فاعل حقيقة، والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص، وأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بالذنوب ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحدا، وأن الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر،(8/110)
ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن قدم عليا على عثمان: فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وذكرت هذا أو نحوه، فإني الآن قد بعد عهدي، ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك.
ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي، كما قد كذبوا علي غير مرة. وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون: كتم بعضه أو داهن ودارى. فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشام.
وقلت قبل حضورها كلاما قد بعد عهدي به، وغضبت غضبا شديدا، لكني أذكر أني قلت: أنا أعلم أن أقواما كذبوا علي وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري؟ ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال؟ حين تخلى عنه كل أحد ولا أحد ينطق بحجته، ولا أحد يجاهد عنه. وقمت مظهرا لحجته، مجاهدا عنه مرغبا فيه؟.
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في، فكيف يصنعون بغيري؟ ولو أن يهوديا طلب من السلطان الإنصاف، لوجب عليه أن ينصفه. وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليوافقوا على افترائهم. وقلت كلاما أطول من هذا الجنس، لكن بعد عهدي به، فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين بأن يكتب ذلك.(8/111)
وقلت أيضا: كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده؟ لكنني قلت أيضا بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرت فيها فصلا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف. ثم أرسلت من أحضرها ومعها كراريس بخطي من المنزل. فحضرت العقيدة الواسطية.
وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم علي من أرض واسط بعض قضاة نواحيها، شيخ يقال له: 'رضى الدين الواسطي' من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجا، وكان من أهل الخير والدين. وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي دولة التتار من غلبة الجهل والظلم، ودروس الدين والعلم. وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته. فاستعفيت من ذلك وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة. فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر. وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق وغيرهما.
فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين، فقرأها على الحاضرين حرفا حرفا، والجماعة الحاضرون يسمعونها، ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء، والأمير أيضا يسأل عن مواضع فيها. وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد، وبعضه بغير ذلك.
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس فإنه(8/112)
كثير لا ينضبط. فكان مما اعترض علي بعضهم -لما ذكر في أولها، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فقال:- ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده: أن هذا ينفي التأويل، الذي أثبته أهل التأويل، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، إما وجوبا وإما جوازا.
فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحا، ومثل تأويلات القرامطة، والباطنية وغيرهم من الجهمية، والرافضة، والقدرية، وغيرهم. فسكت وفي نفسه ما فيها. (1) ثم ذكر بقية المناظرة فلتنظر هناك.
التعليق:
هذه المناظرة تعتبر وثيقة تاريخية كبرى في تاريخ العقيدة السلفية. ويستفاد منها:
* ما كان عليه الشيخ من التعظيم والتقدير في نفوس الجميع: الأمير والمأمور.
* اهتمام أولي الأمر في ذلك الوقت بأمور العقيدة، بينما الآن ربما لو تكلم شخص بمثل هذه الأمور، لأصبح مهزلة وسخرية في أعين أولي الأمر إلا من شاء الله.
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 160 - 165).(8/113)
* تصوير المجتمع الذي كان يغلي بالمبتدعة الذين امتهنوا التزوير على كبار السلفيين في ذلك الوقت.
* سبب تأليف العقيدة الواسطية.
- وقال: إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والألفاظ المبتدعة ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك، كلفظ الجسم، والجهة، والحيز، والجبر ونحو ذلك؛ بخلاف ألفاظ الرسول فإن مراده بها يعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه، ولو يعلم الرجل مراده لوجب عليه الإيمان بما قاله مجملا. ولو قدر معنى صحيح -والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر به- لم يحل لأحد أن يدخله في دين المسلمين، بخلاف ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن التصديق به واجب.
والأقوال المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة. ولما انتشر الكلام المحدث، ودخل فيه ما يناقض الكتاب والسنة، وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة؛ صار بيان مرادهم بتلك الألفاظ وما احتجوا به لذلك من لغة وعقل يبين للمؤمن ما يمنعه أن يقع في البدعة والضلال، أو يخلص منها -إن كان قد وقع- ويدفع عن نفسه في الباطن والظاهر ما(8/114)
يعارض إيمانه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. (1)
- وقال في رده على المعتزلة والأشعرية: ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرا نافذا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء، علم قطعا أنهم يلحدون في أسمائه وآياته، وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله؛ ولهذا كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه، ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ والأشعرية مخانيث المعتزلة. وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث، ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب 'الإبانة' الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب شر، والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير. (2)
- وقال: ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون
_________
(1) الفتاوى (5/ 432 - 433).
(2) الفتاوى (6/ 359 - 360).(8/115)
كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا وإثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه. وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات، التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها. (1)
- وقال: وبيان أن كل من أثبت ما أثبته الرسول ونفى ما نفاه كان أولى بالمعقول الصريح، كما كان أولى بالمنقول الصحيح؛ وأن من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضا صريح المعقول، وكان أولى بمن قال الله فيه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} (2). (3)
- وقال: قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
_________
(1) درء التعارض (1/ 76 - 77).
(2) الملك الآية (10).
(3) درء التعارض (1/ 100).(8/116)
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (1). فأنزل الله الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع. وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ (2)
- وقال: وقولك: إنه يتعالى عن ذلك، فلا ريب أنه يتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ومنازعك يقول: إنك أنت الظالم المفتري على الله، الذي سلبته صفات الكمال، ووصفته بصفة الجهل، وقلت فيه المحال، وألحدت في أسمائه وآياته إلحاد طائفتك الضلال. وأما أهل الإثبات فوصفوه بصفات الكمال، ووافقوا صريح المنقول عن الأنبياء والمرسلين، وما فطر الله عليه عباده أجمعين، وما دلت عليه صرائح عقول الآدميين، ووصفوا ربهم بأنه
_________
(1) البقرة الآية (213).
(2) درء التعارض (1/ 147).(8/117)
يسمع كلامهم، ويرى أعيانهم، ويسمع سرهم ونجواهم. وأنت وصفت رب العالمين بنقيض ذلك، ولم تجعل له علما سوى المخلوقات. والمخلوقات ليست علما باتفاق أهل الفطر السليمات، فتعالى الملك الحق عن قولك، وقول أمثالك المفترين الملحدين، أعداء الأنبياء شياطين الإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وأنت فليس لك دليل أصلا ينفي ذلك، فإن قيام ما يتعلق بمشيئته وقدرته بذاته، لا دليل لك على نفيه، إلا ما تنفي به الصفات، كما نفيت العلم. (1)
- وقال: وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم، أحسن أحوالها أن تكون عوجاء طويلة، قد تهلك، وقد توصل، إذ لو كانت مستقيمة موصلة، لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟ (2)
محنة الشيخ بسبب العقيدة الحموية:
- جاء في الكواكب الدرية: وقال الشيخ علم الدين: وفي شهر ربيع أول من سنة ثمان وتسعين وستمائة، وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية. وكان الشروع فيها من أول الشهر واستمرت إلى آخر الشهر.
وملخصها: أنه كتب جوابا لسؤال سئل عنه من (حماة) في الصفات. فذكر فيه مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين. وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين. واجتمع به سيف الدين "جاغان" في حال نيابته
_________
(1) درء التعارض (10/ 76 - 77).
(2) درء التعارض (10/ 316).(8/118)
بدمشق، وقيامه مقام نائب السلطنة. وامتثل أمره. وقبل قوله والتمس منه كثرة الاجتماع به. فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعته، مع ما كان عنده قبل ذلك من كراهية الشيخ وما ألمهم بظهوره وذكره الحسن. فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغا إلى الكلام فيه، لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه وجودة أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم. فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف. ويعتقدونه الصواب. فأخذوا الجواب الذي كتبه، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحدا واحدا. وأغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم وحاشاه من ذلك. ووافقهم على ذلك جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذ. ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية وطلب حضوره. وأرسل إليه فلم يحضر، وأرسل إليه في الجواب إن العقائد ليس أمرها إليك، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي". فوصلت إليه هذه الرسالة فأوغروا خاطره، وشوشوا قلبه وقالوا: لم يحضر ورد عليك. فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة. فنودي في بعض البلد. ثم بادر سيف الدين "جاغان" وأرسل طائفة فضرب المنادي وجماعة ممن حوله وأخرق بهم. فرجعوا مضروبين في غاية الإهانة. ثم طلب سيف الدين من قام في ذلك وسعى فيه. فدارت الرسل والأعوان عليهم في البلد فاختفوا. (1)
_________
(1) الكواكب الدرية (113 - 114).(8/119)
التعليق:
وهكذا ينصر الله الحق ويحقه، مهما تضامن أهل البدع وتعاونوا على الإثم والعدوان، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}. (1)
ولشيخ الإسلام مواقف من أهل الكلام كثيرة مشهورة ولآلئ جمة منثورة منها:
- قال: فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام. ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع. (2)
- وقال: ولما ظهرت الجهمية -المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه- افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال:
فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته، مستو على عرشه بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى.
والقول الثاني قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة،
_________
(1) الحج الآية (40).
(2) الفتاوى الكبرى (5/ 47).(8/120)
ومن وافقهم من غيرهم.
والقول الثالث قول حلولية الجهمية، الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية -أتباع حسين النجار- وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد: من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم، كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء. وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه. وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي-التي لا يوصف بها إلا المعدوم- لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء -عند نظره وبحثه- يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له هذا ينافي ذلك قال: هذا مقتضى عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما.
والقول الرابع قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية -كأبي طالب المكي وأتباعه: كأبي الحكم بن برجان وأمثاله- ما(8/121)
يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا. وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخري الصوفية، ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد -لما سئل عن التوحيد- فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث. (1)
- وقال: (فالجهمية) النفاة الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته، بل الجميع عندهم متأول أو مفوض، وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص، كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم، إلا الجهمية فإنه ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي. (2)
- وقال: وفي القرآن من ذكر الاصطفاء والاجتباء والتقريب والمناجاة والمناداة والخلة ونحو ذلك ما هو كثير، وكذلك في السنة. وهذا مما اتفق عليه قدماء أهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة والعبادة والعلم والإيمان. وخالف في حقيقته قوم من الملحدة المنافقين المضارعين للصابئين ومن وافقهم، والمضارعين لليهود والنصارى، من الجهمية أو من فيه تجهم، وإن كان الغالب عليه السنة. فتارة ينكرون أن الله يخالل أحدا، أو يحب أحدا، أو يواد أحدا، أو يكلم أحدا، أو يتكلم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيفسرون ذلك تارة بإحسانه إلى عباده، وتارة بإرادته الإحسان إليهم، وتارة ينكرون أن الله يحب أو يخالل. ويحرفون الكلم عن مواضعه في محبة العبد له، بأنه إرادة
_________
(1) مجموع الفتاوى (2/ 297 - 299).
(2) مجموع الفتاوى (5/ 122).(8/122)
طاعته، أو محبته على إحسانه. (1)
- وقال: فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يداه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ "جهم بن صفوان" بعد انقراض عصر الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه "بشر بن غياث" ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق. وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى "الخراءة" ويقول: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به» (2) «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (3) ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه.؟
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت مع أن معناها المجازي هو المراد
_________
(1) مجموع الفتاوى (2/ 437 - 438).
(2) رواه ابن أبي شيبة (13/ 227/16179) وهناد في الزهد (1/ 281/494) والبغوي (14/ 303 - 305/ 4111و4113) والحاكم (2/ 4) وابن أبي الدنيا في القناعة كما في الفتح (1/ 26) من طرق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ورواه ابن خزيمة في حديث علي بن حجر رقم (386) والبيهقي (7/ 76) والبغوي (14/ 302 - 303/ 4110) من حديث المطلب بن عبد الله رضي الله عنه. ورواه الطبراني في الكبير (2/ 155/1647) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1803).
(3) أخرجه أحمد (4/ 126) وابن ماجه (1/ 16/43) وأصله عند أبي داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/ 178/5) والحاكم (1/ 95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي، من حديث العرباض بن سارية.(8/123)
وهو شيء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار؟ (1)
- وقال: فلا مجاز في القرآن. بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف. (2)
- وقال: فالجهمية القائلون بأنه بذاته في كل مكان، أو بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يصفونه بالعلو دون السفول، فإنه إذا كان في مكان، فالأمكنة منها عال وسافل. فهو في العالي عال، وفي السافل سافل. بل إذا قالوا إنه في كل مكان فجعلوا الأمكنة كلها محال له ظروفا وأوعية جعلوها في الحقيقة أعلى منه. فإن المحل يحوي الحال، والظرف والوعاء يحوي المظروف الذي فيه، والحاوي فوق المحوي. والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا: "إنه فوق العرش، وإنه في السماء فوق كل شيء"، لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره، أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاء سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو فوق كل شيء، وهو مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه، هو عال على كل شيء، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق. (3)
- وقال: قوله: كان ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس
_________
(1) مجموع الفتاوى (6/ 368 - 369).
(2) مجموع الفتاوى (7/ 113).
(3) مجموع الفتاوى (16/ 100).(8/124)
القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات، وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون: إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل، وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر، وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة، ويثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش، بخلاف أتباع صاحب 'الإرشاد' فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة، فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل، وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع، فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين، والعقل عاضد له معاون. فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون: إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف، وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم، ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه. ومن هنا طمع فيهم المعتزلة، وطمعت الفلاسفة في الطائفتين، بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول، وعن طلب الهدى من جهته، وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة، ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا، بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ما جاء به الشرع مطلقا، والقدح فيما يعارضه، ولم يكونوا يقولون: "إنه لا يرجع إلى السمع في الصفات"، ولا يقولون: "الأدلة السمعية لا تفيد اليقين" بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم.
وذلك لأن الأشعري صرح(8/125)
بأن تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس موقوفا على دليل الأعراض، وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل، وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول: إن هذا الدليل دليل الأعراض صحيح، لكن الاستدلال به بدعة، ولا حاجة إليه، فهؤلاء لا يقولون: إن دلالة السمع موقوفة عليه، لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات، بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة، وإن وافق العقل، فكيف إذا خالفه؟ وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب 'الإرشاد' وأتباعه، وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة، تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات، لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون: إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار.
فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة: أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى يقولوا إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، مما ليس هذا موضع بسطه، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم، وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة المعقول والكلام، وكلامهم(8/126)
فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة؛ لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية. (1)
- وقال: وقوله: وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها، وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس، حتى صار الحق الذي جاء به الرسول -وهو المطابق للمعقول- لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس، والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام. والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (2).اهـ (3)
- قال: وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما
_________
(1) درء التعارض (2/ 12 - 15).
(2) الحشر الآية (10).
(3) درء التعارض (2/ 308).(8/127)
نقلا مجردا، مثل كتاب'المقالات' لأبي الحسن الأشعري، وكتاب 'الملل والنحل' للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم -فرأيت عامة الاختلاف التي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة- فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه.
ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض. وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب.
كما قال أبو المعالي وقت السياق: (لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي).
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم.
وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات(8/128)
والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بـ'نهاية الإقدام' في علم الكلام وقال: (قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول، ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها فلم أر إلا واضعا كف حائر ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
على ذقن أو قارعا سن نادم
فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا مرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكن يراها، وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم، ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة.
وكذلك الآمدي الغالب عليه الوقف والحيرة.
وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد، بل في الموضع الواحد منه؛ ينصر قولا، وفي موضع آخر منه -أو من كتاب آخر-؛ ينصر نقيضه!! ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك. ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله؛ ذكر على أن كلا منهما إشكال. وقد ذكرت كلامه، وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع.
فإن الله قد أرسل رسله بالحق، وخلق عباده على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله؛ وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه، ولم يتناقض. لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية، بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف، الذي لم يهتدوا معه إلى الحق، كما قد ذكر(8/129)
تفصيل ذلك في موضع غير هذا.
والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، ومن الذي ذاق هذا الشراب؟
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1) {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (2) واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (3) {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (4) ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي).
وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في
_________
(1) فاطر الآية (10).
(2) طه الآية (5).
(3) الشورى الآية (11).
(4) طه الآية (110).(8/130)
المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره. وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة، ليس هذا من خصائصه، فإن الحق واحد، ولا يخرج عما جاءت به الرسل، وهو الموافق لصريح العقل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (1). وهؤلاء لا يعرفون ذلك، بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وهم مختلفون في الكتاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} (2).اهـ (3)
- وقال: وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف -مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك- هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته من هذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام: من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم: مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر الله بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل الله ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة. ونحو ذلك مما يقولونه: كقولهم إن كلام الله كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي
_________
(1) الروم الآية (30).
(2) البقرة الآية (176).
(3) المنهاج (5/ 268 - 272).(8/131)
عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض. ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ. والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (1) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيّ «أي آية في كتاب الله أعظم» (2)
وقوله في الفاتحة: «لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها» (3) ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أبيا: «أي آية في كتاب الله أعظم؟» فأجابه أُبَي بأنها آية الكرسي فضرب بيده في صدره وقال: «ليهنك العلم أبا المنذر» (4) ولم يستشكل أُبَي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض، بل شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات. (5)
_________
(1) الزمر الآية (23).
(2) سيأتي تخريجه ..
(3) أحمد (2/ 412 - 413) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5/ 114 - 115) والترمذي (5/ 277 - 278/ 3125) والنسائي (2/ 477/913) وابن خزيمة (1/ 252/501) وابن حبان (الإحسان) (3/ 53/775) والحاكم (1/ 557) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وأخرجه الترمذي في موضع آخر (5/ 143 - 144/ 2875) مطولا وقال: "حديث حسن صحيح"، من حديث أبي هريرة عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
(4) أحمد (5/ 141 - 142) ومسلم (1/ 556/810) وأبو داود (2/ 151/1460).
(5) مجموع الفتاوى (17/ 182 - 183).(8/132)
- وقال: والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله. فيعرف معنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني، ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة. وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لها، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم، ويقولون: نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة، يعنون أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم، ثم يتأولون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. وقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس. وهذه الطريق يشترك فيها جميع أهل البدع الكبار والصغار، فهي طريق الجهمية والمعتزلة ومن دخل في التأويل من الفلاسفة والباطنية الملاحدة. (1)
- وقال: ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ
_________
(1) مجموع الفتاوى (17/ 355 - 356).(8/133)
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} (1).اهـ (2)
- وقال وهو يتحدث عن امتحان ابن تومرت: ... وإنه كان لهم يسمونه يوم الفرقان، فرق فيه بين أهل الجنة وأهل النار بزعمه، فصار كل من علموا أنه من أوليائهم جعلوه من أهل الجنة، وعصموا دمه، ومن علموا أنه من أعدائهم جعلوه من أهل النار، فاستحلوا دمه، واستحل دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية، الذين كانوا من أهل الكتاب والسنة على مذهب مالك وأهل المدينة، يقرؤون القرآن والحديث كالصحيحين، والموطأ وغير ذلك، والفقه على مذهب أهل المدينة، فزعم أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل المقالة، ولا يعرف عن أحد من أصحاب مالك إظهار القول بالتشبيه والتجسيم. واستحل أيضا أموالهم، وغير ذلك من المحرمات بهذا التأويل ونحوه، من جنس ما كانت تستحله الجهمية المعطلة -كالفلاسفة والمعتزلة، وسائر نفاة الصفات- من أهل السنة والجماعة، لما امتحنوا الناس في "خلافة المأمون" وأظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونفوا أن يكون لله علم، أو قدرة أو كلام أو مشيئة أو شيء من الصفات القائمة بذاته. وصار كل من وافقهم على هذا التعطيل عصموا دمه وماله، وولوه الولايات وأعطوه الرزق من بيت المال، وقبلوا شهادته وافتدوه من الأسر، ومن لم يوافقهم على أن القرآن مخلوق وما يتبع ذلك من بدعهم قتلوه، أو حبسوه أو ضربوه أو منعوه العطاء من بيت المال، ولم يولوه ولاية،
_________
(1) البقرة الآية (176).
(2) درء التعارض (2/ 301).(8/134)
ولم يقبلوا له شهادة، ولم يفدوه من الكفار، يقولون: هذا مشبه، هذا مجسم، لقوله: "إن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله استوى على العرش، ونحو ذلك. فدامت هذه المحنة على المسلمين بضع عشرة سنة، في أواخر خلافة المأمون، وخلافة أخيه المعتصم، والواثق بن المعتصم، ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة. (1)
بدعة القول بخلق القرآن:
- قال رحمه الله: وإنما القول المتواتر عن أئمة السلف أنهم قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا مقالة الجهمية الذين جعلوا القرآن مخلوقا منفصلا عن الله، بل كفروا من قال ذلك، والكتب الموجودة فيها ألفاظهم بأسانيدها وغير أسانيدها كثيرة، مثل: كتاب 'الرد على الجهمية' للإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، و'الرد على الجهمية' لعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري، و'الرد على الجهمية' للحكم بن معبد الخزاعي، وكتاب 'السنة' لعبد الله بن أحمد بن حنبل، و'السنة' لحنبل ابن عم الإمام أحمد، و'السنة' لأبي داود السجستاني، و'السنة' للأثرم، و'السنة' لأبي بكر الخلال، و'السنة والرد على أهل الأهواء' لخشيش بن أصرم، و'الرد على الجهمية' لعثمان بن سعيد الدارمي، و'نقض عثمان بن سعيد، على الجهمي الكاذب العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد'، و'كتاب التوحيد' لابن خزيمة، و'السنة' للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني، و'شرح أصول السنة' لأبي القاسم
_________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 478 - 479).(8/135)
اللالكائي، و'الإبانة' لأبي عبد الله بن بطة، وكتب أبي عبد الله بن منده، و'السنة' لأبي ذر الهروي، و'الأسماء والصفات' للبيهقي، و'الأصول' لأبي عمر الطلمنكي، و'الفاروق' لأبي إسماعيل الأنصاري، و'الحجة' لأبي القاسم التيمي، إلى غير ذلك من المصنفات التي يطول تعدادها، التي يذكر مصنفوها العلماء الثقات مذاهب السلف بالأسانيد الثابتة عنهم بألفاظهم الكثيرة المتواترة التي تعرف منها أقوالهم، مع أنه من حين محنة الجهمية لأهل السنة -التي جرت في زمن أحمد بن حنبل لما صبر فيها الإمام أحمد، وقام بإظهار السنة، والصبر على محنة الجهمية حتى نصر الله الإسلام والسنة وأطفأ نار تلك الفتنة- ظهر في ديار الإسلام وانتشر بين الخاص والعام أن مذهب أهل السنة والحديث المتبعين للسلف من الصحابة والتابعين: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الذين أحدثوا في الإسلام القول بأن القرآن
مخلوق هم الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، ومن اتبعه من المعتزلة وغيرهم من أصناف الجهمية، لم يقل هذا القول أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان. فهذا القول هو القول المعروف عن أهل السنة والجماعة، وهو القول بأن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق. (1)
- وقال: وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره، فمن قال: إن الذي في المصحف ليس كلام الله، بل كلام غيره فهو ملحد مارق. ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضا ملحد مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في
_________
(1) مجموع الفتاوى (17/ 74 - 76).(8/136)
الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى؟ (1)
- وقال: وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف. (2)
- وقال: وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش. (3)
- وقال: لو قال القائل: إذا قلنا: إنه مستو على عرشه حقيقة لزم التجسيم والله منزه عنه، فيقال له: هذا المعنى الذي سميته تجسيما ونفيته هو لازم لك إذا قلت: إن له علما حقيقة وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة، وبصرا حقيقة، وكلاما حقيقة وكذلك سائر ما أثبته من الصفات، فإن هذه الصفات هي في حقنا أعراض قائمة بجسم، فإذا كنت تثبتها لله تعالى مع تنزيهك له عن مماثلة المخلوقات، وما يدخل في ذلك من التجسيم: فكذلك القول في الاستواء، ولا فرق.
_________
(1) مجموع الفتاوى (12/ 276).
(2) مجموع الفتاوى (12/ 508).
(3) مجموع الفتاوى (1/ 367).(8/137)
فإن قلت: أهل اللغة إنما وضعوا هذه الألفاظ لما يختص به المخلوق فلا يكون حقيقة في غير ذلك. قلت: ولكن هذا خطأ بإجماع الأمم: مسلمهم وكافرهم، وبإجماع أهل اللغات، فضلا عن أهل الشرائع والديانات، وهذا نظير قول من يقول: إن لفظ الوجه إنما يستعمل حقيقة في وجه الإنسان دون وجه الحيوان والملك والجني، أو لفظ العلم إنما استعمل حقيقة في علم الإنسان دون علم الملك والجني، ونحو ذلك، بل قد بينا أن أسماء الصفات عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، فالقدر المشترك أن نسبة كل صفة إلى موصوفها كنسبة تلك الصفة إلى موصوفها، فالقدر المشترك هو النسبة، فنسبة علم الملك والجني ووجوههما إليه كنسبة علم الإنسان ووجهه إليه، وهكذا في سائر الصفات. (1)
- وقال: ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات. ولكن طائفة من الناس قد يقولون: إنه ينزل ويكون العرش فوقه، ويقولون: إنه في جوف السماء، وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه. وهؤلاء ضلال جهال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول، كما أن النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول. فالحلولية والمعطلة متقابلان. (2)
- وسئل شيخ الإسلام عن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل:
_________
(1) مجموع الفتاوى (20/ 218 - 219).
(2) درء التعارض (7/ 7).(8/138)
«وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» (1) ما معنى تردد الله؟
فأجاب: هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة، وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد.
والتحقيق: أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس، وأجهلهم وأسوئهم أدبا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه، كما قيل:
الشيب كره وكره أن أفارقه ... فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
_________
(1) البخاري (11/ 414/6502).(8/139)
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح «حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره» (1) وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (2) الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له، يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه، وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه
_________
(1) أحمد (2/ 260) والبخاري (11/ 388/6487) ومسلم (4/ 2174/2823) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) البقرة الآية (216).(8/140)
ويريد مساءته. (1)
قوله في الشفاعة:
- قال: فالشفاعة نوعان:
أحدهما: الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون، ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم، وهي شرك.
والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله. وهذه التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين، ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد. قال: «فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع» (2) فإذا أذن له في الشفاعة شفع - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد الله أن يشفع فيه. (3)
- وقال: وله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات:
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف، حتى يقضي بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم الشفاعة، حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن يستحق النار، وهذه الشفاعة له
_________
(1) مجموع الفتاوى (18/ 129 - 131).
(2) تقدم ضمن مواقفه رحمه الله من الصوفية.
(3) مجموع الفتاوى (1/ 332).(8/141)
ولسائر النبيين، والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، ويخرج الله تعالى من النار أقواما بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزما من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعا، وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من أهل الأهواء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي أعظم فسادا مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يدفع أدنى الفسادين بأعلاهما، بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» (2).اهـ (3)
- وقال: وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق؛ يتبعون الرسول فلا يبتدعون. ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه. وأهل البدع -مثل الخوارج- يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 147 - 148).
(2) أحمد (6/ 444 - 445) وأبو داود (5/ 218/4919) والترمذي (4/ 572 - 573/ 2509) وقال: "هذا حديث صحيح". البخاري في الأدب المفرد (391).
(3) الاستقامة (1/ 330).(8/142)
ويستحلون دمه. وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضا مبتدع، فيرد بدعة ببدعة، وباطلا بباطل. (1)
- وقال: أول البدع ظهورا في الإسلام وأظهرها ذما في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة، فإن أولهم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل (2)، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم وقتالهم (3)، وقاتلهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب. والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مستفيضة بوصفهم وذمهم والأمر بقتالهم، قال أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة». (4)
ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم: أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: «اعدل فإنك لم تعدل»، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويلك. ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل». فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفها وترك عدل، وقوله: "اعدل" أمر له بما
_________
(1) مجموع الفتاوى (16/ 96).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(3) أحمد (3/ 68 و73) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064) وأبو داود (5/ 121 - 122/ 4764) والنسائي (5/ 92 - 93/ 2577) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) تقدم تخريجه قريبا.(8/143)
اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة، وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة، أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل؛ لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف -بزعمهم- ظاهر القرآن. وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد في حديث الصادق المصدوق. وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة: إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن.
الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام حرب ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة؛ وجمهور المعتزلة؛ والجهمية؛ وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم. فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرا. (1)
_________
(1) مجموع الفتاوى (19/ 71 - 73).(8/144)
- وقال: فالطاعن في شيء من حكمه أو قسمه -كالخوارج- طاعن في كتاب الله مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مفارق لجماعة المسلمين، وكان شيطان الخوارج مقموعا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه، وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفروا عليا ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» (1).اهـ (2)
- قال: والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه، وجعلوا من خالف ذلك كافرا؛ لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن، وجعل من خالفها كافرا، كان قوله شرا من قول الخوارج. (3)
- وقال: ومن أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج. (4)
- وقال: والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين
_________
(1) أحمد (3/ 32،97) ومسلم (2/ 745/1065 (150)) وأبو داود (5/ 50/4667).
(2) مجموع الفتاوى (19/ 88 - 89).
(3) مجموع الفتاوى (20/ 164).
(4) مجموع الفتاوى (3/ 151).(8/145)
علي بن أبي طالب، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه.
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. (1)
- وقال: فإن علي بن أبى طالب هو الذي قاتل المارقين وهم الخوارج الحرورية الذين كانوا من شيعة علي، ثم خرجوا عليه وكفروه وكفروا من والاه ونصبوا له العداوة، وقاتلوه ومن معه وهم الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة حيث قال فيهم «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 282).(8/146)
لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله يوم القيامة، آيتهم أن فيهم رجلا مخدج اليدين، له عضل عليها شعرات تدردر» (1). وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه، وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافرا، وقتله أحد رؤوسهم: عبد الرحمن بن ملجم المرادي. فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا: إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارا مرتدين، فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة، وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة من مدح الله تعالى لهم، وثناء الله عليهم، ورضاه عنهم، وإخباره بأنهم من أهل الجنة، ونحو ذلك من النصوص، ومن لم يقبل هذه الحجج، لم يمكنه أن يثبت إيمان علي ابن أبي طالب وأمثاله. (2)
- وقال: والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم، هم شر من الخوارج الذين نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتالهم ورغب فيه. وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته. ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - شمل الجميع، ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى، أو من باب كونهم في معناهم. فإن الحديث روي بألفاظ متنوعة، ففي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن علي بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: «إذا حدثتكم عن رسول الله حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله يقول: سيخرج قوم في آخر الزمان
_________
(1) مسلم (2/ 748 - 749/ 1066 (156)) وأبو داود (5/ 125/4768).
(2) مجموع الفتاوى (4/ 467 - 468).(8/147)
أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» (1). وفى صحيح مسلم عن زيد بن وهب: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي -رضي الله عنه- الذين ساروا إلى الخوارج. فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض». والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس. فسيروا على اسم الله وذكر الحديث إلى آخره. (2)
وفي مسلم (3) أيضا: عن عبد الله بن رافع كاتب علي رضى الله عنه، أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا: لا حكم إلا لله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم -وأشار إلى حلقه- من
_________
(1) أحمد (1/ 81) والبخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066 (154)).
(2) تقدم قريبا.
(3) (2/ 749/1066 (157)).(8/148)
أبغض خلق الله إليه، منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي. فلما قتلهم علي بن طالب قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئا. فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا. ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. وهذه العلامة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي علامة أول من يخرج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم. فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم «لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال» (1). وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر.
وأيضا فالصفات إلى وصفها تعم غير ذلك العسكر، ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا مثل ما في الصحيحين عن أبى سلمة وعطاء ابن يسار أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية، هل سمعت رسول الله يذكرها؟ قال: لا أدرى؟ ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم -أو حلوقهم- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى فى الفوقة هل علق بها شيء من الدم؟
_________
(1) أخرجه من حديث أبي برزة رضي الله عنه: أحمد (4/ 421 - 422،424 - 425) والطيالسي (923) والنسائي (7/ 136 - 137/ 4114) وقال: "شريك بن شهاب ليس بذلك المشهور". والحاكم (2/ 146 - 147) وصححه على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي. وقد أورد شريكا في الميزان (2/ 269) ثم قال: "بصري لا يعرف إلا برواية الأزرق بن قيس عنه".
ويشهد له حديث ابن عمر وفيه: " ... فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم فطوبى لمن قتلهم أو طوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله عز وجل، فردد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع". أخرجه: أحمد (2/ 84) وابن ماجه (1/ 61 - 62/ 174). قال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح، وقد احتج البخاري بجميع رواته". وهو عند الطبراني كما في المجمع (6/ 230) وحسن الهيثمي إسناده.(8/149)
اللفظ لمسلم (1). وفى الصحيحين أيضا عن أبى سعيد قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم، جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمي -وفى راوية: أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم- فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. قال عمر بن الخطاب: ايذن لي فأضرب عنقه. قال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه -وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذة فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم. وذكر ما في الحديث. (2)
فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم. ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا. ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها.
فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، فى كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام، حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية، وفى الصحيحين في حديث أبى سعيد: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (3). وهذا نعت سائر الخارجين
_________
(1) البخاري (12/ 350/6931) ومسلم (2/ 743 - 744/ 1064 (147)).
(2) البخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744/1064 (148)).
(3) البخاري (6/ 463 - 464/ 3344) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064).(8/150)
كالرافضة ونحوهم، فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره. وفى حديث أبى سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون فى فرقة من الناس، سيماهم التحليق. قال: «هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» (1). وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم.
وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى (2). ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر (3)، ورواه مسلم من حديث أبى ذر ورافع بن عمرو (4)، وجابر بن عبد الله (5)، وغيرهم. وروى النسائي عن أبى برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله يذكر الخوارج؟ قال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني ورأيته بعيني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئا، فقام رجل من ورائه، فقال: يا محمد! ما عدلت في القسمة -رجل أسود مطموم الشعر، عليه ثوبان أبيضان- فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا، وقال له: «والله لا تجدون بعدى رجلا هو أعدل مني. ثم قال: يخرج في آخر الزمان
_________
(1) البخاري (6/ 766/3610) و (13/ 655/7562) ومسلم (2/ 745/1065).
(2) البخاري (12/ 360/6934) ومسلم (2/ 750/1068).
(3) البخاري (12/ 350/6932).
(4) سيأتي لفظه من كلام الشيخ.
(5) أحمد (3/ 353) ومسلم (2/ 740/1063) والبخاري مختصرا (6/ 292/3138) والنسائي في الكبرى (5/ 31/8087،8088) وابن ماجه في المقدمة (1/ 61/172).(8/151)
قوم كأن هذا منهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة» (1). وفى صحيح مسلم، عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي -أو سيكون بعدي من أمتي- قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة. قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري -أخا الحكم بن عمرو الغفاري- قلت: ما حديث سمعته من أبى ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله» (2).
فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي -رضى الله عنه- وفى غيرهم. وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل الكفار، أي قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة. وكذلك الشرك أنواع مختلفة، وإن لم تكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك؛ لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه.
وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان فى معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما وجب قتال أولئك. (3)
_________
(1) تقدم تخريجه قريبا.
(2) مسلم (2/ 750/1067).
(3) مجموع الفتاوى (28/ 494 - 499).(8/152)
موقفه من المرجئة:
- جاء في مجموع الفتاوى: إن المرجئة لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله، أخذوا يتكلمون في مسمى الإيمان والإسلام وغيرهما بطرق ابتدعوها، مثل أن يقولوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق؛ ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال ليست من الإيمان، ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ} (1) أي بمصدق لنا. فيقال لهم: (اسم الإيمان) قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالى ومن يعادى، والدين كله تابع لهذا؛ وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك؛ أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله. ووكله إلى هاتين المقدمتين؟ ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن. ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من تواتر لفظ الكلمة، فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة. فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة، فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات، ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم، وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ومن
_________
(1) يوسف الآية (17).(8/153)
الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، فهذا كلام عام مطلق. ثم يقال: "هاتان المقدمتان" كلاهما ممنوعة، فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا، صح المعنى، لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: (أقيموا الصلاة).
ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة، كان المعنى صحيحا، لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا. فكون اللفظ يرادف اللفظ؛ يراد دلالته على ذلك. (1)
- وقال: ومن قال: بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له؛ أو جزءا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئا خطئا بينا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها. (2)
- وقال رحمه الله في التدمرية: والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمنا، لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم، وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر
_________
(1) مجموع الفتاوى (7/ 288 - 290).
(2) مجموع الفتاوى (7/ 621).(8/154)
طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة. (1)
- وقال: والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه. (2)
- وقال: والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق، ولا في الحب، ولا في الخشية، ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة. (3)
- وقال: والتفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة:
أحدها: الأعمال الظاهرة، فإن الناس يتفاضلون فيها، وتزيد وتنقص وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان. فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازما أو جزءا منه، فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 103).
(2) مجموع الفتاوى (7/ 505)
(3) مجموع الفتاوى (7/ 555 - 556).(8/155)
مفردا أو مقرونا بلفظ الإسلام، والعمل كما تقدم.
وأما قولهم: الزيادة في العمل الظاهر لا في موجبه ومقتضيه فهذا غلط، فإن التفاضل معلول الأشياء، ومقتضاها يقتضي تفاضلها في أنفسها، وإلا فإذا تماثلت الأسباب الموجبة، لزم تماثل موجبها ومقتضاها، فتفاضل الناس في الأعمال الظاهرة يقتضي تفاضلهم في موجب ذلك ومقتضيه، ومن هذا يتبين:
الوجه الثاني: في زيادة الإيمان ونقصه، وهو زيادة أعمال القلوب ونقصها، فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر، والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» (1)، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ
_________
(1) أحمد (3/ 103) والبخاري (1/ 82/16) ومسلم (1/ 66/43) والترمذي (5/ 16/2624) والنسائي (8/ 471 - 472/ 5003) وابن ماجه (2/ 1338 - 1339/ 4033) من حديث أنس رضي الله عنه.(8/156)
فَتَرَبَّصُوا} (1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده» (2) وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (3) وقال له عمر يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فلأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر».
وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح، وفيها بيان تفاضل الحب والخشية وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (4) وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة، ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس قولا بدخول الزيادة والنقصان فيه، لما يجدون من ذلك في أنفسهم، ومن هذا قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} (5) وإنما زادهم طمأنينة وسكونا.
_________
(1) التوبة الآية (24).
(2) أحمد (6/ 181) والبخاري (13/ 342/7301) ومسلم (4/ 1829/2356) عن عائشة رضي الله عنها.
(3) أحمد (3/ 177و275) والبخاري (1/ 80/15) ومسلم (1/ 67/44) والنسائي (8/ 488/5028) وابن ماجه (1/ 26/67) من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) البقرة الآية (165).
(5) آل عمران الآية (173).(8/157)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (1).اهـ (2)
- وقال: الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا، وأكثر أهل السنة، وقالت المرجئة والمعتزلة، لا يجوز الاستثناء فيه بل هو شك، والاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، أو إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي فنعم، وإن كنت تريد {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3) فالله أعلم. (4)
- وقال: وطوائف "أهل الأهواء" من الخوارج والمعتزلة، والجهمية والمرجئة، كراميهم وغير كراميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول؛ بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محمودا من وجه مذموما من وجه، ولا محبوبا مدعوا له من وجه مسخوطا ملعونا من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعا عندهم، بل من دخل
_________
(1) أحمد (2/ 472) وأبو داود (5/ 60/4682) والترمذي (3/ 466/1162) وقال: "حديث حسن صحيح". الحاكم (1/ 3) وصححه ووافقه الذهبي. ابن حبان الإحسان (2/ 227/479) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عائشة وابن عباس وغيرهم.
(2) مجموع الفتاوى (7/ 562 - 564).
(3) الأنفال الآية (2).
(4) مجموع الفتاوى (7/ 666).(8/158)
إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار. وحكي عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك. وأما أهل السنة والجماعة والصحابة، والتابعون لهم بإحسان؛ وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكرامية والكلابية والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار، ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق، فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه؛ لكن تنازعوا في اسمه، فقالت المرجئة: جهميتهم وغير جهميتهم: هو مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين وهل يطلق عليه اسم مؤمن؟ هذا فيه القولان، والصحيح التفصيل. فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة. قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين.
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة. قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه، ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، والذين لا يسمونه مؤمنا من أهل السنة ومن المعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله: {بِئْسَ(8/159)
الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (1) وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} (2) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (3).اهـ (4)
موقفه من القدرية:
لقد أجاد شيخ الإسلام القول في بيان اعتقاد الفرقة الناجية في مسائل القدر ضمن العقيدة الواسطية.
- قال رحمه الله: وتؤمن الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق: فأول ما خلق الله القلم، قال له: أكتب. قال: ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (5). فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم
_________
(1) الحجرات الآية (11).
(2) السجدة الآية (18).
(3) تقدم تخريجه في مواقف أبي وائل شقيق بن سلمة سنة (82هـ).
(4) مجموع الفتاوى (7/ 353 - 355).
(5) أحمد (5/ 317) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه فذكره. قال الشيخ الألباني رحمه الله في 'ظلال الجنة' (1/ 48): "وإسناده لا بأس به في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ لكنه يتقوى بما قبله وما بعده" -يعني من كتاب 'السنة' لابن أبي عاصم-. وأخرجه أبو داود (5/ 76/4700) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه. فذكره. والترمذي (4/ 398/2155) وقال: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه". وفيه قصة طويلة. وأخرجه أيضا في (5/ 394 - 395/ 3319) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".(8/160)
يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (1) وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} (2).
وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: أكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد (3)، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكره اليوم قليل.
وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشية الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله،
_________
(1) الحج الآية (70).
(2) الحديد الآية (22).
(3) أخرجه أحمد (1/ 382و430) والبخاري (6/ 373/3208) ومسلم (4/ 2036) وأبو داود (5/ 82 - 83/ 4708) والترمذي (4/ 388 - 389/ 2137) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 29/76).(8/161)
ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين، والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (1).
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة (2)، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويُخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها. (3)
- وجاء في مجموع الفتاوى عنه قال: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني. فإن الله سبحانه خالق كل شيء، ورب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته.
وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم
_________
(1) التكوير الآيتان (28و29).
(2) تقدم في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).
(3) مجموع الفتاوى (3/ 148 - 150).(8/162)
الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم، فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته. وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق.
ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية، الذين رأوا الأفعال واقعة بمشيئته وقدرته، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (1) ولو كره الله شيئا لأزاله، وما في العالم إلا ما يحبه الله ويرضاه، وما ثم عاص، وأنا كافر برب يعصى، وإن كان هذا قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وربما استدلوا بالجبر، وجعلوا العبد مجبورا، والمجبور معذور، والفعل لله فيه لا له، فلا لوم عليه. فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله، وبأمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، كفرا لا ريب فيه، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من الصابئة والبراهمة الذين يقولون بالسياسات العقلية. فإن هؤلاء كافرون بالديانات والشرائع الإلهية، وبالآيات والسياسات العقلية. وأما الأولون: ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه. وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحدا أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه: أن لا يدفع ظلم ظالم، ولا
_________
(1) الأنعام الآية (148).(8/163)
يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته، ولا بأكثر منها. (1)
- وفيها: ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم، إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته، بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته. إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد. فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه، إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد: ما لا يعلمه إلا رب العباد. (2)
- وفيها سؤال في القدر أورده أحد علماء الذميين فقال:
أيا علماء الدين، ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي؟
دعاني، وسد الباب عني، فهل إلى ... دخولي سبيل؟ بينوا لي قضيتي
قضى بضلالي ثم قال: ارض بالقضا ... فما أنا راض بالذي فيه شقوتي
فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا ... فربي لا يرضى بشؤم بليتي
فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي؟ ... فقد حرت دلوني على كشف حيرتي
إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة ... فهل أنا عاص في اتباع المشيئة؟
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 409 - 410).
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 301).(8/164)
وهل لي اختيار أن أخالف حكمه؟ ... فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي
فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد بن تيمية مرتجلا (1):
الحمد لله رب العالمين:
سؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم رب العرش، باري البرية
فهذا سؤال خاصم الملأ العلا ... قديما به إبليس، أصل البلية
ومن يك خصما للمهيمن يرجعن ... على أم رأس هاويا في الحفيرة
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا، معشر القدرية
سواء نفوه، أو سعوا ليخاصموا ... به الله أو ماروا به للشريعة
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإنهم لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية
فإن جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة
وذات إله الخلق واجبة بما ... لها من صفات واجبات قديمة
مشيئته مع علمه، ثم قدرة ... لوازم ذات الله قاضي القضية
وإبداعه ما شاء من مبدعاته ... بها حكمة فيه وأنواع رحمة
ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة ... من المنكري آياته المستقيمة
بل الحق أن الحكم لله وحده ... له الخلق والأمر الذي في الشريعة
هو الملك المحمود في كل حالة ... له الملك من غير انتقاص بشركة
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 245 - 255).(8/165)
فما شاء مولانا الإله فإنه ... يكون، وما لا لا يكون بحيلة
وقدرته لا نقص فيها، وحكمه ... يعم فلا تخصيص في ذي القضية
أريد بذا أن الحوادث كلها ... بقدرته كانت، ومحض المشيئة
ومالكنا في كل ما قد أراده ... له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة
فإن له في الخلق رحمته سرت ... ومن حكم فوق العقول الحكيمة
أمورا يحار العقل فيها إذا رأى ... من الحكم العليا وكل عجيبة
فنؤمن أن الله عز بقدرة ... وخلق وإبرام لحكم المشيئة
فنثبت هذا كله لإلهنا وهذا ... ونثبت ما في ذاك من كل حكمة
مقام طالما عجز الألى ... نفوه وكروا راجعين بحيرة
وتحقيق ما فيه بتبيين غوره ... وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة
هو المطلب الأقصى لوراد بحره ... وذا عسر في نظم هذي القصيدة
لحاجته إلى بيان محقق ... لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأسمائه الحسنى، وأحكام دينه ... وأفعاله في كل هذي الخليقة
وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا ... وإلهامه للخلق أفضل نعمة
وقد قيل في هذا وخط كتابه ... بيان شفاء للنفوس السقيمة
فقولك: لم قد شاء؟ مثل سؤال ... يقول: فلم قد كان في الأزلية؟
من وذاك سؤال يبطل العقل وجهه ... وتحريمه قد جاء في كل شرعة
وفي الكون تخصيص كثير يدل من ... له نوع عقل: أنه بإرادة
وإصداره عن واحد بعد واحد ... أو القول بالتجويز رمية حيرة
ولا ريب في تعليق كل مسبب ... بما قبله من علة موجبية(8/166)
بل الشأن في الأسباب، أسباب ما ... وإصدارها عن حكم محض المشيئة
ترى وقولك: لم شاء الإله؟ هو ... أزل عقول الخلق في قعر حفرة
الذي فإن المجوس القائلين بخالق ... لنفع، ورب مبدع للمضرة
سؤالهم عن علة السر، أوقعت ... أوائلهم في شبهة الثنوية
وإن ملاحيد الفلاسفة الألى ... يقولون بالفعل القديم لعلة
بغوا علة للكون بعد انعدامه ... فلم يجدوا ذاكم، فضلوا بضلة
وإن مبادي الشر في كل أمة ... ذوي ملة ميمونة نبوية
بخوضهمو في ذاكم صار شركهم ... وجاء دروس البينات بفترة
ويكفيك نقضا: أن ما قد سألته ... من العذر مردود لدى كل فطرة
فأنت تعيب الطاعنين جميعهم ... عليك، وترميهم بكل مذمة
وتنحل من والاك صفوة مودة ... وتبغض من ناواك من كل فرقة
وحالهم في كل قول وفعلة ... كحالك يا هذا بأرجح حجة
وهبك كففت اللوم عن كل كافر ... وكل غوي خارج عن محجة
فيلزمك الإعراض عن كل ظالم ... على الناس في نفس، ومال، وحرمة
ولا تغضبن يوما على سافك دما ... ولا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا ... ولا ناكح فرجا على وجه غية
ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ... ولا مفسد في الأرض في كل وجهة
ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ... ولا قاذف للمحصنات بزنية
ولا مهلك للحرث والنسل عامدا ... ولا حاكم للعالمين برشوة
وكف لسان اللوم عن كل مفسد ... ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة(8/167)
وسهل سبيل الكاذبين تعمدا ... على ربهم، من كل جاء بفرية
وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم ... بروم فساد النوع، ثم الرياسة
وجادل عن الملعون، فرعون، إذ ... فأغرق في اليم انتقاما بغضبة
طغى وكل كفور مشرك بإلهه ... وآخر طاغ كافر بنبوة
كعاد، ونمروذ، وقوم لصالح ... وقوم لنوح، ثم أصحاب الأيكة
وخاصم لموسى، ثم سائر من أتى ... من الأنبياء محييا للشريعة
على كونهم قد جاهدوا الناس إذ ... ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة
بغوا وإلا فكل الخلق في كل لفظة ... ولحظة عين، أو تحرك شعرة
وبطشة كف، أو تخطي قديمة ... وكل حراك، بل وكل سكينة
همو تحت أقدار الإله وحكمه ... كما أنت فيما قد أتيت بحجة
وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل ... فعال ردى، طردا لهذي المقيسة
فهل يمكن رفع الملام جميعه ... عن الناس طرا عند كل قبيحة
وترك عقوبات الذين قد اعتدوا ... وترك الورى الإنصاف بين الرعية
فلا تُضْمَنَنْ نفس ومال بمثله ... ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة
وهل في عقول الناس أو في طباعهم ... قبول لقول النذل: ما وجه حيلتي؟
ويكفيك نقضا: ما بجسم ابن آدم ... صبي، ومجنون، وكل بهيمة
من الألم المقضي في غير حيلة ... وفيما يشاء الله أكمل حكمة
إذا كان في هذا له حكمة، فما ... يظن بخلق الفعل، ثم العقوبة؟
وكيف، ومن هذا عذاب مولد ... عن الفعل، فعل العبد عند الطبيعة؟
كآكل سم، أوجب الموت أكله ... وكل بتقدير لرب البرية(8/168)
فكفرك يا هذا، كسم أكلته ... وتعذيب نار. مثل جرعة غصة
ألست ترى في هذه الدار من جنى ... يعاقب إما بالقضا أو بشرعة؟
ولا عذر للجاني بتقدير خالق ... كذلك في الأخرى بلا مثنوية
وتقدير رب الخلق للذنب موجب ... لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة
وما كان من جنس المتاب لرفعه ... عواقب أفعال العباد الخبيثة
كخير به تمحى الذنوب. ودعوة ... تجاب من الجاني، ورب شفاعة
وقول حليف الشر: إني مقدر ... علي كقول الذئب: هذي طبيعتي
وتقديره للفعل يجلب نقمة ... كتقديره الأشياء طرا بعلة
فهل يَنْفَعَنْ عذر الملوم. بأنه ... كذا طبعه أم هل يقال لعثرة؟
أم الذم والتعذيب أوكد للذي ... طبيعته فعلا لشرور الشنيعة؟
فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى ... ينجيك من نار الإله العظيمة
فدونك رب الخلق، فاقصده ضارعا ... مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
وذلل قياد النفس للحق، واسمعن ... ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة
وما بان من حق فلا تتركنه ... ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة
ودع دين ذا العادات، لا تتبعنه ... وعج عن سبيل الأمة الغضبية
ومن ضل عن حق فلا تقفونه ... وزن ما عليه الناسب المعدلية
هنالك تبدو طالعات من الهدى ... تبشر من قد جاء بالحنيفية
بملة إبراهيم، ذاك إمامنا ... ودين رسول الله خير البرية
فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي ... به جاءت الرسل الكرام السجية
وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي ... حوى كل خير في عموم الرسالة(8/169)
وأخبر عن رب العباد بأن من ... غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة
فهذي دلالات العباد لحائر ... وأما هداه فهو فعل الربوبة
وفقد الهدى عند الورى لا يفيد ... غدا عنه، بل يجزي بلا وجه حجة
من وحجة محتج بتقدير ربه ... تزيد عذابا، كاحتجاج مريضة
وأما رضانا بالقضاء فإنما ... أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسقم وفقر ثم ذل وغربة ... وما كان من مؤذ، بدون جريمة
فأما الأفاعيل التي كرهت لنا ... فلا ترتضى، مسخوطة لمشيئة
وقد قال قوم من أولي العلم: لا ... بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة
رضا وقال فريق: نرتضي بقضائه ... ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة
وقال فريق نرتضي بإضافة ... إليه. وما فينا فنلقى بسخطة
كما أنها للرب خلق، وأنها ... لمخلوقة ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ... ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة
ومعصية العبد المكلف تركه ... لما أمر المولى وإن بمشيئة
فإن إله الخلق حق مقاله ... بأن العباد في جحيم وجنة
كما أنهم في هذه الدار هكذا ... بل البهم في الآلام أيضا ونعمة
وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من الـ ... ـفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولي التعذيب بالسبب ... يقدره نحو العذاب بعزة
الذي ويهدي أولي التنعيم نحو ... بأعمال صدق في رجاء وخشية
نعيمهم وأمر إله الخلق بين ما به ... يسوق أولي التنعيم نحو السعادة
فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة(8/170)
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ولا مخرج للعبد عما به قضى ... ولكنه مختار حسن وسوأة
فليس بمجبور عديم الإرادة ... ولكنه شاء بخلق الإرادة
ومن أعجب الأشياء: خلق مشيئة ... بها صار مختار الهدى بالضلالة
فقولك: هل أختار تركا لحكمة؟ ... كقولك: هل أختار ترك المشيئة؟
وأختار أن لا أختار فعل ضلالة ... ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة
وذا ممكن، لكنه متوقف ... على ما يشاء الله من ذي المشيئة
فدونك، فافهم ما به قد أجبت من ... معان، إذا انحلت بفهم غريزة
أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى ... ولله رب الخلق أكمل مدحة
وصلى إله الخلق، جل جلاله ... على المصطفى المختار خير البرية
التعليق:
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في الدرة البهية عن هذه المنظومة: وهذا النظم: قد أتى فيه الشيخ بالعجب العجاب، وبين الحق الصريح، وكشف الشكوك والشبهات التي طالما خالطت قلوب أذكياء العلماء، وحيرت كثيرا من أهل العلم الفضلاء. (1)
- قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: ومن أقر بالشرع، والأمر والنهي، والحسن والقبح، دون القدر وخلق الأفعال -كما عليه المعتزلة- فهو
_________
(1) الدرة البهية (ص.11).(8/171)
من القدرية المجوسية الذين شابهوا المجوس، وللمعتزلة من مشابهة المجوس واليهود نصيب وافر.
ومن أقر بالقضاء والقدر وخلق الأفعال وعموم الربوبية، وأنكر المعروف والمنكر، والهدى والضلال، والحسنات والسيئات، ففيه شبه من المشركين والصابئة. وكان الجهم بن صفوان ومن اتبعه كذلك لما ناظر أهل الهند، كما كان المعتزلة كذلك لما ناظروا المجوس (الفرس)، والمجوس أرجح من المشركين. فإن من أنكر الأمر والنهي، أو لم يقر بذلك، فهو مشرك صريح كافر -أكفر من اليهود والنصارى والمجوس- كما يوجد ذلك في كثير من المتكلمة والمتصوفة -أهل الإباحة ونحوهم. (1)
- وقال في حديثه عن إرادة الله: وإرادته قسمان: إرادة أمر وتشريع، وإرادة قضاء وتقدير.
فالقسم الأول: إنما يتعلق بالطاعات دون المعاصي، سواء وقعت أو لم تقع. كما في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (2) وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3).
وأما القسم الثاني: وهو إرادة التقدير، فهي شاملة لجميع الكائنات،
_________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (16/ 238 - 239).
(2) النساء الآية (26).
(3) البقرة الآية (185).(8/172)
محيطة بجميع الحادثات، وقد أراد من العالم ما هم فاعلوه بهذا المعنى لا بالمعنى الأول، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (1) وفي قوله: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} (2) وفي قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ونظائره كثيرة.
وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي، دون ما لم يحدث، كما أن الأولى تتناول الطاعات حدثت أو لم تحدث، والسعيد من أراد منه تقديرا ما أراد به تشريعا، والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعا، والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيرا، ومن نظر إلى القدر دون الشرع أو الشرع دون القدر كان أعور، مثل قريش الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} (3).
_________
(1) الأنعام الآية (125).
(2) هود الآية (34).
(3) الأنعام الآية (148).(8/173)
فإن هؤلاء اعتقدوا أن كل ما شاء الله وجوده وكونه وهي -الإرادة القدرية- فقد أمر به ورضيه دون الإرادة الشرعية، ثم رأوا أن شركهم بغير شرع مما قد شاء الله وجوده قالوا: فيكون قد رضيه وأمر به، قال الله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} بالشرائع من الأمر والنهي {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} بأن الله شرع الشرك وتحريم ما حرمتموه. {إِنْ تَتَّبِعُونَ} في هذا {إِلَّا الظَّنَّ} وهو توهمكم أن كل ما قدره فقد شرعه {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} أي تكذبون وتفترون بإبطال شريعته، {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} (1) على خلقه حين أرسل الرسل إليهم فدعوهم إلى توحيده وشريعته، ومع هذا فلو شاء هدى الخلق أجمعين إلى متابعة شريعته، لكنه يمن على من يشاء فيهديه فضلا منه وإحسانا، ويحرم من يشاء، لأن المتفضل له أن يتفضل، له أن لا يتفضل، فترك تفضله على من حرمه عدل منه وقسط، وله في ذلك حكمة بالغة.
وهو يعاقب الخلق على مخالفة أمره وإرداته الشرعية، وإن كان ذلك بإرادته القدرية، فإن القدر كما جرى بالمعصية جرى أيضا بعقابها، كما أنه سبحانه قد يقدر على العبد أمراضا تعقبه آلاما، فالمرض بقدره والألم بقدره، فإذا قال العبد: قد تقدمت الإرادة بالذنب فلا أعاقب، كان بمنزلة قول المريض قد تقدمت الإرداة بالمرض فلا أتألم، وقد تقدمت الإرادة بأكل الحار فلا يحم مزاجي، أو قد تقدمت بالضرب فلا يتألم المضروب، وهذا مع أنه جهل فإنه لا ينفع صاحبه، بل اعتلاله بالقدر ذنب ثان يعاقب عليه أيضا، وإنما اعتل بالقدر إبليس حيث قال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} (2) وأما آدم فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} (3).
فمن أراد الله سعادته ألهمه أن يقول كما قال آدم -عليه السلام- أو نحوه. ومن أراد شقاوته اعتل بعلة إبليس أو نحوها، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. ومثله مثل رجل طار إلى داره شرارة نار، فقال له العقلاء: أطفئها لئلا تحرق المنزل، فأخذ يقول: من أين كانت؟ هذه ريح ألقتها، وأنا لا ذنب لي في هذه النار، فما زال يتعلل بهذه العلل حتى استعرت وانتشرت وأحرقت الدار وما فيها، هذه حال من شرع يحيل الذنوب على المقادير، ولا يردها بالاستغفار والمعاذير. بل حاله أسوأ من ذلك بالذنب الذي فعله، بخلاف الشرارة فإنه لا فعل له فيها. والله سبحانه يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، فإنها لا تنال طاعته إلا بمعونته، ولا تترك معصيته إلا بعصمته. (4)
- وقال: إن الناس -في باب خلق الرب وأمره ولم فعل ذلك- على
_________
(1) الأنعام الآية (149).
(2) الحجر الآية (39).
(3) الأعراف الآية (23).
(4) مجموع الفتاوى (8/ 197 - 200).(/)
طرفين ووسط: فالقدرية من المعتزلة وغيرهم قصدوا تعظيم الرب وتنزيهه عما ظنوه قبيحا من الأفعال وظلما، فأنكروا عموم قدرته ومشيئته، ولم يجعلوه خالقا لكل شيء، ولا أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، بل قالوا: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، ثم إنهم وضعوا لربهم شريعة فيما يجب عليه ويحرم بالقياس على أنفسهم، وتكلموا في التعديل والتجويز بهذا القياس الفاسد الذي شبهوا فيه الخالق بالمخلوق، فضلوا وأضلوا.
وقابلهم الجهمية الغلاة في الجبر، فأنكروا حكمة الله ورحمته، وقالوا: لم يخلق لحكمة، ولم يأمر بحكمة، وليس في القرآن "لام كي" لا في خلقه ولا في أمره. وزعموا أن قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (1) و {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} (3) وقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (4) وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (5) -وأمثال ذلك- إنما اللام فيه لام العاقبة كقوله:
_________
(1) الجاثية الآية (13).
(2) البقرة الآية (29).
(3) النجم الآية (31).
(4) البقرة الآية (185).
(5) النساء الآية (165).(8/176)
{فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (1) وقول القائل: "لدوا للموت وابنوا للخراب". ولم يعلموا أن لام العاقبة إنما تصح ممن يكون جاهلا بعاقبة فعله كفرعون الذي لم يكن يدري ما ينتهي إليه أمر موسى، أو ممن يكون عاجزا عن رد عاقبة فعله، كعجز بني آدم عن دفع الموت عن أنفسهم والخراب عن ديارهم، فأما من هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو مريد لكل ما خلق: فيمتنع في حقه لام العاقبة التي تتضمن نفي العلم أو نفي القدرة. (2)
تاج الدين الفاكهاني (3) (731 هـ)
تاج الدين عمر بن عالم بن سالم اللخمي الإسكندري العلامة النحوي والفقيه المالكي. سمع علي بن طرخان والمكين الأسمر وعتيق العمري. ولد سنة أربع وخمسين وستمائة. قال ابن فرحون: وكان فقيها فاضلا، متفننا في الحديث، والفقه، والأصول، والعربية والأدب، وكان على حظ وافر من الدين المتين، والصلاح العظيم، واتباع السلف الصالح، حسن الأخلاق، صحب جماعة من الأولياء، وتخلق بأخلاقهم، وتأدب بآدابهم وحج غير مرة، وحدث ببعض مصنفاته. وقال البرزالي: رجل جيد كثير البر والتودد والتواضع من بيت كبير. توفي رحمه الله سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
_________
(1) القصص الآية (8).
(2) مجموع الفتاوى (17/ 99 - 101).
(3) الديباج المذهب (2/ 80) والدرر الكامنة (3/ 178 - 179) وشذرات الذهب (6/ 96 - 97).(8/177)
موقفه من المبتدعة:
بدعة المولد النبوي:
له رسالة لطيفة في هذه البدعة سماها 'المورد في عمل المولد' وهي مطبوعة بتحقيق أبي الحارث الحلبي. وهذا نصها، قال الفاكهاني رحمه الله: الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين.
أحمده على ما من به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه المولد: هل له أصل في الدين؟؟
وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا، والإيضاح عنه معينا.
فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين. بل هو بدعة، أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا:
إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أو مكروها، أو محرما.(8/178)
وهو ليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا، لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون -فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحا، لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين.
فلم يبق إلا أن يكون مكروها، أو حراما، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة، وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف.
لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف، والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الغانيات، إما مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف.(8/179)
وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} (1).
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان.
وإنما يحل ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب. وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ.
ولله در شيخنا القشيري رحمه الله تعالى حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ وصار أهل العلم في وهدة حادوا عن الحق فما للذي فقلت للأبرار أهل التقى ... لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... ـمعروف في أيامنا الصعبه
وصار أهل الجهل في رتبه
سادوا به فيما مضى نسبه
والدين لما اشتدت الكربه
نوبتكم في زمن الغربه
ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب.
هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر
_________
(1) الفجر الآية (14).(8/180)
الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.
وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.
التعليق:
هذه البدعة التي أحدثها الروافض ومن كان على شاكلتهم حاربها علماء السلف في كل وقت، وسيمر بنا إن شاء الله بعضهم، وكلام هذا الإمام يستحق أن يكتب بماء الذهب، حيث ذكر أن هذا المولد لا أصل له في دين الله إن خلا من المظاهر الشركية ومن سائر المحرمات؛ من أكل مال بالباطل، ومن وجود اختلاط، ومن وجود زنا ولواط، وتغن بالفحش. ومن زابور هذه المواسم ما يقول صاحبه مخاطبا النبي - صلى الله عليه وسلم -:
فإن من جودك الدنيا وضرتها يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... ومن علومك علم اللوح والقلم
سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله:
هذه علتي وأنت طبيبي ... ليس يخفى عليك في القلب داء
وقوله:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وهكذا لو اجتنبت الصلوات المصحوبة بالشرك، التي يصفون فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف شركية، لو قام - صلى الله عليه وسلم - من قبره لقاتلهم كما كان يقاتل المشركين أعداء الله، لكان الحكم في ذلك كما ذكر هذا الإمام.(8/181)
إبراهيم بن عمر الجُعْبُرِي (1) (732 هـ)
إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل بن أبي العباس، الشيخ العلامة، برهان الدين الجعبري، أبو إسحاق السلفي بفتحتين نسبة إلى طريقة السلف. ولد سنة أربعين وستمائة بقلعة جعبر. تلا ببغداد بالسبع على أبي الحسن الوجوهي، وقرأ على تاج الدين بن يونس وغيرهما. اشتغل ببغداد، وقدم دمشق وأقام ببلد الخليل نحو أربعين سنة.
قال عنه ابن كثير: كان من المشايخ المشهورين بالفضائل والرياسة والخير والديانة والعفة والصيانة. وقال الذهبي: كان ساكنا وقورا ذكيا واسع العلم. صنف في القراءات والحديث والأصول والعربية والتاريخ وغير ذلك. توفي رحمه الله في رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
وكان يكتب بخطه -السَّلَفِي- فسئل عن ذلك: فقال بالفتح نسبة إلى طريق السلف. (2)
موقفه من المشركين:
قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: وحدثني تاج الدين الأنباري، الفقيه المصري الفاضل، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية، وهو شيخ نجس، يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله ... وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري: أنه
_________
(1) معجم شيوخ الذهبي (116 - 117) والبداية والنهاية (14/ 167 - 168) وغاية النهاية (1/ 21) وفوات الوفيات (1/ 39) والدرر الكامنة (1/ 50) والوافي بالوفيات (6/ 73 - 76) ومعرفة القراء (2/ 743).
(2) انظر الدرر الكامنة (1/ 51).(8/182)
حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد:
إن كان منزلي في الحب عندكم أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الأنباري، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي، وابن الفارض، وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران، ويقولان كيف الطريق؟ أين الطريق؟ (1)
عبد الرحمن القرامزي (2) (732 هـ)
عبد الرحمن بن أبي محمد بن سلطان القرامزي الفقيه العابد أبو محمد وأبو الفرج. ولد سنة أربع وأربعين وستمائة تقريبا، وقرأ بالراويات على الشيخ، الصقلي، وسمع من ابن عبد الدائم وابن النشبي والمجد بن عساكر وجماعة، وتفقه في المذهب، ثم تزهد وأقبل على العبادة والطاعة، وملازمة الجامع، وكثرة الصلوات به، واشتهر بذلك، وصار له قبول وقدر عند الأكابر.
موقفه من المشركين:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان قوي النفس لا يقوم لأحد. وله محبون. ومن حسناته أنه كان من اللعانين للاتحادية. (3)
_________
(1) مجموع الفتاوى (2/ 246).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 416) والدرر الكامنة (2/ 346) ومعجم شيوخ الذهبي (1/ 380 - 381) والمقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/ 109).
(3) (4/ 416).(8/183)
بدر الدين بن جماعة (1) (733 هـ)
العالم شيخ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الحموي ثم المصري الشافعي. ولد سنة تسع وثلاثين وستمائة. روى عن جملة من الأئمة منهم: الرشيد العطار وابن عزون، وابن أبي اليسر، وأجاز له جماعة منهم ابن سلمة وابن البرادعي. سمع الحديث واشتغل بالعلم، وحصل علوما متعددة، وتقدم وساد أقرانه، وكان قوي المشاركة في علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير. تولى القضاء ومناصب أخرى. من أشعاره:
أعم خلائق الإنسان نفعا ... وأقربها إلى ما فيه راحه
أداء أمانة وعفاف نفس ... وصدق مقالة وسماح راحه
توفي رحمه الله سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين في الرد على ابن عربي من قول ابن جماعة: هذه الفصول المذكورة، وما أشبهها من هذا الباب بدعة وضلالة ومنكر وجهالة، لا يصغي إليها ولا يعرج عليها ذو دين، ثم قال: وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأذن في المنام بما يخالف ويعاند الإسلام، بل ذلك من وسواس الشيطان ومحنته وتلاعبه برأيه وفتنته.
وقوله في آدم: إنه إنسان العين تشبيه لله تعالى بخلقه. وكذلك قوله الحق المنزه، هو الخلق المشبه، إن أراد بالحق رب العالمين فقد صرح بالتشبيه وتغالى
_________
(1) ذيل طبقات الحفاظ (107 - 109) وشذرات الذهب (6/ 105 - 106) والوافي بالوفيات (2/ 18 - 20) وفوات الوفيات (3/ 297 - 298) والبداية والنهاية (14/ 171) وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 230 - 232).(8/184)
فيه. وأما إنكاره ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد فهو كافر به عند علماء أهل التوحيد، وكذلك قوله في قوم نوح وهود، قول لغو باطل مردود. وإعدام ذلك وما شابه هذه الأبواب من نسخ هذا الكتاب من أوضح طرق الصواب، فإنها ألفاظ مزوقة وعبارات عن معان غير محققة. وإحداث في الدين ما ليس منه. فحكمه رده والإعراض عنه. (1)
ابن سيد الناس (2) (734 هـ)
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحدث الأديب الناظم الناثر فتح الدين أبو الفتح، كان حافظا بارعا أديبا متفننا بليغا، حسن المحاورة، لطيف العبارة، فصيح الألفاظ، كامل الأدوات، جيد الفكرة، صحيح الذهن، لا تمل محاضرته. ولد في رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وستمائة. وشيوخه كثر، منهم: أبو الفتح بن دقيق العيد، وأبو الحسن الغرافي وبهاء الدين بن النحاس. ومن تلاميذه المسند أبو الفرج الغزي، وصلاح الدين الصفدي، وأم محمد رقية ابنة علي، وغيرهم. قال البرزالي: كان أحد الأعيان معرفة وإتقانا وحفظا للحديث، وتفهما في علله، وأسانيده، عالما بصحيحه وسقيمه، مستحضرا للسيرة، له حظ في العربية، حسن التصنيف. قال ابن ناصر: كان إماما، حافظا عجيبا،
_________
(1) العقد الثمين (2/ 283 - 284).
(2) شذرات الذهب (6/ 108 - 109) وطبقات الشافعية للسبكي (6/ 29 - 31) والدرر الكامنة (4/ 208 - 213) والوافي بالوفيات (1/ 289 - 311) والبداية والنهاية (14/ 178) وذيل طبقات الحفاظ (16 - 18).(8/185)
مصنفا، بارعا، شاعرا أديبا. توفي رحمه الله في يوم السبت حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
العقيدة السلفية الموضوعة على الآي والأخبار والاقتفاء بالآثار النبوية.
ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية. (1)
محمد بن محمد بن الحاج (2) (737 هـ)
محمد بن محمد، أبو عبد الله العبدري الفاسي نزيل مصر. يعرف بابن الحاج، واشتهر بالزهد والورع، وكان فقيها عارفا بمذهب مالك. أخذ العلم عن أعلام منهم: أبو إسحاق المطماطي، وصحب أبا محمد بن أبي جمرة وانتفع به. وأخذ عنه الشيخ عبد الله المنوفي والشيخ خليل وغيرهما. صنف كتاب المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات، وبين فيه البدع المختلفة والعوائد المنتحلة، لكنه للأسف وقع في ما حذر منه، وجوز بعض البدع الشركية، كزيارة القبور، والتوسل بالأولياء، وطلب تفريج الكربات عند زيارة قبور الصالحين، والتوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نبه على مواضع هذه البدع في المدخل الشيخ الفاضل محمد بن عبد الرحمن الخميس في رسالة قيمة بعنوان: المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل. توفي ابن الحاج بالقاهرة
_________
(1) (14/ 178).
(2) مقدمة المدخل (1/ 2) وشجرة النور الزكية (1/ 218) والديباج (2/ 321).(8/186)
سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار ما ذكر في الترجمة: المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات وهو مطبوع طبعات متعددة، وفي وقت مبكر، وفيه ما يستفاد منه غير أنه فيه ما يحذر منه، ففيه كما ذكرت آنفا من دعوات صريحة إلى بعض البدع المنكرة لا سيما بدع القبورية وخرافاتهم وشركياتهم، فليكن القارئ منه على حذر، فإن الكتاب مشهور في الأوساط العلمية.
وقد تتبعه -كما ذكرت- أخونا الفاضل محمد بن عبد الرحمن الخميس، وأبان المواطن التي ينبغي أن تُحْذَرَ منه، في جزء صغير سماه 'المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل' وأتبع كل خرافة بما يناسب من التعليق فجزاه الله خيرا، ورأيت أن أورد هنا من هذه الخرافات شاهدا على ما قلنا:
جاء في المدخل: وكذلك يدعو عند هذه القبور عند نازلة نزلت به أو بالمسلمين، ويتضرع إلى الله تعالى في زوالها وكشفها عنه وعنهم. وهذه صفة زيارة القبور عموما، فإن كان الميت المزار ممن ترجى بركته، فيتوسل إلى الله تعالى به، وكذلك يتوسل الزائر بمن يراه الميت (1) ممن ترجى بركته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يبدأ بالتوسل إلى الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو العمدة في التوسل، والأصل في هذا كله، والمشرع له، فيتوسل به - صلى الله عليه وسلم - وبمن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. (2)
_________
(1) هكذا بالأصل.
(2) المدخل (1/ 248).(8/187)
وقال: ... ثم يتوسل بتلك المقابر، أعني بالصالحين منهم في قضاء حوائجه، ومغفرة ذنوبه، ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمشايخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين، ولمن غاب عنه من إخوانه، ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم، ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر. فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم، فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه. (1)
وقال: ثم نرجع إلى ما كنا بسبيله من زيارة القبور فيما ذكر من الآداب، وهو في زيارة العلماء والصلحاء ومن يتبرك بهم.
وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره، لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله، ثم يصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم، ثم يترحم على التابعين بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه، ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم، ويجزم بالإجابة ببركتهم، ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح.
وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم،
_________
(1) المدخل (1/ 249).(8/188)
ومن عجز عن الوصول إليهم، فليرسل بالسلام عليهم، ويذكر ما يحتاج إليه من حوائجه، ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم، ولا من توسل بهم، ولا من قصدهم، ولا من لجأ إليهم.
هذا الكلام في زيارة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عموما ... (1)
وهكذا استرسل الشيخ رحمه الله في هذا الهذيان، الذي أغنانا عنه الأئمة بالبيان، وكشفوا ما فيه من الغلط والانحراف، والمعصوم من عصمه الله، والله المستعان.
السلطان الناصر محمد بن قلاوون (2) (741 هـ)
الملك الناصر محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي بن المنصور. ولد سنة أربع وثمانين وستمائة. سمع من ست الوزراء وابن الشحنة، ووجدت له إجازة بخط البرزالي من ابن مشرف وعيسى المغاري وجماعة.
قال ابن جحر: كان مطاعا مهيبا عارفا بالأمور، يعظم أهل العلم والمناصب الشرعية؛ لا يقرر فيها إلا من يكون أهلا لها، ويتحرى لذلك ويبحث عنه.
كانت وفاته في تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين سبعمائة
_________
(1) المدخل (1/ 251 - 252).
(2) البداية والنهاية (14/ 202 - 203) وذيل العبر (2/ 431) والدرر الكامنة (4/ 144 - 148) وشذرات الذهب (6/ 134 - 135).(8/189)
بالقلعة، وصلى عليه عزالدين ابن جماعة القاضي.
موقفه من المشركين:
- جاء في البداية والنهاية: قال البرزالي: وفي نصف شعبان أمر السلطان بتسليم المنجمين إلى والي القاهرة فضربوا وحبسوا لإفسادهم حال النساء، فمات منهم أربعة تحت العقوبة، ثلاثة من المسلمين ونصراني، وكتب إلي بذلك الشيخ أبو بكر الرحبي. (1)
موقف السلف من الدكاكي الزنديق (741 هـ)
إدعاؤه الإلهية وتنقصه الأنبياء:
- قال ابن كثير: وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر شوال، عقد مجلس في دار العدل بدار السعادة، وحضرته يومئذ واجتمع القضاة والأعيان على العادة، وأحضر يومئذ عثمان الدكاكي قبحه الله تعالى، وادعي عليه بعظائم من القول لم يؤثر مثلها عن الحلاج ولا عن ابن أبي العزاقر الشلمغاني، وقامت عليه البينة بدعوى الإلهية لعنه الله، وأشياء أخر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الريب من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية عليهم لعائن الله، ووقع منه في المجلس من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي وتضمن ذلك تكفيره من المالكية أيضا، وادعى أن له دوافع وقوادح في بعض الشهود، فرد إلى السجن
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 169).(8/190)
مقيدا مغلولا مقبوحا، أمكن الله منه بقوته وتأييده، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أحضر عثمان الدكاكي المذكور إلى دار السعادة، وأقيم بين يدي الأمراء والقضاة وسئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر، وعجز عن ذلك فتوجه عليه الحكم، فسئل القاضي المالكي الحكم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم حكم بإراقة دمه وإن تاب، فأخذ المذكور فضربت رقبته بدمشق بسوق الخيل، ونودي عليه: هذا جزاء من يكون على مذهب الاتحادية، وكان يوما مشهودا بدار السعادة، حضر خلق من الأعيان والمشايخ، وحضر شيخنا جمال الدين المزي الحافظ، وشيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي، وتكلما وحرضا في القضية جدا، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وخرج القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي، وهم نفذوا حكمه في المجلس فحضروا قتل المذكور، وكنت مباشرا لجميع ذلك من أوله إلى آخره. (1)
أبو الحجاج جمال الدين المِزِّي (2) (742 هـ)
يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفريد الرحلة، إمام المحدثين جمال الدين أبو الحجاج المزي بن الزكي
_________
(1) البداية (14/ 201 - 202).
(2) أعيان العصر (4/ 2209 - 2215) والدرر الكامنة (4/ 457) وتذكرة الحفاظ (4/ 1498) وشذرات الذهب (6/ 136 - 137) والبداية والنهاية (14/ 203 - 204) وفهرست الفهارس (1/ 107) وفوات الوفيات (4/ 353 - 355) وطبقات الشافعية للسبكي (6/ 251 - 267).(8/191)
القضاعي الكلبي الحلبي المولد، خاتمة الحفاظ ناقد الأسانيد والألفاظ. ولد في عاشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة. حفظ القرآن في صباه وتفقه للشافعي مدة وعني بشيء من الأصول. سمع أصحاب طبرزد والكندي وابن الحرستاني. سمع منه شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، وابن سيد الناس والذهبي، وغيرهم. وبه تخرج علم الدين البرزالي وابن عبد الهادي وعلاء الدين مغلطاي وآخرون.
قال الصفدي: كان شيخنا الحجة جمال الدين أبو الحجاج شيخ الزمان، وحافظ العصر وناقد الأوان، لو عاصره ابن ماكولا، كان له مشروبا ومأكولا، وجعل هذا الأمر إليه موكولا. وقال أيضا ناقلا عن شيخه ابن سيد الناس في حق المزي: ووجدت بدمشق الإمام المعظم والحاكم الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصرا دون مصر، ولا يتفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمدا آثار السلف الصالح، مجتهدا فيما نيط به في حفظ السنة من النصائح، معرضا عن الدنيا وأشباهها.
توفي رحمه الله في ثاني عشر شهر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال عنه الذهبي: وكان مأمون الصحبة، حسن المذاكرة، خيِّر الطوية، محبا للآثار، معظما لطريقة السلف، جيد المعتقد، وكان اغتر في شبيبته وصحب العفيف التلمساني، فلما تبين له ضلاله هجره، وتبرأ منه،(8/192)
وكان أوذي مرة واختفى بسبب إسماعه لتاريخ الخطيب، وأوذي أخرى بسبب قراءته كتاب خلق أفعال العباد. (1)
موقفه من المشركين:
- جاء في تذكرة الحفاظ: وقد لزم في وقت صحبة العفيف التلمساني فلما تبين له انحلاله واتحاده تبرأ منه وحط عليه. (2)
موقفه من الجهمية:
جاء في الدرر الكامنة: قال الذهبي: وكان يترخص في الأداء من غير الأصل ويصلح من حفظه. ويسامح في دمج القارئ ولغط السامعين ويعتمد في ذلك الإجازة. وكان يتمثل بقول ابن منده: يكفيك من الحديث شمه.
وأوذي مرة في سنة خمس بعد السبعمائة بسبب ابن تيمية، لأنه لما وقعت المناظرة له مع الشافعية وبحث مع الصفي الهندي ثم ابن الزملكاني بالقصر الأبلق، شرع المزي يقرأ كتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وفيه فصل في الرد على الجهمية، فغضب بعض وقالوا: نحن المقصودون بهذا، فبلغ ذلك القاضي الشافعي يومئذ فأمر بسجنه، فتوجه ابن تيمية وأخرجه من السجن، فغضب النائب فأعيد، ثم أفرج عنه، وأمر النائب وهو الأفرم بأن ينادي بأن من يتكلم في العقائد يقتل. (3)
_________
(1) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة (4/ 461) والصفدي في أعيان العصر (4/ 2212).
(2) تذكرة الحفاظ (4/ 1499).
(3) الدرر الكامنة (4/ 458). انظر السير (17/ 551) طبعة دار الفكر.(8/193)
محمد بن عبد الهادي (1) (744 هـ)
الإمام الأوحد، الحافظ ذو الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الجماعلي الأصل، ثم الصالحي، الحنبلي. ولد في شهر رجب سنة خمس وسبعمائة. من شيوخه القاضي تقي الدين أبو الفضل المقدسي وابن عبد الدائم، وسعد الدين بن سعد، وشيخ الإسلام ابن تيمية والمزي. ومن تلاميذه إسماعيل بن يوسف المقرئ وشمس الدين محمد بن المحب الصالحي المعروف بالصامت ومحمد بن علي الطوسي، وزين الدين العراقي.
قال الصفدي: الإمام القاضي المفنن الذكي النحرير شمس الدين الحنبلي ... كان ذهنه صافيا وفكره بالمعضلات وافيا، جيد المباحث، أطرب في نقله من المثاني والمثالث، صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد. وقال ابن كثير: الإمام العلامة الناقد البارع في فنون العلوم شمس الدين ... حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ والقراءات، وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظا جيدا لأسماء الرجال وطرق الحديث، عارفا بالجرح والتعديل، بصيرا بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن، مستقيما على طريقة السلف واتباع الكتاب والسنة، مثابرا على فعل الخيرات.
توفي رحمه الله سنة أربع وأربعين وسبعمائة.
_________
(1) شذرات الذهب (6/ 141) والبداية والنهاية (14/ 221 - 222) والوافي بالوفيات (2/ 161 - 162) وأعيان العصر (3/ 1547 - 1548) والدرر الكامنة (3/ 331 - 332) والبدر الطالع (2/ 108 - 109).(8/194)
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام العَلَم على قصر عمره نهل علما غزيرا، وكان رحمه الله سيفا مسلولا على المبتدعة، وقد تصدى لأكبر مبتدع في عصره ألا وهو السبكي، بل وألف في الرد عليه كتابا مستقلا أسماه الصارم المنكي -فأزعج به المبتدعة الأقدمين والمحدثين، حتى إنهم لخبثهم وحقدهم الدفين حاولوا مناقشة كلمة "المنكي"- وهو من الكتب السلفية التي لو كتبت بماء الذهب لَعُدَّ في حقها رخيصا، لما حواه في طياته من بيان لخبث المبتدعة عموما وحيلهم ومكرهم وتمويهاتهم، وهو مطبوع بحمد الله.
- قال في مطلعه: أما بعد: فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطيّ إلى القبور، وذكر أنه كان قد سماه 'شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة' ثم زعم أنه اختار أن يسميه 'شفاء السقام في زيارة خير الأنام' فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة. ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.(8/195)
وهو في الجملة لون عجيب وبناء غريب؛ تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين، فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدعيه أنه من جملة المقلدين، فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد. (1)
- إلى أن قال: فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة؛ وخلط الحق بالباطل لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس، لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم والله المستعان. (2)
- وقال: أن تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - هو موافقته في محبة ما يحب وكراهة ما يكره، والرضا بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قوله قول أحد سواه، ولا يعارض ما جاء به بمعقول، ثم يقدم المعقول عليه كما يقوله أئمة هذا المعترض الذين تلقى عنهم أصول دينه، وقدم آراءهم وهو أحسن ظنونهم على كلام الله ورسوله. ثم ينسب ورثة الرسول الواقفين مع
_________
(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص.6 - 7).
(2) الصارم المنكي (ص.9).(8/196)
أقواله المخالفين لما خالفها إلى ترك التعظيم، وأي إخلال بتعظيم، وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول عن إفادة اليقين، وقدم عليه آراء الرجال، وزعم أن العقل يعارض ما جاء به، وأن الواجب تقديم المعقول، وآراء الرجال على قوله. (1)
- إلى أن قال: أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح، وهم أبعد الناس منه، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران.
أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلى الصبح والعصر لئلا يتشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم، ونهى أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان؛ ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلى إلى القبر، أو يتخذ مسجداً، أو عيداً، أو يوقد عليها سراج، وذم من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد، فقال له: بئس الخطيب أنت، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وهديه، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.
_________
(1) الصارم المنكي (ص.339).(8/197)
الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة؛ وإليه الوجهة والعمل الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب؛ الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده وأحياهم وحده، وأماتهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائناً من كان بل الأمر كله لله ...
فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده الذي هو لازم إيمانه وملزومه؛ وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير؛ فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه، فالغالي المفرط كذلك، وكل منهما شر من الآخر من وجه دون وجه؛ وأولياؤه سلكوا بين ذلك قواماً؛ وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه، وإعلاء كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه.
وبالجملة: فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه وتحكيمه وحده والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله: فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده أو تأوله، أو أعرض عنه، والله سبحانه(8/198)
يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، وهم يشهدون على أنفسهم بذلك.
وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم، وأقوال متبوعهم على قوله؛ وأنه لا يستفاد من كلامه يقين؛ وأنه إذا عارضه الرجال قدمت عليه؛ وكان الحكم ما تحكم به؛ أفلا يستحي من الله من العقلاء من هذا حاله في أصول دينه وفرعه أن يتستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسوله ناصر له منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه؛ ويأبى الله ذلك ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} (1)، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} (2).اهـ (3)
ومن كتبه السلفية كذلك:
- 'طبقات الحفاظ'، لا يزال مخطوطا.
- 'العقود الدرية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية'، وقد طبع بتحقيق الشيخ حامد الفقي رحمه الله.
_________
(1) الأنفال الآية (34).
(2) التوبة الآية (105).
(3) الصارم المنكي (ص.341 - 343).(8/199)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله ضمن رده على السبكي: والذين يقصدون الحج إلى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أندادا من أهل معصيته ومخالفته لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلو في المسيح والتبرك به من جنس محبته وموالاته، وكذلك دعاؤهم للأنبياء الموتى كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهم السلام، ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم، وإنما هو من جنس معاداتهم، ولهذا يتبرؤون منهم يوم القيامة.
وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)} (1) فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرؤوا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا
_________
(1) الشعراء الآيات (214 - 216).(8/200)
بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبة إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم فيحبهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله، وما من الله به عليه، وما من على أمته، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له، لا بنفس رؤية القبر.
ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم، وإنما قصد جمهورهم التأكل والترأس بهم، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رئاسة، أو مأكلة لا ليزدادوا هم حبا وخيرا.
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» (2).
وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه - صلى الله عليه وسلم -، والأمر فوق ما ذكره أضعافا مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له، واتباع سنته والتأسي به، والاقتداء به ومحبتنا له وتعظيمنا له، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو طريق النجاة والسعادة، وهو سبيل الحق ووسيلتهم إلى الله تعالى، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره، والشرك بالله واتباع غير سبيل
_________
(1) الممتحنة الآية (4).
(2) أحمد (1/ 405) وابن حبان (6/ 94/2325) وابن خزيمة (2/ 6 - 7/ 789) والطبراني (10/ 188/10413) والبزار (4/ 151/3420) من حديث ابن مسعود. وقال الهيثمي في المجمع (2/ 27): "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن". وقال في موضع آخر (8/ 13): "رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح". وقال ابن تيمية في الاقتضاء (330): "إسناده جيد". والشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقا (13/ 17).(8/201)
المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» (1)، وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا» (2)، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» (3). وقال: «خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (4)، وقال: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (5)
إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجاج إلى القبور هم من المخالفين للرسول - صلى الله عليه وسلم - الخارجين عن شريعته وسنته، لا من الموافقين له المطيعين له. (6)
- وقال: وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا، ولكن أهل الضلال افتروا آثارا مكذوبة على الرسول وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من
_________
(1) أحمد (2/ 234) والبخاري (3/ 81/1189) ومسلم (2/ 1014/1397) وأبو داود (2/ 529/2033) والنسائي (2/ 368/699) وابن ماجه (1/ 452/1409) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد (6/ 34) والبخاري (1/ 700/435 - 436) ومسلم (1/ 377/531) والنسائي (2/ 370 - 371/ 702) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما.
(3) أنظر تخريجه ضمن مواقف حسين بن مهدي النعيمي سنة (1187هـ).
(4) أحمد (3/ 310 - 311 و319 و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(5) أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي ..
(6) الصارم المنكي (75 - 77).(8/202)
الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وغرض أولئك الحج إلى قبر علي، أو الحسين، أو إلى قبور الأئمة كموسى والجواد، وغيرهما من الأئمة الأحد عشر، فإن الثاني عشر دخل السرداب عندهم، وهو حي إلى الآن ينتظر، ليس لهم غرض في الحج إلى قبر الخليل، وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا، فلكل قوم هدى يخالف هدى الآخرين قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (1).
وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج، وتارة نظير الحج، وتارة بدلا عن الحج. (2)
- وقال: والمقصود هنا أن نعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه، وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حي، ويرد فيه على الكافر، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة، أو
_________
(1) الروم الآيات (30 - 32).
(2) الصارم المنكي (84).(8/203)
اعتكاف، أو تعليم، أو تعلم، أو ذكر لله دعاء له ونحو ذلك مما شرع في المساجد لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة، كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره، فلم يكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره، لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه، وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما، قيل لمالك: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك أي يقفون على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلون عليه ويدعون له ولأبي بكر وعمر، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة والأيام المرة والمرتين، أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
فقد كره مالك رحمه الله هذا وبين أنه لم يبلغه عن أهل العلم بالمدينة، ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة، وإن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا بدون سائر الأمصار، فإذا لم يكره لأولئك زيارة القبور، بل يستحب لهم زيارتها عند جمهور العلماء، كما(8/204)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، فأهل المدينة أولى أن لا يكره لهم، بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة، ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما يزار سائر القبور، فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن، وهذا لعلو قدره وشرفه، لا لكون غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين، فضلا عن الصحابة والتابعين، وعلماء المسلمين؛ بالمدينة وغيرها. (1)
- وقال: والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل به غيرهم من أهل البدع، الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، وجهلوا السنة إذا رأوا أو سمعوا أمورا من الخوارق، فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين؛ كما أضل النصارى، وأهل البدع بمثل ذلك، فهم يتبعون المتشابه من الكتاب ويدعون المحكم، ولذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية، كما يسمع ويرى أمورا فيظن أنه رحماني، وإنما هو شيطاني، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه، ولذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته، ويغيث من استغاث به، أو أن يحمل إليهم صوتا يشبه صوته، لأن الذين رأوه قد علموا أن هذا شرك لا يحل، ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه: إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، ولا تستغيثوا بي لا في محياي ولا في مماتي، كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم
_________
(1) الصارم المنكي (115 - 116).(8/205)
ويقول: أنا من رجال الغيب، أو الأوتاد الأربعة، أو من السبعة أو الأربعين، أو يقول له: أنت منهم، إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله ويخاطبه عند القبر، كما وقع ذلك لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور، كما يقع كثير من ذلك للمشركين، وأهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه، فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم، والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه إما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإما غيره من الأنبياء يقظة ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل له أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعانقه هو وصاحباه، ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام إلى مكان بعيد.
وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددا كثيرا، وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم.
وهذا موجود عند خلق كثير، كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يعتقد أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه أضل من فعل به ذلك، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله، ومن كان أقل علما قال له: ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا، ومن عنده علم بها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيد فائدة في دينه،(8/206)
بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة أن الخضر أتاه ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وابن عمر كان يسلم، ولم يقل قط أنه سمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين، وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة، لم يطمع الشيطان أن يقول لها: اذهبي إلى قبره، فسليه هل يورث، كما إنهم أيضا لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم: اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال: اطلبوا منه أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته أن يطلبوا منه ذلك، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان، كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه.
وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات، كسفر الحج والعمرة والجهاد، وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة، والأخرى(8/207)
تحط خطيئة، فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزا حتى يقطعوا المسافة بسرعة، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وأنه أراه من آياته الكبرى، وكان هذا من خصائصه، فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشياطين تخيل إليه معاريج شيطانية، كما خيلها لجماعة من المتأخرين.
لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم ممن يظن أنها فضيلة للمتأخرين، ولم تكن فيهم، فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك، بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، وبسط هذا له موضع آخر. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: واعلم أن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من الخلف متفقون على إثبات نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا،
_________
(1) الصارم المنكي (300 - 303).(8/208)
وكذلك هم مجمعون على إثبات الإتيان والمجيء وسائر ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه تأول شيئاً من ذلك.
وأما المعتزلة والجهمية فإنهم يردون ذلك ولا يقبلونه، وحديث النزول متواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال عثمان بن سعيد الدارمي: هو أغيظ حديث للجهمية. وقال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته. (1)
الذهبي (2) (748 هـ)
محمد بن أحمد بن عثمان الشيخ الإمام الحافظ الهمام، مفيد الشام، ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين، شمس الدين أبو عبد الله، التركماني الفارقي الأصل الدمشقي. ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وأجمع من ترجم له أنه حافظ عصره الذي تضرب له أكباد الإبل من شتى الأمصار. اسم على مسمى، فهو ذهبي استضاء به المسلمون عامة، والمحدثون خاصة، والسلفيون خاصة الخاصة، ترك ميراثا كبيرا في الحديث والرجال، وهو من مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية باعترافه في تصريحاته في كثير من تآليفه. أسهم في الدفاع عن العقيدة السلفية بمؤلفاته الجيدة كالعلو والعرش، وأما مؤلفاته العامة فما تأتي مناسبة إلا وينتصر للعقيدة السلفية ويرد
_________
(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص.220).
(2) طبقات الشافعية للسبكي (5/ 216) والدرر الكامنة (3/ 336 - 338) والرد الوافر (65 - 73).(8/209)
على المخالفين لها.
قال تاج الدين السبكي في طبقاته: اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي، والبرزالي، والذهبي، والشيخ الوالد، لا خامس لهم في عصرهم، فأما أستاذنا أبو عبد الله فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، وَذَهَبُ العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها أخبار من حضرها، وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت.
قال ابن ناصر: كان إماما في القراءات، فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف. أنشدونا عنه لنفسه:
الفقه قال الله قال رسوله وحذار من نصب الخلاف جهالة ... إن صح والإجماع فاجهد فيه
بين النبي وبين رأي فقيه
وله المؤلفات المفيدة والمختصرات الحسنة، والمصنفات السديدة. توفي رحمه الله تعالى عام ثمان وأربعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله في تذكرة الحفاظ وهو يتكلم عن عزة السنن وخمود البدع في الطبقة الخامسة: وفي زمان هذه الطبقة كان الإسلام وأهله في عز تام، وعلم غزير وأعلام الجهاد منثورة، والسنن مشهورة، والبدع مكبوتة، والقوالون بالحق كثير، والعباد متوافرون، والناس في بُلَهْنِيَّةٍ من العيش بالأمن، وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس، وإلى قريب(8/210)
مملكة الخطا، وبعض الهند وإلى الحبشة. (1)
- قال رحمه الله في السير: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والأوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة. فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الأثر، ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت الشبه. نسأل الله العافية. (2)
- وقال: هذه مسألة كبيرة، وهي: القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي، إذا علم صدقه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعيا إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء، قبول روايته والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه وكان داعية ووجدنا عنده سنة تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغ.
وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها: أن من دخل في بدعة ولم يعد من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا بأولئك المذكورين، وحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم
_________
(1) تذكرة الحفاظ (1/ 244).
(2) (8/ 144).(8/211)
وحفظهم. (1)
- وقال: أنبئت عن أبي جعفر الطرسوسي عن ابن طاهر قال: لو أن محدثا من سائر الفرق أراد أن يروي حديثا واحدا بإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوافقه الكل في عقده، لم يسلم له ذلك، وأدى إلى انقطاع الزوائد رأسا، فكان اعتمادهم في العدالة على صحة السماع والثقة من الذي يروى عنه، وأن يكون عاقلا مميزا.
قال الذهبي: العمدة في ذلك صدق المسلم الراوي، فإن كان ذا بدعة أخذ عنه، والإعراض عنه أولى، ولا ينبغي الأخذ عن معروف بكبيرة، والله أعلم. (2)
- وقال: فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟
وجوابه: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى؛ كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.
ثم بدعة كبرى؛ كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
_________
(1) السير (7/ 154).
(2) السير (19/ 368).(8/212)
وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا. (1)
- وقال: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر. فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا. وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين. فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب.
وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين، فظهر المأمون الخليفة- وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول- فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخب ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة، فإنه كان كذلك. وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء، فلم يمهل. وهلك لعامه، وخلى بعده شرا وبلاء في الدين. فإن الأمة مازالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون
_________
(1) الميزان (1/ 5 - 6).(8/213)
في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون، كان منهم وأظهر المقالة. (1)
- قال الذهبي: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن. (2)
- وقال: فيا لله العجب من عالم يقلد دينه إماما بعينه في كل ما قال، مع علمه بما يرد على مذهب إمامه من النصوص النبوية، فلا قوة إلا بالله. (3)
- وقال: وقد روي من وجوه متعددة، أن أبا بكر بن عياش مكث نحوا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة.
فعلق الذهبي على هذا القول: وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى. فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وقال عليه السلام: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (4). (5)
_________
(1) السير (11/ 236).
(2) السير (20/ 45 - 46).
(3) التذكرة (1/ 16).
(4) أخرجه: أحمد (2/ 164،189،195) وأبو داود (2/ 113،116/ 1390 - 1394) والترمذي (5/ 182/2949) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 25/8067) وابن ماجه (1/ 428/1347) وابن حبان (الإحسان 3/ 35/758) كلهم من طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فذكره". وأصله عند البخاري (9/ 116/5054) ومسلم (2/ 812 - 813/ 1159).
(5) السير (8/ 503).(8/214)
- وقال: قال الحاكم: وسمعت الصبغي يقول: صام أبو عمرو الخفاف الدهر نيفا وثلاثين سنة. قلت: ليته أفطر وصام، فما خفي والله عليه النهي عن صيام الدهر (1). ولكن له سلف، ولو صاموا أفضل الصوم، للزموا صوم داود عليه السلام. (2)
- وساق بالسند إلى علي رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يرفع الرجل صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها، يغلط أصحابه في الصلاة، والقوم يصلون) (3).
قال الذهبي: هذا حديث صالح الإسناد، فيه النهي عن قراءة الأسباع التي في المساجد وقت صلوات الناس فيها، ففي ذلك تشويش بين على المصلين، هذا إذا قرؤوا قراءة جائزة مرتلة، فإن كانت قراءتهم دمجا وهذرمة وبلعا للكلمات، فهذا حرام مكرر، فقد -والله- عم الفساد، وظهرت البدع، وخفيت السنن، وقل القوال بالحق، بل لو نطق العالم بصدق وإخلاص، لعارضه عدة من علماء الوقت، ولمقتوه وجهلوه، فلا حول ولا
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 164) والبخاري (4/ 277/1977) ومسلم (2/ 814 - 815/ 1159 [186]) والنسائي (4/ 521 - 522/ 2376) وابن ماجه (1/ 544/1706) كلهم من طريق أبي العباس عن عبد الله بن عمرو.
(2) السير (13/ 561).
(3) رواه أحمد (1/ 88) وأبو يعلى (1/ 384/497) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعا. وذكره الهيثمي في المجمع (2/ 265) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحارث وهو ضعيف". لكن معنى الحديث صح من وجه آخر. أخرجه أحمد (3/ 94). أبو داود (2/ 83/1332) من حديث أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة». وصححه ابن خزيمة (2/ 190/1162) وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 133 - 134/ 1603) بعد أن ذكر سند أبي داود: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".(8/215)
قوة إلا بالله. (1)
- ثم ساق أن أبا غسان كان عند علي بن الجعد فذكروا حديث: «إن ابني هذا سيد» (2)، قال: "ما جعله الله سيدا".
قال الذهبي معلقا: أبو غسان لا أعرف حاله، فإن كان قد صدق، فلعل ابن الجعد قد تاب من هذه الورطة، بل جعله سيدا على رغم أنف كل جاهل، فإن من أصر على مثل هذا من الرد على سيد البشر، يكفر بلا مثنوية (3).اهـ (4)
- وساق بالسند إلى محمد بن يحيى النيسابوري، حين بلغه وفاة أحمد، يقول: ينبغي لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.
قال الذهبي: تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع. (5)
- وقال: قال أبو نعيم الحافظ -وهو يتحدث عن محمد بن الفضل البلخي الصوفي-: سمع الكثير من قتيبة بن سعيد. وسمعت محمد بن عبد الله الرازي بنسا أنه سمعه يقول: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من العلم.
_________
(1) السير (14/ 165 - 166).
(2) أخرجه: أحمد (5/ 37 - 38) والبخاري (5/ 384/2704) وأبو داود (5/ 48 - 49/ 4662) والترمذي (5/ 616/3773) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 118 - 119/ 1409) من طرق عن الحسن أنه سمع أبا بكرة يقول: فذكر الحديث.
(3) أي: بلا استثناء. (قاله في اللسان 14/ 124).
(4) السير (10/ 464).
(5) السير (11/ 203 - 204).(8/216)
قال الذهبي: هذه نعوت رؤوس العرب والترك، وخلق من جهلة العامة، فلو عملوا بيسير ما عرفوا، لأفلحوا، ولو وقفوا عن العمل بالبدع لوفقوا، ولو فتشوا عن دينهم وسألوا أهل الذكر -لا أهل الحيل والمكر- لسعدوا، بل يعرضون عن التعلم تيها وكسلا، فواحدة من هذه الخلال مردية، فكيف بها إذا اجتمعت؟ فما ظنك إذا انضم إليها كبر، وفجور، وإجرام، وتجهرم على الله؟ نسأل الله العافية. (1)
- قال الذهبي في ترجمة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ: صدوق، كان بعد الخمسمائة لكنه كان يقول: الروح قديمة على رأي جهال الجبالنة، وشبهتهم قوله تعالى: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (2) قالوا: وأمره تعالى قديم، وهو شيء غير خلقه وتلوا {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (3) {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (4).
وهذا من أردى البدع وأضلها، فقد علم الناس أن الحيوانات كلها مخلوقة، وأجسادها وأرواحها. (5)
- وقال في آخر ترجمة إمام الحرمين أبي المعالي: توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر، سنة ثمان وسبعين وأربع مئة ودفن في داره، ثم نقل
_________
(1) السير (14/ 525).
(2) الإسراء الآية (85).
(3) الأعراف الآية (54).
(4) الشورى الآية (52).
(5) ميزان الاعتدال (1/ 86 - 87) وأشار إليه في السير (19/ 520).(8/217)
بعد سنين إلى مقبرة الحسين، فدفن بجنب والده، وكسروا منبره، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ، كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولا، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاما، بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه، وكانت الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه، مبالغين في الصياح والجزع.
قال الذهبي: هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين. (1)
- وقال: كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية، لا يلتفت إليه، بل يطوى ولا يروى، كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله تعالى حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} (2) فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو
_________
(1) السير (18/ 476).
(2) الحشر الآية (10).(8/218)
في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأمة، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد، وأمهات المؤمنين، وبنات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأهل بدر مع كونهم على مراتب، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عمر وسائر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح، ثم عموم المهاجرين والأنصار، كخالد بن الوليد والعباس وعبد الله بن عمرو، وهذه الحلبة، ثم سائر من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاهد معه، أو حج معه، أو سمع منه، رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرات والمدنيات وأم الفضل وأم هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات.
فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك، فلا نعرج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سُكْران (1)؟
ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض، وتحاربوا وجرت أمور لا يمكن شرحها، فلا فائدة في بثها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة، والعاقل خصم نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولحوم العلماء مسمومة، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم، وكثرة وهمه، أو نقص حفظه، فليس من هذا النمط، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن، والحسن من الضعيف.
_________
(1) هذا عجز بيت وهو:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران(8/219)
وإمامنا (1)، فبحمد الله ثبت في الحديث، حافظ لما وعى، عديم الغلط (2)، موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهل وهوى ممن علم أنه منافس له، فقد ظلم نفسه، ومقتته العلماء، ولاح لكل حافظ تحامله، وجر الناس برجله، ومن أثنى عليه، واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل العقد والحل قديما وحديثا، فقد أصابوا، وأجملوا، وهدوا، ووفقوا.
وأما أئمتنا اليوم وحكامنا، فإذا أعدموا ما وجد من قدح بهوى، فقد يقال: أحسنوا ووفقوا، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر.
وبكل حال؛ فالجهال والضلال قد تكلموا في خيار الصحابة. وفي الحديث الثابت: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليرزقهم ويعافيهم» (3).
وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام رحمه الله، فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام، ولله الحمد.
ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه من المالكية، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة، وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه، ونالوا منه، وجرت بينهم وحشة، غفر الله للكل، وقد اعترف الإمام سحنون، وقال: لم يكن في الشافعي بدعة. فصدق والله، فرحم الله الشافعي، وأين مثل
_________
(1) يعني الشافعي.
(2) قوله: عديم الغلط فيه إطراء زائد.
(3) أخرجه: البخاري (10/ 626/6099) ومسلم (4/ 2160/2804) كلاهما من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره.(8/220)
الشافعي والله في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه، رحمه الله تعالى. (1)
- وقال: وممن كان بعد المئتين من رؤوس المتكلمين والمعتزلة، بشر بن غياث المريسي العدوي، مولى آل زيد بن الخطاب، وأبو سهل بشر بن المعتمر الكوفي الأبرص، من كبار المعتزلة ومصنفيهم، وأبو معن ثمامة بن أشرس النميري البصري، وأبو الهذيل محمد بن العلاف البصري، وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار البصري النظام، وهشام بن الحكم الكوفي الرافضي المجسم، وضرار بن عمرو الذي تنسب الضرارية إليه، وأبو المعتمر معمر بن عباد وقيل: معمر بن عمرو البصري العطار، وهشام بن عمرو الفوطي، وداود الجواربي، والوليد بن أبان الكرابيسي، وابن كيسان الأصم، وأبو موسى الفراء البغدادي، وأبو موسى البصري الملقب بالمرداز، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وآخرون.
نعوذ بالله من البدع، وأن نقول على الله ما لا نعلم. (2)
- وقال: وأصل "المدونة" أسئلة. سألها أسد بن الفرات لابن القاسم. فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرا، وأسقط، ثم رتبها سحنون، وبوبها. واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها، بل رأي محض. وحكوا أن سحنون في أواخر الأمر علم عليها، وهم بإسقاطها وتهذيب "المدونة"، فأدركته المنية رحمه الله.
_________
(1) السير (10/ 92 - 95).
(2) السير (10/ 441).(8/221)
فكبراء المالكية، يعرفون تلك المسائل، ويقررون منها ما قدروا عليه، ويوهنون ما ضعف دليله. فهي لها أسوة بغيرها من دوواين الفقه. وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر - صلى الله عليه وسلم - تسليما. فالعلم بحر بلا ساحل، وهو مفرق في الأمة، موجود لمن التمسه. (1)
- وقال: قال الشيخ محي الدين النواوي -وهو يتحدث عن محمد بن إبراهيم بن المنذر-: له من التحقيق في كتبه ما لا يقاربه فيه أحد، وهو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار، فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل.
قال الذهبي: ما يتقيد بمذهب واحد إلا مَنْ هو قاصر في التمكن من العلم كأكثر علماء زماننا، أو من هو متعصب، وهذا الإمام فهو من حملة الحجة، جار في مضمار ابن جرير، وابن سريج، وتلك الحلبة رحمهم الله. (2)
- وقال في الطبقة التاسعة من تذكرة الحفاظ: ولقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة الحديث النبوي خلق كثير، وما ذكرنا عشرهم هنا، وأكثرهم مذكورون في تاريخي. وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أئمة أهل الرأي والفروع، وعدد من أساطين المعتزلة والشيعة وأصحاب الكلام، الذين مشوا وراء المعقول وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية، وظهر في الفقهاء التقليد وتناقص الاجتهاد، فسبحان من له الخلق والأمر.
_________
(1) السير (12/ 68).
(2) السير (14/ 491).(8/222)
فبالله عليك يا شيخ، ارفق بنفسك، والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر، ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا، فما في من سميت أحد، ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا؛ أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال أن أعوزك المقال: من أحمد؟! وما ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟! هؤلاء محدثون ولا يدرون ما الفقه؟! وما أصوله؟! ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة. فاسكت بحلم أو انطق بعلم، فالعلم النافع هو النافع -كذا- ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه، ومن تكلم بالجاه وبالجهل أو بالشر والبلوى، فأعرض عنه وذره في غيه فعقباه إلى وبال. نسأل الله العفو والسلامة. (1)
التعليق:
هذا كان في زمن الذهبي، الذي عاش مع الفحول والحفاظ في كل فن، مع ذلك أورد هذه الإيرادات، فماذا يكون في زمننا هذا الذي عم فيه البلاء؟ -نسأل الله العافية- ونطق فيه الرويبضة، وتمشيخ فيه الجهال، ولقب السفلة بالفقهاء، وعقدت لهم المجالس، ووضعت لهم الدور والمدارس والجامعات؛
_________
(1) تذكرة الحفاظ (2/ 627 - 628).(8/223)
لينشروا جهلهم وينثروا حقدهم على السنة وأهلها، وضيق فيه على أهل الحق الذين ليس لهم إلا الله معينا، فهو حسبنا وعليه توكلنا، وكفى به حسيبا ووكيلا {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (1).
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: وقد كان بعض الزنادقة، والطغام من التناسخية، اعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى، حل في أبي مسلم الخراساني المقتول، عندما رأوا من تجبره، واستيلائه على الممالك، وسفك للدماء. (2)
- وقال رحمه الله: وقد نهى عليه السلام أن يبنى على القبور، ولو اندفن الناس في بيوتهم، لصارت المقبرة والبيوت شيئا واحدا، والصلاة في المقبرة، فمنهي عنها نهي كراهية، أو نهي تحريم، وقد قال عليه السلام: «أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة» (3). فناسب ذلك ألا تتخذ المساكن قبورا. وأما دفنه في بيت عائشة صلوات الله عليه وسلامه فمختص به، كما خص ببسط قطيفة تحته في لحده، وكما خص بأن صلوا عليه فرادى بلا إمام، فكان هو إمامهم حيا وميتا في الدنيا والآخرة، وكما خص بتأخير دفنه يومين، ويكره تأخير أمته، لأنه هو أمن عليه التغير بخلافنا، ثم إنهم أخروه حتى صلوا كلهم عليه داخل بيته، فطال لذلك الأمر، ولأنهم ترددوا شطر اليوم الأول في موته
_________
(1) الطلاق الآية (3).
(2) السير (6/ 67).
(3) جزء من حديث طويل أخرجه: البخاري (2/ 273/731) ومسلم (1/ 539/781) وأبو داود (2/ 145/1447) والترمذي (2/ 312/450) مختصرا. والنسائي (3/ 219 - 220/ 1598) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.(8/224)
حتى قدم أبو بكر الصديق من السنح، فهذا كان سبب التأخير. (1)
- وقال رحمه الله في شأن الفلسفة: قال سعيد بن عفير: ما رأيت أخطب منه على هذه الأعواد -يعني إسماعيل بن صالح- كان جامعا لكل سؤدد، ويعرف الفلسفة، وضرب العود، والنجوم.
قلت: علمه هذا الجهل خير منه. (2)
- وقال: ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، - يعني السيدة نفيسة -ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية. (3)
- وقال رحمه الله تعليقا على قول الإمام أحمد في هشام بن عمار: طيَّاش خفيف.
قلت: أما قول الإمام فيه: طياش، فلأنه بلغه عنه أنه قال في خطبته: الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه. فهذه الكلمة لا ينبغي إطلاقها، وإن كان لها معنى صحيح، لكن يحتج بها الحلولي والاتحادي. وما بلغنا أنه سبحانه وتعالى تجلى لشيء إلا بجبل الطور، فصيره دكا. وفي تجليه لنبينا - صلى الله عليه وسلم - اختلاف، أنكرته عائشة، وأثبته ابن عباس. (4)
- وقال رحمه الله: فتنة الزنج كانت عظيمة، وذلك أن بعض الشياطين الدهاة، كان طرقيا أو مؤدبا، له نظر في الشعر والأخبار، ويظهر من حاله
_________
(1) السير (8/ 29 - 30).
(2) السير (8/ 359).
(3) السير (10/ 106).
(4) السير (11/ 431 - 432).(8/225)
الزندقة والمروق، ادعى أنه علوي، ودعا إلى نفسه، فالتف عليه قطاع طريق، والعبيد السود من غلمان أهل البصرة، حتى صار في عدة، وتحيلوا وحصلوا سيوفا وعصيا، ثم ثاروا على أطراف البلد فبدعوا وقتلوا، وقووا، وانضم إليهم كل مجرم، واستفحل الشر بهم؛ فسار جيش من العراق لحربهم، فكسروا الجيش، وأخذوا البصرة، واستباحوها، واشتد الخطب، وصار قائدهم الخبيث في جيش وأهبة كاملة، وعزم على أخذ بغداد، وبنى لنفسه مدينة عظيمة، وحار الخليفة المعتمد في نفسه، ودام البلاء بهذا الخبيث المارق ثلاث عشرة سنة، وهابته الجيوش، وجرت معه ملاحم ووقعات يطول شرحها. قد ذكرها المؤرخون إلى أن قتل. فالزنج هم عبارة عن عبيد البصرة الذين ثاروا معه. لا بارك الله فيهم. (1)
- وقال أيضا في خبيث الزنج: وكاد الخبيث أن يملك الدنيا، وكان كذابا ممخرقا ماكرا شجاعا داهية، ادعى أنه بعث إلى الخلق فرد الرسالة. وكان يدعي علم الغيب، لعنه الله. ودخلت سنة تسع [أي سنة 259هـ]، فعرض الموفق جيشه بواسط، وأما الخبيث فدخل البطائح، وبثق حوله الأنهار وتحصن، فهجم عليه الموفق، وأحرق وقتل فيهم، واستنقذ من السبايا، ورد إلى بغداد، فسار خبيث الزنج إلى الأهواز، فوضع السيف، وقتل نحوا من خمسين ألفا، وسبى أربعين ألفا، فسار لحربه موسى بن بغا فتحاربا بضعة عشر شهرا، وذهب تحت السيف خلائق من الفريقين. فإنا لله، وإنا إليه
_________
(1) السير (12/ 375).(8/226)
راجعون. (1)
- قال السلمي: وحكي عنه -أي الحلاج- أنه رئي واقفا في الموقف والناس في الدعاء، وهو يقول: أنزهك عما قرفك به عبادك، وأبرأ إليك مما وحدك به الموحدون.
قال الذهبي عقبه: هذا عين الزندقة، فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون الذين هم الصحابة والتابعون وسائر الأمة، فهل وحدوه تعالى إلا بكلمة الإخلاص التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قالها من قلبه فقد حرم ماله ودمه» (2) وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا برئ الصوفي منها، فهو ملعون زنديق، وهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعلم بهم. قال الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (3) فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته، فما ينبغي لك يا فقيه أن
_________
(1) السير (12/ 542).
(2) رواه مسلم (1/ 53/23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه.
(3) التوبة الآية (101).(8/227)
تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله، وانهتك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل أن من رآه المسلمون صالحا محسنا، فهو كذلك، لأنهم شهداء الله في أرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن من رآه المسلمون فاجرا أو منافقا أو مبطلا، فهو كذلك، وأن من كان طائفة من الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه، وأن يفوض أمره إلى الله، وأن يستغفر له في الجملة، لأن إسلامه أصلي بيقين، وضلاله مشكوك فيه، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين.
ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة- لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج، ولم يجمعوا علىمسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة، قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير، وكذلك الحجاج، وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جرا من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم، -فتدبر- يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع واتق ذلك، وحاسب(8/228)
نفسك، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك والعياذ بالله، أنه كان -والحالة هذه- محقا هاديا مهديا، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا. (1)
- وجاء في السير: قال ابن باكويه: سمعت ابن خفيف يسأل: ما تعتقد في الحلاج؟ قال: أعتقد أنه رجل من المسلمين فقط. فقيل له: قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين. فقال: إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيدا، فليس في الدنيا توحيد.
قال الذهبي عقبه: هذا غلط من ابن خفيف، فإن الحلاج عند قتله ما زال يوحد الله ويصيح: الله الله في دمي، فأنا على الإسلام. وتبرأ مما سوى الإسلام. والزنديق فيوحد الله علانية، ولكن الزندقة في سره. والمنافقون فقد كانوا يوحدون ويصومون ويصلون علانية، والنفاق في قلوبهم، والحلاج فما كان حمارا حتى يظهر الزندقة بإزاء ابن خفيف وأمثاله، بل كان يبوح بذلك لمن استوثق من رباطه، ويمكن أن يكون تزندق في وقت، ومرق وادعى الإلهية، وعمل السحر والمخاريق الباطلة مدة، ثم لما نزل به البلاء ورأى الموت الأحمر أسلم ورجع إلى الحق، والله أعلم بسره، ولكن مقالته نبرأ إلى الله منها، فإنها محض الكفر، نسأل الله العفو والعافية، فإنه يعتقد حلول البارئ -عز
_________
(1) السير (14/ 342 - 345).(8/229)
وجل- في بعض الأشراف، تعالى الله عن ذلك. (1)
- وقال رحمه الله: وهو رأس الفلاسفة الإسلامية -أي ابن سينا- لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة. وله كتاب 'الشفاء' وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب 'المنقذ من الضلال'، وكفر الفارابي. (2)
- وقال وهو يتحدث عن أبي العلاء: ومن أردإ تواليفه 'رسالة الغفران' في مجلد، قد احتوت على مزدكة وفراغ، و'رسالة الملائكة'، و'رسالة الطير' على ذلك الأنموذج، وديوانه 'سقط الزند' مشهور، وله 'لزوم ما لا يلزم' من نظمه. (3)
- وقال عنه أيضا: قيل: إنه أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد
قال الذهبي عقبه: الفلاسفة يعدون اتخاذ الولد وإخراجه إلى الدنيا جناية عليه، ويظهر لي من حال هذا المخذول أنه متحير لم يجزم بنحلة. اللهم فاحفظ علينا إيماننا. (4)
- وقال في رتن الهندي: شيخ كبير من أبناء التسعين. تجرأ على الله، وزعم بقلة حياء أنه من الصحابة، وأنه ابن ست مئة سنة وخمسين سنة، فراج
_________
(1) السير (14/ 351).
(2) السير (17/ 535).
(3) السير (18/ 25).
(4) السير (18/ 36).(8/230)
أمره على من لا يدري. وقد أفردته في جزء، وهتكت باطله. (1)
- وقال في ابن الفارض: شاعر الوقت شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي ثم المصري صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية. توفي سنة اثنتين وثلاثين، وله ست وخمسون سنة ... فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله. (2)
- وقال في الحسن بن الصباح الإسماعيلي الملقب بألكيا، صاحب الدعوة النزارية وجَدُّ أصحاب قلعة ألموت:
كان من كبار الزنادقة، ومن دهاة العالم، وله أخبار يطول شرحها لخصتها في تاريخي الكبير، في حوادث سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وأصله من مرو، وقد أكثر التطواف ما بين مصر إلى بلد كاشغر؛ يغوي الخلق ويضل الجهلة، إلى أن صار منه ما صار. وكان قوي المشاركة في الفلسفة والهندسة، كثير المكر والحيل، بعيد الغور، لا بارك الله فيه. (3)
- وقال في الحسين بن عبد الله بن سيناء، أبي علي الرئيس: ما أعلمه روى شيئا من العلم، ولو روى لما حلت الرواية عنه؛ لأنه فلسفي النحلة ضال. (4)
_________
(1) السير (22/ 367).
(2) السير (22/ 368).
(3) الميزان (1/ 500).
(4) الميزان (1/ 539).(8/231)
- وجاء في الميزان: قال ابن معين: كان عبد المجيد أصلح كتب ابن علية عن ابن جريج، فقيل ليحيى: كان عبد المجيد بهذا المحل؟ فقال: كان عالما بكتب ابن جريج، إلا أنه لم يكن يبذل نفسه للحديث. ونقم على عبد المجيد أنه أفتى الرشيد بقتل وكيع؛ والحديث حدثناه قتيبة، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهي -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات لم يدفن حتى ربا بطنه وانثنت خنصراه (1). قال قتيبة: حدث به وكيع بمكة، وكان سنة حج فيها الرشيد؛ فقدموه إليه، فدعا الرشيد سفيان بن عيينة وعبد المجيد فقال: يجب أن يقتل، فإنه لم يرو هذا إلا وفي قلبه غش للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فسأل الرشيد سفيان، فقال: لا يجب عليه القتل، رجل سمع حديثا فرواه، والمدينة شديدة الحر. توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين فترك إلى ليلة الأربعاء؛ فمن ذلك تغير.
قال الذهبي عقبه: النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد البشر، (وهو بشر) يأكل ويشرب وينام، ويقضي حاجته، ويمرض ويتداوى، ويتسوك ليطيب فمه؛ فهو في هذا كسائر المؤمنين، فلما مات -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - عمل به كما يعمل بالبشر من الغسل والتنظيف والكفن واللحد والدفن، لكن ما زال طيبا مطيبا، حيا وميتا، وارتخاء أصابعه المقدسة، وانثناؤها، وربو بطنه ليس معنا نص على انتفائه؛ والحي قد يحصل له ريح وينتفخ منه جوفه، فلا يعد هذا -إن كان قد وقع- عيبا؛ وإنما معنا نص على أنه لا يبلى، وأن الله حرم على الأرض أن
_________
(1) رواه ابن عدي في الكامل (5/ 344) وذكره الذهبي في السير (9/ 160) وقال: "خبر منكر ومنقطع".(8/232)
تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام (1)؛ بل ويقع هذا لبعض الشهداء رضي الله عنهم. أما من روى حديث عبد الله البهي ليغض به من منصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا زنديق، بل لو روى الشخص حديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر (2)،
وحاول بذلك تنقصا كفر وتزندق؛ وكذا لو روى حديث أنه سلم من اثنتين (3)، وقال: ما درى كم صلى يقصد بقوله شينه ونحو ذلك كفر؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون (4)؛ فالغلو والإطراء منهي عنه، والأدب والتوقير واجب، فإذا اشتبه الإطراء بالتوقير توقف العالم وتورع، وسأل من هو أعلم منه حتى يتبين له الحق، فيقول به، وإلا فالسكوت واسع له، ويكفيه التوقير المنصوص عليه في أحاديث لا تحصى، وكذا يكفيه مجانبة الغلو الذي ارتكبه النصارى في عيسى؛ ما رضوا له بالنبوة حتى رفعوه إلى الإلهية وإلى الوالدية، وانتهكوا رتبة الربوبية الصمدية، فضلوا وخسروا؛ فإن إطراء رسول
_________
(1) أحمد (4/ 8) وأبو داود (1/ 635/1047) واللفظ له. والنسائي (3/ 101 - 102/ 1373) وابن ماجه (1/ 345/1085) من حديث أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قال: قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون بليت، فقال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء. وصححه ابن خزيمة (3/ 118/1733) وابن حبان (3/ 190 - 191/ 910) والحاكم (1/ 278) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
(2) أحمد (6/ 63 - 96) والبخاري (10/ 272/5763) ومسلم (4/ 1719 - 1720/ 2189) من حديث عائشة رضي الله عنها ..
(3) أحمد (2/ 248) والبخاري (2/ 261/714) ومسلم (1/ 403/573) وأبو داود (1/ 612 - 614/ 1008) والترمذي (2/ 247/399) والنسائي (3/ 26 - 27/ 1224) وابن ماجه (1/ 383/1214) من حديث أبي هريرة.
(4) أحمد (1/ 424) والبخاري (1/ 663/401) ومسلم (1/ 400/572) وأبو داود (1/ 620/1020) والنسائي (3/ 33/1241) وابن ماجه (1/ 380/1203) من حديث عبد الله بن مسعود.(8/233)
الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدي إلى إساءة الأدب على الرب. نسأل الله تعالى أن يعصمنا بالتقوى، وأن يحفظ علينا حبنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يرضى. (1)
- وقال رحمه الله: وكذلك من أمعن النظر في 'فصوص الحكم'، أو أنعم التأمل لاح له العجب؛ فإن الذكي إذا تأمل من ذلك الأقوال والنظائر والأشباه؛ فهو أحد رجلين: إما من الاتحادية في الباطن، وإما من المؤمنين بالله الذين يعدون أن هذه النحلة من أكفر الكفر. نسأل الله العفو، وأن يكتب الإيمان في قلوبنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فوالله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر! لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن، يصلي بها الصلوات، ويؤمن بالله وباليوم الآخر؛ خير له بكثير من هذا العرفان! وهذه الحقائق! ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة. (2)
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: بعد ذكره لترجمة الفأفاء رحمه الله قال: وكان الناس في الصدر الأول بعد وقعة صفين على أقسام: أهل سنة، وهم أولوا العلم، وهم محبون للصحابة كافون عن الخوض في ما شجر بينهم؛ كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأمم. ثم شيعة يتوالون وينالون ممن حاربوا عليا ويقولون: إنهم مسلمون بغاة ظلمة. ثم نواصب: وهم الذين حاربوا عليا يوم صفين، ويقرون بإسلام علي وسابقيه ويقولون: خذل الخليفة عثمان. فما علمت في ذلك الزمان شيعيا كفر معاوية وحزبه، ولا ناصبيا كفر عليا
_________
(1) الميزان (2/ 649 - 650).
(2) الميزان (3/ 660).(8/234)
وحزبه، بل دخلوا في سب وبغض، ثم صار اليوم شيعة زماننا يكفرون الصحابة، ويبرؤون منهم جهلا وعدوانا، ويتعدون إلى الصديق قاتلهم الله. وأما نواصب وقتنا فقليل، وما علمت فيهم من يكفر عليا ولا صحابيا. (1)
- وقال في موضع آخر من السير: وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق ونشأوا على النصب نعوذ بالله من الهوى، كما قد نشأ جيش علي - رضي الله عنه - ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه والقيام معه وبغض من بغى عليه والتبري منهم، وغلا خلق منهم في التشيع، فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليا في الحب مفرطا في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية، الذي أوجدنا في زمن قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا فعذرنا، واستغفرنا وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علمنا الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} (2). وترضينا أيضا عمن اعتزل الفريقين كسعد بن أبي وقاص وابن
_________
(1) السير (5/ 374).
(2) الحشر الآية (10).(8/235)
عمر ومحمد بن مسلمة وسعيد بن زيد وخلق، وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا وكفروا الفريقين. فالخوارج كلاب النار قد مرقوا من الدين، ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار كما نقطع به لعبدة الأصنام والصلبان. (1)
- وفيها: قال في ترجمة ابن السمسار: مات ابن السمسار في صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وقد كمل التسعين، وتفرد بالرواية عن ابن أبي العقب وطائفة، ولعل تشيعه كان تقية لا سجية، فإنه من بيت الحديث، ولكن غلت الشام في زمنه بالرفض، بل ومصر والمغرب بالدولة العبيدية، بل والعراق وبعض العجم بالدولة البويهية، واشتد البلاء دهرا، وشمخت الغلاة بأنفها، وتواخى الرفض والاعتزال حينئذ والناس على دين الملك، نسأل الله السلامة في الدين. (2)
- وفيها: وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد، وهاجت نصارى الروم وأخذوا المدائن وقتلوا وسبوا. (3)
التعليق:
هكذا كان حال شيعة الأمس، وأما اليوم فيخدعون الناس بشعارات كاذبة، أنهم سيحررون القدس من اليهود، ولكن على طريق احتلال العالم الإسلامي وملئه بالرفض والتشيع، ولا يبقى في أمة الإسلام إلا من يتقرب إلى
_________
(1) السير (3/ 128).
(2) السير (17/ 507).
(3) السير (16/ 232).(8/236)
الله بسب خيرة الأمة، فهناك يحرر المجوس القدس من اليهود، ولا يدري المغفلون الذين ينخدعون بشعاراتهم أنهم أنجس من اليهود وأمريكا.
- وجاء في السير أيضا: وكان جوهر -الأمير أبو الحسن الرومي- هذا حسن السيرة في الرعايا، عاقلا أديبا، شجاعا مهيبا، لكنه على نحلة بني عبيد التي ظاهرها الرفض وباطنها الانحلال، وعموم جيوشهم بربر وأهل زعارة وشر، لا سيما من تزندق منهم، فكانوا في معنى الكفرة، فيا ما ذاق المسلمون منهم من القتل والنهب وسبي الحريم، ولا سيما في أوائل دولتهم، حتى إن أهل صور قاموا عليهم وقتلوا فيهم، فهربوا حتى إن أهل صور استنجدوا بنصارى الروم فجاءوا في المراكب، وكان أهل صور قد لحقهم من المغاربة من الظلم والجور وأخذ الحريم من الحمامات والطرق أمر كبير. (1)
- وقال في ترجمة أبي بكر بن النابلسي: لا يوصف ما قلب هؤلاء العبيدية الدين ظهرا لبطن، واستولوا على المغرب ثم على مصر والشام وسبوا الصحابة. (2)
- وقال رحمه الله: فهذا ما تيسر من سيرة العشرة، وهم أفضل قريش، وأفضل السابقين المهاجرين، وأفضل البدريين، وأفضل أصحاب الشجرة، وسادة هذه الأمة في الدنيا والآخرة. فأبعد الله الرافضة، ما أغواهم وأشد هواهم، كيف اعترفوا بفضل واحد منهم وبخسوا التسعة حقهم، وافتروا
_________
(1) السير (16/ 468).
(2) السير (16/ 149).(8/237)
عليهم بأنهم كتموا النص في علي أنه الخليفة؟! فوالله ما جرى من ذلك شيء، وأنهم زوروا الأمر عنه بزعمهم وخالفوا نبيهم وبادروا إلى بيعة رجل من بني تيم، يتجر ويتكسب، لا لرغبة في أمواله ولا لرهبة من عشيرته ورجاله، ويحك أيفعل هذا من له مسكة عقل؟ ولو جاز هذا على واحد لما جاز على الجماعة، ولو جاز وقوعه من جماعة لاستحال وقوعه والحالة هذه من ألوف من سادة المهاجرين والأنصار وفرسان الأمة وأبطال الإسلام، لكن لا حيلة في برء الرفض فإنه داء مزمن، والهدى نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فلا قوة إلا بالله. (1)
التعليق:
انظر هداك الله إلى هذا النص المبارك، وهذا الرد المفحم على أعداء الله، فهل هناك حجة أكثر وضوحا من هذه، فمن قرأ سيرة هؤلاء الأفاضل، كيف يخطر في باله أنهم ينزلون إلى هذا التصور الخسيس الذي أنزلهم له هؤلاء المجوس! ويرد على تصورهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترضى على المنافقين وبشر بالجنة المنافقين، وكل ما ورد من النصوص في فضلهم فهو في المنافقين، ولكن كما قال الشيخ: الرفض داء مزمن لا برء له إلا بالسيف، وأما الحجة والبرهان فلا تنفع مع هؤلاء، والله المستعان.
- جاء في السير في ترجمة الرواجني المبتدع بعد كلامه من لم يبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد حشر معهم.
_________
(1) السير (1/ 140 - 141).(8/238)
قال الذهبي: هذا الكلام مبدأ الرفض بل نكف ونستغفر للأمة، فإن آل محمد في إِيَّاهُمْ قد عادى بعضهم بعضا، واقتتلوا على الملك، وتمت عظائم فمن أيهم نبرأ؟! (1)
التعليق:
ما أحسن هذا الكلام وما ألزمه للخصم، فمن نحب ونرفض، والسلف هم الوسط في هذا الباب وغيره، فترحموا على الجميع وأحبوا الجميع، واستغفروا للمسيء وهنئوا المصيب، والله المستعان.
- وجاء في السير في ترجمة محمد بن الحسن العسكري قال رحمه الله رادا على دعوى المهدية المتخيلة من دخول سرداب وغياب وانتظار:
نعوذ بالله من زوال العقل، فلو فرضنا وقوع ذلك في سالف الدهر، فمن الذي رآه؟ ومن الذي نعتمد عليه في إخباره بحياته؟ ومن الذي نص لنا على عصمته وأنه يعلم كل شيء؟ هذا هوس بين، إن سلطناه على العقول ضلت وتحيرت، بل جوزت كل باطل. أعاذنا الله وإياكم من الاحتجاج بالمحال والكذب، أورد الحق الصحيح كما هو ديدن الإمامية. (2)
- وجاء في الميزان: فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليا رضي الله عنه، وتعرض لسبهم. والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة،
_________
(1) السير (11/ 537 - 538).
(2) السير (13/ 122).(8/239)
ويتبرأ من الشيخين أيضا، فهذا ضال معثر. (1)
- وفيه: علي بن الحسين (العلوي الحسيني الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي، صاحب التصانيف. حدث عن سهل الديباجي، والمرزباني، وغيرهما. وولي نقابة العلوية، ومات سنة ست وثلاثين وأربعمائة، عن إحدى وثمانين سنة؛ وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين، جزم بأن الكتاب أكثره باطل. (2)
- وقال رحمه الله في ترجمة ابن خراش: هذا والله الشيخ المعثر الذي ضل سعيه، فإنه كان حافظ زمانه، وله الرحلة الواسعة، والاطلاع الكثير والإحاطة، وبعد هذا فما انتفع بعلمه، فلا عَتْب على حمير الرافضة وحواثر جَزِّين ومشغَرَا. (3)
- وقال في التذكرة في ترجمته أيضا: جهلة الرافضة لم يدروا الحديث ولا السيرة ولا كيف ثم، فأما أنت أيها الحافظ البارع الذي شربت بولك إن صدقت في الترحال، فما عذرك عند الله؟ مع خبرتك بالأمور، فأنت زنديق
_________
(1) الميزان (1/ 6).
(2) الميزان (3/ 124).
(3) الميزان (2/ 600).(8/240)
معاند للحق فلا رضي الله عنك. (1)
- وفي الميزان: عمران بن مسلم الفزاري، كوفي. عن مجاهد، وعطية. وعنه الفضل السيناني، وأبو نعيم.
قال أبو أحمد الزبيري: رافضي، كأنه جرو كلب.
قال الذهبي: خراء الكلاب كالرافضي. (2)
- وجاء في السير: قال الذهبي: لم يكن سعيد -يعني: ابن زيد- متأخرا عن رتبة أهل الشورى في السابقة والجلالة، وإنما تركه عمر رضي الله عنه، لئلا يبقى له فيه شائبة حظ، لأنه ختنه وابن عمه، ولو ذكره في أهل الشورى لقال الرافضي: حابى ابن عمه. فأخرج منها ولده وعصبته. فكذلك فليكن العمل لله. (3)
- وفيها: قال في ترجمة مسطح بن أثاثة المذكور في قصة الإفك:
إياك يا جري أن تنظر إلى هذا البدري شزرا لهفوة بدت منه، فإنها قد غفرت، وهو من أهل الجنة. وإياك يا رافضي أن تلوح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتها فتجب لك النار. (4)
- وفيها: وكان تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بها -أي عائشة رضي الله عنها- إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فتفرد بها ثلاثة أعوام حتى بنى بعائشة في شوال بعد وقعة بدر. فما تزوج بكرا سواها،
_________
(1) التذكرة (2/ 685).
(2) الميزان (3/ 242).
(3) السير (1/ 138).
(4) السير (1/ 188).(8/241)
وأحبها حبا شديدا كان يتظاهر به، بحيث إن عمرو بن العاص، وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: «عائشة» قال: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» (1).
وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه السلام ليحب إلا طيبا. وقد قال: «لو كنت متخذا خليلا من هذه الأمة، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل» (2) فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو حري أن يكون بغيضا إلى الله ورسوله.
وحبه عليه السلام لعائشة كان أمرا مستفيضا، ألا تراهم كيف كانوا يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته. (3)
- وصح من حديث عمارة بن عمير، قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فأتيناهم وهو يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخر عبيد الله، فمكثت هُنية، ثم خرجت، وغابت، ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا.
قال الذهبي: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن
_________
(1) أحمد (4/ 203) والبخاري (7/ 22/3662) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885) والنسائي في الكبرى (5/ 36/8106).
(2) أحمد (1/ 270) والبخاري (1/ 734/466) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سعيد اخدري وابن الزبير وأبي المعالي الأنصاري وجندب وأبي هريرة - رضي الله عنهم -.
(3) السير (2/ 141 - 142).(8/242)
نبغضهم في الله، ونبرأ منهم ولا نلعنهم، وأمرهم إلى الله. (1)
- وفيها: قال ابن سعد: أنبأنا محمد بن الصلت، حدثنا ربيع بن منذر، عن أبيه قال: كنا مع ابن الحنفية، فأراد أن يتوضأ، فنزع خفيه، ومسح على قدميه.
قال الذهبي: هذا قد يتعلق به الإمامية وبظاهر الآية، لكن غسل الرجلين شرع لازم بينه لنا الرسول -اللهم صل عليه- وقال: «ويل للأعقاب من النار» (2) وعليه عمل الأمة ولا اعتبار بمن شذ. قال رافضي: فأنتم ترون مسح موضع ثلاث شعرات بل شعرة من الرأس يجزئ، والنص فلا يحتمل هذا، ولا يسمى من اقتصر عليه ماسحا لرأسه عرفا، ولا رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدا من أصحابه اجتزأ بذلك ولا جوزه. فالجواب: أن الباء للتبعيض في قوله: {برؤوسكم} (3) وليس هذا الموضع يحتمل تقرير هذه المسألة. (4)
- وفيها: قال في ترجمة أبي جعفر الباقر: وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرزانة، وكان أهلا للخلافة. وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين. فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين، وكل أحد يصيب ويخطئ، ويؤخذ من قوله ويترك سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه معصوم، مؤيد بالوحي.
_________
(1) السير (3/ 549).
(2) أحمد (2/ 228 - 284 - 406 - 467) والبخاري (1/ 354/165) ومسلم (1/ 214/242) والترمذي (1/ 58/41) والنسائي (1/ 82/110) كلهم أخرجه من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعائشة وغيرهما.
(3) المائدة الآية (6).
(4) السير (4/ 127).(8/243)
قال ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفرا عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى.
كان سالم فيه تشيع ظاهر، ومع هذا فيبث هذا القول الحق، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، وكذلك ناقلها ابن فضيل، شيعي ثقة. فعثر الله شيعة زماننا ما أغرقهم في الجهل والكذب، فينالون من الشيخين وزيري المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقية.
وروى إسحاق الأزرق، عن بسام الصيرفي، قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. (1)
- وفيها: عن حنان بن سدير، سمعت جعفر بن محمد، وسئل عن أبي بكر وعمر، فقال: إنك تسألني عن رجلين قد أكلا من ثمار الجنة.
وعن عمرو بن قيس الملائي، سمعت جعفر بن محمد يقول: برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر وعمر.
قال الذهبي: هذا القول متواتر عن جعفر الصادق، وأشهد بالله إنه لبار في قوله غير منافق لأحد، فقبح الله الرافضة. (2)
- وفيها: قال وكيع: حسن بن صالح عندي إمام. فقيل له: إنه لا
_________
(1) السير (4/ 402 - 403).
(2) السير (6/ 259 - 260).(8/244)
يترحم على عثمان. فقال: أفتترحم أنت على الحجاج؟
قال الذهبي: لا بارك الله في هذا المثال. ومراده: أن ترك الترحم سكوت، والساكت لا ينسب إليه قول، ولكن من سكت عن ترحم مثل الشهيد أمير المؤمنين عثمان فإن فيه شيئا من تشيع، فمن نطق فيه بغض وتنقص فهو شيعي جلد يؤدب، وإن ترقى إلى الشيخين بذم، فهو رافضي خبيث، وكذا من تعرض للإمام علي بذم، فهو ناصبي يعزر، فإن كفره، فهو خارجي مارق، بل سبيلنا أن نستغفر للكل ونحبهم، ونكف عما شجر بينهم. (1)
- وفيها: وروى أبو داود الرهاوي، أنه سمع شريكا يقول: علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر.
قال الذهبي: ما ثبت هذا عنه. ومعناه حق. يعني: خير بشر زمانه، وأما خيرهم مطلقا، فهذا لا يقوله مسلم. (2)
- وفيها: قال الذهبي في عبيد الله بن موسى: كان صاحب عبادة وليل، صحب حمزة، وتخلق بآدابه، إلا في التشيع المشؤوم، فإنه أخذه عن أهل بلده المؤسس على البدعة. (3)
- وفيها: عن زر، عن علي رضي الله عنه، قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إلي، أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا
_________
(1) السير (7/ 369 - 370).
(2) السير (8/ 205).
(3) السير (9/ 555).(8/245)
منافق (1).
غريب عن شعبة، والمشهور حديث الأعمش عن عدي.
فمعناه أن حب علي من الإيمان، وبغضه من النفاق، فالإيمان ذو شعب، وكذلك النفاق يتشعب، فلا يقول عاقل: إن مجرد حبه يصير الرجل به مؤمنا مطلقا، ولا بمجرد بغضه يصير به الموحد منافقا خالصا. فمن أحبه وأبغض أبا بكر، كان في منزلة من أبغضه وأحب أبا بكر، فبغضهما ضلال ونفاق، وحبهما هدى وإيمان، والحديث ففي صحيح مسلم. (2)
- وفيها: وقد ذكره أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة معاوية، فقال: كان أبو عروبة غاليا في التشيع، شديد الميل على بني أمية.
قال الذهبي: كل من أحب الشيخين فليس بغال، بلى من تعرض لهما بشيء من تنقص، فإنه رافضي غال، فإن سب، فهو من شرار الرافضة، فإن كفر، فقد باء بالكفر، واستحق الخزي، وأبو عروبة فمن أين يجيئه الغلو، وهو صاحب حديث وحراني؟ بلى لعله ينال من المروانية فيعذر. (3)
- قال الذهبي في الحاكم بأمر الله (صاحب مصر): وكان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر جوادا ممدحا، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها. أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) السير (12/ 509 - 510).
(3) السير (14/ 511).(8/246)
على أبواب المساجد والشوارع. وأمر عماله بالسب. (1)
- وفيها قال: ليس تفضيل علي برفض ولا هو ببدعة، بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذو فضل وسابقة وجهاد، وهما متقاربان في العلم والجلالة، ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة، وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما، ولكن جمهور الأمة على ترجيح عثمان على الإمام علي، وإليه نذهب. والخطب في ذلك يسير، والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر، من خالف في ذا فهو شيعي جلد، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبهما واعتقد أنهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة، أبعدهم الله. (2)
- قال في التذكرة: فيا أخي إن أحببت أن تعرف هذا الإمام -يعني عمر ابن الخطاب- حق المعرفة فعليك بكتابي 'نعم السمر في سيرة عمر'، فإنه فارق فيصل بين المسلم والرافضي، فوالله ما يغض من عمر إلا جاهل دائص، أو رافضي فاجر وأين مثل أبي حفص فما دار الفلك على مثل شكل عمر، وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب. (3)
- وقال في ترجمة محمد بن النعمان الأحول: عراقي شيعي جلد، يلقبه الشيعة بمؤمن الطاق. يعد من أصحاب جعفر بن محمد. صنف كتاب
_________
(1) السير (15/ 174).
(2) السير (16/ 457 - 458).
(3) التذكرة (1/ 6).(8/247)
'الإمامة' وكتاب 'الرد على المعتزلة' وكتاب 'طلحة وعائشة' وكتاب 'المعرفة' وكتاب 'في أيام هارون الرشيد'. (1)
موقفه من الصوفية:
- جاء في السير في ترجمة القرميسيني قال: علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغالطة والزندقة.
قال الذهبي: صدقت والله، فإن الفناء والبقاء من ترهات الصوفية، أطلقه بعضهم فدخل من بابه كل إلحادي وكل زنديق، وقالوا: ما سوى الله باطل فَانٍ، والله تعالى هو الباقي وهو هذه الكائنات، وما ثم شيء غيره، ويقول شاعرهم:
وما أنت غير الكون ... بل أنت عينه
ويقول الآخر: وما ثم إلا الله ليس سواه.
فانظر إلى هذا المروق والضلال، بل كل ما سوى الله محدث موجود. قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (2). وإنما أراد قدماء الصوفية بالفناء نسيان المخلوقات وتركها وفناء النفس عن التشاغل بما سوى الله، ولا يسلم إليهم هذا أيضا، بل أمرنا الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها وتعظيم خالقها، وقال تعالى:
_________
(1) السير (10/ 553).
(2) السجدة الآية (4).(8/248)
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (1) وقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2).
وقال عليه السلام: «حبب إلي النساء والطيب» (3). وقال: «كأنك علمت حبنا للحم». (4)
وكان يحب عائشة ويحب أباها (5) ويحب أسامة (6) ويحب سبطيه (7) ويحب
_________
(1) الأعراف الآية (185).
(2) يونس الآية (101).
(3) أحمد (3/ 128 و199 و285) والنسائي (7/ 72/3949) والحاكم (2/ 160) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وأخرجه: البيهقي (7/ 78) من حديث أنس.
(4) رواه أحمد (3/ 303،397 - 398) والدارمي (1/ 24) من طريقين عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر رضي الله عنه. وأصل الحديث عند: أبي داود (2/ 185/1533) والنسائي في الكبرى (6/ 112/10256) وغيرهما. وصححه ابن حبان (3/ 197/916).
(5) أحمد (4/ 203) والبخاري (7/ 22/3662) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885) والنسائي في الكبرى (5/ 36/8106).
(6) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذه والحسن ويقول: اللهم أحبهما فإني أحبهما. أخرجه: أحمد (5/ 210) والبخاري (7/ 110/3735) واللفظ له. النسائي في الكبرى (5/ 53/8183).
(7) عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره: فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهما أن دعو. هما فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره قال: من أحبني فليحب هذين. أخرجه: النسائي في الكبرى (5/ 50/8170) والطبراني (3/ 40/2644) وأبو يعلى (8/ 434/5017) والبزار (5/ 226/1833و1834 البحر الزخار). ابن حبان (15/ 426 - 427/ 6970 الإحسان) وابن خزيمة (2/ 48/887). قال الهيثمي في المجمع (9/ 179 - 180): "رواه أبو يعلى والبزار والطبراني باختصار، ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم خلاف".(8/249)
الحلواء والعسل (1) ويحب جبل أحد (2) ويحب وطنه (3)
ويحب الأنصار (4) إلى أشياء لا تحصى مما لا يغني المؤمن عنها قط. (5)
- وقال بعد كلام في ترجمة ابن الأعرابي: إي والله، دققوا وعمقوا وخاضوا في أسرار عظيمة، ما معهم على دعواهم فيها سوى ظن وخيال، ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصحو والسكر إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوه بعباراتهم صديق ولا صاحب ولا إمام من التابعين، فإن طالبتهم بدعاويهم مقتوك وقالوا: محجوب، وإن سلمت لهم قيادك تخبط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقت العباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البعد، وقلت: مساكين محجوبون، فلا
_________
(1) أخرجه: أحمد (6/ 59) والبخاري (10/ 77/5599) ومسلم (2/ 1101 - 1102/ 1474 (21)) مطولا. والترمذي (4/ 241/1831) وقال: "حديث حسن صحيح غريب". وأبو داود (4/ 106 - 107/ 3715) والنسائي في الكبرى (4/ 370/7562) وابن ماجه (2/ 1104/3323) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أحمد (3/ 149) والبخاري (7/ 480/4083) ومسلم (2/ 1011/1393) والترمذي (5/ 678/3922) من حديث أنس رضي الله عنه. ورواه البخاري معلقا (3/ 438) من حديث سهل بن سعد. وفي الباب عن أبي حميد وسويد بن عامر وغيرهما.
(3) كأنه يشير إلى ما رواه: أحمد (4/ 305) والترمذي (5/ 679/3925) والنسائي في الكبرى (2/ 479/4252) وابن ماجه (2/ 1037/3108) والحاكم (3/ 7) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .. ابن حبان (9/ 22/3708) كلهم من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله عز وجل ولولا أني أخرجت منك ما خرجت».
(4) عن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والصبيان -مقبلين قال: حسبت أنه قال من عرس- فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممثلا فقال: «اللهم أنتم من أحب الناس إلي». قالها ثلاث مرار. رواه: أحمد (3/ 175 - 176) والبخاري (7/ 142 - 143/ 3785) ومسلم (4/ 1948/2508).
(5) السير (15/ 393 - 394).(8/250)
حول ولا قوة إلا بالله. فإنما التصوف والتأله والسلوك والسير والمحبة؛ ما جاء عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من الرضى عن الله، ولزوم تقوى الله، والجهاد في سبيل الله، والتأدب بآداب الشريعة من التلاوة بترتيل وتدبر، والقيام بخشية وخشوع، وصوم وقت وإفطار وقت، وبذل المعروف، وكثرة الإيثار، وتعليم العوام، والتواضع للمؤمنين، والتعزز على الكافرين، ومع هذا فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1).
التعليق:
كان الصحابة يهتدون بهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويحتذون حذوه قدر ما يستطيعون، وكذلك السلف من بعدهم، الذين نهجوا نهجهم واقتدوا بسيرتهم، فأما ما ذكره الشيخ من نسبة التصوف إلى الصحابة فهذه هفوة منه، فهذا الاسم لا ينبغي أن يطلق في حقهم، فهم أشرف من ذلك، وهذا من مخترعات الرهبان ومن سار على دربهم.
- وقال في ترجمة "كرز" بعد أن حكى زهده وعبادته: هكذا كان زهاد السلف وعبادهم أصحاب خوف وخشوع، وتعبد وقنوع، ولا يدخلون في الدنيا وشهواتها، ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء والمحو والاصطلام والاتحاد، وأشباه ذلك مما لا يسوغه كبار العلماء، فنسأل الله التوفيق والإخلاص ولزوم الاتباع. (2)
_________
(1) السير (15/ 409 - 410).
(2) السير (6/ 86).(8/251)
- وقال بعد كلام في الجوع والسهر في ترجمة أحمد بن أبي الحواري: الطريقة المثلى هي المحمدية وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (1). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني» (2) فلم يشرع لنا الرهبانية ولا التمزق ولا الوصال بل ولا صوم الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} (3). وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك اللحم والحلواء والعسل والشراب الحلو البارد والمسك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله تعالى.
ثم العابد العري من العلم متى زهد وتبتل وجاع وخلا بنفسه وترك اللحم والثمار واقتصر على الدقة والكسرة صفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطابا يتولد من الجوع والسهر لا وجود لذلك الخطاب -والله- في الخارج وولج الشيطان في باطنه، وخرج فيعتقد أنه قد وصل وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء ويتذكر ذنوبهم وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل
_________
(1) المؤمنون الآية (51).
(2) أحمد (3/ 285) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217) من حديث أنس. وليس عند البخاري ذكر أكل اللحم وعند الباقين ذكره في كلام النفر.
(3) الطلاق الآية (7).(8/252)
به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانه، فالخلوة والجوع أبو جاد الترهب، وليس ذلك من شريعتنا في شيء، بلى، السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في المنطق وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم والسماحة وكثرة البشر، والانفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف والأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء وصفات المحمديين أماتنا الله على محبتهم. (1)
- قال رحمه الله في ترجمة الأنصاري كما في السير: قد انتفع به خلق وجهل آخرون، فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في منازل السائرين وينتحلونه ويزعمون أنه موافقهم. كلا بل هو رجل أثري لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جدا، وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناء، هو الغيبة عن شهود السوى ولم يرد محو السوى في الخارج، وياليته لا صنف ذلك، فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين؛ ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله وذلوا له، وتوكلوا عليه وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صراط
_________
(1) السير (12/ 89 - 91).(8/253)
مستقيم. (1)
التعليق:
قال جامعه غفر الله له: إضافته التصوف إلى الصحابة قد نبهنا عليه في التعليق السالف فلينظر.
- قال الذهبي في ترجمة محمد بن منصور الطوسي: متى رأيت الصوفي مكبا على الحديث فثق به، ومتى رأيته نائيا عن الحديث فلا تفرح به، لاسيما إذا انضاف إلى جهله بالحديث عكوف على ترهات الصوفية، ورموز الباطنية، نسأل الله السلامة، كما قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها (2)
- وقال في ترجمة ابن عطاء: ثبت الله علينا عقولنا وإيماننا، فمن تسبب في زوال عقله بجوع، ورياضة صعبة، وخلوة، فقد عصى وأثم، وضاهى من أزال عقله بعض يوم بسكر. فما أحسن التقيد بمتابعة السنن والعلم. (3)
- وقال: قال مكي بن عمر البيع: سمعت محمد بن عيسى يقول: صام طاهر أربعين يوما أربعين مرة، فآخر أربعين عملها صام على قشر الدخن، فَلِيُبْسِه قرع رأسه، واختلط في عقله، ولم أر أكثر مجاهدة منه.
قال الذهبي: فعل هذه الأربعينات حرام قطعا، فعقباها موت من الخور
_________
(1) السير (18/ 510).
(2) السير (12/ 213).
(3) السير (14/ 256).(8/254)
أو جنون واختلاط، أو جفاف يوجب للمرء سماع خطاب لا وجود له أبدا في الخارج، فيظن صاحبه أنه خطاب إِلِّي (1). كلا والله. (2)
- وقال: قيل: إنه عمل له خلوة، فبقي خمسين يوما لا يأكل شيئا. وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما، فما الظن؟ وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع» (3). ثم قل من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب، وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطابا لا وجود له في الخارج، فإن كان متمكنا من العلم والإيمان، فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلا بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده، وطمع فيه الشيطان، وادعى الوصول، وبقي على مزلة قدم، وربما تزندق، وقال أنا هو. نعوذ بالله من النفس الأمارة، ومن الهوى، ونسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا آمين. (4)
- وقال رحمه الله: أما 'الإحياء' ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: «من
_________
(1) أي إلهي.
(2) السير (17/ 391).
(3) أبو داود (2/ 191/1547) والنسائي (8/ 656/5483) وابن ماجه (2/ 1113/3354) وابن حبان (3/ 304/1029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) السير (17/ 576 - 577).(8/255)
رغب عن سنتي، فليس مني» (1)، فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النواوي وأذكاره، تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم. (2)
- وفي السير: وقال ابن هلالة: جلست عنده -أي نجم الدين الكبرى - في الخلوة مرارا، وشاهدت أمورا عجيبة، وسمعت من يخاطبني بأشياء حسنة.
قال الذهبي: لا وجود لمن خاطبك في خلوتك مع جوعك المفرط، بل هو سماع كلام في الدماغ الذي قد طاش وفاش وبقي قرعة، كما يتم للمبرسم والمغمور بالحمى والمجنون، فاجزم بهذا واعبد الله بالسنن الثابتة تفلح. (3)
- وقال في ترجمة يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي الجزري القنيي الزاهد: أحد الأعلام، شيخ اليونسية أولي الزعارة والشطح والخواثة وخفة العقل. كان ذا كشف وحال، ولم يكن عنده كبير علم، وله شطح، وشعر ملحون ينظمه على لسان الربوبية، وبعضه كأنه كذب، والله أعلم بسره، فلا يغتر المسلم بكشف ولا بحال ولا بإخبار عن مغيب، فابن
_________
(1) تقدم تخريجه قريبا.
(2) السير (19/ 339 - 340).
(3) السير (22/ 112).(8/256)
صائد وإخوانه الكهنة لهم خوارق، والرهبان فيهم من قد تمزق جوعا وخلوة ومراقبة على غير أساس ولا توحيد، فصفت كدورات أنفسهم وكاشفوا وفشروا، ولا قدوة إلا في أهل الصفوة وأرباب الولاية المنوطة بالعلم والسنن، فنسأل الله إيمان المتقين، وتأله المخلصين، فكثير من المشايخ نتوقف في أمرهم حتى يتبرهن لنا أمرهم، وبالله الاستعانة. (1)
- وقال في محمد بن إبراهيم الفخر الفارسي الصوفي: ومن تصانيفه كتاب الأسرار، وسر الأسكار، جمع فيه بين الحقيقة والشريعة فتكلف، وقال ما لا ينبغي. وله كتاب مطية النقل وعطية العقل في علم الكلام، وكتاب الفرق بين الصوفي والفقير، وكتاب جمحة النهى في لمحة المها. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال في السير: والمعتزلة تقول: لو أن المحدثين تركوا ألف حديث في الصفات والأسماء والرؤية والنزول لأصابوا. والقدرية تقول: لو أنهم تركوا سبعين حديثا في إثبات القدر. والرافضة تقول: لو أن الجمهور تركوا من الأحاديث التي يدعون صحتها ألف حديث لأصابوا، وكثير من ذوي الرأي يردون أحاديث شافه بها الحافظ المفتي المجتهد أبو هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويزعمون أنه ما كان فقيها، ويأتوننا بأحاديث ساقطة أو لا يعرف لها، إسناد أصلا محتجين بها.
قلنا: وللكل موقف بين يدي الله تعالى. يا سبحان الله، أحاديث رؤية
_________
(1) السير (22/ 178 - 179).
(2) الميزان (3/ 452).(8/257)
الله في الآخرة متواترة، والقرآن مصدق لها، فأين الإنصاف؟ (1)
التعليق:
ما ذكره الإمام الذهبي من أمنية هؤلاء المبتدعة، معناه رفض السنة من أَلِفِها إلى يائها، والعيش على الهوى والتخبط حتى تصير حالة أرباب هذا التصور الفاسد شرا من حالة عباد الأصنام في الجاهلية. نسأل الله العافية.
- قال في ترجمة علي بن عبيد الله: وله تصانيف فيها أشياء من بحوث المعتزلة بدعوه بها، لكونه نصرها وما هذا من خصائصه، بل قل من أمعن النظر في علم الكلام إلا وأداه اجتهاده إلى القول بما يخالف محض السنة، ولهذا ذم علماء السلف النظر في علم الأوائل، فإن علم الكلام مولد من علم الحكماء الدهرية، فمن رام الجمع بين علم الأنبياء عليهم السلام، وبين علم الفلاسفة بذكائه، لابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء. ومن كف ومشى خلف ما جاءت به الرسل من إطلاق ما أطلقوا ولم يتحذلق ولا عمق، فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقوا، فقد سلك طريق السلف الصالح، وسلم له دينه ويقينه. نسأل الله السلامة في الدين. (2)
التعليق:
لله درك يا محدث الشام. ويا مؤرخ الإسلام، كم لك من الحسنات، وكم لك من الحكم، وهذه منها. غير أن الذين بعدوا عن السنة في هذا
_________
(1) السير (10/ 455).
(2) الميزان (3/ 144).(8/258)
الزمان لا يعترفون إلا بمن تضلع في علم الكلام، وأما علم الأنبياء فيرونه علم الجهال لأن الأنبياء في نظرهم ما بعثوا إلا للجهال، نسأل الله العافية.
- قال في السير معلقا على قول أبي قربة: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال.
قلت أنا: وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد، وهات (العقل)؟ فاعلم أنه أبو جهل. وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر أو قد حل فيه فإن جبنت منه فاهرب، وإلا فاصرعه وابرك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه. (1)
التعليق:
وهل بعد هذا الوصف من وصف؟ ولو نطق أحدنا في هذا الزمان بهذه العبارات، لعد من كبار المتنطعين والمتشددين، فانظر -هداك الله- إلى هذه العبارات التي تستحق أن تكتب بماء الذهب، وهو فيها رخيص، والحمد لله رب العالمين.
- جاء في السير قال: قلت: الجهمية يقولون: إن الباري تعالى في كل مكان، والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله
_________
(1) السير (4/ 472).(8/259)
تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1)، يعني بالعلم. ويقولون: إنه على عرشه استوى كما نطق به القرآن والسنة.
وقال الأوزاعي وهو إمام وقته: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف، إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقة لا مثل لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة لا مثل لها. (2)
- جاء في السير: قال -عند قول أبي يوسف: العلم بالخصومات والكلام جهل- مثاله شبه وإشكالات من نتائج أفكار أهل الكلام، تورد في الجدال على آيات الصفات وأحاديثها، فيكفر هذا هذا، وينشأ الاعتزال والتجهم والتجسيم وكل بلاء. نسأل الله العافية. (3)
- وفيها أيضا: قال -بعد كلام نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر-: قلت: هذا الكلام حق نعوذ بالله من التشبيه، ومن إنكار أحاديث الصفات، فما ينكر الثابت منها من فقه، وإنما بعد الإيمان بها هنا مقامان مذمومان:
_________
(1) الحديد الآية (4).
(2) السير (8/ 402).
(3) السير (8/ 539).(8/260)
تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، فما أولها السلف ولا حرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها وأمروها كما جاءت.
المقام الثاني: المبالغة في إثباتها وتصورها من جنس صفات البشر وتشكلها في الذهن، فهذا جهل وضلال. وإنما الصفة تابعة للموصوف، فإذا كان الموصوف عز وجل لم نره، ولا أخبرنا أحد أنه عاينه مع قوله لنا في تنزيله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1). فكيف بقي لأذهاننا مجال في إثبات كيفية الباري تعالى الله عن ذلك، فكذلك صفاته المقدسة نقر بها ونعتقد أنها حق ولا نمثلها أصلا ولا نتشكلها. (2)
- جاء في السير: قال رحمه الله: ومسألة النزول، فالإيمان به واجب، وترك الخوض في لوازمه أولى، وهو سبيل السلف، فما قال هذا: نزوله بذاته، إلا إرغاما لمن تأوله وقال: نزوله إلى السماء بالعلم فقط. نعوذ بالله من المراء في الدين.
وكذا قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (3) ونحوه فنقول: جاء وينزل، وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبارات مبتدعة والله أعلم. (4)
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) السير (10/ 610).
(3) الفجر الآية (22).
(4) السير (20/ 331).(8/261)
التعليق:
ينبغي أن يفهم مراد الشيخ، فالمقصود عنده إثبات الصفة كما ورد بذلك النص دون زيادة، فالله تعالى ينزل كما يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء بدون تحديد الكيفية.
- جاء في السير: قال أبو عبيد: -وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا وأين كان ربنا- فقال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضحك وكيف وضع قدمه؟ قلنا: لا نفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره.
قال الذهبي: قلت: قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم، وما أبقوا ممكنا، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلا، وهي أهم الدين، فلو كان تأويلها سائغا أو حتما، لبادروا إليه، فعلم قطعا أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق، لا تفسير لها غير ذلك، فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات لله تعالى، استأثر الله بعلم حقائقها وأنها لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين، فالكتاب والسنة نطق بها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ وما تعرض لتأويل، مع كون الباري قال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) فعلينا الإيمان
_________
(1) النحل الآية (44).(8/262)
والتسليم للنصوص، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (1)
- وفيها قال: -بعد كلام أبي العباس السراج في من أنكر الصفات أنه زنديق كافر- قلت: لا يكفر إلا إن علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله، فإن جحد بعد ذلك فهو معاند نسأل الله الهدى، وإن اعترف أن هذا حق ولكن لا أخوض في معانيه فقد أحسن، وإن آمن وأول ذلك كله أو تأول بعضه فهو طريقة معروفة. (2)
- قال رحمه الله: هذه الصفات من الاستواء والإتيان والنزول، قد صحت بها النصوص، ونقلها الخلف عن السلف، ولم يتعرضوا لها برد ولا تأويل، بل أنكروا على من تأولها مع إصفاقهم على أنها لا تشبه نعوت المخلوقين، وأن الله ليس كمثله شيء، ولا تنبغي المناظرة، ولا التنازع فيها، فإن في ذلك محاولة للرد على الله ورسوله، أو حوما على التكييف أو التعطيل. (3)
- وقال: قلت: بل قولهم إنه عز وجل في السماء وفي الأرض لا امتياز للسماء، وقول عموم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: إن الله في السماء يطلقون ذلك وفق ما جاءت النصوص بإطلاقه، ولا يخوضون في تأويلات المتكلمين، مع جزم الكل بأنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (4).اهـ (5)
_________
(1) السير (10/ 505 - 506).
(2) السير (14/ 396 - 397).
(3) السير (11/ 376).
(4) الشورى الآية (11).
(5) السير (11/ 70 - 71).(8/263)
- جاء في السير: ذكر كلاما بعد حديث رأيت ربي (1) ثم قال: والذي دل عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها، فنقف عن هذه المسألة، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فإثبات ذلك أو نفيه صعب والوقوف سبيل السلامة والله أعلم. وإذا ثبت شيء قلنا به، ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا ولا من نفاها بل نقول: الله ورسوله أعلم. بلى، نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبت بنصوص متوافرة. (2)
- قال أبو جعفر العقيلي في ترجمة عبد الله بن ذكوان: حدثنا مقدام بن داود، حدثنا الحارث بن مسكين، وابن أبي الغمر، قالا: حدثنا ابن القاسم قال: سألت مالكا عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: «إن الله خلق آدم على صورته» (3) فأنكر ذلك إنكارا شديدا، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل: إن ناسا من أهل العلم يتحدثون به قال: من هم؟ قيل: ابن عجلان، عن أبي الزناد، فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء، ولم يكن عالما، ولم يزل أبو الزناد عاملا لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم. قلت: الخبر لم ينفرد به ابن عجلان، بل ولا أبو الزناد، فقد رواه شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد، ورواه قتادة عن أبي أيوب المراغي عن أبي هريرة، ورواه ابن لهيعة عن الأعرج وأبي يونس عن أبي هريرة، ورواه معمر عن همام عن أبي هريرة، وصح أيضا من حديث ابن عمر. وقد قال إسحاق بن راهويه
_________
(1) تقدم انظر مواقف البربهاري سنة (329هـ).
(2) السير (10/ 114).
(3) تقدم تخريجه بألفاظ مختلفة. انظر مواقف البربهاري سنة (329هـ).(8/264)
عالم خراسان: صح هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الصحيح مخرج في كتابي البخاري ومسلم. فنؤمن به ونفوض ونسلم، ولا نخوض فيما لا يعنينا، مع علمنا بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (1)
- جاء في السير: عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أردت أخا لي في قرية كذا وكذا. قال: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله. قال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (2). أخرجه مسلم عن عبد الأعلى، فوافقناه بعلو، وهو من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت، وشاهده في القرآن وفي الحديث كثير، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) وقال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} (4).اهـ (5)
- قال في واصل بن عطاء: واصل بن عطاء البصري، الغزال المتكلم، البليغ المتشدق، الذي كان يلثغ بالراء. فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه. سمع من الحسن البصري وغيره. وقال أبو الفتح الأزدي: رجل سوء كافر. قلت: كان من أجلاد المعتزلة، ولد سنة ثمانين بالمدينة، ومما قيل فيه:
_________
(1) السير (5/ 449 - 450).
(2) أحمد (2/ 292) ومسلم (4/ 1988/2567).
(3) آل عمران الآية (31).
(4) النساء الآية (125).
(5) السير (7/ 454 - 455).(8/265)
ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطرا في القول يجعله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر
وله من التصانيف: كتاب أصناف المرجئة، وكتاب التوبة، وكتاب معاني القرآن. وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل، ويقول: إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم. مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. (1)
- وقال في ضرار بن عمرو: نعم، ومن رؤوس المعتزلة ضرار بن عمرو، شيخ الضرارية. فمن نحلته قال: يمكن أن يكون جميع الأمة في الباطن كفارا لجواز ذلك على كل فرد منهم. ويقول: الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة، وإن النار لا حر فيها، ولا في الثلج برد، ولا في العسل حلاوة، وإنما يخلق ذلك عند الذوق واللمس. (2)
- وقال في أبي الهذيل المعتزلي: ورأس المعتزلة أبو الهذيل، محمد بن الهذيل البصري العلاف، صاحب التصانيف، الذي زعم أن نعيم الجنة وعذاب النار ينتهي بحيث إن حركات أهل الجنة تسكن، حتى لا ينطقون بكلمة، وأنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة، وقال: هما الله، وأن لِمَا يقدر الله عليه نهاية وآخرا، وأن للقدرة نهاية لو خرجت إلى الفعل، فإن خرجت لم تقدر على خلق ذرة أصلا. وهذا كفر وإلحاد. (3)
_________
(1) الميزان (4/ 329).
(2) السير (10/ 544 - 546).
(3) السير (10/ 542 - 543).(8/266)
- وقال في أبي المعتمر معمر بن عمرو: وقيل: ابن عباد، البصري السلمي مولاهم العطار، المعتزلي. وكان يقول: في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها، ولا لها عند الله عدد ولا مقدار. فهذا ضلال، يرده قوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} (1) وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)} (2) ولذلك قامت عليه المعتزلة بالبصرة، ففر إلى بغداد، واختفى عند إبراهيم ابن السندي. وكان يزعم أن الله لم يخلق لونا، ولا طولا، ولا عرضا، ولا عمقا، ولا رائحة، ولا حسنا، ولا قبحا، ولا سمعا ولا بصرا، بل ذلك فعل الأجسام بطباعها، فعورض بقوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (3) فقال: المراد خلق الإماتة والإحياء، وقال: النفس ليست جسما ولا عرضا، ولا تلاصق شيئا ولا تباينه، ولا تسكن. وكان بينه وبين النظام مناظرات ومنازعات، وله تصانيف في الكلام. وهلك فيما ورخه محمد بن إسحاق النديم سنة خمس عشرة ومئتين. (4)
- وقال في الجهم بن صفوان: أبو محرز الراسبي، مولاهم، السمرقندي، الكاتب المتكلم، أس الضلالة، ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال، كتب للأمير حارث بن سريج التميمي. وكان ينكر الصفات، وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن. ويقول: إن الله في الأمكنة
_________
(1) الجن الآية (28).
(2) الرعد الآية (8).
(3) الملك الآية (2).
(4) السير (10/ 546).(8/267)
كلها. قال ابن حزم: كان يخالف مقاتلا في التجسيم. وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب، وإن تلفظ بالكفر. قيل: إن سلم بن أحوز قتل الجهم، لإنكاره أن الله كلم موسى. (1)
- وقال في إبراهيم بن إسماعيل بن علية: ولابن علية ابن آخر، جهمي شيطان، اسمه إبراهيم بن إسماعيل، كان يقول بخلق القرآن، ويناظر. (2)
- وقال في بشر المريسي: ونظر في الكلام، فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة، ولم يدرك جهم بن صفوان بل تلقف مقالاته من أتباعه. (3)
- وقال في هشام بن عمرو: أبو محمد الفوطي، المعتزلي، الكوفي، مولى بني شيبان. صاحب ذكاء وجدال وبدعة ووبال. أخذ عنه عباد بن سلمان وغيره. ونهى عن قول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} وقال: لا يعذب الله كافرا بالنار، ولا يحيي أرضا بمطر، ولا يهدي ولا يضل، ويقول: يعذبون في النار لا بها، ويحيي الأرض عند المطر لا به، وأن معنى: نعم الوكيل، أي المتوكل عليه. قال المبرد: قال رجل لهشام الفوطي: كم تعد من السنين؟ قال: من واحد إلى أكثر من ألف. قال: لم أرد هذا، كم لك من السن؟ قال: اثنان وثلاثون سنا. قال: كم لك من السنين؟ قال: ما هي لي،
_________
(1) السير (6/ 26 - 27).
(2) السير (9/ 113).
(3) السير (10/ 200).(8/268)
كلها لله. قال: فما سنك؟ قال: عظم. قال: فابن كم أنت؟ قال: ابن أم وأب. قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني، قال: ويحك، فكيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك.
قلت: هذا غاية ما عند هؤلاء المتقعرين من العلم، عبارات وشقاشق لا يعبأ الله بها، يحرفون بها الكلم عن مواضعه قديما وحديثا، فنعوذ بالله من الكلام وأهله. (1)
- وقال في أبي موسى عيسى بن صبيح: الملقب بالمرداز، البصري، من كبار المعتزلة أرباب التصانيف الغزيرة. أخذ عن بشر بن المعتمر، وتزهد وتعبد، وتفرد بمسائل ممقوتة، وزعم أن الرب يقدر على الظلم والكذب، ولكن لا يفعله. وقال بكفر من قال: القرآن قديم، وبكفر من قال: أفعالنا مخلوقة، وقال برؤية الله، وكفر من أنكرها، حتى إن رجلا قال له: فالجنة التي عرضها السماوات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاث؟ فسكت. ذكره قاضي حماة شهاب الدين إبراهيم في كتاب 'الفرق'، وأنه مات سنة ست وعشرين ومئتين. (2)
- وقال في برغوث: وهو رأس البدعة، أبو عبد الله محمد بن عيسى الجهمي. أحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت المحنة. صنف كتاب 'الاستطاعة' وكتاب 'المقالات' وكتاب 'الاجتهاد' وكتاب 'الرد على جعفر
_________
(1) السير (10/ 547).
(2) السير (10/ 548).(8/269)
بن حرب' وكتاب 'المضاهاة'. (1)
- وقال في أبي سعد السمان: نقل الإمام الذهبي عن ابن عساكر في ترجمة السمان أنه قال: وكان يذهب مذهب الحسن البصري، ومذهب الشيخ أبي هاشم، ودخل الشام والحجاز والمغرب، وقرأ على ثلاثة آلاف شيخ، وقصد أصبهان في آخر عمره لطلب الحديث.
قال: وكان يقال في مدحه: إنه ما شاهد مثل نفسه، كان تاريخ الزمان وشيخ الإسلام.
قلت -أي الذهبي-: وذكر أشياء في وصفه، وأنى يوصف من قد اعتزل وابتدع، وبالكتاب والسنة فقل ما انتفع. فهذا عبرة، والتوفيق فمن الله وحده.
هتف الذكاء وقال لست بنافع ... إلا بتوفيق من الوهاب
وأما قول القائل: كان يذهب مذهب الحسن، فمردود، قد كانت هفوة في ذلك من الحسن، وثبت أنه رجع عنها ولله الحمد. وأما أبو هاشم الجبائي، وأبوه أبو علي فمن رؤوس المعتزلة، ومن الجهلة بآثار النبوة، برعوا في الفلسفة والكلام، وما شموا رائحة الإسلام، ولو تغرغر أبو سعد بحلاوة الإسلام، لانتفع بالحديث. فنسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا وتوحيدنا. (2)
- وقال في ابن الوليد: وكان ذا زهد وورع وقناعة. شاخ فكان ينقض من خشب بيته ما يمونه، وكان يلبس القطني الخام، وكان داعية إلى
_________
(1) السير (10/ 554).
(2) السير (18/ 58 - 59).(8/270)
الاعتزال، وبه انحرف ابن عقيل. مات في ذي الحجة، سنة ثمان وسبعين وأربع مئة، وكان يدري المنطق جيدا. وما تنفع الآداب والبحث والذكاء، وصاحبها هاو بها في جهنم. (1)
- وقال: ومن رؤوس المعتزلة البغداديين العلامة أبو موسى الفراء، ومات سنة ست وعشرين ومئتين، أرخه المسعودي.
ومنهم ابن كيسان الأصم، قديم تخرج به إبراهيم ابن علية في الكلام. ومنهم جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وأبو غفار، وحسين النجار، والرقاش، وأبو سعيد بن كلاب، وقاسم بن الخليل الدمشقي صاحب التفسير، وثمامة بن أشرس النميري، وأشباههم ممن كان ذكاؤهم وبالا عليهم، ثم بينهم من الاختلاف والخباط أمر لا يخفى على أهل التقوى، فلا عقولهم اجتمعت، ولا اعتنوا بالآثار النبوية، كما اعتنى أئمة الهدى {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} (2).اهـ (3)
- وقال في أبي القاسم عبد الواحد بن برهان العكبري: وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار. (4)
قال الذهبي: حجته في خروج الكفار هو مفهوم العدد من قوله:
_________
(1) السير (18/ 490).
(2) الأنعام الآية (81).
(3) السير (10/ 555 - 556).
(4) السير (18/ 125).(8/271)
{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} (1) ولا ينفعه ذلك لعموم قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} (2) ولقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (3) إلى غير ذلك، وفي المسألة بحث عندي أفردتها في جزء. (4)
- وقال في محمد بن كرام: محمد بن كرام السجستاني المبتدع، شيخ الكرامية، كان زاهدا عابدا ربانيا، بعيد الصيت، كثير الأصحاب، ولكنه يروي الواهيات كما قال ابن حبان. خذل حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها، ثم جالس الجويباري، وابن تميم، ولعلهما قد وضعا مئة ألف حديث، وأخذ التقشف عن أحمد بن حرب. قلت: كان يقول: الإيمان هو نطق اللسان بالتوحيد، مجرد عن عقد قلب، وعمل جوارح. وقال خلق من الأتباع له: بأن الباري جسم لا كالأجسام، وأن النبي تجوز منه الكبائر سوى الكذب. وقد سجن ابن كرام، ثم نفي. وكان ناشفا عابدا، قليل العلم. قال الحاكم: مكث في سجن نيسابور ثماني سنين، ومات بأرض بيت المقدس سنة خمس وخمسين ومئتين. وكانت الكرامية كثيرين بخراسان. ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا. نعوذ بالله من الأهواء. (5)
- عن أحمد الدورقي: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في هؤلاء الذين
_________
(1) النبأ الآية (23).
(2) البقرة الآية (167).
(3) النساء الآية (169).
(4) السير (18/ 126).
(5) السير (11/ 523 - 524).(8/272)
يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق؟ فرأيته استوى واجتمع، وقال: هذا شر من قول الجهمية. من زعم هذا، فقد زعم أن جبريل تكلم به بمخلوق، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: فقد كان هذا الإمام - أي أحمد بن محمد ابن حنبل- لا يرى الخوض في هذا البحث خوفا من أن يتذرع به إلى القول بخلق القرآن، والكف عن هذا أولى. آمنا بالله تعالى، وبملائكته، وبكتبه، ورسله، وأقداره، والبعث، والعرض على الله يوم الدين. ولو بسط هذا السطر، وحرر وقرر بأدلته لجاء في خمس مجلدات، بل ذلك موجود مشروح لمن رامه، والقرآن فيه شفاء ورحمة للمؤمنين، ومعلوم أن التلفظ شيء من كسب، القارئ غير الملفوظ، والقراءة غير الشيء المقروء، والتلاوة وحسنها وتجويدها غير المتلو، وصوت القارئ من كسبه فهو يحدث التلفظ والصوت والحركة والنطق، وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة، ولم يحدث كلمات القرآن، ولا ترتيبه، ولا تأليفه، ولا معانيه. فلقد أحسن الإمام أبو عبد الله حيث منع من الخوض في المسألة من الطرفين إذ كل واحد من إطلاق الخلقية وعدمها على اللفظ موهم، ولم يأت به كتاب ولا سنة، بل الذي لا نرتاب فيه أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. والله أعلم. (1)
قال الحافظ أبو بكر الأعين: مشايخ خرسان ثلاثة: قتيبة وعلي بن حجر ومحمد بن مهران الرازي. ورجالها أربعة: عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري -قبل أن يظهر منه ما ظهر- ومحمد
_________
(1) السير (11/ 290).(8/273)
ابن يحيى وأبو رزعة.
قلت: هذه دقة من الأعين، والذي ظهر من محمد -يعني البخاري- أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمة في القول في القرآن، وتسمى مسألة أفعال التالين، فجمهور الأئمة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. وبهذا ندين الله تعالى، وبدعوا من خالف ذلك، وذهبت الجهمية والمعتزلة، والمأمون، وأحمد بن أبي دؤاد القاضي، وخلق من المتكلمين والرافضة إلى أن القرآن كلام الله المنزل مخلوق. وقالوا: الله خالق كل شيء، والقرآن شيء. وقالوا: تعالى الله أن يوصف بأنه متكلم. وجرت محنة القرآن، وعظم البلاء، وضرب أحمد بن حنبل بالسياط ليقول ذلك، نسأل الله السلامة في الدين. ثم نشأت طائفة، فقالوا: كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة، يعنون: تلفظهم وأصواتهم به، وكتابتهم له ونحو ذلك، وهو حسين الكرابيسي، ومن تبعه، فأنكر ذلك الإمام أحمد، وأئمة الحديث، وبالغ الإمام أحمد في الحط عليهم، وثبت عنه أن قال: اللفظية جهمية. وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي. ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع، وسد باب الخوض في هذا. وقال أيضا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو جهمي. وقالت طائفة: القرآن محدث كداود الظاهري ومن تبعه، فبدعهم الإمام أحمد، وأنكر ذلك، وثبت على الجزم بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه من علم الله، وكَفَّر من قال بخلقه وبدَّع من قال بحدوثه، وبدع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولم يأت عنه ولا عن السلف القول: بأن القرآن قديم. ما تفوه أحد(8/274)
منهم بهذا. فقولنا: قديم: من العبارات المحدثة المبتدعة. كما أن قولنا: هو محدث بدعة. وأما البخاري فكان من كبار الأئمة الأذكياء، فقال: ما قلت: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وإنما حركاتهم، وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلو الملفوظ المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق.
وصنف في ذلك كتاب 'أفعال العباد' مجلد، فأنكر عليه طائفة، وما فهموا مرامه كالذهلي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي بكر الأعين، وغيرهم. ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلابية، والأشعرية، وقالوا: القرآن معنى قائم بالنفس، وإنما هذا المنزل حكايته وعبارته ودال عليه. وقالوا: هذا المتلو معدود متعاقب، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب، ولا التعدد. بل هو شيء واحد قائم بالذات المقدسة، واتسع المقال في ذلك، ولزم منه أمور وألوان، تركها -والله- من حسن الإيمان وبالله نتأيد. (1)
-وقال في السير: قال عبد الله بن أحمد: فترحم عليه أبي -أي أبو بكر الأعين-، وقال: إني لأغبطه، مات وما يعرف إلا الحديث، لم يكن صاحب كلام.
قلت: هكذا كان أئمة السلف، لا يرون الدخول في الكلام، ولا الجدال. بل يستفرغون وسعهم في الكتاب والسنة، والتفقه فيهما، ويتبعون ولا يتنطعون. (2)
- أخبرنا الإمام أبو الحسين علي بن محمد، أخبرنا جعفر بن علي،
_________
(1) السير (11/ 510 - 511).
(2) السير (12/ 120).(8/275)
أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ، أخبرنا ثابت بن بندار، أخبرنا أبو بكر البرقاني، قرأنا على أبي العباس بن حمدان، حدثكم محمد بن نعيم قال: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، وحيث تصرف، ولا نرى الكلام فيما أحدثوا فتكلموا في الأصوات والأقلام والحبر والورق، وما أحدثوا من المتلي والمُتلى والمقرئ، فكل هذا عندنا بدعة، ومن زعم أن القرآن محدث، فهو عندنا جهمي لا يشك فيه ولا يمترى.
قال الذهبي: كذا قال: المتلي والمتلى، ومراده المتلي والتلاوة، والمقرئ والقراءة. ومذهب السلف وأئمة الدين أن القرآن العظيم المنزل كلام الله تعالى غير مخلوق. ومذهب المعتزلة أنه مخلوق، وأنه كلام الله تعالى على حد قولهم: عيسى كلمة الله، وناقة الله، أي إضافة ملك.
ومذهب داود وطائفة أنه كلام الله، وأنه محدث مع قولهم بأنه غير مخلوق.
وقال آخرون من الحنابلة وغيرهم: هو كلام الله قديم غير محدث، ولا مخلوق. وقالوا: إذا لم يكن مخلوقا فهو قديم. ونوزعوا في هذا المعنى وفي إطلاقه.
وقال آخرون: هو كلام الله مجازا، وهو دال على القرآن القديم القائم بالنفس.
وهنا بحوث وجدال لا نخوض فيها أصلا. والقول هو ما بدأنا به، وعليه نص أزيد من ثلاث مئة إمام. وعليه امتحن الإمام أحمد، وضرب(8/276)
بالسياط رحمه الله. (1)
- قال الذهبي -عقب قول ابن منده في مسألة الإيمان: صرح محمد بن نصر في كتاب الإيمان بأن الإيمان مخلوق، وأن الإقرار والشهادة وقراءة القرآن بلفظه مخلوق، ثم قال: وهجره على ذلك علماء وقته وخالفه أئمة خراسان والعراق-:
قلت: الخوض في ذلك لا يجوز، وكذلك لا يجوز أن يقال: الإيمان، والإقرار، والقراءة، والتلفظ بالقرآن غير مخلوق، فإن الله خلق العباد وأعمالهم، والإيمان: فقول وعمل، والقراءة والتلفظ: من كسب القارئ، والمقروء الملفوظ: هو كلام الله ووحيه وتنزيله، وهو غير مخلوق، وكذلك كلمة الإيمان، وهي قول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" داخلة في القرآن، وما كان من القرآن فليس بمخلوق، والتكلم بها من فعلنا، وأفعالنا مخلوقة، ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له، قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة. (2)
- وقال: قد صار الظاهر اليوم ظاهرين: أحدهما حق والثاني باطل، فالحق أن يقول: إنه سميع بصير، مريد متكلم، حي عليم، كل شيء هالك إلا وجهه، خلق آدم بيده، وكلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، وأمثال
_________
(1) السير (12/ 289 - 290).
(2) السير (14/ 39 - 40).(8/277)
ذلك، فنمره على ما جاء، ونفهم منه دلالة الخطاب كما يليق به تعالى، ولا نقول: له تأويل يخالف ذلك. والظاهر الآخر وهو الباطل، والضلال: أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد، وتمثل البارئ بخلقه، تعالى الله عن ذلك، بل صفاته كذاته، فلا عدل له، ولا ضد له، ولا نظير له، ولا مثل له، ولا شبيه له، وليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، وهذا أمر يستوي فيه الفقيه والعامي، والله أعلم. (1)
- قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان: وفي ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمس مئة كان ما اشتهر من أمر الحافظ عبد الغني وإصراره على ما ظهر من اعتقاده وإجماع الفقهاء على الفتيا بتكفيره، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين، فسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب.
قلت -أي الذهبي-: قد بَلَوت على أبي المظفر المجازفة وقلة الورع فيما يؤرخه والله الموعد، وكان يترفض، رأيت له مصنفا في ذلك فيه دواه، ولو أجمعت الفقهاء على تكفيره كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حيا، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه الشيخ العماد والشيخ موفق الدين، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر، والعلامة شمس الدين البخاري، وسائر الحنابلة، وعدة من أهل الأثر، وكان بالبلد أيضا خلق من العلماء لا يكفرونه، نعم، ولا يصرحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه، ولو كف عن تلك العبارات، وقال بما وردت به النصوص لأجاد ولسلم، فهو الأولى، فما في توسيع العبارات الموهمة خير،
_________
(1) السير (19/ 449).(8/278)
وأسوأ شيء قاله أنه ضلل العلماء الحاضرين، وأنه على الحق، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء، رحم الله الجميع وغفر لهم، فما قصدهم إلا تعظيم الباري عز وجل من الطرفين، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف رضي الله عنهم. وبكل حال فالحافظ عبد الغني من أهل الدين والعلم والتأله والصدع بالحق، ومحاسنه كثيرة، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والافتراء، ونبرأ من كل مجسم ومعطل. (1)
- وقال رحمه الله: وقد سئل أبو القاسم التيمي رحمه الله: هل يجوز أن يقال: لله حد أو لا؟ وهل جرى هذا الخلاف في السلف؟ فأجاب: هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها، وقلة وقوفي على غرض السائل منها، لكني أشير إلى بعض ما بلغني، تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة، محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره، فإن كان غرض القائل: ليس لله حد: لا يحيط علم الحقائق به، فهو مصيب، وإن كان غرضه بذلك: لا يحيط علمه تعالى بنفسه فهو ضال، أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضا ضال. قلت -أي الذهبي-: الصواب الكف عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح، فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفا من أن يدخل القلب شيء من البدعة، اللهم احفظ علينا إيماننا. (2)
_________
(1) السير (21/ 464).
(2) السير (20/ 85 - 86).(8/279)
- وقال -يعني الغزالي-: ميزان الأعمال معيار يعبر عنه بالميزان، وإن كان لا يساوي ميزان الأعمال ميزان الجسم الثقيل، كميزان الشمس، وكالمسطرة التي هي ميزان السطور، وكالعروض ميزان الشعر.
قلت: بل ميزان الأعمال له كفتان، كما جاء في الصحيح (1)، وهذا المعتقد -يشير إلى ما نقله الغزالي- غالبه صحيح، وفيه مما لم أفهمه، وبعضه فيه نزاع بين أهل المذاهب، ويكفي المسلم في الإيمان أن يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، وأن الله ليس كمثله شيء أصلا، وأن ما ورد من صفاته المقدسة حق، يمر كما جاء، وأن القرآن كلام الله وتنزيله، وأنه غير مخلوق، إلى أمثال ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ولا عبرة بمن شذ منهم، فإن اختلفت الأمة في شيء من مشكل أصول دينهم، لزمنا فيه الصمت، وفوضناه إلى الله، وقلنا: الله ورسوله أعلم، ووسعنا فيه السكوت. فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول. (2)
- وهو القائل في كتاب السنة -أي القصاب-: كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصف بها نبيه فهي صفة حقيقة لا مجازا. قلت: نعم، لو كانت
_________
(1) أحمد (2/ 213؛221 - 222) والترمذي (5/ 25/2639) وقال: "هذا حديث حسن غريب" وابن ماجه (2/ 1437/4300) وابن حبان (1/ 461 - 462/ 225 الإحسان) والحاكم (1/ 6؛529) وقال في الموطن الأول: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وقال في الموطن الثاني: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. كلهم من طرق عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكر حديث البطاقة.
(2) السير (19/ 345 - 346).(8/280)
صفاته مجازا لتحتم تأويلها ولقيل: معنى البصر كذا، ومعنى السمع كذا، ومعنى الحياة كذا، ولفسرت بغير السابق إلى الأفهام، فلما كان مذهب السلف إمرارها بلا تأويل، علم أنها غير محمولة على المجاز وأنها حق بين. (1)
- وقد امتحن صاحب الترجمة -يعني رُوَيم- في نوبة غلام خليل، وقال عنه: أنا سمعته يقول: ليس بيني وبين الله حجاب. ففر إلى الشام واختفى زمانا.
وأما الحجاب: فقول يسوغ باعتبار أن الله لا يحجبه شيء قط عن رؤية خلقه، وأما نحن فمحجوبون عنه في الدنيا، وأما الكفار فمحجوبون عنه في الدارين. أما إطلاق الحجب، فقد صح «أن حجابه النور» (2) فنؤمن بذلك، ولا نجادل، بل نقف. (3)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: عبد الرحمن بن ملجم المرادي، ذاك المعثر الخارجي، ليس بأهل أن يروى عنه؛ وما أظن له رواية، وكان عابدا قانتا لله، لكنه ختم بشر، فقتل أمير المؤمنين عليا متقربا إلى الله بدمه بزعمه، فقطعت أربعته ولسانه، وسملت عيناه، ثم أحرق. نسأل الله العفو والعافية. (4)
- وجاء في ميزان الاعتدال عن عبد الله بن عمرو، قال: يأتي على الناس زمان يجتمعون في مساجدهم ليس فيهم مؤمن.
_________
(1) التذكرة (3/ 939).
(2) تقدم تخريجه من حديث أبي موسى. انظر مواقف محمد بن خفيف سنة (371هـ).
(3) السير (14/ 235).
(4) الميزان (2/ 592).(8/281)
قال الذهبي رحمه: ومعناه أي مؤمن كامل الإيمان، فأراد: ليس فيهم مؤمن سليم من النفاق، بحيث أنه غير مرتكب صفات النفاق من إدمان الكذب والخيانة، وخلف الوعد والفجور والغدر، وغير ذلك. ونحن اليوم نرى الأمة من الناس من أعراب الدولة يجتمعون في المسجد وما فيهم مؤمن، بل ونحن منهم. نسأل الله توبة وإنابة إليه؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (1). وهذا باب واسع ينبغي للشخص أن يترفق فيه بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا يسلبهم الإيمان والإسلام، كفعل الخوارج والمعتزلة المكفرة أهل القبلة بالكبائر، ولا ننعتهم بالإيمان الكامل كما فعلت المرجئة، فالمسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده. (2)
موقفه من المرجئة:
- جاء في السير: قال هارون الحمال: "ما رأيت أخشع لله من وكيع، وكان عبد المجيد أخشع منه".
قال الذهبي عقبه: خشوع وكيع مع إمامته في السنة جعله مقدما، بخلاف خشوع هذا المرجئ -عفا الله عنه- أعاذنا الله وإياكم من مخالفة السنة، وقد كان على الإرجاء عدد كثير من علماء الأمة، فهلا عد مذهبا، وهو قولهم: أنا مؤمن حقا عند الله الساعة مع اعترافهم بأنهم لا يدرون بما يموت عليه المسلم من كفر أو إيمان، وهذه قولة خفيفة، وإنما الصعب من
_________
(1) الحجرات الآية (14).
(2) الميزان (3/ 39).(8/282)
قول غلاة المرجئة: إن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة، وإن تارك الصلاة والزكاة وشارب الخمر وقاتل الأنفس والزاني وجميع هؤلاء يكونون مؤمنين كاملي الإيمان، ولا يدخلون النار، ولا يعذبون أبدا، فردوا أحاديث الشفاعة المتواترة وجسروا كل فاسق وقاطع طريق على الموبقات، نعوذ بالله من الخذلان. (1)
- وفيها: بعد ذكر حديث «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ... » (2) قال الذهبي: وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ويزيد وينقص، فالكامل الإيمان من اتصف بفعل الخيرات، وترك المنكرات، وله قرب ماحية لذنوبه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3)، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} (4) ودون هؤلاء خلق من المؤمنين، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ودونهم عصاة المسلمين، ففيهم إيمان ينجون به من خلود عذاب الله تعالى، وبالشفاعة. ألا تسمع إلى
_________
(1) السير (9/ 435 - 436).
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 357) والبخاري (1/ 120/33) ومسلم (1/ 78/59) والترمذي (5/ 20/2631) والنسائي (8/ 491/5036).
(3) الأنفال الآيات (2 - 4).
(4) المؤمنون الآيات (1 - 11).(8/283)
الحديث المتواتر: «أنه يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من إيمان» (1).
وكذلك شعب النفاق من الكذب، والخيانة، والفجور، والغدر، والرياء، وطلب العلم ليقال، وحب الرئاسة والمشيخة، وموادة الفجار والنصارى. فمن ارتكبها كلها وكان في قلبه غل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حرج من قضاياه، أو يصوم رمضان غير محتسب، أو يجوز أن دين النصاري أو اليهود دين مليح ويميل إليهم؛ فهذا لا ترتب في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، وصفاته الممقوتة عديدة في الكتاب والسنة من قيامه إلى الصلاة كسلان، وأدائه الزكاة وهو كاره، وإن عامل الناس فبالمكر والخديعة، قد اتخذ إسلامه جنة، نعوذ بالله من النفاق، فقد خافه سادة الصحابة على نفوسهم.
فإن كان فيه شعبة من نفاق الأعمال، فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها، أما من كان في قلبه شك من الإيمان بالله ورسوله، فهذا ليس بمسلم، وهو من أصحاب النار، كما أن من في قلبه جزم بالإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه وبالمعاد، وإن اقتحم الكبائر فإنه ليس بكافر، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (2).
وهذه مسألة كبيرة جليلة قد صنف فيها العلماء كتبا، وجمع فيها الإمام
_________
(1) أحمد (3/ 94) والبخاري (13/ 517 - 519/ 7439) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183) والترمذي (4/ 615/2598) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 486 - 487/ 5025) وابن ماجه (1/ 23/60) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) التغابن الآية (2).(8/284)
أبو العباس شيخنا مجلدا حافلا قد اختصرته. نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا حتى نوافيه به. (1)
- قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا، وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا، قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل.
قال الذهبي: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية. (2)
موقفه من القدرية:
- جاء في السير: وقد كان المنصور يعظم ابن عبيد ويقول:
كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد
غير عمرو بن عبيد
قال الذهبي: اغتر بزهده وإخلاصه، وأغفل بدعته. (3)
- وفيها قال: وكان عبد الواحد -بن زيد البصري- صاحب فنون، داخلا في معاني المحبة والخصوص، قد بقي عليه شيء من رؤية الاكتساب، وفي ذلك شيء من أصول أهل القدر، فإن عندهم: لا نجاة إلا بعمل. فأما
_________
(1) السير (11/ 363 - 364).
(2) السير (5/ 233).
(3) السير (6/ 105).(8/285)
أهل السنة فيحضون على الاجتهاد في العمل، وليس به النجاة وحده دون رحمة الله. وكان عبد الواحد لا يطلق: إن الله يضل العباد، تنزيها له، وهذه بدعة. (1)
- وفيها: عن أبي عوانة قال: دخلت على همام بن يحيى وهو مريض، أعوده، فقال لي: يا أبا عوانة، ادع الله أن لا يميتني حتى يبلغ ولدي الصغار. فقلت: إن الأجل قد فرغ منه، فقال لي: أنت بعد في ضلالك.
قال الذهبي: بئس المقال هذا، بل كل شيء بقدر سابق، ولكن وإن كان الأجل قد فرغ منه، فإن الدعاء بطول البقاء قد صح. دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخادمه أنس بطول العمر (2)،
والله يمحو ما يشاء ويثبت. فقد يكون طول العمر في علم الله مشروطا بدعاء مجاب، كما أن طيران العمر قد يكون بأسباب جعلها من جور وعسف، و «لا يرد القضاء إلا الدعاء» (3) والكتاب الأول، فلا يتغير. (4)
_________
(1) السير (7/ 180).
(2) أخرجه بلفظ: «وأطل عمره»: البخاري في الأدب المفرد (653) (انظر صحيح الأدب (243 - 244)) وابن سعد في الطبقات (7/ 19) والفسوي في المعرفة (2/ 532).
وأخرجه بدونها: أحمد (3/ 108) والبخاري (11/ 174/6344) ومسلم (1/ 457 - 458/ 660) والترمذي (5/ 639 - 640/ 3827).
(3) أخرج هذا اللفظ من حديث سلمان: الترمذي (4/ 390/2139) والشهاب القضاعي في مسنده (2/ 36 - 37/ 832 و833) وهو حديث حسن للشاهد من حديث ثوبان وهو عند: أحمد (5/ 277،280،282) وابن ماجه (1/ 35/90) والحاكم (1/ 493). قال البوصيري في الزوائد (1/ 54): "وسألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن". وفي حديث ثوبان زيادة «وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب ... » وهي ضعيفة (انظر الصحيحة (1/ 154).
(4) السير (8/ 219 - 220).(8/286)
- وفيها: قال في عبد الوارث بن سعيد: وكان عالما مجودا، من فصحاء أهل زمانه، ومن أهل الدين والورع، إلا أنه قدري مبتدع. (1)
- وقال رحمه الله في النظام: شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف، أبو إسحاق إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث بن عباد الضبعي البصري المتكلم. تكلم في القدر، وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحظ. وكان يقول: إن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر، ولو كان قادرا، لكنا لا نأمن وقع ذلك، وإن الناس يقدرون على الظلم، وصرح بأن الله لا يقدر على إخراج أحد من جهنم، وأنه ليس يقدر على أصلح مما خلق.
قال الذهبي: القرآن والعقل الصحيح يكذبان هؤلاء، ويزجرانهم عن القول بلا علم، ولم يكن النظام ممن نفعه العلم والفهم، وقد كفره جماعة. وقال بعضهم: كان النظام على دين البراهمة المنكرين للنبوة والبعث، ويخفي ذلك. (2)
أبو فارس عبد العزيز بن محمد (3) (750 هـ)
العالم الصالح والإمام الفاضل أبو فارس عبد العزيز بن محمد القروي الفاسي. أكبر تلاميذ أبي الحسن الصغير ومن المكثرين عنه، وعنه أخذ أبو عمران العبدوسي وغيره. له تقييد على المدونة. جاء في الفكر السامي: قال
_________
(1) السير (8/ 301).
(2) السير (10/ 541 - 542).
(3) شجرة النور الزكية (1/ 221) والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/ 284).(8/287)
السلطان أبو الحسن المريني للمترجم: وليناك مع عامل الزكاة، فقال له: أما تستحيي من الله، تأخذ لقبا من ألقاب الشريعة، وتضعه على مغرم من المغارم، فضربه السلطان بسكين مغمد كان يعتاد حمله بيده، ثم تحلل منه فسامحه.
توفي رحمه الله سنة خمسين وسبعمائة.
موقفه من الصوفية:
- جاء في المعيار المعرب: وسئل الشيخ الصالح أبو فارس عبد العزيز بن محمد القيرواني تلميذ سيدي أبي الحسن الصغير عن قوم تسموا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغنا، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاما كانوا أعدوه للمبيت عليه، ثم يصلون ذلك بقراءة عشر من القرآن والذكر، ثم يغنون ويرقصون ويبكون، ويزعمون في ذلك كله أنهم على قربة وطاعة، ويدعون الناس إلى ذلك، ويطعنون على من لم يأخذ بذلك من أهل العلم، ونساء اقتفين في ذلك أثرهم، وعملن في ذلك على نحو عملهم. وقوم استحسنوا ذلك وصوبوا فيه رأيهم. فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوز إمامتهم وتقبل شهادتهم أم لا؟ بينوا لنا ذلك.
فأجاب: بأن قال: الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، أكرمكم الله وإيانا بتقواه، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، لاتباع سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى نلقاه، قد وقفنا على ما رستم (1) وتصفحنا فصوله. فالجواب فيه ما قاله بعض أيمة الدين، من علماء المسلمين
_________
(1) كذا بالأصل ولعلها: رسمتم.(8/288)
الناصحين، حين سئلوا عن ذلك، من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر: أن بني إسرائيل افترقت على اثنين وسبعين فرقة، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة اثنان وسبعون في النار وواحدة في الجنة (1)، وقد ظهر ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من افتراق أمته على هذه الفرق، وتبين صدقه - صلى الله عليه وسلم - وتحقق. ولم يكن أحد في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأمية الجاهلة الغبية، الذين ولعوا بجمع أقوام جهال فتصدوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة، وعقولهم قاصرة، فدخلوا عليهم من طريق الدين، وأنهم لهم من الناصحين وأن هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبين، فصاروا يحضونهم على التوبة والإيثار والمحبة وصدق الأخوة، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بكلية، وصرفه إليه بالقصد والنية. وهذه الخصال محمودة في الدين فاضلة، إلا أن الذي في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة، وطامات هائلة. وهذه الطائفة أشد ضررا على المسلمين من مردة الشياطين، وهي أصعب الطوائف للعلاج، وأبعدها عن فهم طرق الاحتجاج، لأنهم أول أصل أصلوه في مذهبهم، بغض العلماء والتنفير عنهم، ويزعمون أنهم عندهم قطاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق، فمن كان هذه حالته، سقطت مكالمته. وبعدت معالجته، فليس للكلام معه فائدة، والمتكلم معه يضرب في حديد بارد.
وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم، لعله يسلم من عاديتهم، وينجو من غاويتهم.
واعلموا أن هذه البدعة في فساد عقائد العوام، أسرع من سريان السم
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).(8/289)
في الأجسام، وأنها أضر في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام، فإن هذه المعاصي كلها معلوم قبحها، عند من يرتكبها ويجتلبها، فلا يلبس مرتكبها على أحد، وترجى له التوبة منها والإقلاع عنها. وصاحب هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات، وأعلى القربات، فباب التوبة عنده مسدود، وهو عنه شرود مطرود. فكيف ترجى له منها التوبة، وهو يعتقد أنها طاعة وقربة، بل هو ممن قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (1)، وممن قال فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} (2). ثم ضرر المعاصي إنما هي في أعمال الجوارح الظاهرة، وضرر هذه البدع إنما هي في الأصول التي هي العقائد الباطنة، فإذا فسد الأصل، ذهب الفرع والأصل، وإذا فسد الفرع بقي الأصل يرجى أن ينجبر الفرع وإن لم ينجبر الفرع، لم تذهب منفعة الأصل. ثم إن الذي يغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته، يكون عليه وزره ووزر من استن بسنته، قال الله العظيم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ
_________
(1) الكهف الآيتان (103 و104).
(2) فاطر الآية (8).(8/290)
أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} (1)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (2). ولا تنشأ هذه العلل إلا من مرض في القلب خفي، أو حمق جلي، فاحذروها واحذروا أهلها. ولا تغتروا بهم ولو أنهم يطيرون في الهواء، ويمشون على الماء، فإن ذلك فتنة لمن أراد الله فتنته، وعلم شقوته. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (3). فلا يغتر أحدكم بما يظهر من الأوهام والخيالات، من أهل البدع والضلالات، ويعتقد بأنها كرامات، بل هي شرك وحبالات، نصبها الشيطان ليقتنص بها معتقد البدع ومرتكب الشهوات، وإنما تكون من الله الكرامة لمن ظهرت منه الاستقامة، وإنما تكون الاستقامة باتباع الكتاب والسنة، والعمل بما كان عليه سلف هذه الأمة، فمن لم يسلك طريقهم، ولم يتبع سبيلهم، فهو ممن قال الله فيهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} (4).اهـ (5)
_________
(1) العنكبوت الآية (13) ..
(2) تقدم تخريجه في مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ).
(3) المائدة الآية (41).
(4) النساء الآية (115).
(5) المعيار المعرب (11/ 29 - 32).(8/291)
محمد بن منظور (1) (750 هـ)
محمد بن عبيد الله بن محمد بن يوسف بن منظور القيسي أبو بكر المالقي وأصله من إشبيلية. قرأ على الأستاذ أبي محمد بن السداد الباهلي، وسمع على مالك بن المرحل وأبي عبد الله بن الأديب وأبي عبد الله بن رشد وأبي العباس بن خميس وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الأقشهري الفارسي وغيرهم.
ولي قضاء طرابلس وكان صدرا رئيسا فاضلا في الأدب، مليح الإنشاء، كان عارفا بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة. وله تصانيف منها: 'التبر المسبوك في شعر الخلفاء والملوك' و'خواص سور القرآن' و'الرد على المضنون به على غير أهله' و'أربعون حديثا في الرقائق بأسانيدها' و'نوازل أبي عبد الله بن منظور' وله شعر مقبول.
وكانت وفاته في صفر سنة خمسين وسبعمائة.
موقفه من الصوفية:
- له الرد على المضنون به على غير أهله للغزالي ذكره في الدرر الكامنة. (2)
_________
(1) الدرر الكامنة (4/ 37) والأعلام (6/ 260).
(2) (4/ 37).(8/292)
العلامة ابن القيم (1) (751 هـ)
الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي بل المجتهد المطلق المفسر النحوي الأصولي، الشهير بابن قيم الجوزية، وإمامها. ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة. وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين. سمع من التقي سليمان وأبي بكر بن عبد الدائم وابن الشيرازي وإسماعيل بن مكتوم وطبقتهم. وقرأ الفقه على المجد الحراني وشيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ أيضا على ابن أبي الفتح والصفي الهندي وعدة. ولما عاد الشيخ تقي الدين ابن تيمية من مصر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علما جما. فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا. قال ابن كثير: وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم من زماننا أكثر عبادة منه. وقال ابن رجب: كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان أعلم منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 246 - 247) والدرر الكامنة (3/ 400 - 403) والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 384 - 385) والدر المنضد للعليمي (2/ 521 - 523) وشذرات الذهب (6/ 168 - 170) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 447 - 452).(8/293)
أر في معناه مثله. وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف. وقال الشوكاني: برع في شتى العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف. وله مصنفات قيمة بلغت ستا وتسعين مؤلفا، منها: 'زاد المعاد' و'إعلام الموقعين' و'بدائع الفوائد' وغيرها. مات رحمه الله تعالى في ثالث عشر من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وعاش ستين سنة وكانت جنازته حافلة جدا.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام أحد التلامذة البررة لشيخ الإسلام ابن تيمية. نفعه الله بشيخ الإسلام فاستفاد منه العلم والعمل، أحيا كتب الشيخ ودعوته بعد وفاته ودافع عن العقيدة السلفية بقدر ما استطاع، ألف في ذلك الكتب القيمة التي سارت بها الركبان واستفاد منها الأنام، ولم يكن كغيره بالناقل المار الجامع، ولكن كان الناقد الفقيه المحلل. إذا تكلم في مسألة يظن القارئ له أنه لا يحسن غيرها لما يراه من كثرة العلم والحجج وكأنه بحر تتلاطم أمواجه لا تقف أمامه حبيبات الرمال (المبتدعة)، وكأن السنة والكتاب وضعت بين عينيه يأخذ منهما ما يشاء، إن تكلم في اللغة فهو الخليل فيها، وإن تكلم في التفسير فابن جرير قرينه، وإن تكلم في الحديث فالبخاري زميله. وهكذا في كل فن يقارن بأكبر أربابه. ولما له من هذه المكانة، اعترف بفضله وعلمه وحفظه كل من ترجم له حتى الأقران الذين يغلب عليهم التنافس، إلا من في قلبه مرض، فهؤلاء لا يُؤبَه لهم ولا لكلامهم، على حَدِّ قول القائل: القافلة تسير والكلاب تنبح، وكما جاء في الرسالة: ولا يستنجى من ريح.(8/294)
فالشعوبي الخبيث الذي سخر لسانه في ثلب أئمة السلف، وعلى رأسهم الإمامان الحافظان الكبيران ابن تيمية وابن القيم -قد استوفى الشيخ الفاضل بكر أبو زيد الكلام في الرد على هذا المذموم في كتابه القيم 'ابن القيم وآثاره'، وقد طبع الكتاب واستفاد الناس منه فجزاه الله خيرا. والكلام على الإمام ابن القيم شيق جدا، وأكتفي بالإشارة في ذلك.
- جاء في الدرر الكامنة: وكان جريء الجنان واسع العلم عارفا بالخلاف ومذاهب السلف، وغلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك. وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. وكان له حظ عند الأمراء المصريين، واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، فلما مات أفرج عنه، وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه. قال الذهبي في المختص: حبس مرة لإنكاره شد الرحل لزيارة قبر الخليل، ثم تصدر للأشغال ونشر العلم. (1)
له آثار سلفية تدل على غزارة علمه وقد بينتها في كتابي 'المصادر العلمية في الدفاع عن العقيدة السلفية' والحمد لله رب العالمين.
ومن أقواله رحمه الله:
- وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها؛ فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها
_________
(1) الدرر الكامنة (3/ 401) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 448).(8/295)
يرجعون. (1)
- وقال: وذكر الصراط المستقيم مفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) فوحد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة له. وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا، وقال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: «هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {أن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} " (3). وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد؛ وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله.
_________
(1) شفاء العليل (1/ 48).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).(8/296)
قال الله تعالى: {هذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} (1).اهـ (2)
- وقال: ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرد، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (3). فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له. وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم. فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين (4). وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق. واحرص على اللحاق بهم. وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم. فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لذلك مثلين. فليكونا منك على بال:
_________
(1) الحجر الآية (41).
(2) مدارج السالكين (1/ 14 - 15).
(3) النساء الآية (69).
(4) تقدم من قول الفضيل بن عياض رحمه الله.(8/297)
المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها. فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة. وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة. فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت، لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، فيدركه الكلب فيأخذه.
والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق، ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: «اللهم اهدني فيمن هديت» (1) أي أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم. (2)
_________
(1) أخرجه: أحمد (1/ 199،200) وأبو داود (2/ 133 - 134/ 1425) والترمذي (2/ 328/464) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي (3/ 275/1744 - 1745) وابن ماجه (1/ 372 - 373/ 1178) وابن خزيمة (2/ 151 - 152/ 1095 - 1096) وابن حبان (2/ 498 - 499/ 722) وفي (3/ 225/945) والحاكم (3/ 172) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إلا أن محمد بن جعفر ابن أبي كثير قد خالف إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة في إسناده" كلهم من طريق أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر فذكره.
(2) مدارج السالكين (1/ 21 - 22).(8/298)
- وقال: ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (1).
وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله، لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} وهذا مما ذكرناه آنفا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجا من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحسبك بهذه الآية القاصمة العاصمة بيانا وشفاء، فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين لما أمرت به، قال الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2).
وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته. (3)
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) الأنفال الآية (42).
(3) الرسالة التبوكية (133 - 134).(8/299)
- وقال: وقال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (1).
فهذا نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي، فيا عجبا كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟ ولكن من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
فأي ضلال أعظم من ضلال من يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي، ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيد وعمرو؟ فلقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، والحمد لله رب العالمين.
وقال تعالى: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (2).
فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل، أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة، فكل من لا يتبع الوحي فإنما اتبع الباطل، واتبع أولياء من دون الله، وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به. (3)
_________
(1) سبأ الآية (50).
(2) الأعراف الآيات (1 - 3).
(3) الرسالة التبوكية (141 - 142).(8/300)
- وقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ} تُحْشَرُونَ (1)، فتضمنت هذه الآية أمورا، أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول. (2)
- وقال: قال الله تعالى: {وكذلك نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (3)، وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (4). الآية.
والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال
_________
(1) الأنفال الآية (24).
(2) الفوائد (114 - 115).
(3) الأنعام الآية (55).
(4) النساء الآية (115).(8/301)
هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه. فإن الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده، فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب: إنما(8/302)
تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل.
فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع فرق:
الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا، وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام. وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه،(8/303)
وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى، فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.
وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عزوجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولاتورثه شبهة ولا شكا، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به، فيقوى إيمانه به. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه، فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها، صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين(8/304)
الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب، فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره، فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات، إما حجابا له عنه، أوحاجبا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته.
الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة، وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء. ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض، كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه، والله أعلم. (1)
_________
(1) الفوائد (142 - 145).(8/305)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك. ولكن ما لجرح بميت إيلام، فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولى العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام، الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت(8/306)
الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام.
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح، كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه. وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته. والشر والضلال في معصيته ومخالفته. (1)
- وقال: فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمصار عدد
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 304 - 305).(8/307)
كثير وهم متوافرون. فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وحينئذ، فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل، فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملا؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبت بكل سبب، وإن كان فيه كراهة، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعا وشرعا.
فتعين القسم الآخر. وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد. ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله ألبتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله. ولم ينزل بها سلطانا. وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير. (1)
وقال: ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه، وهضم حقه، فيسعى
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 319 - 320).(8/308)
الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه. وذنبه عند أهل الشرك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله من جعله وثنا وعيدا، وإيقاد السرج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو السفر إليه، أو الاستعانة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد به وأن لا يعبد إلا الله، فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم. ووالوا أهل الشرك وعظموها. وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله. ويأبى الله ذلك. فما كانوا أولياءه. إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم -صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته- أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا، والنهي عن اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، والسفر إليها، والنذر لها، واستلامها، وتقبيلها، وتعفير الجباه في عرصاتها غض من أصحابها، ولا تنقيص لهم، ولا تنقص. كما يحسبه أهل الشرك والضلال. بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه.
فأنت والله وليهم(8/309)
ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم. وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم. كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي، وأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) و {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (2).
فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه، وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع، والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم، دون عبادة قبورهم، والعكوف عليها، واتخاذها أعيادا. فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه، واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر. فأي تعظيم لهم واحترام في هذا؟.
وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة التي يكرهها الله ورسوله. لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفا بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح،
_________
(1) التوبة الآية (71).
(2) التوبة الآية (67).(8/310)
مهتما بها كل الاهتمام، أغنته عن الشرك، وكل من قصر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك. (1)
- وقال: ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان، وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه، فسطا به ضربا وقال هذا هو الجواب، فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب، فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد، وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إنما الكفار يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم، إقامة للحجة وإزاحة للعذر {ليهلك مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (2) والسيف إنما جاء منفذا للحجة، مقوما للمعاند، وحدا للجاحد، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 330 - 331).
(2) الأنفال الآية (42).(8/311)
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} (1) فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي.
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... يقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل (2)
- وقال: وقد ذكرنا اتفاق أمة الضلال وعباد الصليب على مسبة رب العالمين أقبح مسبة، على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإن خفي عليهم أن هذا مسبة الله، وأن العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشرا أرسله الله، وتجحد نبوته، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسموات الذي صاروا به ضحكة بين جميع أصناف بني آدم، فأمة أطبقت على أن الإله الحق -سبحانه عما يقولون- صلب وصفع وسمر ووضع الشوك على رأسه ودفن في التراب، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وإبداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله، والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها، ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها وضرب عليها الجزية،
_________
(1) الحديد الآية (25).
(2) هداية الحيارى (ص.31 - 32).(8/312)
وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها وأنها شر من الحمير، بل هي شر الدواب عند الله. (1)
- وقال رحمه الله: وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه، وأن تهينه غاية الإهانة إذ صلب عليه إلهها الذي يقولون تارة: إنه الله، وتارة يقولون إنه ابنه، وتارة يقولون ثالث ثلاثة، فجحدت حق خالقها وكفرت به أعظم كفر وسبته أقبح مسبة، أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به، وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات أنه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه، فأراد أن يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته لترتفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته فهبط بذاته من السماء، والتحم في بطن مريم، فأخذ منها حجابا، وهو مخلوق من طريق الجسم، وخالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه كانت من قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت، وهو الإله التام والإنسان التام، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه، وغار دمه في أصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كلما كان على وجهها، فنبت في موضع صلبه النوار، ولما لم يكن في الحكمة الأزلية أن ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه أو
_________
(1) هداية الحيارى (ص 47 - 48).(8/313)
استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب وسقوط منزلة العبد، أراد سبحانه أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو له في الإلهية، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة، هذه ألفاظهم في كتبهم؟ فأمة أطبقت على هذا في معبودها، كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله أنه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا؟. (1)
- وقال: فيا معشر المثلثة وعباد الصليب، أخبرونا من كان الممسك للسماوات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب، وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السماوات والأرض خلوا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟ أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب وليذوق حر المسامير وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: ملعون من تعلق بالصليب. أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟ أم تقولون -وهو حقيقة قولكم- لا ندري، ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة، والجواب عليهم، فنقول لكم وللآباء معاشر المثلثة عباد الصليب، ما الذي دلكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع، وشدوا يديه ورجليه بالحبال، وضربوا فيها
_________
(1) هداية الحيارى (ص 48 - 49).(8/314)
المسامير وهو يستغيث، وتعلق ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه، فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام؟ وهم عار على جميع الأنام، وإن قلتم إنما استدللنا على كونه إلها بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلها منه لأنه لا أم له ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا لأنها لا أم لها وهي أعجب من خلق المسيح؟ والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبنيه إظهارا لقدرته وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى. وإن قلتم: استدللنا على كونه إلها بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله.
فاجعلوا موسى إلها آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا، فإن قلتم هذا غير إحياء الموتى، فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى وهم يقرون بذلك، وكذلك إيليا النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين: فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟ وإن قلتم جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه، فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين، وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس فهذا موسى قد(8/315)
أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى؟ وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا حتى شبعوا وملؤوا أوعيتهم (1)، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى ملؤوا كل سقاء في العسكر (2)،
وهذا منقول عنه بالتواتر؟ وإن قلتم جعلناه إلها لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه، فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثنى عشر طريقا وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر عينا سارحة، وإن جعلتموه إلها لأنه أبرأ الأكمه والأبرص، فإحياء الموتى أعجب من ذلك، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك، وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى ذلك فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار وأنه مربوب مصنوع مخلوق، فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال، وليس بمؤمن ولا صادق فضلا عن أن يكون نبيا كريما وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} (3) وكل من ادعى الإلهية من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله ونبوته ورسالته وجعلتموه من أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال! ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 421 - 422) ومسلم (1/ 55 - 56/ 27) من حديث أبي هريرة.
(2) أحمد (5/ 237 - 238) ومسلم (4/ 1784/706) من حديث معاذ ..
(3) الأنبياء الآية (29).(8/316)
الهدى ابن مريم فيقتله، ويظهر للخلائق أنه كان كاذبا مفتريا، ولو كان إلها لم يقتل فضلا عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه، وإن كان المسيح إنما ادعى أنه عبد ونبي ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها ودل عليه العقل والفطرة وشهدتم أنتم له بالإلهية -وهذا هو الواقع- فلم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته وأنه مربوب مخلوق، وأنه ابن البشر، وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال: ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين: نوع بوساطة ونوع بغير وساطة، وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا
_________
(1) هداية الحيارى (275 - 279).(8/317)
صحيحا عاليا. وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)} (1) ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد (2) وابن مسعود (3)
وأبي هريرة (4) وعائشة (5) وعمران بن حصين (6)، فسلكوا على آثارهم اقتصاصا، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسا، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من
_________
(1) الواقعة الآيتان (13 - 14).
(2) أخرجه: البخاري (6/ 110/2897) ومسلم (4/ 1962/2532) وورد عند مسلم في رواية ذكر القرن الرابع. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 6): "وهذه رواية شاذة، وأكثر الروايات مقتصر على الثلاثة".
(3) رواه البخاري (5/ 324/2652) ومسلم (4/ 1962 - 1963/ 2533) والترمذي (5/ 652/3859) والنسائي في الكبرى (3/ 494 - 495/ 6031) وابن ماجه (2/ 791/2362) ..
(4) رواه أحمد (2/ 228) ومسلم (4/ 1963 - 1964/ 2534).
(5) رواه أحمد (6/ 156) ومسلم (4/ 1965/2536).
(6) رواه البخاري (5/ 324/2651) ومسلم (4/ 1964/2535) والترمذي (4/ 434/2221)، وورد ذكر القرن الرابع من حديث عمران خارج الصحيحين ومن حديث غيره أيضاً كما تقدم بعض ذلك، ولا يصح شيء من ذلك كما حققه الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة برقم (3569)، والله أعلم.(8/318)
أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأُخْذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها برأي أو قياس. (1)
-وفيه: وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقل ذلك عليهم جدا، وأنكرته قلوبهم، وهذا كله شبه ظاهر، ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء، فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم. (2)
- وفيه أيضا: وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتل الله الشيعة؛ فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته، وأصحاب عبد الله بن مسعود: كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم، وكان رضي الله عنه وكرم وجهه
_________
(1) إعلام الموقعين (1/ 5 - 7).
(2) إعلام الموقعين (1/ 151 - 152).(8/319)
يشكو عدم حملة العلم الذي أودعه كما قال: إن ههنا علما لو أصبت له حملة. (1)
- وجاء في مدارج السالكين: فصل في بيان تضمنها للرد على الرافضة وذلك من قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها.
ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام "منعم عليهم" وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه. و"مغضوب عليهم" وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه. و"ضالون" وهم الذين جهلوه فأخطأوه. فكل من كان أعرف للحق، وأتبع له: كان أولى بالصراط المستقيم.
ولا ريب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم: هم أولى بهذه الصفة من الروافض. فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض.
ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما. فرأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا بلاد الكفر، وقلبوها بلاد إسلام. وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى. فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان. فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام. وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية! وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام -من عسكر هولاكو
_________
(1) إعلام الموقعين (1/ 21).(8/320)
وذويه من التتار- إلا من تحت رءوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم، إلا بسببهم ومن جرائهم؟ ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة، وآثارهم في الدين معلومة.
فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال، إن كنتم تعلمون؟.
ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله: بأبي بكر وعمر، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم، وهو كما فسروه. فإنه صراطهم الذي كانوا عليه. وهو عين صراط نبيهم. وهم الذين أنعم الله عليهم، وغضب على أعدائهم، وحكم لأعدائهم بالضلال، وقال أبو العالية -رفيع الرياحي- والحسن البصري، وهما من أجل التابعين: "الصراط المستقيم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه". وقال أبو العالية أيضا في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1): "هم آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر وعمر" وهذا حق. فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة. ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا، وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا، ومسالمة من سالما معلومة عند الأمة. خاصها وعامها. وقال زيد بن أسلم: "الذين أنعم الله عليهم: هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر".
ولا ريب أن المنعم عليهم: هم أتباعه، والمغضوب عليهم: هم
_________
(1) الفاتحة الآية (7).(8/321)
الخارجون عن أتباعه، وأتبع الأمة له وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته. وأتبع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر. وأشد الأمة مخالفة له: هم الرافضة، فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة. ولهذا يبغضون السنة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها. فهم أعداء سنته - صلى الله عليه وسلم -. وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا بل هم ورثته حقا.
فقد تبين أن الصراط المستقيم: طريق أصحابه وأتباعه. وطريق أهل الغضب والضلال: طريق الرافضة.
وبهذا الطريق بعينها - يرد على الخوارج. فإن معاداتهم الصحابة معروفة. (1)
- وجاء في الصواعق المرسلة: السبب الثالث: أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جليل القدر، نبيه الذكر من العقلاء، أو من آل البيت النبوي، أو من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الأغمار والجهال، فإن من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم، كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منا. وبهذه الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم، فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وموالاتهم واللهج بذكرهم
_________
(1) مدارج السالكين (1/ 72 - 74).(8/322)
وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأولى الناس بهم، ثم نَفَّقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم. فلا إله إلا الله، كم من زندقة وإلحاد وبدعة وضلالة قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهم براء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل، وبراءة المسيح من عبادة الصليب والتثليت، وبراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدع والضلالات. (1)
- وجاء في مفتاح دار السعادة: وحجج الله لا تقوم بخفي مستور -أي مهدي الرافضة- لا يقع العالم له على خبر، ولا ينتفعون به في شيء أصلا، فلا جاهل يتعلم منه، ولا ضال يهتدي به، ولا خائف يأمن به، ولا ذليل يتعزز به، فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص، ولا يسمع منه كلمة، ولا يعلم له مكان، ولا سيما على أصول القائلين به، فإن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم قالوا: لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله.
فيا لله العجب، أي لطف حصل بهذا المعدوم المعصوم؟ وأي حجة أثبتم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟ فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط إلى لقائه والاهتداء به، فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ هل في العذر والحجة أبلغ من هذا؟
فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه، وكنتم في ذلك كما قيل:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقص بالصحابة الأخيار وبسادة هذه
_________
(1) الصواعق المرسلة (2/ 441 - 443).(8/323)
الأمة، وأن يري الناس عورته ويغريه بكشفها، ونعوذ بالله من الخذلان.
ولقد أحسن القائل:
ما آن للسرداب أن يلد الذي فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... حملتموه بزعمكم ما آنا
ثلثتم العنقاء والغيلانا (1)
- وفيه: ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله، وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه، ومحبة له، وجهادا لأعدائه، وتكلما بأعلامه، وتحذيرا من خلافه، لكمال علمهم بضده، فجاءهم الإسلام كل خصلة منه مضادة لكل خصلة مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفة وحبا، وفيه جهادا، بمعرفتهم بضده، وذلك بمنزلة من كان في حصر شديد وضيق ومرض وفقر وخوف ووحشة، فقيض الله له من نقله منه إلى فضاء وسعة وأمن وعافية وغنى وبهجة ومسرة، فإنه يزداد سروره وغبطته ومحبته بما نقل إليه بحسب معرفته بما كان فيه. (2)
- وقال في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار. أترى لم يسمع الروافض الكفار {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (3)؟ دعي إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحجة فما زل ولا
_________
(1) مفتاح دار السعادة (1/ 452 - 453).
(2) مفتاح دار السعادة (2/ 288 - 289).
(3) التوبة الآية (40).(8/324)
كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا.
تالله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}.
من كان قرين النبي في شبابه؟ من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟ من الذي أفتى بحضرته سريعا في جوابه؟ من أول من صلى معه؟ من آخر من صلى به؟ من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟ فاعرفوا حق الجار.
نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ. فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ. حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟.
كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس. فضائله جلية وهي خلية عن اللبس، يا عجبا، من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: ما ظنك باثنين والله الثالث (1). فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث. فزال القلق وطاب عيش الماكث. فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصار {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}.
_________
(1) ثبت هذا عند أحمد (1/ 4) والبخاري (7/ 10/3653) ومسلم (4/ 1854/2381) والترمذي (5/ 260/3096) من رواية أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما.(8/325)
حبه والله رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية. فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية. لولا صحة إمامته ما قيل ابن الحنفية. مهلا مهلا، فإن دم الروافض قد فار.
والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: "رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا". تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر. تالله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السنى عينا، فمن كان رافضيا فلا يعد إلينا وليقل لي أعذار. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه الله في إغاثة اللهفان في معرض كلامه عن مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم: ومن كيده: ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن؛ فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله
_________
(1) الفوائد (ص.95 - 97).(8/326)
كالمشاهد كشفا وعيانا. فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة، وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب. فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار، ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها من الآيات البينات، وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات، فلا تعرض على السنة والقرآن، ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان، فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع الهذيان. وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم. (1)
- وقال رحمه الله: ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بها حسهم وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ، وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم.
فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحماني، وشيطانية، ونفسانية؛ كالرؤيا، فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ، فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجري منه مجرى الدم، والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطىء، وليس بحجة على الخلق.
_________
(1) (1/ 188 - 189).(8/327)
وقد كان سيد المحدثين الملهمين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول الشيء فيرده عليه من هو دونه، فيتبين له الخطأ فيرجع إليه، وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها. وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شيء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليهما؛ ويقول حدثني قلبي عن ربي، ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا بالحقائق وأنتم أخذتم الرسوم، وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله، حتى قيل لبعض هؤلاء، ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الملك الخلاق؟!.
وهذا غاية الجهل؛ فإن الذي سمع من الملك الخلاق: موسى بن عمران كليم الرحمن، وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مرسله، فيستغني به عن ظاهر العلم، ولعل الذي يخاطبهم هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة، أو هما مجتمعين ومنفردين.
ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا. وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان. (1)
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 192 - 193).(8/328)
- وقال رحمه الله: ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكرا منه وغرورا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا؛ فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خماره النفوس، ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس.
فلغير الله، بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزا، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطربا، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع(8/329)
أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا؛ حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟! وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد؟! وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات؟! ولكن كل امرىء يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدرا وشرعا، والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا، فمن أين هذا الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا؟ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} (1) ولقد أحسن القائل:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي؟
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي
_________
(1) الكهف الآية (50).(8/330)
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي؟
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله. وقال آخر:
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة. (1)
- وقال: قال أبو بكر الطرطوشي: وهذه الطائفة مخالفة لجماعة
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 344 - 346).(8/331)
المسلمين، لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة. وليس في الأمة من رأى هذا الرأي.
قلت: ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة، ويقيمونه أيضا في مسجد الخيف أيام منى، وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارا، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم، ورأيتهم يقيمونه بعرفات والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله، وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء.
فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح في عدالة من أقرهم ومنصبه الديني. (1)
موقفه من الجهمية:
لقد كان قلم هذا الإمام سيلا جرارا ينقض به أركان أهل الضلال على اختلاف مشاربهم وتنوع مرامهم، ومن أولئك: الجهمية المقيتة فقد تصدى لها الشيخ رحمه الله مبينا عوار أفكارها البائرة، وزيف أصولها الجائرة، بما ألفه من كتبه التي انتشرت في الآفاق منها:
1 - القصيدة النونية -المسماة 'الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية'- وهي من أعظم القصائد وأطولها في العقيدة السلفية. واعتناء السلفيين بها قليل، بحيث لا يوجد إلى الآن -فيما أعلم- شرح واف بمقاصدها. وغاية ما هنالك شرح ابن عيسى، وشرح الشيخ الهراس. ويقال:
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 353).(8/332)
إن للآلوسي شرحا عليها. وللشيخ عبد الرحمن السعدي توضيح مختصر بمقاصدها. فعسى أن تمتد بنا الحياة حتى نرى لها شرحا يثلج الصدر.
2 - 'اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية' وهو من أنفع الكتب في بابه قد استوفى المؤلف فيه أدلة العلو من جميع الطبقات، وقد نفعنا الله به في هذه المسيرة المباركة. والكتاب طبع مرارا والحمد لله رب العالمين.
3 - 'الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة' وهو من أنفع الكتب في العقيدة السلفية. ولم تر عيني مثله ولا رأيت أحدا حكى عن أحد أنه ألف مثل هذا الكتاب أو يقاربه. وقد استهله المؤلف بفصول نافعة، ثم بين التأويل وبطلانه وبين التأويل عند السلف. وأتى على بنيان هذا الطاغوت حتى خر من فوقه. ثم طاغوت المجاز، ثم أتى بأمثلة من الصفات التي أولها المؤولون وبين بطلان ذلك. وفي الكتاب بحوث قيمة في اعتماد السلف على العقل والنقل وأن الخلف لا النقل اتبعوا ولا بالعقل اهتدوا.
- قال رحمه الله في أعلام الموقعين: وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، ويقول مخنثهم: سدوا عنا هذا الباب، واقرءوا شيئا غير هذا، وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم. (1)
_________
(1) أعلام الموقعين (1/ 151).(8/333)
ومن دُرَرِ أقواله رحمه الله:
- قال في الصواعق مبينا وسطية أهل السنة في باب الصفات: وهدى الله أصحاب سواء السبيل: للطريقة المثلى فلم يتلوثوا بشيء من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين، كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل. (1)
- وقال مبينا تضارب أهل التأويل واختلافهم في المسألة الواحدة على أقوال شتى لاختلاف مدارك عقولهم: لا ريب أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء وأخبر عن نفسه بأفعال، فسمى نفسه بالرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى، ووصف نفسه بما ذكره من الصفات، كسورة الإخلاص، وأول الحديد، وأول طه وغير ذلك، ووصف نفسه بأنه يحب، ويكره، ويمقت، ويرضى، ويغضب، ويأسف، ويسخط، ويجيء، ويأتي، وينزل إلى سماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما، وحياة، وقدرة، وإرادة، وسمعا، وبصرا، ووجها، وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن
_________
(1) الصواعق المرسلة (2/ 425 - 426).(8/334)
الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأن السموات مطويات بيمينه.
ووصفه رسوله بأنه يفرح، ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه، وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيقال للمتأول: هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره، وتمنع حمله على حقيقته، أم تقر الجميع على ظاهره، وحقيقته؟ أم تفرق بين بعض ذلك، وبعضه؟.
فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته، كان ذلك عنادا ظاهرا وكفرا صراحا، وجحدا للربوبية، وحينئذ فلا تستقر لك قدم على إثبات ذات الرب تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعل من أفعاله، فإن أعطيت هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقت بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يثبتون للعالم خالقا ولا ربا.
فإن قلت: بل أثبت أن للعالم صانعا وخالقا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه وحيث وصف بما يقع على المخلوق أتأوله.
قيل لك فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه، هل تدل على معان ثابتة هي حق في نفسها أم لا تدل؟
فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان ذلك غاية التعطيل. وإن أثبت دلالتها على معان هي حق ثابت قيل لك فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض، وما الفرق بين ما أثبته ونفيته، وسكت عن إثباته ونفيه، من جهة السمع أو العقل.
ودلالة النصوص على أن له سمعا، وبصرا، وعلما، وقدرة، وإرادة،(8/335)
وحياة، وكلاما، كدلالتها على أن له رحمة، ومحبة، وغضبا، ورضى، وفرحا، وضحكا، ووجها، ويدين، فدلالة النصوص على ذلك سواء، فلم نفيت حقيقة رحمته، ومحبته، ورضاه، وغضبه، وفرحه، وضحكه، وأولتها بنفس الإرادة. فإن قلت: لأن إثبات الإرادة، والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه، والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسره عليه. قيل لك وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم، أو صفة عرضية قائمة به، وكذلك السمع، والبصر، والحياة، أعراض قائمة بالموصوف، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه. فإن قلت: لأني أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشابهها، قيل لك: فهلا أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها، ولم فهمت من إطلاق هذا التشبيه والتجسيم، وفهمت من إطلاق ذلك التنزيه والتوحيد، وهلا قلت أثبت له وجها ومحبة وغضبا ورضى وضحكا ليس من جنس صفات المخلوقين. فإن قلت هذا لا يعقل، قيل لك: فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات المخلوقين.
فإن قلت: أنا أفرق بين ما يتأول وبين ما لا يتأول، بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر، وما لا يدل عليه(8/336)
العقل يجب أو يسوغ تأويله كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى. فإن الفعل المحكم دل على قدرة الفاعل، وإحكامه دل على علمه. والتخصيص دل على الإرادة، فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل.
قيل لك أولا، وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء. والتخصيص بالكرامة، والاصطفاء، والاجتباء، دال على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة. والإهانة، والطرد، والإبعاد، والحرمان دال على المقت والبغض، كدلالة ضده على الحب والرضى.
والعقوبة، والبطش، والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى.
ويقال ثانيا: هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها، فإنه لا ينفيها. والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله.
ويقال لك ثالثا: إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيها أو تجسيما فهو يقتضيه في الجميع، فأول الجميع، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه، طولبت بالفرق بين الأمرين وعادت المطالبة جذعا.
ولما تفطن بعضهم لتعذر الفرق قال: ما دل عليه الإجماع كالصفات السبع لا يتأول وما لم يدل عليه إجماع فإنه يتأول. وهذا كما تراه من أفسد الفروق، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت ما يدل على التجسيم والتشبيه،(8/337)
ولولا ذلك لتأولناه، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم.
وهذا قدح في الإجماع، فإنه لا ينعقد على باطل.
ثم يقال: إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصفات -وظاهرها يقتضي التجسيم والتشبيه- بطل نفيكم لذلك، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريق به.
ثم يقال: خصومكم من المعتزلة لم يجمعوا معكم على إثبات هذه الصفات، فإن قلتم: انعقد الإجماع قبلهم. قيل: صدقتم والله. والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصفات، أجمعوا على إثبات سائر الصفات، ولم يخصوها بسبع، بل تخصيصها بسبع خلاف قول السلف، وقول الجهمية والمعتزلة، فالناس كانوا طائفتين سلفية وجهمية، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين القولين فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا. (1)
- وقال: وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول ما يخالف نحلتها ومذهبها، فالعيار على ما يتأول، وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه، والقواعد التي أصلتها فما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها فإن أمكنهم دفعه وإلا تأولوه. ولهذا لما أصلت الرافضة عداوة الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأولوه. ولما أصلت الجهمية أن الله لا يتكلم ولا يكلم أحدا، ولا يرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مبائن لخلقه، ولا له صفة تقوم به، أولوا كل ما خالف ما أصلوه. (2)
_________
(1) الصواعق المرسلة (1/ 220 - 226).
(2) الصواعق المرسلة (1/ 230 - 231).(8/338)
- وقال في إلزام أهل التعطيل بالتعطيل في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه:
هذا فصل بديع لمن تأمله، يعلم به أن المتأولين لم يستفيدوا بتأويلهم إلا تعطيل حقائق النصوص، والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا مما ظنوه محذورا، بل هو لازم لهم فيما فروا إليه كلزومه فيما فروا منه، بل قد يقعون فيما هو أعظم محذورا كحال الذين تأولوا نصوص العلو والفوقية والاستواء، فرارا من التحيز والحصر، ثم قالوا هو في كل مكان بذاته، فنزهوه عن استوائه على عرشه، ومباينته لخلقه، وجعلوه في أجواف البيوت، والآبار، والأواني، والأمكنة التي يرغب عن ذكرها، فهؤلاء قدماء الجهمية، فلما علم متأخروهم فساد ذلك، قالوا ليس وراء العالم، ولا فوق العرش، إلا العدم المحض، وليس هناك رب يعبد، ولا إله يصلى له ويسجد، ولا هو أيضا في العالم، فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخس مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ... والمقصود أن المتأول يفر من أمر فيقع في نظيره.
مثاله: إذا تأول المحبة، والرحمة، والرضى، والغضب، والمقت، بالإرادة، قيل له يلزمك في الإرادة ما لزمك في هذه الصفات كما تقدم تقريره. (1)
- وقال في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل:
هذا الفصل من عجيب أمر المتأولين، فإنهم فهموا من النصوص الباطل الذي لا يجوز إرادته، ثم أخرجوها عن معناها الحق المراد منها، فأساءوا الظن
_________
(1) الصواعق المرسلة (1/ 234 - 235).(8/339)
بها وبالمتكلم بها، وعطلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها. ونقتصر من ذلك على مثال ذكره بعض الجهمية ونذكر ما عليه فيه.
قال الجهمي: ورد في القرآن ذكر الوجه، وذكر الأعين، وذكر العين الواحدة، وذكر الجنب الواحد، وذكر الساق الواحد، وذكر الأيدي، وذكر اليدين، وذكر اليد الواحدة فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخص له وجه وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة، وله جنب واحد عليه أيد كثيرة، وله ساق واحد، ولا يرى في الدنيا شخص، أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة، ولا يظن أن عاقلا يرى أن يصف ربه بهذه الصفة.
قال السني المعظم لحرمات كلام الله: قد ادعيت أيها الجهمي أن ظاهر القرآن، الذي هو حجة الله على عباده، والذي هو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وأفصحه، وهو الذي هدى الله به عباده، وجعله شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، ولم ينزل كتاب من السماء أهدى منه، ولا أحسن ولا أكمل، فانتهكت حرمته وَعَضَهْتَهُ، ونسبته إلى أقبح النقص والعيب، فادعيت أن ظاهره ومدلوله إثبات شخص له وجه وفيه أعين كثيرة، وله جنب واحد، وعليه أيد كثيرة، وله ساق واحد. فادعيت أن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة المستقبحة، فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأشنع الصفات في ظاهر كلامه، فأي طعن في القرآن أعظم من طعن من يجعل هذا ظاهره ومدلوله، وهل هذا إلا من جنس قول الذين جعلوا القرآن عضين، فعضهوه بالباطل وقالوا هو سحر أو شعر، أو كذب مفترى، بل هذا أقبح من قولهم من وجه: فإن أولئك أقروا بعظمة(8/340)
الكلام وشرف قدره وعلوه وجلالته، حتى قال فيه رأس الكفر "والله إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لجنى، وإنه ليعلو وما يعلى، وما يشبه كلام البشر".
ولم يدع أعداء الرسول، الذين جاهروه بالمحاربة، والعداوة، أن ظاهر كلامه أبطل الباطل، وأبين المحال، وهو وصف الخالق سبحانه بأقبح الهيئات والصور، ولو كان ذلك ظاهر القرآن، لكان ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه، وقالوا: كيف يدعونا إلى عبادة رب له وجه عليه عيون كثيرة، وجنب واحد، وساق واحد، وأيد كثيرة، فكيف كانوا يسكتون له على ذلك، وهم يوردون عليه ما هو أقل من هذا بكثير.
ثم استطرد في الرد عليهم من أحد عشر وجها (1). فليرجع إليها من شاء الاستفادة.
- وقال رحمه الله في القصيدة النونية (2):
فصل في بيان أن المصيبة التي حلت بأهل التعطيل والكفران من جهة الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان:
يا قوم أصل بلائكم أسماء لم ... ينزل بها الرحمن من سلطان
هي عكستكم غاية التعكيس واقتـ ... ـلعت دياركم من الأركان
فتهدمت تلك القصور وأوحشت ... منكم ربوع العلم والإيمان
والذنب ذنبكم قبلتم لفظها ... من غير تفصيل ولا فرقان
_________
(1) الصواعق المرسلة (1/ 238 - 241).
(2) شرح القصيدة النونية (2/ 165 - 171) (هراس).(8/341)
وهي التي اشتملت على أمرين من ... حق وأمر واضح البطلان
سميتم عرش المهيمن حيزا ... والاستواء تحيزا بمكان
وجعلتم فوق السموات العلى ... جهة وسقتم نفي ذا بوزان
وجعلتم الإثبات تشبيها وتجـ ... ـسيما وهذا غاية البهتان
وجعلتم الموصوف جسما قابل الأ ... عراض والأكوان والألوان
وجعلتم أوصافه عرضا وهـ ... ـذا كله جسر إلى النكران
وكذاك سميتم حلول حوادث ... أفعاله تلقيب ذي عدوان
إذ تنفر الأسماع من ذا اللفظ نفـ ... ـرتها من التشبيه والنقصان
فكسوتم أفعاله لفظ الحوا ... دث ثم قلتم قول ذي بطلان
ليست تقوم به الحوادث والمرا ... د النفي للأفعال للديان
فإذا انتفت أفعاله وصفات ... وكلامه وعلو ذي السلطان
فبأي شيء كان ربا عندكم ... يا فرقة التحقيق والعرفان
والقصد نفي فعاله عنه بذا التـ ... ـلقيب فعل الشاعر الفتان
وكذاك حكمة ربنا سميتم ... عللا وأغراضا وذان اسمان
لا يشعران بل ضدها ... فيهون حينئذ على الأذهان
نفي الصفات وحكمة الخلاق والأ ... فعال إنكارا لهذا الشان
وكذا استواء الرب فوق العر ... ش قلتم أنه التركيب ذو بطلان
وكذاك وجه الرب جل جلاله ... وكذاك لفظ يد ولفظ يدان
سميتم ذا كله الأعضاء بل ... سميتموه جوارح الإنسان
وسطوتم بالنفي حينئذ عليـ ... ـه كنفينا للعيب مع نقصان(8/342)
قلتم ننزهه عن الأعراض والأ ... غراض والأبعاض والجثمان
وعن الحوادث أن تحل بذاته ... سبحانه من طارق الحدثان ...
والقصد نفي صفاته وفعاله ... والاستواء وحكمة الرحمن
والناس أكثرهم بسجن اللفظ مسـ ... ـجونون خوف معرة السبحان
والكل لا الفرد يقبل مذهبا ... في قالب ويرده في ثان
والقصد أن الذات والأوصاف والـ ... أفعال لا تنفى بذا الهذيان
سموه ما شئتم فليس الشأن في الـ ... أسماء بل في مقصد ومعان
كم ذا توسلتم بلفظ الجسم ... والتجسيم للتعطيل والكفران
وجعلتموه الترس إن قلنا لكم ... الله فوق العرش والأكوان
قلتم لنا جسم على جسم تعا ... لى الله عن جسم وعن جثمان
وكذاك إن قلنا القرآن كلامه ... منه بدا لم يبد من إنسان
كلا ولا ملك ولا لوح ولـ ... ـكن قاله الرحمن قول بيان
قلتم لنا أن الكلام قيامه ... بالجسم أيضا وهو ذا حدثان
عرض يقوم بغير جسم لم يكن ... هذا بمعقول لذي الأذهان
وكذاك حين نقول ينزل ربنا ... في ثلث ليل وآخر أو ثان
قلتم لنا أن النزول لغير أجـ ... ـسام محال ليس ذا إمكان
وكذاك إن قلنا يرى سبحانه ... قلتم أجسم كي يرى بعيان
أم كان ذا جهة تعالى ربنا ... عن ذا فليس يراه من إنسان
ما إذا قلنا له وجه كما ... في النص أو قلنا كذاك يدان
وكذاك إن قلنا كما في النص أ ... ن القلب بين أصابع الرحمن(8/343)
وكذاك إن قلنا الأصابع فوقها ... كل العوالم وهي ذو رجفان
وكذاك إن قلنا يداه لأرضه ... وسمائه في الحشر قابضتان
وكذاك إن قلنا سيكشف ساقه ... فيخر ذاك الجمع للأذقان
وكذاك إن قلنا يجيء لفصله ... بين العباد بعدل ذي سلطان
قامت قيامتكم كذاك قيامة الآ ... تي بهذا القول في الرحمن
والله لو قلنا الذي قال الصحا ... بة والألى من بعدهم بلسان
لرجمتمونا بالحجارة إن قدر ... تم بعد رجم الشتم والعدوان
والله قد كفرتم من قال بعـ ... ـض مقالهم يا أمة العدوان
وجعلتم الجسم الذي قدرتم ... بطلانه طاغوت ذا البطلان
وله رحمه الله غيرها من الأقوال السنية في نصر الطريقة السلفية يضيق المقام بذكرها.
موقفه من الخوارج:
- قال في تعليقه على سنن أبي داود: والذي صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمهم من طوائف أهل البدع: هم الخوارج. فإنه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلها صحاح. لأن مقالتهم حدثت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلمه رئيسهم (1). (2)
وقال: ومن اعترض على الكتاب والسنة بنوع تأويل من قياس أو ذوق أو عقل أو حال ففيه شبه من الخوارج أتباع ذي الخويصرة. (3)
_________
(1) يشير إلى حديث ذي الخويصرة، وقد تقدم في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) مختصر سنن أبي داود (7/ 61).
(3) الصواعق المرسلة (1/ 308).(8/344)
- وقال: فمن الكبائر تكفير من لم يكفره الله ورسوله، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتال الخوارج، وأخبر أنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ودينهم تكفير المسلمين بالذنوب، فكيف من كفرهم بالسنة ومخالفة آراء الرجال لها وتحكيمها والتحاكم إليها. (1)
- وقال: والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكُفْرَيْنِ، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطىء، له حكم المخطئين. (2)
- وقال: وها هنا أصل آخر: وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، هذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة.
قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} (3) فأثبت لهم إيمانا به سبحانه مع الشرك. وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ
_________
(1) إعلام الموقعين (4/ 405).
(2) مدارج السالكين (1/ 336 - 337).
(3) يوسف الآية (106).(8/345)
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) فأثبت لهم إسلاما وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2). وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين، وإن كان معهم جزء من الإيمان، أخرجهم من الكفر. (3)
موقفه من المرجئة:
- قال في حاشيته على سنن أبي داود تعليقا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني ... » (4) الحديث: وفي لفظ في الصحيحين «ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن -وزاد مسلم- ولا يغل حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم».
وزاد أبو بكر البزار فيه في المسند «ينزع الإيمان من قلبه. فإن تاب تاب الله عليه».
وأخرج البخاري في صحيحه (5) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
_________
(1) الحجرات الآية (14).
(2) الحجرات الآية (15).
(3) كتاب الصلاة وحكم تاركها (ص.60).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(5) البخاري (12/ 136/6809) والنسائي في الكبرى (4/ 268/7135).(8/346)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن» قال عكرمة: "قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا -وشبك بين أصابعه، ثم أخرجها- فإن تاب عاد إليه هكذا -وشبك بين أصابعه".
وروى ابن صخر في الفوائد من حديث محمد بن خالد المخزومي عن سفيان الثوري عن زبيد اليامي عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليقين الإيمان كله» وذكره البخاري في صحيحه موقوفاً على ابن مسعود. (1)
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم. فذكر الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال» الحديث (2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله». قال: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». قال: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور». (3)
وفي لفظ: «إيمان بالله ورسوله» وترجم عليه البخاري: (باب من قال: إن الإيمان هو العمل. لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ
_________
(1) تقدم ضمن مواقفه سنة (32هـ).
(2) أخرجه: أحمد (5/ 297) ومسلم (3/ 1501/1885) والترمذي (4/ 184/1712) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/ 341/3156).
(3) أخرجه: أحمد (2/ 264) والبخاري (1/ 105/26) ومسلم (1/ 88/83) والنسائي (8/ 469/5000).(8/347)
تَعْمَلُونَ} (1) وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2): عن قول لا إله إلا الله).
وفي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري قال: «قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله» الحديث. (3)
وروى البزار في مسنده من حديث عمار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من جمعهن، فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار». (4)
وذكره البخاري في صحيحه عن عائشة من قولها.
وقال البخاري قال معاذ: (اجلس بنا نؤمن ساعة) (5) وقال البخاري في الصحيح: (باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان، وعلم الساعة وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ثم قال «جاء جبريل يعلمكم دينكم» فجعل ذلك كله ديناً). (6)
_________
(1) الزخرف الآية (72).
(2) الحجر الآيتان (92 و93).
(3) أخرجه: أحمد (5/ 163) والبخاري (5/ 185/2518) ومسلم (1/ 89/84) والنسائي في الكبرى (3/ 172/4894) وابن ماجه (2/ 843/2523).
(4) تقدم تخريجه موقوفا ضمن مواقفه سنة (37هـ). وأما المرفوع فقال الحافظ في الفتح (1/ 112): "استغربه البزار، وقال أبو زرعة: هو خطأ. قلت: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد، لأن عبد الرزاق تغير بآخرة، وسماع هؤلاء منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع. وقد رويناه مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بينتها في تعليق التعليق".
(5) تقدم ضمن مواقفه سنة (18هـ).
(6) كتاب الإيمان (1/ 153).(8/348)
وما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان (1) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) وفي حديث الشفاعة المتفق على صحته: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» وفي لفظ: «مثقال دينار من إيمان» وفي لفظ: «مثقال شعيرة من إيمان» وفي لفظ: «مثقال خردلة من إيمان» وفي لفظ: «انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان» وفي لفظ: «إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب، أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة من إيمان، فيدخلون. ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء. قال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
وفي لفظ عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. ثم قال: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة. ثم يخرج من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة».
وترجم البخاري على هذا الحديث: (باب زيادة الإيمان ونقصانه وقوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (3) وقال: {ويزداد الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (4) وقال:
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(2) آل عمران الآية (85).
(3) الكهف الآية (13).
(4) المدثر الآية (31).(8/349)
{اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص).
وكل هذه الألفاظ التي ذكرناها في الصحيحين، أو أحدهما. (2)
والمراد بالخير في حديث أنس الإيمان، فإنه هو الذي يخرج به من النار. وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن نفس الإيمان القائم بالقلب يقبل الزيادة والنقصان، وبعضهم أرجح من بعض.
وقال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل". (3)
وقال البخاري أيضاً: (باب الصلاة من الإيمان وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (4) يعني صلاتكم عند البيت) ثم ذكر حديث تحويل القبلة. (5)
وأقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة: عمير بن
_________
(1) المائدة الآية (3).
(2) أحمد (3/ 116) والبخاري (1/ 138 - 139/ 44) وله أطراف، ومسلم (1/ 182/193 [325]) والترمذي (4/ 613/2593) وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقفه سنة (117هـ).
(4) البقرة الآية (143).
(5) أخرجه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أحمد (4/ 304) والبخاري (1/ 128/40) ومسلم (1/ 374/525) والترمذي (2/ 169 - 170/ 340) وقال: "حديث البراء حديث حسن صحيح". والنسائي (1/ 262 - 263/ 487و488) وابن ماجه (1/ 322 - 323/ 1010).(8/350)
حبيب الخطمي. (1)
- وقال تمثيلاً لقاعدة الأمر المطلق ومطلق الأمر: إن من بعض أمثلة هذه القاعدة: الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به، ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل، ولهذا نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان المطلق عن الزاني وشارب الخمر والسارق، ولم ينف عنه مطلق الإيمان لئلا يدخل في قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} (2) ولا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} (3) ولا في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (4) إلى آخر الآيات ويدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (5) وفي قوله: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (6) وفي قوله: «لا يقتل مؤمن بكافر» (7) وأمثال ذلك. فلهذا كان قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (8) نفياً للإيمان المطلق
_________
(1) مختصر سنن أبي داود (7/ 53 - 56).
(2) آل عمران الآية (67).
(3) المؤمنون الآية (1).
(4) الأنفال الآية (2).
(5) النساء الآية (91).
(6) الحجرات الآية (9).
(7) أخرجه: أحمد (1/ 79) والبخاري (1/ 271/111) والترمذي (4/ 17/1412) وقال: "حديث حسن صحيح" والنسائي (8/ 392/4758) وابن ماجه (2/ 887/2658) من حديث علي رضي الله عنه.
(8) الحجرات الآية (14).(8/351)
لا لمطلق الإيمان لوجوه منها: أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا أسلمنا والمنافق لا يقال له ذلك. ومنها أنها قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} ولم يقل: قال المنافقون، ومنها، أن هؤلاء الجفاة الذين نادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات ورفعوا أصواتهم فوق صوته غلظة منهم وجفاء، لا نفاقا وكفرا. ومنها أنه قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (1)
ولم ينف دخول الإسلام في قلوبهم، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى الإيمان. ومنها أن الله تعالى قال: {وإن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (2) أي لا ينقصكم والمنافق لا طاعة له. ومنها أنه قال: {يمنون عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} (3) فأثبت لهم إسلاما ونهاهم أن يمنوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن إسلاما صحيحا لقال لم تسلموا بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (4) لما لم تطابق شهادتهم اعتقادهم. ومنها أنه قال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} (5) ولو كانوا منافقين لما من عليهم. ومنها أنه قال: {أَنْ هَدَاكُمْ
_________
(1) الحجرات الآية (14) ..
(2) الحجرات الآية (14).
(3) الحجرات الآية (17).
(4) المنافقون الآية (1).
(5) الحجرات الآية (17).(8/352)
لِلْإِيمَانِ} ولا ينافي هذا قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} فإنه نفى الإيمان المطلق ومن عليهم بهدايتهم إلى الإسلام الذي هو متضمن لمطلق الإيمان. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قسم القسم قال له سعد أعطيت فلانا وتركت فلانا وهو مؤمن، فقال أو مسلم ثلاث مرات (1) وأثبت له الإسلام دون الإيمان. وفي الآية أسرار بديعة ليس هذا موضعها. والمقصود الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان. فالإيمان المطلق يمنع دخول النار، ومطلق الإيمان يمنع الخلود فيها. (2)
موقفه من القدرية:
لقد أبلى رحمه الله البلاء الحسن في الدفاع عن المنهج السلفي والرد على مناهج أهل البدع والزيغ والضلال، فكانت القدرية الخاسئة من جملة أهل الأهواء الذين رد عليهم وبين رحمه الله زيف أقوالهم وشبههم، فدحضها رحمه الله كلها وذلك في كتابه 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل'.
- قال في مقدمته: ولما كانت معرفة الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعة في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة، اجتهدت في جمع هذا الكتاب وتهذيبه وتحريره وتقريبه، فجاء فردا في معناه بديعا في مغزاه، وسميته: 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل'
_________
(1) أحمد (1/ 176) والبخاري (1/ 108/27) ومسلم (1/ 132/150) وأبو داود (5/ 62 - 63/ 4685) والنسائي (8/ 477 - 478/ 5007) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه.
(2) بدائع الفوائد (4/ 16 - 17).(8/353)
وجعلته أبوابا. (1)
- قال رحمه الله: أما بعد، فإن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل، فضلا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال النعمة. ولا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته، وتكلمت فيه الأمم قديما وحديثا، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصنف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها.
فلا أحد إلا وهو يحدث نفسه بهذا الشأن، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه، أو مناظرا لبني جنسه، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إياه. وكلهم -إلا من تمسك بالوحي- عن طريق الصواب مردود، وباب الهدى في وجهه مسدود، تحسى علما غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب الأفكار،
_________
(1) شفاء العليل (1/ 22).(8/354)
ففاز بأخس الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل المشروع، والنص المرفوع، حيران يأتم بكل حيران، يحسب كل سراب ماء، فهو طول عمره ظمآن، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، أقبل إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الضلال وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي اعتقده هدى، وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: {أَهَؤُلَاءِ مَن اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (1).
ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره، فأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين، ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين، وتشكيكات المشككين، وتكلفات المتنطعين، واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين، فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن.
ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم، وطريقه القويم، فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة، لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى.
_________
(1) الأنعام الآية (53).(8/355)
ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، وركبوا منهاجهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليه.
ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة، الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، فمن شاء هدى نفسه، ومن شاء أضلها، ومن شاء بخسها حظها وأهملها، ومن شاء وفقها للخير وكملها، كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد. فأثبتوا في ملكه ما لا يشاء، وفي مشيئته ما لا يكون.
ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا، وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا.
فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته ومشيئته وخلقه.
والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام، ما تكلم ولا يتكلم، ولا أمر ولا يأمر، ولا قال ولا يقول، إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق، ولا استوى على عرشه فوق سماواته، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا ينزل الأمر والوحي من عنده، وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد، ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف، فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.(8/356)
ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته الاختيارية -ولا اختيار- كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة والمعصية مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مقسور ومجبور.
ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه وحققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد ولا هو له بمقدور، وإنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة فاعلين.
ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد، فقالوا: ليس في الكون معصية ألبتة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد. كما قيل:
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال: إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم. وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه.
وأخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على(8/357)
محبة ما يبغضه الله ورسوله فقال له الملوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أبغض منه؟ قال الشيخ: فقلت له: إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليا له أو معاديا؟ قال: فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة.
وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون، وللقدر مثبتون، ولأقوال أهل البدع مبطلون. هذا وقد طووا بساط التكليف، وطففوا في الميزان غاية التطفيف، وحملوا ذنوبهم على الأقدار، وبرأوا أنفسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار، وقالوا إنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم، وإذا سمع المنزه لربه هذا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فالشر ليس إليك والخير كله في يديك.
لقد ظنت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن، ونسبته إلى أقبح الظلم. وقالوا إن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السموات، وكتكليف الميت إحياء الأموات، والله يعذب عباده أشد العذاب على فعل ما لا يقدرون على تركه وعلى ترك ما لا يقدرون على فعله، بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور، وليس أحد ميسر له بل هو عليه مقهور ونرى العازف منهم ينشد مترنما، ومن ربه متشكيا ومتظلما:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
وليس عند القوم في نفس الأمر سبب، ولا غاية، ولا حكمة، ولا قوة في الأجسام، ولا طبيعة ولا غريزة، فليس في الماء قوة التبريد، ولا في النار(8/358)
قوة التسخين، ولا في الأغذية قوة الغذاء، ولا في الأدوية قوة الدواء، ولا في العين قوة الإبصار، ولا في الأذن قوة السماع، ولا في الأنف قوة الشم، ولا في الحيوان قوة فاعلة ولا جاذبة، ولا ممسكة ولا دافعة، والرب تعالى لم يفعل شيئا بشيء ولا شيئا لشيء، فليس في أفعاله باء تسبيب ولا لام تعليل، وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة ولام العاقبة. (1)
- وقال في معرض ذكره لحديث احتجاج آدم وموسى (2): وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك، وقال: لو صح لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذ صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه.
وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن. (3)
- وقال: وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم
_________
(1) شفاء العليل (1/ 17 - 21).
(2) تقدم في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).
(3) شفاء العليل (1/ 46).(8/359)
بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قل فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (1).
فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه، ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (2) فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلها غيره؟.
فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد، فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك. فكانت حجة الله البالغة وحجتهم الداحضة، وبالله التوفيق.
إذا عرفت هذا، فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المعصية والمحنة التي نالت
_________
(1) الأنعام الآية (149).
(2) الأنعام الآية (149).(8/360)
الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) وفي لفظ (خيبتنا).
فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة.
إلى أن قال: ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل. (1)
- وقال: والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم، وحكموا بقتلهم، الذين يقولون: لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها، ولم يعلمها قبل ذلك ولا كتبها ولا قدرها، فضلا عن أن يكون شاءها وكونها. وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين، وكتب الله المنزلة. وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - مملوء بتكذيبهم وإبطال قولهم، وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه، ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به. وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه ولا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها، كما قال الخضر لموسى، وهما أعلم أهل الأرض حينئذ: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر. (2)
_________
(1) شفاء العليل (1/ 55 - 57).
(2) جزء من حديث طويل لابن عباس أخرجه: أحمد (5/ 117 - 118) والبخاري (8/ 522 - 523/ 4725) ومسلم (4/ 1847 - 1850/ 2380) والترمذي (5/ 289 - 292/ 3149).(8/361)
ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماته. فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته. وإذا كان أعلم الخلق على الإطلاق يقول: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». (1)
ويقول في دعاء الاستخارة: «فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب» (2). ويقول سبحانه للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} (3).
ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} (4). ويقول لأهل الكتاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (5). وتقول رسله
_________
(1) أحمد (6/ 58،201) ومسلم (1/ 352/486) وأبو داود (1/ 547/879) والترمذي (5/ 524/3566) والنسائي (2/ 558/1099) وابن ماجه (2/ 1262 - 1263/ 3841) كلهم أخرجه من حديث عائشة.
(2) أخرجه من حديث جابر بن عبد الله: أحمد (3/ 344) والبخاري (11/ 218 - 219/ 6382) وأبو داود (2/ 187 - 188/ 1538) والترمذي (2/ 345 - 346/ 480) والنسائي (6/ 388 - 389/ 3253) وابن ماجه (1/ 440/1383).
(3) البقرة الآية (30).
(4) البقرة الآية (216).
(5) الإسراء الآية (85).(8/362)
يوم القيامة حين يسألهم ماذا أجبتم: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1).
وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر، فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل ضوء السراج الضعيف في عين الشمس. فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك. فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون. (2)
- وقال: والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة: «أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى». (3)
ونحن هكذا نقول بحمد الله، ومنه القول الوسط الصواب لنا، وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسل، وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية، وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب
_________
(1) المائدة الآية (109).
(2) شفاء العليل (2/ 79 - 81).
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة: مسلم (2/ 586/856) والنسائي (3/ 97/1367) وابن ماجه (1/ 344/1083).(8/363)
سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية.
ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها، إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون، وإليه منقادون، وله ذاهبون. (1)
عمر بن عمران البِلاَلِي (2) (754 هـ)
عمر بن عمران بن صدقة البلالي نسبة إلى بلال بن الوليد بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي زين الدين البدوي. ولد سنة خمس وثمانين وستمائة. وسمع الصحيح على ابن الشحنة، وسمع من عبد العزيز بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر. وسمع منه ابن رجب، وذكره في معجمه وقال: رأيته ببغداد بالمستنصرية وجرت له قصة مع ملك التتار. وقدم دمشق، واتفقت له كائنة فسجن بقلعة دمشق حين كان الشيخ ابن تيمية بها وأقام بعده مسجونا خمس سنين ثم أطلق. توفي رحمه الله سنة أربع وخمسين وسبعمائة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في الدرر الكامنة: ... وجرت له قصة مع ملك التتار، وذلك أنه اتهمه بمكاتبة المصريين بأخبارهم، فألقاه إلى الكلاب ومعه آخر، فأكلت الكلاب رفيقه ولم تؤذه، وكان في تلك الحالة ملازما للذكر فعظم في أعينهم
_________
(1) شفاء العليل (2/ 79).
(2) الدرر الكامنة (3/ 181)(8/364)
وأكرموه، وأقام معهم مدة يجاهد الرافضة والمبتدعة، ثم قدم دمشق، واتفقت له كائنة فسجن بقلعة دمشق، حيث كان الشيخ ابن تيمية بها، وأقام بعده مسجونا خمس سنين ثم أطلق. وذكر أن ابن تيمية أنشده وهما في الاعتقال:
لا تُفكرن وثق بالله أن له يأتيك من لطفه ما ليس تعرفه ... ألطافا دقت عن الأذهان والفطن
حتى تظن الذي قد كان لم يكن (1)
موقف سلطان الوقت من محمد بن عبد المعطي المخرف (760 هـ)
جاء في الدرر الكامنة: وشهدوا عليه بأمور لا تليق بالحكام من أهل العلم، منها أنه كان إذا دخل الحجرة للزيارة يقبل الأرض، وسقطات كثيرة فأمر السلطان بعزله. (2)
التعليق:
رحم الله هذا السلطان حيث عزل هذا الرجل الخرافي القبوري، الذي يفعل فعل المشركين الذين يتمسحون بالأحجار والأشجار.
موقف السلف من محمد زبالة الزنديق (761 هـ)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الإثنين السادس والعشرين منه، قتل
_________
(1) الدرر الكامنة (3/ 181).
(2) الدرر الكامنة (4/ 31).(8/365)
محمد المدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعواه أشياء كفرية، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام، ومع هذا يصدر منه أحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين، وفي حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضربت عنقه أيضا في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة. (1)
موقف السلف من عثمان بن محمد الدقاق الزنديق (761 هـ)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الجمعة السادس عشر منه قتل عثمان ابن محمد المعروف بابن دبادب الدقاق بالحديد على ما شهد عليه به جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، أنه كان يكثر من شتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فرفع إلى الحاكم المالكي وادعى عليه فأظهر التجابن، ثم استقر أمره على أن قتل قبحه الله وأبعده ولا رحمه. (2)
الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون (3) (762 هـ)
السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، بويع بالسلطنة بعد أخيه المظفر حاجي في رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، واستمر حتى
_________
(1) البداية (14/ 286).
(2) البداية (14/ 286).
(3) البداية والنهاية (14/ 291 - 292) والوافي بالوفيات (12/ 266 - 267) والدرر الكامنة (2/ 38) والعقد الثمين (4/ 180) وأعيان العصر (2/ 615 - 619) والنجوم الزاهرة (10/ 187).(8/366)
خلع سنة اثنتين وخمسين بأخيه الصالح صلاح الدين، ثم أعيد إلى السلطنة بعد خلع هذا الأخير سنة خمس وخمسين وسبعمائة. قال ابن حجر: كان الناصر حسنُ مُفْرِطاً في الذكاء ضابطا لما يحصل له، ولما خلع وسجن اشتغل بالعلم كثيرا حتى نسخ دلائل النبوة للبيهقي بخطه، توفي مقتولا سنة اثنتين وستين وسبعمائة على يد الأمير يلبغا الخاصكي، وبويع بعده ابن أخيه المنصور محمد ابن المظفر حاجي.
موقفه من المبتدعة:
جاء في البداية والنهاية: ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها، ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة. وفرح أهل العلم بذلك وأهل الديانة، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد، والاستيجار بالجامع الأموي، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون خلد الله ملكه، وشيد أركانه. وكان الساعي لذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي بيض الله وجهه، وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، وغيرهما في إبطال هذه البدعة، فأنفذ الله ذلك ولله الحمد والمنة. وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة وإلى زماننا هذا، وكم سعى فيها من فقيه وقاض(8/367)
ومفت، وعالم وعابد، وأمير وزاهد، ونائب سلطنة وغيرهم، ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا، والمسؤول من الله إطالة عمر هذا السلطان، ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت، وكان هذا لا حقيقة له ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال. (1)
التعليق:
وقد استجاب الله عز وجل دعوة الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فعاش السلطان بعد هذه الواقعة أحد عشر عاما.
ونحن نقول لو أن الله عز وجل قدر موت هذا السلطان في العام نفسه الذي أزال فيه هذه البدعة، لم يلق ذلك في قلوبنا ريبا ولا شكا أن هذه بدعة منكرة، وما ردنا ذلك عن بيان بطلانها والسعي في إزالتها وغيرها من البدع المنكرة، ولا نخاف عقبى إزالة هذه البدع. فهذه عقيدتنا لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} (2).
والله عز وجل كافينا وناصرنا عليهم لقوله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (3)، ونعلم علما جازما أن ملء الدنيا من هؤلاء المبتدعة وشياطينهم ليس لهم على المؤمنين سبيل،
_________
(1) البداية (14/ 247).
(2) آل عمران الآية (175).
(3) الزمر الآية (36).(8/368)
وأن كيدهم ضعيف لقول الله عز وجل: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (1)، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} (2)، وأن النصرة والغلبة حسا ومعنى تكون لله عز وجل ولرسله، وأتباع رسله، قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِن اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} (3)، وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (4)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} (5)، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} (6).
وننكر على المبتدعة بدعهم وضلالهم، فإن أصابنا شيء فبما كسبت أيدينا
_________
(1) النساء الآية (76).
(2) المجادلة الآية (19).
(3) المجادلة الآية (21).
(4) الحج الآية (40).
(5) محمد الآيات (7 - 9).
(6) غافر الآيتان (51و52).(8/369)
لا بتعرضنا وإنكارنا لهذه البدع، ونرى أن المبتدعة -أعداء السنة- ما علا شأنهم إلا وسفل وانقطع، قال عز وجل: {إِن شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (1). فالواجب على أهل الحق أن ينكروا البدع ما ظهر منها وما بطن وألا يخافوا في الله لومة لائم، والله واقيهم، قال عز وجل: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} (2) وأن يصبروا على ما ينالهم من الأذى، قال عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)} (3)؛ فإن أرانا الله عز وجل عقوبتهم في الدنيا فذاك، وإن توفانا فإليه نرجع فيجزي المبتدعة وأذنابهم بأعمالهم. قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (4)، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} (5).
موقفه من الصوفية:
جاء في الخطط: وفي شهر ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة. حضر السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بخانقاه أبيه الملك الناصر في ناحية سرياقوس خارج القاهرة. ومد له شيخ الشيوخ سماطا، كان من جملة من وقف عليه بين يدي السلطان الشريف علي شيخ زاوية القلندرية
_________
(1) الكوثر الآية (3).
(2) غافر الآية (45).
(3) غافر الآية (77).
(4) إبراهيم الآية (42).
(5) الأنعام الآية (132).(8/370)
هذه، فاستدعاه السلطان وأنكر عليه حلق لحيته واستتابه، وكتب له توقيعا سلطانيا منع فيه هذه الطائفة من تحليق لحاهم، وأن من تظاهر بهذه البدعة قوبل على فعله المحرم، وأن يكون شيخا على طائفته كما كان ما دام وداموا متمسكين بالسنة النبوية، وهذه البدعة لها منذ ظهرت ما يزيد على أربعمائة سنة، وأول ما ظهرت بدمشق في سنة بضع عشرة وستمائة. وكتب إلى بلاد الشام بإلزام القلندرية بترك زي الأعاجم والمجوس ولا يمكن أحد من الدخول إلى بلاد الشام حتى يترك هذا الزي المبتدع واللباس المستبشع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا، ويقلع من قراره قلعا. فنودي بذلك في دمشق وأرجائها يوم الأربعاء سادس عشر ذي الحجة. (1)
التعليق:
هؤلاء السلاطين لو يسر الله لهم من يدلهم على السنة لكانوا خير مثال في تطبيقها، ولكن علماء السوء تسلطوا عليهم فدلوهم على البدع. فبنوا الزوايا وعمروها، ومع ذلك نحتفظ لهم ببعض المواقف كهذا الذي معنا.
جمال الدين بن إدريس الأنباري (2) (765 هـ)
القاضي جمال الدين أبو حفص عمر بن عبد المحسن بن إدريس الأنباري ثم البغدادي، وقد ينسب إلى جده، ووهم من جعلهما شخصين. محتسب
_________
(1) الخطط (2/ 433).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 446 - 447) وشذرات الذهب (6/ 204) والمقصد الأرشد (2/ 294 - 296) والدر المنضد (2/ 539) والدرر الكامنة (3/ 154 و173) والسحب الوابلة (2/ 790 - 791).(8/371)
بغداد وقاضي الحنابلة بها. الإمام الفاضل قرأ على البابصري وغيره، وتفقه حتى مهر في المذهب ونصره، وأقام السنة وقمع البدعة ببغداد وأزال المنكرات، وكان إماما في الترسل والنظم، وله نظم في مسائل الفرائض. قتله الروافض سنة خمس وستين وسبعمائة رحمه الله وتأسف عليه أهل بغداد، لحبهم له.
موقفه من الرافضة:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: فإنه نصر المذهب وأقام السنة وقمع البدعة ببغداد، وأزال المنكرات، وارتفع حتى لم يكن في المذهب أجمل منه في زمانه. ثم وزر لكبير بعض الرافضة فظفروا به، وعاقبوه مدة فصبر، ثم إن أعداءه أهلكهم الله تعالى عاجلا بعد استشهاده، وفرح أهل بغداد بهلاكهم وذلك عقيب موته في سنة خمس وستين وسبعمائة. (1)
موقف السلف من محمود بن إبراهيم الشيرازي الرافضي (766 هـ)
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الخميس سابع عشرة أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي، اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنتهما. فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي، فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال: لا إله إلا الله
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 446 - 447) ونحوه في البداية (14/ 324 - 325).(8/372)
علي ولي الله. ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر فالتهمه العامة، فأوسعوه ضربا مبرحا بحيث كاد يهلك. فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك. فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة وقال: كانوا على الضلال. فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله بأنهم كانوا على الضلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله. (1)
التعليق:
جزى الله خيرا علماء الإسلام على هذه المواقف المشرفة التي سيؤجرون عليها عند ربهم. ولا أدري لو أحياهم الله إلى وقتنا هذا كيف تكون مواقفهم مع هذه الكثرة الكاثرة من الرافضة التي تنسب نفسها إلى الإسلام وهي إلى المجوسية أنسب؟
جمال الدين المسلاتي (2) (771 هـ)
القاضي محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك السلمي المسلاتي، جمال الدين ابن زين الدين المالكي. سمع من ابن مخلوف وابن المنير وأبي حيان والقونوي وغيرهم. ولي نيابة الحكم بدمشق، ثم استقر بالقضاء أكثر من عشرين سنة. صاهر السبكي، وكان رحمه الله عالما فاضلا، ينظم وينثر. وكانت له مواقف مشرفة من أهل البدع والضلال. توفي بمصر في ثالث عشر
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 325).
(2) السلوك للمقريزي (4/ 338) والنجوم الزاهرة (11/ 109 - 110) والدرر الكامنة (4/ 11 - 12).(8/373)
ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الأربعاء حادي عشر رجب الفرد من هذه السنة -أي ست وخمسين وسبعمائة- حكم القاضي المالكي، وهو قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي بقتل نصراني من قرية الرأس من معاملة بعلبك، اسمه داود بن سالم، ثبت عليه بمجلس الحكم في بعلبك أنه اعترف بما شهد عليه أحمد بن نور الدين علي بن غازي من قرية اللبوة من الكلام السيء الذي نال به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسبه وقذفه بكلام لا يليق ذكره، فقتل لعنه الله يومئذ بعد أذان العصر بسوق الخيل وحرقه الناس وشفى الله صدور قوم مؤمنين ولله الحمد والمنة. (1)
الحافظ ابن كثير (2) (774 هـ)
الإمام العلامة، ثقة المحدثين وعمدة المؤرخين وعلم المفسرين، الحافظ الكبير، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي. ولد سنة سبعمائة، وقدم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه. تفقه بالبرهان الفزاري والكمال بن قاضي شهبة، ثم صاهر المزي ولازمه وصحب ابن تيمية، وسمع من ابن
_________
(1) البداية والنهاية (14/ 265).
(2) شذرات الذهب (6/ 231 - 232) والدرر الكامنة (1/ 373 - 374) والبدر الطالع (1/ 153) والرد الوافر (154) والنجوم الزاهرة (11/ 123 - 124).(8/374)
عساكر. وكان رحمه الله جيد الحفظ والفهم، مستقل الرأي، يدور مع الدليل حيث دار ولا يتعصب لمذهب. قال عنه الذهبي: الإمام المحدث المفتي البارع فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال. وقال تلميذه شهاب الدين بن حجي: كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث وأعرفهم بتخريجها ورجالها، وصحيحها وسقيمها. وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك. وكان يستحضر كثيرا من التفسير والتاريخ، قليل النسيان. وكان فقيها جيد الفهم صحيح الذهن. وقال الحافظ ابن حجر: ولازم المزي، وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته، وأخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه، وامتحن بسببه، وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته. وقال ابن حبيب: إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بأقواله وشنف، وحدث وأفاد، وطارت فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، انتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير. وهو القائل:
تمر بنا الأيام تترى وإنما ... نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ... ولا زائل هذا المشيب المكدر
له مؤلفات كثيرة كـ'التفسير' و'البداية والنهاية' و'جامع المسانيد والسنن' وغير ذلك.
توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن قيم(8/375)
الجوزية، نقلا عن الذهبي في المعجم المختص أنه وقع بينه وبين ابن كثير منازعة في تدريس الناس، فقال له ابن كثير أنت تكرهني لأنني أشعري، فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس في قولك أنك أشعري، وشيخك ابن تيمية. (1)
- قال رحمه الله تعالى تحت قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (2): فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (3). وفي الحديث: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (4) ولهذا شدد في
_________
(1) الدرر الكامنة (1/ 58).
(2) الأحزاب الآية (36).
(3) النساء الآية (65).
(4) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/ 12/15) وابن بطة في الإبانة (1/ 387 - 388/ 279) من طيق نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره، عن محمد بن سيرين عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. ونعيم بن حماد، قال الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ كثيرا". وقال ابن رجب في جامع العلوم: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدا".(8/376)
خلاف ذلك، فقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1)، كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (2).اهـ (3)
- وقال رحمه الله: فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجئوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخويصرة- بقر الله خاصرته -: اعدل فإنك لم تعدل. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟! ... » فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية خالد بن الوليد- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله، فقال: «دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا -أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم» (4).
ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم نبعت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق
_________
(1) الأحزاب الآية (36).
(2) النور الآية (63).
(3) تفسير ابن كثير (6/ 419).
(4) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).(8/377)
المصدوق في قوله: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي» (1) أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة. اهـ (2)
- وقال عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} (3): ثم قال آمرا لكل أحد من خاص وعام: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: خالفوا عن أمره {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب الله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء -بل المرسلون، بل أولو العزم منهم- في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته. (4)
- وقال عند قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (5): أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) تفسير ابن كثير (2/ 7).
(3) آل عمران الآية (32).
(4) تفسير ابن كثير (2/ 25).
(5) آل عمران الآية (103).(8/378)
مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثا، قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». (1)
وقد ضمنت لهم العصمة، عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة (فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه) (2).اهـ (3)
موقفه من المشركين:
- قال ابن كثير في ترجمة السيدة نفيسة: وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة -أي سنة ثمان ومئتين- فيما ذكره ابن خلكان قال: ولأهل مصر فيها اعتقاد (أي السيدة نفيسة).
- قال ابن كثير وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها، وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(3) تفسير ابن كثير (2/ 74).(8/379)
نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته. والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات. وأصل عبادة الأصنام من المغالات في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور وطمسها (1). والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك؛ رحمها الله وأكرمها. (2)
- وقال أيضا وهو يتحدث عن حوادث (سنة تسع وثمانين ومائتين للهجرة): فيها عاثت القرامطة بسواد الكوفة، فظفر بعض العمال بطائفة منهم فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس، فنال من العباس بين يدي الخليفة فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت يداه ثم قطعتا مع رجليه، ثم قتل وصلب ببغداد.
وفيها قصدت القرامطة دمشق في جحفل عظيم فقاتلهم نائبها طغج بن جف من جهة هارون بن خمارويه، فهزموه مرات متعددة، وتفاقم الحال بهم، وكان ذلك بسفارة يحيى بن زكرويه ابن بهرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد كذب في ذلك، وزعم لهم أنه قد اتبعه على أمره مائة ألف، وأن ناقته مأمورة حيث ما توجهت به نصر على أهل تلك الجهة. فراج ذلك عندهم ولقبوه الشيخ، واتبعه طائفة من بني الأصبغ، وسموا بالفاطميين. وقد بعث إليهم الخليفة جيشا كثيفا فهزموه، ثم اجتازوا بالرصافة
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف فضالة بن عبيد سنة (53هـ).
(2) البداية والنهاية (10/ 274).(8/380)
فأحرقوا جامعها، ولم يجتازوا بقرية إلا نهبوها، ولم يزل ذلك دأبهم حتى وصلوا إلى دمشق فقاتلهم نائبها فهزموه مرات وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا، وانتهبوا من أموالها شيئا كثيرا. فإنا لله وإنا إليه راجعون. (1)
- وقال عن الفارابي: وكان حاذقا في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا، وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين. مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في كامله، ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم. (2)
موقفه من الرافضة:
- قال في البداية والنهاية: في يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى، اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق، وهو يسب أول من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس ولا صلى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ذلك ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس، فأخذوه وإذا قاضى القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس. فجئت إليه واستنطقته، من الذي ظلم آل محمد؟ فقال: أبو بكر الصديق، ثم قال جهرة والناس يسمعون: لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين، فأمر به
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 91 - 92).
(2) البداية والنهاية (11/ 238).(8/381)
الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرخ بالسب واللعن والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي، واسم هذا اللعين، علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين بن كثير قبحه الله وأخزاه، ثم لما كان يوم الخميس سابع عشرة، عقد له مجلس بدار السعادة، وحضر القضاة الأربعة، وطلب إلى هنالك فقدر الله أن حكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعا فضرب عنقه تحت القلعة وحرقه العامة وطافوا برأسه البلد، ونادوا عليه هذا جزاء من سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ناظرت هذا الجاهل بدار القاضي المالكي، وإذا عنده شيء مما يقوله الرافضة الغلاة وقد تلقى عن أصحاب ابن مطهر أشياء في الكفر والزندقة قبحه الله وإياهم. (1)
- وقال رحمه الله في الكلام على الروافض العبيديين: وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا، فصاروا كأمس الذاهب، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} (2). وكان أول من ملك منهم المهدي. وكان من سلمية حدادا اسمه عبيد، وكان يهوديا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي. وقال عن نفسه: إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة، كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم. والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة وصارت له دولة وصولة. ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها
_________
(1) البداية (14/ 262).
(2) هود الآية (95).(8/382)
المهدية نسبة إليه. وصار ملكا مطاعا، يظهر الرفض، وينطوي على الكفر المحض، ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور ثم ابنه الطاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة. وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضا، ولكن كانت مدتهم نيفا وثمانين سنة.
وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة -كما سيأتي- وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكة وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكيا، وجميع ما والى ذلك إلى بلاد إياس وسيس. واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين، وبلاد شتى غير ذلك. وقتلوا من المسلمين خلقا وأُمَماً لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف. وكل(8/383)
هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله سلم. وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم، أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته. وقد قال الشاعر المعروف عرقلة:
أصبح الملك بعد آل علي ... مشرقا بالملوك من آل شادي
وغدا الشرق يحسد الغر ... ب للقوم فمصر تزهو على بغداد
ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفولاذ في الأكباد
لا كفرعون والعزيز ومن ... كان بها كالخطيب والأستاذ
قال أبو شامة: يعني بالأستاذ كافور الإخشيدي، وقوله: آل علي، يعني الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيدا وكان يهوديا حدادا بسلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم.
قال: وقد استقصيت الكلام في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبد الرحمن بن إلياس، ثم ذكر في الروضتين في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم وما كانوا يجهرون به في بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم.
قال أبو شامة: وقد أفردت كتابا سميته: 'كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد'. وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة من أجل ما وضع في ذلك: كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني الذي(8/384)
سماه: 'كشف الأسرار وهتك الأستار'. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر:
أبدتم من بنى دولة الكفر من ... بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل
زنادقة شيعية باطنية ... مجوس وما في الصالحين لهم أصل ليستروا سابور عمهم الجهل (1)
يسرون كفرا، يظهرون تشيعا
التعليق:
انظر حمانا الله وإياك من الرفض وأهله كيف كانت مواقف سلفنا الصالح معهم، هل كانت المسالمة والصمت الدائم، أو الذوبان في أحضانهم والتصفيق والتطبيل لهم في كل صغيرة وكبيرة، وادعاء أن الفرق بيننا وبينهم كالفرق بين الحنفي والشافعي، والتقارب بيننا وبينهم واجب، أو كان هؤلاء الفحول الأخيار لا يفهمون الرافضة، أو كانوا مؤجرين من قبل أحد حتى يتكلموا بلسانه وعقليته وشهوته على حسب ما يريد؟!
أم هو الصمود والوقوف في وجوه هؤلاء الكفرة الملاحدة بالسيف واللسان والقلب والجنان والكتاب والتعبير الصادق، كشف كامل لحقيقة الرافضة نسبا وسلالة؟! ولا التفات لما قاله عبد الرحمن بن خلدون والمقريزي، فهذه من سقطاتهم، وقد عاب عليهم جميع المؤرخين، وتعجبوا من حالهم. وفق الله أهل العلم في هذا الزمان للائتساء بسلفهم في كل صغير وكبير.
وقال أيضا: وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 286 - 288).(8/385)
معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وكتبوا أيضا: ولعن الله من غصب فاطمة حقها، وكانوا يلعنون أبا بكر، ومن أخرج العباس من الشورى، يعنون عمر، ومن نفى أبا ذر -يعنون عثمان- رضي الله عن الصحابة، وعلى من لعنهم لعنة الله، ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده يعنون مروان بن الحكم، ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكره ولم يغيره، ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين، والتصريح باسم معاوية في اللعن، فأمر بكتب ذلك، قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون، وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لاجرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآبائهم وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام، وكان فيهم الرفض وغيره، استحوذ الفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها، حتى بيت المقدس، ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل وغيرها مع الإفرنج، والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع، والناس معهم في حصر عظيم، وضيق من الدين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء. (1)
_________
(1) البداية (11/ 256 - 257).(8/386)
- وفيها: وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية (1)، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه. وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيبا، بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر؛ ومن زاد في هذا الحديث بعد «تقتلك الفئة الباغية»: «لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة» فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم. وأما قوله: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة. وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم. (2)
- وفيها: وفي الصحيحين أيضا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه. قال: خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال: "من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله وهذه الصحيفة -لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات- فقد كذب". وفيها قال: قال رسول
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ).
(2) البداية (3/ 216).(8/387)
الله - صلى الله عليه وسلم -: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» (1). وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ورسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتأتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام.
ثم لو كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه نص فلم لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم، فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن،
_________
(1) أخرجه: أحمد (1/ 119) مختصراً. البخاري (13/ 341 - 342/ 7300) ومسلم (2/ 1147/1370) وأبو داود (2/ 529 - 530/ 2034) والترمذي (4/ 381 - 382 - 2127) والنسائي (8/ 387 - 388/ 4748) وابن ماجه (2/ 887/2658) مختصراً.(8/388)
والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده هذا محال وافتراء وجهل وضلال. وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام، والمغتربين من الأنام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان، والإفك والبهتان، عياذا بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان، والتخبيط والكفران، وملاذا بالله بالتمسك بالسنة والقرآن، والوفاة على الإسلام والإيمان، والموافاة على الثبات والإيقان، وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران، والفوز بالجنان، إنه كريم منان رحيم رحمن. (1)
- وفيها: وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فما أدري ما وجهه، فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» (2) وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث، كما خفي على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخبرتهن عائشة بذلك ووافقتها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها علمت أنها اتهمت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك، كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو
_________
(1) البداية (5/ 221).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الفشيديزجي سنة (424هـ).(8/389)
هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريبا. ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك، وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصديق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثا أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو يرى أن فرضا عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلي ما كان يليه رسول الله، ولهذا قال: "وإني والله لا أدع أمرا كان يصنعه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا صنعته"، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
وهذا الهجران والحالة هذه فتح على فرقة الرافضة شرا عريضا، وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابه، ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. (1)
- وفيها قال ابن كثير: وما يتوهمه بعض العوام، بل هو مشهور بين كثير منهم، أن عليا هو الساقي على الحوض، فليس له أصل ولم يجئ من طريق مرضي يعتمد عليه، والذي ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يسقي الناس. وهكذا الحديث الوارد في أنه (ليس أحد يأتي يوم القيامة راكبا إلا أربعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البراق، وصالح على ناقته، وحمزة على العضباء،
_________
(1) البداية (5/ 250).(8/390)
وعلي على ناقة من فوق الجنة رافعا صوته بالتهليل)، وكذلك (ما في أفواه الناس من اليمين بعلي يقول أحدهم: خذ بعلي، أعطني بعلي)، ونحو ذلك، كل ذلك لا أصل له بل ذلك من نزعات الروافض ومقالاتهم، ولا يصح من شيء من الوجوه، وهو من وضع الرافضة، ويخشى على من اعتاد ذلك سلب الإيمان عند الموت، ومن حلف بغير الله فقد أشرك. (1)
وفيها: وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء لَيْلَتَئِذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشانا. ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق، إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في دولتهم.
وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم.
وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها، وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه، وقد ورد في صحيح مسلم
_________
(1) البداية (7/ 368 - 369).(8/391)
الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه (1) وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاث المتقدم ذكرها، فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها وتتهم على نبيها - صلى الله عليه وسلم -، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قديما وحديثا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.
فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون من الدنيا وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه. وليس كل ذلك الجيش كان راضيا بما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبرا عن نفسه بذلك. وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك، والله أعلم.
فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي أفضل بناته،
_________
(1) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عرفجة: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان». وفي رواية: «من أتاكم، وأمركم جميع، على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه». رواه أحمد (5/ 24) ومسلم (3/ 1479 - 1480/ 1852) وأبو داود (5/ 120/4762) والنسائي (7/ 106 - 108/ 4032 و4033 و4034).(8/392)
وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما، وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين؛ ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك. (1)
- وفيها: ففيها -أي سنة اثنتين وعشرين ومائة- كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك. فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى
_________
(1) البداية (8/ 204 - 205).(8/393)
يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره -وهو بالحيرة يومئذ- خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذا؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل. فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية، وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبهم حق، وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدما عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة. (1)
- وفيها: إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضيا خبيثا، وشيعيا غثيثا، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة -أي بالدور-
_________
(1) البداية (9/ 342).(8/394)
قال يوما لرجل: أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا. فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري.
وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره. قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما. وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد اسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا. ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم. (1)
- وفيها: وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر في زعمهم بسرداب سامرا، وليس له وجود، ولا عين، ولا أثر، بل هؤلاء من الأئمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث، الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الاثني عشر. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين: أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن، وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع، وهو الفلك الأثير، ويقال: الأطلس. وقد رد ذلك عليهم
_________
(1) البداية (10/ 179).
(2) البداية (6/ 254).(8/395)
آخرون.
- وروى ابن جرير من طريق جويبر، عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش. والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله ابن خليفة، عن عمر في ذلك، وعندي في صحته نظر، والله أعلم ... وهذه الآيات (1) وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت، من غير تكييف ولا تشبيه. (2)
- وقال في البداية: وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليست في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا، فإنه إنما يقال استوى على الشيء: إذا كان ذلك الشيء عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء عبد الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نَفَسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم
_________
(1) يعني آية الكرسي.
(2) تفسير القرآن العظيم (1/ 458 - 459).(8/396)
الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم. (1)
- وقال أيضا: وفيها -أي سنة إحدى وثلاثين ومائتين- قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم، وقدم معه جماعة من رؤوس الثغور، فأمر الواثق بامتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة، فأجابوا إلا أربعة، فأمر بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة. وأمر الواثق أيضا بامتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة؛ فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي وإلا ترك في أيدي الكفار، وهذه بدعة صلعاء، شنعاء عمياء صماء، لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافها كما هو مقرر في موضعه. وبالله المستعان. (2)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله في البداية والنهاية: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
_________
(1) البداية والنهاية (9/ 273).
(2) البداية والنهاية (10/ 320).(8/397)
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ ولقائه فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} (1) والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها. ويكون اجتماعهم عليها.
فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم، فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السماوات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك جماعة
_________
(1) لكهف الآيات (103 - 105).(8/398)
من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك؟ فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان. (1)
- وفيها: إن قال قائل: كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم؟ فجوابه من وجوه:
أحدها: أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة: إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة. وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع والله أعلم.
الثاني: أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد، عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية.
الثالث: أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام
_________
(1) البداية (7/ 296 - 297).(8/399)
الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم، قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم.
الرابع: أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان - رضي الله عنه -، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان - رضي الله عنه -، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجيء الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها، وتسوروا عليه حتى قتلوه، وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان - رضي الله عنه -، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق وغيرهم. (1)
- موقفه من عبد الرحمن بن الأشعث ومن بايع له:
قال رحمه الله: والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة وليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق
_________
(1) البداية (7/ 206 - 207).(8/400)
بالحديث في ذلك، حتى إن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين فأبى الصديق عليهم ذلك، ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة الذي دعا إلى ذلك أولا ثم رجع عنه، كما قررنا ذلك فيما تقدم، فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونه وهو من صلبية قريش ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد؟! ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيه خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (1)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله في تفسيره: وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2) كقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) وكقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (4) أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل تبرمها. وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة. وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح
_________
(1) البداية والنهاية (9/ 57 - 58).
(2) القمر الآية (49).
(3) الفرقان الآية (2).
(4) الأعلى الآيات (1 - 3).(8/401)
كتاب الإيمان من صحيح البخاري رحمه الله. (1)
جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد السرمرِي (2) (776 هـ)
الشيخ الإمام العلامة الحافظ ذو الفنون البديعة والمصنفات النافعة، جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد العبادي ثم العقيلي السرمري نزيل دمشق الحنبلي. ولد في رجب سنة ست وتسعين وستمائة بسر من رأى، وتفقه ببغداد على الشيخ صفي الدين عبد المؤمن وغيره، ثم قدم دمشق وتوفي بها.
من تصانيفه: 'نظم مختصر ابن رزين في الفقه' و'نظم الغريب في علوم الحديث' لأبيه. قال ابن حجي: رأيت بخطه ما صورته: مؤلفاتي تزيد على مائة مصنف كبار وصغار في بضعة وعشرين علما. أخذ عنه ابن رافع مع تقدمه عليه وحدث عنه.
توفي في جمادى الأولى سنة ست وسبعين وسبعمائة بدمشق رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الرد الوافر: ومن مؤلفاته النظامية، كتاب 'الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية'. (3)
_________
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 269).
(2) الرد الوافر (ص.216) والشذرات (6/ 249) والدر المنضد (2/ 554 - 555) والسحب الوابلة (3/ 1181 - 1188).
(3) الرد الوافر (216).(8/402)
موقفه من الرافضة:
من تصانيفه: 'غيث السحابة في فضل الصحابة'.
الكرماني محمد بن يوسف (1) (786 هـ)
محمد بن يوسف بن علي الكرماني ثم البغدادي. ولد في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة. وأخذ عن أبيه بهاء الدين وجماعة ببلده، ثم ارتحل إلى شيراز فأخذ عن القاضي عضد الدين ولازمه اثنتي عشرة سنة حتى قرأ عليه تصانيفه، ثم حج واستوطن بغداد ودخل الشام ومصر. وشرح البخاري، وسمعه بالجامع الأزهر من لفظ المحدث ناصر الدين الفارقي .. وسمى شرحه بالكواكب الدراري. سمع منه جماعة منهم القاضي محب الدين البغدادي وولده يحيى الكرماني. وصنف في العربية وغيرها. قال الشيخ شهاب الدين بن حجي: تصدى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة، وكان مقبلا على شأنه لا يتردد إلى أبناء الدنيا، قانعا باليسير، ملازما للعلم مع التواضع والبر بأهل العلم.
توفي رحمه الله تعالى راجعا من الحج في المحرم سنة ست وثمانين وسبعمائة.
موقفه من القدرية:
قال عقب ترجمة البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {فَلَا
_________
(1) الدرر الكامنة (4/ 310 - 311) وشذرات الذهب (6/ 294).(8/403)
تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (1): المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادا لله وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر عليه، وتضمن الرد على الجهمية في قولهم: لا قدرة للعبد أصلا، وعلى المعتزلة حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله تعالى فيها، والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر بل أمر بين أمرين. (2)
أبو إسحاق الشاطبي (3) (790 هـ)
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بالشاطبي. أصولي حافظ محدث، لغوي مفسر مع الصلاح والعفة، والورع واتباع السنة واجتناب البدع. قيل ولد سنة عشرين وسبعمائة. نشأ بغرناطة، وأخذ عن أئمة منهم: ابن الفخار وأبو عبد الله البلنسي وأبو القاسم الشريف السبتي وأبو عبد الله الشريف التلمساني والإمام المقري وعدة. وعنه أبو بكر بن عاصم، وأخوه أبو يحيى محمد بن عاصم، وأبو عبد الله محمد البياني. كان رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها. قال أحمد التنبكتي: الإمام العلامة المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليا، مفسرا، فقيها، محدثا، لغويا ... من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة
_________
(1) البقرة الآية (22).
(2) الفتح (13/ 491).
(3) معجم المؤلفين (1/ 118) والأعلام (1/ 75) وشجرة النور الزكية (1/ 231) وفهرس الفهارس (1/ 191).(8/404)
العظمى في الفنون، من التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشتهر. وقال أيضا: كان ثبتا ورعا صالحا زاهدا سنيا إماما مطلقا، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع. وقال محمد مخلوف: العلامة المؤلف المحقق النظار، أحد الجهابذة الأخيار، وكان له القدم الراسخ في سائر الفنون والمعارف. له تآليف نفيسة منها: 'الاعتصام' و'الموافقات' و'المجالس' شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري و'الإفادات والإنشاءات' وغيرها. توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية: كتاب 'الاعتصام' وهو من أنفع الكتب في العقيدة السلفية. لم تر العين مثله في مناقشة البدع والمبتدعة، وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك. وهو مع الأسف لم يتمه صاحبه، وقد أتمَّه أحد علماء اليمن، فلعلنا نظفر بالتتمة، وهو كغيره من الكتب، قد تقع فيه بعض الهفوات، وكان ينبغي أن يكون على علم بهذه الأمور، فقد جعل إثبات الصفات لله رب العالمين من البدع، قال ما لفظه: ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب، المنزه عن النقائص، من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات.
ولعل العذر للشيخ أنه لم يفهم تفاصيل مذهب السلف في إثبات الصفات لله رب العالمين، فوقع في هذا الخلط وهذه التعابير المشينة. والله(8/405)
المستعان.
والكتاب مطبوع متداول غصة في حلق المبتدعة حتى إنهم بدؤوا يؤلفون بعض الكتب الركيكة السمجة ويسمونها بأسماء، كصاحب 'إتقان الصنعة في تعريف البدعة' (1) وهو أحق أن يسمى كتاب: 'الدعوة إلى البدعة' وكل ما فيه غث ليس فيه شيء من العلم، وإنما هو سباب وشتم وتنقيص من مكانة العلماء ومحاولة جعل الصحابة من كبار المبتدعة، وحاشاهم من ذلك. وتعرض لهذا الكتاب -الاعتصام- بنقد بارد لا يدل على إنصاف ولا علم.
وكذلك: "عزت" الذي ألف كتاب البدعة وصار له رواج في الأسواق، وهو أحق كذلك أن يسمى: الدعوة إلى بعض البدع، كالمولد وغيره، وقد أشاد بكتابه حتى جعل من قرأ المقدمة يشعر وكأنه حصل على علم لم يسبق به، وجعل الاعتصام بالمقارنة مع كتابه لا يساوي شيئا والله المستعان.
ومن أقوال الإمام الشاطبي رحمه الله في نصر السنة وذم البدعة:
- قال في الاعتصام: ثم استمر مزيد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعد موته، وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم ...
إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة، كبدعة القدر، وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (2)،
_________
(1) لعبد الله بن الصديق الغماري.
(2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).(8/406)
يعني: لا يتفقهون فيه، بل يأخذونه على الظاهر، كما بينه حديث ابن عمر الآتي بحول الله، وهذا كله في آخر عهد الصحابة.
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (1).
وفي الحديث الآخر: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟. قال: «فمن؟» (2).
وهذا أعم من الأول، فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء، وهذا الثاني عام في المخالفات، ويدل على ذلك من الحديث قوله: «حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم».
وكل صاحب مخالفة، فمن شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحض سواه عليها، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين. (3)
- وقال فيه أيضا: وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(3) الاعتصام (1/ 28 - 29).(8/407)
الباطل قليل، لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1)، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (2)، ولينجز الله ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولا يقام على أهل البدعة، طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال؛ ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها -على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعا، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم -لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء، استدعاء إلى موافقتهم- لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع، آناء الليل والنهار، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم. (3)
- وقال أيضا: ومن الآيات قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (4). فالصراط المستقيم: هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة. والسبل: هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن
_________
(1) يوسف الآية (103).
(2) سبأ الآية (13).
(3) الاعتصام (1/ 30 - 31).
(4) الأنعام الآية (153).(8/408)
الصراط المستقيم، وهم أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات. ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله، قال: «خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما -وخط لنا سليمان- خطا طويلا، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} -يعني: الخطوط- {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1)».اهـ (2)
- وقال عقب حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه (3): فقرن عليه السلام -كما ترى- سنة الخلفاء الراشدين بسنته، وأن من اتباع سنته اتباع سنتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليس منها في شيء، لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه: إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنته - صلى الله عليه وسلم - في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله، لا زائد على ذلك. (4)
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(2) الاعتصام (1/ 75 - 76).
(3) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(4) الاعتصام (1/ 118).(8/409)
- وقال: والشواهد في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (1).اهـ (2)
- وقال: فقيل: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين، فخان. قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتي من ليس بعالم، فضل وأضل. (3)
- وقال: إن الإحداث في الشريعة إنما يقع: إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة. (4)
- وقال: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل.
ولنذكر لذلك عشرة أمثلة: (فذكرها تِبَاعاً فمنها قوله):
والعاشر: رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث إن الشرع، إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه.
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل
_________
(1) النور الآية (15).
(2) الاعتصام (2/ 537).
(3) الاعتصام (2/ 680).
(4) الاعتصام (2/ 804).(8/410)
للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال، وما توفيقي إلا بالله، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره.
ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم، علم ذلك علما يقينا. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في الموافقات: وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها، وأسسوا قواعدها وأصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال، وشفعوا العلم بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا، وسارعوا إلى الصالحات فما لُحِقوا، إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان، وأشرق في قلوبهم نور الإيقان، فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان، فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان، وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب، فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب، ونجوما يهتدي بأنوارهم أولو الألباب؟ رضي الله عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين، وأسوة للمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (2)
- وفيها: ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على عليّ أنه الخليفة بعده، لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما
_________
(1) الاعتصام (2/ 863 - 872) باختصار.
(2) الموافقات (1/ 7).(8/411)
تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء. (1)
- وفيها: وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى بنصر الله، والآخر بالفتح، فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (2). قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى: فبدل قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (3) بقوله: كتامة خير أمة أخرجت للناس، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا، لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصير المعنى: إذا مت يا محمد ثم خلق هذان، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ} (4) الآية فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله؟. (5)
- وقال خلال سرده لأدلة الرجوع إلى سنة الصحابة رضي الله عنهم:
_________
(1) الموافقات (3/ 281).
(2) النصر الآية (1).
(3) آل عمران الآية (110).
(4) النصر الآية (2).
(5) الموافقات (4/ 226 - 227).(8/412)
الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة. (1)
موقفه من الصوفية:
جاء في المعيار المعرب: وسئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي عن حال طائفة ينتمون إلى التصوف والفقر، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى الغنا والضرب بالأكف والشطح هكذا إلى آخر الليل، ويأكلون في أثناء ذلك طعاما يعده لهم صاحب المنزل، ويحضر معهم بعض الفقهاء، فإذا تكلم معهم في أفعالهم تلك يقولون: لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرمة شرعا لما حضرها الفقهاء.
فأجاب بما نصه:
الحمد لله كما يجب لجلاله، والصلاة على محمد وعلى آله. سألت وفقني الله وإياك عن قوم يتسمون بالفقراء، يجتمعون في بعض الليالي، ويأخذون في الذكر، ثم في الغناء والضرب بالأكف والشطح إلى آخر الليل. وأن اجتماعهم على إمامين من أيمة ذلك الموضع يتوسمان بوسم الشيوخ في
_________
(1) الموافقات (4/ 462 - 463).(8/413)
تلك الطريقة، وذكرت أن كل من يجزر عن ذلك الفعل، يحتج بحضور الفقهاء معهم، ولو كان حراما أو مكروها لم يحضروا معهم.
والجواب والله الموفق للصواب: إن اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم، ولا عرف ذلك قط في شريعة محمد عليه السلام، بل هو من البدع التي سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلالة، وهي مردودة. ففي الصحيح أنه عليه السلام قال: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (1). يعني فهو مردود وغير مقبول، فذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول. وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو مردود» (2) وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (3). وفي رواية «وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار». وهذا الحديث يدل على أن صاحب البدعة في النار. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وعن الحسن البصري أنه سئل وقيل له: ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربنا، ونصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وندعو لأنفسنا ولعامة
_________
(1) أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أحمد (6/ 180) ومسلم (3/ 1343 - 1344/ 1718 (18)).
(3) أحمد (3/ 310 - 311) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(8/414)
المسلمين. قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين. وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح، فليس من الدين، فقد كانوا أحرص على الخير من هؤلاء، ولو كان فيه خير لفعلوه. وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1).
قال مالك بن أنس: فما لم يكن يومئذ دينا لم يكن اليوم دينا. وإنما يعبد الله بما شرع. وهذا الاجتماع لم يكن مشروعا قط فلا يصح أن يعبد الله به. وأما الغنا والشطح فمذمومان على ألسنة السلف الصالح. فعن الضحاك: الغنا مفسدة للقلب مسخطة للرب. وقال المحاسبي: الغنا حرام كالميتة.
وسئل مالك بن أنس عن الغنا الذي يفعل بالمدينة، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وهذا محمول على غنا النساء. وأما الرجال فغناؤهم مذموم أيضا، بحيث إذا داوم أحد على فعله أو سماعه سقطت عدالته لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف. حكى عياض عن التنيسي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله. فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرا، ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون، فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ، وغير ذلك عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أحدا من أهل السلام (2) يفعل هذا.
انظر كيف أنكر مالك وهو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من
_________
(1) المائدة الآية (3).
(2) هكذا في الأصل ولعله: الإسلام.(8/415)
يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا وصبيا!! فهذا بين أنه ليس من شأن الإسلام ثم يقال: ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبي لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة، وترك هدى أهل الإسلام وأرباب العقول، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتعبد به. وأن فاعله أفضل من تاركه. هذا أدهى وأمر، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة، وذلك من أعظم البدع المحرمات، الموقعة في الضلالة، الموجبة للنار والعياذ بالله.
وأما ما ذكرتم من شأن الفقيهين الإمامين، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئا من ذلك. وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادح في عدالتهما فلا يصلى خلف واحد منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك، ويظهر عليما أثر التوبة، فإنه لا تجوز الصلاة خلف أهل البدع نص على ذلك العلماء.
وعلى الجملة، فواجب على من كان قادرا على تغيير ذلك المنكر الفاحش، القيام بتغيره وإخماد نار الفتنة، فإن البدع في الدين هلاك. وهي في الدين أعظم من السم في الأبدان والله الواقي بفضله. والسلام على من يقف على هذا من كاتبه: إبراهيم الشاطبي. (1) اهـ
_________
(1) المعيار المعرب (11/ 39 - 42).(8/416)
الملك الهندي فيروز (1) (790 هـ)
أبو المظفر فيروز شاه بن رجب من أسرة آل تغلق. تولى -باتفاق الأمراء- بعد وفاة ابن عمه محمد شاه، وكان في بلاد السند فقدم إلى دهلي (2)، واستقل بالملك. كان من خيار السلاطين ومن كبار المصلحين، بنى المساجد والمدارس والمستشفيات وأقام الحصون. ومن المساجد التي عمرها مسجد كبير في دهلي. ومن مدارسه المدرسة الفيروزشاهية، كما أسس مدينة فيروزأباد ومدينة كابنور. واستمر حكمه حتى عام تسعين وسبعمائة رحمه الله تعالى.
كان هذا الملك من خيرة ملوك الهند سيرة وعقيدة ووعيا للإسلام، وأكثر الملوك تفهما. ذكر مسعود الندوي في تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند أن له كتابا بين فيه خطته وأعماله التي سار عليها إلا أن عليه ملاحظات وقعت له بسبب الجهل. ويهمنا أن نذكر له بعض المواقف الطيبة التي توافق أهداف العقيدة السلفية.
موقفه من الزنادقة والمشركين:
جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند'، قال: سادساً: ظهرت فئة من الإباحية والملاحدة تدعو الناس إلى الزندقة والإلحاد، وكان ديدنهم أن يجتمعوا في الليالي ويتعاطوا الخمور ويحسبونها تعبداً منهم. وكانوا يأتون فيها بأمهاتهم وأخواتهم ونسائهم، يهتكون فيها أعراضهن ويتجاسرون على
_________
(1) التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر (7/ 229).
(2) كذا في الأصل ولعله: دلْهي.(8/417)
اقتراف الكبائر الشنيعة، ولا يفرقون في ذلك بين المحرمات والمحصنات، وإنما يباشر الرجل منهم كل من وصلت يده إليهن من النساء المحتشدة في تلك الأندية والليالي. فأمرنا بضرب أعناق رؤوسهم وشياطينهم وعاقبنا الآخرين بالحبس والجلاء وأنواع أخرى من التعذيب حتى لم تبق لهم عين ولا أثر.
سابعاً: نبتت جماعة من الملاحدة تظاهرت بالتقشف والزهد في الدنيا، وكان على رأسهم رجل اسمه أحمد البهاري، يدعي الألوهية وتبعه على ذلك عدد غير قليل من مريديه ...
فلما تحققنا من خبرهم وعرفنا من أمرهم ما صاروا إليه أخذنا رؤساءهم بذلك وجزيناهم بما يستحقونه من الحبس والتعذيب، وشردنا أتباعهم في البلاد كل مشرد حتى يتخلص العباد من شرهم ويكونوا في مأمن من ضلالاتهم.
ثامناً: رجل ادعى النبوءة وتلقب بالمهدي في دلهي، فتبعه خلق كثير واستفحل أمره وعظم شره حتى جيء به إلينا، فاعترف بالإثم غير هياب ولا وجل فأمرنا بقتله وقتل كل من يقتفي أثره وتقطيع لحومهم وأجسادهم إرباً إرباً. وبذلك جعلناهم مثلاً لكل من ينفخ في أوداجه شيطان الغرور فيجترئ على الزندقة والإلحاد والدعوة إليهما.
فانطفأت جذوة الشر ونجا الناس من ضلالاتهم. فالحمد لله الذي تفضل علي بنعمته أن وفقني لمقاومة تيار الشرور واجتثاث شجر البدع والمنكرات وهداني إلى إحياء السنن السنية. فمن استحسن هذه الطريقة واختار لنفسه هذه الجادة المستقيمة فليخترها وليؤثرها على غيرها. وإني أرجو بذلك حسن(8/418)
الجزاء في الدار الآخرة.
فإن الدال على الخير كفاعله «ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من سار عليها من بعده» كما ورد في الحديث (1).اهـ (2)
موقفه من الرافضة:
جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند' عند سرده لأعماله، قال: خامسا: شرعت الروافض في نشر عقائدها الباطلة ودعوة الناس إليها، واستعانوا في مهمتهم الواهية هذه بتأليف كتب ورسائل. وكذلك تجرأوا على إطالة لسان القدح في الخلفاء الراشدين وعائشة الصديقة أم المؤمنين رضي الله عنهم، والطعن في سائر علمائنا ومشايخنا وقذفهم بالسباب المقذع الموجع، وغيرهما من أفعالهم الشنيعة التي يندى لها جبين المروءة والإنسانية ... فأخذناهم بأعمالهم المنكرة أخذا، وعاقبناهم عقابا، وأمرنا بإحراق كتبهم على مرأى من الناس ومسمع حتى انعدمت هذه الطائفة عن بكرة أبيها. (3)
موقفه من الصوفية:
جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند'، قال: تاسعاً: رجل من المتصوفة في كجرات اشتهر "بالشيخ" بين أتباعه ومريديه، وانخدعت نفسه بترهات الصوفية الوجودية، وجعل يجاهر بكلمات هي للكفر أقرب منها للإيمان.
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 357) ومسلم (4/ 2059 - 2060/ 2674) والترمذي (5/ 42 - 43/ 2675) والنسائي (5/ 79 - 80/ 2553) وابن ماجه (1/ 74/203) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.33 - 35).
(3) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.33).(8/419)
وبلغ من سفاهة رأيه وعدم تضلعه في تعاليم الدين أن يقول كلمة "أن الحق" ويشير على مريديه أن يقولوا: "أنت أنت" كلما خرجت من فيه هذه الكلمة "أن الحق" وأيضاً كان يقول: "أن الملك الذي لا يموت"، وكذلك ألف رسالة كلها كفر وزندقة. فأمرنا، فأتي به إلينا مقيداً بالسلاسل. ولما تحققنا من ضلالته ودعوته الناس إليها، ولم يبق عندنا في ذلك أدنى شك عاقبناه بما يستحقه، وأمرنا بإحراق كتابه الذي ملأه كفراً وضلالاً حتى اندفع هذا الشر أيضاً، وأصبح المسلمون والمؤمنون بتوحيد الله عز وجل في مأمن من هذه الفتنة العمياء.
هذا برض من عد، وغيض من فيض من ترهات المتصوفة الوجودية، وأقاويلهم الباطلة المعادية للكتاب العزيز والسنة النبوية، اطلع عليه فيروز تغلق فكبح جماحه وأراد أن يقضي عليه قضاء لا حياة بعده.
لكن فتنة "وحدة الوجود" وما ينشأ عنها من الضلالات، كانت قد عمت البلاد وقتئذ واستولت على قلوب المتصوفة، وأخذت بمجامع ألبابهم ورسخت في أذهانهم أي رسوخ. وما كان اضطهاد رجل واحد منهم وعقابه ليهدأ من ثائر هذه الفتنة أو يفل من حدها. إلا أن فيروز تغلق ومن نحا نحوه من الأمراء والملوك مجزيون على أعمالهم ونياتهم، سواء نجحوا في مهمتهم أو لم ينجحوا. (1)
التعليق:
جزى الله هذا الملك خيرا على هذه المواقف، ما أحسن ما عمل مع
_________
(1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.35 - 36).(8/420)
هؤلاء الملاحدة الذين كان ضررهم على الأمة بالغا. فعسى الله أن يرزق المسلمين أمثال هؤلاء الأبطال.
ابن أبي العز الحنفي (1) (792 هـ)
الإمام العلامة صدر الدين، أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن محمد، المعروف بابن أبي العز، الأذرعي الأصل، الدمشقي الصالحي الحنفي. ولد في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة.
نشأ في ظل أسرة كان لها علو شأن في مجال العلم والدعوة، متزعمة للمذهب الحنفي في دمشق، فأبوه هو القاضي علاء الدين علي بن أبي العز الحنفي، خطيب جامع الأفرم، وجده هو القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي العز، كان من مشايخ الحنفية وأئمتهم، وهو أول من خطب بجامع الأفرم ودرس بالمعظمية والقليجية والظاهرية، وكذا أبو جده محمد بن أبي العز، كان مدرسا بالمرشدية، وكان فيه صلاح.
أما عن مشايخه، فالمتتبع لكتاب 'شرح العقيدة الطحاوية' يجده كثير النقول عن الأئمة السلفيين كالإمام ابن القيم وشيخه ابن تيمية وكذا ابن كثير، وقد وصف هذا الأخير بأنه شيخه في أكثر من موضع من شرحه.
له عدة مؤلفات منها: 'شرحه على العقيدة الطحاوية' و'التنبيه على مشكلات الهداية' و'النور اللامع في ما يعمل به في الجامع' و'رسالة في الاتباع' وغيرها.
_________
(1) إنباء الغمر (3/ 50) وشذرات الذهب (6/ 326) وهدية العارفين (1/ 726) وكشف الظنون (ص.1143).(8/421)
امتحن رحمه الله في أواخر حياته، عندما اعترض على ابن أيبك الشاعر الذي مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصيدة لامية على وزن "بانت سعاد" فأنكر أمورا: منها التوسل به والقدح في عصمته وغير ذلك، فرفع الأمر إلى السلطان، وعقد له عدة مجالس مع فقهاء عصره، وسئل عما أراد بما كتب فقال: ما أردت إلا تعظيم جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتثال أمره، فحكم بحبسه. فبقي رحمه الله بعد هذه الواقعة ملازما بيته إلى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة للهجرة، حيث أعيد إلى وظائفه بأمر من الأمير سيف الدين، فخطب بجامع الأفرم ودرس بالجوهرية.
وفي سنة ثنتين وتسعيين وسبعمائة توفي الشيخ رحمه الله رحمة واسعة، ودفن بسفح قاسيون.
موقفه من المبتدعة:
قال رحمه الله في 'الاتباع': الواجب في مسائل النزاع الرد إلى الله والرسول؛ قال الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1). والرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. وأهل التقليد لا يفعلون ذلك، بل يأخذ أحدهم بما يجد في كتب أصحاب ذلك الإمام الذي قلده، ولا يلتفت إلى قول من خالفه كائنا من كان. ونص ذلك الإمام والكتب عنده بمنزلة نص الشارع. وكثيرا ما يكون ذلك النص من كلام بعض الأصحاب في الفتاوى، ولم يكن لذلك
_________
(1) النساء الآية (59).(8/422)
الإمام في تلك المسألة قول منقول. (1)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله شارحا قول الإمام الطحاوي: ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليه السلام ...
يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع. فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} إلى أن قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (2). قال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه. والأمر كما قال: فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شبيه بقول الذين قالوا: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ
_________
(1) (ص.20).
(2) آل عمران الآية (31).(8/423)
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1)
وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت اليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء! ومنهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء! ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء! ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله! وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن اعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتا للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق، كابن عربي وأمثاله! وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل الى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها كما قال:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي
وهذا قلب للشريعة، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين كما قال تعالى: {أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} (2) والنبوة أخص من الولاية،
_________
(1) الأنعام الآية (124) ..
(2) يونس الآيتان (62و63).(8/424)
والرسالة أخص من النبوة. (1)
- وقال رحمه الله: ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل وما خالفها رد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (2) فلا طريقة إلا طريقة الرسول، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطنا وظاهرا. ومن لم يكن له مصدقا فيما أخبر ملتزما لطاعته فيما أمر في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمنا، فضلا عن أن يكون وليا لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل! فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة الى سخطه وعذابه. (3)
موقفه من الخوارج:
قال رحمه الله في شرحه على العقيدة الطحاوية: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب
_________
(1) شرح الطحاوية (ص 492 - 493).
(2) تقدم تخريجها في مواقف الشاطبي سنة (790هـ).
(3) شرح الطحاوية (ص507).(8/425)
لمن عمله.
- ... يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم. فالناس فيه، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم، على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، فتنفي التكفير نفيا عاما، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضا: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كافرا مرتدا. والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة، بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ(8/426)
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1) ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام ونفي العموم. والواجب إنما هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله اعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: ما لم يستحله، وفي قوله: ما لم يستحله، إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية. وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصورا على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع. إلا أن يضمن قوله: يستحله، بمعنى يعتقده، أو نحو ذلك. (2)
وقال: فقوله: وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، رد لقول الخوارج والمعتزلة، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار. لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله. (3)
- وقال: فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم
_________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) (ص.316 - 317).
(3) شرح الطحاوية (ص.370).(8/427)
يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) كيف قال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله. وأعاد الفعل مع الرسول لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير الله، بل هو معصوم في ذلك، وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله. وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2) وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (3) وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (4) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) الشورى الآية (30).
(3) آل عمران الآية (165).
(4) النساء الآية (79).(8/428)
نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} (1) فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم. (2)
موقفه من المرجئة:
قال رحمه الله: اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرّامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحدُ رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
_________
(1) الأنعام الآية (129).
(2) المصدر نفسه (ص.381).(8/429)
بصائر} (1). وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} (2). وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال:
ولقد علمتُ بأن دين محمد ... لولا الملامة أو حذار مسبَّة ... من خير أديان البرية دينا
لوجدتَني سمحاً بذاك مبينا
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)} (3). {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (4). {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} (5). والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر، بتفاصيل وقيود، أعرضتُ عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في 'تبصرة الأدلة' وغيره. (6)
_________
(1) الإسراء الآية (102).
(2) النمل الآية (14).
(3) الحجر الآية (36).
(4) الحجر الآية (39).
(5) ص الآية (82).
(6) شرح الطحاوية (ص.332 - 333).(8/430)
وقال أيضاً: ... ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يُعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان؟ أم الإيمان أحدُهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع. وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان مَن قال: لما كان الإيمان شيئا واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!! وهذا غلوّ منه. فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين، دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده. (1)
وقال رحمه الله: وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح: فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به
_________
(1) شرح الطحاوية (333 - 334).(8/431)
صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس المخبر كالمعايِن» (1) وموسى عليه السلام لما أخبِر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر، وإن جزم بصدق المخبِر، فقد لا يتصور المخبَر به نفسه، كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (2). وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلا، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمِر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يُسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمِروا به من الإيمان. ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة: لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية، فيغيبُ عنه التصديق والوعيد فيعصي.
ولهذا -والله أعلم- قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو
_________
(1) أخرجه: أحمد (1/ 215 - 271) والحاكم (2/ 321) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان (14/ 96/6213) من حديث ابن عباس.
(2) البقرة الآية (260).(8/432)
مؤمن»، الحديث (1). فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده. فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: {إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} (2). قال ليث عن مجاهد: هو الرجل يَهُمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع. ثم قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} (3)، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى، والشيطان يمده في غيِّه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه. وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب، بما يغشاه من رَيْن الذنوب، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وجاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا زنا العبد نُزع منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه». (4)
إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً، فلا محذور
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2) الأعراف الآية (201).
(3) الأعراف الآية (202).
(4) أخرجه: أبو داود (5/ 66/4690) والحاكم (1/ 22) من حديث أبي هريرة وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وصححه أيضاً الحافظ في الفتح (12/ 72).(8/433)
فيه، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي، بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقا كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي. وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعا. (1)
وقال أيضاً: والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جدا منها: قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (2). {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (3). {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (4). {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (5). {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (6). وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزيادة باعتبار زيادة
_________
(1) شرح الطحاوية (ص.335).
(2) الأنفال الآية (2).
(3) مريم الآية (76).
(4) المدثر الآية (31).
(5) الفتح الآية (4).
(6) آل عمران الآية (173).(8/434)
المؤمن به؟ فهل في قول الناس: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا إيماناً ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} (1). وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} (2) ...
وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم -، النساء بنقصان العقل والدين (3).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (4). والمراد نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شُعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السموات والأرض سواء؟! وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان؟! وكلام الصحابة رضي الله عنهم
_________
(1) آل عمران الآية (167).
(2) التوبة الآيتان (124 و125).
(3) أخرجه: البخاري (1/ 534/304) ومسلم (1/ 87/80) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(4) تقدم تخريجه في مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (728هـ).(8/435)
في هذا المعنى كثير أيضا. منه: قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "من فِقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فِقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص" (1)، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: "هلموا نزدد إيماناً"، فيذكرون الله تعالى عز وجل. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً" (2). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة" (3). ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم" ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه (4). وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق. (5)
عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (6) (795 هـ)
عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي، الشيخ المحدث الحافظ الشهير بابن رجب. ولد ببغداد سنة ست وسبعمائة. سمع من محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخباز، وإبراهيم بن داود العطار وأبي الفتح
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقفه سنة (32هـ).
(2) تقدم ضمن مواقفه سنة (32هـ).
(3) تقدم ضمن مواقفه سنة (18هـ).
(4) تقدم ضمن مواقفه سنة (37هـ). تخرج الموقوف منه أما المرفوع متقدم ضمن مواقف ابن القيم سنة (751هـ).
(5) شرح الطحاوية (ص.342 - 344).
(6) الدرر الكامنة (2/ 321) والبدر الطالع (1/ 328) وإنباء الغمر بأبناء العمر (3/ 175 - 176) وشذرات الذهب (6/ 339) والأعلام (3/ 295) والرد الوافر (106) والسحب الوابلة (2/ 474 - 476).(8/436)
الميدومي وغيرهم. قال ابن حجي: أتقن الفن -أي فن الحديث- وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق. قال ابن ناصر الدين: أحد الأئمة الزهاد والعلماء العباد. وقال ابن حجر: مهر في فنون الحديث أسماء ورجالا، وعللا وطرقا واطلاعا على معانيه، صنف شرح الترمذي فأجاد فيه في نحو عشرة أسفار وشرح قطعة كبيرة من البخاري وشرح الأربعين للنووي، وعمل وظائف الأيام سماه 'اللطائف' وعمل طبقات الحنابلة ذيلا على طبقات ابن أبي يعلى. وقال العليمي: لازم مجالس الشيخ شمس الدين ابن القيم إلى أن مات، وكان أحد الأئمة الكبار، والحفاظ والعلماء والزهاد والأخيار، وكانت مجالس تذكيره للقلوب صادعة، وللناس عامة مباركة نافعة، اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه، وزهده وورعه فائق الحد. توفي رحمه الله سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1 - 'فضل علم السلف على علم الخلف': وهو عبارة عن رسالة صغيرة طبعت محققة في الكويت.
2 - 'الكلام على لا إله إلا الله' طبع، وهو عبارة كذلك عن رسالة صغيرة.
3 - 'صفة النار' طبع.
4 - 'فتح الباري شرح صحيح البخاري'، طبع محققا في مصر. قال عنه ابن عبد الهادي: (وشرح قطعة من البخاري إلى كتاب الجنائز، وهي من(8/437)
عجائب الدهر ولو كمل كان من العجائب).
له مواقف مشرفة منها على سبيل المثال ما ذكره في جامع العلوم والحكم:
- قال عقب حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (1): هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث: «الأعمال بالنيات» (2) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. (3)
- وقال عند شرح حديث «الدين النصيحة» (4): ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله -وهو مما يختص به العلماء- رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها، ومن ذلك بيان ما صح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما لم يصح منه بتبين حال رواته ومن تقبل رواياته منهم ومن لا تقبل، وبيان غلط من غلط من ثقاتهم
_________
(1) أخرجه: أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
(2) أخرجه: أحمد (1/ 25) والبخاري (1/ 11/1) ومسلم (3/ 1515 - 1516/ 1907) وأبو داود (2/ 651 - 652/ 2201) والترمذي (4/ 154/1647) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (1/ 62 - 63/ 75) وابن ماجه (2/ 1413/4227) من حديث عمر رضي الله عنه.
(3) جامع العلوم والحكم (1/ 176).
(4) انظر تخريجه في مواقف محمد بن نصر المروزي سنة (294هـ).(8/438)
الذين تقبل روايتهم. (1)
- وقال في شرح حديث العرباض بن سارية (2): وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته، وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة، كاتباع سنته، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. (3)
- وقال أيضا: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (4)، فكل من أحدث شيئا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة.
وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك: قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه. وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة. وروي أن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا
_________
(1) جامع العلوم والحكم (1/ 223 - 224).
(2) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(3) جامع العلوم والحكم (2/ 121).
(4) تقدم تخريجه قريباً.(8/439)
الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه (1)، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به (2)، وهذا قد أمن بعده - صلى الله عليه وسلم -.
وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (3).
ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي.
ومن ذلك: أذان الجمعة الأول زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي، واستمر عمل المسلمين عليه، وروي عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام رمضان.
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 281) والبخاري (4/ 314/2008 - 2009) ومسلم (1/ 523/759 [174]) وأبو داود (2/ 102 - 103/ 1371) والترمذي (3/ 171 - 172/ 808) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 223/1601 - 1602) كلهم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ثم يقول: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). وقد ورد من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة التأخر عن الناس وفي آخره (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغبهم في قيام شهر رمضان) الحديث، أخرجه ابن حبان (الإحسان 1/ 353 - 354/ 141).
(2) أخرجه: البخاري (3/ 12 - 13/ 1129) ومسلم (1/ 524/761) وأبو داود (2/ 104/1373) والنسائي (3/ 223 - 224/ 1603) كلهم من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ذات ليلة ... فذكره.
(3) أخرجه: أبو داود (2/ 105/1375). الترمذي (3/ 169/806) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". النسائي (3/ 93/1363). ابن ماجه (1/ 420 - 421/ 1327) كلهم من طريق جبير بن نفير عن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث.(8/440)
ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت، وقال لأبي بكر وعمر: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم علم أنه مصلحة، فوافق على جمعه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بكتابة الوحي (1)، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا، بل جمعه صار أصلح.
وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة، وكان ذلك عين المصلحة. (2)
موقفه من الصوفية:
له كتاب: 'نزهة الأسماع في مسألة السماع'. ومما جاء فيه: أن يقع استماع الغناء بآلات اللهو أو بدونها على وجه التقرب إلى الله تعالى وتحريك القلوب إلى محبته، والأنس به والشوق إلى لقائه، وهذا هو الذي يدعيه كثير من أهل السلوك ومن يتشبه بهم ممن ليس منهم، وإنما يستتر بهم ويتوصل بذلك إلى بلوغ غرض نفسه من نيل لذته، فهذا المتشبه بهم مخادع ملبس،
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 162،192) وأبو داود (4/ 60 - 61/ 3646) والحاكم (1/ 105 - 106) وقال: "رواة هذا الحديث قد احتجا بهم عن آخرهم غير الوليد هذا، وأظنه الوليد بن أبي الوليد الشامي، فإنه الوليد بن عبد الله. وقد علمت على أبيه الكتبة. فإن كان كذلك فقد احتج مسلم به وقد صحت الرواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: قيدوا العلم بالكتاب" ووافقه الذهبي. وقال العراقي كما في تخريج الإحياء (4/ 1804/2857): "رواه أبو داود بنحوه بإسناد صحيح". وقال الحافظ في الفتح: (1/ 276 - 277): بعد عزوه لأحمد وأبي داود: "ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا" كلهم من طريق الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه ... الحديث وفيه: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق» وفي الباب أحاديث في كتابة الوحي غير هذا.
(2) جامع العلوم والحكم (2/ 128 - 129).(8/441)
وفساد حاله أظهر من أن يخفى على أحد؛ وأما الصادقون في دعواهم ذلك -وقليل ما هم- فإنهم ملبوس عليهم حيث تقربوا إلى الله بما لم يشرعه الله، واتخذوا دينا لم يأذن الله فيه، فلهم نصيب ممن قال الله فيه: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (1).
والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق باليد، كذلك قال غير واحد من السلف.
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2).
فإنه إنما يتقرب إلى الله بما يشرع التقرب به إليه على لسان رسوله، فأما ما نهي عنه فالتقرب به إليه مضادة لله في أمره.
قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله في كتابه في السماع: (اعتقاد هذه الطائفة مخالف لإجماع المسلمين، فإنه ليس فيهم من جعل السماع دينا وطاعة، ولا أرى إعلانه في المساجد والجوامع، وحيث كان من البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة، وكان مذهب هذه الطائفة مخالفا لما اجتمعت عليه العلماء؛ ونعوذ بالله من سوء الفتن). انتهى ما ذكره، ولا ريب أن التقرب إلى الله بسماع الغناء الملحن لا سيما مع آلات اللهو مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام بل ومن سائر شرائع المسلمين أنه ليس مما يتقرب به إلى الله ولا
_________
(1) الأنفال الآية (35).
(2) الشورى الآية (21).(8/442)
مما تزكى به النفوس وتطهر به، فإن الله تعالى شرع على ألسنة الرسل كلها ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوضارها، ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل أشياء من ذلك، وإنما يأمر بتزكية النفوس بذلك من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة، كما يأمرون بعشق الصور، وذلك كله مما تحيى به النفوس الأمارة بالسوء لما لها فيه من الحظ، ويقوى به الهوى وتموت به القلوب المتصلة بعلام الغيوب، وتبعد به عنه، فغلط هؤلاء واشتبه عليهم حظوظ النفوس وشهواتها بأقوات القلوب الطاهرة والأرواح الزكية المعلقة بالمحل الأعلى. واشتبه الأمر في ذلك أيضا على طوائف من المسلمين بعد انقراض القرون الفاضلة. (1)
موقفه من الجهمية:
ذكر في رسالته اللطيفة 'فضل علم السلف على الخلف' أبحاثا منيفة منها قوله وهو يتحدث عن الكلام في الصفات: ومن ذلك أعني محدثات الأمور: ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله وصفاته بأدلة العقول، وهو أشد خطرا من الكلام في القدر، لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته.
وينقسم هؤلاء إلى قسمين:
أحدهما: من نفى كثيرا مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده التشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة: لو رؤي لكان جسما، ووافقهم من
_________
(1) نزهة الأسماع (ص 80 - 82).(8/443)
نفى الاستواء فنفوا لهذه الشبهة. وهذا طريق المعتزلة والجهمية. وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم. وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر، ورد على أولئك مقالتهم، كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم، وتابعه طائفة من المحدثين قديما وحديثا، وهو أيضا مسلك الكرامية، فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى.
ومنهم من أثبت لله صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة.
وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه، ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره.
والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة، خصوصا الإمام أحمد، ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها.
وإن كان بعض من كان قريبا من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئا من ذلك اتباعا لطريقة مقاتل، فلا يقتدى به في ذلك، إنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم.(8/444)
وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة، ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح.
وقد قال أبو زرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: وهذه المسائل -أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق- مسائل عظيمة جدا، فإن الله عز وجل علق بهذه الأسماء السعادة، والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم. (2)
- وقال: وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتال الخوارج وقتلهم. وقد اختلف العلماء في حكمهم.
فمنهم من قال: هم كفار، فيكون قتلهم لكفرهم.
ومنهم من قال: إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم، وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا، وأجازوا الأبتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم.
ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه، قوتلوا، وإن أظهروه ولم
_________
(1) فضل علم السلف (28 - 31).
(2) جامع العلوم والحكم (1/ 114).(8/445)
يدعوا إليه لم يقاتلوا، وهو نص عن أحمد وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة.
ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتالنا، وإنما يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه، كما روي عن على رضي الله عنه (1)، وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا. (2)
موقفه من المرجئة:
- قال في جامع العلوم والحكم عند شرحه لحديث جبريل (3): فإن قيل: فقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان: قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم.
وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا. وممن أنكر ذلك على قائله، وجعله قولا محدثا: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره (4). وقال
_________
(1) تقدم مرارا.
(2) جامع العلوم والحكم (1/ 328).
(3) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ).
(4) تقدم ضمن مواقفه سنة (161هـ).(8/446)
الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل. (1)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار: أما بعد، فإن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها، استكمل الإيمان. ومن لم يستكملها، لم يستكمل الإيمان، ذكره البخاري في صحيحه. (2)
قيل: الأمر على ما ذكره، وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3).
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: «آمركم بأربع: الإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس» (4).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله،
_________
(1) تقدم ضمن مواقفه سنة (157هـ).
(2) تقدم ضمن مواقف عمر بن عبد العزيز سنة (101هـ).
(3) الأنفال الآيات (2 - 4).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).(8/447)
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (1) ولفظه لمسلم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (2). فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان، لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها، لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته.
وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان، فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره، صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما، دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر، دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان: إذا أفرد أحدهما، دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما، دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي. (3)
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(3) جامع العلوم والحكم (1/ 104 - 106).(8/448)
- وقال رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري: وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل. وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث. وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا.
وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة. وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح.
وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل:
الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وغيرهم، حتى قال كثير منهم:
إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام، منهم: الشعبي، والنخعي، وأحمد في رواية.
وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيره، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا: الإيمان: المعرفة مع القول.
وحدث بعدهم من يقول: المعرفة خاصة، ومن يقول: الإيمان: القول خاصة.
والبخاري عبر عنه بأنه: قول وفعل.
والفعل: من الناس من يقول: هو مرادف للعمل.(8/449)
ومنهم من يقول: هو أعم من العمل.
فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الجوارح، والعمل لا يدخل فيه القول عند الإطلاق. (1)
وقال فيه أيضا: وقد تلا البخاري الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان، وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما، منهم: عطاء بن أبي رباح فمن بعده.
وتلا البخاري -أيضا- الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى؛ فإن المراد بالهدى هنا: فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد وإلى من قبله وباليقين بالآخرة، ثم قال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} (2)، فسمى ذلك كله هدى، فمن زادت طاعاته فقد زاد هداه.
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت: زيادته بزيادة الأعمال، ونقصانه بنقصانها. وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه: فهو كالعمل بالجوارح -أيضا-؛ فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه. (3)
_________
(1) (1/ 5 - 6).
(2) البقرة الآية (5).
(3) المصدر السابق (1/ 8 - 9).(8/450)
وقال: واليقين: هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال، فيوجب قوم التصديق حتى ينفي الريب، ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله. وكذا قال الشعبي أيضا.
وهذا مما يتعلق به من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق؛ حيث جعل اليقين: الإيمان كله، فحصره في اليقين؛ ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان؛ إنما مراده: أن اليقين هو أصل الإيمان كله، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين.
قال الحسن البصري: ما طلبت الجنة إلا باليقين، ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا أديت الفرائض إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين.
وقال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار. (1)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه» (2). هذه رواية الإمام أحمد، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضا، والمراد: أن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه، فكله مقدر
_________
(1) المصدر السابق (1/ 15).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ).(8/451)
عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا.
وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عزوجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (1)، وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (2)، وقوله: {قل لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (3).
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه». (4)
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى ذلك أيضا.
واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده، فهو متفرع عليه، وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب
_________
(1) التوبة الآية (51).
(2) الحديد الآية (22).
(3) آل عمران الآية (154).
(4) رواه أحمد (6/ 441) قال الهيثمي (7/ 197): "رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في الأوسط".(8/452)
ذلك للعبد توحيد ربه عزوجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئا، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا، وأن يتقي سخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (1).
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا» يعني: أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر عليها، كان له في الصبر خير كثير.
وفي رواية عمر مولى غفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام، وهي: «فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، وإن لم
_________
(1) الزمر الآية (38).(8/453)
تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا». (1)
وفي رواية أخرى من رواية علي بن عباس عن أبيه، لكن إسنادها ضعيف، زيادة أخرى بعد هذا، وهي: قلت: يا رسول الله، كيف أصنع باليقين؟ قال: «أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أنت أحكمت باب اليقين» (2). ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما أصابه، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور، فليفعل، فإن لم يستطع الرضا، فإن في الصبر على المكروه خيرا كثيرا.
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إحداهما: أن يرضى بذلك، وهذه درجة عالية رفيعة جدا، قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (3). قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى.
وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله إذا أحب
_________
(1) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 203/10000) وهناد في الزهد (1/ 304/536) وله طريق آخر عن ابن عباس من رواية عبد الملك بن عمير عنه أخرجها الحاكم (3/ 541) وقال: "إن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين ... " وأقره الذهبي وزاد: "لأن القداح قال أبو حاتم: متروك، والآخر مختلف فيه، وعبد الملك لم يسمع من ابن عباس فيما أرى". انظر الضعيفة (5107).
(2) انظر الذي قبله.
(3) التغابن الآية (11).(8/454)
قوما ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (1)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: «أسألك الرضا بعد القضاء» (2).
ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء شكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن» (3).
وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة، فقال: «لا تتهم الله في قضائه» (4).
قال أبو الدرداء: إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به، وقال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، فالراضي لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر. فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشه كله في نعيم وسرور، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ
_________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 519/2396) وابن ماجه (2/ 1338/4031). وقال الترمذي: "حسن غريب".
(2) أخرجه النسائي (3/ 62/1304) وصححه ابن حبان (5/ 304 - 305/ 1971) والحاكم (1/ 524 - 525). وأخرجه أحمد (4/ 264) دون ذكر محل الشاهد. كلهم من حديث عمار بن ياسر مطولا.
(3) سيأتي تخريجه في مواقف محمد بن صالح العثيمين سنة (1421هـ).
(4) أخرجه من حديث عبادة بن الصامت: أحمد (5/ 318 - 319). قال البوصيري في (مختصر اتحاف السادة المهرة رقم:1): "رواه أبو يعلى الموصلي واللفظ له وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل والطبرني بإسناد حسن"، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 289).(8/455)
صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1)، قال بعض السلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة. وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين ...
والدرجة الثانية: أن يصبر على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه، مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير، فإن الله أمر به، ووعد عليه جزيل الأجر. قال الله عزوجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2)، وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3). قال الحسن: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن.
والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر: كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم، وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق. (4)
_________
(1) النحل الآية (97).
(2) الزمر الآية (10).
(3) البقرة الآيات (155 - 157).
(4) جامع العلوم والحكم (1/ 483 - 488).(8/456)
إبراهيم بن داود الآمدي (1) (797 هـ)
إبراهيم بن داود بن عبد الله الآمدي ثم الدمشقي برهان الدين. مات أبوه وهو صغير على دين النصرانية فحمله وصيه الشيخ عبد الله الدمشقي وأحضره مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية فأسلم على يده وصحبه، ثم صحب أصحابه وأخذ عنهم، وتفقه على مذهب الشافعي، وسمع الحديث. روى عن إبراهيم بن الخيمي والحسن بن عبد الرحمن الإربلي وشمس الدين بن السراج وغيرهم. كان دينا خيرا فاضلا. توفي سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
موقفه من المبتدعة:
محنته ومناظرته على عقيدته السلفية:
قال في الدرر الكامنة: قلت له مرة: أخبركم رضي الله عنكم وعن والديكم، فنظر إلي منكرا وقال: ما كانا على الإسلام. وكان ممتحنا بحب ابن تيمية، ونسخ غالب تصانيفه بخطه، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر برياضة وتؤدة، ويناظر في مسائل ابن تيمية من غير مماراة. (2)
التعليق:
هذا من أعمال الشيخ ابن تيمية المباركة؛ حيث أسلم على يديه، وبقي سلفيا يناظر على العقيدة السلفية، فرضي الله عنك يا شيخ الإسلام، يا أبا العباس ورضي عن المترجم له.
_________
(1) الدرر الكامنة (1/ 25 - 26) وشذرات الذهب (6/ 347).
(2) (1/ 25 - 26).(8/457)
محمد بن عرفة (1) (803 هـ)
أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عرفة الوَرْغَمِي التونسي المالكي، شيخ الإسلام بالمغرب. ولد سنة ست عشرة وسبعمائة. روى عن المحدث أبي عبد الله بن جابر الوادي والفقيه القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام وأبي عبد الله محمد بن محمد بن حسين بن سلمة الأنصاري. لم يرض لنفسه الدخول في الولايات، بل اقتصر على الإمامة والخطابة بجامع الزيتونة، وانقطع للاشتغال بالعلم والتصدر لتجويد القراءات. وصار المرجوع إليه بالمغرب. قال ابن ظهيرة: برع في الأصول والفروع والعربية والمعاني والبيان والفرائض والحساب، وسمع من الوادي آشى الصحيحين، وكان رأسا في العبادة والزهد والورع ملازما للشغل بالعلم، رحل إليه الناس وانتفعوا به ولم يكن بالعربية من يجري مجراه في التحقيق ولا من اجتمع له في العلوم ما اجتمع له، وكانت الفتوى تأتي إليه من مسافة شهر. له أوقاف جزيلة في وجوه البر وفكاك الأسارى، ومناقبه عديدة وفضائله كثيرة.
توفي رحمه الله سنة ثلاث وثمانمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين: وقد سئل عنه -أي عن ابن عربي- وعن شيء من كلامه شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي التونسي المالكي، عالم إفريقية بالمغرب. فقال ما معناه: من نُسب إليه هذا الكلام، لا
_________
(1) الشذرات (7/ 38) والبدر الطالع (2/ 255 - 256) والديباج المذهب (2/ 331 - 333) والأعلام (7/ 43).(8/458)
ليشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته. (1)
سراج الدين البُلْقِينِي (2) (805 هـ)
عمر بن رسلان بن بصير، السراج البلقيني ثم القاهري الشافعي. ولد سنة أربع وعشرين وسبعمائة ببلقينة، فحفظ بها القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ المحرر في الفقه والكافية لابن مالك في النحو، ومختصر ابن الحاجب في الأصول، والشاطبية في القراءات. سمع من الميدومي وابن القماح وابن عقيل وابن عدلان وغيرهم، وأجاز له من دمشق الحافظان المزي والذهبي وغيرهما، وفاق الأقران واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، ووقع الاتفاق على أنه أحفظ أهل عصره وأوسعهم معارفا وأكثرهم علوما، وكان معظما عند الأكابر عظيم السمعة عند العوام، إذا ذكر البلقيني خضعت الرقاب. قال ابن حجي: كان أحفظ الناس لمذهب الشافعي واشتهر بذلك وطبقة شيوخه موجودون، قدم علينا دمشق قاضيا وهو كهل فبهر الناس بحفظه وحسن عبارته وجودة معرفته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت واعترفوا بفضله، ثم رجع وتصدى للفتيا فكان معول الناس عليه في ذلك وكثرت طلبته، فنفعوا وأفتوا ودرسوا وصاروا شيوخ بلادهم وهو حي. قال برهان الدين المحدث: رأيته فريد دهره فلم تر عيناي أحفظ للفقه ولأحاديث الأحكام منه.
_________
(1) العقد الثمين (2/ 288).
(2) شذرات الذهب (7/ 51) والبدر الطالع (1/ 506) وإنباء الغمر بأبناء العمر (5/ 107 - 109) والضوء اللامع (6/ 85 - 90).(8/459)
قال له ابن كثير: أذكرتنا سمت ابن تيمية. وكذلك قال له ابن شيخ الجبل: ما رأيت بعد ابن تيمية أحفظ منك. أخذ عنه حافظ دمشق ابن ناصر الدين والحافظ ابن حجر وغيرهما.
توفي رحمه الله سنة خمس وثمانمائة بالقاهرة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين: وقد سمعت صاحبنا الحافظ الحجة القاضي شهاب الدين أبا الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، وهو الآن المشار إليه بالتقدم في علم الحديث -أمتع الله بحياته- يقول: إنه ذكر لمولانا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني شيئا من كلام ابن عربي المشكل. وسأله عن ابن عربي فقال له شيخنا البلقيني: هو كافر. (1)
الهيثمي (2) (807 هـ)
علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر نور الدين أبو الحسن الهيثمي. ولد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قرأ القرآن وهو نشأ ثم صحب الزين العراقي وهو بالغ ولم يفارقه سفرا وحضرا. وسمع من ابن عبد الهادي والميدومي ومحمد بن إسماعيل بن الملوك ومحمد بن عبد الله النعامني وغيرهم. كان إماما عالما حافظا زاهدا متواضعا متوددا إلى الناس ذا عبادة وتقشف وورع. وهو أشهر من ألف في الزوائد. فمن ذلك مجمع الزوائد، ومجمع
_________
(1) العقد الثمين (2/ 288).
(2) الضوء اللامع (5/ 200 - 203) وشذرات الذهب (7/ 70) وذيل تذكرة الحفاظ (5/ 239 - 244).(8/460)
البحرين، والبدر المنير في زوائد المعجم الكبير، وغاية المقصد في زوائد أحمد، والمقصد الأعلى في زوائد أبي يعلى، وموارد الظمآن وغيرها.
توفي في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان سنة سبع وثمانمائة بالقاهرة ودفن من الغد خارج باب البرقية منها.
موقفه من الجهمية:
قال الهيثمي تعليقا على بعض الأحاديث: رواه الطبراني وفيه عمرو بن عبيد وهو من أعداء الله. (1)
أحمد الناشري (2) (815 هـ)
الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن علي بن محمد الناشري، أبو العباس الزبيدي اليمني الشافعي. ولد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. سمع الحديث من أبيه والمجد الشيرازي وطائفة. ولي قضاء زبيد وأعمالها فراعى الحق في أحكامه فتعصبوا عليه فعزل.
تفقه به جمع كثيرون في المملكة اليمنية منهم الموفق علي بن أبي بكر الناشري وولده الجمال محمد الطيب، والجمال بن الخياط والكمال موسى بن محمد الضجاعي وغيرهم.
انتهت إليه رحمه الله رئاسة الفتوى ببلده، وكان شديدا على الصوفية
_________
(1) المجمع (4/ 288).
(2) الضوء اللامع (1/ 257 - 258) وإنباء الغمر (7/ 80 - 81) وذيل الدرر الكامنة (ص.158 - 159) وشذرات الذهب (7/ 109).(8/461)
وكانت لهم شوكة قائمة، ومع ذلك فكان لا يفتر عن الإنكار والرد عليهم.
قال عنه السخاوي: وكان عالما عاملا فقيها، كاملا فريدا تقيا ذكيا، غاية في الحفظ وجودة النظر في الفقه ودقائقه، مقصودا من الآفاق بحيث ازدحم عليه الخلائق.
وقال ابن حجر: اجتمعت به واستفدت منه بزبيد، ونعم الشيخ كان.
مات رحمه الله سنة خمس عشرة وثمانمائة، وقد جاوز السبيعن.
موقفه من الصوفية:
- جاء في الضوء اللامع: وجرت له مع الصوفية بزبيد، لما أنكر عليهم الاشتغال بكتب ابن عربي واعتقاد ما فيها، لاسيما الفصوص. وشق ذلك على أكابرهم فتعصبوا عليه بسبب ذلك والتمسوا من السلطان منعه من التعرض لهم، وكان للسطان فيه حسن اعتقاد، فلم يزده إلا حمية لله ولرسوله صلى على الله عليه وسلم، ولقب في وقته لذلك بناصر السنة وقامع المبتدعة. (1)
- وفيه: وعمل كتابا حافلا بين فيه فساد عقيدة ابن عربي ومن ينتمي إليه. (2)
_________
(1) الضوء اللامع (1/ 257/258).
(2) المصدر السابق (1/ 258).(8/462)
أبو زرعة العراقي (1) (826 هـ)
أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي الإمام ابن الإمام، والحافظ ابن الحافظ، وشيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام، الشافعي ويعرف كأبيه بابن العراقي. ولد سنة اثنتين وستين وسبعمائة بالقاهرة. سمع من أبي الحرم القلانسي وأبي الحسن العرضي وأبي البقاء السبكي والبهاء بن خليل والبهاء ابن عقيل وغيرهم. تدرب بوالده في الحديث وفنونه وكذا في غيره من فقه وأصول وعربية ومعان وبيان، وبرع في جميع ذلك. وأذن له غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس. كان من خير أهل عصره بشاشة وصلابة في الحكم وقياما في الحق وطلاقة وجه وحسن خلق وطيب عشرة. قال التقي الفاسي: هو أكثر فقهاء عصرنا هذا حفظا للفقه وتعليقا له وتخريجا، وفتاويه على كثرتها مستحسنة، ومعرفته للتفسير والعربية والأصول متقنة، وأما الحديث فأوتي فيه حسن الرواية وعظيم الدراية في فنونه. وقال الجمال بن موسى: الإمام العلامة الفريد، شيخ الحفاظ، هو أشهر من أن يوصف. وقال البدر العيني: كان عالما فاضلا، له تصانيف في الأصول والفروع وفي شرح الأحاديث، ويد طولى في الإفتاء، كان آخر الأئمة الشافعية بالديار المصرية، له مصنفات كثيرة. توفي رحمه الله سنة ست وعشرين وثمانمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في العقد الثمين: وسئل عنه -أي ابن عربي- شيخنا العلامة المحقق
_________
(1) شذرات الذهب (7/ 173) والبدر الطالع (1/ 72 - 74) والضوء اللامع (1/ 336 - 344) وإنباء الغمر بأبناء العمر (8/ 21 - 22).(8/463)
الحافظ المفتي المصنف أبو زرعة أحمد بن شيخنا الحافظ العراقي الشافعي -أبقاه الله تعالى- فقال: لا شك في اشتمال: 'الفصوص' المشهورة على الكفر الصريح الذي لا يُشك فيه، وكذلك 'فتوحاته المكية'. فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك. (1)
تقي الدين الفاسي (2) (832 هـ)
محمد بن أحمد بن علي يكنى أبا عبد الله وأبا الطيب وبها اشتهر أخيرا، ويلقب تقي الدين الحسيني الفاسي المكي القاضي المالكي. ولد في ليلة الجمعة العشرين من ربيع الأول سنة خمس وسبعين وسبعائة بمكة.
حفظ القرآن من سن مبكرة وصلى بالناس التراويح بمقام الحنابلة بالمسجد الحرام. ودرس عدة متون في صغره منها الأربعين النووية وكتاب الرسالة لابن أبي زيد وعمدة الأحكام ومختصر ابن الحاجب والألفية لابن مالك والورقات.
وحبب إليه سماع الحديث فسمع على المسند أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي المعروف بابن الرسام المنتخب من مسند عبد بن حميد ثم صحيح البخاري ومسند الدارمي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه وعدة أجزاء. كما أنه سمع على شهاب الدين القرافي صحيح مسلم وجامع الترمذي وسنن
_________
(1) العقد الثمين (2/ 294).
(2) العقد الثمين (2/ 44 - 71) والضوء اللامع (7/ 18 - 20) وطبقات الحفاظ (ص.544 - 545) وإنباء الغمر (8/ 187 - 188).(8/464)
أبي داود. وعلى القاضي علي بن أحمد النويري الموطأ لمالك برواية يحيى بن يحيى. وقرأ على العراقي شرحه لألفيته في الحديث المسماة بالتبصرة. كما أنه قرأ على البلقيني وابن الملقن والهيثمي والتنوخي وغيرهم. واعتنى بأخبار بلده فأحيا معالمها وأوضع مجاهلها وترجم أعيانها فكتب لها تاريخا حافلا.
قال ابن حجر: رافقني في السماع كثيرا بمصر والشام واليمن وغيرها، وكنت أوده وأعظمه وأقوم معه في مهماته، ولقد سائني موته وأسفت على فقد مثله.
مات رحمه الله ثالث شوال سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة بمكة.
موقفه من المشركين:
له العقد الثمين ضمنه مبحثا نفيسا جدا في عقيدة ابن عربي الطائي وأقوال أهل العلم فيه، مبينا ضلاله وكفره وزيغه عن الصراط السوي المستقيم. (1)
ابن الجزري (2) (833 هـ)
الإمام المقرئ محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن الجزري، شمس الدين أبو الخير العمري الدمشقي ثم الشيرازي. ولد في ليلة السبت الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق.
_________
(1) ينظر العقد الثمين (2/ 277 - 300).
(2) غاية النهاية في طبقات القراء للمترجم (2/ 247 - 251) والضوء اللامع (9/ 255 - 260) وإنباء الغمر بأبناء العمر (8/ 245 - 248).(8/465)
وحفظ القرآن سنة أربع وستين وصلى به سنة خمس، ولهج بطلب الحديث وبرز في القراآت، وذكر أن ابن الخباز أجاز له، واتهم في ذلك، واحتمله السخاوي لأنه خال جده.
سمع الحديث من جماعة من أصحاب الفخر ابن البخاري وغيرهم، وأفرد القراآت على أبي محمد بن السلار وأحمد بن إبراهيم بن الطحان وأحمد بن رجب وغيرهم، وأجاز له وأذن له بالإفتاء الشيخ أبو الفداء ابن كثير والشيخ ضياء الدين والشيخ البلقيني. تصدى للإقراء تحت النسر من الجامع الأموي سنين، وولي مشيخة الإقراء بالعادلية، ثم مشيخة دار الحديث الأشرفية، ثم مشيخة تربة أم الصالح بعد شيخه ابن السلار. وولي قضاء الشام وكان يلقب في بلاده الإمام الأعظم.
ووصفه ابن حجر بالحافظ الإمام المقرئ، وقال: إنه كان مثريا وشكلا حسنا وفصيحا بليغا كثير الإحسان لأهل الحجاز، انتهت إليه رياسة علم القراآت في الممالك، وممن أخذ عنه القراآت ابنه أبو بكر أحمد والشيخ محمود ابن الحسين الشيرازي والشيخ أبو بكر الحموي والشيخ أحمد بن محمود الحجازي والمحب محمد بن أحمد بن الهائم وغيرهم.
صنف كتاب 'الحصن الحصين' في الأدعية، لهج به أهل اليمن واستكثروه وتنافسوا في تحصيله وروايته، وحصل له رواج عظيم، وذيل طبقات القراء للذهبي وجمع النشر في القراآت العشر، وله كتاب أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب والجوهرة في النحو وغيرهما كثير.
وكانت وفاته بشيراز في ضحوة الجمعة لخمس خلون من ربيع الأول(8/466)
سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة للهجرة فرحمه الله تعالى.
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله في النشر: ومنها ما يكون حجة لأهل الحق ودفعا لأهل الزيغ كقراءة {وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} (1) بكسر اللام وردت عن ابن كثير وغيره وهي من أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة. (2)
شرف الدين ابن المقري (3) (837 هـ)
أبو محمد إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله اليمني الشافعي المعروف بابن المقري. عالم البلاد اليمنية وإمامها ومفتيها. تفقه على جمال الدين شارح التنبيه وغيره، وقرأ في عدة فنون وبرز في جميعها وفاق أهل عصره وطال صيته واشتهر ذكره ومهر في صناعة النظم والنثر.
قال ابن حجر: وله تصانيف وحذق تام ونظر مليح، ما رأيت باليمن أذكى منه.
وقال الموفق الخزرجي: إنه كان فقيها محققا بحاثا مدققا مشاركا في كثير من العلوم والاشتغال بالمنثور والمنظوم، إن نظم أعجب وأعجز، وإن نثر أجاد وأوجز، فهو المبرز على أترابه والمقدم على أقرانه وأصحابه. كان رحمه
_________
(1) الإنسان الآية (20).
(2) النشر (1/ 29).
(3) شذرات الذهب (7/ 220 - 222) والبدر الطالع (1/ 142 - 145) وإنباء الغمر (8/ 309) والضوء اللامع (2/ 292 - 295).(8/467)
الله إماما في الفقه والعربية والمنطق والأصول، وله اليد الطولى في الأدب نظما ونثرا، وكان متفردا بالذكاء وقوة الفهم وجودة الفكر، وكان ينكر نحلة ابن عربي وأتباعه، وبينه وبين متبعيه معارك وله في ذلك رسالتان وقصائد كثيرة.
توفي سنة سبع وثلاثين وثمانمائة.
موقفه من المشركين:
لهذا الإمام قصيدة من أجمل القصائد في بيان زندقة ابن عربي وكفره، وهي قصيدة بليغة، ينبغي لمن وقف عليها أن يحفظها حتى تكون زندقة هذا الضال معروفة محفوظة. وإليك بعض القصيدة منقولا من العقد الثمين.
قال التقي الفاسي: وقد بين شيخنا فاضل اليمن شرف الدين إسماعيل ابن أبي بكر المعروف بابن المقري الشافعي من حال ابن عربي مالم يبينه غيره، لأن جماعة من صوفية زبيد أوهموا من ليس له كثير نباهة علو مرتبة ابن عربي ونفي العيب عن كلامه. وذكر ذلك شيخنا ابن المقري مع شيء من حال الصوفية المشار إليهم في قصيدة طويلة من نظمه فقال فيما أنشدنيه إجازة (1):
ألا يا رسول الله غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر
يحاط بها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالفواقر
فقد حدثت بالمسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر ...
حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغر بها من غر بين الحواضر
تجاسر فيها ابن العريبي واجترى ... على الله فيما قال كل التجاسر
وقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوبي بغير تعاير
_________
(1) العقد الثمين (2/ 296 - 298).(8/468)
وأنكر تكليفا إذ العبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار حائر
وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر
وقال تجلى الحق في كل صورة ... تجلى عليها فهي إحدى المظاهر
وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عنه لاستواء المقادر
كما ظل في التهليل يهزا بنفيه ... وإثباته مستجملا للمغاير
وقال الذي ينفيه عين الذي ... أتى به مثبتا لا غير عند التجاور
فأفسد معنى ما به الناس أسلموا ... وألغاه إلغا بينات التهاتر
فسبحان رب العرش عما يقوله ... أعاديه من أمثال هذي الكبائر
فقال عذاب الله عذب وربنا ... ينعم في نيرانه كل فاجر
وقال بأن الله لم يعص في الورى ... فما ثم محتاج لعاف وغافر
وقال مراد الله وفق لأمره ... فما كافر إلا مطيع الأوامر
وكل امرئ عند المهيمن مرتضى ... سعيد فما عاص لديه بخاسر
وقال يموت الكافرون جميعهم ... وقد آمنوا غير المفاجا المبادر
وما خص بالإيمان فرعون وحده ... لدى موته بل عم كل الكوافر
فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر
وأثنى على من لم يجب نوحا إذ دعا ... إلى ترك ود أو سواع وناسر
وسمى جهولا من يطاوع أمره ... على تركها قول الكفور المجاهر
ولم ير بالطوفان إغراق قومه ... ورد على من قال رد المناكر
وقال بلى قد أغرقوا في معارف ... من العلم والباري لهم خير ناصر
كما قال فازت عاد بالقرب واللقا ... من الله في الدنيا وفي اليوم الآخر(8/469)
وقد أخبر الباري بلعنته لهم ... وإبعادهم فاعجب له من مكابر
وصدق فرعونا وصحح قوله: ... أنا الرب الأعلى وارتضى كل سامر
وأثنى على فرعون بالعلم والذكا ... وقال بموسى عجلة المتدابر
وقال خليل الله في الذبح واهم ... ورؤيا ابنه تحتاج تعبير عابر
يعظم أهل الكفر والأنبياء ... لا يعاملهم إلا بحط المقادر
ويثني على الأصنام خيرا ولا يرى ... لها عابدا ممن عصى أمر آمر
وكم من جراءات على الله قالها ... وتحريف آيات لسوء تفاسر
ولم يبق كفرا لم يلابسه عامدا ... ولم يتورط فيه غير محاذر
وقال سيأتينا من الصين خاتم ... من الأولياء للأولياء الأكابر
له رتبة فوق النبي ورتبة ... له دونه فاعجب لهذا التنافر
فرتبته العليا تقول لأخذه ... عن الله لا وحيا بتوسيط آخر
ورتبته الدنيا تقول لأنه ... من التابعية في الأمور الظواهر
وقال اتباع المصطفى ليس واضعا ... لمقداره الأعلى وليس بحاقر
فإن تدن منه لاتباع فإنه ... يرى منه أعلى من وجوه أواخر
ترى حال نقصان له في اتباعه ... لأحمد حتى جا بهذه المعاذر
فلا قدس الرحمان شخصا يحبه ... على ما يرى من قبح هذي المخابر
وقال بأن الأنبياء جميعهم ... بمشكاة هذا تستضى في الدياجر
وقال فقال الله بي بعد مدة ... بأنك أنت الختم رب المفاخر
أتاني ابتدا بيضاء سطر ربنا ... بإنفاذه في العالمين أو أمري
وقال فلا تشغلك عني ولاية ... وكن كل شهر طول عمرك زائري(8/470)
فرفدك أجزلنا وقصدك لم يخب ... لدينا فهل أبصرت يابن الأخاير
بأكذب من هذا وأكفر في الورى ... وأجرا على غشيان هذى الفواطر
فلا يدعوا من صدقوه ولاية ... وقد ختمت فليؤخذوا بالأقادر
فيا لعباد الله ماثم ذو حجا ... به بعض تمييز بقلب وناظر
إذا كان ذو كفر مطيعا كمؤمن ... فلا فرق فينا بين بر وفاجر
كما قال هذا إن كل أوامر ... من الله جاءت فهي وفق المقادر
فلم بعثت رسل وسنت شرائع ... وأنزل الله بهذي الزواجر
أيخلع منكم ربقة الدين عاقل ... بقول غريق في الضلالة حائر
ويترك ما جاءت به الرسل من هدى ... لأقوال هذا الفيلسوف المغادر
فيا محسني ظنا بما في 'فصوصه' ... وما في فتوحات الشرور الدوائر
عليكم بدين الله لا تصبحوا غدا ... مساعر نار قبحت من مساعر
فليس عذاب الله عذبا كمثل ما ... يمنيكم بعض الشيوخ المدابر
ولكن أليم مثل ما قال ربنا ... به الجلد إن ينضج يبدل بآخر
غدا يعلمون الصادق القول منهما ... إذا لم يتوبوا اليوم علم مباشر
ويبدو لكم غير الذي يعدونكم ... بأن عذاب الله ليس بضائر
ويحكم رب العرش بين محمد ... ومن سن علم الباطل المتهاتر
ومن جا بدين مفترى غير دينه ... فأهلك أغمارا به كالأباقر
فلا تخدعن المسلمين عن الهدى ... وما للنبي المصطفى من مآثر
ولا تؤثروا غير النبي على النبي ... فليس كنور الصبح ظلما الدياجر
دعو كل ذي قول لقول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر(8/471)
وأما رجالات الفصوص فإنهم ... يعومون في بحر من الكفر زاخر
إذا راح بالربح المتابع أحمدا ... على هديه راحوا بصفقة خاسر
سيحكي لهم فرعون في دار خلده ... بإسلامه المقبول عند التجاور
ويا أيها الصوفي خف من فصوصه وخذ نهج سهل والجنيد وصالح ... خواتم سوء غيرها في الخناصر
على الشرع كانوا ليس فيهم لوحدة ... وقوم مضوا مثل النجوم الزواهر
رجال رأوا ما لدار دار إقامة ... ولا لحلول الحق ذكر لذاكر
فأحيوا لياليهم صلاة وبيتوا ... لقوم ولكن بلغة للمسافر
مخافة يوم مستطير بشره ... بها خوف رب العرش صوم البواكر
فقد نحلت أجسادهم وأذابها ... عبوس المحيا قمطرير المظاهر
أولئك أهل الله فالزم طريقهم ... قيام لياليهم وصوم الهواجر
وعد عن دواعي الابتداع الكوافر
التعليق:
قول ابن المقري: وخذ نهج سهل والجنيد وصالح، فيه دعوة إلى اتباع هؤلاء المتصوفة، والواجب الدعوة إلى الاستنان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أبرِّ هذه الأمة قلوبا وأعمقِها علما وأقلها تكلفا وبالصالحين بعدهم المتمسكين بهديهم.
ابن الوزير (1) (840 هـ)
الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى المعروف بابن
_________
(1) البدر الطالع (2/ 81 - 93) وإنباء الغمر (7/ 372) والضوء اللامع (6/ 272) والأعلام (5/ 300) ومقدمة كتاب العواصم والقواصم (1/ 12 - 81) والتاج المكلل لصديق حسن خان (ص.340 - 347).(8/472)
الوزير اليماني. ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة بهجرة الظهراوين من شَظَب شمال غرب صنعاء. نشأ في بيت علم ودين، فقرأ على أخيه الهادي بن إبراهيم ومحمد بن حمزة وعلي بن محمد بن أبي القاسم وغيرهم. اشتغل في أول طلبه بعلم الكلام والجدال ثم تحول إلى علوم الكتاب والسنة فانشرح صدره وصلح أمره. رحل إلى تعز ثم إلى مكة.
كان رحمه الله من أبرز علماء اليمن المجتهدين على الإطلاق، تبحر في جميع العلوم وفاق الأقران، واشتهر صيته وبعد ذكره وطار علمه في الأقطار. كان بينه وبين بعض علماء عصره منازعات وردود، وذلك لذبه عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسكه بها، قال رحمه الله:
يا حبذا يوم القيامة شهرتي ... بين الخلائق في المقام الأحمد
لمحبتي سنن الرسول وأنني ... فيها عصيت معنفي ومفندي
وتركت فيها جيرتي وعشيرتي ... ومحل أترابي وموضع مولدي
قال أحمد بن عبد الله الوزير: له في علوم الاجتهاد المحل الأعلى، والقدح المعلى، وبلغ مبلغ الأوائل، بل زاد واستدرك، واختار وصنف، وألف وأفاد وجمع وقيد، وبنى وشيد، وكان اجتهاده اجتهادا كاملا مطلقا، لا كاجتهاد بعض المتأخرين. وقال عبد الرحمن العطاب: الإمام الحافظ أبو عبد الله شيخ العلوم وإمامها، ومن في يديه زمامها، قلد فيها وما قلد، وألفى جيد الزمان عاطلا فطوقه بالمحاسن وقلد، صنف في سائر فنونها، وألف كتبا تقدم فيها وما تخلف، وله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الباع المديد، والشأو البعيد الذي ما عليه مزيد. وقال الحافظ ابن حجر عند ترجمته لأخيه الهادي: وله أخ يقال له(8/473)
محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته.
قال الإمام الشوكاني: ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه. وقال أيضا: لو قلت: إن اليمن لم ينجب مثله لم أبعد عن الصواب. له مؤلفات عديدة مفيدة منها: 'إيثار الحق على الخلق' وهو آخر مؤلفاته، و'العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم' ومختصره 'الروض الباسم' وغيرها.
توفي رحمه الله في الرابع والعشرين من محرم سنة أربعين وثمانمائة، وله من العمر أربع وستون سنة.
موقفه من المبتدعة:
فمن مواقفه الطيبة قال في 'إيثار الحق':
- فإن قيل: فمن أين جاء الاختلاف الشديد؟ فاعلم أن منشأ معظم البدع يرجع إلى أمرين واضح بطلانهما، فتأمل ذلك بإنصاف وشد عليه يديك. وهذان الأمران الباطلان هما:
الزيادة في الدين بإثبات ما لم يذكره الله تعالى ورسله عليهم السلام من مهمات الدين الواجبة.
والنقص منه بنفي بعض ما ذكره الله تعالى ورسله من ذلك بالتأويل الباطل. (1)
- وقال: فاعلم أن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإسلام، راجع إلى
_________
(1) إيثار الحق على الخلق (85).(8/474)
هذين الأمرين الباطلين، الواضح بطلانهما كما تقدم. وهما الزيادة في الدين والنقص منه، ثم يلحق بهما التصرف فيه بالعبارات المبتدعة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- وقال: أما الأمر الأول: وهو الزيادة في الدين، فسببه تجويز خلو كتب الله تعالى وسنن رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام عن بيان بعض مهمات الدين اكتفاء بدرك العقول لها، ولو بالنظر الدقيق، ليكون ثبوتها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق النظر العقلي. هذا مذهب أهل الكلام، ومذهب أهل الأثر أنه ممنوع. (2)
- وقال: ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3). واتفق أهل الإسلام على أن المراد بالرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولو لم يكونا وافيين ببيان مهمات الدين ما أمرهم الله بالرجوع إليهما عند الاختلاف. (4)
- وقال: والمسلم بالفطرة ينكر هذه البدع، وبالرسوخ في علم الحديث يعلم بالضرورة حدوثها وأن عصر النبوة والصحابة بريء منها. (5)
- وقال: بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروه أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
_________
(1) إيثار الحق على الخلق (100).
(2) إيثار الحق على الخلق (103).
(3) النساء الآية (59).
(4) إيثار الحق على الخلق (107).
(5) إيثار الحق على الخلق (130).(8/475)
بِكُفْرِهِمْ} (1). وهي من عجائب العقوبات الربانية. والمحذرات من المؤاخذات الخفية: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} (2).
وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عند (د ت) (3)، وعن ابن عمر مرفوعا: «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه». (4)
_________
(1) البقرة الآية (93).
(2) آل عمران (54).
(3) أخرجه: أبو داود (4/ 512/4341) والترمذي (5/ 240/3058) وقال: "حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1330 - 1331/ 4014) وابن حبان (2/ 108 - 109/ 385 الإحسان) وصححه الحاكم (4/ 322) ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه من حديث ابن عمر: الطبراني في الأوسط (6/ 351 - 352/ 5750) من طريق الوليد بن عبد الواحد التميمي عن ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن سعيد بن جبير إلا عطاء بن دينار، ولا عن عطاء إلا ابن لهيعة، تفرد به الوليد بن عبد الواحد، ولا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد". وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 90 - 91) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة ومن لا يعرف". قال المناوي في الفيض (3/ 308): "قال العلاء: سنده ضعيف. وعده في الميزان من المناكير".
وأخرجه من حديث أنس: العقيلي في الضعفاء الكبير (3/ 447) والدينوري في المجالسة وجواهر العلم (3/ 256 - 262/ 899)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 214 - 215/ 325) وأبو نعيم في الحلية (2/ 343)، والهروي في ذم الكلام (ص.310) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (ص.144 حديث رقم:367) والبيهقي في الشعب (1/ 471/745) والبزار (كشف الأستار 1/ 60/81) وقال: "قال البزار: وهذا لم يروه هكذا إلا الفضل ولا عنه إلا أيوب". كلهم من طرق عن أيوب بن عتبة عن الفضل بن بكر العبدي عن قتادة عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وقال العقيلي عقبه: "وقد روي عن أنس من غير هذا الوجه وعن غير أنس بأسانيد فيها لين" وقال قبله: "الفضل بن بكر العبدي عن قتادة ولا يتابع عليه من وجه يثبت". وقال أبو نعيم في الحلية: "هذا حديث غريب من حديث قتادة، ورواه عكرمة بن إبراهيم عن هشام عن يحيى ابن أبي كثير عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه".
وقال الذهبي عن الفضل بن بكر في الميزان (3/ 349): "الفضل بن بكر عن قتادة لا يعرف وحديثه منكر" ثم ذكر له هذا الحديث. والحديث ضعف إسناده العراقي في تخريج الإحياء (4/ 1902/3016).
وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/ 59 - 60/ 80) وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (1/ 102/33) و (2/ 403/525) والهروي في ذم الكلام (ص.310 - 311) وأبو نعيم (6/ 268 - 269) كلهم من طريق زائدة ابن=(8/476)
وعن أنس وابن عباس وابن أبي أوفى كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله مثل
_________
= أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس رفعه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 91) وقال بعد عزوه للبزار والطبراني في الأوسط ببعضه: "وفيه زائدة بن أبي الرقاد وزياد النميري وكلاهما مختلف في الاحتجاج به".
وأخرجه: الطبراني في الأوسط (6/ 214 - 215/ 5448) وابن حبان في المجروحين (1/ 263) كلهم من طريق حميد بن الحكم قال: سمعت الحسن، يقول حدثنا أنس بن مالك. قال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن الحسن إلا حميد بن الحكم تفرد به محمد بن عرعرة". وإسناده ضعيف جدا فإن حميد بن الحكم هذا قال عنه ابن حبان: "منكر الحديث جدا".
وأخرجه: ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 568/961) من طريق يغنم بن سالم عن أنس رفعه. ويغنم كان يضع على أنس كما في المجروحين (2/ 498). وقال ابن يونس: "حدث عن أنس فكذب". وقال الذهبي كما في الميزان (4/ 459): "أتى عن أنس بعجائب".
وأخرجه من حديث ابن عباس: ابن عدي في الكامل (5/ 1882) وأبو نعيم في الحلية (3/ 219) والهروي في ذم الكلام (ص.311) عن شيبان بن فروخ عن عيسى بن ميمون عن محمد بن كعب عنه بذكر المهلكات فقط. وعيسى هذا الظاهر أنه المديني وهو منكر الحديث كما قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ت:2781). وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/ 60/82) من طريق محمد بن عون الخراساني عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 92) وقال بعد عزوه للبزار: "وفي سنده محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا".
وأخرجه من حديث ابن أبي أوفى: البزار (كشف الأستار 1/ 60/83) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 92): "وفي سند ابن أبي أوفى محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: الهروي في ذم الكلام (ص.311) وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/ 174/346) من طريق سعيد بن سعيد عن عبد الله ابن سعيد عن أبيه عنه بذكر المهلكات. وعبد الله بن سعيد متروك واتهم.
وأخرجه: البيهقي في الشعب (5/ 452 - 453/ 7252) من طريق عبيد الله بن محمد حدثني بكر بن سليم الصواف عن أبي حازم عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه بذكر المنجيات والمهلكات. وفيه بكر بن سليم الصواف قال عنه ابن عدي في الكامل: (2/ 462): "يحدث عن أبي حازم عن سهل بن سعد وعن غيره ما لا يوافقه أحد عليه". وحديثه هذا من هذا الباب. وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/ 386 - 387): "شيخ يكتب حديثه". وقال المنذري في الترغيب (1/ 286) بعد عزوه للبزار والبيهقي عن أنس: "وهو مروي عن جماعة من الصحابة، وأسانيده وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فهو بمجموعها حسن إن شاء الله تعالى" ووافقه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:1802). وهذه الطرق كما ترى كلها شديدة الضعف والجبر إنما يكون في الضعف اليسير والله أعلم.(8/477)
ذلك، رواها الهيثمي في مجمعه، ودليل العقوبة في ذلك أنك ترى أهل الضلال أشد عجبا وتيها وتهليكا للناس واستحقارا لهم، نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله. (1)
- وله قصيدة دالية طويلة يعتز فيها بالتمسك بالكتاب والسنة فمنها:
قالوا: الأدلة ليس تخفى جملة ... قلنا لهم: ذا قول من لم ينقد
إن كان للإسلام عشر دعائم ... فانقص من العشر الدعائم أو زد
تجد الزيادة في الدليل محالة ... والنقص للبرهان أعظم مفسد
يا لائمي في مذهبي بالله قل ... لم زدت في الإسلام ما لم يعهد
ما للسنين قضت ولم ينطق بذا ... خير البرية مرة في مشهد؟
أو لم يكن أولى بتبيين الهدى ... والمشكلات لأحمر ولأسود
ما كان أحمد في المرا متدربا ... كلا، ولا للمشكلات بمورد
بل كان يأمر بالجهاد لكل من ... جحد الدليل وكل باغ معتد
حتى استقام الدين وانتعش الهدى ... بالمشرفية والقنا المتقصد
قامت شريعته لكل مجرب ... ماضي المضارب لا يكل مجلد
وكذاك أهل البيت ما زالوا على ... منهاجه من قائم أو سيد (2)
إلى أن قال:
وكذا الصحابة والذين يلونهم ... سل كل تاريخ بذاك ومسند
وكذلك الفقهاء قالوا وامتحن ... قولي وسل كتب التراجم وانقد
_________
(1) إيثار الحق على الخلق (385 - 386).
(2) من مقدمة العواصم والقواصم (1/ 35 - 36).(8/478)
ما كنت بدعا في الذي قد قلته ... يا لائمي فدع الغواية ترشد
وإذا أبيت وكنت لا تدري فقم ... عن مجلس العلما وقف بالمربد
فلأجهرن بما علمت فإن أعش ... أنصح وإن أقضي فغير مخلد
هذا وما اخترت العتيق لحيرتي ... في الغامضات، ولا لفرط تبلد
فأنا الذي أفنيت شرخ شبيبتي ... في بحث كل محقق ومجود
والافتخار مذمة مني فسل ... عني المشايخ فالمشايخ شهدي
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فافهم فتلك كناية عن سؤددي
وإذا شككت بأن تلك فضيلة ... فاستقر -ويحك- وصف كل محسد
فلحسدي ما في الضمائر منهم ... أبدا ولي ما هم عليه حسدي (1)
- وقال في 'الروض الباسم':
فإذا عرفت هذا تبين لك أن المحدثين هم الذين اختصوا بالذب عن السنن النبوية والمعارف الأثرية، وحموا حماها من أكاذيب الحشوية، وصنفوا كتب الموضوعات، وناقشوا في دقائق الأوهام حفاظ الثقات، وعملوا في ذلك أعمالا عظيمة، وقطعوا فيها أعمارا طويلة، وقسموا الكلام فيه في أربعة فنون:
أحدها: معرفة العلل.
وثانيها: معرفة الرجال.
وثالثها: معرفة علوم الحديث.
_________
(1) العواصم والقواصم (1/ 37).(8/479)
ورابعها: معرفة الحديث وطرقه.
واشتملت هذه الفنون من المعارف النبوية والقواعد العلمية على ما يضطر كل عارف إلى أنهم أتم الخلق عناية بحماية علم الحديث عن التبديل والتحريف، وأنهم الجهابذة النقاد بعلم المتن والإسناد، فإنهم الذين بينوا أنواع الحديث التي اختلف في قبولها أهل العلم، مثل التدليس والإعضال، والاضطراب والإعلال، والنكارة والإرسال، والوصل والقطع، والوقف والرفع، وغير ذلك من علوم الحديث الغزيرة، وفوائده العزيزة، ولأمر ما سارت تصانيفهم فيه سير الكواكب، وانتفع بكلامهم فيه الولي الصادق والعدو المناصب، والمتهم لهم بحشو الأحاديث واختلاق الأباطيل في الحديث لا يكون من أهل العقول التامة، دع عنك أهل المعارف من الخاصة، وذلك أنه لا خفاء على العاقل أن أئمة الفن لا يكونون هم المتهمين فيه، إذ لو كان كذلك لبطل العلم بالمرة، فإنا لو اتهمنا النحاة في النحو واللغويين في اللغة، والفقهاء في الفقه، والأطباء في الطب لم يتعلم جاهل ولا تداوى مريض. فيا هذا من للحديث إذا ترك أهله؟ فلو عدمت تآليفهم فيه وتحقيقهم لألفاظه ومعانيه، لأظلمت الدنيا على طالبه وأوحشت المسائل على مريده.
يا هذا، فكر لم سموا أهل الحديث، ولم سمي أهل الكلام بذلك، وكذلك أهل النحو وسائر الفنون؟! فإن كان أهل الحديث قد سموا بذلك عندك مع عدم معرفتهم به وكذبهم فيه فهلا جوزت مثل ذلك في سائر أهل الفنون، بل في سائر أهل الصناعات، بل في جميع أهل الأسماء المشتقات، فيجوز أن يسمى الفقيه نحويا والمتكلم عروضيا والغني فقيرا والصغير كبيرا.(8/480)
وهذا ما لا يقول به عاقل، ولا يرتضيه أحد من أهل الباطل!!
ومن أحب أن يعرف حق المحدثين واجتهادهم في التحري للمسلمين فليطالع تآليف نقادهم في الرجال والعلل والأحكام، مثل 'ميزان الاعتدال في نقد الرجال' للذهبي، و'التهذيب' للمزي، و'العلل' للدارقطني، و'علوم الحديث' لابن الصلاح وزين الدين العراقي وغير ذلك، ثم ليطالع بعد ذلك كتب الصحاح والسنن لاحظا لما فيها من اختيار أصح الأسانيد، والإشارة إلى مهمات ما يتعلق بالأحاديث من العلل القادحة والمرجحات الواضحة. ثم ليوازن بينها وبين سائر مصنفات الفرق في الحديث، يجد الفرق بين التصانيف واضحا، والبون بين الرجال نازحا، ومن موازين الإنصاف العادلة وأدلة الأوصاف الفاضلة أنك تراهم يضعفون الضعيف من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويصدعون بالحق في ذلك، وكذلك يضعفون ما يدل على مذهبهم متى كان ضعيفا، ويضعفون كثيرا من علمائهم إذا كانوا ضعفاء، نصيحة منهم للمسلمين واحتياطا في أمر الدين.
وهذه إشارة مختصرة دعا إلى ذكرها تعريف من أنكر الجليات، ودافع ما هو كالمعارف الأوليات، إذ من المعلوم أن أهل الحديث اسم لمن عني به وانقطع في طلبه، كما قال بعضهم:
إن علم الحديث علم رجال ... فإذا جن ليلهم كتبوه ... تركوا الابتداع للاتباع
وإذا أصبحوا غدوا للسماع
فهؤلاء هم أهل الحديث من أي مذهب كانوا، وكذلك أهل العربية وأهل اللغة، فإن أهل كل فن هم أهل المعرفة فيه، والتحقيق لألفاظه ومعانيه،(8/481)
وقد ذكر أئمة الحديث ما يتقضى ذلك، فإنهم يجمعون على أن أبا عبد الله الحاكم بن البيع من أئمة الحديث مع معرفتهم أنه من الشيعة، وقد ذكروا في كتب الرجال كثيرا من أئمة الحديث، ورواة الصحيح منسوبا إلى البدع. وبهذا يزداد قول المعترض بطلانا في نسبة المحدثين إلى الحشوية، ويظهر له أنه قد نسب إلى الحشو جماعة من أهل مذهبه وسائر الفرق، بل نسبة ذلك إلى خير القرون، فإن المتمكن من الآثار النبوية هم خير الفرق الإسلامية، لأنهم أشبه الخلق خلقا وسيرة وعقيدة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والمحدث إن كان مراعيا للسنة مجانبا للبدعة ملاحظا لما كان عليه السلف فهو جدير بإجماع من يعتد به بصحة ما هو عليه وقوة ما استند إليه، وإن كان من بعض الفرق المبتدعة، فهو خير تلك الفرقة وأشبههم خلقا وسيرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الغالب، ولا عبرة بالنادر ولا بمن ليس من أهل الديانة، فنسبة خير الفرق إلى شر فرقة وتلقيبهم بأخس لقب من التهافت في مهاوي الضلال، والخبط في تيه الوبال.
ويلحق بهذا فائدة تزيد ما ذكرناه تحقيقا وتزيد أئمة الحديث توثيقا، وهي أن من المشهور بتجويز الكذب في الحديث من الحشوية الطائفة المعروفة بالكرامية، وقد يطلق الرازي نسبة هذا إلى الكرامية، وحققه الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني فنسبه إلى بعضهم فيما لا يتعلق بالأحكام مما يتعلق بالترغيب والترهيب، والمحدثون براء من هذه الطائفة، وقد تكلموا عليهم في غير كتاب؛ ممن تكلم عليهم الذهبي في 'ميزان الاعتدال' فإنه قال في ترجمة ابن كرام شيخ هذه الطائفة ما لفظه: محمد بن كرام العابد المتكلم،(8/482)
ساقط الحديث على بدعته، أكثر عن أحمد الجويباري ومحمد بن تميم السعدي وكانا كذابين، قال ابن حبان: خذل حتى التقط من المذاهب أرذلها ومن الأحاديث أوهاها (1). وقال أبو العباس: شهدت البخاري ودفع إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث، منها الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فكتب البخاري على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. وقال ابن حبان: جعل ابن كرام الإيمان قولا بلا معرفة. وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه. قال شيخ أهل الحديث الذهبي: هذا منافق محض في الدرك الأسفل من النار، فإيش ينفع ابن كرام أن نسميه مؤمنا؟ قال الذهبي: وقد سجن ابن كرام لبدعته بنيسابور ثمانية أعوام. وقد سقت أخباره في تاريخي الكبير. انتهى كلامه.
فيا من لا يفرق بين الحشوى والمحدث، انظر إلى نصوص أئمة الحفاظ في إنكار مذهب ابن كرام في رواية الأحاديث الواهية وفي القول بالإرجاء، وقد نص البخاري على أن راوي الحديث المقدم الذي هو حجة المرجئة يستوجب الضرب الشديد والحبس الطويل، وعن قريب تأتي نسبتك للإرجاء إلى المحدثين، وقل لي من الذي حبس ابن كرام في نيسابور على بدعته، ولمن كانت الشوكة في نيسابور في ذلك العصر وهو بعد المائتين؟ فإن قلت: إنك إنما أسميت المحدثين بالحشوية لكون الحشوية من فرقهم والجامع لهم ردهم لمذهب الشيعة والمعتزلة، قلت: ليس هذا مما يعتذر به، فإن المنصور بالله روى
_________
(1) في الأصل: "أوهاما" والتصحيح من "الميزان".(8/483)
عن المطرفية وهم من فرق الزيدية أنهم يستجيزون الكذب في الحديث في نصرة ما اعتقدوه حقا، وذكر أنهم صرحوا له بذلك في المناظرة، وقد صح عنهم من البدع ما هو شر من هذا. وكذلك الحسينية قد صح وتواتر عنهم أنهم يفضلون الحسين ابن القاسم العياني على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم من فرق الزيدية، والزيدية يكفرون هاتين الطائفتين، فكما لم تلزم الزيدية بشيء من هذه البدع، لقول بعض جهالهم بها مع إنكارهم على من قالها، فكذلك لا يلزم أهل الحديث كل بدعة قيلت في بلادهم وقالها من وافقهم في بعض عقائدهم، فزن الأشياء بالموازين العلمية وتعرف من الحشوية، واحذر أن تكون من هذه الفرقة الغوية، لقبولك لكثير من الأحاديث الفرية، المدسوسة في الأحاديث المروية. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في إيثار الحق على الخلق: وكذلك دلت النصوص المتواترة على وجوب حب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وتعظيمهم وتكريمهم، واحترامهم وتوقيرهم، ورفع منزلتهم والاحتجاج بإجماعهم، والاستنان بآثارهم، واعتقاد ما نطق به القرآن الكريم، والذكر الحكيم، من أنهم خير أمة أخرجت للناس وفيهم يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا
_________
(1) الروض الباسم (ص.180 - 184)(8/484)
مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (1) الآية. (2)
- وجاء في الروض الباسم عنه قال: فإن قلت: فما الفرق بين مذهب الشيعة وأهل الحديث في الصحابة؟ قلت: من وجوه:
الأول: في الخلافة وهو معروف.
والثاني: أن أهل الحديث يحملون من أظهر التأويل من الصحابة على أنه متأول.
الثالث: أن أهل الحديث لا يكرهون العاصي من الصحابة، وإنما يكرهون معصيته، ويحبونه لإسلامه وصحبته، ويترحمون عليه ويترضون عنه ويذكرون ما له من الفضائل ولا يسبونه ولا يؤذونه، وتفصيل المقاصد والحجج مما لا يتسع له هذا الموضع. (3)
- وقال عند قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: «لايحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» (4): على أن بغض علي رضي الله عنه إنما كان علامة للنفاق في أول الإسلام، فإن المنافقين كانوا يبغضون من فيه قوة على الحرب لكراهتهم لقوة الإسلام، ولذلك جاء في الحديث أيضا: إن بغض الأنصار علامة النفاق (5) لهذا المعنى، وكذلك حبهم وحب علي كان في ذلك
_________
(1) الفتح الآية (29).
(2) إيثار الحق على الخلق (ص.417).
(3) الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (ص.191 - 192).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ).
(5) أحمد (3/ 134،249) والبخاري (1/ 85/17) ومسلم (1/ 85/74).(8/485)
الزمان علامة للإيمان لهذا المعنى.
وأما في الأعصار المتأخرة عن أول الإسلام فلا يدل على ذلك، فإن الخوارج يبغضون عليا ويكفرونه، مع الإجماع على أنهم غير منافقين وأن ذنبهم عظيم، ومروقهم من الإسلام منصوص، والباطنية يحبونه مع الإجماع على كفرهم، وكذلك الروافض يحبونه مع ضلالهم وفسوقهم نعوذ بالله. (1)
سبط ابن العجمي إبراهيم بن محمد أبو الوفاء (2) (841 هـ)
برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل سبط ابن العجمي الطرابلسي، الشيخ الإمام الحافظ الحلبي الشافعي. ولد سنة ثلاث وخمسين وسبع مائة بالجلوم، مات أبوه وهو صغير جدا فكفلته أمه، وحفظ القرآن وقرأ القراءات على عدة شيوخ. سمع من الحافظ ابن المحب وصلاح الدين ابن أبي عمر والحافظ زين الدين العراقي وغيرهم. وسمع منه ابن حجر وابن ناصر الدين وغيرهما.
قال البقاعي: إنه كان على طريقة السلف في التوسط في العيش وفي الانقطاع عن الناس لا سيما أهل الدنيا، عالما بغريب الحديث، شديد الاطلاع على المتون، بارعا في معرفة العلل، إذا حفظ شيئا لا يكاد يخرج من ذهنه. وقال السخاوي: كان إماما علامة حافظا خيرا دينا ورعا متواضعا،
_________
(1) الروض الباسم (ص.215 - 216).
(2) الضوء اللامع (1/ 138 - 145) والبدر الطالع (1/ 28 - 30) وشذرات الذهب (7/ 237 - 238) والأعلام (1/ 65).(8/486)
وافر العقل حسن الأخلاق.
ألف التآليف المفيدة الحسنة الدالة على سعة علمه واطلاعه. توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعين وثمانمائة.
موقفه من المبتدعة:
دفاعه عن شيخ السلفيين في وقته وبعده:
جاء في الضوء اللامع: ولما دخل التقي الحصني (1) حلب، بلغني أنه لم يتوجه لزيارته -أي سبط- لكونه كان ينكر مشافهة على لابسي الأثواب النفيسة على الهيئة المبتدعة وعلى المتقشفين، ولا يعدو حال الناس ذلك. فتحامى قصده. فما وسع الشيخ إلا المجيء إليه. فوجده نائما بالمدرسة الشرفية، فجلس حتى انتبه، ثم سلم عليه فقال له: لعلك التقي الحصني فقال: أنا أبو بكر. ثم سأله عن شيوخه فسماهم له فقال: إن شيوخك الذين سميتهم هم عبيد ابن تيمية أو عبيد من أخذ عنه، فما بالك تحط أنت عليه. فما وسع التقي إلا أن أخذ نعله وانصرف ولم يجسر يرد عليه. ولم يزل على جلالته وعلو مكانته حتى مات مطعونا في يوم الاثنين. سادس عشر شوال سنة إحدى وأربعين بحلب ولم يغب له عقل بل مات وهو يتلو. (2)
التعليق:
1 - هذا النص يدل دلالة واضحة على حب هذا المحدث الكبير لشيخ الإسلام، فسياق القصة من أولها إلى آخرها يدل على ذلك.
_________
(1) كان من الذين يطعنون في ابن تيمية ويصرحون بكفره.
(2) الضوء اللامع (1/ 145).(8/487)
2 - عدم ذهابه لزيارة أكبر عدو للسلفية في وقته، على شهرته، واحتفاء أمثاله به. ولو كان من السلفيين لذهب الشيخ إليه، وكان في مقدمة من يستقبله ويعتبر ذلك شرفا له.
3 - سؤاله له بتلك الصيغة مما يدل على احتقاره له وعدم المبالاة به.
4 - عدم الاعتراف بشيوخ المخرف وأنهم في مرتبة العبيد، أو أقل.
5 - المقارنة بين شيوخ المخرف ونسبتهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية.
6 - تأنيبه للمخرف وأن هذا الفعل الذي يفعله لا يليق به، وأن قدر شيخ الإسلام لا يدانيه مثل هذا المخرف.
7 - إغلاظه القول للمخرف فانصرف ذليلا حقيرا.
ابن ناصر الدين الدمشقي (1) (842 هـ)
الشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الدمشقي الشافعي الشهير بابن ناصر الدين. ولد في العشر الأول من المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة بدمشق وبها نشأ وحفظ القرآن وعدة متون في صغره، وحبب إليه علم الحديث، فوجه همته إليه وعكف ليله ونهاره عليه. سمع من بدر الدين بن قوام ومحمد بن عوض الابناسي وقرأ على ابن حجر وقرأ ابن حجر عليه. وأجاز له من القاهرة الحافظ الزين العراقي والسراج ابن الملقن وغيرهما.
كان إماما علامة حافظا كثير الحياء سليم الصدر حسن الأخلاق دائم
_________
(1) شذرات الذهب (7/ 243 - 244) والبدر الطالع (2/ 198 - 199) والضوء اللامع (8/ 103 - 106) والنجوم الزاهرة (15/ 465) والأعلام (6/ 237) وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص.40).(8/488)
الفكر متواضعا محببا إلى الناس حسن البشر والود لطيف المحاضرة والمحادثة بحيث لا تمل مجالسته. ذكره المقريزي فقال: طلب الحديث فصار حافظ بلاد الشام بغير منازع، وصنف عدة مصنفات، ولم يخلف في الشام بعده مثله. وأثنى عليه البرهان الحلبي بقوله: الشيخ الإمام المحدث الفاضل الحافظ، إلى أن قال: وقد اجتمعت به فوجدته رجلا كيسا متواضعا من أهل العلم وهو الآن محدث دمشق وحافظها. وقال المحب بن نصر الله: لم يكن بالشام في علم الحديث آخر مثله ولا قريب منه.
خرج في ربيع الثاني سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة مع جماعة لقسم قرية من قرى دمشق، فسمهم أهلها، فتوفي ودفن بمقابر العقيبة عند والده.
موقفه من المبتدعة:
- ' الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر'، والكتاب مطبوع متداول. جمع فيه من أقوال فحول العلماء الذين شهدوا لشيخ الإسلام بالإمامة والفضل.
- 'إتحاف السامع بافتتاح الجامع في فضل الحديث وأهله'، ذكره في كشف الظنون (1) وقال: ذكر فيه فضل الحديث وأهله وفضل الصحيحين وتدريسه. أوله: "الحمد لله الذي افتتح كتابه بعد ذكر اسمه .. " وذكره البغدادي في هدية العارفين. (2)
من مواقفه الطيبة ما جاء في الرد الوافر:
_________
(1) (1/ 6).
(2) (2/ 193).(8/489)
- قال: فالواجب على كل مسلم اتباع السنة المحمدية، واقتفاء الآثار النبوية الأحمدية، التي منها: التمسك بسنة الخلفاء الراشدين، والتبرك (1) بآثار الأئمة المهديين، ولقد أقام الناس على ذلك بعد عصر النبوة زمانا، تابعين للشريعة النبوية احتسابا وإيمانا. كما أشار إليه الإمام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب: 'الحجة'، فقال: وقد كان الناس على ذلك زمانا بعده، إذ كان فيهم العلماء، وأهل المعرفة بالله من الفهماء، من أراد تغيير الحق منعوه، ومن ابتدع بدعة زجروه، وإن زاغ عن الواجب قوموه، وبينوا له رشده وفهموه، فلما ذهب العلماء من الحكماء ركب كل أحد هواه، فابتدع ما أحب وارتضاه، وناظر أهل الحق عليه، ودعاهم بجهله إليه، وزخرف لهم القول بالباطل فتزين به، وصار ذلك عندهم دينا يكفر من خالفه، ويلعن من باينه، وساعده على ذلك من لا علم له من العوام، ويوقع به الظنة والاتهام، ووجد على ذلك الجهال أعوانا، ومن أعداء العلم أخدانا، أتباع كل ناعق، ومجيب كل زاعق، لا يرجعون فيه إلى دين، ولا يعتمدون على يقين، قد تمكنت لهم به الرئاسة، فزادهم ذلك في الباطل نفاسة، تزينوا به للعامة، ونسوا شدائد يوم الطامة.
ثم روى الشيخ نصر بإسناده إلى محمد بن عبد الله ابن أبي الثلج، قال: حدثنا الهيثم بن خارجة، ثنا هيثم بن عمران العبسي، سمعت إسماعيل بن عبيد الله المخزومي يقول: ينبغي لنا أن نتحفظ ما جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عز
_________
(1) لعله يقصد الاهتداء بما أثر عن الأئمة المهديين وهو الموافق لسياق الكلام.(8/490)
وجل قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) فهو بمنزلة القرآن. (2)
تقي الدين المقريزي (3) (845 هـ)
الإمام المؤرخ أحمد بن علي بن عبد القادر أبو العباس تقي الدين الحسيني العبيدي، البعلي الأصل، القاهري المقريزي -نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة. ولد سنة ست وستين وسبعمائة بالقاهرة. نشأ نشأة حسنة، فحفظ القرآن وسمع من جماعة من الشيوخ كالآمدي والبلقيني والعراقي والهيثمي والتنوخي وغيرهم. ولي الحسبة والخطابة والإمامة مرات في القاهرة. كان إماما بارعا مفننا متقنا ضابطا دينا خيرا محبا لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر، حسن الصحبة حلو المحاضرة. وكان متبحرا في التاريخ على اختلاف أنواعه، ومؤلفاته تشهد له بذلك. قال السخاوي: وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلدة كبار، وأن شيوخه بلغت ستمائة نفس. وقال الحافظ ابن حجر: له النظم الفائق، والنثر الرائق، والتصانيف الباهرة، وخصوصا في تاريخ القاهرة، فإنه أحيا معالمها وأوضح مجاهلها، وجدد مآثرها وترجم أعيانها. وقال أيضا: أولع بالتاريخ
_________
(1) الحشر الآية (7).
(2) (ص.29 - 30).
(3) شذرات الذهب (7/ 254 - 255) والبدر الطالع (1/ 79) وإنباء الغمر (9/ 170 - 172) والضوء اللامع (2/ 21 - 25) والأعلام (1/ 177 - 178).(8/491)
فجمع منه شيئا كثيرا وصنف فيه كتبا، وكان لكثرة ولعه به يحفظ كثيرا منه. توفي رحمه الله سنة خمس وأربعين وثمانمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في الخطط: القسم الثاني: فرق أهل الإسلام الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة: ثنتان وسبعون هالكة وواحدة ناجية» وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (1) ... واعلم أن فرق المسلمين خمسة: أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والشيعة والخوارج، وقد افترقت كل فرقة منها على فرق. فأكثر افتراق أهل السنة في الفتيا ونبذ يسيرة من الاعتقادات، وبقية الفرق الأربع منها من يخالف أهل السنة الخلاف البعيد، ومنهم من يخالفهم الخلاف القريب فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان معا فقط، وأن الأعمال إنما هي فرائض الإيمان وشرائعه فقط، وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان ومحمد بن كرام. وأقرب فرق المعتزلة أصحاب الحسين النجار وبشر بن غياث المريسي، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف وأقرب مذاهب الشيعة أصحاب الحسن ابن صالح بن حي، وأبعدهم الإمامية؛ وأما الغالية فليسوا بمسلمين ولكنهم أهل ردة وشرك. وأقرب فرق الخوارج أصحاب عبد الله بن يزيد الإباضي،
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).(8/492)
وأبعدهم الأزارقة. وأما البطيخية ومن جحد شيئا من القرآن أو فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم فكفار بإجماع الأمة. وقد انحصرت الفرق الهالكة في عشر طوائف -ثم ذكرها-. (1)
- وقال: والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سر تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمٍّ على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده - صلى الله عليه وسلم - سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه؛ ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمة. وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول. (2)
- وقال: واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعا إلى شيئين:
أحدهما: الظن بالله ظن السوء.
والثاني: لم يقدروا الرب حق قدره. (3)
موقفه من المشركين:
جاء في الخطط له: هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم
_________
(1) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار "المعروف بالخطط المقريزية" (2/ 345).
(2) الخطط (2/ 362).
(3) تجريد التوحيد المفيد (ص.49 - 50).(8/493)
من عرَّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في الخطط: وقام في زمنه -أي علي بن أبي طالب- رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفته على أمته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة علي بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وزعم أن عليا لم يقتل وأنه حي، وأن فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لابد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة وصاروا يقولون بالوقف يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق. وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح. وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء
_________
(1) الخطط (2/ 357).(8/494)
الإلهي يحل في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر. وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى، وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعة وصاروا ضدا للخوارج وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر. (1)
- وقال: واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق، وكان من قائميهم شنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا، وأبو مسلم السروح، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع. فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستبشاع ظلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى. فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهدي
_________
(1) الخطط (2/ 356 - 357).(8/495)
عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار إذ نسبوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكفر. وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوة لقوم سموهم به، وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع، وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهو قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيا صفريا. وقد أظهر عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي الإسلام، ليكيد أهله، فكان هو أصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأحرق علي رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته، ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة.
والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجوهر لا سر تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عم على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده - صلى الله عليه وسلم - سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا، فهو كافر بإجماع الأمة. وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول، حتى بالغ القدري في القدر، فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبري في مقابلته، فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته، فجعله كواحد من البشر، وبالغ المرجئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزلي في التخليد في العذاب،(8/496)
وبالغ الناصبي في دفع علي رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها، وبالغ السني في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضي في تأخيره حتى كفره، وميدان الظن واسع وحكم الوهم غالب، فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشر والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية وأبعد نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا، واستحلوا الأموال واستباحوا الدماء، وانتصروا بالدول، واستعانوا بالملوك، فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه، فإن الظن لا يبعد عن الظن كثيرا، ولا ينتهي في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفي التقابل، لكنهم أبوا إلا ما قدمنا ذكره من التدابر والتقاطع، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. (1)
التعليق:
يتلخص من هذه الكلمة المباركة الأمور الآتية:
1 - السبب في خروج الطوائف عن ملة الإسلام. ومكائد المنافقين الذين أظهروا إسلامهم خداعا.
2 - ليس في الإسلام ظاهر وباطن، بل كله ظاهر يشترك في فهمه والعمل به كل على قدر استطاعته.
3 - لم يخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحدا بشيء من شرعه، بل بلغه للجميع القريب والبعيد والأحمر والأسود، كلهم سواء. ومن قال غير هذا فهو كافر مرتد.
4 - بيان أصل البدع والسبب في وجودها: البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول.
_________
(1) الخطط (2/ 362).(8/497)
موقفه من الجهمية:
هذا المؤرخ الكبير كان من أفاضل علماء زمانه. له اطلاع واسع وباع طويل ومعرفة واسعة بالعقيدة السلفية والخلفية، وقد أبدى في كتابه الخطط إعجابا بالعقيدة السلفية وبين أنها عقيدة الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فقال:
- فصل: اعلم أن الله سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (1) قال ابن عباس وغيره: يعرفون، فخلق تعالى الخلق، وتعرف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه سبحانه منهم على ما عرفهم فيما تعرف به إليهم، وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع ببعثة الرسل عليهم السلام علمهم بالله تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث وعن التركيب وعن الافتقار، ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، وهذا التنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعداه عقل أصلا.
فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأكمل دينه، كان سبيل العارف بالله أن يجمع في معرفته بالله بين معرفتين إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية والأخرى المعرفة التي جاءت بها الإخبارات الإلهية وأن يرد علم ذلك إلى الله تعالى ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى من غير تأويل بفكره، ولا تحكم فيه برأيه، وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما
_________
(1) الذاريات الآية (56).(8/498)
هي عليه في علم الله وأنى لها ذلك؟! وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعية، ومنحها الإطلاع على حكمه في ذلك كان من فضله تعالى، فلا يضيف العارف هذه المنة إلى فكره، فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره يجب أن يكون مطابقا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة وإلا فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها، فإنها مقيدة بأوطارها، فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها، وبموجب أحكامها وآثارها، إلا إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف الله لها الغطاء عن بصائرها ويهديها إلى الحق فتنزه الله تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية، وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك، ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1)
ولقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} وهذه السورة يقال لها سورة الإخلاص، وقد عظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأنها ورغب أمته في تلاوتها حتى جعلها تعدل ثلث القرآن، من أجل أنها شاهدة بتنزيه الله تعالى وعدم الشبه والمثل له سبحانه، وسميت سورة الإخلاص لاشتمالها على إخلاص التوحيد لله عن أن
_________
(1) الشورى الآية (11) ..(8/499)
يشوبه ميل إلى تشبيهه بالخلق، وأما الكاف التي في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإنها زائدة وقد تقرر أن الكاف والمثل في كلام العرب أتيا للتشبيه، فجمعهما الله تعالى ثم نفى بهما عنه ذلك، فإذا ثبت إجماع المسلمين على جواز رواية هذه الأحاديث ونقلها، مع إجماعهم على أنها مصروفة عن التشبيه، لم يبق في تعظيم الله تعالى بذكرها إلا نفي التعطيل، لكون أعداء المرسلين سموا ربهم سبحانه أسماء؛ نفوا فيها صفاته العلا، فقال قوم من الكفار: هو طبيعة، وقال آخرون منهم: هو علة، إلى غير ذلك من إلحادهم في أسمائه سبحانه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحاديث المشتملة على ذكر صفات الله العلا، ونقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمين حتى انتهت إلينا، وكل منهم يرويها بصفتها من غير تأويل لشيء منها، مع علمنا أنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ففهمنا من ذلك أن الله تعالى أراد بما نطق به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأحاديث، وتناولها عنه الصحابة رضي الله عنهم وبلغوها لأمته، أن يغص بها في حلوق الكافرين، وأن يكون ذكرها نكتا في قلب كل ضال معطل مبتدع، يقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع وعباد العلل، فلذلك وصف الله تعالى نفسه الكريمة بها في كتابه، ووصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا بما صح عنه وثبت، فدل على أن المؤمن إذا اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، كان ذكره(8/500)
لهذه الأحاديث تمكين الإثبات، وشجا في حلوق المعطلة. وقد قال الشافعي رحمه الله: الإثبات أمكن؛ نقله الخطابي. ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم أولوا هذه الأحاديث، والذي يمنع من تأويلها إجلال الله تعالى عن أن تضرب له الأمثال، وأنه إذا أنزل القرآن بصفة من صفات الله كقوله سبحانه: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) فإن نفس تلاوة هذا يفهم منها السامع المعنى المراد به، وكذا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) عند حكايته تعالى عن اليهود نسبتهم إياه إلى البخل.
فقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فإن نفس تلاوة هذا، مبينة للمعنى المقصود، وأيضا فإن تأويل هذه الأحاديث يحتاج أن يضرب لله تعالى فيها المثل، نحو قولهم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (3) الاستواء الاستيلاء كقولك استوى الأمير على البلد وأنشدوا:
قد استوى بشر على العراق
فلزمهم تشبيه الباري تعالى ببشر، وأهل الإثبات نزهوا جلال الله عن أن يشبهوه بالأجسام حقيقة ولا مجازا، وعلموا مع ذلك أن هذا النطق يشتمل على كلمات متداولة بين الخالق وخلقه، وتحرجوا أن يقولوا مشتركة لأن الله لا شريك له، ولذلك لم يتأول السلف شيئا من أحاديث الصفات مع
_________
(1) الفتح الآية (10).
(2) المائدة الآية (64).
(3) طه الآية (5).(8/501)
علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما يسبق إليه ظنون الجهال من مشابهتها لصفات المخلوقين، وتأمل تجد الله تعالى لما ذكر المخلوقات المتولدة من الذكر والأنثى في قوله سبحانه: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (1) علم سبحانه ما يخطر بقلوب الخلق فقال عز من قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2).اهـ (3)
التعليق:
يتلخص من هذه العقيدة المباركة الأمور الآتية:
1 - سلفية الشيخ ودفاعه عن العقيدة السلفية، وأنها هي الأصل، وهي الموافقة للفطرة السليمة. وما سوى ذلك طارئ وحادث.
2 - معرفة الله بالفطرة والشرائع مفصلة ومبية لذلك.
3 - آيات الصفات وأحاديثها جاءت ردا على المعطلة والملاحدة في القديم والحديث، وهي العمدة في معرفة الله، فهي ترد وهم الطبائعيين وخيالات المتفلسفين وأوهام المعطلين.
4 - لازم التأويل التشبيه، ولا يمكن أن يكون تأويل إلا بذلك.
- وفيها أيضا: اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) الشورى الآية (11).
(3) الخطط (2/ 360 - 362).(8/502)
رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه - صلى الله عليه وسلم - الروح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى؛ فلم يسأله - صلى الله عليه وسلم - أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية: من العلم والقدرة، والحياة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام والجلال، والإكرام والجود والإنعام، والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا، وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل(8/503)
شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء
الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة. (1)
- وفيها: وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال منذ زمن الحسن بن الحسين البصري رحمه الله بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشر، وجهروا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم؛ فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أيمة الإسلام عن مذهبهم، وذموا علم الكلام وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض. (2)
موقفه من الخوارج:
قال: وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار. ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام
_________
(1) الخطط (2/ 356 - 357).
(2) الخطط (2/ 357).(8/504)
بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعد منهم غير واحد من رواة الحديث كما هو معروف عند أهله. (1)
موقفه من المرجئة:
قال: واعلم أن العبادة أربع قواعد، وهي: التحقيق بما يحب الله ورسوله ويرضاه، وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح، فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب العبادة حقا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله تعالى عن نفسه وأخبر رسوله عن ربه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته ولقائه وما أشبه ذلك.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك والدعاء إليه، والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره تعالى وتبليغ أمره.
وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه، والإنابة والخوف، والرجاء والإخلاص، والصبر على أوامره ونواهيه، وإقراره والرضاء به وله وعنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والإخبات إليه والطمأنينة، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضها آكد من فرض أعمال الجوارح، ومستحبها إلى الله تعالى أحب من مستحب أعمال الجوارح.
وأما أعمال الجوارح فكالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فقول العبد في صلواته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التزام أحكام هذه الأربعة وإقرار بها.
_________
(1) الخطط (2/ 356).(8/505)
وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} طلب الإعانة عليها والتوفيق لها.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} متضمن للأمرين على التفصيل، وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السالكين إلى الله تعالى، والله الموفق بمنه وكرمه، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وآله وصحبه ووارثيه وحزبه. (1)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: قضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا -أي على ما تركهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحق الذي أنزل عليه- إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر وأن الأمر أنفة -أي أن الله تعالى لم يقدر على خلقه شيئا مما هم عليه-. وكان أول من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري، فتكلم في القدر بالبصرة، وسلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري. فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين؛ ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة، وأخذ السلف رحمهم الله في ذم القدرية وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث. وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد
_________
(1) تجريد التوحيد المفيد (ص.82 - 84).(8/506)
الجهني إلى الحسن البصري فيقولان له: إن هؤلاء يسفكون الدماء، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا ومثله. (1)
ابن حجر العسقلاني (2) (852 هـ)
شيخ الإسلام أمير المؤمنين في الحديث حافظ العصر شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الشهير بابن حجر -وهو لقب لبعض آبائه- الكناني العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ، الشافعي. ولد في ثاني عشر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بالقاهرة ونشأ بها يتيما في كنف أحد أوصيائه الزكي الخروبي. فحفظ القرآن وتولع بالنظم. ثم حبب الله إليه طلب الحديث فأقبل عليه، ورحل من أجله إلى قوص ثم إلى الإسكندرية والحجاز واليمن والشام. ودرس على عدة شيوخ بلغوا ستمائة نفس، منهم: البلقيني وابن الملقن والعراقي والهيثمي ومحمد المنبجي وعدة. واجتمع له من ذلك ما لم يجتمع لغيره. وأدرك من الشيوخ جماعة كل واحد رأس في فنه الذي اشتهر به. تتلمذ عليه السخاوي والسيوطي والديلمي وابن مرزوق وغيرهم.
مؤلفاته كثيرة مشهورة وصلت إلى أكثر من مائة وخمسين مؤلفا منها: 'شرح البخاري' و'تهذيب التهذيب' و'التقريب' و'الإصابة' و'لسان الميزان'
_________
(1) الخطط (2/ 356).
(2) النجوم الزاهرة (15/ 532 - 534) والضوء اللامع (2/ 36 - 40) وفهرس الفهارس (1/ 321 - 337) وحسن المحاضرة (1/ 363 - 366) والبدر الطالع (1/ 87 - 92) وشذرات الذهب (7/ 270 - 273) ومعجم المؤلفين (2/ 20 - 21).(8/507)
و'الدرر الكامنة'. وكان رحمه الله تعالى كثير الصوم ملازما للعبادة واقتفاء السلف الصالح، وأوقاته مقسمة للطلبة مع كثرة المطالعة والتصنيف والإفتاء والتدريس. أثنى عليه جمع من أهل العلم، وخصه بعضهم بالترجمة كالإمام السخاوي في كتابه 'الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر'.
قال البرهان الحلبي: ما رأينا مثله. وقال العلامة التقي الفاسي: هو أحفظ أهل العصر للأحاديث والآثار وأسماء الرجال، المتقدمين منهم والمتأخرين، والعالي من ذلك والنازل، وصنف عدة تصانيف في علل الأحاديث، وبراعته حسنة في الفقه وغيره، ويبدي في دروسه للفقه أشياء حسنة. وقال أيضا: إن الله لا يستحيي من الحق، ما رأينا مثل الشيخ شهاب الدين ابن حجر، قيل له: ولا شيخكم العراقي، قال: ولا العراقي، رحمهم الله. وقال محدث الحجاز نجم الدين بن فهد: كان رحمه الله فريد عصره ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال وأحوال الرواة والجرح والتعديل والناسخ والمنسوخ والمشكلات، تشد إليه الرحال في معرفة ذلك.
توفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في شرحه حديث حذيفة: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(8/508)
عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني» (1): يؤخذ منه ذم من جعل للدين أصلا خلاف الكتاب والسنة وجعلهما فرعا لذلك الأصل الذي ابتدعوه، وفيه وجوب رد الباطل وكل ما خالف الهدي النبوي ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع. (2)
- وقال في شرحه حديث ابن عباس: «أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين .. » (3): فيه تخطئة من يقيم بين أهل المعصية باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلا أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر. (4)
- وقال في شرحه حديث عبد الله بن عمر (5) وذكروا له نجدا فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان»، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. (6)
_________
(1) أخرجه: البخاري (6/ 763 - 764/ 3606) ومسلم (3/ 1475 - 1476/ 1847) وابن ماجه (2/ 1317/3979) من طريق بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: فذكره.
وأخرجه: أحمد (5/ 386 - 387) وأبو داود (4/ 447/4246) وابن حبان (الإحسان 13/ 298 - 299/ 5963) من طرق عن سليمان بن المغيرة عن حميد عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط ... فذكره.
(2) الفتح (13/ 37).
(3) أخرجه: البخاري (13/ 47/7085).
(4) الفتح (13/ 38).
(5) أخرجه: أحمد (2/ 118) والبخاري (2/ 662/1037) والترمذي (5/ 689/3953) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث ابن عون".
(6) الفتح (13/ 47).(8/509)
- وقال: وأما قوله في حديث العرباض (1): «فإن كل بدعة ضلالة» بعد قوله: «وإياكم ومحدثات الأمور» فإنه يدل على: أن المحدث يسمى بدعة. وقوله: «كل بدعة ضلالة»: قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال: "حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة" فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام. (2)
موقفه من المشركين:
- قال في قوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (3) ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإسراع في الخروج من ديار ثمود (4).اهـ (5)
موقفه من الرافضة:
جاء في الفتح:
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(2) الفتح (13/ 254).
(3) النساء الآية (140).
(4) أحمد (2/ 9 و58 و72) والبخاري (6/ 467/3381) ومسلم (4/ 2286/2980 (39)) من حديث ابن عمر.
(5) الفتح (13/ 61).(8/510)
- واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين. (1)
- وقال عند حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة ... » الحديث (2): قوله: «كلهم يزعم أنه رسول الله» ظاهر في أن كلا منهم يدعي النبوة، وهذا هو السر في قوله في آخر الحديث الماضي «وإني خاتم النبيين» (3) ويحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها، وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذابا فقط لكن يدعو إلى الضلالة، كغلاة الرافضة، والباطنية، وأهل الوحدة، والحلولية، وسائر الفرق الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده أن في حديث علي عند أحمد، "فقال علي لعبد الله بن الكواء: وإنك لمنهم" وابن الكواء لم
_________
(1) الفتح (13/ 34).
(2) أحمد (2/ 313 - 530) والبخاري (6/ 764/3609) و (13/ 102/7121) ومسلم (4/ 2239 - 2240/ 157) وأبو داود (4/ 506 - 507/ 4333) والترمذي (4/ 432/2218) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ورواه ابن ماجه (2/ 1304/3952) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -.
(3) ذكره في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قريب من ثلاثين). من رواية حذيفة «سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون: منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي» أخرجه: أحمد (5/ 396) والطبراني في الكبير (3/ 188/3026) والأوسط (6/ 214/5446) والبزار (7/ 294/2888) البحر الزخار) مختصراً. وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 332) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح". وجود إسناده الحافظ في الفتح (13/ 108).(8/511)
يدع النبوة وإنما كان يغلو في الرفض. (1)
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله: المراد بتوحيد الله تعالى الشهادة بأنه إله واحد، وهذا الذي يسميه بعض غلاة الصوفية توحيد العامة، وقد ادعى طائفتان في تفسير التوحيد أمرين اخترعوهما، أحدهما: تفسير المعتزلة كما تقدم، ثانيهما: غلاة الصوفية، فإن أكابرهم لما تكلموا في مسألة المحو والفناء، وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض الأمر، بالغ بعضهم حتى ضاهى المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود. (2)
- وقال رحمه الله: واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب (3) على إباحة الغناء وسماعه بآلة، وبغير آلة، ويكفى في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. (4)
_________
(1) الفتح (13/ 108).
(2) الفتح (13/ 348).
(3) أي حديث عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ... الحديث. أخرجه أحمد (6/ 84) والبخاري (2/ 559/949 - 950) ومسلم (2/ 609/892 (19)) والنسائي (3/ 218/1596).
(4) فتح الباري (2/ 562).(8/512)
- وقال أيضا: واستدل قوم من الصوفية بحديث الباب (1) على جواز الرقص وسماع آلات الملاهي، وطعن فيه الجمهور باختلاف المقصدين. فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب فلا يحتج به للرقص في اللهو والله أعلم. (2)
- وقال رحمه الله في شرحه لحديث: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» (3): وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ. وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عاداهم فقد يخطأ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ، وأما من بالغ منهم فقال: حدثني قلبي عن ربي فإنه أشد خطأ، فإنه لا يأمن أن يكون قلبه إنما حدثه عن الشيطان والله المستعان. (4)
موقفه من الجهمية:
- وقد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول. (5)
_________
(1) يعني حديث الحبشة.
(2) فتح الباري (6/ 686).
(3) أخرجه البخاري (11/ 414/6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) فتح الباري (11/ 419 - 420).
(5) الفتح (13/ 234).(8/513)
- واعترض بعض المخالفين بأن إرسالهم -يعني معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما- إنما كان لقبض الزكاة والفتيا ونحو ذلك وهي مكابرة، فإن العلم حاصل بإرسال الأمراء لأعم من قبض الزكاة وإبلاغ الأحكام وغير ذلك، ولو لم يشتهر من ذلك إلا تأمير معاذ بن جبل وأمره له وقوله له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فأعلمهم أن الله فرض عليهم» (1) إلخ، والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة، وفي أحاديث هذا الباب كثير من ذلك. واحتج بعض الأئمة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (2) مع أنه كان رسولا إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاها، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم، وهو مسلك جيد ينضم إلى ما احتج به الشافعي ثم البخاري ... ومن حيث النظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لتبليغ الأحكام، وصدق خبر الواحد ممكن فيجب العمل به احتياطا، وأن إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر، فلا تترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة. (3)
- وفيه: وقد نقل بعض العلماء لقبول خبر الواحد: أن كل صاحب وتابع سئل عن نازلة في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم أنه لم
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف ابن خزيمة سنة (311هـ).
(2) المائدة الآية (67).
(3) الفتح (13/ 235).(8/514)
يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به من ذلك حتى يسأل غيره فضلا عن أن يسأل الكواف، بل كان كل منهم يخبره بما عنده فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. (1)
- وفيه: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق. (2)
- وفيه: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات. حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق. (3)
- وفيه: والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد، وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي
_________
(1) الفتح (13/ 238).
(2) الفتح (13/ 253).
(3) الفتح (13/ 345).(8/515)
أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها؛ وهذا هو محض التقليد، فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى، والقول بإيمان من قلدهم. وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين: فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا، وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أولى منها. (1)
- وفيه: واحتج المعتزلي بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ والله منزه عن الجوارح، وأجيب بأنها عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيا فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله سبحانه وتعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيا موجودا لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات. (2)
- وفيه: وبأن أصل ما ذكروه -أي أهل الكلام- قياس الغائب على الشاهد وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث
_________
(1) الفتح (13/ 354).
(2) الفتح (13/ 373).(8/516)
والتفويض إلى الله في جميعها، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال وبالله التوفيق، ولو لم يكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازما بتأويله بخلاف صاحب التفويض. (1)
-وقال: قوله: «وأنا معه إذا ذكرني» (2) أي بعلمي، وهو كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (3) والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} -إلى قوله- {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (4).اهـ (5)
- وفيه: وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا له به ونفينا عنه التكييف، إذ ليس كمثله شيء وبالله التوفيق. (6)
_________
(1) الفتح (13/ 383).
(2) أحمد (2/ 251؛413) والبخاري (13/ 473 - 474/ 7405) ومسلم (4/ 2061/2675) والترمذي (5/ 542/3603) وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي في الكبرى (4/ 412/7730) وابن ماجه (2/ 1255 - 1256/ 3822).
(3) طه الآية (46).
(4) المجادلة الآية (7).
(5) الفتح (13/ 386).
(6) الفتح (13/ 413).(8/517)
- وفيه: وفي الحديث (1) إثبات الشفاعة، وأنكرها الخوارج والمعتزلة، وهي أنواع أثبتها أهل السنة، منها: الخلاص من هول الموقف، وهي خاصة بمحمد رسول الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بيان ذلك واضحا في الرقاق، وهذه لا ينكرها أحد من فرق الأمة. ومنها: الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، وخص هذه المعتزلة بمن لا تبعة عليه. ومنها: الشفاعة في رفع الدرجات، ولا خلاف في وقوعها. ومنها: الشفاعة في إخراج قوم من النار عصاة أدخلوها بذنوبهم وهذه التي أنكروها، وقد ثبتت بها الأخبار الكثيرة، وأطبق أهل السنة على قبولها وبالله التوفيق. (2)
- وفيه: قال الأئمة: هذه الآية -أي قوله تعالى: {وكلم اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (3) - أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة. (4)
تنبيه:
لابن حجر رحمه الله تأويلات لجملة من صفات الله عز وجل منها تأويله:
- صفة العين. (5)
- صفة الوجه: قال في قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
_________
(1) أي حديث: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة في صفوان ... » الحديث. أخرجه: البخاري (13/ 555/7481) وأبو داود (4/ 288 - 289/ 3989) والترمذي (5/ 337/3223) وابن ماجه (1/ 69 - 70/ 194) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الفتح (13/ 459 - 460).
(3) النساء الآية (164).
(4) الفتح (13/ 479).
(5) انظر الفتح (13/ 389).(8/518)
وَجْهَهُ} والمراد بالوجه الذات ... (1)
- كما تردد في الصوت بين التفويض والتأويل. (2)
- تبنيه لقول الأشاعرة في القرآن ونفيه الصوت والحرف. (3)
موقفه من الخوارج:
- قال الحافظ عقب حديث أبي بكرة «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار» (4): قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين، وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا. وقيل هو محمول على من استحل ذلك، ولا حجة فيه للخوارج ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار لأنه لا يلزم من قوله: "فهما في النار" استمرار بقائهما فيها. (5)
- وقال في شرح حديث ابن عمر أنه لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (6)، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله
_________
(1) انظر الفتح (13/ 402).
(2) انظر الفتح (13/ 458).
(3) انظر الفتح (13/ 493 - 494).
(4) أحمد (5/ 43) والبخاري (1/ 115/31) ومسلم (4/ 2214/2888 (15)) وأبو داود (4/ 462/4268) والنسائي (7/ 142/4132). وأخرجه ابن ماجه (2/ 1311/3965) بمعناه. عن أبي بكرة. وورد أيضا عن عدة من الصحابة.
(5) الفتح (13/ 33).
(6) أحمد (2/ 48،96) والبخاري (13/ 85/7111) ومسلم (3/ 1360/1735 (10)) وأبو داود (3/ 188/2756) والترمذي (4/ 122/1581) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".(8/519)
ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه.
وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه وأنه لا ينخلع بالفسق. (1)
- وقال: أما الخوارج فهم: جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم، كذا قال. وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن المراد منه ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان، وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك،
_________
(1) الفتح (13/ 71 - 72).(8/520)
فبلغ عليا فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق. ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك، وكان علي أرسل اليه لأن يبايع له أهل الشام، فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك.
وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلي أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام قاصدا إلى قتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما أشهرا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي وخصوصا القراء القتال بسبب ذلك تدينا، واحتجوا بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} (1) الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك، فقالوا: ابعثوا حكما منكم وحكما منا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج، وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قضى عليه
_________
(1) آل عمران الآية (23).(8/521)
أمير المؤمنين علي معاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا أكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك فأنكره عليه الخوارج أيضا، ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف، وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكانا يقال له حروراء بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة، ومن ثم قيل لهم: الحرورية.
وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري، وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي، فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليا فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: "لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا".
وخرجوا شيئا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى الفعل. فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن(8/522)
الأرت وكان واليا لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سرية وهي حامل، فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة.
فهذا ملخص أول أمرهم، ثم انضم إلى من بقى منهم من مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النجيلة، ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولى الخلافة عبد الله ابن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الابط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا، وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة منهم، ومنهم من(8/523)
يدعو أولا ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم، فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب. وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف -بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى- كتابا لخصه الطبري في تاريخه.
وصنف في أخبارهم أيضا الهيثم بن عدي كتابا، ومحمد بن قدامة الجوهري -أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح- كتابا كبيرا، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه 'الكامل'، لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله. قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضى بالتحكيم كفار. والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدا. وقال غيره: بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني، لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. (1)
موقفه من المرجئة:
قال رحمه الله: قوله: (وهو) أي الإيمان (قول وفعل ويزيد وينقص) وفي رواية الكشميهني: "قول وعمل" وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله (وهو) إلى آخره مرفوع لما رآه معطوفاً، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف. والكلام هنا في مقامين: أحدهما كونه قولاً وعملاً، والثاني: كونه يزيد وينقص. فأما
_________
(1) فتح الباري (12/ 351 - 353).(8/524)
القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله. وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا: فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبتت المعتزلة الواسطة. فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.
وأما المقام الثاني: فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص. وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا: متى قبل ذلك كان شكا. قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصدّيق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة. ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض(8/525)
الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: 'تعظيم قدر الصلاة' عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك ابن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم. وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في 'كتاب السنة' عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين. وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة، وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية (1) من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ثم تلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (2) الآية.
ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة،
_________
(1) (9/ 114 - 115).
(2) المدثر الآية (31).(8/526)
وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة. (1)
موقفه من القدرية:
- قال في الفتح: وأما قوله في الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} (2) فقد تمسك بها المعتزلة، وقالوا إن فيها ردا على أهل السنة. والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين: وهو أن الله خالق كل مخلوق، ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئا، والإرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه، فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق، وهي حجة مردودة لأن القدر لا تبطل به الشريعة وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر عليه العقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالثواب، وحرف المسألة أن المعتزلة قاسوا الخالق على المخلوق وهو باطل، لأن المخلوق لو عاقب من يطيعه من أتباعه عد ظالما لكونه ليس مالكا له بالحقيقة، والخالق لو عذب من يطيعه لم يعد ظالما لأن الجميع ملكه فله الأمر كله يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. (3)
_________
(1) فتح الباري (1/ 64 - 65).
(2) الأنعام الآية (148).
(3) الفتح (13/ 449).(8/527)
- وقال: قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) هذه الآية مما تمسك بها المعتزلة لقولهم فقالوا: هذا يدل على أنه لا يريد المعصية، وتعقب بأن معنى إرادة اليسر التخيير بين الصوم في السفر ومع المرض، والإفطار بشرطه. وإرادة العسر المنفية الإلزام بالصوم في السفر في جميع الحالات، فالإلزام هو الذي لا يقع لأنه لا يريده وبهذا تظهر الحكمة في تأخيرها عن الحديث المذكور والفصل بين آيات المشيئة وآيات الإرادة، وقد تكرر ذكر الإرادة في القرآن في مواضع كثيرة أيضا، وقد اتفق أهل السنة على أنه لا يقع إلا ما يريده الله تعالى، وأنه مريد لجميع الكائنات وإن لم يكن آمرا بها. وقالت المعتزلة لا يريد الشر لأنه لو أراده لطلبه، وزعموا أن الأمر نفس الإرادة، وشنعوا على أهل السنة أنه يلزمهم أن يقولوا إن الفحشاء مرادة لله وينبغي أن ينزه عنها، وانفصل أهل السنة عن ذلك بأن الله تعالى قد يريد الشيء ليعاقب عليه، ولثبوت أنه خلق النار وخلق لها أهلا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا؛ وألزموا المعتزلة بأنهم جعلوا أنه يقع في ملكه ما لا يريد. (2)
- وقال: والمراد هنا الإشارة إلى أن من زعم أنه يخلق فعل نفسه يكون كمن جعل لله ندا، وقد ورد فيه الوعيد الشديد فيكون اعتقاده حراما. (3)
الجزولي وضلاله (870 هـ)
_________
(1) البقرة الآية (185).
(2) الفتح (13/ 451).
(3) الفتح (13/ 495).(8/528)
ذكر صاحب 'الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام' نقولاً للجزولي يظهر منها إغراقه في التصوف والضلال منها قوله:
قال رضي الله عنه: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: أنا زين المرسلين، وأنت زين الأولياء. (1)
وقال رضي الله عنه: معشرَ الإخوان ليس هنا معكم إلا جسمي، وأما أنا قد مشيت إليه وصرت معه، معشر الإخوان تهت ووصلت وصولاً لم يصله أحد قطّ. (2)
وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي، من أراد أن ينظر في وجه أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلينظر في وجهك، وقال رضي الله عنه: لا تقولوا رحمكم الله إني آخذ العلم من الأرض أو من السماء، بل آخذه من الملك الحقّ من غير أرض ولا سماء، وقال رضي الله عنه: معشر المريدين انظروا إلى مولاكم وهو معي ليس لي نظر إلا فيه، كماله قد عمّ صدري وعم حياتي وعمني طول حياتي، كماله قد أفناني عما سواه، وقال رضي الله عنه: معشر المريدين فرّحوني بتعظيم ربي وإجلاله وجماله، أنا معه وأنتم لم تشتغلوا بشيء، غبت في أنوار كماله ومشاهدة جلاله وجماله، ألا لعنة الله على من عبر عن مقام غير مقامه. (3)
وقال رضي الله عنه: يا من كان ينظر إليّ في الأرض فانظر إلي في
_________
(1) الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام (ص.47).
(2) الإعلام (ص.47).
(3) الإعلام (ص.47 - 48).(8/529)
السماء وفي العرش وفوق ذلك، أما علمتم أن الأقطاب تحتاج إليهم جميع المكونات هم في مقام النبوة يفشون السر، يا من كان سعيداً فعليك بالمشي إليهم ولو كان من بغداد، المشي إليهم نور ورحمة وسر في القلوب. (1)
وقال: ليس العزيز من تعزز بالقبيلة وحسب الجاه، وإنما العزيز من تعزز بالشرف والنسب، أنا شريف في النسب، جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أقرب إليه من كل ما خلق الله، وعنايتي في الأزل مصبوغة بالذهب والفضة، يا من أراد الذهب والفضة فعليك باتباعنا، ومن تبعنا يسكن في أعلى عليين في دار الدنيا والآخرة، ودولتنا كانت الأمم الماضون تدعو أن يلحقوا بها، ولكن لا يلحق بها إلا من سبقت له السعادة، ودولتنا دولة المجتهدين المجاهدين في سبيل الله القاتلين أعداء الله، ملوك الأرض كلها في يدي وتحت قدمي، معشر المسلمين أما علمتم أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قريب مني وحكمه في يدي، من تبعني فهو متبع له، ومن لم يتبعني فليس بمتبع له، سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنت المهدي، من أراد أن يسعد فليأت إليك، معشر المسلمين كونوا من أمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولا تكونوا من أعدائه بالتكذيب والنكران والغش والخيانة، معشر المسلمين خلق الله لكم من يهديكم في آخر الزمان فاحمدوه، معشر المسلمين لا يبغضنا على دين الله عز وجل إلا من ليس له دنيا ولا آخرة، ولا يحسدنا على طاعة الله عز وجل إلا من ليس له حظ عند الله عز وجل، وقال رضي الله عنه: قيل لي يا عبدي خصصتك بعنايتي في الأزل، فلا أحد يصل إلى عنايتك، يا عبدي سيادتك على أهل المشرق والمغرب الماضين والباقين، يا عبدي وصلتك إلى
_________
(1) الإعلام (ص.48).(8/530)
مقام لا يصل إليه أحد من الواصلين، وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي تاهت العقول فيما أعطيتك، وما بقي لك عندي أكثر وأعظم من قبل إقدامك بالحب والشوق أُثبته يوم القيامة بالعفو والصفح، يا عبدي تنافست الأولياء فيما أعطيتهم ولا يبلغ أحد ما أعطيتك من كرامتي، يا عبدي لو كانت الملائكة كتابا، والأشجار أقلاما، والبحار مداداً، لا يكتبون من أحوالك السنية إلا مقدار ما يكتب الولد الصغير في اللوح من الأسطار، يا عبدي لا يبلغ أحد مقامك من
أوليائي، سبق ذلك في علم الغيب عندي، وعزتي وجلالي لأعطيتك يوم القيامة حكما على أوليائي. (1)
وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي فضلتك على جميع خلقي بكثرة صلاتك على نبيي يا عبدي من أطاعك من الأولياء فقد أطاعني ومن عصاك من الأولياء فقد عصاني، ومن تكبر عليك من أولياء الزمان سلبته من نوري. (2)
ثم ذكر له كرامات منها قوله:
من كرامات القطب الجزولي رضي الله عنه أن بعض من احترم به لما أخرج كرهاً عليه من ضريحه الشريف رأى بعضهم مناما الشيخ رمى بيدي ورجلي من أخرجه في طنجير يغلي بباب قبته، فأصبح المجترئ المذكور معطَّل الجوارح المذكورة وما زال يُبلى بالمصائب والعياذ بالله من التجرئ على أوليائه، فإن الله تعالى يغارُ لهم، وهذه القضية وقعت في عصرنا، أصحبنا الله
_________
(1) الإعلام (ص.48 - 49).
(2) الإعلام (ص.51).(8/531)
تعالى السلامة والعافية في الدارين، وأدام ستره علينا آمين. (1)
وقال: وقد ذكر في 'تحفة الإخوان' العلامة الطاهري ما نصه: ومن كراماته رضي الله عنه ما أخبرني سيدي ومولاي قاسم في هذا المعنى: قال لي رحمه الله: كنت أعرف رجلاً من أصحاب سيدي محمد بن ناصر رحمه الله، وكان أخذ عنه ولازمه إلى أن مات، فلم يستخلف من بعده أحداً، لا ولده سيدي أحمد ولا غيره، وظهر له أنه حصل على شيء وأنه استغنى عن معرفة الأشياخ، فتولته الشياطين، وصحبه الجان، وجعلوا ينصحونه في زعمه ويطلعونه على العجائب مما هو مخصوص بجنسهم، ويطوفونه على قبائلهم حتى كان يعرف جمّاً غفيرا منهم، فركن لذلك وفُتن به، وشغله عن ورده وعبادته، وجعل يكثر من لغو الكلام والفضول ويهرتل ولا يعلم ما يقول، قال مولاي قاسم رحمه الله: فكان ذلك الرجل يحدثني بما وقع له لما تحقق ذلك من نفسه، ولما سبق له من السعادة ببركة شيخه، قال لي: لما اشتد علي الحال جعلت أرقى على الآكام والجبال وأنادي بأعلى صوتي: الغياث الغياث يا أولياء الله، الغياث الغياث، تشفعت لكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويذكر ويعيّن كل من يعرف من الأولياء باسمه، ويكثر من النداء على شيخه، قال فبينما أنادي في بعض الأيام إذ أقبلت علي كتيبة من الخيل، فلما دنت مني جاءني عدو من الجن كان يعرفني وخطفني ووضعني على عنقه وفرّ بي أمامهم، فجعلت الكتيبة من الخيل تتبعنا وهو يسبق أمامهم وهم في طلبه، يسمع جريهم وصياحهم وجعلوا يتأخرون عنا زمراً زمراً حتى لم يبق في طلبنا إلا أربعة
_________
(1) الإعلام (ص.93).(8/532)
رجال؛ اثنان منهم على فرسين أحدهما أدهم والآخر أشهب، واثنان طائران. قال: فخاض بي البحر فخاضوا في طلبه فخرج إلى البر فتبعونا، فلما تحقق الهلاك وتعذر له منهم الفكاك رماني وفر أمامهم، فلحقوه وقتلوه وجاؤوا بي.
فقلت لهم: نشدتكم الله أخبروني من أنتم الذين تفضل الله علي بهم؟ قال: فقال له صاحب الفرس الأشهب: أنا عبد السلام بن مشيش، وقال صاحب الأدهم: أنا أبو يعزى، وقال أحد الطيور: أنا محمد بن سليمان الجزولي أو قال: أبو سلهام، الشك من مولاي قاسم رحمه الله، قال: والغالب على ظني أنه قال: أبو سلهام، وقال الرابع: أنا عبد الله بن إبراهيم -يعني شيخنا مولانا عبد الله الشريف- نفعنا به وحشرنا في زمرته. انتهى ما كتبت في 'إظهار الكمال'. (1)
وله كتاب 'دلائل الخيرات' جمع فيه من الحديث الضعيف والمكذوب ومن الصلوات المبتدعة صيغةً وعدداً الشيء الكثير ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء وأوصاف لم ترد في الكتاب ولا في السنة إلى كثير من العقائد الباطلة التي بثها في كتابه كقوله بوحدة الوجود وكتوسله بالمخلوقات وذلك مبسوط في كتابنا 'وقفات مع الكتاب المسمى بدلائل الخيرات' وهو مطبوع متداول فليرجع إليه من شاء الوقوف على ذلك.
وإليك بعض النماذج من هذا الكتاب المشؤوم:
قال في الدلائل مقرِّراً لعقيدة وحدة الوجود (2): اللهم جدد من صلواتك
_________
(1) الإعلام (ص.96 - 97).
(2) (ص.38).(8/533)
التامات وتحياتك الزاكيات على الذي أقمته لك ظلاًّ، وجعلته لحوائج خلقك قبلة ومحِلاًّ، وأظهرته بصورتك، واخترته مستوى لتجليك، ومنزلاً لتنفيذ أوامرك ونواهيك في أرضك وسمواتك، وواسطة بينك وبين مكوَّناتك. (1)
وقال وهو يتوسل بالمخلوقات: أسألك بحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام والمشعر الحرام وقبر نبيك عليه السلام. (2)
وقال وهو يمجد الله بزعمه: يا أزلي يا أبدي يا دهري يا ديمومي. (3)
وقال وهو يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف لا تليق إلا بالله: اللهم صل على مجلي الظلمة اللهم صل على مولي النعمة اللهم صل على موتي الرحمة. (4)
ووصفه أيضاً بقوله: محيي، مدعو، مجيب، متين، غوث، غياث، جبار، مهيمن، شاف، كاشف الكرب، رافع الرتب، صاحب الفرج، حق، عفو، وكيل.
وسماه أيضاً بأسماء لم ترد في الكتاب ولا في السنة، بل بعضها مستهجن لا يقره عاقل كتسميته بأحيد، رسول الراحة، إكليل، حريص عليكم، معلوم، شهير، سراج، مصباح، هدى، قدم صدق، رحمة، بشرى، غيث، عروة وثقى، حزب الله، النجم الثاقب، أجير، مبرّ، مقدس، روح القدس، روح الحق، روح القسط، موصول، مفتاح، دليل الخيرات، مصحح الحسنات، مقيل العثرات، صفوح عن الزلات، صاحب القدم، صاحب الإزار، صاحب الرداء، صاحب القضيب، أذن خير، عين النعيم، عين الغرّ،
_________
(1) انظر كتب ليست من الإسلام للإستانبولي (ص.28).
(2) الدلائل (ص.122 - 123).
(3) الدلائل (ص.152).
(4) الدلائل (ص.62).(8/534)