مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم، ممن حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مجالستهم ومكالمتهم، وأمرنا أن لا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم، فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس، وكفر المتقدمين، وأنكروا على الصحابة والتابعين، وردوا على الأئمة الراشدين، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. ثم ذكر المأثور عن ابن عباس، وجوابه لنجدة الحروري، ثم حديث "الصورة" وذكر أنه صنف فيه كتاباً مفرداً، واختلاف الناس في تأويله. ثم قال: وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة -إن شاء الله. ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها، وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم "الصديق" وأنه أفضل الأمة. ثم قال: وكان الاختلاف في "خلق الأفعال" هل هي مقدرة أم لا؟ قال: وقولنا فيها أن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر. ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر ومسألة الأسماء والأحكام وقال: قولنا فيها أنهم مؤمنون على الإطلاق وأمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد، فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال، وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه. وقال: قولنا أنه يزيد وينقص.
قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقاً وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه صفة الله منه بدأ قولاً وإليه يعود حكماً، ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد أن الله يرى في القيامة وذكر الحجة.(5/333)
ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة وقد بدأت أن أذكر حكام الجمل من العقود. فنقول ونعتقد أن الله عز وجل له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سمواته بكل أسمائه وصفاته، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (1) {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} (2) ولا نقول إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه لأنه عالم بما يجري على عباده ثم يعرج إليه. إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء، لا للفناء. إلى أن قال: ونعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى (3). إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال: «هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار» ونعتقد أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - "حوضاً" ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع وذكر الصراط والميزان والموت وأن المقتول قتل بأجله واستوفى رزقه.
إلى أن قال: ومما نعتقده أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول: «ألا هل من سائل» الحديث (4)، وليلة النصف من شعبان (5)، وعشية عرفة (6)، وذكر الحديث في ذلك. قال: ونعتقد أن الله
_________
(1) طه الآية (5).
(2) السجدة الآية (5).
(3) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 148) والبخاري (1/ 605/349) ومسلم (1/ 145/162) والنسائي (1/ 241 - 243/ 449) وابن ماجه (1/ 448/1399).
(4) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(5) انظر تخريجه في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).
(6) انظر تخريجه في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).(5/334)
تعالى كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأن الخلة غير الفقر، لا كما قال أهل البدع. ونعتقد أن الله تعالى خص محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية. واتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً. ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (1) الآية. ونعتقد المسح على الخفين، ثلاثاً للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم، ونعتقد الصبر على السلطان من قريش، ما كان من جور أو عدل، ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد. والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة. والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب، إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمداً فهو كافر، والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحداً جنة ولا ناراً حتى يكون الله ينزلهم، والمراء والجدال في الدين بدعة.
ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إلى الله، ونترحم على عائشة ونترضى عنها، والقول في اللفظ والملفوظ، وكذلك في الاسم والمسمى بدعة، والقول في الإيمان مخلوق، أو غير مخلوق بدعة وأن مما نعتقده: أن الله لا يحل في المرئيات، وأنه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه مستوٍ على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق -حيث ما تلي ودرس وحفظ- ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً واتخذ نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - خليلاً وحبيباً، والخلة لهما منه، على خلاف ما قاله المعتزلة: إن الخلة الفقر والحاجة.
_________
(1) لقمان الآية (34).(5/335)
إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائزة عليها الكيف، فأما صفاته تعالى فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنها التشبيه، فالإيمان بها واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط. (1)
موقف السلف من عضد الدولة الشيعي (372 هـ)
بيان رفضه:
جاء في السير: نقل أنه لما احتضر ما انطلق لسانه إلا بقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} (2). ومات بعلة الصرع، وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي، وبنى عليه المشهد، وأقام شعار الرفض، ومأتم عاشوراء، والاعتزال، وأنشأ ببغداد البيمارستان العضدي وهو كامل في معناه، لكنه تلاشى الآن. (3)
أبو سعيد بن أخي هشام الربعي (4) (373 هـ)
أبو سعيد خلف بن عمر بن أخي هشام الربعي وقيل: عثمان بن عمر
_________
(1) نقلاً عن شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 71 - 80).
(2) الحاقة الآيتان (28و29).
(3) السير (16/ 250).
(4) تاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.499) ومعالم الإيمان (3/ 99 - 104) والديباج (1/ 347 - 349).(5/336)
المعروف بابن أخي هشام الربعي، الحناط الفقيه، قرأ على أحمد بن نصر وأبي بكر بن اللباد وأبي القاسم الطرزي، وغيرهم. كان إمام الزمان وواحد الفقهاء في عصره وأعلمهم بمذاهب أهل المدينة ما اختلف فيه وما اتفق عليه. وشيخ المالكية بإفريقية. وكان يجتمع مع أبي الأزهر بن مغيث وأبي محمد بن أبي زيد ويتناظرون. توفي يوم الجمعة السابع من صفر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في معالم الإيمان: قال أحمد بن القاضي النعمان: يا أبا سعيد لم تقولون: إن من قذف عائشة يقتل؟ وإنما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وجلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً أهل الإفك ثمانين جلدة، فلم لم تأخذوا بالقرآن، ولا بما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تسليماً؟ فقال أبو سعيد: قال الله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (2) وقال: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (3) فجلد من قذفها قبل البراءة بالقرآن، وبعد القرآن من قذفها فقد رد القرآن، ومن رد حرفاً من القرآن فقد وجب قتله بإجماع. (4)
_________
(1) النور الآية (4).
(2) النور الآية (26).
(3) النور الآية (26).
(4) المعالم (3/ 103 - 104).(5/337)
أبو عثمان المغربي الصوفي (373 هـ)
موقفه من الصوفية:
هذا الرجل صوفي وله كلمة جيدة في الرد على الصوفية، والقول فيه ما قلنا في الجنيد قبله فلينظر.
جاء في السير عنه قال: علوم الدقائق علوم الشياطين، وأسلم الطرق من الاغترار لزوم الشريعة. (1)
محمد المَلَطِي (2) (377 هـ)
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن أبو الحسين الملطي المقرئ الفقيه نزيل عسقلان. قال الداني: أخذ القراءة عرضاً عن أبي بكر بن مجاهد وأبي بكر بن الأنباري وجماعة مشهورة بالثقة والإتقان، وسمعت إسماعيل بن رجاء يقول: كان أبو الحسين كثير العلم كثير التصنيف في الفقه جيد الشعر. وله قصيدة في وصف القراءة. وقد حدث عن عدي بن عبد الباقي وخيثمة الأطرابلسي وأحمد بن مسعود الوزان. روى عنه إسماعيل بن رجاء وعمر بن أحمد الواسطي وداود بن مصحح وآخرون. توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
_________
(1) السير (16/ 321).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.615 - 616) ومعرفة القراء (1/ 343 - 344) طبقات الشافعية للسبكي (2/ 112) وغاية النهاية (2/ 67).(5/338)
له من الآثار السلفية:
'التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع'. وقد طبع الكتاب بحمد الله، وزينه بالنقل عن أئمة السلف كخشيش بن أصرم النسائي، وقد أغضب حامل راية الجهمية في الوقت الحاضر فدنسه بتعاليقه المسمومة على عادته في كل كتاب ينجسه.
موقفه من المشركين:
قال رحمه الله: فافترقت الزنادقة على خمس فرق، وافترقت منها فرقة على ست فرق، فمنهم:
المعطلة: الذين يزعمون أن الأشياء كائنة من غير تكوين، وأنه ليس لها مكون ولا مدير، وأن هذا الخلق بمنزلة النبات في الفيافي والقفار، يموت سنة شيء ويحيى سنة شيء وينبت شيء، وأنها تغلب عليها الطبائع الأربعة في أبدانها فإذا غلبت إحداهن قتلته لأنه يموت الصغير ويحيى الكبير، وإن أباه خلقه، وخلق الأب أبوه لا يعرفون آدم، وإن آدم له آباء، تعالى الله عما يقولون.
ومنهم المانوية: يزعمون أن إلهين وخالقين، خالق للخير والنور والضياء وخالق للشر والظلمة والبلاء، نزهوا الله وزعموا أنه لم يخلق الظلمة والبلاء، والهوام والسباع، فجعلوا معه لما نزهوه شريكاً خلق هذه الأشياء، وزعموا أن الله تعالى خلق الروح الجاري في الجسد، فقالوا: ألا ترى الروح إذا فارق الجسد أنتن، وأن الخالق الآخر عندهم خلق الجسد والله لا يخلق نتناً ولا قذراً، فجعلوا للخلق كلهم خالقين تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، وإنما(5/339)
سموا مانية لأن رجلاً كان يقال له ماني، زعموا أنه نبيهم، وكان في زمن الأكاسرة فقتله بعضهم. وقد قال الله عز وجل في كتابه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} (1)، فهذان شاهدان.
ومنهم المزدكية: وهم صنف من الزنادقة وذلك أنهم زعموا أن الدنيا خلقها الله خلقاً واحداً وخلق لها خلقاً واحداً وهو آدم جعلها له يأكل من طعامها ويشرب من شرابها، ويتلذذ بلذائذها، وينكح نساءها، فلما مات آدم جعلها ميراثاً بين ولده بالسوية، ليس لأحد فضل في مال ولا أهل، فمن قدر على ما في أيدي الناس وتناول نساءهم بسرقة، أوخيانة، أو مكر، أو خلابة، أو بمعنى من المعاني فهو له مباح سائغ وفضول ما في أيدي ذوي الفضل محرم عليهم حتى يصير بالسوية بين العباد سواء، وإنما سموا مزدكية لأنه ظهر في زمن الأكاسرة رجل يقال له 'مزدك' فقال هذه المقالة.
كذب أعداء الله، والله يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} (2) وقال: {يَا أَيُّهَا
_________
(1) المؤمنون الآية (91).
(2) الزخرف الآية (32).(5/340)
الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} (1).
ومنهم العبدكية: زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت، من حين ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام، فحل لك أن تأخذ القوت من الحرام من حيث كان، وإنما سموا العبدكية لأن 'عبدك' وضع لهم هذا ودعاهم إليه وأمرهم بتصديقه.
كذب أعداء الله، قال الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وما أحل الله القوت إلا للمضطرين، ولم تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي، كذا رواه عبد الله بن عمرو، وقال رسول الله: «لغني ولا لذي مرة سوي» (3).اهـ (4)
موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله في كتابه التنبيه: واعلم أن هؤلاء الفرق من الإمامية
_________
(1) النساء الآيتان (29و30).
(2) البقرة الآية (275).
(3) أخرجه: أبو داود (2/ 285 - 286/ 1634) والترمذي (2/ 42/652) والحاكم (1/ 407) من طريق ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً. وقال الترمذي: "حسن". وله شواهد انظرها في الإرواء (3/ 381 - 385).
(4) التنبيه والرد على أهل الأهواء (91 - 93).(5/341)
الذين ذكرناهم ونذكرهم أيضاً؛ كفار غالية، قد خرجوا من التوحيد والإسلام، وسأذكر الحجة عليهم في الحجاج على أصناف الملحدين. (1)
- وقال: وما قصد هشام -أي ابن الحكم الرافضي- بقوله في الإمامة قصد التشيع ولا محبة أهل البيت، ولكن طلب بذلك هدَّ أركان الإسلام، والتوحيد، والنبوة، فأراد هدمه، وانتحل في التوحيد التشبيه، فهدم ركن التوحيد، وساوى بين الخالق والمخلوق، ثم انتحل محبة أهل البيت ونشر عنهم وطعن على الكتاب والسنة، وكفر الأمة التي هي حجة الله على خلقه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكفرهم ونسب إليهم الردة والنفاق، فعمل على هدم الإسلام العمل الذي لم يقدم عليه أحد من أعداء الإسلام، فالله يحكم فيه يوم القيامة بسوء كيده.
فزعم هشام لعنه الله أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علي في حياته بقوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (2) وبقوله لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (3)، وبقوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (4)، وبقوله لعلي: «تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» (5)، وأنه وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفته في ذريته وهو خليفة الله في أمته،
_________
(1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (24).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي سنة (145هـ).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف سعيد بن محمد الحداد المغربي سنة (302هـ).
(4) أخرجه الطبراني (11/ 65 - 66/ 11061) والحاكم (3/ 126) من حديث ابن عباس وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأبو الصلت ثقة مأمون". وتعقبه الذهبي في التلخيص بقوله: "بل موضوع وقال عن أبي الصلت: لا والله لا ثقة ولا مأمون".
(5) أحمد (3/ 82) والحاكم (3/ 122 - 123) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وابن حبان في صحيحه (الإحسان: 15/ 385/6937)، قال الهيثمي في المجمع (9/ 133): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير خطر بن خليفة وهو ثقة".(5/342)
وأنه أفضل الأمة وأعلمهم، وأنه لا يجوز عليه السهو ولا الغفلة، ولا الجهل، ولا العجز، وأنه معصوم وأن الله عز وجل نصبه للخلق إماما لكي لا يهملهم، وأن المنصوص على إمامته كالمنصوص على القبلة وسائر الفرائض، وأن الأمة بأسرها من الطبقة الأولى بايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فكفروا وارتدوا، وزاغوا عن الدين وأن القرآن نسخ وصعد به إلى السماء لردتهم، وأن السنة لا تثبت بنقلهم إذ هم كفار، وأن القرآن الذي في أيدي الناس قد انتقل ووضع أيام عثمان، وأحرق المصاحف التي كانت قبل. وأن الأمة قد داهنت، وغيرت، وبدلت، ونافقت، لأحقاد كانت لعلي فيهم من قتله آباءهم وعشيرتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزواته.
وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر، وعثمان، وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين عندهم من شر الأمة وأكفرها يلعنونهم ويتبرءون منهم، وأنه ما بقي مع علي على الإسلام إلا أربعة: سلمان، وعمار، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود، وأن أبا بكر مر بفاطمة عليهما السلام فرفس في بطنها فأسقطت وكان سبب علتها وموتها، وأنه غصبها فدك، فذكر أشياء كثيرة مما كاد بها الإسلام من المخاريق، والأباطيل والزور، التي لا تجوز عند العلماء، ولا تخفى إلا على أهل العمى والغباء. (1)
- وقال رحمه الله أيضاً: والفرقة الثالثة عشرة من الإمامية: هم الإسماعيلية، يتبرؤون ويتولون، ويقولون بكفر من خالف علياً، ويقولون
_________
(1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (24 - 26).(5/343)
بإمامة الاثني عشر، ويصلون الخمس، ويظهرون التنسك والتأله، والتهجد، والورع. ولهم سجادات وصفرة في الوجوه وعمش في أعينهم من طول البكاء والتأوه على المقتول بكربلاء: الحسين بن علي ورهطه رضي الله عنهم، ويدفعون زكاتهم وصدقاتهم إلى أئمتهم، ويتحنئون بالحناء، ويلبسون خواتيمهم في أيمانهم، ويشمرون قمصهم وأرديتهم كما تصنع اليهود، ويتحذون بالنعال الصفر، وينوحون على الحسين عليه السلام، واعتقادهم العدل، والتوحيد، والوعيد، وإحباط الحسنات مع السيئات. ويكبرون على جنائزهم خمساً، ويأمرون بزيارة قبور السادة.
والفرقة الرابعة عشرة من الإمامية: هم أهل قم: قولهم قريب من قول الإسماعيلية غير أنهم يقولون بالجبر والتشبيه يجمعون بين الظهر والعصر في أول الزوال، وبين المغرب والعشاء في جوف الليل آخر وقت المغرب عندهم، ويصلون صلاة الفجر بين طلوع الفجر الأول الذي يسمى ذنب السرحان، ويمسحون في الوضوء بالماء على ظهور أقدامهم وأسفلها، ولهم طعن على السلف، وشتم عظيم حتى يبلغ الواحد منهم أن يأخذ شيئاً أو مثالاً يحشوه تبناً أو صوفاً يسميه أبا بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، ويضربه بالعصى حتى يهريه ليشفي بذلك ما في قلبه في الغل للذين آمنوا، مع أشياء يقبح ذكرها من مذاهبهم، مذاهب السفلة العمي إخوة القردة، بل إخوة القردة أفضل منهم. (1)
موقفه من الجهمية:
_________
(1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (32 - 33).(5/344)
- قال رحمه الله: وأنكر جهم أن يكون لله سمع وبصر، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه، ووصف نفسه في كتابه قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1)، ثم أخبر عن خلقه فقال عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} (2). فهذه صفة من صفات الله أخبرنا أنها في خلقه، غير أنا لا نقول: إن سمعه كسمع الآدميين، ولا بصره كأبصارهم. وقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} (3) وقال: {فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} (4) وقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} (5) وقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} (6)، وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} (7)، وقال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} (8) وقال: {كَيْ
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) الإنسان الآية (2).
(3) آل عمران الآية (181).
(4) الشعراء الآية (15).
(5) الزخرف الآية (80).
(6) مريم الآية (42).
(7) طه الآية (46).
(8) طه الآية (39).(5/345)
نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} (1)، وقال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} (2)، وقال: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (3)، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4)، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (5)،
وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (6)، وقال: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (7)، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (8)، وقال: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} (9)، ثم قال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (10) فقد وصف الله من نفسه أشياء جعلها في خلقه والذي يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (11). وإنما أوجب الله على المؤمنين اتباع كتابه وسنة رسوله. (12)
_________
(1) طه الآيات (33 - 35).
(2) الشعراء الآيتان (218و219).
(3) التوبة الآية (105).
(4) ص الآية (75).
(5) الحج الآية (10) ..
(6) الرحمن الآية (27).
(7) البقرة الآية (144).
(8) الفرقان الآية (58).
(9) آل عمران الآية (169).
(10) الدخان الآية (56).
(11) الشورى الآية (11).
(12) التنبيه والرد على أهل الأهواء (121 - 122).(5/346)
- وقال رحمه الله عن المعتزلة: والطائفة السادسة من مخالفي أهل القبلة هم المعتزلة وهم أرباب الكلام، وأصحاب الجدل، والتمييز، والنظر، والاستنباط، والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم، وهم عشرون فرقة، يجتمعون على أصل واحد لا يفارقونه، وعليه يتولون، وبه يتعادون، وإنما اختلفوا في الفروع. (1)
- وقال: واعلم أن للمعتزلة من الكلام ما لا أستجيز ذكره لأنهم قد خرجوا عن أصول الإسلام إلى فروع الكفر. (2)
- وقال: وكيف تدبرت قولهم عرفت جهلهم ووسواسهم، وهوسهم، لأنهم يختلفون في الأجساد والأرواح من الخلق كلهم، إنسهم وجانهم، ولا يدعون ذكر بهيمة، ولا طائر، ولا شيء خلقه الله عز وجل إلا تكلموا عليه، ووضعوا قياساً، ثم عدلوا عن ذلك كله، فلم يرضوا به، وهم لا يعلمون، فقالت طائفة: بظاهر التنزيل، ورد المتشابه إلى المحكم والترك وهم أهل العراق وبينهم في ذلك خلاف ومنازعات وأشياء تخرج إلى الكفر والتعطيل والتخليط. (3)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله في كتابه التنبيه: فأما الفرقة الأولى من الخوارج: فهم المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم في الأسواق فيجتمع الناس على غفلة
_________
(1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (35 - 36).
(2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (ص.41).
(3) التنبيه والرد على أهل الأهواء (ص.41).(5/347)
فينادون: لا حكم إلا لله، ويضعون سيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا يزالون يقتلون حتى يقتلوا، وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع أو يقتل، فكان الناس منهم على وجل وفتنة، ولم يبق منهم اليوم أحد على وجه الأرض بحمد الله. فمتى تعرضت هذه الفرقة من الشراة يقال لهم: أخبرونا عن قولكم: "لا حكم إلا لله" ماذا تريدون؟ فإنهم يقولون: لا تحكيم في دين الله لأحد من الناس إلا لله، وهم لا يحكمون بينهم حكماً، فلما حكم أبو موسى الأشعري بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، وخلع علياً رضي الله عنه، قال هؤلاء: علي كفر بجعل الحكم إلى أبي موسى الأشعري ولا حكم إلا لله.
والشراة كلهم يكفرون أصحاب المعاصي ومن خالفهم في مذهبهم مع اختلاف أقاويلهم ومذاهبهم.
يقال لهم: من أين قلتم: لا حكم إلا لله؟ وقد حكم الله الناس في كتابه في غير موضع. قال عز وجل في جزاء الصيد: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1) وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} (2). وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (3) يعني الزوج والزوجة.
_________
(1) المائدة الآية (95).
(2) النساء الآية (128).
(3) النساء الآية (35).(5/348)
وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) وأيضاً: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} (3).
فهذا محكم القرآن قد جعل أحكاماً كثيرة إلى العلماء، وإلى الأمراء من الناس ينظرون فيه مما لم ينزل بيانه من عند الله. فكيف قلتم: لا حكم إلا لله؟ فإن أبوا هذا الشرح، ومحكم الكتاب ظهر جهلهم. وإن قالوا به تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق.
ويقال لهم: لا يحل دم مؤمن يهرق إلا بثلاثة خلال: إما زنى بعد إحصان، أو ارتداد بعد إيمان، أو أن يقتل نفساً عمداً فيقتل به (4)، ثم لم يطلق قتل أحد من أهل القبلة، فبم استحللتم قتل الناس؟ فإن حاولوا حجة لم يجدوها، وإن مروا على جهلهم بغير حجة بان خطؤهم.
ويقال لهم في تكفير الناس: لم كفرتم من أقر بالله ورسوله ودينه ثم أتى كبيرة؟ فإن قالوا: قياساً على قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ
_________
(1) الشورى الآية (10).
(2) النساء الآية (59).
(3) النساء الآية (83).
(4) أخرجه من حديث ابن مسعود: أحمد (1/ 382) والبخاري (12/ 247/6878) ومسلم (3/ 1302/1676) وأبو داود (4/ 522/4352) والترمذي (4/ 12 - 13/ 1402) والنسائي (7/ 90 - 91/ 4027) وابن ماجه (2/ 848/2534).(5/349)
حَبِطَ عَمَلُهُ} (1) ثم قال عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (2)، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (3)، فلم يجعل الله بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، ومن كفر وحبط عمله فهو مشرك، والإيمان رأس الأعمال، وأول الفرائض في عمل، ومن ترك ما أمره الله به فقد حبط عمله وإيمانه، ومن حبط عمله فهو بلا إيمان، والذي لا إيمان له مشرك كافر.
يقال لهم: أخطأتم القياس وتركتم طريق العلم، وذلك أن الله عز وجل بين في كتابه المحكم أن الفاسق له منزلة بين الإيمان والكفر بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} (4)، ولم يقل: إنهم مع فسقهم مؤمنون كما قالت المرجئة، ولا قال إنهم مع فسقهم كفار كما قلتم أنتم، وأثبت لهم اسم الفسق فقط، فهم فساق لا مؤمنون ولا كافرون كما قال الله عز وجل وأجمعت عليه الأمة، والأمة مجمعة على اسم الفسق لأهل الكبائر، وإنما هو اسم ومنزلة بين الكفر والإيمان أجمعت الأمة على ذلك، وإنما ذهب من ذهب إلى تكفير أهل الكبائر من أهل القبلة بعد
_________
(1) المائدة الآية (5).
(2) الإنسان الآية (3).
(3) التغابن الآية (2).
(4) النور الآية (4).(5/350)
القول بفسقهم. وكذلك المرجئة إنما سموا أهل الكبائر مؤمنين بعد ما سموهم فاسقين لأن الله عز وجل سماهم فاسقين، ولم يتهيأ لهم أن يزيلوا اسم الفسق عنهم، فاجتمعوا على فسقهم، ثم افترقوا إلى غير ذلك.
ويقال لهم أيضاً: لِمَ صيرتم الكبائر والصغائر شيئاً واحداً؟ والله عز وجل قد فرق بين الصغائر والكبائر بقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} (1)، يعني من لم يعمل الكبائر، فإن حاولوا حجة في تكفير الأمة لم يجدوا. وإن جعلوا الذنوب كلها كبائر لم يجدوا إلى الحجة سبيلاً من عقل ولا سمع. (2)
- وقال أيضاً: الحرورية: يقولون بتكفير الأمة ويتبرؤون من الختنين، ويتولون الشيخين، ويسبون، ويستحلون الأموال والفروج، ويأخذون بالقرآن ولا يقولون بالسنة أصلاً، وإذا تطهر منهم الرجل أو المرأة للصلاة لا يبرح ولا يمشي أصلاً حتى يصلي في المكان الذي تطهر فيه، وزعموا أنه إذا مشى الرجل تحرك شرجه وانتقضت طهارته، ويستنجون بالماء، وإذا خرجت منهم الريح لم يتطهروا للصلاة خلافاً لجميع الأمة، ولا يصلون في السراويل، ويقولون: السراويل جب الفقاح، وتقاتل نساؤهم على الخيل مضمرات كما يقاتل رجالهم، وهم بناحية سجستان، وهراة، وخراسان، وهم عالم كثير لا يعرف عددهم إلا الله، وهم أصحاب خيل وشجاعة. (3)
_________
(1) النساء الآية (31).
(2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (47 - 50).
(3) التنبيه والرد على أهل الأهواء (53).(5/351)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله في حديثه عن المرجئة: ومن المرجئة صنف زعموا: أن الإيمان معرفة بالقلب لا فعل باللسان، ولا عمل بالبدن، ومن عرف الله بقلبه أنه لا شيء كمثله، فهو مؤمن وإن صلى نحو المشرق أو المغرب وربط في وسطه زناراً.
وقالوا: لو أوجبنا عليه الإقرار باللسان أوجبنا عليه عمل البدن حتى قال بعضهم: الصلاة من ضعف الإيمان، من صلى فقد ضعف إيمانه. (1)
- وقال: ومنهم صنف زعموا: أن إيمانهم كإيمان جبريل، وميكائيل، والملائكة المقربين والأنبياء.
قلنا نحن: كيف يمكنهم هذه الدعوى والملائكة لم يعصوا الله، والأنبياء صفوة الله؟ ومنهم صنف زعموا: أنهم مؤمنون مستكملون للإيمان ليس في إيمانهم نقص ولا لبس؛ وإن زنى أحدهم بأمه أو بأخته وارتكب العظائم وأتى الكبائر والفواحش وشرب الخمر وقتل النفس وأكل الحرام والربا وترك الصلاة والزكاة والفرائض كلها، واغتاب، وهمز، ولمز، وتحدث. وهذا هو الجهل القوي، كيف يستكمل الإيمان من خالف شروطه وخصاله وشرائعه؟
ألا ترى أن في كتاب الله إيماناً مقبولاً وإيماناً مردوداً؟ فمن أدى حقيقته فقد ادعى علم ما لم يعلم فكيف بمن خالفه أجمع؟ وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري يقولان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن، ولا يشرب
_________
(1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (149).(5/352)
الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (1). وقال أبو هريرة: إنما الإيمان نزه فمن زنى فارق الإيمان فإن لام نفسه راجعه الإيمان (2). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أيما عبد زنى نزع الله منه الإيمان، فإن شاء رده عليه وإن شاء منعه منه (3).
ومنهم صنف زعموا: أنهم مؤمنون حقاً كحقيقة أهل الجنة الذين وصف الله تحقيقهم {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (4) ومن زعم أنه في الجنة فهو في النار ومن زعم أنه عالم فهو جاهل ومن زعم أنه صادق -يعني في إيمان- فهو كاذب.
ومنهم صنف زعموا: أن إيمانهم قائم أبداً لا يزيد وإن عمل الحسنات العظام، وورع في الدين وترك الحرام وحج البيت دائماً وصلى أبداً أو صام. ولا ينقص وإن عمل السيئات والكبائر والفواحش وركب الحرام جاهراً، أو ترك الصلاة ولم يصم ولم يحج أبداً.
قال أهل العلم أجمع: هؤلاء مخالفون للقرآن يقول الله عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (5) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
_________
(1) أخرجه من حديث أبي سعيد: الطبراني في الأوسط (1/ 324 - 325/ 538) والبزار (مختصر الزوائد (1/ 103 - 104/ 49). قال الهيثمي في المجمع (1/ 100 - 101): "وفي إسناد الطبراني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وثقه العجلي، وضعفه أحمد وغيره لسوء حفظه" وقد تقدم الحديث عند الجماعة من حديث أبي هريرة. انظر مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أبي هريرة سنة (58هـ).
(3) تقدم تخريجه في مواقف ابن عباس سنة (68هـ).
(4) الأنفال الآية (4).
(5) الفتح الآية (4).(5/353)
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} (1).اهـ (2)
- وقال أيضاً في معرض الحجاج معهم: وينبغي أن يقول لهم: أخبرونا عن الإيمان: ما هو؟ فإن قالوا: (لا ندري) سقطت مواربة كلامهم، وصاروا بمنزلة من يقول الشيء على الجهل، والجاهل لا حجة له، وإن قالوا: (الإيمان هو الإقرار) فقد صدقوا، يقال لهم: فالإقرار يكون باللسان أو بالقلب؟ فإن قالوا: (باللسان فقط) يقال لهم: فالمنافقون الذين أقروا بألسنتهم، وأسروا الشرك، أهو شيء صح لهم الإيمان إذا أقروا بألسنتهم؟ والإيمان عندكم الإقرار باللسان.
فإن قالوا: (هؤلاء أقروا بألسنتهم وأسروا هذه فلم يصح إيمانهم) نقضوا قولهم؛ لأنهم قد اعترفوا أن القول باللسان لا يصح إلا مع إقرار بالقلب، وإن شك القلب ببعض إقرار اللسان فيجب عليهم حينئذ أن يقولوا: الإيمان قول باللسان وإقرار بالقلب، والإقرار بالقلب عمل، بل هو أصل كل الأعمال التي بالجوارح، لأن الجوارح عن القلب تصدر، وإذا كان كذلك فقد وجب أن يقولوا: إن الإيمان قول وعمل، وينقضوا أصلهم: إن الإيمان قول بلا عمل. وأيضاً إذا أقروا أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب؛ لزمتهم أن يقولوا: وعمل بالجوارح، فإن أبوا أن يقولوا ذلك ردوا إلى الكلام الأول، فبان
_________
(1) الحجرات الآية (2).
(2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (153 - 155).(5/354)
جهلهم، وإن أجازوا ذلك تركوا قولهم وقالوا: (الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح يزيد وينقص). وهذا هو الحق لا يجوز غيره.
ويقال لهم أيضاً: أخبرونا أفترض الله على عباده فرائض فيها أمر ونهى؟ فإن قالوا: (لا) جهلوا وكابروا، وإن قالوا: (نعم) قيل لهم: فما تقولون فيمن أدى إلى الله ما أمر به وانتهى عما نهاه؟ أهو كمن عصاه في أمره ونهيه؟ فإن قالوا: (هما سواء عند الله وعندنا) جعلوا المعصية كالطاعة والطاعة كالمعصية، وهذا جهل وكفر ممن قاله، وإن قالوا: (الطاعة غير المعصية وليس من أطاع الله في أمره ونهيه كمن عصاه) تركوا قولهم وقالوا بالحق.
ويقال لهم: أخبرونا عن قول الله تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (1) وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} (2)، أهذا شيء قاله على حقيقة القول أم على المجاز؟ فإن قالوا: (على المجاز) جعلوا إخبار الله عن وعده على المجاز، وهذا كفر ممن قاله لأن أحداً لا يتيقن حينئذ بخبره إذا لم يكن له حقيقة وصحة. وإن قالوا: (على حقيقة) يقال لهم: أخبر الله عز وجل أنه لا يستوي عنده الولي والعدو.
_________
(1) الجاثية الآية (21).
(2) العنكبوت الآية (4).(5/355)
ويقال لهم: أخبرونا عمن زنا وأتى شيئاً من الكبائر أترون عليه التوبة أم لا؟ فإن قالوا: (لا) بَانَ جهلهم، وإن قالوا: (نعم) قيل لهم: لأي شيء يتوب؟ فإن قالوا: (يقبل الله توبته، ويغفر ذنبه) تركوا قولهم وجعلوا لأهل المعاصي توبة وغفراناً مما اجترموا، وإن قالوا: (لا يحتاجون إلى غفران ولا توبة عليهم) خرجوا من دين الإسلام وخالفوا الجماعة.
ويقال لهم: فلم قلتم (إن الله يغفر للمصرين بلا توبة) أمن سمع أو عقل؟ فإن في العقل شواهد دالة أن الحكيم لا يستوي عنده وليّه الذي أطاعه وعدوه الذي عصاه، ولا يجوز ذلك في الحكمة.
ويقال لهم: في قولهم: (إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص) ما تقولون فيمن آمن وهو بالله وبدينه عارف، ومن آمن وهو بالله وبدينه جاهل؟ فإن قالوا: (هما سواء). تجاهلوا، وإن قالوا: (المؤمن العارف بالله وبدينه أفضل) تركوا قولهم، وقالوا بالحق: إن الإيمان يزيد بالعمل والعلم، وينقص بنقص العلم والعمل.
ويقال لهم: هل تجعلون بين أهل المعصية، وأهل الطاعة فضلاً؟ فإن قالوا: (لا فضل بينهم) تجاهلوا، وإن قالوا: (نعم) قيل لهم: ما الذي تجعلونه بينهم؟ فإن قالوا: (لأهل الطاعة الوعد والثواب، ولأهل المعصية الوعيد والعقاب) تركوا قولهم الخبيث وقالوا بالحق، وإن قالوا: (لا ندري) تجاهلوا.
ويقال لهم: ما تقولون في قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا(5/356)
يُظْلَمُونَ (160)} (1) أليس عندكم من تصدق بدرهم فله عشر من الحسنات، ومن سرق درهماً فعليه وزر درهم واحد، فإذا قالوا (نعم)، يقال لهم: فرجل سرق عشرة دراهم وتصدق منها بدرهم أليس له تسع حسنات وعنده تسع الدراهم؟ فإن قالوا: (لا تجزئه صدقة من سرقة لأن السرقة تحبط أجره) تركوا قولهم، وإن قالوا: (تجزئه) زعموا أن من سرق عشرة دراهم وتصدق بدرهم منها فله تسع حسنات وعنده تسع الدراهم لأن الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها، وهذا ربح لا ربح بعده، مع أن على السارق لأموال الناس بسبب سرقته ذنوباً يعاقب عليها. (2)
موقفه من القدرية:
له كتاب: 'التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع' عقد فيه باباً في القدرية وهو قوله: "باب ذكر القدرية ونعتهم واعتقادهم" ثم تناول ذلك بالتفصيل فقال: وأما القدرية فهم سبع فرق، وهم أصناف: فصنف منهم يزعمون أن الحسنات والخير من الله، والشر والسيئات من أنفسهم لكي لا ينسبوا إلى الله شيئاً من السيئات والمعاصي، ويتكلمون بأشياء لا أستجيز ذكرها، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. (3) ثم ساق الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة.
_________
(1) الأنعام (160).
(2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (44 - 47).
(3) التنبيه والرد (ص.165 - 177).(5/357)
أبو أحمد الحاكم الكبير (1) (378 هـ)
الإمام الحافظ العلامة الثبت الجهبذ، محدث خراسان، محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الكرابيسي. صاحب التصانيف، وهو الحاكم الكبير مؤلف كتاب 'الكنى والعلل' وغيرها، ولد في حدود سنة تسعين ومائتين. وطلب الحديث وهو كبير له نيف وعشرون سنة، فسمع من أحمد الماسرجسي وابن خزيمة والباغندي والبغوي وأبي عروبة الحراني وطبقتهم. وروى أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق بالشام والعراق والحجاز والجزيرة وخراسان، وكان من بحور العلم. حدث عنه أبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن منجويه. قال الحاكم: هو إمام عصره في هذه الصنعة كثير التصانيف. إلى أن قال: وكان مقدماً في العدالة أولاً ثم ولي القضاء .. ثم أتى نيسابور سنة خمس وأربعين ولزم مسجده ومنزله مفيداً مقبلاً على العبادة والتصنيف. وقال أيضاً: كان أبو أحمد من الصالحين الثابتين على سنن السلف. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله تعالى.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قال الحاكم: كان أبو أحمد من الصالحين الثابتين على سنن السلف، ومن المنصفين فيما نعتقده في أهل البيت والصحابة. (2)
_________
(1) تذكرة الحفاظ (3/ 976 - 979) والسير (16/ 370 - 377) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.637 - 638) والوافي بالوفيات (1/ 115) والشذرات (3/ 93)
(2) السير (16/ 372).(5/358)
أحمد بن عون الله (1) (378 هـ)
الشيخ المحدث أحمد بن عون الله بن حدير بن يحيى القرطبي البزاز، أبو جعفر. ولد سنة ثلاثمائة. حج وسمع من ابن الأعرابي وخيثمة الأطرابلسي وأحمد بن سلمة بن الضحاك وأبي يعقوب الأذرعي، وجماعة كثيرة. روى عنه أبو الوليد بن الفرضي وأبو عمر الطلمنكي، وخلق.
توفي رحمه الله تعالى في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في السير: كان صدوقاً، صالحاً، شديداً على المبتدعة، لهجاً بالسنة، صبوراً على الأذى. (2)
- قال أبو عبد الله بن مفرج: كان أبو جعفر أحمد بن عون الله محتسباً على أهل البدع، غليظاً عليهم مذلاًّ لهم، طالباً لمساوئهم، مسارعاً في مضارهم، شديد الوطاءة عليهم، مشرداً لهم إذا تمكن منهم غير مبقٍ عليهم، وكان كل من كان منهم خائفاً منه على نفسه متوقياً لا يداهن أحداً منهم على حال، ولا يسالمه، وإن عثر لأحد منهم على منكر، وشهد عليه عنده بانحراف عن السنة نابذه وفضحه وأعلن بذكره والبراءة منه، وعيره بذكر السوء في المحافل، وأغرى به حتى يهلكه، أو ينزع عن قبيح مذهبه وسوء معتقده، ولم يزل دؤوباً على هذا جاهداً فيه ابتغاء وجه الله إلى أن لقي الله
_________
(1) تاريخ علماء الأندلس (1/ 54) وتاريخ دمشق (5/ 117 - 120) والسير (16/ 390) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.620) وشجرة النور الزكية (1/ 100).
(2) السير (16/ 390).(5/359)
عز وجل. له في الملحدين آثار مشهورة ووقائع مذكورة. (1)
النَّسَفِي (2) (380 هـ)
الشيخ بكر بن محمد بن جعفر أبو عمرو النسفي. راوي صحيح البخاري عن حماد بن شاكر. وروى أيضاً عن محمود بن عنبر. وروى عنه جعفر المستغفري. توفي سنة ثمانين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال الذهبي: روى عنه جعفر المستغفري وقال: كان كثير التلاوة شديداً على المبتدعة. (3)
ابن حَيَّوَيْه أبو عمر (4) (382 هـ)
الإمام المحدث الثقة المسند أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا ابن يحيى البغدادي، الخزاز بن حيويه، من علماء المحدثين. سمع أبا بكر محمد ابن محمد الباغندي، ومحمد بن خلف بن المرزبان، وأبا القاسم البغوي، وعبيد الله بن عثمان صاحب ابن المديني، وابن أبي داود وطبقتهم. حدث عنه أبو بكر البرقاني، وأبو الفتح بن أبي الفوارس، وأبو محمد الخلال، وعلي بن
_________
(1) تاريخ دمشق (5/ 118).
(2) السير (16/ 396) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.656).
(3) السير (16/ 396).
(4) تاريخ بغداد (3/ 121 - 122) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.54 - 55) والسير (16/ 409 - 410) والوافي بالوفيات (3/ 199) والبداية والنهاية (11/ 223) وشذرات الذهب (3/ 104).(5/360)
المحسن التنوخي وأبو محمد الجوهري وآخرون. روى الكتب المطولة. قال الخطيب: كان ثقة، سألت البرقاني عنه، فقال: ثبت حجة. كتب طول عمره وروى المصنفات الكبار. مولده في خمس وتسعين ومائتين. قال العتيقي: مات في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
قال أبو عمر بن حيويه: كان ابن عقدة يملي مثالب الصحابة فتركت حديثه. (1)
قال الذهبي: قد رمي ابن عقدة بالتشيع، ولكن روايته لهذا ونحوه، يدل على عدم غلوه في تشيعه، ومن بلغ في الحفظ والآثار مبلغ ابن عقدة، ثم يكون في قلبه غل للسابقين الأولين، فهو معاند أو زنديق. والله أعلم. (2)
القَلْعِي أبو محمد عبد الله بن محمد (3) (383 هـ)
الإمام الحافظ، المجود الزاهد، القدوة المجاهد، أبو محمد، عبد الله بن محمد ابن القاسم بن حزم الأندلسي القلعي. ولد سنة عشرين وثلاثمائة. سمع وهب ابن مسرة، وأبا محمد بن الورد، وعلي بن أبي العقب الدمشقي، وأبا بكر الشافعي، وطبقتهم. وجمع فأوعى. سمع منه أحمد بن عون الله، وابن مفرج
_________
(1) التذكرة (3/ 841) والسير (15/ 354).
(2) السير (15/ 343 - 344).
(3) تاريخ علماء الأندلس (1/ 285 - 286) والسير (16/ 444) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.64 - 65) والوافي بالوفيات (17/ 490) وشذرات الذهب (3/ 104 - 105) والديباج المذهب (1/ 452 - 453).(5/361)
القاضي. قال ابن الفرضي: سمعت منه علماً كثيراً. كانت الرحلة إليه، ونفع الله به الخلق وكان زاهداً شجاعاً. كانوا يشبهونه بسفيان الثوري في زمانه. ولاه المستنصر بالله القضاء، فاستعفى فأعفاه. توفي بقلعة أيوب من الأندلس في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله وكان عمره ثلاثاً وستين سنة.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: وبلغنا أنه كان يقف وحده للفئة من المشركين. (1)
أبو حفص بن شَاهِين (2) (385 هـ)
الحافظ الإمام المفيد المكثر، شيخ العراق، أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي الواعظ المعروف بابن شاهين، صاحب التصانيف. مولده بخط أبيه في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين. سمع أبا بكر الباغندي وأبا القاسم البغوي وأبا بكر بن أبي داود، وأبا علي محمد بن سليمان المالكي وطبقتهم. حدث عنه أبو بكر محمد الوراق وأبو سعد الماليني، وأبو محمد الجوهري والحسن بن محمد الخلال، وابنه عبيد الله وخلق كثير. قال الخطيب: صنف ثلاثمائة مصنف. منها 'التفسير' و'المسند' و'التاريخ' و'الزهد'. قال عن نفسه: حسبت ما اشتريت به الحبر إلى هذا الوقت فكان سبعمائة درهم. قال
_________
(1) السير (16/ 445).
(2) تاريخ بغداد (11/ 265 - 268) وتذكرة الحفاظ (3/ 987 - 990) والسير (16/ 431 - 435) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.105 - 107) والبداية والنهاية (11/ 337) وشذرات الذهب (3/ 117).(5/362)
أبو الفتح بن أبي الفوارس: ثقة مأمون صنف ما لم يصنفه أحد. مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. عاش تسعاً وثمانين سنة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في السير عنه: إذا ذكر له مذاهب الفقهاء كالشافعي وغيره يقول: أنا محمدي المذهب. (1)
- وقوله أيضاً: وإني بريء من كل بدعة؛ من قدر وإرجاء ورفض ونصب واعتزال، واعتقادي في ديني وإمامي في سنتي؛ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، وكل مذهب اعتقده أهل العلم بالسنة مما لم يبلغني فهو مذهبي. (2)
موقفه من المرجئة:
- جاء في 'الكتاب اللطيف' قوله: وأشهد أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية. (3)
موقفه من القدرية:
افتتح كتابه المفيد: 'الكتاب اللطيف لشرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن' بذكر القدرية وببعض النقول في ذمهم والتنفير من طريقهم الخبيث. (4)
_________
(1) السير (16/ 433).
(2) (ص.252).
(3) (ص.249).
(4) (ص.69 - 71).(5/363)
الصاحب الوزير الكبير (1) (385 هـ)
الوزير الكبير العلامة الصاحب أبو القاسم، إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقاني الأديب الكاتب، وزير الملك مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة، صحب الوزير أبا الفضل بن العميد ومن ثم شهر بالصاحب. سمع من أبي محمد بن فارس، وأحمد بن كامل. روى عنه أبو العلاء محمد بن حسول، وعبد الملك الرازي، وأبو بكر بن أبي علي الذكواني، وأبو بكر بن المقرئ شيخه. له تصانيف عدة منها: 'المحيط' و'الكافي' و'الإمامة'. كان شيعياً معتزلياً صلفاً جباراً ثم تاب. وأخذ خطوط جماعة بصحة توبته. مات رحمه الله في صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة عن تسع وخمسين سنة.
موقفه من المشركين:
موقفه من الفلاسفة:
قيل: جمع الصاحب من الكتب ما يحتاج في نقلها إلى أربع مئة جمل، ولما عزم على التحديث تاب (2)، واتخذ لنفسه بيتاً سماه بيت التوبة، واعتكف على الخير أسبوعاً، وأخذ خطوط جماعة بصحة توبته، ثم جلس للإملاء، وحضره الخلق، وكان يتفقد علماء بغداد في السنة بخمسة آلاف دينار، وأدباءها، وكان يبغض من يدخل في الفلسفة. (3)
_________
(1) وفيات الأعيان (1/ 228 - 233) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.92 - 98) والسير (16/ 511 - 514) والبداية والنهاية (11/ 335) والشذرات (3/ 113 - 116)
(2) من التشيع والاعتزال ولمز السلف بالحشوية انظر السير (16/ 512).
(3) السير (16/ 513).(5/364)
علي بن عمر الدَّارَقُطْنِي (1) (385 هـ)
أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي المقرئ المحدث من أهل محلة دار القطن ببغداد. الإمام الحافظ المجود شيخ الإسلام علم الجهابذة. ولد سنة ست وثلاثمائة. سمع من أبي القاسم البغوي وأبي بكر بن أبي داود وأبي طالب أحمد بن نصر الحافظ وخلق كثير. حدث عنه الحافظ أبو عبد الله والحافظ عبد الغني وأبو نعيم الأصبهاني، وخلق سواهم.
كان من بحور العلم ومن أئمة الدنيا انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله مع التقدم في القراءات وطرقها وقوة المشاركة في الفقه والاختلاف والمغازي وأيام الناس وغير ذلك. وهو أول من صنف القراءات وعقد لها أبواباً قبل فرش الحروف. قال الخطيب: كان الدارقطني فريد عصره وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علو الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد والاضطلاع من علوم سوى الحديث. قال الصوري: سمعت الحافظ عبد الغني يقول: أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: ابن المديني في وقته وموسى ابن هارون -يعني ابن الحمال- في وقته والدارقطني في وقته.
لم يدخل الدارقطني في علم الكلام ولا الجدال بل كان سلفياً، ذكره الذهبي.
توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
_________
(1) تاريخ بغداد (12/ 34 - 40) والسير (16/ 449 - 461) والأنساب (2/ 437 - 439) وتذكرة الحفاظ (3/ 991 - 995) والبداية والنهاية (11/ 338) وشذرات الذهب (3/ 116 - 117) ووفيات الأعيان (3/ 297 - 299).(5/365)
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قال الدارقطني: اختلف قوم من أهل بغداد فقال قوم: عثمان أفضل وقال قوم: علي أفضل فتحاكموا إلي فأمسكت وقلت: الإمساك خير. ثم لم أر لديني السكوت وقلت للذي استفتاني: ارجع إليهم وقل لهم: أبو الحسن يقول: عثمان أفضل من علي باتفاق جماعة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا قول أهل السنة وهو أول عقد يحل في الرفض.
قال الذهبي: ليس تفضيل علي برفض ولا ببدعة، بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذو فضل وسابقة وجهاد، وهما متقاربان في العلم والجلالة، ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة، وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما، ولكن جمهور الأمة على ترجيح عثمان على الإمام علي وإليه نذهب. والخطب في ذلك يسير، والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر، من خالف في ذا فهو شيعي جلد، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبهما واعتقد أنهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة، أبعدهم الله. (1)
موقفه من الجهمية:
موقفه من علم الكلام:
- جاء في السير: قال الذهبي: لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً، سمع هذا القول منه أبو
_________
(1) السير (16/ 457 - 458).(5/366)
عبد الرحمن السلمي. (1)
التعليق:
كيف يخوض في ذلك، وكان إمام المحدثين في وقته وطبيبهم الخاص، حتى إنه ألف في أصعب علومه -العلل- ومتى عهدت مثل الدارقطني يضيع وقته في علم رفضه السلف قاطبة وأجمعوا على بغضه ومحاربته. فعلمه أغناه عن ترهات المتكلمين وفلسفات المتزندقين، فلله دره وإخوانه ممن شرفوا مسيرتنا هذه.
- قال السلمي: سمعت الدارقطني يقول: ما شيء أبغض إلي من الكلام. (2)
عبد الله بن أبي زيد القيرواني (3) (386 هـ)
أبو محمد عبد الله بن أبي زيد واسم أبي زيد عبد الرحمن القيرواني المالكي ويقال له مالك الصغير. الإمام العلامة القدوة الفقيه عالم أهل المغرب. قال القاضي عياض: حاز رئاسة الدين والدنيا ورحل إليه من الأقطار ونجب أصحابه. وكثر الآخذون عنه. أخذ عن محمد بن مسرور الحجام والعسال وأبي سعيد بن الأعرابي. سمع منه خلق كثير منهم: الفقيه عبد الرحيم بن
_________
(1) السير (16/ 457).
(2) التذكرة (3/ 994).
(3) شجرة النور الزكية (1/ 96) والديباج المذهب (1/ 427 - 430) وشذرات الذهب (3/ 131) والسير (17/ 10 - 13) وترتيب المدارك (2/ 141 - 145).(5/367)
العجوز السبتي والفقيه عبد الله بن غالب السبتي وأبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الخولاني. كان مع عظمته في العلم والعمل ذا بر وإيثار وإنفاق على الطلبة وإحسان. وقال فيه القابسي: هو إمام موثوق به في ديانته وروايته. وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول لا يدري الكلام ولا يتأول. وكان سريع الانقياد والرجوع إلى الحق. توفي رحمه الله سنة ست وثمانين وثلاثمائة. ورثاه بعضهم فقال:
عجباً أيدري الحاملون لنعشه ... كيف استطاعت حمل بحر مترع
علماً وحكماً كاملاً وبراعة ... وتقى وحسن سكينة وتورع
موقفه من المبتدعة:
جاء في معالم الإيمان: كان بصيراً بالرد على أهل الأهواء. (1)
من مصنفاته: كتاب 'الثقة بالله والتوكل على الله' وكتاب 'المعرفة والتفسير' وكتاب 'إعجاز القرآن' وكتاب 'النهي عن الجدال'، ورسالته في التوحيد، وكتاب 'من تحرك عند القراءة'. (2)
موقفه من المشركين:
جاء في صون المنطق: قال الشيخ نصر المقدسي من أئمة أصحابنا في كتابه الحجة على تارك المحجة، أنبأني أبو محمد عبد الله بن الوليد بن سعد الأنصاري قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن أبي زيد الفقيه المالكي بالقيروان يقول: رحم الله بني أمية لم يكن فيهم قط خليفة ابتدع في الإسلام بدعة،
_________
(1) المعالم (3/ 110).
(2) السير (17/ 11).(5/368)
وكان أكثر عمالهم وأصحاب ولايتهم العرب، فلما زالت الخلافة عنهم، ودارت إلى بني العباس، قامت دولتهم بالفرس وكانت الرياسة فيهم وفي قلوب أكثر الرؤساء منهم الكفر والبغض للعرب ودولة الإسلام فأحدثوا في الإسلام الحوادث التي تؤذن بهلاك الإسلام. ولولا أن الله تبارك وتعالى وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ملته وأهلها هم الظاهرون إلى يوم القيامة لأبطلوا الإسلام، ولكنهم قد ثلموه وعوروا أركانه، والله منجز وعده إن شاء الله. فأول الحوادث التي أحدثوها: إخراج كتب اليونانية إلى أرض الإسلام فترجمت بالعربية وشاعت في أيدي المسلمين. وسبب خروجها من أرض الروم إلى بلاد الإسلام: يحيى بن خالد بن برمك وذلك أن كتب اليونانية كانت ببلد الروم وكان ملك الروم خاف على الروم إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية ويرجعوا إلى دين اليونانية، وتتشتت كلمتهم وتتفرق جماعتهم. فجمع الكتب في موضع وبنى عليه بناءً مطمساً بالحجر والجص حتى لا يوصل إليها. فلما أفضت رياسة دولة بني العباس إلى يحيى بن خالد -وكان زنديقاً- بلغه خبر الكتب التي في البناء ببلد الروم فصانع ملك الروم الذي كان في وقته بالهدايا، ولا يلتمس منه حاجة فلما أكثر عليه جمع الملك بطارقته وقال لهم، إن هذا الرجل خادم العرب قد أكثر علي من هداياه ولا يطلب مني حاجة وما أراه إلا يلتمس حاجة، وأخاف أن تكون حاجته تشق علي. وقد شغل بالي فلما جاءه رسول يحيى قال له: قل لصاحبك إن كانت له حاجة فليذكرها.
فلما أخبر الرسول يحيى رده إليه وقال له: حاجتي الكتب التي تحت البناء يرسلها إِلَيَّ أخرج منها بعض ما أحتاج وأردها إليه. فلما قرأ(5/369)
الرومي كتابه استطار فرحاً وجمع البطارقة والأساقفة والرهبان وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم عن خادم العرب أنه لا يخلو من حاجة وقد أفصح بحاجته وهي أخف الحوائج علي، وقد رأيت رأياً فاسمعوه فإن رضيتموه أمضيته، وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتفق كلمتنا. فقالوا: وما هو؟ قال: حاجته الكتب اليونانية يستخرج منها ما أحب ويردها. قالوا: فما رأيك؟ قال: قد علمت أنه ما بنى عليه من كان قبلنا إلا أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى وقرؤوها كان سبباً لهلاك دينهم وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله أن لا يردها، يبتلون بها ونسلم نحن من شرها فإني لا آمن أن يكون بعدي من يجترئ على إخراجها إلى الناس فيقعوا فيما خيف عليهم. فقالوا: نعم الرأي رأيت أيها الملك فأمضه. فبعث بالكتب إلى يحيى ابن خالد فلما وصلت إليه جمع عليها كل زنديق وفيلسوف فمما أخرج منها كتاب 'حد المنطق'.
قال أبو محمد بن أبي زيد: وقل من أمعن النظر في هذا الكتاب وسلم من زندقة.
قال: ثم جعل يحيى المناظرة في داره والجدال فيما لا ينبغي فيتكلم كل ذي دين في دينه ويجادل عليه آمناً على نفسه. (1)
التعليق:
انظر هذه الفعلة الشنيعة التي فعلها الزنادقة بالمسلمين، وما يزالون يتجرعون سمومها. لقد أطبق الكلام والمنطق على علوم المسلمين، فما تجد
_________
(1) صون المنطق (6 - 8).(5/370)
علماً من علومهم إلا وسرى فيه شيء من هذا. وأصبح المسلم إذا أراد دراسة علم أصول الفقه أو تفاسير المتأخرين أو بعض متون الفقه أو النحو والبلاغة يدرس هذا العلم الخبيث رغماً على أنفه.
موقفه من الجهمية:
آثار الشيخ السلفية:
مقدمة الرسالة -وقد أبدى الشيخ في هذه المقدمة عقيدة سلفية أغاظت المبتدعة وضاقوا بها ذرعاً. ولحسن قصد الشيخ في نشر عقيدة السلف، كتب الله لرسالته قبولاً لا نظير له. وقد قامت الجامعة الإسلامية جزاها الله خيراً بطباعتها وتوزيعها بين المسلمين- وقد انتشرت انتشاراً كبيراً والحمد لله رب العالمين.
من شراحها السلفيين: أبو بكر بن محمد بن وهب المالكي: نقل عنه الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية كلاماً من أحسن ما يكون في العقيدة السلفية. سيأتي معنا إن شاء الله.
قال الذهبي في السير في ترجمة ابن أبي زيد: وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول، لا يدري الكلام، ولا يتأول، فنسأل الله التوفيق. (1)
وفيها قال عبد الله بن الوليد: سمعت أبا محمد بن أبي زيد يسأل ابن سعدي لما جاء من الشرق: أحضرت مجالس الكلام؟ قال: مرتين ولم أعد، فأول مجلس جمعوا الفرق من السنة والمبتدعة واليهود والنصارى والمجوس والدهرية، ولكل فرقة رئيس يتكلم وينصر مذهبه، فإذا جاء رئيس قام الكل
_________
(1) السير (17/ 12).(5/371)
له، فيقول واحد: تناظروا ولا يحتج أحد بكتابه، ولا بنبيه، فإنا لا نصدق بذلك ولا نقر به. بل هاتوا العقل والقياس، فلما سمعت هذا لم أعد، ثم قيل لي: هاهنا مجلس آخر للكلام، فذهبت فوجدتهم على مثل سيرة أصحابهم سواء، فجعل ابن أبي زيد يتعجب وقال: ذهبت العلماء، وذهبت حرمة الدين.
قال الذهبي عقبه: فنحمد الله على العافية، فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق، وبالأعراب القرامطة، فالأمر لله تعالى. (1)
موقفه من المرجئة:
قال في الرسالة: وأن الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، ويزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، فيكون بها النقص وبها الزيادة، ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. (2)
موقفه من القدرية:
آثاره السلفية: 'رسالة في الرد على القدرية'. (3)
_________
(1) السير (16/ 251 - 252).
(2) (ص.62).
(3) السير (17/ 11).(5/372)
موقف السلف من أبي طالب المكي (386 هـ)
بيان تصوفه:
جاء في تلبيس إبليس: وصنف لهم أبو طالب المكي 'قوت القلوب' فذكر فيه الأحاديث الباطلة، وما لا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي، وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول: -قال بعض المكاشفين- وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية: إن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه. وذكر سند الخطيب إلى محمد بن العلاف. قال: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم، فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، فخلط في كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق. فبدعه الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك. (1)
ابن بَطَّة العُكْبُرِي (2) (387 هـ)
أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد العكبري الحنبلي ابن بطة. الإمام القدوة، العابد الفقيه المحدث شيخ العراق. ولد سنة أربع وثلاثمائة. روى عن أبي القاسم البغوي وابن صاعد والقاضي المحاملي وجماعة. حدث عنه أبو
_________
(1) التلبيس (ص.204).
(2) تاريخ بغداد (10/ 371 - 375) وميزان الاعتدال (3/ 15) والبداية والنهاية (11/ 343 - 344) واللسان (4/ 112 - 115) وشذرات الذهب (3/ 122 - 124) والسير (16/ 529 - 533)(5/373)
الفتح بن أبي الفوارس وأبو نعيم الأصبهاني وأبو إسحاق البرمكي وآخرون. عن أبي حامد الدلوي قال: لما رجع ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة لم ير في سوق ولا رئي مفطراً إلا في عيد. وكان أمّاراً بالمعروف، لم يبلغه خبر منكر إلا غيره. قال عبد الواحد بن علي العكبري: لم أر في شيوخ الحديث، ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة. وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة. توفي رحمه الله سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1 - 'الإبانة الكبرى': وهو من أعظم المصادر السلفية التي نقلت العقيدة السلفية بإسهاب وطول نفس، وقد كان من أهم المراجع عندنا في هذه المسيرة المباركة، وهذا الإمام لم يكن بالناقل لأقوال السلف فقط، ولكنه يعلق على ذلك بأسلوب متين رصين، يشعر القارئ أنه يعيش مع سلفي غيور على عقيدته. والبكاء ينساب على خده لما يرى من طغيان البدع في زمانه. فماذا عن زمان الناس اليوم حيث أصبحت البدعة هي السنة والسنة هي البدعة. فإلى الله المشتكى من انقلاب الموازين والأحوال، والله المستعان.
2 - 'الإبانة الصغرى': وقد حققت وطبعت في رسالة علمية في جامعة أم القرى.
- فمن أقواله رحمه الله: فلو أن رجلاً ممن وهب الله له عقلاً صحيحاً وبصراً نافذاً، فأمعن نظره وردد فكره وتأمل أمر الإسلام وأهله، وسلك بأهله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، لتبين له أن الأكثر والأعم الأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم، وارتدوا على أدبارهم، فحادوا عن(5/374)
المحجة، وانقلبوا عن صحيح الحجة، ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون، ويستحلون ما كانوا يحرمون، ويعرفون ما كانوا ينكرون، وما هذه رحمكم الله أخلاق المسلمين، ولا أفعال من كانوا على بصيرة في هذا الدين، ولا من أهل الإيمان به واليقين. (1)
- وقال: فانظروا رحمكم الله من تصحبون، وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه، وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين، ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال وعافية من قبيح الفعال. (2)
- وقال: فاعتبروا يا أولي الأبصار! فشتان بين هؤلاء العقلاء السادة الأبرار الأخيار الذين ملئت قلوبهم بالغيرة على إيمانهم والشح على أديانهم، وبين زمان أصبحنا فيه وناس نحن منهم وبين ظهرانيهم، هذا عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيد من ساداتهم يقطع رحمه ويهجر حميمه حين عارضه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحلف أيضاً على قطيعته وهجرانه وهو يعلم ما في صلة الأقربين وقطيعة الأهلين. وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيم هذه الأمة، وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم وينتقلون عن بلدانهم، ويظهرون الهجرة لإخوانهم لأجل من عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوقف عن استماع سنته، فياليت شعري كيف حالنا عند الله عز وجل، ونحن نلقى أهل الزيغ في صباحنا والمساء، يستهزئون
_________
(1) الإبانة (1/ 1/188).
(2) الإبانة (1/ 1/206).(5/375)
بآيات الله، ويعاندون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حائدين عنها، وملحدين فيها، سلمنا الله وإياكم من الزيغ والزلل. (1)
- وقال: جعلنا الله وإياكم بكتاب الله عاملين، وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - متمسكين، وللأئمة الخلفاء الراشدين المهديين متبعين، ولآثار سلفنا وعلمائنا مقتفين، وبهدي شيوخنا الصالحين رحمة الله عليهم أجمعين مهتدين، فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه قد جعل في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر، ثم هو تعالى بلطفه بعباده ورفقه بأهل عنايته ومن سبقت له الرحمة في كتابه لا يخلي كل زمان من بقايا من أهل العلم، وحملة الحجة، يدعون من ضل إلى الهدى، ويذودونهم عن الردى، يصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بعون الله أهل العمى وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجهالة والغبا. (2)
- وقال: فلله در أقوام دقت فطنهم، وصفت أذهانهم، وتعالت بهم الهمم في اتباع نبيهم، وتناهت بهم المحبة حتى اتبعوه هذا الاتباع، فبمثل هدي هؤلاء العقلاء -إخواني- فاهتدوا، ولآثارهم فاقتفوا، ترشدوا وتنصروا وتجبروا. (3)
- وقال:
باب ذكر ما نطق به الكتاب في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة:
أما بعد: فاعلموا يا إخواني وفقنا الله وإياكم للسداد والائتلاف،
_________
(1) الإبانة (1/ 1/259 - 260).
(2) الإبانة (1/ 1/197).
(3) الإبانة (1/ 1/245).(5/376)
وعصمنا وإياكم من الشتات والاختلاف، أن الله عز وجل قد أعلمنا اختلاف الأمم الماضين قبلنا، وأنهم تفرقوا واختلفوا فتفرقت بهم الطرق، حتى صار بهم الاختلاف إلى الافتراء على الله عز وجل والكذب عليه، والتحريف لكتابه والتعطيل لأحكامه، والتعدي لحدوده، وأعلمنا تعالى أن السبب الذي أخرجهم إلى الفرقة بعد الألفة، والاختلاف بعد الائتلاف، هو شدة الحسد من بعضهم لبعض، وبغي بعضهم على بعض، فأخرجهم ذلك إلى الجحود بالحق بعد معرفته، وردهم البيان الواضح بعد صحته، وكل ذلك وجميعه قد قصه الله عز وجل علينا وأوعز فيه إلينا، وحذرنا من مواقعته وخوفنا من ملابسته. ولقد رأينا ذلك في كثير من أهل عصرنا وطوائف ممن يدعي أنه من أهل ملتنا، وسأتلو عليكم من نبأ ما قد أعلمناه مولانا الكريم، وما قد علمه إخواننا من أهل القرآن وأهل العلم وكتبة الحديث والسنن وما يكون فيه إن شاء الله بصيرة لمن علمه ونسيه، ولمن غفله أو جهله، ويمتحن الله به من خالفه وجحده، بألا يجحده إلا الملحدون، ولا ينكره إلا الزائغون. قال الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ(5/377)
الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} (1).
وقال تعالى: {* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} (2). وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} (3). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} (4). وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
_________
(1) البقرة الآية (213).
(2) البقرة الآية (87).
(3) آل عمران الآية (19).
(4) الأنعام الآية (159).(5/378)
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)} (1). وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} (2).
وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (3).
وقال: إخواني فهذا نبأ قوم فضلهم الله وعلمهم وبصرهم ورفعهم، ومنع ذلك آخرين إصرارهم على البغي عليهم، والحسد لهم، إلى مخالفتهم وعداوتهم ومحاربتهم، فاستنكفوا أن يكونوا لأهل الحق تابعين، وبأهل العلم مقتدين، فصاروا أئمة مضلين، ورؤساء في الإلحاد متبوعين، رجوعاً عن الحق وطلب الرياسة وحباً للاتباع والاعتقاد والناس في زماننا هذا أسراب كالطير، يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدعي النبوة مع علمهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية، لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً. فقد ذكرت ما حضرني من الآيات التي عاب الله فيها المختلفين، وذم بها الباغين، وأنا الآن أذكر لك الآيات من القرآن التي حذرنا فيها ربنا تعالى من الفرقة
_________
(1) يونس الآية (93).
(2) الشورى الآية (14).
(3) البينة الآيتان (4و5).(5/379)
والاختلاف، وأمرنا بلزوم الجماعة والائتلاف، نصيحة لإخواننا وشفقة على أهل مذهبنا، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (1) .. إلى آخر الآية.
ثم حذرنا من مواقعة ما أتاه من قبلنا من أهل الكتاب فيصيبنا ما أصابهم، فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} (2).
فأخبرنا أنهم عن الحق رجعوا ومن بعد البيان اختلفوا، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (3). وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (4). وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
_________
(1) آل عمران الآية (103).
(2) آل عمران الآية (105).
(3) الأنعام الآية (153).
(4) الشورى الآية (13).(5/380)
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (1).
فهل بقي رحمكم الله أوضح من هذا البرهان، أو أشفى من هذا البيان؟ وقد أعلمنا الله تعالى أنه قد خلق خلقاً للاختلاف والفرقة، وحذرنا أن نكون كهم لهم واستثنى أهل رحمته لنواظب على المسألة أن يجعلنا منهم فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} (2).
ثم حذر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع أهل الأهواء المختلفين وآراء المتقدمين فقال عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (3). وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (4). وقال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
_________
(1) الروم الآية (32).
(2) هود الآيتان (118و119).
(3) المائدة الآية (49).
(4) المائدة الآية (48).(5/381)
الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} (1). وقال عز وجل فيما ذم به المخالفين: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} (2).اهـ (3)
- وقال: فإن قال قائل: قد ذكرت نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة وتحذيره أمته ذلك وحضه إياهم على الجماعة والتمسك بالسنة، وقلت إن ذلك هو أصل المسلمين ودعامة الدين، وأن الفرقة الناجية هي واحدة، والفرق المذمومة نيف وسبعون فرقة، ونحن نرى أن هذه الفرقة الناجية أيضاً فيها اختلاف كثير وتباين في المذاهب، ونرى فقهاء المسلمين مختلفين، فلكل واحد منهم قول يقوله ومذهب يذهب إليه وينصره ويعيب من خالفه عليه. فمالك ابن أنس رحمه الله إمام وله أصحاب يقولون بقوله ويعيبون من خالفهم،
_________
(1) الجاثية الآيات (16 - 19).
(2) المؤمنون الآية (53).
(3) الإبانة (1/ 1/270 - 275).(5/382)
وكذلك الشافعي رحمه الله، وكذلك سفيان الثوري رحمه الله، وطائفة من فقهاء العراق، وكذلك أحمد ابن حنبل رحمه الله، كل واحد من هؤلاء له مذهب يخالف فيه غيره.
ونرى قوماً من المعتزلة والرافضة وأهل الأهواء يعيبونا بهذا الاختلاف، ويقولون لنا: الحق واحد فكيف يكون في وجهين مختلفين؟ فإني أقول له في جواب هذا السؤال: أما ما تحكيه عن أهل البدع مما يعيبون به أهل التوحيد والإثبات من الاختلاف، فإني قد تدبرت كلامهم في هذا المعنى، فإذا هم ليس الاختلاف يعيبون، ولا له يقصدون، وإنما هم قوم علموا أن أهل الملة وأهل الذمة والملوك والسوقة والخاصة والعامة وأهل الدنيا كافة، إلى الفقهاء يرجعون ولأمرهم يطيعون، وبحكمهم يقضون، في كل ما أشكل عليهم، وفي كل ما يتنازعون فيه فعلى فقهاء المسلمين يعولون، في رجوع الناس إلى فقهائهم، وطاعتهم لعلمائهم ثبات للدين، وإضاءة للسبيل وظهور لسنة الرسول، وكل ذلك ففيه غيظ لأهل الأهواء، واضمحلال للبدع، فهم يوهون أمر الفقهاء، ويضعفون أصولهم، ويطعنون عليهم بالاختلاف، لتخرج الرعية عن طاعتهم، والانقياد لأحكامهم، فيفسد الدين وتترك الصلوات والجماعات، وتبطل الزكوات والصدقات، والحج والجهاد، ويستحل الربا والزنا والخمور والفجور، وما قد ظهر مما لا خفاء به على العقلاء. فأما أهل البدع -يا أخي رحمك الله- فإنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويعيبون ما يأتون، ويجحدون ما يعلمون، ويبصرون القذى في عيون غيرهم وعيونهم تطرف على الأجذال، ويتهمون أهل العدالة والأمانة في النقل، ولا يتهمون(5/383)
آراءهم وأهواءهم على الظن، وهم أكثر الناس اختلافاً، وأشدهم تنافياً وتبايناً، لا يتفق اثنان من رؤسائهم على قول، ولا يجتمع رجلان من أئمتهم على مذهب.
فأبو الهذيل يخالف النظام، وحسين النجار يخالفهما، وهشام الفوطي يخالفهم، وثمامة بن أشرس يخالف الكل، وهاشم الأوقص وصالح قبة يخالفانهم، وكل واحد منهم قد انتحل لنفسه ديناً ينصره ورباً يعبده وله على ذلك أصحاب يتبعونه، وكل واحد منهم يكفر من خالفه ويلعن من لا يتبعه، وهم في اختلافهم وتباينهم كاختلاف اليهود والنصارى، كما قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} (1).
فاختلافهم كاختلاف اليهود والنصارى، لأن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله، وفي الكيفية، وفي قدرة الله، وفي عظمته، وفي نعيم الجنة، وفي عذاب النار، وفي البرزخ، وفي اللوح المحفوظ، وفي الرق المنشور، وفي علم الله، وفي القرآن، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي مرسل، إلا بوحي من الله، وليس يعدم من رد العلم في هذه الأشياء إلى رأيه وهواه وقياسه ونظره واختياره؛ من الاختلاف العظيم والتباين الشديد.
وأما الرافضة فأشد الناس اختلافاً وتبايناً وتطاعناً فكل واحد منهم يختار مذهبا لنفسه يلعن من خالفه عليه ويكفر من لم يتبعه، وكلهم يقول: إنه لا صلاة ولا صيام ولا جهاد ولا جمعة ولا عيدين ولا نكاح ولا طلاق
_________
(1) البقرة الآية (113).(5/384)
ولا بيع ولا شراء؛ إلا بإمام، وإنه من لا إمام له فلا دين له، ومن لم يعرف إمامه فلا دين له، ثم يختلفون في الأئمة، فالإمامية لها إمام تسوده وتلعن من قال: إن الإمام غيره وتكفره، وكذلك الزيدية لها إمام غير إمام الإمامية. وكذلك الإسماعيلة، وكذلك الكيسانية، والبترية، وكل طائفة تنتحل مذهباً وإماماً وتلعن من خالفها عليه وتكفره. ولولا ما نؤثره من صيانة العلم الذي أعلى الله أمره، وشرف قدره، ونزهه أن يخلط به نجاسات أهل الزيغ، وقبيح أقوالهم ومذاهبهم التي تقشعر الجلود من ذكرها، وتجزع النفوس من استماعها، وينزه العقلاء ألفاظهم وأسماعهم عن لفظها؛ لذكرت من ذلك ما فيه عبرة للمعتبرين، ولكنه قد روي عن طلحة بن مصرف رحمه الله، قال: لولا أني على طهارة لأخبرتكم بما تقوله الروافض.
وقال ابن المبارك رحمه الله: إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. ولولا أنك قلت إن أهل الزيغ يطعنون على أئمتنا وعلمائنا باختلافهم، فأحببت أن أعلمك أن الذي أنكروه هم ابتدعوه، وأن الذي عابوه هم استحسنوه، ولولا اختلافهم في أصولهم وعقودهم وإيمانهم ودياناتهم؛ لما دنسنا ألفاظنا بذكر حالهم.
فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين: أحدهما اختلاف، الإقرار به إيمان ورحمة وصواب، وهو الاختلاف المحمود الذي نطق به الكتاب ومضت به السنة، ورضيت به الأمة، وذلك في الفروع والأحكام التي أصولها ترجع إلى الإجماع والائتلاف. واختلاف هو كفر وفرقة وسخطة وعذاب يؤول بأهله إلى الشتات، والتضاغن والتباين والعداوة، واستحلال الدم والمال، وهو(5/385)
اختلاف أهل الزيغ في الأصول والاعتقاد والديانة. فأما اختلاف أهل الزيغ، فقد بينت لك كيف هو، وفيما اختلفوا فيه. وأما اختلاف أهل الشريعة الذي يؤول بأهله إلى الإجماع والألفة، والتواصل والتراحم؛ فإن أهل الإثبات من أهل السنة يجمعون على الإقرار بالتوحيد وبالرسالة؛ بأن الإيمان قول وعمل ونية وبأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، وعلى أن الله خالق الخير والشر ومقدرهما، وعلى أن الله يرى في القيامة، وعلى أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان ببقاء الله، وأن الله على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه محيط بالأشياء، وأن الله قديم لا بداية له ولا نهاية ولا غاية، بصفاته التامة، لم يزل عالماً ناطقاً سميعاً بصيراً، حياً حليماً، قد علم ما يكون قبل أن يكون، وأنه قدر المقادير قبل خلق الأشياء.
ومجمعون على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم السلام، وعلى تقديم الشيخين، وعلى أن العشرة في الجنة جزماً وحتماً لا شك فيه، ومجمعون على الترحم على جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاستغفار لهم ولأزواجه وأولاده وأهل بيته، والكف عن ذكرهم إلا بخير، والإمساك وترك النظر فيما شجر بينهم، فهذا وأشباهه مما يطول شرحه لم يزل الناس مذ بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا هذا مجمعين عليه في شرق الأرض وغربها، وبرها وبحرها وسهلها وجبلها، يرويه العلماء رواة الآثار وأصحاب الأخبار، ويعرفه الأدباء والعقلاء، ويجمع على الإقرار به الرجال والنسوان، والشيب والشبان، والأحداث والصبيان، في الحاضرة والبادية، والعرب والعجم، لا يخالف ذلك ولا ينكره ولا يشذ عن الإجماع مع الناس فيه إلا رجل خبيث زائغ، مبتدع(5/386)
محقور مهجور مدحور، يهجره العلماء ويقطعه العقلاء، إن مرض لم يعودوه، وإن مات لم يشهدوه. ثم أهل الجماعة مجمعون بعد ذلك على أن الصلاة خمس، وعلى أن الطهارة والغسل من الجنابة فرض، وعلى الصيام والزكاة والحج والجهاد، وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والربا والزنا وقتل النفس المؤمنة بغير حق، وتحريم شهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وما يطول الكتاب بشرحه، ثم اختلفوا بعد إجماعهم على أصل الدين واتفاقهم على شريعة المسلمين، اختلافاً لم يصر بهم إلى فرقة ولا شتات، ولا معاداة ولا تقاطع وتباغض، فاختلفوا في فروع الأحكام والنوافل التابعة للفرائض، فكان لهم وللمسلمين فيه مندوحة، ونفس وفسحة ورحمة، ولم يعب بعضهم على بعض ذلك، ولا أكفره ولا سبه ولا لعنه، ولقد اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام اختلافاً ظاهراً، علمه بعضهم من بعض، وهم القدوة والأئمة والحجة.
فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: إن الجد يرث ما يرثه الأب ويحجب من يحجبه الأب، فخالفه على ذلك زيد بن ثابت وخالفهما علي بن أبي طالب، وخالفهم ابن مسعود، وخالف ابن عباس جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسائل من الفرائض، وكذلك اختلفوا في أبواب من العدة والطلاق، وفي الرهون والديون والوديعة والعارية، وفي المسائل التي المصيب فيها محمود مأجور، والمجتهد فيها برأيه المعتمد للحق إذا أخطأ فمأجور أيضاً، غير مذموم، لأن خطأه لا يخرجه من الملة، ولا يوجب له النار، وبذلك جاءت السنة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. (1)
_________
(1) الإبانة (2/ 4/553 - 559).(5/387)
- وقال: فاختلاف الفقهاء -يا أخي، رحمك الله- في فروع الأحكام وفضائل السنن رحمة من الله بعباده، والموفق منهم مأجور، والمجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور، وهو يحسن نيته، وكونه في جملة الجماعة في أصل الاعتقاد والشريعة مأجور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالحنيفية السمحة» (1). وإن تأول متأول من الفقهاء مذهباً في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، وقعد عنه فيها الاتباع، كان منتهى القول بالعتب عليه أخطأت، لا يقال له كفرت ولا جحدت ولا ألحدت، لأن أصله موافق للشريعة وغير خارج عن الجماعة في الديانة. (2)
- وقال: فالإصابة في الجماعة توفيق ورضوان، والخطأ في الاجتهاد عفو وغفران، وأهل الأهواء اختلفوا في الله، وفي الكيفية، وفي الأبنية، وفي الصفات، وفي الأسماء، وفي القرآن، وفي قدرة الله، وفي عظمة الله، وفي علم
_________
(1) أخرجه أحمد (5/ 266) والطبراني في الكبير (8/ 216/7868) من حديث أبي أمامة. قال الهيثمي في المجمع (5/ 279): "فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف". وضعفه العراقي في تخريج الإحياء (5/ 2206/3485) وله شاهد من حديث جابر، أخرجه الخطيب في تاريخه (7/ 209) وأشار له السيوطي في الجامع بالضعف. وآخر مرسل عن حبيب بن أبي ثابت أخرجه ابن سعد (1/ 192). قال المناوي في فيض القدير (3/ 203): "لكن له طرق ثلاث ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة (الحسن) ". وله شاهد آخر من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ (أي يوم لعب الحبشة): «لتعلم يهود في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة». أخرجه أحمد (6/ 116و233) وحسن إسناده السخاوي في المقاصد الحسنة (رقم 214) وجود إسناده الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 443). وعلق البخاري في صحيحه (1/ 126): «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة». ووصله في الأدب المفرد (رقم 287) وأحمد (1/ 236) والبزار (كشف 1/ 58 - 59/ 78) والطبراني في الكبير (11/ 227/11571).
(2) الإبانة (2/ 4/566).(5/388)
الله، تعالى الله عما يقول الملحدون علوّاً كبيراً. (1)
- وقال: فقد ذكرت من الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أخبر به من تفرق هذه الأمة، ومضاهاتها في تفرقها اليهود والنصارى والأمم السالفة، ما في بعضه كفاية لأهل الحق والرعاية، فإن قال قائل: قد صح عندنا من كتاب ربنا ومن قول نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ أن الأمم الماضية من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا وكفر بعضهم بعضاً ومثل ذلك فقد حل بهذه الأمة، حتى قد كثرت فيهم الأهواء، وأصحاب الآراء والمذاهب، وكل ذلك فقد رأيناه وشاهدناه، فنريد أن نعرف هذه الفرق المذمومة لنجتنبها، ونسأل مولانا الكريم أن يعصمنا منها ويعيذنا مما حل بأهلها، الذين استهوتهم الشياطين، فأصبحوا حيارى، عن طريق الحق صادفين.
قلت: فاعلم رحمك الله أن لهذه الفرق والمذاهب كلها أصولاً أربعة فكلها عن الحق حائدة، وللإسلام وأهله معاندة، وعن أربعة أصول يتفرقون، ومنها يتشعبون، وإليها يرجعون، ثم تتشعب بهم الطرق وتأخذهم الأهواء، وقبيح الآراء حتى يصيروا في التفرق إلى ما لا يحصى، فأما الأربعة الأصول، التي بها يعرفون، وإليها يرجعون، فهو ما حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد وأبو عمر عبيد الله بن محمد بن عبيد بن مسبح العطار وأبو بكر محمد ابن الحسين وأبو يوسف يعقوب بن يوسف، قالوا: حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني، قال: حدثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: أصل البدع أربعة: الروافض، والخوارج،
_________
(1) الإبانة (2/ 4/567).(5/389)
والقدرية، والمرجئة. ثم تتشعب كل فرقة ثماني عشرة طائفة، فتلك اثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون الجماعة التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها الناجية.
وحدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي قال: حدثنا المسيب بن واضح السلمي الحمصي، قال: أتيت يوسف بن أسباط فسلمت عليه وانتسبت إليه، وقلت له: يا أبا محمد إنك بقية أسلاف العلم الماضين وإنك إمام سنة وأنت على من لقيك حجة، ولم آتك لسمع الأحاديث ولكن لأسألك عن تفسيرها، وقد جاء هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، فأخبرني مَن هذه الفرق حتى أتوقاها، فقال لي أصلها أربعة: القدرية والمرجئة والشيعة وهم الروافض والخوارج، فثماني عشرة فرقة في القدرية، وثماني عشرة في المرجئة، وثماني عشرة في الخوارج، وثماني عشرة في الشيعة، ثم قال: ألا أحدثك بحديث لعل الله أن ينفعك به، قلت: بلى يرحمك الله، قال: أسلم رجل على عهد عمرو بن مرة فدخل مسجد الكوفة، فجعلت أجلس إلى قوم أصحاب أهواء فكل يدعو إلى هواه، وقد اختلفوا علي فما أدري بأيها أتمسك فقال له عمرو بن مرة: اختلفوا عليك في الله عز وجل أنه ربهم؟ قال: لا، قال: اختلفوا عليك في محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبيهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الكعبة أنها قبلتهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في شهر رمضان أنه صومهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الصلوات الخمس والزكاة والغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانظر(5/390)
هذا الذي اجتمعوا عليه فهو دينك ودينهم فتمسك به وانظر تلك الفرق التي اختلفوا عليك فيها فاتركهم فليست من دينهم في شيء. قال أبو حاتم الرازي: حدثت عن عامر، عن إبراهيم الأصبهاني، قال: حدثنا يعقوب الأشعري، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين والنصارى على اثنتين وسبعين وأنتم على ثلاث وسبعين وإن من أضلها وشرها وأخبثها الشيعة الذين يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وحدثنا أبو القاسم حفص بن عمر، قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن عيسى، قال: قال حفص بن حميد، قلت لعبد الله بن المبارك: على كم افترقت هذه الأمة؟ فقال: الأصل أربع فرق: هم الشيعة، والحرورية، والقدرية، والمرجئة، فافترقت الشيعة على ثنتين وعشرين فرقة وافترقت الحرورية على إحدى وعشرين فرقة وافترقت القدرية على ست عشرة فرقة، وافترقت المرجئة على ثلاث عشرة فرقة. قال: قلت يا أبا عبد الرحمن لم أسمعك تذكر الجهمية، قال: إنما سألتني عن فرق المسلمين. (1)
- وقال: فقد ذكرت في هذا الباب ما قاله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأمر به أصحابه والتابعين بعدهم بإحسان من لزوم السنة واتباع الآثار ما فيه بلاغ وكفاية لمن شرح الله صدره ووفقه لقبوله، فإن الله عز وجل ضمن لمن أطاع الله ورسوله خير الدنيا والآخرة، فإنه قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ
_________
(1) الإبانة (1/ 2/376 - 380).(5/391)
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (1) وتوعد من خالف ذلك وعدل عنه بما نستجير بالله منه ونعوذ به ممن كان موصوفاً به، فإنه قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (2). فرحم الله عبداً لزم الحذر واقتفى الأثر ولزم الجادة الواضحة وعدل عن البدعة الفاضحة. (3)
- وقال: أعاذنا الله وإياكم من الآراء المخترعة والأهواء المتبعة والمذاهب المبتدعة، فإن أهلها خرجوا عن اجتماع إلى شتات، وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغضة، وعن نصيحة وموالاة إلى غش ومعاداة، وعصمنا وإياكم من الانتماء إلى كل اسم خالف الإسلام والسنة. (4)
- وقال: اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواما من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين: أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا يعني ولا يضر العاقل جهله ولا ينفع المؤمن
_________
(1) النساء الآية (69).
(2) النساء الآية (115).
(3) الإبانة (1/ 2/364 - 365).
(4) الإبانة (1/ 2/388 - 389).(5/392)
فهمه. والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته وتفسد القلوب صحبته. (1)
- وقال: فالعجب يا إخواني رحمكم الله لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تند محاضره في أودية الردى، تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به وفرغوا له آراءهم وجعلوه ديناً يدعون إليه ويعادون من خالفهم عليه، أما عَلِمَ الزائغون مفاتيح أبواب الكفر ومعالم أسباب الشرك، التكلف لما لم تحط الخلائق به علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير والأحمق الصغير بقوته الضعيفة، وعقله القصير، أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب، يريدها لنفسه وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله ومخزون غيبه، وخفي أقداره فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدوا رجل كلف ذلك نظره وقلب فيه فكره أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية،
_________
(1) الإبانة (1/ 2/390).(5/393)
ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به والمخالفة إلى ما ينهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده، والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه، أما يعلمون أن الله عز وجل قد
أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون. حدثني ابن الصواف، قال: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: لو كلف الله هؤلاء ما كلفوه أنفسهم من البحث والتنقير لكان من أعظم ما افترضه عليهم. قال ابن بطة: فالزموا رحمكم الله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، والمنهاج الأعظم من معالم دينكم وشرائع توحيدكم التي اجتمع عليها المختلفون، واعتدل عليها المعترفون: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (1). وترك الدخول في الضيق الذي لم نخلق له. اهـ. (2)
- وقال: الله الله إخواني يا أهل القرآن، ويا حملة الحديث، لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب ومكنون العلوم، فإن الله جعل للعقول غاية
_________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) الإبانة (1/ 2/420 - 421).(5/394)
تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فكِلوه إلى عالمه، ولا تحيطوا الأمور بحيط العشوا حنادس الظلماء بلا دليل هاد، ولا ناقد بصير، أتراكم أرجح أحلاماً وأوفر عقولاً من الملائكة المقربين، حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} (1).اهـ (2)
- وقال: قد أعلمتك يا أخي -عصمني الله وإياك من الفتن ووقانا وإياك جميع المحن- أن الذي أورد القلوب حمامها، وأورثها الشك بعد اتقائها، هو البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا تؤمن فتنته وقد كفي العقلاء مؤنته، وأن الذي أمرضها بعد صحتها، وسلبها أثواب عافيتها، إنما هو من صحبة من تغر ألفته، وتورد النار في القيامة صحبته. أما البحث والسؤال فقد شرحت لك ما إن أصغيت إليه -مع توفيق الله- عصمك، ولك فيه مقنع وكفاية، وأما الصحبة فسأتلو عليك من نبأ حالها ما إن تمسكت به نفعك، وإن أردت الله الكريم به وفقك، قال الله عز وجل فيما أوصى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وحذره منه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} (3) ثم أذكره ما حذره
_________
(1) البقرة الآية (32).
(2) الإبانة (1/ 2/423 - 424).
(3) الأنعام الآية (68).(5/395)
وأعاد له ذكر ما أنذره فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} (1).اهـ (2)
- وقال ابن بطة -عقب إيراده لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه ما استطاع فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فما يزال به حتى يتبعه لما يرى من الشبهات» (3) -: هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق. فالله الله معشر المسلمين، لا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول أداخله لأناظره أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم. (4)
ثم أورد رحمه الله آثاراً على ذلك تجدها مبثوثة بحمد الله في هذه
_________
(1) النساء الآية (140).
(2) الإبانة (2/ 3/429 - 430)
(3) تقدم تخريجه. انظر مواقف أحمد بن سنان (259هـ).
(4) الإبانة (2/ 3/470).(5/396)
المسيرة المباركة.
- وقال ابن بطة: فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهو يتعلم ودراية يتفكه بها، ولذة يستراح إليها، ومهارشة العقول، وتذريب اللسان بمحق الأديان، وضراوة على التغالب واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر والمغالطة في القياس، وبهت في المقاولة وتكذيب الآثار، وتسفيه أحلام الأبرار، ومكابرة لنص التنزيل وتهاون بما قاله الرسول، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة، وضراوة السلاطة، وتوغير للقلوب، وتوليد للشحناء في النفوس، عصمنا الله وإياكم من ذلك وأعاذنا من مجالسة أهله. (1)
- وقال: فأهل الأهواء في تكفير بعضهم لبعض مصيبون، لأن اختلافهم في شرائع شرعتها أهواؤهم وديانات استحسنتها آراؤهم، فتفرقت بهم الأهواء وشتت بهم الآراء، وحل بهم البلاء، وحرموا البصيرة والتوفيق، فزلت أقدامهم عن محجة الطريق، فالمخطئ منهم زنديق، والمصيب على غير أصل ولا تحقيق. (2)
- وقال: فإن قال قائل: قد حذرتنا الخصومة والمراء والجدال والمناظرة،
_________
(1) الإبانة (2/ 3/531 - 532).
(2) الإبانة (2/ 3/535 - 536).(5/397)
وقد علمنا أن هذا هو الحق، وإن هذه سبيل العلماء وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين، فإن جاءني رجل يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمس مني الجواب عليها، وأنا ممن قد وهب الله الكريم لي علماً بها وبصراً نافذاً في كشفها، أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه وأخليه وهواه وبدعته، ولا أردّ عليه قبيح مقالته، فإني أقول له: اعلم يا أخي رحمك الله أن الذي تبلى به من أهل هذا الشأن لن يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة: إما رجلاً قد عرفت حسن طريقته وجميل مذهبه ومحبته للسلامة وقصده طريق الاستقامة، وإنما قد طرق سمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم، وليس يعرف وجه المخرج مما قد بلي به، فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به والشفا مما أوذي (1) إلى علمك حاجته إليك حاجة الصادي إلى الماء الزلال وأنت قد استشعرت طاعته وأمنت مخالفته، فهذا الذي قد افترض عليك توفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين، وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإياك والتكلف لما لا تعرفه وتمحل الرأي والغوص على دقيق الكلام، فإن ذلك من فعلك بدعة وإن كنت تريد به السنة، فإن إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل وكلامك على السنة من غير السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك، ولا تطلب
_________
(1) قال محقق الإبانة: كذا في ظ: العبارة غير واضحة ولا يوجد هذا الأثر في ت.(5/398)
صلاحه بفسادك، فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره، فمن أراد الله وفقه وسدده ومن اتقى الله أعانه ونصره. (1)
وقال ابن بطة -عقب أثر الأوزاعي لما سأله محمد بن النضر قال: أآمر بالمعروف؟ قال (الأوزاعي): من يقبل منك؟ -: صدق الأوزاعي رحمه الله، فهكذا قال علي بن أبي طالب عليه السلام: "لا إمرة لمن لا يطاع". فإذا كان السائل لك هذه أوصافه وجوابك له على النحو الذي قد شرحته فشأنك به، ولا تأل فيه جهداً فهذه سبيل العلماء الماضين الذين جعلهم الله أعلاماً في هذا الدين فهذا أحد الثلاثة. ورجل آخر يحضر في مجلس أنت فيه حاضر تأمن فيه على نفسك ويكثر ناصروك ومعينوك، فيتكلم بكلام فيه فتنة وبلية على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب لأنه هو ممن في قلبه زيغ يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمع كلامه إلا أنه لا حجة عندهم على مقابلته، ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به، فإن سكت عنه لم تأمن فتنته بأن يفسد بها قلوب المستمعين، وإدخال الشك على المستبصرين، فهذا أيضاً مما ترد عليه بدعته وخبيث مقالته، وتنشر ما علمك الله من العلم والحكمة، ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته، فإن خبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشياطين ليصيدوا بها المؤمنين، فليكن إقبالك بكلامك ونشر علمك وحكمتك وبشر وجهك وفصيح منطقك على إخوانك، ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه وتحول بينهم
_________
(1) الإبانة (2/ 3/540 - 541).(5/399)
وبين استماع كلامه، بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوع من العلم تحول به وجوه الناس عنه فافعل.
حدثني أبو صالح قال حدثنا محمد بن داود أبو جعفر البصروي قال حدثنا مثنى بن جامع، قال: سمعت بشر بن الحارث، سئل عن الرجل يكون مع هؤلاء أهل الأهواء في موضع جنازة أو مقبرة فيتكلمون ويعرضون فترى لنا أن نجيبهم، فقال: إن كان معك من لا يعلم فردوا عليه لئلا يرى أولئك أن القول كما يقولون وإن كنتم أنتم وهم فلا تكلموهم ولا تجيبوهم.
فهذان رجلان قد عرفتك حالهما ولخصت لك وجه الكلام لهما. وثالث مشؤوم قد زاغ قلبه وزلت عن سبيل الرشاد قدمه، فعشيت بصيرته واستحكمت للبدعة نصرته، يجهده أن يشكك في اليقين ويفسد عليك صحيح الدين، فجميع الذي رويناه وكلما حكيناه في هذا الباب لأجله وبسببه، فإنك لن تأتي في باب حصر منه ووجيع مكيدته أبلغ من الإمساك عن جوابه، والإعراض عن خطأ به لأن غرضه من مناظرتك أن يفتنك فتتبعه فيملك وييأس منك، فيشفي غيظه أن يسمعك في دينك ما تكرهه، فأخسئه بالإمساك عنه، وأذلله بالقطيعة له، أليس قد أخبرتك بقول الحسن رحمه الله حين قال له القائل: يا أبا سعيد: تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال له الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني فإن كنت قد أضللت دينك فالتمسه. وأخبرتك بقول مالك حين جاءه بعض أهل الأهواء فقال له: أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. فهل يأتي في جواب المخالف من جميع الحجج حجة هي أسخن لعينه ولا أغيظ لقلبه من(5/400)
مثل هذه الحجة؟ والجواب: أما سمعت قول مصعب بن سعد: لا تجالس مفتونا فإنه لن يخطئك إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتبعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. وأيوب السختياني حين قال له الرجل: أكلمك بكلمة، فولى عنه وأشار بإصبعه: ولا نصف كلمة. وعبد الرزاق حين قال لابن أبي يحيى: القلب ضعيف وليس الدين لمن غلب.
حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمد الفزاري، قال: حدثنا عبد الله بن خبيق، قال: حدثنا عبد الله بن داود، قال: قال الأعمش: السكوت جواب. حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي قال: سمعت شبيب بن شيبة يقول: من صبر على كلمة حسمها ومن أجاب عنها استدرها، فإن كنت ممن يريد الاستقامة ويؤثر طريق السلامة فهذه طريق العلماء وسبيل العقلاء، ولك فيما انتهى إليك من علمهم وفعلهم كفاية وهداية، وإن كنت ممن قد زاغ قلبه وزلت قدمه فأنت متحيز إلى فئة الضلالة وحزب الشيطان، قد أنست بما استوحش منه العقلاء ورغبت فيما زهد فيه العلماء، قد جعلت لقوم بطانتك وخزانتك، قد استبشرت جوارحك بلقائهم وأنس قلبك بحديثهم، فقد جعلت ذريعتك إلى مجالستهم وطريقك إلى محادثتهم، أنك تريد بذلك مناظرتهم وإقامة الحجة عليهم ورد بالهم إليهم، فإن تك بهرجتك خفيت على أهل الغفلة من الآدمين فلن يخفى ذلك على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. (1)
- وقال ابن بطة: فإن قال قائل فهذا النهي والتحذير عن الجدل في
_________
(1) الإبانة (2/ 3/541 - 544).(5/401)
الأهواء والمماراة لأهل البدع قد فهمناه ونرجو أن تكون لنا فيه عظة ومنفعة، فما نصنع بالجدل والحجاج فيما يعرض من مسائل الأحكام في الفقه، فإنا نرى الفقهاء وأهل العلم يتناظرون على ذلك كثيرا في الجوامع والمساجد، ولهم بذلك حلق ومساجد، فإني أقول له: هذا لست أمنعك منه ولكني أذكر لك الأصل الذي بنى المسلمون عليه في هذا المعنى كيف أسسوه ووضعوه، فمن كان ذلك الأصل أصله وهو قصده ومعوله فالحجاج والمناظرة له مباحة وهو مأجور، ثم أنت أمين الله على نفسك فهو المطلع على سرك، فاعلم رحمك الله: أن أصل الدين النصيحة، وليس المسلمون إلى شيء من وجوه النصيحة أفقر ولا أحوج ولا هي لبعضهم على بعض أفرض ولا ألزم من النصيحة في تعليم العلم، الذي هو قوام الدين وبه أديت الفرائض إلى رب العالمين.
فالذي يلزم المسلمين في مجالسهم ومناظراتهم في أبواب الفقه والأحكام تصحيح النية بالنصيحة واستعمال الإنصاف والعدل ومراد الحق الذي به قامت السماوات والأرض، فمن النصيحة أن تكون تحب صواب مناظرك ويسوؤك خطأه كما تحب الصواب من نفسك ويسوؤك الخطأ منها، فإنك إن لم تكن هكذا كنت غاشّاً لأخيك ولجماعة المسلمين، وكنت محباً أن يخطأ في دين الله وأن يكذب عليه ولا يصيب الحق في الدين ولا يصدق، فإذا كانت نيتك أن يسرك صواب مناظرك ويسوؤك خطأه فأصاب وأخطأت لم يسؤك الصواب ولم تدفع ما أنت تحبه بل سرك ذلك وتتلقاه بالقبول والسرور والشكر لله عز وجل حين وفق صاحبك لما كنت تحب أن تسمعه منه، فإن أخطأ ساءك ذلك وجعلت همتك التلطف لتزيله عنه، لأنك(5/402)
رجل من أهل العلم يلزمك النصيحة للمسلمين بقول الحق، فإن كان عندك بذلته وأحببت قبوله، وإن كان عند غيرك قبلته، ومن دَلَّك عليه شكرت له، فإذا كان هذا أصلك وهذه دعواك فأين تذهب عما أنت له طالب وعلى جمعه حريص، ولكنك والله يا أخي تأبى الحق وتنكره إذا سبقك مناظرك إليه وتحتال لإفساد صوابه وتصويب خطئك وتغتاله وتلقي عليه التغاليظ وتظهر التشنيع، ولا سيما إن كان في عينك وعند أهل مجلسك أنه أقل علماً منك فذاك الذي تجحد صوابه وتكذب حقه، ولعل الأنفة تحملك إذا هو احتج عليك بشيء خالف قولك فقال لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قلت لم يقله رسول الله فجحدت الحق الذي تعلمه ورددت السنة، فإن كان مما لا يمكنك إنكاره أدخلت على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علة تغير بها معناه وصرفت الحديث إلى غير وجهه، فإرادتك أن يخطأ صاحبك خطأ منك واغتنامك بصوابه غش فيك وسوء نية في المسلمين.
فاعلم يا أخي أن من كره الصواب من غيره ونصر الخطأ من نفسه لم يؤمن عليه أن يسلبه الله ما علمه وينسيه ما ذكره، بل يخاف عليه أن يسلبه الله إيمانه، لأن الحق من رسول الله إليك افترض عليك طاعته فمن سمع الحق فأنكره بعد علمه له فهو من المتكبرين على الله، ومن نصر الخطأ فهو من حزب الشيطان، فإن قلت أنت الصواب وأنكره خصمك ورده عليك كان ذلك أعظم لأنفتك وأشد لغيظك وحنقك وتشنيعك وإذاعتك وكل ذلك مخالف للعلم ولا موافق للحق. بلغني عن الحسن بن عبد العزيز الجروي المصري أنه قال: سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطأ وما في ظني علم إلا وددت أنه عند كل(5/403)
أحد ولا ينسب إلي. وبلغني عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدونني.
وحدثني أبو صالح محمد بن أحمد، قال: حدثنا أبو الأحوص، قال: سمعت حسينا الزعفراني يقول: سمعت الشافعي يحلف وهو يقول: ما ناظرت أحداً قط إلا على النصيحة وما ناظرت أحداً ما فأحببت أن يخطئ، أفهكذا أنت يا أخي بالله عليك؟ إن ادعيت ذلك فقد زعمت أنك خير من الأخيار، وبدل من الأبدال والذي يظهر من أهل وقتنا أنهم يناظرون مغالبة لا مناظرة ومكايدة لا مناصحة، ولربما ظهر من أفعالهم ما قد كثر وانتشر في كثير من البلدان، فمما يظهر من قبيح أفعالهم وما يبلغ بهم حب الغلبة ونصرة الخطأ أن تحمر وجوههم وتدر عروقهم وتنتفخ أوداجهم ويسيل لعابهم، ويزحف بعضهم إلى بعض حتى ربما لعن بعضهم بعضاً، وربما بزق بعضهم على بعض، وربما مد أحدهم يده إلى لحية صاحبه، ولقد شهدت حلقة بعض المتصدرين في جامع المنصور فتناظر أهل مجلسه بحضرته فأخرجهم غيظ المناظرة وحمية المخالفة إلى أن قذف بعضهم زوجة صاحبه ووالدته، فحسبك بهذه الحال بشاعة وشناعة على سفه الناس وجهالهم، فكيف بمن تسمى بالعلم وترشح للإمامة والفتيا، ولقد رأيت المناظرين في قديم الزمان وحديثه فما رأيت ولا حدثت ولا بلغني أن مختلفين تناظرا في شيء ففلجت حجة أحدهما وظهر صوابه وأخطأ الآخر وظهر خطؤه فرجع المخطئ عن خطأه ولا صبا إلى صواب صاحبه ولا افترقا إلا على الاختلاف والمباينة، وكل واحد منهما متمسك بما كان عليه ولربما علم أنه على الخطأ فاجتهد في نصرته، وهذه(5/404)
أخلاق كلها تخالف الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من علماء الأمة. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: فإني أجعل أمام القول إيعاز النصيحة إلى إخواني المسلمين، بأن يتمسكوا بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين، الذين شرح الله بالهدى صدورهم، وأنطق بالحكمة ألسنتهم، وضرب عليه سرادق عصمته، وأعاذهم من كيد إبليس وفتنته، وجعلهم رحمة وبركة على من اتبعهم، وأنساً وحياة لمن سلك طريقهم، وحجة وعمى على من خالفهم. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (2) وأحذرهم مقالة جهم بن صفوان وشيعته، الذين أزاغ الله قلوبهم، وحجب عن سبل الهدى أبصارهم، حتى افتروا على الله عز وجل بما تقشعر منه الجلود، وأورث القائلين به نار الخلود، فزعموا أن القرآن مخلوق، والقرآن من علم الله تعالى، وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى، فمن زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله كان ولا علم، ومن زعم أن أسماء الله وصفاته مخلوقة، فقد زعم أن الله مخلوق محدث، وأنه لم يكن ثم كان، تعالى الله عما
_________
(1) الإبانة (2/ 3/545 - 548).
(2) النساء الآية (115).(5/405)
تقوله الجهمية الملحدة علواً كبيراً، وكلما تقوله وتنتحله، فقد أكذبهم الله عز وجل في كتابه، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي أقوال أصحابه، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين، لأن الله عز وجل لم يزل عالماً سميعاً بصيراً متكلماً، تاما بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، قبل كون الكون، وقبل خلق الأشياء، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضال الجحود الجهمي المكذب بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وسنذكر من كتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين ما دل على كفر الجهمي الخبيث وكذبه، ما إذا سمعه المؤمن العاقل العالم، ازداد به بصيرة وقوة وهداية، وإن سمعه من قد داخله بعض الزيغ والريب، وكان لله فيه حاجة، وأحب خلاصه وهدايته، نجاه ووقاه، وإن كان ممن قد كتبت عليه الشقوة، زاده ذلك عتوّاً وكفراً وطغياناً. ونستوفق الله لصواب القول وصالح العلم. (1)
- وقال: فتفهموا رحمكم الله هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق ويتعوذ هو ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟ وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله؟ فيقول: أعيذ نفسي بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالعرش أو بالكرسي أو بالأرض؟ وإذا جاز أن يتعوذ بمخلوق مثله، فليعوذ نفسه وغيره بنفسه فيقول: أعيذك بنفسي. أو ليس قد أوجب عبد الله بن مسعود رحمه الله على من حلف بالقرآن بكل آية كفارة؟ فهل يجب على من حلف بمخلوق كفارة؟ (2)
- وقال: ومما يحتج به على الجهمي الخبيث الملحد أن يقال له: هل تعلم
_________
(1) الإبانة (1/ 12/212 - 215).
(2) الإبانة (1/ 12/262).(5/406)
شيئاً مخلوقاً لا يجوز أن يمسه إلا طاهر طهارة تجوز له بها الصلاة؟ فلولا ما شرف الله به القرآن وأنه كلامه وخرج منه، لجاز أن يمسه الطاهر وغير الطاهر، ولكنه غير مخلوق، فمن ثم حظر أن يمس المصحف أو ما كان فيه مكتوب من القرآن إلا طاهر، فقال تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (1).اهـ (2)
- وقال:
باب ذكر اللفظية والتحذير من رأيهم ومقالاتهم:
واعلموا رحمكم الله أن صنفاً من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم وخبث آرائهم وقبيح أهوائهم؛ أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها تمويها وبهرجة على العامة، ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قل علمه وضعفت نحيزته، فقالوا: إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله، فهو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه نقرؤه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة. فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه، فلم يخف ذلك بحمد الله وَمَنِّهِ وحسن توفيقه على جهابذة العلماء والنقاد العقلاء، حتى بهرجوا ما دلسوا وكشفوا القناع عن قبيح ما ستروه، فظهر للخاصة والعامة كفرهم وإلحادهم، وكان الذي فطن لذلك وعرف موضع القبيح منه الشيخ الصالح، والإمام العالم العاقل أبو عبد الله -أحمد بن محمد بن حنبل- رحمه
_________
(1) الواقعة الآية (79).
(2) الإبانة (1/ 12/275).(5/407)
الله، وكان بيان كفرهم بيناً واضحاً في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد كذبهم القرآن والسنة بحمد الله. قال الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) ولم يقل: حتى يسمع حكاية كلام الله. وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (2) فأخبر أن السامع إنما يسمع إلى القرآن، ولم يقل إلى حكاية القرآن. وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} (3) وقال عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ} (4)
وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} (5) ولم يقل: إنا سمعنا حكاية قرآن عجب. وقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (6) وقال تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ
_________
(1) التوبة الآية (6).
(2) الأعراف الآية (204).
(3) الإسراء الآية (45).
(4) الأحقاف الآية (29) ..
(5) الجن الآيتان (1و2).
(6) المزمل الآية (20).(5/408)
فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ} (1) وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) ولم يقل: من حكاية القرآن. ومثل هذا في القرآن كثير، من تدبره عرفه. وجاء في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين ما يوافق القرآن ويضاهيه والحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي» (3) ولم يقل: حكاية كلام ربي. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (4) ولم يقل: من تعلم حكاية القرآن. وقال: «مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن تعاهدها صاحبها، أمسكها، وإن تركها ذهبت» (5) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو» (6) وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} (7)
فنهى أن يمس المصحف إلا طاهر، لأنه كلام رب العالمين، فكل ذلك يسميه الله عز وجل قرآناً ويسميه النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآناً ولا يقول: حكاية القرآن، ولا حكاية كتاب الله، ولا حكاية
_________
(1) الإسراء الآية (46).
(2) الإسراء الآية (82).
(3) انظر مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ).
(4) انظر في مواقف محمد بن الحسين سنة (360هـ).
(5) انظر في مواقف محمد بن الحسين سنة (360هـ).
(6) انظر مواقف أحمد بن كامل القاضي سنة (350هـ).
(7) الواقعة الآيات (77 - 80) ..(5/409)
كلام الله. وقال عبد الله بن مسعود: "إن هذا القرآن كلام الله، فلا تخلطوا به غيره". وقال عبد الله أيضاً: "تعلموا كتاب الله واتلوه، فإن لكم بكل حرف عشر حسنات"، فهذا ونحوه في القرآن والسنن وقول الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين؛ ما يدل العقلاء على كذب هذه الطائفة من الجهمية الذي احتالوا ودققوا في قولهم: القرآن مخلوق. ولقد جاءت الآثار عن الأئمة الراشدين وفقهاء المسلمين الذين جعلهم الله هداة للمسترشدين، وأنساً لقلوب العقلاء من المؤمنين مما أمروا به من إعظام القرآن وإكرامه مما فيه، دلالة على أن ما يقرؤه الناس ويتلونه بألسنتهم؛ هو القرآن الذي تكلم الله به، واستودعه اللوح المحفوظ، والرق المنشور، حيث يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (1) وقوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} (2).اهـ (3)
- وقال: فبهذه الروايات والآثار التي أثرناها ورويناها عن سلفنا وشيوخنا وأئمتنا؛ نقول، وبهم نقتدي، وبنورهم نستضيء، فهم الأئمة العلماء العقلاء النصحاء، الذين لا يستوحش من ذكرهم، بل تنزل الرحمة إذا نشرت أخبارهم، ورويت آثارهم، فنقول: إن القرآن كلام الله، ووحيه، وتنزيله، وعلم من علمه، فيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا، غير مخلوق، كيف تصرف وعلى كل حال، لا نقف ولا نشك ولا نرتاب، ومن قال: مخلوق،
_________
(1) البروج الآيتان (21و22).
(2) الطور الآيتان (2و3).
(3) الإبانة (1/ 12/317 - 321).(5/410)
أو قال: كلام الله ووقف، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهؤلاء كلهم جهمية ضلال كفار لا يشك في كفرهم ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو ضال مضل جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع، لا يكلم حتى يرجع عن بدعته ويتوب عن مقالته. فهذا مذهبنا، اتبعنا فيه أئمتنا واقتدينا بشيوخنا رحمة الله عليهم، وهو قول إمامنا أحمد بن حنبل رحمه الله. (1)
- وقال: تفهموا رحمكم الله ما جاءت به الأخبار، وما رويناه من الآثار عن السلف الصالحين، وعلماء المسلمين الأئمة العقلاء، الحكماء الورعين، الذين طيب الله أذكارهم، وعلا أقدارهم، وشرف أفعالهم، وجعلهم أنسا لقلوب المستبصرين، ومصابيح للمسترشدين، الذين من تفيأ بظلهم لا يضحى، ومن استضاء بنورهم لا يعمى، ومن اقتفى آثارهم لا يبدع، ومن تعلق بحبالهم لم يقطع، وسوءة لمن عدل عنهم وكان تابعاً ومؤتمّاً بجهم الملعون وشيعته، مثل ضرار، وأبي بكر الأصم، وبشر المريسي، وابن أبي دؤاد، والكرابيسي، وشعيب الحجام، وبرغوث، والنظام، ونظرائهم من رؤساء الكفر، وأئمة الضلال الذين جحدوا القرآن، وأنكروا السنة، وردّوا كتاب الله وسنة رسول الله، وكفروا بهما جهاراً وعمداً، وعناداً وحسداً، وبغياً وكفراً، وسأبثك من أخبارهم وسوء مناهجهم وأقوالهم ما فيه معتبر لمن غفل. (2)
- وقال: فقد ذكرت من أخبار جهم وشيعته من رؤساء الكفر وأتباعه
_________
(1) الإبانة (1/ 12/345 - 346).
(2) الإبانة (2/ 13/83 - 84).(5/411)
من أئمة الضلال الذين انتحلوا الاعتزال إخوان الشياطين وأشباه أسلافهم من عبدة الأوثان من المشركين، ما فيه معتبر للعاقلين ومزدجر للمفترين، وذلك على اختصار من الإكثار، واقتصار على مبلغ وسع السامعين، فإن الذي انتهى إلينا من قبح أخبارهم وسوء مذاهبهم يكثر على الإحصاء، ويطول شرحه للاستقصاء، وطويت من أقوالهم ما تقشعر منه الجلود ولا تثبت لسماعه القلوب، وقد قدمت القول فيما روي عن عبد الله ابن المبارك رحمه الله، قال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، وما نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وصدق عبد الله، فإن الذي تجادل عليه هذه الطائفة الضلال، وتتفوه به من قبيح المقال في الله عز وجل تتحوب اليهود والنصارى والمجوس عن التفوه به. (1)
وقال: فاعلموا رحمكم الله أن رؤساء الكفر والضلال من الجهمية الملحدة ألقت إليهم الشياطين من إخوانهم الخصومة بالمتشابه من القرآن، فزاغت به قلوبهم، فضلوا وأضلوا، فقل للجهمي الضال: هذا كتاب الله عز وجل، سماه الله في كتابه قرآناً وفرقاناً ونوراً وهدىً ووحياً وتبياناً وذكراً وكتاباً وكلاماً وأمراً وتنزيلاً، وفي كل ذلك يعلمنا أنه كلامه منه ومتصل به. قال الله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} (2). وقال: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} (3). فلك في
_________
(1) الإبانة (2/ 13/132 - 133).
(2) غافر الآيتان (1و2).
(3) الأحقاف الآيتان (1و2).(5/412)
أسمائه التي سماه الله بها كفاية، فقد جهلت وغلوت في دين الله غير الحق، وافتريت على الله الكذب والبهتان حين زعمت أن القرآن مخلوق، وزعمت أن ذلك هو التوحيد، وأنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، وأن من لم يقل بمقالتك ويتبعك على إلحادك وضلالتك فليس بموحد، تكفره وتستحل دمه، فكل ما قلته وابتدعته أيها الجهمي، فقد أكذبك الله عز وجل فيه، ورده عليك هو ورسوله والمسلمون جميعاً من عباد غيره، وإنما التمسنا دعواك هذه في كتاب الله، وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفي إجماع المسلمين وصالحي المؤمنين، فلم نجد في ذلك شيئاً مما ادعيته. قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (1) ولم يقل: وأن تقولوا: القرآن مخلوق. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (2) ولم يقل: وأن تقولوا: القرآن مخلوق. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا ربكم} ...
إلى قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (3) ولم يقل: وأن تقولوا القرآن مخلوق. وقال: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
_________
(1) الأنبياء الآية (25).
(2) النساء الآية (131).
(3) الحج الآيتان (77و78).(5/413)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (2) وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (3) وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (4) وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (5) وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (6) وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} (7) وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (8) فمثل هذا وشبهه في القرآن كثير، قد قرأناه وفهمناه، فلم نجد لبدعتك هذه فيه ذكراً ولا أثراً، ولا دعا الله عباده ولا أمرهم بشيء
_________
(1) الشورى الآية (13).
(2) الروم الآية (30).
(3) هود الآيتان (1و2).
(4) البينة الآية (5).
(5) النحل الآية (89).
(6) الأنعام الآية (38).
(7) يس الآية (12).
(8) التوبة الآية (115).(5/414)
مما زعمت أنه توحيده ودينه.
أفتزعم أن الله عز وجل أغفل هذا أم نسيه حتى ذكرته أنت وأنبهته عليه؟ فقد أكذبك الله عز وجل فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} (1) وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) أم عساك تزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان في دينه، وكتم ما أمره بتبليغه؟ فإن في جرأتك على الله وعلى رسوله ما قد قلت ما هو أعظم من هذا وكل ذلك، فقد أكذبك الله فيه. فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} ... إلى قوله: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (3) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (4) وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (5) وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
_________
(1) مريم الآية (64).
(2) الأنعام الآية (38).
(3) الأعراف الآيتان (157و158).
(4) الأنبياء الآية (107).
(5) النحل الآية (44).(5/415)
رِسَالَتَهُ} (1) وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)} (2) وقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} (3)
وقالت عائشة: من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئاً مما أنزله الله عليه، فقد أعظم الفرية على الله، يقول الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية (4). ثم التمسنا هذه الضلالة التي اخترعتها وزعمت أنها الشريعة الواجبة والدين القيم والتوحيد اللازم الذي لا يقبل الله من العباد غيره بأن يقولوا: القرآن مخلوق في سنة المصطفى، وما دعا إليه أمته وقاتل من خالفه عليه، فما وجدنا لذلك أثراً ولا أمارة ولا دلالة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (5) فزعمت أيها الجهمي أنها ست بضلالتك هذه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، حرمت علي
_________
(1) المائدة الآية (67).
(2) العنكبوت الآية (18).
(3) الحجر الآيتان (94و95) ..
(4) أحمد (6/ 49/50) والبخاري (8/ 780/4855) ومسلم (1/ 159/177) والترمذي (5/ 245 - 246/ 3068) والنسائي في الكبرى (6/ 471/11532).
(5) أحمد (2/ 143) والبخاري (1/ 67 - 68/ 8) ومسلم (1/ 45/16) والترمذي (5/ 7/2609) والنسائي (8/ 481 - 482/ 5016) عن ابن عمر.(5/416)
دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والتارك لدينه، والنفس بالنفس» (2).
وقال لوفد عبد القيس حين قدموا عليه، فأمرهم بالإيمان بالله، وقال: «أتدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم» (3) وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (4) فهذا كتاب الله يكذبك أيها الجهمي، وسنة نبيه وإجماع المؤمنين وسبيلهم تخالفك، وتدل على ضلالتك، وعلى إبطال ما ادعيته من أن قولك: القرآن مخلوق، هو التوحيد والدين الذي شرعه الله لعباده، وبعث به رسوله. فقد بطل الآن ما ادعيته من قولك: إن التوحيد هو أن يقال: القرآن مخلوق، وبان كذبك وبهتانك للعقلاء. فأخبرنا الله عز وجل عن خلق ما خلق من الأشياء،
_________
(1) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980).
(2) أحمد (1/ 382،428،444) والبخاري (12/ 247/6878) ومسلم (3/ 1302/1676) وأبو داود (4/ 522/4352) والترمذي (4/ 12 - 13/ 1402) وقال: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 90 - 91/ 4027) وابن ماجه (2/ 847/2534).
(3) أحمد (1/ 228) والبخاري (1/ 172/53) ومسلم (1/ 46/17) وأبو داود (4/ 94/3692) والترمذي (5/ 9 - 10/ 2611) والنسائي (8/ 495/5046) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) النساء الآية (115).(5/417)
فإنا نحن قد أوجدناك في آيات كثيرة من كتابه وأخبار صحيحة عن رسول الله أن القرآن كلام الله ومنه، وفيه صفاته وأسماؤه، وأنه علم من علمه، وأنه ليس بجائز أن يكون شيء من الله ولا من صفاته، ولا من أسمائه، ولا من علمه، ولا من قدرته، ولا من عظمته، ولا من عزته مخلوقة (1). ورأيناك أيها الجهمي تزعم أنك تنفي التشبيه عن الله بقولك: إن القرآن مخلوق، ورأيناك شبهت الله عز وجل بأضعف ضعيف من خلقه. فإن كلام العباد مخلوق، وأسماءهم مخلوقة، وعلم الناس مخلوق، وقدرتهم وعزتهم مخلوقة، فأنت بالتشبيه أحق وأخلق، وأنت فليس تجد ما قلته من أن القرآن مخلوق في كتاب الله، ولا في سنة نبيه، ولا مأثوراً عن صحابته، ولا عن أحد من أئمة المسلمين.
فحينئذ لجأ الجهمي إلى آيات من المتشابه جهل علمها، فقال: قلت: ذلك من قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (2) وقوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (3) وزعم أن كل مجعول مخلوق، فنزع بآية من المتشابه يحتج بها من يريد أن يلحد في تنزيلها، ويبتغي الفتنة في تأويلها. فقلنا إن الله عز وجل قد منعك -أيها الجهمي- الفهم في القرآن حين جعلت كل مجعول مخلوقاً، وأن كل جعل في كتاب الله هو بمعنى خلق، فمن هاهنا بليت بهذه الضلالة القبيحة حين تأولت كتاب الله بجهلك وهوى نفسك وما زينه لك شيطانك وألقاه على لسانك إخوانك، وذلك أنا نجد
_________
(1) لعل الصواب: مخلوق.
(2) الزخرف الآية (3).
(3) الشورى الآية (52).(5/418)
الحرف الواحد في كتاب الله عز وجل على لفظ واحد ومعانيه مختلفة في آيات كثيرة، تركنا ذكرها لكثرتها وقصدنا لذكر الآية التي احتججت بها. فـ"جعل" في كتاب الله عز وجل على غير معنى: "خلق"، فجعل من المخلوقين، على معنى وصف من أوصافهم، وقسم من أقسامهم، و"جعل" أيضاً على معنى فعل من أفعالهم لا يكون خلقاً ولا يقوم مقام الخلق، فتفهموا الآن ذلك واعقلوه. قال الله عز وجل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)} (1)، وإنما جعل هاهنا بمعنى: وصفوه بغير وصفه، ونسبوه إلى غير معناه حين عضوه وميزوه فقالوا: إنه شعر، وإنه سحر، وإنه قول البشر، وإنه أساطير الأولين. وقال في مثل ذلك: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} (2) وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (3) وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (4) وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} (5)
وقال: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (6) لا يعني ذلك: ولا تخلقوا. وقال: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} (7) وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا
_________
(1) الحجر الآية (91).
(2) الأنعام الآية (100).
(3) الزخرف الآية (19).
(4) النحل الآية (62).
(5) النحل الآية (57) ..
(6) البقرة الآية (224).
(7) فصلت الآية (9).(5/419)
لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} (1) وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} (2) فهذا كله "جعل" لا يجوز أن يكون على معنى "خلق" و"جعل" من بني آدم على فعل. قال الله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} (3) لا يجوز أن يكون: يخلقون أصابعهم في آذانهم. وقال: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} (4) لا يجوز أن يكون: خلقه ناراً. وقال: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} (5) أفيجوز أن يكون خلقهم جذاذاً؟ و"جعل" في معنى "خلق" في معنى ما كان من الخلق موجوداً محسوساً، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (6) فجعل هاهنا في معنى خلق لا ينصرف إلى غيره، وذلك أن الظلمات والنور يراهما الناس، وكذلك قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (7) وهما موجودان في بني آدم. وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ} (8) يعني: خلقتا، وهما
_________
(1) النحل الآية (56).
(2) الرعد الآية (33).
(3) البقرة الآية (19).
(4) الكهف الآية (96).
(5) الأنبياء الآية (58).
(6) الأنعام الآية (1).
(7) الملك الآية (23).
(8) الإسراء الآية (12).(5/420)
موجودان معروفان بإقبالهما وإدبارهما، فهل يعرف القرآن بإقبال وإدبار؟ وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} (1) معناه خلق، والشمس نور وحر وهي ترى، فهل يمكن ذلك في القرآن؟ وقال: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)} (2)
يعني: خلقت، والمال موجود يوزن ويعد ويحصى ويعرف، فهل يوزن القرآن؟ وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)} (3) وهي موجودة، يُمشى عليها وتحرث، فهل يمكن مثل ذلك في القرآن؟ فهذا كله على لفظ "جعل" ومعناه معنى الخلق. وقد ذكر معنى الجعل منه في مواضع كثيرة على غير معنى الخلق، من ذلك قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سائبة وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (4) لا يعني: ما خلق الله من بحيرة، لأنه هو خلق البحيرة والسائبة والوصيلة، ولكنه أراد أنه لم يأمر الناس باتخاذ البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فهذا لفظ "جعل" على غير معنى "خلق"، وقال تعالى لإبراهيم خليله عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (5) لا يعني: خالقك، لأن خلقه قد سبق إمامته. وقال لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
_________
(1) نوح الآية (16).
(2) المدثر الآية (12) ..
(3) نوح الآية (19).
(4) المائدة الآية (103).
(5) البقرة الآية (124).(5/421)
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} (1) ولا يعني وخالقوه، لأنه قد كان مخلوقاً، وإنما جعله مرسلاً بعد خلقه. وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا} (2) لا يعني: رب اخلق هذا البلد، لأن البلد كان مخلوقاً، ألا تراه يقول: هذا البلد؟ وقال: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} (3) لا يريد: حتى خلقناهم حصيداً. وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (4) لا يعني: رب اخلقني. وقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (5) ولم يريدا: واخلقنا مسلمين لك لأن خلقهما قد تقدم قبل قولهما، فهذا ونحوه في القرآن كثير، مما لفظه "جعل" على غير معنى "خلق".
وكذلك قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (6) إنما جعله عربياً ليفهم ويبين للذين نزل عليهم من العرب، ألم تسمع إلى قوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} (7)؟ وقال في موضع آخر: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا
_________
(1) القصص الآية (7).
(2) إبراهيم الآية (35).
(3) الأنبياء الآية (15).
(4) إبراهيم الآية (40).
(5) البقرة الآية (128).
(6) الزخرف الآية (3).
(7) مريم الآية (97).(5/422)
أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (1) يقول: أعربي محمد وعجمي كلامه بالقرآن؟ فجعل الله القرآن بلسان عربي مبين. كذلك ألم تسمع قوله: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} (2) وقال: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} (3) وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} (4) وأما قوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} (5) فإنما يعني: أنزلناه نوراً، تصديق ذلك في الآية الأخرى قوله: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (6) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)} (7) وقال: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} (8) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} (9) فقد بين لمن عقل وشرح
_________
(1) فصلت الآية (44).
(2) النحل الآية (103).
(3) فصلت الآية (3).
(4) يوسف الآية (2).
(5) الشورى الآية (52).
(6) التغابن الآية (8).
(7) النساء الآية (174).
(8) الأعراف الآية (157).
(9) الأنعام الآية (91).(5/423)
الله صدره للإيمان أن "جعل" في كتاب الله على غير معنى "خلق"، و"جعل" أيضاً بمعنى "خلق"، وأن قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (1) على غير معنى "خلق". فبأي حجة وفي أي لغة زعم الجهمي أن كل "جعل" على معنى "خلق".
ألم يسمع إلى قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} (2)؟ أفترى الجهمي يظن أن قوله: {وَنَجْعَلَهُمْ أئمة} إنما يريد: أن نخلقهم أئمة؟ أفتراه يخلقهم خلقاً آخر بعد خلقهم الأول؟ فهل يكون معنى "الجعل" هاهنا معنى "الخلق"؟ قال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} (3) لا يعني: ثم خلقنا له جهنم، لأن جهنم قد تقدم خلقها، ولم يرد أنها تخلق حين يفعل العبد ذلك، ولكنه إذا فعل العبد ذلك جعلت داره ومسكنه بعد ما تقدم خلقها. وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} (4) وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
_________
(1) الزخرف الآية (3).
(2) القصص الآية (5).
(3) الإسراء الآية (18).
(4) الأنفال الآية (37).(5/424)
الصَّالِحَاتِ} (1) وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (2) وقال: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} (3) يعني: بني إسرائيل، أفيظن الجهمي الملحد أنما أراد إنما خلق السبت على بني إسرائيل؟ فقد علم العقلاء أن السبت مخلوق في مبتدأ الخلق قبل كون بني إسرائيل، وقبل نوح، وقبل إبراهيم، ولكن معناه: إنما جعل على هؤلاء أن يسبتوا السبت خاصة، فهذا على غير معنى "خلق".
وهذا كثير في القرآن، ولكن الجهمي من الصم البكم الذين لا يعقلون، من الذين {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} (4)، ألم تسمع إلى قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} (5) فإنما جعل الله القرآن بلسان عربي مبين، وأنزله عربياً لتفقه العرب، ولتتخذ بذلك عليهم الحجة، فذلك معنى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (6) ولم يرد عربياً في أصله ولا نسبه، وإنما أراد عربياً في قراءته. ومن أوضح البيان من تفريق
_________
(1) الجاثية الآية (21).
(2) ص الآية (28).
(3) النحل الآية (124).
(4) البقرة الآية (75).
(5) الشعراء الآيتان (198و199).
(6) الزخرف الآية (3).(5/425)
الله بين الخلق وبين القرآن أن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (1) ألا تراه يفصل بين القرآن وبين الإنسان، فقال: {عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} ولو شاء تعالى لقال: خلق الإنسان والقرآن، ولكنه تكلم بالصدق ليفهم وليفصل كما فصله. فخالف ذلك الجهمي وكفر به، وقال على الله تعالى ما لم يجده في كتاب أنزل من السماء، ولا قاله أحد من الأنبياء، ولا روي عن أحد من العلماء، بل وجد وروي خلاف قول الجهمي، حيث عاب الله أقواماً بمثل فعل الجهمي في هذا، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (2) فلما علم أنهم لا يقدرون على أن يروه لمن عبدوا خلقاً في الأرض ولا شرك لهم في السماوات، قال: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (3)
يعني: من قبل القرآن، أي ائتوني بكتاب من قبل هذا تجدون فيه ما أنتم عليه من عبادة الأوثان، {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} (4) أي: رواية عن بعض الأنبياء {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} (5)
_________
(1) الرحمن الآيات (1 - 3).
(2) الأحقاف الآية (4).
(3) الأحقاف الآية (4) ..
(4) الأحقاف الآية (4).
(5) الأحقاف الآية (4).(5/426)
فسلك الجهمي في مذهبه طريق أولئك، وقال في الله وتقول عليه البهتان بغير برهان، وافترى على الله الكذب، وتعدى ما أخذه الله من الميثاق على خلقه حين قال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (1) وقال: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} (2). ومن أبين البيان وأوضح البرهان من تفريق الله بين الخلق والقرآن قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (3) فتفهموا هذا المعنى، هل تشكون أنه قد دخل في ذلك الخلق كله؟ وهل يجوز لأحد أن يظن أن قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ} أراد أن له بعض الخلق؟ بل قد دخل الخلق كله في الخلق. ثم أخبر أن له أيضاً غير الخلق ليس هو خلقاً، لم يدخل في الخلق وهو {الأمر}، فبين أن الأمر خارج من الخلق، فالأمر أمره وكلامه. ومما يوضح ذلك عند من فهم عن الله وعقل أمر الله أنك تجد في كتاب الله ذكر الشيئين المختلفين إذا كانا في موضع فصل بينهما بالواو، وإذا كانا شيئين غير مختلفين لم يفصل بينهما بالواو، فمن ذلك ما هو شيء واحد وأسماؤه مختلفة ومعناه متفق، فلم يفصل بينهما بالواو. وقوله عز وجل: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
_________
(1) الأعراف الآية (169).
(2) الأنعام الآية (93).
(3) الأعراف الآية (54).(5/427)
كَبِيرًا} (1)
فلم يفصل بالواو حين كان ذلك كله شيئاً واحداً، ألا ترى أن الأب هو الشيخ الكبير؟ وقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)} (2) فلما كان هذا كله نعت شيء واحد لم يفصل بعضه عن بعض بالواو، ثم قال: {وأبكاراً} فلما كان الأبكار غير الثيبات فصل بالواو، لأن الأبكار والثيبات شيئان مختلفان.
وقال أيضاً فيما هو شيء واحد بأسماء مختلفة ولم يفصله بالواو، وقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (3) {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (4) فلما كان هذا كله شيئاً واحداً لم يفصل بالواو، وكان غير جائز أن يكون هاهنا واو، فيكون الأول غير الثاني، والثاني غير الثالث. وقال فيما هو شيئان مختلفان: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات .. } (5) إلى آخر الآية. فلما كان المسلمون غير المسلمات، فصل بالواو، ولا يجوز أن يكون
_________
(1) يوسف الآية (78) ..
(2) التحريم الآية (5).
(3) الحشر الآية (23).
(4) الحشر الآية (24).
(5) الأحزاب الآية (35).(5/428)
المسلمون المسلمات، لأنهما شيئان مختلفان. وقال: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} (1) فلما كانت الصلاة غير النسك، والمحيا غير الممات، فصل بالواو. وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)} (2) ففصل هذا كله بالواو، لاختلاف أجناسه ومعانيه. وقال في هذا المعنى أيضاً: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وحدائق غُلْبًا (30)} (3) فلما كان كل واحد من هذه غير صاحبه، فصل بالواو، ولما كانت الحدائق غلباً شيئاً واحداً، أسقط بينهما الواو.
وقال أيضاً: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} (4) فلما كان الليل غير النهار فصل بالواو. كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (5) فلما كان الشمس غير القمر، فصل بالواو، وهذا في القرآن كثير، وفي بعض ما ذكرناه كفاية لمن تدبره وعقله وأراد الله توفيقه وهدايته. فكذلك لما كان
_________
(1) الأنعام الآية (162).
(2) فاطر الآيات (19 - 21).
(3) عبس الآيات (27 - 30).
(4) الفرقان الآية (62).
(5) إبراهيم الآية (33).(5/429)
الأمر غير الخلق، فصل بالواو، فقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (1) فالأمر أمره وكلامه، والخلق خلق، وبالأمر خلق الخلق، لأن الله عز وجل أمر بما شاء وخلق بما شاء. فزعم الجهمي أن الأمر خلق، والخلق خلق، فكأن معنى قول الله عز وجل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} إنما هو الإله الخلق والخلق، فجمع الجهمي بين ما فصله الله. ولو كان الأمر كما يقول الجهمي، لكان قول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وما نتنزل إلا بخلق ربك، والله يقول: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (2) ومما يدل على أن أمر الله هو كلامه قوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} (3) فيسمي الله القرآن أمره، وفصل بين أمره وخلقه، فتفهموا رحمكم الله، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} (4) ولم يقل: عن خلقنا، وقال: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (5) ولم يقل بخلقه، لأنها لو قامت بخلقه لما كان ذلك من آيات الله، ولا من معجزات قدرته ولكن من آيات الله أن يقوم المخلوق بالخالق، وبأمر الخالق قام المخلوق. وقال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} (6) فبدعوة الله
_________
(1) الأعراف الآية (54).
(2) مريم الآية (64).
(3) الطلاق الآية (5).
(4) سبأ الآية (12).
(5) الروم الآية (25).
(6) الروم الآية (25).(5/430)
يخرجون.
واحتج الجهمي بآية انتزعها من المتشابه، فقال: أليس قد قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (1) فهل يدبر إلا مخلوق؟ فهذا أيضاً مما يكون لفظه واحداً بمعان مختلفة، وجاء مثله في القرآن كثير، فإنما يعني: يدبر أمر الخلق، ولا يجوز أن يدبر كلامه، لأن الله تعالى حكيم عليم، وكلامه حكم، وإنما تدبير الكلام من صفات المخلوقين الذين في كلامهم الخطأ والزلل فهم يدبرون كلامهم مخافة ذلك ويتكلمون بالخطأ ثم يرجعون إلى الصواب، والله عز وجل لا يخطئ، ولا يضل ولا ينسى ولا يدبر كلامه. وقال تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (2) يقول: لله الأمر من قبل الخلق ومن بعد الخلق. وقوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} (3) يعني: هداية هداكم الله بها، والهداية علمه، والعلم منه ومتصل به، كما أن شعاع الشمس متصل بعين الشمس، فإذا غابت عين الشمس ذهب الشعاع، -ولله المثل الأعلى- والله عز وجل هو الدائم الأبدي الأزلي، وعلمه أزلي، وكلامه دائم لا يغيب عن شيء ولا يزول، ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر ليضل به الضعفاء ومن لا علم عنده، فقال: أخبرونا عن القرآن، هل هو شيء أو لا شيء؟ فلا يجوز أن يكون جوابه: لا شيء، فيقال له: هو شيء، فيظن حينئذ أنه قد ظفر بحجته ووصل
_________
(1) يونس الآية (3).
(2) الروم الآية (4).
(3) الطلاق الآية (5).(5/431)
إلى بغيته، فيقول: فإن الله يقول: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) والقرآن شيء يقع عليه اسم شيء، وهو مخلوق، لأن الكل يجمع كل شيء. فيقال له: أما قولك إن الكل يجمع كل شيء، فقد رد الله عليك ذلك وأكذبك القرآن، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} (2) ولله عز وجل نفس لا تدخل في هذا الكل، وكذلك كلامه شيء لا يدخل في الأشياء المخلوقة، كما قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3)
وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (4) فإن زعمت أن الله لا نفس له، فقد أكذبك القرآن ورد عليك قولك، قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (5) وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (6) وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (7) وقال فيما حكاه عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (8) فقد علم من آمن بالله واليوم الآخر أن كتاب الله حق، وما قاله فيه حق، وأن لله
_________
(1) الأنعام الآية (102).
(2) آل عمران الآية (185).
(3) القصص الآية (88) ..
(4) الفرقان الآية (58).
(5) الأنعام الآية (54).
(6) آل عمران الآية (28).
(7) طه الآية (41).
(8) المائدة الآية (116).(5/432)
نفساً، وأن نفسه لا تموت، وأن قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} (1) لا تدخل في هذا نفس الله. وكذلك يخرج كلامه من الكلام المخلوق، كما تخرج نفسه من الأنفس التي تموت، وقد فهم من آمن بالله وعقل عن الله أن كلام الله، ونفس الله، وعلم الله، وقدرة الله، وعزة الله، وسلطان الله، وعظمة الله، وحلم الله، وعفو الله، ورفق الله، وكل شيء من صفات الله أعظم الأشياء، وأنها كلها غير مخلوقة، لأنها صفات الخالق ومن الخالق، فليس يدخل في قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (2) لا كلامه، ولا عزته، ولا قدرته، ولا سلطانه، ولا عظمته، ولا جوده، ولا كرمه، لأن الله تعالى لم يزل بقوله وعلمه وقدرته وسلطانه وجميع صفاته إلهاً واحداً، وهذه صفاته قديمة بقدمه، أزلية بأزليته دائمة بدوامه، باقية ببقائه، لم يخل ربنا من هذه الصفات طرفة عين، وإنما أبطل الجهمي صفاته يريد بذلك إبطاله.
وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعتقد العبد إِنِّيَّته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً، الثاني: أن يعتقد وحدانيته، ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره. والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه، إذ قد علمنا أن كثيراً ممن يقر
_________
(1) آل عمران الآية (185).
(2) الأنعام الآية (102).(5/433)
به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته، فيكون إلحاده في صفاته قادحاً في توحيده. ولأنا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة في هذه الثلاث والإيمان بها، فأما دعاؤه إياهم إلى الإقرار بإنّيّته ووحدانيته، فلسنا نذكر هذا هاهنا لطوله وسعة الكلام فيه، ولأن الجهمي يدعي لنفسه الإقرار بهما، وإن كان جحده للصفات قد أبطل دعواه لهما، وأما محاجة الله لخلقه في معنى صفاته التي أمرهم أن يعرفوه بها، فبالآيات التي اقتص فيها أمور بريته في سماواته وأرضيه وما بينهما، وما أخرجها عليهم من حسن القوام وتمام النظام، وختم كل آية منها بذكر علمه وحكمته وعزته وقدرته، مثل قوله عز وجل: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (1) فإنه لما ذكر التدبير العجيب الذي دبر به أمرها، أتبع ذلك بأن قال: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} (2)
فإن هذا خرج في ظاهره مخرج الخبر، وهو في باطنه محاجة بليغة لأن الذي يعقل من تأويله أنه لو لم تكن قدرته نافذة لما جرت هذه الأشياء على ما وجدت عليه، ولو لم يكن علمه سابقاً لما خلقه قبل أن يخلقه، فلما خرج على هذا النظام العجيب، إذ كان مما تدركه العقول أن المتعسف في أفعاله لا يوجد لها قوام ولا انتظام، فهو عز وجل يستشهد لخلقه بآثار صنعته العجيبة، وإتقانه لما خلق، وإحكامه على سابق علمه ونافذ قدرته
_________
(1) يس الآيتان (37و38).
(2) يس الآية (38) ..(5/434)
وبليغ حكمته. وكذلك قال عز وجل: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} (1) لأنه كما أن عين المصنوع أوجب صانعاً، كذلك ما ظهر في آثار الحكمة والقدرة في الصنعة أوجب حكيماً قادراً. وفي دفع آلات الصنعة من العلم والقدرة عليها حتى لا يكون الصانع موصوفا بها، جحد للصانع وإبطال له. وإنما أنكر الجهمي صفات الباري تعالى أراد بذلك إبطاله، ألا ترى أن أصغر خلقه إن أبطلت صنعته بطل؟ فكيف العظيم الذي ليس كمثله شيء؟ ألا ترى أن النخلة لها جذع، وكرب، وليف، وجمار، ولب، وخوص، وهي تسمى نخلة، فإذا قال القائل: نخلة، علم السامع أن النخلة لا تكون إلا بهذا الاسم نخلة، فلو قال: نخلة وجذعها وكربها وليفها وجمارها ولبها وخوصها وتمرها كان محالاً، لأنه يقال: فالنخلة ما هي إذا جعلت هذه الصفات غيرها؟ أرأيت لو قال قائل: إن لي نخلة كريمة، آكل من تمرها، غير أنه ليس لها جذع ولا كرب ولا ليف ولا خوص ولا لب وليس هي خفيفة، وليس هي ثقيلة، أيكون هذا صحيحاً في الكلام؟ أو ليس إنما جوابه أن يقال: إنك لما قلت: نخلة عرفناها بصفاتها، ثم نعت نعتاً نفيت به النخلة. فأنت ممن لا يثبت ما سمى إن كان صادقاً، فلا نخلة لك. فإذا كانت النخلة -في بعد قدرها من العظيم الجليل- تبطل إذا نفيت صفاتها، فليس إنما أراد الجهمي إبطال الربوبية وجحودها.
فقد تبين في المخلوق أن اسمه جامع لصفاته، وأن صفاته لا تباينه، وإنما أراد الجهمي يقول
_________
(1) الملك الآية (3).(5/435)
إن صفات الله مخلوقة أن يقول: إن الله كان ولا قدرة، ولا علم، ولا عزة، ولا كلام، ولا اسم حتى خلق ذلك كله، فكان بعد ما خلقه. فإذا أبطل صفاته فقد أبطله، وإذا أبطله في حال من الأحوال فقد أبطله في الأحوال كلها، حتى يقول: إن الله عز وجل لم يزل ولا يزال بصفاته كلها إلهاً واحداً قديماً قبل كل شيء، ويبقى بصفاته كلها بعد فناء كل شيء.
ويقال للجهمي فيما احتج به من قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) أن قوله: {كُلِّ شَيْءٍ} يجمع كل شيء، لأن الكل يجمع كل شيء، أليس قد قال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2) فهل يهلك ما كان من صفات الله. هل يهلك علم الله فيبقى بلا علم. هل تهلك عزته؟ تعالى ربنا عن ذلك، أليس هذه من الأشياء التي لا تهلك وقد قال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} (3) فقد قال: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} فهل فتح عليهم أبواب التوبة، وأبواب الرحمة، وأبواب الطاعة، وأبواب العافية، وأبواب السعادة، وأبواب النجاة مما نزل بهم؟ وهذه كلها مما أغلق أبوابها عنهم، وهي شيء، وقد قال:
_________
(1) الرعد الآية (16).
(2) القصص الآية (88).
(3) الأنعام الآية (44).(5/436)
{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وقد قال أيضاً في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (1) ولم تؤت ملك سليمان ولم تسخر لها الريح ولا الشياطين، ولم يكن لها شيء مما في ملك سليمان، فقد قال: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وقال في قصص يوسف: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} (2) وإنما كان ذلك تفصيلاً لكل شيء من قصة يوسف. وقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (3) ولم يخلق آدم من الماء وإنما خلقه من تراب، ولم يخلق إبليس من الماء، قال: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} (4) والملائكة خلقت من نور.
وقال في الريح التي أرسلت على قوم عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (5) وقد أتت على أشياء لم تدمرها، ألم تسمع إلى قوله: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} (6) فلم تدمر مساكنهم. ولو أنصف الجهمي الخبيث من نفسه واستمع كلام ربه وسلم لمولاه وأطاعه لتبين له،
_________
(1) النمل الآية (23).
(2) يوسف الآية (111).
(3) الأنبياء الآية (30).
(4) الحجر الآية (27).
(5) الأحقاف الآية (25).
(6) الأحقاف الآية (25).(5/437)
ولكنه من الذين قال الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (1) فالجهمي الضال وكل مبتدع غال أعمى أصم قد حرمت عليه البصيرة فهو لا يسمع إلا ما يهوى، ولا يبصر إلا ما اشتهى، ألم يسمع قول الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) فأخبر أن القول قبل الشيء لأن إرادته الشيء يكون قبل أن يكون الشيء فأخبر أن إرادة الشيء يكون قبل قوله. وقوله قبل الشيء إذا أراد شيئاً كان بقوله، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} (3) فالشيء ليس هو أمره، ولكن الشيء كان بأمره سبحانه: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)} (4) وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (5) فأخبرنا أنه شيء وهو تبارك اسمه وتعالى جده أكبر الأشياء، ولا يدخل في الأشياء المخلوقة. فإذا وضح للعقلاء كفر الجهمي وإلحاده، ادعى أمراً ليفتن به عباد الله الضعفاء من خلقه، فقال: أخبرونا عن القرآن، هل هو الله أو غير الله؟ فإن زعمتم أنه الله، فأنتم تعبدون القرآن، وإن زعمتم
_________
(1) النمل الآية (14).
(2) النحل الآية (40).
(3) يس الآية (82).
(4) مريم الآية (35).
(5) الأنعام الآية (19).(5/438)
أنه غير الله، فما كان غير الله فهو مخلوق. فيظن الجهمي الخبيث أن قد فلجت حجته وعلت بدعته، فإن لم يجبه العالم، ظن أنه قد نال بعض فتنته.
فالجواب للجهمي في ذلك أن يقال له: القرآن ليس هو الله، لأن القرآن كلام الله، وبذلك سماه الله، قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1)، وبحسب العاقل العالم من العلم أن يسمي الأشياء بأسمائها التي سماها الله بها، فمن سمى القرآن بالاسم الذي سماه الله به، كان من المهتدين، ومن لم يرض بالله ولا بما سماه به، كان من الضالين وعلى الله من الكاذبين.
قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (2) فهذا من الغلو ومن مسائل الزنادقة، لأن القرآن كلام الله، فمن قال إن القرآن هو الله، فقد جعل الله كلاما وأبطل من تكلم به. ولا يقال إن القرآن غير الله، كما لا يقال إن علم الله غير الله، ولا قدرة الله غير الله، ولا صفات الله غير الله، ولا عزة الله غير الله، ولا سلطان الله غير الله، ولا وجود الله غير الله. ولكن يقال: كلام الله، وعزة الله، وصفات الله، وأسماء الله، وبحسب من زعم أنه من المسلمين ولله من المطيعين، وبكتاب الله من المصدقين، ولأمر الله من المتبعين أن يسمي القرآن بما سماه الله به، فيقول: القرآن كلام الله كما قال تعالى: {يريدون أَنْ
_________
(1) التوبة الآية (6).
(2) النساء الآية (171).(5/439)
يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (1) ولم يقل: يريدون أن يبدلوا الله، ولم يقل: يريدون أن يبدلوا غير الله. وقال: {بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (2) ولم يقل إن القرآن أنا هو ولا هو غيري، فالقرآن كلام الله فيه أسماؤه وصفاته، فمن قال هو الله، فقد قال إن ملك الله، وسلطان الله، وعزة الله غير الله. ومن قال: إن سلطان الله وعزة الله مخلوق، فقد كفر لأن ملك الله لم يزل ولا يزول، ولا يقال: إن ملك الله هو الله، فلا يجوز أن يقول: يا ملك الله اغفر لنا، يا ملك الله ارحمنا، ولا يقال: إن ملك الله غير الله، فيقع عليه اسم المخلوق، فيبطل دوامه، ومن أبطل دوامه، أبطل مالكه، ولكن يقال: ملك الله من صفات الله، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} (3) وكذلك عزة الله تعالى، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (4)
يقول: من كان يريد أن يعلم لمن العزة، فإن العزة لله جميعاً، فلا يجوز أن يقال: إن عزة الله مخلوقة، من قال ذلك، فقد كفر لأن الله لم تزل له العزة ولو كانت العزة مخلوقة، لكان بلا عزة قبل أن يخلقها حتى خلقها، فعز بها تعالى ربنا وجل ثناؤه عما يصفه به الملحدون علواً كبيراً. ولا يقال: إن عزة الله هي الله، لو جاز ذلك، لكانت رغبة الراغبين ومسألة السائلين أن
_________
(1) الفتح الآية (15).
(2) الأعراف الآية (144).
(3) الملك الآية (1).
(4) فاطر الآية (10) ..(5/440)
يقولوا: يا عزة الله عافينا، ويا عزة الله أغنينا، ولا يقال: عزة الله غير الله، ولكن يقال: عزة الله صفة الله، لم يزل ولا يزال الله بصفاته واحداً. وكذلك علم الله، وحكمة الله، وقدرة الله وجميع صفات الله تعالى، وكذلك كلام الله عز وجل. فتفهموا حكم الله، فإن الله لم يزل بصفاته العليا وأسمائه الحسنى عزيزاً، قديراً، عليماً، حكيماً، ملكاً، متكلماً، قوياً، جباراً، لم يخلق علمه ولا عزه، ولا جبروته، ولا ملكه، ولا قوته، ولا قدرته، وإنما هذه صفات المخلوقين. والجهمي الخبيث ينفي الصفات عن الله، ويزعم أنه يريد بذلك أن ينفي عن الله التشبيه بخلقه، والجهمي الذي يشبه الله بخلقه لأنه يزعم أن الله عز وجل كان ولا علم، وكان ولا قدرة، وكان ولا عزة، وكان ولا سلطان، وكان ولا اسم حتى خلق لنفسه اسماً، وهذه كلها صفات المخلوقين، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، لأن المخلوقين من بني آدم، كان ولا علم، خلقه الله جاهلاً ثم علمه. قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (1) وكان ولا كلام حتى يطلق الله لسانه، وكان ولا قدرة ولا عزة ولا سلطان حتى يقويه الله ويعزه ويسلطه، وهذه كلها صفات المخلوقين. وكل من حدثت صفاته، فمحدث ذاته، ومن حدث ذاته وصفته، فإلى فناء حياته، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ثم إن الجهمي إذا بطلت حجته فيما ادعاه، ادعى أمراً آخر فقال: أنا أجد في الكتاب آية تدل على أن القرآن مخلوق، فقيل له: أية آية هي؟ قال: قول الله
_________
(1) النحل الآية (78).(5/441)
عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (1)، أفلا ترون أن كل محدث مخلوق؟ فوهم على الضعفاء والأحداث وأهل الغباوة وموه عليهم، فيقال له: إن الذي لم يزل به عالماً لا يكون محدثاً، فعلمه أزلي كما أنه هو أزلي، وفعله مضمر في علمه، وإنما يكون محدثاً ما لم يكن به عالماً حتى علمه، فيقول: إن الله عز وجل لم يزل عالماً بجميع ما في القرآن قبل أن ينزل القرآن، وقبل أن يأتي به جبريل وينزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (2) قبل أن يخلق آدم. وقال: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} (3) يقول: كان إبليس في علم الله كافراً قبل أن يخلقه، ثم أوحى بما قد علمه من جميع الأشياء. وقد أخبرنا عز وجل عن القرآن، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (4) فنفى عنه أن يكون غير الوحي، وإنما معنى قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذكرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (5) أراد: محدثاً علمه، وخبره، وزجره، وموعظته عند محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أراد: أن علمك يا محمد ومعرفتك محدث بما أوحي إليك من القرآن، وإنما أراد: أن نزول القرآن عليك يحدث لك ولمن سمعه علم وذكر لم تكونوا تعلمونه. ألم تسمع
_________
(1) الأنبياء الآية (2).
(2) البقرة الآية (30).
(3) البقرة الآية (34).
(4) النجم الآية (4).
(5) الأنبياء الآية (2).(5/442)
إلى قوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (1) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} (2)
وقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} (3) فأخبر أن الذكر المحدث هو ما يحدث من سامعيه وممن علمه وأنزل عليه، لا أن القرآن محدث عند الله، ولا أن الله كان ولا قرآن، لأن القرآن إنما هو من علم الله، فمن زعم أن القرآن هو بعد، فقد زعم أن الله كان ولا علم ولا معرفة عنده بشيء مما في القرآن ولا اسم له، ولا عزة له، ولا صفة له حتى أحدث القرآن. ولا نقول: إنه فعل الله، ولا يقال: كان الله قبله، ولكن نقول: إن الله لم يزل عالما، لا متى علم ولا كيف علم، وإنما وهمت الجهمية الناس ولبست عليهم بأن يقول: أليس الله الأول قبل كل شيء، وكان ولا شيء، وإنما المعنى في: كان الله قبل كل شيء، قبل السماوات وقبل الأرضين وقبل كل شيء مخلوق، فأما أن نقول قبل علمه، وقبل قدرته، وقبل حكمته، وقبل عظمته، وقبل كبريائه، وقبل جلاله، وقبل نوره، فهذا كلام الزنادقة. وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فإنما هو ما يحدثه الله عند نبيه، وعند أصحابه، والمؤمنين من
_________
(1) النساء الآية (113).
(2) الشورى الآية (52) ..
(3) طه الآية (113).(5/443)
عباده، وما يحدثه عندهم من العلم، وما لم يسمعوه، ولم يأتهم به كتاب قبله، ولا جاءهم به رسول. ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} (1) وإلى قوله فيما يحدث القرآن في قلوب المؤمنين إذا سمعوه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (2) فأعلمنا أن القرآن يحدث نزوله لنا علماً وذكراً وخوفاً، فعلم نزوله محدث عندنا وغير محدث عند ربنا عز وجل.
ثم إن الجهمي حين بطلت دعواه وظهرت زندقته فيما احتج به، ادعى أمراً آخر ووهم ولبس على أهل دعوته، فقال: أتزعمون أن الله لم يزل والقرآن؟ فإن زعمتم أن الله لم يزل والقرآن، فقد زعمتم أن الله لم يزل ومعه شيء. فيقال له: إنا لا نقول كما تقول ولا نقول: إن الله لم يزل، والقرآن لم يزل، والكلام لم يزل والعلم ولم يزل والقوة ولم يزل والقدرة، ولكنا نقول كما قال: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} (3) وكما قال: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (4) فنقول: إن الله لم يزل بقوته، وعظمته، وعزته، وعلمه، وجوده، وكرمه، وكبريائه، وعظمته، وسلطانه، متكلماً، عالماً، قوياً، عزيزاً، قديراً، ملكاً، ليست هذه الصفات ولا شيء منها ببائنة منه، ولا منفصلة عنه، ولا تجزؤ ولا تتبعض منه، ولكنها منه
_________
(1) الضحى الآية (7).
(2) المائدة الآية (83).
(3) الأحزاب الآية (25).
(4) يس الآية (38).(5/444)
وهي صفاته. فكذلك القرآن كلام الله، وكلام الله منه، وبيان ذلك في كتابه: قال الله عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} (1) وقال: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (2) وقال: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} (3) وقد أخبرنا الله أن الأشياء إنما تكون بكلامه، فقال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} (4) وقال: {قُلْنَا لَا تَخَفْ} (5) وقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} (6) فبقول الله عز وجل صار أولئك قردة، وبقوله أمن موسى، وبقوله صارت النار برداً وسلاماً. ثم إن الجهمي الملعون غالط من لا يعلم بشيء آخر، فقال: قوله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (7)
فقال: كل ما أتى الله عز وجل بخير منه أو مثله، فهو مخلوق. فكان هذا إنما غالط به الجهمي من لا يعلم، وإنما أراد الله عز وجل بقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يريد بخير لكم، وأسهل عليكم في العمل وأنفع لكم في الفعل. ألا ترى أنه كان ينزل
_________
(1) يس الآية (58).
(2) السجدة الآية (13).
(3) الصافات الآية (31).
(4) الأعراف الآية (166).
(5) طه الآية (68).
(6) الأنبياء الآية (69).
(7) البقرة الآية (106) ..(5/445)
على النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر الذي فيه الشدة ثم ينسخه بالسهولة والتخفيف؟ من ذلك أن قيام الليل والصلاة كانت مفروضة فيه على أجزاء معلومة وأوقات من الليل في أجزائه مقسومة، فعلم الله عز وجل ما على العباد في ذلك من الشدة والمشقة وقصور عملهم عن إحصاء ساعات الليل وأجزائه، فنسخها بصلاة النهار وأوقاته. فقال عز وجل: {* إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وطائفةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (1) يقول: علم أن لن تطيقوه، فنسخ ذلك، فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (2) و {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (3) ومن ذلك أن الصيام كان مفروضاً بالليل والنهار، وأن الرجل كان إذا أفطر ونام ثم انتبه، لم يحل له أن يطعم إلى العشاء من القابلة، فنسخ ذلك بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نسائكم} ... إلى قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} ... إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (4) ومثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (5)
_________
(1) المزمل الآية (20).
(2) هود الآية (114).
(3) الإسراء الآية (78).
(4) البقرة الآية (187).
(5) آل عمران الآية (102) ..(5/446)
وكان هذا أمراً لا يبلغه وسع العباد، فنسخ ذلك بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) فهذا ونحوه كثير، تركنا ذكره لئلا يطول الكتاب به، أراد الله عز وجل بنزول الناسخ رفع المنسوخ، وليكون في ذلك خيرة للمؤمنين تخفيفاً عنهم، لا أنه يأتي بقرآن خير من القرآن الأول، وإنما أراد خيراً لنا وأسهل علينا. ألم تسمع إلى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (2)، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (3)، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4)؟ فهذا وشبهه في القرآن كثير، لا أن في القرآن شيئاً خيراً من شيء، ولو جاز ذلك، لجاز أن يقال: سورة كذا خير من سورة كذا، وسورة كذا شر من سورة كذا. ومما يغالط به الجهمي من لا يعلم قول الله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (5) فقالوا: كل شيء له بين يدين وخلف، فهو مخلوق، فيقال له: إن القرآن ليس شخصاً فيكون له خلف وقدام، وإنما أراد تعالى لا يأتيه التكذيب من بين يديه فيما نزل قبله من التوراة والإنجيل والكتب التي
_________
(1) التغابن الآية (16).
(2) البقرة الآية (187).
(3) المزمل الآية (20).
(4) البقرة الآية (185).
(5) فصلت الآية (42).(5/447)
تقدمت قبله. {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} يقول: ولا يأتي بعده بكتاب يبطله ولا يكذبه، كما أخبرنا أنه أيضاً مصدق لما كان قبله من الكتب، فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (1)
يقال: لما كان قبل الشيء وأمامه بين يديه، وما كان بعده خلفه، وبيان ذلك في كتاب الله: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (2) لا يريد أن للصدقة بين يدين وخلفاً، وإنما أراد قبل نجواكم صدقة. وقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (3) يريد أن يرسل الرياح قبل المطر. وقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد (46)} (4) يقول: نذير قبل العذاب. وكذلك معناه في {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} (5) أراد قبله ولا من بعده، ولو كان معنى: من بين يديه ومن خلفه معنى المخلوق، لكان شخصاً له قدام وخلف وظهر وبطن ويدان ورجلان ورأس ولا يمكن ذلك في القرآن، ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: إن الله عز
_________
(1) الأنعام الآية (92) ..
(2) المجادلة الآية (12).
(3) الأعراف الآية (57).
(4) سبأ الآية (46).
(5) فصلت الآية (42).(5/448)
وجل يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (1) فزعم أن القرآن لا يخلو أن يكون في السماوات أو في الأرض أو فيما بينهما. فيقال له: إن الله عز وجل يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (2) فالحق الذي خلق به السماوات والأرض وما بينهما هو قوله وكلامه، لأنه هو الحق وقوله الحق، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)} (3). وقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} (4) فأخبر بأن الخلق كله كان بالحق والحق قوله وكلامه. وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} (5)
وقال: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} (6) يعني قوله وكلامه، فقوله وكلامه قبل السماوات والأرض وما بينهما، فتفهموا رحمكم الله، ولا يستفزنكم الجهمي الخبيث بتغاليطه وتمويهه وتشكيكه ليزلكم عن دينكم، فإن الجهمي لا يألو جهداً في تكفير الناس وتضليلهم، عصمنا الله وإياكم من فتنته برحمته. ويقال للجهمي: أخبرنا: من أخبرنا أنه خلق السموات والأرض وما بينهما؟ فإذا قال: الله، فيقال له: فجعلت خبر
_________
(1) الدخان الآية (38).
(2) الحجر الآية (85).
(3) ص الآية (84).
(4) الأنعام الآية (73).
(5) النحل الآية (3) ..
(6) يونس الآية (5).(5/449)
الله عن الخلق خلقاً؟ فيقول: نعم. ويقول: إن الخبر عين المخبر، فيقال له: فالخبر مخلوق؟ فيقول: نعم، ويقول: الخبر غير الله، فيقال له: أليس قد تفرد الله بعلم الغيب دون خلقه؟ فيقول: نعم، فيقال له: فالخبر الذي زعمت أنه مخلوق وأنه غير الله، من قال له: أخبر الخلق أن الله خلق السماوات، أليس الله قال له ذلك؟ فإن قال: نعم، فقد أقر أن الله أخبر خلقاً دون خلق، فما يمنعك أن نكون نحن ذلك الخلق الذين أخبرهم أنه هو خلق الخلق؟ وإن قال: إن الله لم يخبر ذلك الخلق ولم يأمره أن يعلم الخلق بذلك، قيل له: فقد أقررت أنه ليس أحد يعلم الغيب إلا الله، وزعمت أن هذا الخبر هو غير الله، فمن أين علم هذا الخبر وهو مخلوق أن الله خلق السماوات والأرض؟ وكيف جاز أن يقول على الله ما لم يعلم ولم يأمره به؟ فعند ذلك يوضح كفر الجهمي وكذبه على الله وقبيح ضلاله، ثم إن الجهمية كذبت الآثار وجحدت الأخبار، وطعنت على الرواة، واتهموا أهل العدالة والأمانة، وانتصحوا أهواءهم وآراءهم، واتخذوا أهواءهم آلهة معبودة وأرباباً مطاعة. فإذا وجدوا حديثاً قد وهم المحدث في روايته وكان في ألفاظ متنه بعض التلبيس والتوهم، انتحلوه ديناً، وجعلوه أصلاً، ووثقوا روايته وإن لم يعرفوه، وصححوه وإن كانوا لا يثبتونه.
فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه محمد بن عبيد عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن الحصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان الله قبل أن يخلق الذكر، ثم خلق الذكر، فكتب فيه(5/450)
كل شيء» (1) فقالت الجهمية: إن القرآن هو الذكر، والله خلق الذكر، فأما ما احتجوا به من هذا الحديث، فإن أهل العلم وحفاظ الحديث ذكروا أن هذا الحديث وهم فيه محمد بن عبيد وخالف فيه أصحاب الأعمش وكل من رواه عنه. وبذلك احتج أحمد بن حنبل رحمه الله، فقال: رواه بعده جملة من الثقات، فلم يقولوا: خلق الذكر، ولكن قالوا: كتب في الذكر، والذكر هاهنا غير القرآن، ولكن قلوب الجهمية في أكنة، وعلى أبصارهم غشاوة، فلا يعرفون من الكتاب إلا ما تشابه، ولا يقبلون من الحديث إلا ما ضعف وأشكل. والذكر هاهنا هو اللوح المحفوظ، الذي فيه ذكر كل شيء، ألا ترى أن في لفظ الحديث الذي احتجوا به، قال: فكتب فيه كل شيء أفتراه كتب في كلامه كل شيء، وقد بين الله ذلك في كتابه، وذلك أن الذكر في كتاب الله على لفظ واحد بمعان مختلفة، فقال: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} (2) يعني: ذا الشرف. وقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (3) يعني: شرفكم. وقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} (4) يعني: بخبرهم. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 431) والبخاري (6/ 351 - 352/ 3191) والترمذي (5/ 688 - 689/ 3951) دون محل الشاهد، والنسائي في الكبرى (6/ 363/11240) من حديث عمران بن حصين بلفظ: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء». وهو حديث طويل وليس فيه «ثم خلق الذكر».
(2) ص الآية (1).
(3) الأنبياء الآية (10).
(4) المؤمنون الآية (71).(5/451)
لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (1) يقول: وإنه لشرف لك ولقومك.
وقال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2) يعني: الصلاة. وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} (3) يعني: في اللوح المحفوظ، لا يجوز أن يكون الذكر هاهنا القرآن، لأنه قال: {فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} والزبور قبل القرآن، والذكر أيضاً هو القرآن في غير هذه الآيات، كما أعلمتك، إلا أن الحرف يأتي بلفظ واحد، ومعناه شتى. والجهمي يقصد لما كانت هذه سبيله، فيتأوله على المعنى الذي يوافق هواه، ولا يجعل له وجهاً غيره، والله يكذبه ويرد عليه هواه. ومما وضح به كفر الجهمي ما رده على الله وجحده من كتابه، فزعم أن الله لم يقل شيئاً قط ولا يقول شيئاً أبداً. فيقال له: فأخبرنا عن كل شيء في القرآن: قال الله وقلنا، ويوم نقول، فقال: إنما هذا كله كما يقول الناس: قال الحائط فسقط، وقالت النخلة فمالت، وقالت النعل فانقطعت، وقالت القدم فزلت، وقالت السماء فهطلت، والنخلة والحائط والسماء لم يقولوا من ذلك شيئاً قط. فرد الجهمي كتاب الله الذي أخبر أنه عربي مبين، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (4) ولسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسان قرشي، وهم أوضح العرب بياناً
_________
(1) الزخرف الآية (44).
(2) الجمعة الآية (9).
(3) الأنبياء الآية (105).
(4) إبراهيم الآية (4).(5/452)
وأفصحها لساناً، وهذا لم ينزل به القرآن ولم يتكلم به فصحاء العرب، فحكموا على الله بما جرى على ألسنة عوام الناس، وشبهوا الله تعالى بالحائط والنخلة والنعل والقدم.
ويقال له: أرأيت من قال: سقط الحائط، وهطلت السماء، وزلت القدم، ونبتت الأرض، ولم يقل: قال الحائط، ولا قالت السماء، وأسقط قال وقالت في هذه الأشياء، أيكون كاذباً في قوله؟ أم يكون تاركاً للحق في خطابه؟ فإذا قال: ليس بتارك للحق، قيل له: فما تقول في رجل عمد إلى كل قال في القرآن مما حكاه الله عن نفسه أنه قال فمحاه، هل يكون تاركاً للحق أم لا؟ فعندها يبين كفر الجهمي وكذبه. ومما يغالط به الجهمي جهال الناس والذين لا يعلمون، أن يقول: خبرونا عن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} (1) فيقول: خبرونا عن هذا الشيء، أموجود هو أم غير موجود؟ فيقال له: إن معنى قوله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} هو في علمه كائن بتكوينه إياه، قال لذلك الذي قد علم أنه كائن مخلوق: كن كما أنت في علمي، فيكون كما علم وشاء، لأنه كان معلوماً غير مخلوق، فصار معلوماً مخلوقاً كما قال وشاء وعلم. ويقال للجهمي: ألست مقراً بأن الله تعالى إذا أراد شيئاً قال له: كن فكان. فيقول: لا أقول، إنه يقول فيرد كتاب الله، ويكفر به ويقول: لا، ولكنه إذا أراد شيئاً كان، فيقال له: يريد أن تقوم القيامة، وأن يموت الناس كلهم، وأن يبعثوا كلهم، فيكون ذلك بإرادته قبل أن يقال فيكون. وقال
_________
(1) يس الآية (82).(5/453)
الجهمي: إن الله لم يتكلم قط، ولا يتكلم أبداً. قيل له: من يحاسب الخلق يوم القيامة؟ ومن القائل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غائبين} (1)؟ ومن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (2)؟ ومن القائل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} (3)؟
ومن القائل: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (4)؟ ومن القائل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (5)؟ ومن القائل: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (6). ومن القائل: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (7)؟ في أشباه لهذا تكثر على الإحصاء من مخاطبة الله عز وجل، فيقول الجهمي: إن الله عز وجل يخلق يوم القيامة لكل إنسان حساباً، فقيل للجهمي: هذا الخلق هو غير الله؟ فقال: نعم. قيل له: فيقول الله لهذا الخلق: أخبر الناس بأعمالهم؟ فقال: لا يقول له، إن قلت إنه يقول، فقد تكلم، فقلنا: من أين يعلم هذا الخلق ما قد أحصاه
_________
(1) الأعراف الآية (7).
(2) الأعراف الآية (6).
(3) الحجر الآيتان (92و93) ..
(4) الأعراف الآية (144).
(5) طه الآية (14).
(6) النمل الآية (9).
(7) المائدة الآية (116).(5/454)
الله من أعمال بني آدم والغيب لا يعلمه إلا الله؟ فعند ذلك يتبين كفر الجهمي. ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر ابتغاء الفتنة، فقال: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (1) فعيسى كلمة الله وعيسى مخلوق. فقيل للجهمي: جهلك بكتاب الله وقبيح تأويلك قد صار بك إلى صنوف الكفر، وجعلك تتقلب في فنون الإلحاد، فكيف ساغ لك أن تقيس عيسى بالقرآن؟ وعيسى قد جرت عليه ألفاظ وتقلبت به أحوال لا يشبه شيء منها أحوال القرآن، منها: أن عيسى حملته أمه ووضعته وأرضعته، فكان وليداً، ورضيعاً، وفطيماً، وصبياً، وناشئاً، وكهلاً، وحياً ناطقاً، وماشياً، وذاهباً، وجائياً، وقائماً، وقاعداً، ويصوم ويصلي، وينام ويستيقظ، ويأكل الطعام ويشرب، ويكون منه ما يكون من الحيوان إذا أكل وشرب.
وبذلك أخبرنا الله تعالى عنه تكذيباً للنصارى حين قالوا فيه القول الذي يضاهي قولك أيها الجهمي: فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (2) فكنى بالطعام عن خروج الحدث، وهو مع هذا مخاطب بالتعبد وبالسؤال والوعد والوعيد، ومحاسب يوم القيامة، وأخبرنا أنه حي وميت ومبعوث، فهل سمعت الله عز وجل وصف
_________
(1) النساء الآية (171).
(2) المائدة الآية (75).(5/455)
القرآن بشيء مما وصف عيسى؟ فأما قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (1) فالكلمة التي ألقاها إلى مريم قوله: "كن" فكان عيسى بقوله "كن"، وكذا قال عز وجل: {إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} (2) ثم أتبع ذلك بما يزيل عنه وهم المتوهم، فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} (3) فكلمة الله قوله: "كن" والمكون عيسى عليه السلام، والجهمي حريص على إبطال صفات ربه لإبطال إنيته.
ومما يدعيه الجهمي أنه حجة له في خلق القرآن قوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (4) فقال الجهمي: فهل يذهب إلا مخلوق؟ وكما قال: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} (5) فالقرآن يذهب كما ذهب - صلى الله عليه وسلم -، فأفحش الجهمي في التأويل وأتى بأنجس الأقاويل، لأن قول الله: {وَلَئِنْ شِئْنَا
_________
(1) النساء الآية (171).
(2) آل عمران الآية (59).
(3) آل عمران الآية (60).
(4) الإسراء الآية (86).
(5) الزخرف الآية (41).(5/456)
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (1) لم يرد أن القرآن يموت كما نموت، إنما يريد: ولئن شئنا لنذهبن بحفظه عن قلبك وتلاوته عن لسانك. أما سمعت ما وعد به من حفظه للقرآن حين يقول: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (2) فلو أذهب الله القرآن من القلوب، لكان موجوداً محفوظاً عند من استحفظه إياه، ولئن ذهب القرآن في جميع الخلق وأمات الله كل قارئ له، فإن القرآن موجود محفوظ عند الله وفي علمه، وفي اللوح المحفوظ. أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (3) وقوله عز وجل: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (4) ومما احتج به الجهمي في خلق القرآن أن قال: أليس القرآن خيراً؟ فإذا قيل له بلى، قال: أفتقولون إن من الخير ما لم يخلقه الله؟ فيتوهم بجهله أن له في هذه حجة ولا حجة فيه لأجل أن كلام الله خير، وعلم الله خير، وقدرة الله خير، وليس كلام الله ولا قدرته مخلوقين لأن الله لم يزل متكلماً، فكيف يخلق كلامه؟ ولو كان الله خلق كلامه لخلق علمه وقدرته، فمن زعم ذلك، فقد زعم أن الله كان ولا يتكلم، وكان ولا يعلم، فقالت الجهمية على الله ما لم يعلمه الله ولا ملائكته ولا أنبياؤه ولا أولياؤه، فخالفهم كلهم.
قال الله عز وجل: {وَإِذْ
_________
(1) الإسراء الآية (86).
(2) الأعلى الآية (6).
(3) الحجر الآية (9).
(4) البروج الآيتان (21و22).(5/457)
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} (1)، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} (2)، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (3)، ومثل هذا في القرآن كثير. وقول الملائكة: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (4) ولم يقولوا ماذا خلق ربك قالوا الحق. وقال جبريل: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} (5) وقول الله تعالى حين سألت بنو إسرائيل موسى عن أمر البقرة حين {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} (6) فقال موسى عليه السلام: إنه يقول في غير موضع. وقال أولياء الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} (7) وقال أعداء الله في النار: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} (8) فسمى الله قوله قولاً ولم يسمه خلقاً، وسمت الملائكة قول الله قولاً ولم تسمه خلقاً، وسمت الأنبياء قول الله قولاً ولم تسمه خلقاً، وسمى أهل الجنة قول الله قولاً، ولم يسموه خلقاً، وسمى أهل النار قول الله قولاً ولم يسموه خلقاً، وسمت الجهمية قول
_________
(1) البقرة الآية (30).
(2) البقرة الآية (34).
(3) البقرة الآية (30).
(4) سبأ الآية (23).
(5) مريم الآية (21).
(6) البقرة الآية (68).
(7) يس الآية (58).
(8) الصافات الآية (31).(5/458)
الله خلقاً ولم تسمه قولاً، خلافاً على الله وعلى ملائكته وعلى أنبيائه وعلى أوليائه. ثم إن الجهمية لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأولوها موهوا بها على من لا يعرف الحديث، مثل الحديث الذي روي: «يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب فيقول له القرآن: أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك فيأتي الله فيقول: أي رب تلاني ووعاني وعمل بي» (1).
والحديث الآخر: «تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان» (2) فأخطأ في تأويله وإنما عنى في هذه الأحاديث في قوله: يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصلاة ويجيء الصيام ويجيء ثواب ذلك كله، وكل هذا مبين في الكتاب والسنة. قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (3) فظاهر اللفظ من هذا أنه يرى الخير والشر، ليس يرى الخير والشر، وإنما يرى ثوابهما والجزاء عليهما من الثواب والعقاب. كما قال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (4) وليس يعني أنها تلك الأعمال التي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشر، وإنما تجد الجزاء على ذلك من الثواب والعقاب. كما قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ
_________
(1) تقدم تخريجه من حديث بريدة. انظر مواقف إسحاق بن راهويه سنة (237هـ).
(2) أحمد (5/ 249) ومسلم (1/ 553/804) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
(3) الزلزلة الآيتان (7و8).
(4) آل عمران الآية (30).(5/459)
سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (1) فيجوز في الكلام أن يقال: يجيء القرآن، تجيء الصلاة، وتجيء الزكاة، يجيء الصبر، يجيء الشكر، وإنما يجيء ثواب ذلك كله يجزى من عمل السيء بالسوء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (2) أفترى يرى السرقة والزنا وشرب الخمر وسائر أعمال المعاصي إنما يرى العقاب والعذاب عليهما، وبيان هذا وأمثاله في القرآن كثير. وأما ما جاءت به السنة فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ظل المؤمن صدقته» (3)
فلا شيء أبين من هذا، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل معروف صدقة» (4)، فإرشادك الضالة صدقة، وتحيتك لأخيك بالسلام صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، ومباضعتك لأهلك صدقة، فكيف يكون الإنسان يوم القيامة في ظل مباضعته لأهله؟ إنما عنى
_________
(1) النساء الآية (123).
(2) الزلزلة الآية (8).
(3) أخرجه: أحمد (4/ 233) عن مرثد بن عبد الله اليزني: حدثني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته» وصحح إسناده الشيخ الألباني في المشكاة (1925).
وورد بلفظ «كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس» أو قال: «يحكم بين الناس». أخرجه ابن المبارك في الزهد (645) ومن طريقه أحمد (4/ 147 - 148) وأبو يعلى (3/ 300 - 301/ 1766) والبيهقي (4/ 177) والطبراني (17/ 280/771) من طريق حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره.
وصححه ابن خزيمة (4/ 94/2431) وابن حبان (8/ 104/3310) والحاكم (1/ 416) على شرط مسلم ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في المجمع (3/ 110) وأدخل فيه الرواية الأولى وقال: "رواه كله أحمد وروى أبو يعلى والطبراني في الكبير بعضه ورجال أحمد ثقات".
(4) أخرجه: أحمد (5/ 383) ومسلم (2/ 697/1005) وأبو داود (5/ 235 - 236/ 4947) من حديث حذيفة.
وأخرجه أيضاً: أحمد (3/ 344) والبخاري (10/ 548/6021) والترمذي (4/ 306/1970) من حديث جابر.(5/460)
بذلك كله ثواب صدقته، أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن يظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فلينظر معسراً أو ليدع له» (1) فأعلمك أن الظل من ثواب الأعمال. ومما غالط به الجهمي من لا يعلم أن قال: كل شيء دون الله مخلوق، والقرآن من دون الله، فيقال له في جواب كلامه هذا: إنا لسنا نشك أن كل ما دون الله مخلوق، ولكنا لا نقول إن القرآن من دون الله، ولكنا نقول من كلام الله، ومن علم الله، ومن أسماء الله، ومن صفات الله، ألم تسمع إلى قوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) وقال: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} (3) ولم يقل: من دون رب. وقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} (4) ولا يكون الأمر إلا من آمر، كما لا يكون القول إلا من قائل، ولا يكون الكلام إلا من المتكلم، ولو كان القرآن من دون الله، لما جاز لأحد أن يقول: قال الله، كيف يقوله وهو من دون الله، بل كيف يكون من دونه وهو قاله؟ ومما غالط به الجهمي من لا يعلم، أن قال: إن الله رب القرآن، وكل مربوب فهو مخلوق.
فاحتج الجهمي بكلمة لم ينزل بها القرآن، ولا جاء بها أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من الصحابة، ولا من بعدهم من التابعين، ولا من فقهاء المسلمين، فيتخذ ذلك حجة، وإنما هي كلمة خفت على ألسن بعض
_________
(1) أحمد (3/ 427) ومسلم (4/ 2301 - 2302/ 3006) مطولاً. وابن ماجه (2/ 808/2419) من حديث أبي اليسر.
(2) يونس الآية (37).
(3) يس الآية (58).
(4) الدخان الآيتان (4و5).(5/461)
العوام، وجازت بعض اللغات، فتجافى لهم عنها العلماء، وإنما المعنى في جواز ذلك كما استجازوا أن يقولوا: من رب هذه الدار، وهذا رب هذه الدابة وليس هو خلقها، وكما يقولون: من رب هذا الكلام، ومن رب هذه الرسالة، ومن رب هذا الكتاب، أي: من تكلم بهذا الكلام؟ ومن ألف هذا الكتاب؟ ومن أرسل هذه الرسالة؟ لا أنه خالق الكلام، ولا خالق الكتاب والرسالة. فلذلك، استجاز بعض العوام هذه الكلمة وخفت على ألسنتهم، وإن كان لا أصل لها عمن قوله حجة، وإنما قالوا: يا رب القرآن كقولهم: يا منزل القرآن ويا من تكلم بالقرآن ويا قائل القرآن. فلما كان القرآن من الله منسوباً إليه، جاز أن يقولوا هذه الكلمة. ومما يبين لك كفر الجهمية وكذبها في دعواها أن كل مربوب "مخلوق"، قال الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) أفترى ظن الجهمي أن أحبارهم ورهبانهم خلقوهم من دون الله؟ وقال يوسف الصديق: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (2) يعني: عند سيدك. قال الله عز وجل: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (3) ومما غالط به الجهمي من لا علم عنده أن قال: القرآن في اللوح المحفوظ، واللوح محدود، وكل محدود مخلوق على أن الجهمي يجحد اللوح المحفوظ وينكره ويرد كتاب الله ووحيه فيه، ولكنه يقر به في موضع يرجو به
_________
(1) التوبة الآية (31).
(2) يوسف الآية (42).
(3) يوسف الآية (42).(5/462)
الحجة لكفره، فقال الجهمي: إن قول الله عز وجل {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (1)
فقال: إن اللوح بما فيه مخلوق، ولا جائز أن يكون مخلوق فيه غير مخلوق، فقبحوا في التأويل وكفروا بالتنزيل من وجوه كثيرة، وذلك أن القرآن من علم الله، وعلم الله وكلامه وجميع صفاته كل ذلك سابق اللوح المحفوظ قبله وقبل القلم وهكذا. قال ابن عباس رحمه الله: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فكتب في اللوح المحفوظ» (2) فكان خلق القلم واللوح بقول الله عز وجل لهما: "كُونَا"، فقوله قبل خلقه، وما في اللوح كلامه، وإنما ما في اللوح من القرآن، الخط والكتاب، فأما كلام الله عز وجل، فليس بمخلوق، وكذلك قوله عز وجل: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)} (3)، وإنما كرمت ورفعت وطهرت لأنها لكلام الله استودعت. وأما قولهم: إنه لا يكون مخلوق فيه غير مخلوق، فذلك أيضاً يَهُتُّ من كلامهم ويتناقض في حججهم، أما سمعت قول الله عز وجل:
_________
(1) البروج الآيتان (21و22) ..
(2) أخرجه البيهقي (9/ 3) والحاكم (2/ 498) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومثل هذا الكلام لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع، ويؤكد ذلك أن ابن عباس رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/ 50/108) وفي الأوائل (رقم 3) وأبو يعلى (4/ 217/2329) والبيهقي في السنن (9/ 3) وفي الأسماء والصفات (2/ 237/803) من طريق أحمد عن ابن المبارك عن رباح بن زيد عن عمر بن حبيب عن القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً. قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة (1/ 257/133):" وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات من رجال التهذيب". وله شواهد وقد مر معنا بعضها.
(3) عبس الآيتان (13و14).(5/463)
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} (1)
والسماوات مخلوقة، والله عز وجل غير مخلوق، والله تعالى فيها، فقد بين أن مخلوقاً فيه غير مخلوق، ومن أصل الجهمية ومذاهبها أن الله تعالى يحل في الأشياء كلها وفي الأمكنة، والأمكنة مخلوقة. فلما علم أن الله تعالى هو الخالق لا مخلوق، وكذلك كل ما كان منه لا يكون مخلوقاً، قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (2) فسرها ابن عباس: علمه، فأخبر أن علمه وسع السماوات والأرض، وهل يكون العلم مخلوقاً؟ وإنما يكون مخلوقاً ما لم يكن ثم كان، وربنا لم يزل عالماً متكلماً. ومما غالط به الجهمي من لا يعلم: الحديث الذي روي عن ابن مسعود: «ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا شيء أعظم من آية الكرسي» (3) فتأولوا هذا الحديث على من لا يعلم، وأخطؤوا وغالطوا بالمتشابه من ألفاظ الحديث كما غالطوا بالمتشابه من القرآن، فإذا تفهمه العاقل، وجده واضحاً بيّناً، فلو كانت آية الكرسي مخلوقة كخلق السماء والأرض والجنة والنار وسائر الأشياء إذا لكانت السماء أعظم منها، ولكانت الجنة أعظم منها، ولكان النار أعظم منها، لقلة حروفها وخفتها على اللسان، وإن السماء والأرض والجنة والنار أطول وأعرض وأوسع وأثقل وأعظم في المنظر، ولا بلغ ذلك كله مبلغ حرف واحد من كلام الله، وإنما أراد عبد الله بن مسعود رحمه الله أنه ليس في خلق الله كله ما يبلغ عِظم كلام الله وإن خف، ولا يكون شيء
_________
(1) الأنعام الآية (3) ..
(2) البقرة الآية (255).
(3) تقدم تخريجه. انظر مواقف أحمد بن حنبل سنة (241هـ).(5/464)
أعظم من كلام الله، ولن يعظم ذلك الشيء في أعين العباد. ألا ترى أنك تقول: ما خلق الله بالبصرة رجلاً أفضل من سفيان الثوري؟ وسفيان ليس من أهل البصرة، وإنما أردت: ليس بالبصرة مع عظمها وكثرة أهلها مثله ولا من يدانيه في فضله.
وكقولك: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» (1) فلم ترد أنه أصدق من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أصدق من أبي بكر وعمر ومن هو أفضل منه، ولكنه لم يتقدمه أحد في الصدق، وإن فضلوه في غيره. ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (2) فسمى الله نفسه في الأشياء، وليس هو من الأشياء المخلوقة، تعالى الله علواً كبيراً. فكذلك قول عبد الله: "ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا شيء أعظم من آية الكرسي" لأن آية الكرسي من كلام الله، وهي آية من كتابه، فليس شيء من عظيم ما خلق يعدل بآية ولا بحرف من كلامه. ألا ترى أن الله قد عظم خلق السماوات والأرض، وجعل ذلك أكبر من غيره من المخلوقات، فقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (3)؟ ثم آية الكرسي مع خفتها وقلة حروفها أعظم من ذلك كله، لأنها من كلام الله، وبكلام الله وأمره
_________
(1) يشير إلى حديث رواه أحمد (2/ 163) والترمذي (5/ 628/3801) وحسنه، وابن ماجه (1/ 55/156) والحاكم (3/ 34) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. من حديث ابن عمرو.
(2) الأنعام الآية (19).
(3) غافر الآية (57).(5/465)
قامت السماوات والأرض، وخلقت المخلوقات كلها.
واعلم أن الجهمي الخبيث يقول في الظاهر: أنا أقول إن القرآن كلام الله، فإذا نصصته، قال: إنما أعني كلام الله مثل ما أقول بيت الله وأرض الله وعبد الله ومسجد الله، فمثل شيئاً لا يشبه ما مثله به، والتمثيل لا يكون إلا مثلاً بمثل، حذو النعل بالنعل، فإن زاد التمثيل عما مثل به أو نقص بطل، ألا ترى أن البيت بني من الأرض، وفي الأرض، وبناه مخلوق، وهدم مرة بعد أخرى، وهو مما يدخل فيه ويخرج عنه، والمسجد مما يخرب ويبيد ويعفو أثره ويزول اسمه، وكذلك الأرض يمشى عليها وتحفر ويدفن فيها، وكذلك عبد الله نطفة، وجنين، ومولود، ورضيع، وفطيم، وصبي، وناشئ، وشاب، وكهل، وشيخ، وآكل، وشارب، وماشي، ومتكلم، وحي، وميت، فهل في ذلك شيء يشبه القرآن؟ ومما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم: ألستم تقولون إن الله خلق القرآن؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فأنتم تقولون: إن كل شيء في القرآن من أسماء الله وصفاته، فهو مخلوق؟ فإنهم يقولون: نعم. فيقال لهم: وتزعمون أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مخلوق، وقوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (1) وأن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (2)
فيقال له: فما تقول فيمن دعا فقال في دعائه: يا خالق الله الرحمن الرحيم اغفر لنا،
_________
(1) الحشر الآية (23).
(2) سورة الإخلاص ..(5/466)
كما يقول: يا خالق السماوات والأرض يا خالق العزيز الجبار المتكبر يا خالق الله الصمد يا خالق من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد كما يقال: يا خالق الجنة والنار ويا خالق العرش العظيم ولو كان القرآن مخلوقاً وأسماء الله مخلوقة وصفاته كما زعم الجهمي الملعون وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لكان من تعظيم الله أن يدعى فيقال: يا خالق القرآن ويا خالق أسمائه وصفاته ويا خالق الله الرحمن الرحيم ويا خالق العزيز الحكيم فهل بلغكم أن مسلماً أو معاهداً حلف بهذه اليمين؟ أو ليس إنما جعل الله عز وجل القسم بأسمائه يمينا يبرأ بها المطلوب من الطالب، وجعل الحلف بين الخلق في حقوقهم والأيمان المؤكدة التي يتحوب المؤمنون من الحنث بها هي الحلف بأسماء الله وصفاته، وبذلك حكم حكام المسلمين فيمن ادعى عليه حق أو ادعى لنفسه حقّاً؟ أو ليس ذلك هو قسامة من ادعي عليه قتل النفس أن يحلف في ذلك أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب ... إلى آخر اليمين؟ أفرأيت لو حلف، فقال: وحق السماوات والأرض والبحار والأشجار والجنة والنار، هل كانت هذه اليمين تغني عنه شيئاً أو تبرئه من دعوى حقيرة صغيرة ادعيت عليه، وليس من ادعيت عليه الأموال الخطيرة والحقوق العظيمة ولا بينة عليه، فحلف باسم من أسماء الله وبصفة من صفاته التي هي في القرآن تردد وترجع وتكثر، لبرئ من كل دعوى عليه وطلبه، وكل ذلك لأن أسماء الله وصفاته وكلامه منه وليس شيء من الله مخلوقاً، تعالى الله علواً كبيراً. أو ليس من قال: يا خالق الرحمن الرحيم يا خالق الجبار المتكبر فقد أبان زندقته وأراد إبطال الربوبية، وأنه لم يكن من هذا كله شيء حتى خلق، تعالى الله علوّاً كبيراً.(5/467)
ويلزم الجهمي في قوله: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم أن يكون قد شبه ربه بالأصنام المتخذة من النحاس والرصاص والحجارة، فتدبروا رحمكم الله نفي الجهمي للكلام عن الله إنما أراد أن يجعل ربه كهذه، فإن الله عز وجل عير قوماً عبدوا من دونه آلهة لا تتكلم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)} (1) فزعم الجهمي أن ربه كذا إذا دعي لا يجيب. وقال إبراهيم الخليل عليه السلام حين عير قومه بعبادة ما لا ينطق حين قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} (2) أي: فكيف يكون من لا ينطق إلهاً؟ فلما أسكتهم بذلك وبخهم فقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} (3)
فأي خير عند من لا ينطق ولا ينفع ولا يضر، فإنما يدور الجهمي في كلامه واحتجاجه على إبطال صفات الله ليبطل موضع الضر والنفع والمنع والعطاء، ويأبى الله إلا أن يكذبه ويدحض حجته، فتفكروا رحمكم الله فيما اعتقدته الجهمية وقالته وجادلت فيه ودعت الناس إليه، فإن من رزقه الله فهماً وعقلاً ووهب له بصراً نافذاً
_________
(1) الأعراف الآية (194).
(2) الأنبياء الآية (63).
(3) الأنبياء الآيتان (66و67) ..(5/468)
وذهناً ثاقباً، علم بحسن قريحته ودقة فطنته أن الجهمية تريد إبطال الربوبية ودفع الإلهية، واستغنى بما يدله عليه عقله وتنبهه عليه فطنته عن تقليد الأئمة القدماء والعلماء والعقلاء الذين قالوا: إن الجهمية زنادقة، وأنهم يدورون على أن ليس في السماء شيء، فإن القائلين لذلك بحمد الله أهل صدق وأمانة وورع وديانة، فإن من أنعم النظر، وجد الأمر كما قالوا، فإن الجهمية قالوا: إن الله ما تكلم قط ولا يتكلم أبداً، فجحدوا بهذا القول علمه وأسماءه وقدرته وجميع صفاته، لأن من أبطل صفة واحدة، فقد أبطل الصفات كلها، كما أنه من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله. وقالوا: إنه لا يرى في القيامة، فما بالهم لا يألون أن يأتوا بما فيه إبطاله وإبطال البعث والنشور والجنة والنار؟ وقالوا: إن الله ما كلم موسى تكليماً، ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، ولا هو على عرشه. وقالوا: إن الجنة والنار لم تخلقا بعد، ثم قالوا إنهما إذا خلقتا، فإنهما تبيدان وتفنيان. وقالوا إن أهل القبور لا يعذبون إبطالاً للرجوع بعد الموت.
وقالوا: إنه لا ميزان، ولا صراط، ولا حوض، ولا شفاعة، ولا كتب، وجحدوا باللوح المحفوظ، وبالرق المنشور، وبالبيت المعمور، فليس حرف واحد من كلامهم يسمعه من يفهمه إلا وقد علم أنه يرجع إلى الإبطال والجحود بجميع ما نزلت به الكتب وجاءت به الرسل، حتى إنهم ليقولون: إن الله عز وجل لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، ولا يكره، ولا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون، وكل ما ادعوه من ذلك وانتحلوه فقد أكذبهم الله فيه ونطق القرآن بكفر من جحده. وقد كان(5/469)
إبراهيم عليه السلام عتب على أبيه فيما احتج به عليه، فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} (1) فيقولون: إن إبراهيم عاتب أباه، ونقم عليه عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ثم دعا أباه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، سبحان الله ما أبين كفر قائل هذه المقالة عند من عقل؟ وسيأتي تبيان كفرهم وإيضاح الحجة بالحق عليهم من كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء قالوه في مواضعه وأبوابه، وبالله التوفيق. فمما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم: أرأيتم إذا مات الخلق كلهم فلم يبق أحد غير الله من القائل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} (2)؟ وقد مات كل مخلوق، ومات ملك الموت، ثم يرد ربنا تعالى على نفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} (3)
فإن قالوا: إن هذا القول مخلوق، فقد زعموا أنه يبقى مخلوق مع الله، وإن قالوا: إن الله لا يقول، ولكنه أخبر بما يدل على عظمته، فقد كذبوا كتاب الله وجحدوا به وردوه، أرأيت أن قائلاً قال: إن الله عز وجل لا يقول يوم القيامة: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} أليس يكون كاذباً ولكتاب الله رادّاً، فأي كفر أبين من هذا؟ وما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم: أخبرونا كيف حال من لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه؟ فإذا قال: هذه أحوال الكفار، وبذلك وصفهم الله، فيقال لهم: فأنتم تزعمون أن هذه أيضاً أحوال
_________
(1) مريم الآية (42).
(2) غافر الآية (16).
(3) غافر الآية (16) ..(5/470)
الأنبياء والصديقين والشهداء والمؤمنين من الأولياء والصالحين والبدلاء، فما فضل هؤلاء على الكافرين ولو كان الأنبياء والرسل مع أهل الكفر في هذه المنزلة، من احتجاب الله دونهم وترك كلامهم والنظر إليهم لما كان ذلك داخلاً في وعيد الكفار والتهديد لهم به، ولا كان ذلك بضائر لهم، إذ هم فيه والرسل والأنبياء سواء. ومما يحتج به على الجهمي أن يقال له: من القائل: {يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (1) فإن قالوا: خلق الله خلقاً قال ذلك لموسى، قيل لهم: وقبل ذلك موسى واستجاب لمخلوق من دون الله يقول أنا ربك؟ ويقال له: من القائل: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (2)، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} (3) ومن القائل: يا موسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} (4)؟
فإن قال الجهمي: إن هذا ليس من قول الله عز وجل، فأتني بكفر أبين من هذا أن يكون مخلوق يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} فإن زعموا أن موسى أجاب ذلك المخلوق وأطاعه، فقد زعموا أن موسى كان يعبد مخلوقاً من دون الله، ولو كان كما يقول الجهمي فكان ذلك المخلوق خلق عندهم ليفهم موسى أن خالقي هو
_________
(1) طه الآيتان (11و12).
(2) النمل الآية (9).
(3) القصص الآية (30).
(4) طه الآية (14) ..(5/471)
الله الذي لا إله إلا هو، فاعبده وأقم الصلاة لذكره. ولو قال الجهمي ذلك أيضاً لتبين كفره، لأن ذلك المخلوق لم يكن ليقول ذلك حتى يؤمر به، فإن قال الجهمي إن ذلك المخلوق قاله من غير أمر يؤمر به، فقد زعم الجهمي أن جميع هذه القصص كذب وافتراء على الله. وإن قال: قد قال ذلك المخلوق بإرادة الله من غير قول، فقد زعم أن ذلك المخلوق يعلم الغيب من دون الله، وأن المخلوق يعلم مراد الله وإن لم يقل هو، وهم يزعمون أن الله لا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون، وأن الخلق يسعون ويتقلبون في أمور مستأنفة لم يشأها الله ولم يعلمها إلا من بعد أن عملوها، ويزعمون هاهنا أن المخلوق يعلم ما يريد الله من غير أن يقوله، والله يقول فيما أخبر عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (1) والجهمي يزعم أن الخلق يعلمون ما في نفس الله من غير أن يقوله، وهو لا يعلم ما في نفوسهم حتى يقولوه أو يعملوه، تعالى الله عما يقوله الجهمي علوّاً كبيراً، فالجهمي يزعم أن المخلوق يعلم الغيب والله لا يعلم، والله عز وجل يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2).
ومما يحتج به على الجهمي قول الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا
_________
(1) المائدة الآية (116).
(2) النمل الآية (65).(5/472)
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} (1) وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} (2) هل يجوز أن يكون هذا مخلوقاً؟ وهل يجوز لمخلوق من دون الله أن يقول: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} فالجهمي يزعم أن مع الله مخلوقاً خلق الخلق دونه. ومما يحتج به عليه قول الله عز وجل: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (3) فأخبره أن أمره قبل الخلق وبعد فناء الخلق، فالأمر هو كلامه الذي يأمر به ويفعل به ما يريد به ويخلق. وقال الله عز وجل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (4) فدخل في قوله: الخلق كل مخلوق، ثم قال: والأمر، ففصل بينهما. وقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} (5) وقال: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} (6)
_________
(1) الحجر الآيتان (49و50).
(2) المدثر الآيات (11 - 17).
(3) الروم الآية (4).
(4) الأعراف الآية (54).
(5) الدخان الآيتان (4و5).
(6) سبأ الآية (12).(5/473)
وقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (1) وقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (2)
فهذه كلها لو سمي الأمر فيها باسم الخلق، لم يجز، ألا ترى أنه لا يمكن أن يقول: ألا له الخلق والخلق، لأنه قوله: الخلق يدخل فيه الخلق كله بقوله الخلق، والخلق باطل، لا يجوز أن يقال: فيها يفرق كل أمر حكيم خلقاً من عندنا، ولا يقال: ومن يزغ منهم عن خلقنا، ولا يجوز أن يقال: قل خلق ربي بالقسط، ولا يجوز أن يقال: إن الحكم إلا لله خلق أن لا تعبدوا إلا إياه، ولا يجوز أن يقال: حتى إذا جاء خلقنا. ولو كان معنى الأمر معنى الخلق، جاز في الكلام أن يتكلم بالمعنى، ففي هذا بيان كفر الجهمية فيما ادعوه أن القرآن مخلوق، وسنوضح ما قالوه باباً باباً، حتى لا يخفى على مسترشد أراد طريق الحق وأحب أن يسلكها ويزيد العالم بذلك بصيرة، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل. (3)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله تعالى: أما بعد وفقكم الله فإني مبين لكم شرائع الإيمان التي أكمل الله بها الدين، وسماكم بها المؤمنين وجعلكم إخوة عليها متعاونين، وميز المؤمنين بها من المبتدعين المرجئة الضالين، الذي زعموا أن الإيمان قول بلا عمل، ومعرفة من غير حركة. فإن الله عز وجل قد كذبهم في كتابه وسنة نبيه وإجماع العقلاء والعلماء من عباده، فتدبروا ذلك وتفهموا ما فيه وتبينوا
_________
(1) الأعراف الآية (29).
(2) مريم الآية (64) ..
(3) الإبانة (2/ 13/150 - 220).(5/474)
علله ومعانيه.
فاعلموا رحمكم الله أن الإيمان إنما هو نظام اعتقادات صحيحة بأقوال صادقة وأعمال صالحة بنيات خالصة بسنن عادلة وأخلاق فاضلة جمع الله فيها لعباده مصالح دنياهم وآخرتهم ومراشد عاجلهم وآجلهم. (1)
- وقال: اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولاً وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرضه من الأعمال، لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمناً بقلبه مقراً بلسانه عاملاً مجتهداً بجوارحه، ثم لا يكون أيضاً مع ذلك مؤمناً حتى يكون موافقاً للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعاً للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله، وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن، ومضت به السنة، وأجمع عليه علماء الأمة؛ فأما فرض المعرفة على القلب فما قاله الله عز وجل في سورة المائدة: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ
_________
(1) الإبانة (2/ 5/626).(5/475)
وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} (1) وقال في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صدراً ... } الآية (2). وقال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (3)
فهذا بيان ما لزم القلوب من فرض الإيمان لا يرده ولا يخالفه ويجحده إلا ضال مضل. وأما بيان ما فرض على اللسان من الإيمان فهو ما قال الله عز وجل في سورة البقرة: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (4) وقال في سورة آل عمران: {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
_________
(1) المائدة الآية (41).
(2) النحل الآية (106).
(3) الإسراء الآية (36) ..
(4) البقرة الآيتان (136و137).(5/476)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى آخر الآية (1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله» (2). حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن البختري الواسطي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (3).
وأما الإيمان بما فرضه الله عز وجل من العمل بالجوارح تصديقاً لما أيقن به القلب ونطق به اللسان فذلك في كتاب الله تعالى يكثر على الإحصاء وأظهر من أن يخفى. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} (4) وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (5) في مواضع كثيرة من القرآن أمر الله فيها بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان والجهاد في سبيله وإنفاق الأموال وبذل الأنفس في ذلك، والحج بحركة الأبدان ونفقة الأموال، فهذا
_________
(1) آل عمران الآية (84).
(2) البخاري (1/ 102/25) ومسلم (1/ 53/22) من طريق واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3) رواه: أحمد (3/ 300) ومسلم (1/ 52 - 53/ 21 (35)) والترمذي (5/ 409/3341) والنسائي في الكبرى (6/ 514/11670) من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعاً. وأخرجه: مسلم (1/ 52 - 53/ 21 (35)) والنسائي (7/ 91/3987) وابن ماجه (2/ 1295/3928) من طريق أبي سفيان عن جابر مرفوعاً.
(4) الحج الآية (77).
(5) البقرة الآية (43).(5/477)
كله من الإيمان، والعمل به فرض لا يكون المؤمن إلا بتأديته، وكل من تكلم بالإيمان وأظهر الإقرار بالتوحيد وأقر أنه مؤمن بجميع الفرائض غير أنه لا يضره تركها ولا يكون خارجاً من إيمانه إذا هو ترك العمل بها في وقتها مثل الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت مع الاستطاعة وغسل الجنابة، ويرى أن صلاة النهار إن صلاها بالليل أجزاه وصلاة الليل إن صلاها بالنهار أجزته، وإنه إن صام في شوال أجزأه، وإن حج في المحرم أو صفر أجزأه، وأنه متى اغتسل من الجنابة لم يضره تأخيره، ويزعم أنه مع هذا مؤمن مستكمل الإيمان عند الله على مثل إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين. فهذا مكذب بالقرآن مخالف لله ولكتابه ولرسله ولشريعة الإسلام، ليس بينه وبين المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في كتابه فرق، قد نزع الإيمان من قلوبهم بل لم يدخل الإيمان في قلوبهم كما قال الله عز وجل فيهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (1)
فكل من ترك شيئا من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه أو أكدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته -على سبيل الجحود لها والتكذيب بها- فهو كافر بين الكفر لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن أقر بذلك وقاله بلسانه ثم تركه تهاونا ومجوناً أو معتقداً لرأي المرجئة ومتبعا لمذاهبهم فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم وإنهم في الدرك
_________
(1) الحجرات الآية (14) ..(5/478)
الأسفل من النار، نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة. (1)
- وقال رحمه الله: وفرض الله الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها، فمنها قلبه الذي يعقل به ويتقي به ويفهم به وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، ومنها لسانه الذي ينطق به ومنها عيناه اللتان ينظر بهما، وسمعه الذي يسمع به، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يخطو بهما ... فليس من هذه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها بفرض من الله تعالى ينطق به الكتاب ويشهد به علينا. ففرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه. وأما ما فرض على القلب فالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق والعقل والرضا والتسليم وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى من رسول أو كتاب. فأما ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرناه في أول هذا الكتاب، ونعيده هاهنا فمن ذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
_________
(1) الإبانة (2/ 6/760 - 764).(5/479)
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (1) وقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} (2) وقال: {الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (3) فذلك ما فرضه على القلب من الإقرار والمعرفة والتصديق، وهو رأس الإيمان وهو عمله.
وفرض على اللسان القول والتعبير عن القلب وما عقد عليه وأقر به. قال الله عز وجل: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (4) وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (5) فهذا ما فرض على اللسان من القول بما عقد عليه وذلك من الإيمان وهو عمل اللسان.
وأما ما فرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله تعالى، فمما فرض على السمع قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (6) وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
_________
(1) النحل الآية (106).
(2) الرعد الآية (28).
(3) المائدة الآية (41).
(4) البقرة الآية (136).
(5) البقرة الآية (83).
(6) النساء الآية (140).(5/480)
الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (1) وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} (2) وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (3) وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} (4) فهذا ما فرض على السمع التنزه عن الاستماع إلى ما لا يحل له وهو عمل السمع وذلك من الإيمان.
وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله وأن يغض بصره عما لا يحل له مما نهى الله عنه، فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (5) وفرض على الرجال والنساء أن لا ينظروا إلى ما لا يحل لهم، وكل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنه من النظر.
ثم أخبر تعالى ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية واحدة، فقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (6) فهذا ما فرض على
_________
(1) الزمر الآيتان (17و18).
(2) المؤمنون الآيات (1 - 3).
(3) القصص الآية (55).
(4) الفرقان الآية (72).
(5) النور الآية (30).
(6) الإسراء الآية (36).(5/481)
العينين والسمع والبصر والفؤاد وهو عملهن وهو من الإيمان وفرض على الفرج أن لا يهتك عما حرم الله عليه، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} (1) وقال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} (2) ثم أخبر بمعصية السمع والبصر والفؤاد والأيدي والأرجل والجلود في آية واحدة، فقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} (3) فعنى بالجلود الفروج، فهذا ما فرض على الفروج من الإيمان وهو عمله.
وفرض على اليدين أن لا يبطش بهما فيما حرم الله عليهما وأن يبطش بهما فيما أمره الله تعالى به من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والوضوء للصلوات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (4) فهذا ما فرض على اليدين لأن الطهور نصف الإيمان وهو من عمل اليدين. وقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ
_________
(1) المؤمنون الآية (5).
(2) الأحزاب الآية (35).
(3) فصلت الآية (22).
(4) المائدة الآية (6).(5/482)
الرِّقَابِ} (1) فهذا ما فرض على اليدين، وصلة الرحم والضرب في سبيل الله وهو من الإيمان.
وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما في شيء من معاصي الله وأن يستعملا فيما أمر الله تعالى من المشي إلى ما يرضيه، فقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (2) وقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (3)، وقال فما شهدت به الأيدي والأرجل على أنفسهما يوم القيامة من تضييعها وتركها فرض الله عليها وتعديها ما حرمه عليها: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} (4) فهذا ما فرض الله على اليدين والرجلين من العمل وهو من الإيمان.
وفرض على الوجه السجود آناء الليل والنهار في مواقيت الصلوات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الآية (5) فهذه فريضة من الله تعالى جامعة على الوجه واليدين والرجلين. وقال في موضع آخر: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} (6) يعني بالمساجد ما
_________
(1) محمد الآية (4).
(2) لقمان الآية (18).
(3) لقمان الآية (19).
(4) يس الآية (65).
(5) الحج الآية (77).
(6) الجن الآية (18).(5/483)
سجد عليه ابن آدم في صلاته من الجبهة والأنف واليدين والرجلين والركبتين وصدور القدمين.
وقال فيما فرض الله تعالى على الجوارح كلها من الصلاة والطهور، وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيماناً في كتابه، وذلك أن الله تعالى لما صرف نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمره أن يصلي إلى الكعبة قال المسلمون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتك صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ما حالها وما حالنا فيها وحال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى في ذلك قرآناً ناطقاً، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) يعني: صلواتكم إلى بيت المقدس، فسمى الله الصلاة إيماناً (2). فمن لقي الله حافظاً لجوارحه موفياً كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عليه لقي الله مؤمناً مستكمل الإيمان، ومن ضيع شيئاً منها وتعدى ما أمر الله به فيها لقي الله تعالى ناقص الإيمان، وهو في مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ومن جحد شيئاً كان كافراً.
قال الشيخ -أي ابن بطة-: فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبَيَّنَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرحه في سنته، وأعلمه أمته، وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل وأن العمل من الإيمان ما قاله في
_________
(1) البقرة الآية (143).
(2) سيأتي تخريجه قريباً.(5/484)
سورة البقرة: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (1) فانتظمت هذه الآية أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص. (2)
- وقال رحمه الله: فقد أنبأنا الله عز وجل في كتابه عن معرفة الإيمان بدلالات القرآن أنه قول وعمل وتصديق ويقين، وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة والريب لما فيه من البيان والبرهان والحق المبين، ولكن الله عز وجل جعله شفاء ورحمة للمؤمنين: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (3) فمن لم يشفه القرآن ولم تنفعه السنة وما فيهما من النور والبيان والهدي والضياء، وتنطع وتعمق، وقال برأيه وقاس على الله وعلى رسوله بفعله وهواه، داخل الله في عمله ونازعه في غيبه، ولم يقنع بما كشف له عنه حتى خالف الكتاب والسنة وخرق إجماع
_________
(1) البقرة الآية (177).
(2) الإبانة (2/ 6/765 - 772).
(3) الإسراء الآية (82).(5/485)
الأمة وضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، واتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. (1)
- وقال رحمه الله: فأي عبد أتعس جداً ولا أعظم نكداً ولا أطول شقاءً وعناءً، من عبد حرم البصيرة بنور القرآن والهداية بدلالته والزجر بموعظته. قال الله عز وجل بلسان عربي مبين وقوله الحق والصدق، قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} (2) فالهدي هدي الإيمان وهو القول، والدين هو العمل وجميع الفرائض والشرائع والأحكام ومجانبة الحرام والآثام. فالدين ليس هو خصلة واحدة ولكنه خصال كثيرة من أقوال وأفعال، من فرائض وأحكام، وشرائع وأمر ونهي، فقوله عز وجل: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يجمع ذلك كله حتى صار ديناً قيماً، فمن كان من أهل الدين عمل بجميع ما فيه، ومن آمن ببعضه وكفر ببعضه لم يكن من أهله. ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فليس هو من أهل دين الحق ولا مؤمن ولا مهتد ولا عامل بدين الحق، ولا قابل له، لأن الله عز وجل قد أعلمنا أن كمال الدين بإكمال الفرائض. قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
_________
(1) الإبانة (2/ 6/773).
(2) التوبة الآية (33).(5/486)
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)
وذلك أنه لما علم الله عز وجل الصدق منهم في إيمانهم والعمل بجميع ما افترضه عليهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت، وما بذلوه من مهج أنفسهم ونفقات أموالهم والخروج عن ديارهم وهجران آبائهم وقطيعة أهليهم وهجران شهواتهم ولذاتهم مما حرمها عليهم، وعلم حقيقة ذلك من قلوبهم بما زينه الله تعالى في قلوبهم وحببه إليهم من طاعته والعمل بأوامره والانتهاء عن زواجره، سمى هذه الأفعال كلها إيماناً، فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} (2) فاستحقوا اسم الرشاد بإكمال الدين. وذلك أن القوم كانوا في فسحة وسعة ليس يجب عليهم صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا كان حرم عليهم كثيراً مما هو محرم، وكان اسم الإيمان واقعا عليهم بالتصديق ترفقاً بهم لقرب عهدهم بالجاهلية وجفائها، فجعل الإقرار بالألسن والمعرفة بالقلوب الإيمان المفترض يومئذ، حتى إذا حلت مذاقة الإيمان على ألسنتهم، وحسنت زينته في أعينهم، وتمكنت محبته من قلوبهم، وأشرقت أنوار لبسته عليهم، وحسن استبصارهم فيه، وعظمت فيه رغبتهم، تواترت أوامره فيهم، وتوكدت فرائضه عليهم، واشتدت زواجره ونواهيه. فكلما أحدث لهم فريضة عبادة وزاجرة عن معصية ازدادوا إليه
_________
(1) المائدة الآية (3) ..
(2) الحجرات الآيتان (7و8).(5/487)
مسارعة وله طاعة، دعاهم باسم الإيمان وزادهم فيه بصيرة، فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} (1) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2)
الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3) ثم قال في فرض الجهاد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (4) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (5) ونظائر لهذا في القرآن كثيرة. وقال في النهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (6) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (7) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
_________
(1) الحج الآية (78).
(2) المائدة الآية (6) ..
(3) الجمعة الآية (9).
(4) البقرة الآية (216). (في الأصل: ((يا أيها الذين آمنوا كتب ... )) وهو خطأ).
(5) التوبة الآية (38).
(6) آل عمران الآية (130).
(7) المائدة الآية (95).(5/488)
الشَّيْطَانِ} (1)، فعلى هذا كل مخاطبة كانت منه لهم فيما أمر ونهى وأباح وحظر. وكان اسم الإيمان واقعاً بالإقرار الأول إذا لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجب عليهم التزام فرضها والمسارعة إليها كوجوب الأول سواء، لا فرق بينهما، لأنهما جميعاً من عند الله وبأمره وإيجابه. ولقد فرضت الصلاة عليهم بمكة فصلوا نحو بيت المقدس، فلما هاجروا إلى المدينة أقاموا بها يصلون نحوه ثمانية عشر شهراً، ثم حولت القبلة نحو الكعبة فلو لم يصلوا نحو الكعبة كما أمروا لما أغنى عنهم الإقرار الأول ولا الإيمان المتقدم.
ولقد بلغ بهم الإشفاق في الطاعة والمسارعة إليها أن خافوا على من مات وهو يصلي نحو بيت المقدس قبل تحويل القبلة حتى قال قائلهم: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل قرآناً أزال عنهم ذلك الإشفاق، وأعلمهم به أيضاً أن الصلاة إيمان. فقال عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} (2).
حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر الخوارزمي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الواسطي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «لما توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا يصلون إلى بيت
_________
(1) المائدة الآية (90).
(2) البقرة الآية (143).(5/489)
المقدس؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1)» (2) وبلغني عن يعقوب الدورقي من غير رواية المحاملي، قال: بلغني عن سفيان، أنه قال: ما علمت أن الصلاة من الإيمان حتى قرأت هذه الآية فالله عز وجل قد جعل الصلاة من الإيمان وسمى العاملين بها مؤمنين، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} (3) ثم نعت وصف الإيمان فيهم ثم ذكر ما وعدهم به عند آخر وصفهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} (4).
والمرجئة تزعم أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان، فقد أكذبهم الله عز وجل وأبان خلافهم. واعلموا، رحمكم الله، أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل والنية بالإخلاص، حتى صار اسم الإيمان مشتملاً على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض ولا ينفع بعضها دون بعض حتى صار الإيمان: قولاً باللسان وعملاً بالجوارح ومعرفة بالقلب خلافا لقول المرجئة الضالة الذين
_________
(1) البقرة الآية (143).
(2) أحمد (1/ 304 - 305) وأبو داود (5/ 59 - 60/ 4680) والترمذي (5/ 192/2964) وقال: "حسن صحيح". وابن حبان (الإحسان 4/ 620 - 621/ 1717) كلهم بذات الإسناد. ورواية سماك بن حرب عن عكرمة مضطربة، لكن له شاهد من رواية البراء بن عازب يتقوى به عند البخاري (1/ 128 - 129/ 40).
(3) المؤمنون الآيتان (1و2).
(4) المؤمنون الآيتان (10و11).(5/490)
زاغت قلوبهم وتلاعبت الشياطين بعقولهم، وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه والرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته. (1)
- وقال رحمه الله -عقب ذكر آيات في ثناء الله عز وجل على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات، وقد تقدمت-: فتفهموا رحمكم الله هذا الخطاب وتدبروا كلام ربكم عز وجل وانظروا هل ميز الإيمان من العمل أو هل أخبر في شيء من هذه الآيات أنه ورث الجنة لأحد بقوله دون فعله؟ ألا ترون إلى قوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (2)، ولم يقل بما كنتم تقولون. وقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} (3) ولم يقل: بما قالوا. وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (4) ولم يقل: أحسن قولاً. وقال في قصة الكفار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (5) ولم يقولوا: غير الذي كنا نقول. وقال عز وجل: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
_________
(1) الإبانة (2/ 6/774 - 779).
(2) الزخرف الآية (72).
(3) النجم الآية (31).
(4) الملك الآية (2).
(5) الأعراف الآية (53).(5/491)
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (1) فلم يفرد الإيمان حتى قال: كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله يقول أي بما في كتبه من أمره ونهيه وفرائضه وأحكامه، ثم حكى ذلك عنهم حين صدقهم في قولهم وفعلهم، فقال: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، فيصير الإيمان بذلك كله إيماناً واحداً وقولاً واحداً ولم يفرق بعضه من بعض. فمن زعم أن ما في كتاب الله عز وجل من شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان، وأن التارك لها والمتثاقل عنها مؤمن فقد أعظم الفرية وخالف كتاب الله ونبذ الإسلام وراء ظهره ونقض عهد الله وميثاقه.
قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} (2)، ثم قال: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} (3)، ثم قال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (4)، ثم قال: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}. فجمع
_________
(1) البقرة الآية (285).
(2) آل عمران الآية (81).
(3) آل عمران الآية (82).
(4) آل عمران الآية (83).(5/492)
القول والعمل في هذه الآية. [وقال الله عز وجل] (1) فمن زعم أنه يقر بالفرائض ولا يؤديها [ويعلمها] (2) وبتحريم الفواحش والمنكرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها وأنه مع ذلك مؤمن فقد كذب بالكتاب وبما جاء به رسوله، ومثله كمثل المنافقين الذين قالوا: {آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (3) فأكذبهم الله ورد عليهم قولهم وسماهم منافقين، مأواهم الدرك الأسفل من النار، على أن المنافقين أحسن حالاً من المرجئة، لأن المنافقين جحدوا العمل وعملوه، والمرجئة أقروا بالعمل بقولهم وجحدوه بترك العمل به، فمن جحد شيئاً وأقر به بلسانه وعمله ببدنه أحسن حالاً ممن أقر بلسانه وأبى أن يعمله ببدنه، فالمرجئة جاحدون لما هم به مقرون ومكذبون لما هم به مصدقون، فهم أسوأ حالاً من المنافقين. ويح لمن لم يكن القرآن والسنة دليله فما أضل سبيله وأكسف باله وأسوأ حاله.
حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، قال: حدثنا أحمد بن الوليد الفحام، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: حدثنا أبو عبيدة الناجي، أنه سمع الحسن يقول: قال قوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لنحب ربنا عز وجل فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
_________
(1) هكذا وقع بالأصل، فإما أن هناك سقط، أو أنها زائدة والسياق بدونها مستقيم، والله أعلم.
(2) كذا بالأصل ولعل الصواب، والله أعلم: "لا يعلمها".
(3) المائدة الآية (41).(5/493)
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (1) فجعل الله عز وجل اتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - علماً لمحبته، وأكذب من خالفه. ثم جعل على كل قول دليلاً من عمل يصدقه ومن عمل يكذبه، يعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من عبادة الإيمان: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} (2) فأعلمه في هذه الآية أن الإيمان بالله هو الإيمان بما أنزل عليه وبما أنزل من قبله على رسل الله، وبما في كتبه من الشرائع والأحكام والفرائض، وأن ذلك هو الإيمان والإسلام، ثم قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (3)، ففي هذا دليل على أن الإيمان قول وعمل ليس ينفصل الإسلام من العمل في هذه الآية، وذلك أن الله عز وجل قد أخبرنا أنه ليس يقبل قولاً إلا بعمل. قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4)
فأخبرنا عز وجل أنه لا يقبل قولاً طيباً إلا بعمل صالح، أو عملاً صالحاً إلا بقول طيب، لأنه قال في آية
_________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) البقرة الآية (136).
(3) آل عمران الآية (85).
(4) فاطر الآية (10) ..(5/494)
أخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (1) فلا قول أزكى ولا أطيب من التوحيد، ولا عمل أصلح ولا أفضل من أداء الفرائض واجتناب المحارم. فإذا قال قولاً حسناً أو عمل عملاً حسناً رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولاً حسناً وعمل عملاً سيئاً رد الله قوله على العمل وذلك في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2). (3)
- وقال رحمه الله: وحسبك من كتاب الله عز وجل بآية جمعت كل قول طيب وكل عمل صالح قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (4). فإنه جمع في هذه الآية القول والعمل والإخلاص والطاعة لعبادته وطاعته والإيمان به وبكتبه وبرسله وما كانوا عليه من عبادة الله وطاعته، فهل للعبادة التي خلق الله العباد لها عمل غير عمل من الإيمان، فالعبادة من الإيمان هي أو من غير الإيمان؟ فلو كانت العبادة التي خلقهم الله لها قولاً بغير عمل لما أسماها عبادة ولسماها قولاً، ولقال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليقولون، وليس يشك العقلاء أن العبادة خدمة، وأن الخدمة عمل، وأن العامل مع الله عز وجل إنما عمله أداء الفرائض واجتناب المحارم
_________
(1) النحل الآية (97).
(2) فاطر الآية (10).
(3) الإبانة (2/ 6/787 - 792).
(4) الذاريات الآية (56).(5/495)
وطاعة الله فيما أمر به من شرائع الدين وأداء الفرائض. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ((77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (1) الآية، فهل يخفى على ذي لب سمع هذا الخطاب الذي نزل به نص الكتاب أن اسم الإيمان قد انتظم التصديق بالقول والعمل والمعرفة؟ قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (2) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (3)
وقال: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)} (4) وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل به المرسلين وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: إن الصلاة ليست
_________
(1) الحج الآيتان (77و78).
(2) الأنبياء الآية (25).
(3) الأنعام الآيتان (162و163) ..
(4) الأنعام الآيتان (71و72).(5/496)
من الإيمان، والله عز وجل يقول: {* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)} (1). فجعل الله من ترك الصلاة مشركاً خارجاً من الإيمان، لأن هذا الخطاب للمؤمنين تحذير لهم أن يتركوا الصلاة فيخرجوا من الإيمان ويكونوا كالمشركين. وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (2).
فقال: من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فلم يفرق بين الإيمان وبين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤمن لم تنفعه الصلاة، ومن لم يصل لم ينفعه، الإيمان، واستبدل بمحل الصلاة من الإيمان ونزولها منه بالذروة العليا وأن الله عز وجل فرضها بالطهارة بالماء، فلا تجزىء الصلاة إلا بالطهارة، فلما علم الله عز وجل أن عباده يكونون بحيث لا ماء فيه وبحال لا يقدرون معها إلى استعمال الماء فرض عليهم التيمم بالتراب عوضاً من الماء، لئلا يجد أحد في ترك الصلاة مندوحة، ولا في تأخيرها عن وقتها رخصة، وكذلك فرض عليهم الصلاة في حال شدة الخوف ومبارزة العدو فأمرهم بإقامتها على الحال التي هم فيها فعلمهم كيف يؤدونها؛ فهل يكون أحد هو أعظم جهلاً وأقل علماً وأضل عن سواء السبيل
_________
(1) الروم الآية (31).
(2) التوبة الآية (18).(5/497)
وأشد تكذيباً لكتاب الله وسنة رسوله وسنة الإيمان وشريعة الإسلام ممن علم أن الله عز وجل قد فرض الصلاة وجعل محلها من الإيمان هذا المحل، وموضعها من الدين هذا الموضع، وألزم عباده إقامتها هذا الإلزام في هذه الأحايين، وأمر بالمحافظة والمواظبة عليها على هذه الشدائد والضرورات، فيخالف ذلك إلى اتباع هواه وإيثاره لرأيه المحدث الذي ضل به عن سواء السبيل وأضل به من اتبعه فصار ممن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
قال الشيخ -أي ابن بطة-: فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذباً وخارجاً من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بقول. (1)
- وفيها أيضاً: فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله لا على وجه الشك ونعوذ بالله من الشك في الإيمان، لأن الإيمان إقرار لله بالربوبية وخضوع له في العبودية وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى.
فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة، ولكن الاستثناء يصح من وجهين: أحدهما نفي التزكية لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة وبالرضاء وبالرضوان، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقاً بضدها، أرأيت لو أن
_________
(1) الإبانة (2/ 6/792 - 795).(5/498)
رجلاً شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر، فقال له الحاكم: لست أعرفك ولكني أسأل عنك ثم أسمع شهادتك، فقال له: إنك لن تسأل عني أعلم بي مني، أنا رجل زكي عدل مأمون رضي جائز الشهادة ثابت العدالة. أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته وقلة عقله بما دل الحاكم على رد شهادته وأغناه عن المسألة عنه؟ فما ظنك بمن قطع على نفسه بحقائق الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحكم لنفسه بالخلود في جنات النعيم. ويصح الاستثناء أيضاً من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال وعلى الخاتمة وبقية الأعمار، ويريد أني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا؟ وبذلك أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده. قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1) فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء أن تقول قولاً جزماً حتماً إني أصبح غداً مؤمناً ولا تقول إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً إلا أن تصل كلامك بالاستثناء فتقول إن شاء الله. فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين.
حدثنا أبو الحسين إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا موسى
_________
(1) الكهف الآيتان (23و24).(5/499)
-يعني ابن علي- عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما أحب أن أحلف لا أصبح كافراً ولا أمسي كافراً.
وقال رحمه الله: والاستثناء أيضاً يكون على اليقين. قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله» (2). ومر - صلى الله عليه وسلم - بأهل القبور فقال: «وإنا بكم إن شاء الله لاحقون» (3)، وهو يعلم أنه ميت لا محالة.
ولكن الله تعالى بذلك أدب أنبياءه وأولياءه أن لا يقولوا قولا أملوه وخافوه وأحبوه أو كرهوه إلا شرطوا مشيئة الله فيه. قال إبراهيم خليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم -: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} (4). وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (5). فهذا طريق الأنبياء والعلماء والعقلاء وجميع من مضى من السلف والخلف والمؤمنين من الخلف الذين جعل الله عز وجل الاقتداء بهم هداية وسلامة واستقامة وعافية من الندامة. (6)
_________
(1) الفتح الآية (27).
(2) أحمد (6/ 67) ومسلم (2/ 781/1110) وأبو داود (2/ 782 - 783/ 2389) والنسائي في الكبرى (6/ 462/11500) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) مسلم (2/ 669/974) وأبو داود (3/ 558 - 559/ 3237)، وغيرهما من حديث عائشة. وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة الأسلمي رضي الله عنهما.
(4) الأنعام الآية (80).
(5) الأعراف الآية (89).
(6) الإبانة (2/ 7/864 - 867).(5/500)
موقفه من القدرية:
- قال ابن بطة: الباب الثاني في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه لا يهتدي بالمرسلين والكتب والآيات والبراهين إلا من سبق في علم الله أنه يهديه. -ثم ساق رحمه الله مجموعة من الآيات في بيان ذلك- ثم قال: ففي كل هذه الآيات يعلم الله عز وجل عباده المؤمنين أنه هو الهادي المضل، وأن الرسل لا يهتدي بها إلا من هداه الله، ولا يأبى الهداية إلا من أضله الله، ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هدايته؛ لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين لأن الرسل بعثوا رحمة للعالمين، ونصيحة لمن أطاعهم من الخليقة أجمعين، فلو كانت الهداية إليهم؛ لما ضل أحد جاءوه. أما سمعت ما أخبرنا مولانا الكريم من نصيحة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على إيماننا حين يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} (1)، وبالذي أخبرنا به عن خطاب نوح عليه السلام لقومه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)} (2). هذا من أحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه ولا يظن فيه بربه غير العدل، وأن يحمل ما جهله من ذلك على
_________
(1) التوبة الآية (128).
(2) هود الآية (34).(5/501)
نفسه ولا يقول كيف بعث الله عز وجل نوحاً إلى قومه وأمره بنصيحتهم ودلالتهم على عبادته والإيمان به وبطاعته، والله يغويهم ويحول بينهم وبين قبول ما جاء به نوح إليهم عن ربه؛ حتى كذبوه وردوا ما جاء به، ولقد حرص نوح في هداية الضال من ولده، ودعا الله أن ينجيه من أهله؛ فما أجيب، وعاتبه الله في ذلك بأغلظ العتاب، حين قال نوح: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (1)،
فقال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} (2). وذلك أن ابن نوح كان ممن سبقت له من الله الشقوة، وكتب في ديوان الضلال الأشقياء، فما أغنت عنه نبوة أبيه ولا شفاعته فيه؛ فنحمد ربنا أن خصنا بعنايته، وابتدأنا بهدايته من غير شفاعة شافع ولا دعوة داع، وإياه نسأل أن يتم ما به ابتدأنا، وأن يمسكنا بعرى الدين الذي إليه هدانا، ولا ينزع منا صالحاً أعطانا. (3)
- وقال رحمه الله: وفرض على المسلمين أن يؤمنوا ويصدقوا بأن علم الله عز وجل قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم؛ كيف يخلقهم، وماذا هم عاملون، وإلى ماذا هم صائرون؛ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب، ويصدق ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
_________
(1) هود الآية (45) ..
(2) هود الآية (46).
(3) الإبانة) 1/ 8/264 - 265).(5/502)
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (1). يقول: أحصى ما هو كائن قبل أن يكون؛ فخلقهم على ذلك العلم السابق فيهم، ثم أرسل بعد العلم بهم والكتاب الرسل إلى بني آدم يدعونهم إلى توحيد الله وطاعته، وينهونهم عن الشرك بالله ومعصيته، يدلك على تصديق ذلك قوله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (2) فالرسل في الظاهر تدعوهم إلى الله وتأمرهم بعبادته وطاعته، ثم أرسل الشياطين على الكافرين يدعونهم إلى الشرك والمقام على الكفر والمعاصي، كل ذلك ليتم ما علم، ولا يكون إلا ما أمر؛ فسبحان من جعل هذا هكذا وحجب قلوب الخلق ومنعهم على مراده في ذلك وجعله سره المخزون وعلمه المكتوم. ويصدق ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} (3).
وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
_________
(1) الحج الآية (70).
(2) الأنبياء الآية (25).
(3) مريم الآية (83).(5/503)
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (1). أما ترى كيف أعلمنا أن السحر كفر، وأنه أنزله على هاروت وماروت وجعلهما فتنة ليكفر من كتبه كافراً بفتنتهما، وأن السحر الذي يعلمانه الناس كفر، وأنه لا يضر أحداً؛ إلا من قد أذن الله أن يضره السحر، وذلك عدل منه سبحانه. وقال عز وجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} (2) وقال تعالى: {* وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} (3). وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (4).
قال ابن بطة: فقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول ومن سبقت عليه الشقوة حتى يؤزوهم أزّاً، ويحرضوهم على الكفر تحريضاً، ويزينوا لهم سوء أعمالهم، وكذلك أخبرنا أنه هو تعالى فتن قوم
_________
(1) البقرة الآية (102).
(2) الصافات الآيتان (162و163).
(3) فصلت الآية (25).
(4) الزخرف الآيتان (36و37).(5/504)
موسى حتى عبدوا العجل وضلوا عن سواء السبيل. وقال عز وجل: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} (1). وقال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (2). وقال عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)} (3). وقال: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} (4). قال ابن بطة: فهذا كلام الله عز وجل وإخباره عن فعله في خلقه، يعلمهم أن المفتون من فتنه، والهادي من هداه، والضال من أضله وحال بينه وبين الهدى، وأن الشياطين هو خلقها وسلطها، والسحر هو أنزله على السحرة، وأنه لا يضر أحداً إلا بإذنه؛ فتعس عبد وانتكس سمع هذا الكلام الفصيح الذي جاء به الرسول الصادق عليه السلام من كتاب ربه الناطق فيتصامم عنه ويتغافل، ويتمحل لآرائه وأهوائه المقاييس بالكلام المزخرف والقول المحرف؛ ابتغاء الفتنة وحب الأتباع والأشياع، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} (5).اهـ (6)
_________
(1) طه الآية (85).
(2) الأنبياء الآية (35).
(3) الأعراف الآية (168).
(4) غافر الآية (37).
(5) النحل الآية (25).
(6) الإبانة (1/ 8/267 - 271).(5/505)
- وقال رحمه الله: فالقدرية المخذولة يسمعون هذا وأضعافه، ويتلونه ويتلى عليهم؛ فتأبى قلوبهم قبوله، ويردونه كله ويجحدونه بغياً وعلواً وأنفة من الحق، وتكبرا على الله عز وجل وعلى كتابه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سنته، وللشقوة المكتوبة عليهم؛ فهم لا يسمعون إلا ما وافق أهواءهم، ولا يصدقون من كتاب الله ولا من سنة نبيه؛ إلا ما استحسنته آراؤهم، فهم كما قال الله عز وجل: {* وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} (1)، هم كما قال عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} (2) وهكذا القدري الخبيث الذي قد سلط الله عليه الشياطين، يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، تزجره بكتاب الله تعالى؛ فلا ينزجر، وسنة رسول الله؛ فلا يذكر. وبقول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا ينحسر، وتضرب له الأمثال؛ فلا يعتبر، مصر على مذهبه الخبيث النجس الذي خالف فيه رب العالمين والملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وجميع فقهاء المسلمين، وضارع فيه اليهود والنصارى والمجوس والصابئين؛ فلم يجد أنيساً في طريقته ولا مصاحباً على مذهبه غيرهم، أعاذنا الله وإياكم من مذاهب القدرية والأهواء الرديئة والبدع المهلكة المردية، وجعلنا وإياكم للحق مصدقين، وعن الباطل حائدين، وثبتنا
_________
(1) الأنعام الآية (111).
(2) البقرة الآية (171).(5/506)
وإياكم على الدين الذي رضيه لنفسه واختص به من أحبه من عباده، الذين علموا أن قلوبهم بيده، وهممهم وحركاتهم في قبضته؛ فلا يهمون ولا يتنفسون إلا بمشيئته، فهم فقراء إليه في سلامة ما خولهم من نعمه، {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (1) كما أمرهم به من مسألته.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (2).اهـ (3)
- وقال رحمه الله: فلو كان الأمر كما تزعم القدرية؛ كانت الحجة قد ظهرت على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا؛ فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده؛ فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4). ثم قال شعيب في موضع
_________
(1) الأنعام الآية (63).
(2) آل عمران الآية (8).
(3) الإبانة (1/ 8/282 - 283).
(4) الأعراف الآية (89).(5/507)
آخر: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (1). وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} (2).
وقال أيضاً فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (3). وقال فيما أخبر عن يوسف عليه السلام، ولجئه إلى ربه، وخوفه الفتنة على نفسه إن لم يكن هو المتولي لعصمته: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} (4)، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} (5).
ثم أخبرنا تعالى أن العصمة في البداية وإلهامه إياه الدعوة، كانت بالعناية
_________
(1) هود الآية (88).
(2) الأنعام الآية (80).
(3) إبراهيم الآية (35).
(4) يوسف الآية (33).
(5) يوسف الآية (34).(5/508)
من مولاه الكريم به؛ فقال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} (1)، وقال عز وجل فيما أخبر عن موسى حين دعا على فرعون وقومه بأن لا يؤمنوا وعن استجابته له وإعطائه ما سأل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} (2)، قال الله تعالى: {قد أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} (3). وقال فيما أعلمه لنوح بكفر قومه وتكذيبهم له: {وأوحى إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} (4). وقال تعالى فيما أخبر عن أهل النار واعترافهم بأن الهداية من الله عز وجل؛ فقال: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ
_________
(1) يوسف الآية (24).
(2) يونس الآية (88).
(3) يونس الآية (89).
(4) هود الآية (36).(5/509)
عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} (1).
فاعترف أهل النار بأن الله عز وجل منعهم الهداية، وأنه لو هداهم اهتدوا؛ فاسمعوا رحمكم الله إلى كتاب ربكم، وانظروا هل تجدون فيه مطمعاً لما تدعيه القدرية عليه من نفي القدرة والمشيئة والإرادة عنه وإضافة القدرة والمشيئة إلى أنفسهم، وتفهموا قول الأنبياء لقومهم وكلام أهل النار واعتذار بعضهم إلى بعض بمنع الله الهداية لهم، والله عز وجل يحكي ذلك كله عنهم غير مكذب لهم ولا راد ذلك عليهم. واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل أرسل رسله مبشرين ومنذرين وحجة على العالمين، فمن شاء الله تعالى له الإيمان؛ آمن، ومن شاء الله أن يكفر؛ كفر، فلم يجب الرسل إلى دعوتهم ولم يصدقهم برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مرحوم مؤمن، ولم يكذبهم ويرد ما جاءوا به إلا من قد سبق في علم الله أنه شقي كافر، وعلى ذلك جميع أحوال العباد صغيرها وكبيرها، كلها مثبتة في اللوح المحفوظ والرق المنشور قبل خلق الخلق؛ فالأنبياء ليس يهتدي بدعوتهم ولا يؤمن برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مؤمن بهم، ولقد حرص الأنبياء وأحبوا الهداية والإيمان لقوم من أهاليهم وآبائهم وأبنائهم وذوي أرحامهم؛ فما اهتدى منهم إلا من كتب الله له الهداية والإيمان، ولقد عوتبوا في ذلك بأشد العتب، وحسبك بقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (2)، وبجواب الله
_________
(1) إبراهيم الآية (21).
(2) هود الآية (45).(5/510)
عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} (1).
ثم أخبرنا بجملة دعوة المسلمين، وبماذا كانت الإجابة من قومهم أجمعين، فقال عز وجل في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} (2). ثم عزى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في حرصه على هداية قومه بقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} (3)، فمن خذله الله بالمعصية؛ فمن ذا الذي نصره بالطاعة؟ ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (4). وقال له أيضاً: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ
_________
(1) هود الآية (46).
(2) النحل الآية (36).
(3) النحل الآية (37).
(4) القصص الآية (56).(5/511)
يُؤْمِنُونَ (188)} (1). وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2).
فكل هذا يدل العقلاء ويؤمن المؤمنين من عباد الله والعلماء أن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين حجة على العالمين، وأن من شاء الله له الإيمان؛ آمن ومن لم يشأ له الإيمان؛ لم يؤمن، وأن ذلك كله مفروغ منه، قد علم ربنا عز وجل المؤمن من الكافر والمطيع من العاصي والشقي من السعيد، وكتب لقوم الإيمان بعد الكفر؛ فآمنوا، ولقوم الكفر بعد الإيمان؛ فكفروا، والطاعة بالتوبة بعد المعصية؛ فتابوا، وعلى آخرين الشقوة؛ فكفروا، فماتوا على كفرهم، وكل ذلك في إمام مبين. (3)
- وقال رحمه الله: فجميع ما قد ذكرته لك واجب على المسلمين معرفته والإيمان به، والإذعان لله عز وجل والإقرار له بالعلم والقدرة، وأنه ليس شيء كان ولا هو كائن إلا وقد علمه الله عز وجل قبل كونه ثم كان بمشيئة الله وقدرته، فمن زعم أن الله عز وجل شاء لعباده الذين جحدوه وكفروا به وعصوه الخير والإيمان به والطاعة له، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والكفر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم في أنفسهم واختيارهم لها خلافا لمشيئته فيهم فكان ما شاؤوا ولم يكن ما شاء الله؛ فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله وأنهم أقدر على ما يريدون منه على ما يريد؛ فأي افتراء
_________
(1) الأعراف الآية (188).
(2) إبراهيم الآية (4).
(3) الإبانة (1/ 8/287 - 292).(5/512)
على الله يكون أكثر من هذا؟ ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه؛ فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه، وجعل الخلق يقدرون لأنفسهم على ما لا يقدر الله عليه منهم، وهذا إلحاد وتعطيل وإفك على الله عز وجل وكذب وبهتان، ومن زعم أن الزنا ليس بقدر؛ قيل له: أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا وجاءت بولدها؛ هل شاء الله أن يخلق هذا الولد، وهل مضى هذا في سابق علم الله، وهل كان في الذرية التي أخذها عز وجل من ظهر آدم؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقاً غيره وإلها آخر، وهذا قول يضارع الشرك، بل هو الشرك الصارح، تعالى الله عما تقول الملحدة القدرية علوّاً كبيراً، ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر من الله؛ لقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وأن ما أخذه وأكله وملكه وتصرف فيه من أحوال الدنيا وأموالها؛ كان إليه وبقدرته؛ يأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، إن شاء أغنى نفسه؛ أغناها، وإن شاء أن يفقرها؛ أفقرها، وإن أحب أن يكون ملكاً؛ كان، وإن أحب غير ذلك؛ كان، وهذا قول يضارع قول المجوسية، بل ما كانت تقوله الجاهلية، لكنه أكل رزقه، وقضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر؛ فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأن الله عز وجل كتب للمقتول أجلا علمه وأحصاه وشاء وأراده، وأن قاتله شاء أن يفني عمره ويقطع أجله قبل بلوغ مدته وإحصاء عدته؛ فكان ما أراده القاتل، وبطل ما أحصاه الله وكتبه وعلمه؛ فأي كفر يكون أوضح وأقبح وأنجس وأرجس من هذا؟ بل(5/513)
ذلك كله بقضاء الله وقدره، وكل ذلك بمشيئته في خلقه وتدبيره فيهم، قد وسعه علمه وأحصاه وجرى في سابق علمه ومسطور كتابه، وهو العدل الحق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (1) ولا يقال لما فعله وقدره وقضاه كيف؟ ولا لم؟ فمن جحد أن الله عز وجل قد علم أفعال العباد وكل ما هم عاملون؛ فقد ألحد وكفر، ومن أقر بالعلم؛ لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر منه و (القما)؛ فالله الضار، النافع، المضل، الهادي؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا منازع له في أمره، ولا شريك له في ملكه، ولا غالب له في سلطانه خلافا للقدرية الملحدة. (2)
- وقال رحمه الله: اعلموا رحمكم الله أن القدرية أنكروا قضاء الله وقدره، وجحدوا علمه ومشيئته، وليس لهم فيما ابتدعوه ولا في عظيم ما اقترفوه كتاب يؤمونه، ولا نبي يتبعونه، ولا عالم يقتدون به، وإنما يأتون فيما يفترون بأقوال عن أهوائهم مخترعة وفي أنفسهم مبتدعة؛ فحجتهم داحضة وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، يشبهون الله بخلقه، ويضربون لله الأمثال، ويقيسون أحكامه بأحكامهم، ومشيئته بمشيئتهم وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؛ فيدعي أن إمامه في ذلك الحسن ابن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إماماً من أئمة المسلمين وسيداً من ساداتهم وعالماً من
_________
(1) الأنبياء الآية (23).
(2) الإبانة (2/ 9/43 - 45).(5/514)
علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان ويرميه بالإثم والعدوان ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه. (1)
- وقال رحمه الله: فكل ما قد ذكرته لكم يا إخواني رحمكم الله؛ فاعقلوه، وتفهموه، ودينوا لله به، فهو ما نزل به الكتاب الناطق، وقاله النبي الصادق، وأجمع عليه السلف الصالح والأئمة الراشدون من الصحابة والتابعين، والعقلاء، والحكماء من فقهاء المسلمين، واحذروا مذاهب المشائيم القدرية، الذين أزاغ الله قلوبهم؛ فأصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا حتى زعموا أن المشيئة إليهم، وأن الخير والشر بأيديهم، وأنهم إن شاؤوا أصلحوا أنفسهم، وإن شاؤوا أفسدوها، وأن الطاعة والمعصية إليهم، فإن شاؤوا عصوا الله وخالفوه فيما لا يشاؤه ولا يريده، حتى ما شاؤوا هم كان، وما شاء الله لا يكون، وما لا يشاؤونه لا يكون، وما لا يشاؤه الله يكون، فإن القدري الملعون لا يقول اللهم اعصمني، ولا اللهم وفقني، ولا يقول اللهم ألهمني رشدي، ولا يقول ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويقول: إن الله لا يزيغ القلوب ولا يضل أحداً ويجحد القرآن ويعاند الرسول ويخالف إجماع المسلمين، ولا يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يقول ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون وينكر ذلك على من قاله، ويزعم أن المشيئة إليه والحول والقوة بيديه، وأنه إن شاء أطاع الله وإن شاء عصى، وإن شاء أخذ وإن شاء أعطى، وإن شاء افتقر وإن شاء استغنى. وينكر أن يكون الله عز وجل خالق الشر، وأن الله
_________
(1) الإبانة (2/ 10/179).(5/515)
شاء أن يكون في الأرض شيء من الشر وهو يعلم أن الله خلق إبليس وهو رأس كل شر، وأن الله علم ذلك منه قبل أن يخلقه، والله تعالى يقول: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} (1)، والله يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (2)، ويقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (3)؛ فالقدري يجحد هذا كله ويزعم أنه يعصي الله قسراً ويخالفه شاء أم أبى. (4)
- وقال رحمه الله: فجميع ما قد رويناه في هذا الباب يلزم العقلاء الإيمان بالقدر، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وترك البحث والتنقير وإسقاط لم وكيف وليت ولولا، فإن هذه كلها اعتراضات من العبد على ربه ومن الجاهل على العالم معارضة من المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى وسبيل أهل التقوى، ومذهب من شرح الله صدره للإسلام، فهو على نور من ربه، فهو يؤمن بالقدر كله خيره وشره، وأنه واقع بمقدور الله جرى، ومن يعلم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وسأزيد من بيان الحجة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وعن التابعين وفقهاء المسلمين في ترك مجالسة القدرية، ومواضعتهم القول ومناظرتهم، والإعراض عنهم، ما إذا أخذ به العاقل المؤمن نفسه وتأدب به عصم إن شاء الله من فتنة القدرية، وانغلق عنه
_________
(1) الفلق الآية (2).
(2) الصافات الآية (96).
(3) التغابن الآية (2).
(4) الإبانة (2/ 11/286 - 287).(5/516)
باب البلية من جهتهم، فإن المجالسة لهم ومناظرتهم تعد، وتفر، وتضر، وتمرض القلوب، وتدنس الأديان، وتفسد الإيمان، وترضي الشيطان وتسخط الرحمن، إلا على سبيل الضرورة عند الحاجة من الرجل العالم العارف الذي كثر علمه وعلت فيه رتبته وغزرت معرفته ودقت فطنته؛ فذلك الذي لا بأس بكلامه لهم عند الحاجة إلى إقامة الحجة عليهم لتقريعهم وتبكيتهم وتهجينهم، وتعريفهم وحشة ما هم فيه من قبيح الضلال، وسيء المقال، وظلمة المذهب، وفساد الاعتقاد، أو لمسترشد مجد في طلب الحق حريص عليه، قد ألقى المقاليد من نفسه وأعطى أزمة قيادها، وبذل الطاعة منها يلتمس الرشاد وسبل السداد، ويرجو النجاة فذلك لا بأس بإرشاده وتوقيفه والصبر على تبصيره حتى يكشف الأغطية عن قلبه، ويخرج من أكنته، ويلزم طريق الاستقامة إلى ربه، وكل ذلك برحمة الله وتوفيقه. (1)
سبكتكين (2) (387 هـ)
الأمير سبكتكين حاجب معز الدولة بن بويه. كان مقامه ببلخ، وقد ابتنى بها دوراً ومساكن، وكان عادلاً خيّراً، كثير الجهاد. كانت دولته نحواً من عشرين سنة، وهي مدة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية. جرت بينه وبين الهنود حروب كثيرة فاتسعت بها رقعته ورسخت في النفوس هيبته.
_________
(1) الإبانة (2/ 11/316 - 317).
(2) الكامل (9/ 130) ووفيات الأعيان (5/ 175 - 182) والهداية (11/ 300 - 301) والشذرات (3/ 48) والسيرج (16/ 500 - 501) والوافي بالوفيات (15/ 116) والنجوم الزاهرة (4/ 108).(5/517)
تولى بعده ابنه محمود. ذكر الذهبي وابن خلكان وابن الأثير وفاته سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. وذهب الصفدي وابن كثير وابن تغري بردي إلى أنها سنة أربع وستين وثلاثمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: ولما أخذ طوس أخرب مشهد الرضا وقتل من يزوره. (1)
أبو سليمان الخَطَّابِي (2) (388 هـ)
أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي. الإمام العلامة الحافظ اللغوي. ولد سنة بضع عشرة وثلاثمائة. سمع من أبي سعيد بن الأعرابي ومن إسماعيل بن محمد الصفار ومن أبي بكر بن داسة. حدث عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو حامد الإسفراييني وأبو عبيد أحمد بن محمد الهروي، وطائفة سواهم.
قال السلفي: وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود فإذا وقف منصف على مصنفاته واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته. وكان يشبه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلام علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً. توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
_________
(1) السير (16/ 500).
(2) وفيات الأعيان (2/ 214 - 216) وتذكرة الحفاظ (3/ 1018 - 1020) والبداية والنهاية (11/ 346) وشذرات الذهب (3/ 127 - 128) والسير (17/ 23 - 28).(5/518)
موقفه من المبتدعة والجهمية:
قال الخطابي: عصمنا الله وإياك من الأهواء المضلة، والآراء المغوية، والفتن المحيرة، ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها، ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف، وانتهجها بعدهم صالحوا الخلف، وجنبنا وإياك مداحض البدع، وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة، وأعاذنا وإياك عن حيرة الجهل وتعاطي الباطل، والقول بما ليس لنا به علم، والدخول فيما لا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه، ونهينا عنه، ونفعنا وإياك بما علمنا، وجعله سببا لنجاتنا، ولا جعله وبالا علينا برحمته.
وقفت على مقالتك، وما وصفته من أمر ناحيتك، وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها، واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة، وجنة لها يذب به عنها، ويذاد بسلاحه عن حريمها، وفهمت ما ذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم، وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم، لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله، وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك، أما القبول فلأن الدين يمنعك منه، ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه، وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول، ويؤاخذونك بقوانين الجدل، ولا يقنعون منك بظواهر الأمور، وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان، وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان، وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم ردها، ولا يسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها، فرأيت إسعافك به لازماً في حق الدين،(5/519)
وواجب النصيحة لجماعة المسلمين، وأنا أسأل الله أن يوفق لما ضمنت لك منه، وأن يعصم من الزلل فيه، واعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم، وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت، ولا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله، وذلك مصداق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدين بدأ غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء» (1).
قال: فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله، فلا تنكر ما تشاهده منه، وسل الله العافية من البلاء، واحمده على ما وهب لك من السلامة، ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن، يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعد واحداً من الجمهور والكافة فإنه قد ضل فهمه واضمحل لفظه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع بمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا عن حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم، ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسننه المأثورة عنه، وردوها
_________
(1) تقدم تخريجه. انظر مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).(5/520)
على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزندق، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر عجزاً عنه ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة.
وكان في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم، حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبنا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان.(5/521)
فإن قال هؤلاء القوم، فإنكم قد أنكرتم الكلام، ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم، ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها. قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول، والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم، وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا، وأصح برهانا، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة، لأنهم لا يثبتون النبوات، ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء.
فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.
وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم في الاستدلال على معرفة الصانع، وإثبات توحيده وصفاته، وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لا يتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه، هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إليهم بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وقال له: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ(5/522)
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1). وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع وفي مقامات له شتى، وبحضرته عامة أصحابه رضوان الله عليهم: «ألا هل بلغت» (2)، وكان ما أنزل الله وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (3). فلم يترك - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من أمور الدين، قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه، وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال.
ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تبرح فيهما الحاجة راهنة أبدا في كل وقت وزمان، ولو أخر فيهما البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه.
وإذا كان الأمر على ما قلنا فقد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها إذ لا يمكن أحداً من الناس أن يروي في ذلك عنه، ولا عن واحد من أصحابه من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذاهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقتهم. (4)
_________
(1) المائدة الآية (67).
(2) أخرجه: أحمد (5/ 37) والبخاري (1/ 265/105) ومسلم (3/ 1305 - 1306/ 1679) من حديث أبي بكرة.
(3) المائدة الآية (3).
(4) الحجة في بيان المحجة (1/ 371 - 376).(5/523)
موقفه من المشركين:
قال الخطابي: لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله.
أي: سابّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. (1)
له من الآثار السلفية:
'الغنية عن الكلام وأهله' وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في 'درء التعارض' في غير ما موضع وكذا في مجموع الفتاوى والسيوطي في 'صون المنطق' وهو عظيم في بابه ونقل منه جملة طيبة. انظر صون المنطق من الصفحة 91 إلى الصفحة 101.
موقفه من المؤولة وغيرهم:
- قال في الغنية: فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه. والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا يد وسمع، وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة.
_________
(1) الصارم (9).(5/524)
ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار، التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات، لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها، لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات. (1)
قلت: وعلى هذا جرى الخطابي في باب الأسماء والصفات، إلا أنه أحيانا ينحو منحى الخلف في التأويل لبعض الصفات، كصفة الأصبع والفرح والضحك والعجب.
- وفيها عنه قال: فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف، فلا تشتغل -رحمك الله- بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه، أو يقاربه، فكل بكل معارض، وبعض ببعض مقابل، وإنما يكون تقدم الواحد منهم، وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان، وحذقه في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل، على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم، فهم يطالبونهم بعودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعاً، وجعلوه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يبين به حق، ولا تقوم به حجة. وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثالثة غيرهما،
_________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 58 - 59).(5/525)
فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن كان مفسداً به قول خصمه، لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيه، كقول الشاعر فيهم:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكل كاسر مكسور
وإنما كان الأمر كذلك لأن واحداً من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي ينصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هي أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب، قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (1) فأخبر سبحانه أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده. وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة، لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل، وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه. (2)
موقفه من المرجئة:
- قال أبو سليمان: وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل على ذلك قوله الحياء شعبة من الإيمان فأخبر أن الحياء إحدى تلك الشعب.
_________
(1) النساء الآية (82).
(2) درء التعارض (7/ 313 - 314) وصون المنطق (99 - 100).(5/526)
وفي هذا الباب إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته.
ومعنى قوله الحياء شعبة من الإيمان أن الحياء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها فصار بذلك من الإيمان إذ الإيمان بمجموعه ينقسم إلى ائتمار لما أمر الله به وانتهاء عما نهى عنه. (1)
- وقال في تعليق على قول الزهري في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (2) قال: نرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل.
ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة. فأما الزهري فقد ذهب إلى ما حكاه معمر عنه واحتج بالآية، وذهب غيره إلى أن الإيمان والإسلام شيء واحد، واحتج بالآية الأخرى، وهي قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (3). قال: فدل ذلك على أن المسلمين هم المؤمنون إذ كان الله سبحانه قد وعد أن يخلص المؤمنين من قوم لوط وأن يخرجهم من بين ظهراني من وجب عليه العذاب منهم، ثم أخبر أنه قد فعل ذلك بمن وجده فيهم من المسلمين إنجازا للموعود، فدل الإسلام على الإيمان فثبت أن معناهما واحد وأن المسلمين هم المؤمنون. وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى مقالة من هاتين المقالتين، ورد الآخر منهما على المتقدم
_________
(1) معالم السنن (4/ 288).
(2) الحجرات الآية (14).
(3) الذاريات الآيتان (35و36).(5/527)
وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المائتين.
قلت: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق على أحد الوجهين. وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف عليك شيء منها، وأصل الإيمان التصديق وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن وغير منقاد في الظاهر. (1)
عبيد الله بن عبد الله النَّضْرِي (2) (388 هـ)
عبيد الله بن المحدث عبد الله بن الحسين النضري، القاضي أبو القاسم المروزي، قاضي نسف. حدث عن أبيه. كان رئيساً فاضلاً، لم يقبل هدية بنسف، وكان في غاية التواضع. ناظر الكرامية وكفرهم بين يدي صاحب غزنة سبكتكين، فقيده وحبسه ثم أطلقه.
توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
موقفه من المرجئة:
جاء في السير: قال جعفر المستغفري: كان أبو القاسم عبد الله بن عبد الله بن الحسين النضري قاضي مرو ونسف صلب المذهب، فدخل
_________
(1) معالم السنن (4/ 290 - 291).
(2) الأنساب (5/ 503) والجواهر المضية (2/ 497) وتاريخ الإسلام (حوادث سنة 381 - 400/ص.168).(5/528)
صاحب غزنة سبكتكين بلخ، ودعا إلى مناظرة الكرامية، وكان النضري يومئذ قاضياً ببلخ، فقال سبكتكين: ما تقولون في هؤلاء الزهاد الأولياء؟ فقال: النضري: هؤلاء عندنا كفرة. قال ما تقولون في؟ قال: إن كنت تعتقد مذهبهم، فقولنا فيك كذلك. فوثب، وجعل يضربهم بالدبوس حتى أدماهم، وشج النضري، وقيدهم وسجنهم، ثم أطلقهم خوف الملامة. (1)
محمد بن أحمد المالكي المعروف بابن خويزمنداد (2) (390 هـ)
محمد بن أحمد بن عبد الله، الفقيه أبو بكر بن خويزمنداد الإمام العالم الأصولي، صاحب أبي بكر الأبهري، له مصنفات مفيدة. قال الصفدي: وكان يجانب الكلام وينافر أهله.
توفي سنة تسعين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
موقفه من الأشعرية وغيرهم:
جاء في 'جامع بيان العلم وفضله': وقال -أي ابن خويزمنداد- في كتاب الشهادات: في تأويل قول مالك، لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تقبل له
_________
(1) السير (17/ 484).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.21) والوافي بالوفيات (2/ 52) والديباج المذهب (2/ 229) وشجرة النور الزكية (1/ 103).(5/529)
شهادة في الإسلام أبداً ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها. (1)
الوليد بن بكر العمري (2) (392 هـ)
الوليد بن بكر العمري، بن مخلد بن أبي دبار، الحافظ اللغوي، الإمام أبو العباس الغمري «العمري» الأندلسي السرقسطي، أحد الرحالة في الحديث.
حدث عن علي بن أحمد بن الخصيب بكتاب العجلي في 'معرفة الرجال' وعن الحسن بن رشيق، وغيرهما. وحدث عنه عبد الغني بن سعيد الحافظ وأبو ذر الهروي وأبو الحسن العتيقي وآخرون.
قال ابن الفرضي: كان إماماً في الحديث والفقه، عالما باللغة والعربية ... وكان أبو يعلى الفارسي يرفعه ويثني عليه.
قال الخطيب: كان ثقة أميناً كثير السماع، سافر الكثير.
توفي بالدينور في رجب سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
قال الحسن بن شريح: هو عمري ولكنه دخل إفريقية وبقي ينقط العين -أي يكتبها غمري بغين معجمة- حتى يسلم -يعني من دولة الرفض.
_________
(1) جامع بيان العلم (2/ 943) والفتاوى الكبرى (5/ 248).
(2) تاريخ بغداد (13/ 481) وتذكرة الحفاظ (3/ 1080 - 1081) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.276 - 277) وشذرات الذهب (3/ 141) والسير (17/ 65 - 67).(5/530)
قال: وهو مؤدبي، وقال: إذا رجعت إلى الأندلس جعلت النقطة التي على العين ضمة. (1)
ابن أبي شُرَيْح (2) (392 هـ)
الإمام المحدث عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى، أبو محمد الأنصاري الهروي، ابن أبي شريح، سيد خراسان في زمانه. ولد بعد الثلاثمائة. وسمع أبا القاسم البغوي ومحمد بن عقيل البلخي ويحيى بن صاعد وإسماعيل الوراق وأحمد بن سعيد الطبري، وخلقا سواهم. وحدث عنه سفيان بن محمد التنوخي وأبو عاصم الفضيل ومحمد بن أبي مسعود الفارسي وأبو صاعد الفضيلي وآخرون. ارتحل به أبوه، وكان صدوقاً، صحيح السماع، صاحب حديث وعلم وجلالة. قال الذهبي: وحديثه اليوم أعلى ما يروى في الدنيا، وقد تدلت شمسه للغروب. توفي رحمه الله في صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وله خمس وثمانون سنة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: أنبأنا جماعة، قالوا: أخبرنا محمد بن مسعود، أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري، سمعت محمد بن أحمد البلخي المؤذن، يقول: كنت مع الشيخ أبي محمد بن أبي شريح في طريق
_________
(1) التذكرة (3/ 1081).
(2) السير (16/ 526 - 528) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.268 - 269) والعبر (1/ 400) وشذرات الذهب (3/ 140).(5/531)
غور، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة أشهر، فقال: هو ولدك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش» (1)، فعاوده، فرد عليه كذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا، فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا: جاهل لا يدري ما يقول.
قال الذهبي: كان سبيله أن يوضح له، ويقول: لك أن تنتفي منه باللعان، ولكنه احتمى للسنة وغضب لها. (2)
أبو محمد الأصيلي (3) (392 هـ)
عبد الله بن إبراهيم، أبو محمد الأصيلي. الإمام شيخ المالكية وعالم الأندلس. نشأ بأصيلا، وتفقه بقرطبة. سمع ابن المشاط وأبا الطاهر الذهلي، وكتب عن أبي زيد الفقيه وأبي بكر الآجري. وحدث عن الدارقطني، وحدث عنه الدارقطني. جاء في المدارك: كان الأصيلي من حفاظ رأي مالك، والمتكلم على الأصول وترك التقليد، ومن أعلم الناس في الحديث، وأبصرهم بعلله ورجاله ويحض أصحابه عليه. ولا يرى أن من خلا من علمه فقيها على حال. ولما ورد أبو يحيى بن الأشج من أهل المشرق وكان قد روى كتاب البخاري سئل إسماعه فقال: لا يراني الله أحدث به والأصيلي حي أبداً. فلما مات الأصيلي أسعف.
_________
(1) أحمد (6/ 37) والبخاري (8/ 29/4303) ومسلم (2/ 1080/1457) وأبو داود (2/ 703 - 705/ 2273) والنسائي (6/ 491 - 492/ 3484) وابن ماجه (1/ 646/2004) من حديث عائشة.
(2) السير (16/ 527 - 528).
(3) السير (16/ 560) وشذرات الذهب (3/ 140) وترتيب المدارك (2/ 241) والديباج المذهب (1/ 433).(5/532)
قال القاضي عياض: كان نظير ابن أبي زيد القيرواني وعلى طريقته وهديه.
له كتاب 'الدلائل إلى أمهات المسائل' شرح به الموطأ ذاكراً فيه خلاف مالك وأبي حنيفة والشافعي، وله نوادر حديث -خمسة أجزاء- 0والانتصار، وغير ذلك. توفي رحمه الله لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال عياض: كان من حفاظ مذهب مالك ومن العالمين بالحديث وعلله ورجاله، وكان ينكر الغلو في كرامات الأولياء -ويثبت منها ما صح- ودعاء الصالحين (1).
ابن أبي عامر (2) (393 هـ)
الملك المنصور حاجب الممالك الأندلسية أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد بن وليد القحطاني القائم بأعباء دولة الخليفة المؤيد بالله، هشام ابن الحكم أمير الأندلس، فإن هذا المؤيد استخلف ابن تسع سنين. وردت مقاليد الأمور إلى الحاجب هذا. وكان بطلاً شجاعاً حازماً سائساً عالماً. وقد غزا أبو عامر في مدته نيفاً وخمسين غزوة. دام في المملكة نيفاً وعشرين سنة
_________
(1) التذكرة (3/ 1024).
(2) السير (17/ 15 - 16) والوافي بالوفيات (3/ 312 - 313) والعبر (1/ 401) والكامل في التاريخ (9/ 176) وشذرات الذهب (3/ 143 - 144).(5/533)
ودانت له الجزيرة وأمنت به وقد وزر له جماعة وكان المؤيد معه صورة بلا معنى بل كان محجوباً لا يجتمع به أمير ولا كبير، بل كان أبو عامر يدخل عليه ثم يخرج فيقول رسم أمير المؤمنين بكذا وكذا فلا يخالفه أحد، توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وكان جواداً ممدحاً معطاءً.
موقفه من المشركين:
ذكر الذهبي عنه أنه عمد إلى خزائن كتب الحَكَم، فأبرز ما فيها، ثم أفرد ما فيها من كتب الفلسفة، فأحرقها بمشهد من العلماء، وطَمَر كثيراً منها، وكانت كثيرة إلى الغاية، فعله تقبيحاً لرأي المستنصر الحَكَم. (1)
التعليق:
هذا من رجاحة عقل الحاجب، وحسن تدبيره شؤون الأمة، وتحصينه إياها من جميع الأفكار الهدامة، والكل يدرك ما لكتب الفلسفة من الخطر الجسيم على عقيدة الإسلام، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
_________
(1) السير (17/ 15).(5/534)
محمد بن إسحاق بن مَنْدَه (1) (395 هـ)
الإمام، الحافظ، الجوال، محدث العصر، أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الأصفهاني، ولد في سنة عشر وثلاثمائة أو إحدى عشرة. سمع من أبيه، وعم أبيه عبد الرحمن بن يحيى بن منده، ومحمد بن القاسم الكراني، وأبي علي الحسن بن أبي هريرة، وأبي سعيد بن الأعرابي وغيرهم، يصل عددهم إلى ألف وسبعمائة شيخ، وله إجازة من الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره. وحدث عنه شيخه أبو الشيخ، وأبو بكر بن المقرئ، وأبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الله غنجار، وأبو سعد الإدريسي، وتمام الرازي، وأبو نعيم، وأحمد بن الفضل الباطرقاني، وآخرون.
قال الباطرقاني: حدثنا أبو عبد الله بن منده إمام الأئمة في الحديث لقاه الله رضوانه. وقال الحاكم: التقينا ببخارى في سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وقد زاد زيادة ظاهرة، ثم جاءنا إلى نيسابور سنة خمس وسبعين ذاهبا إلى وطنه، فقال شيخنا أبو علي الحافظ: بنو منده أعلام الحفاظ في الدنيا قديما وحديثا، ألا ترون إلى قريحة أبي عبد الله! وقيل: إن أبا نعيم الحافظ ذكر له ابن منده، فقال: كان جبلا من الجبال. وقال أحمد بن جعفر الحافظ: كتبت عن أزيد من ألف شيخ، ما فيهم أحفظ من ابن منده. وقال شيخ هراة أبو إسماعيل الأنصاري: أبو عبد الله بن منده سيد أهل زمانه. توفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
_________
(1) السير (17/ 28 - 43) والبداية والنهاية (11/ 359 - 360) وتذكرة الحفاظ (3/ 1031) وشذرات الذهب (3/ 146) والوافي بالوفيات (2/ 190 - 191).(6/1)
• موقفه من المبتدعة:
روى القاضي أبو الحسين في الطبقات عن محمد بن إسحاق قال: كتبت عن ألف شيخ وسبعمائة شيخ. وقال: طفت الشرق والغرب مرتين، فلم أتقرب إلى كل مذبذب. ولم أسمع من المبتدعين حديثا واحدا. (1)
• موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1 - كتاب التوحيد: وقد ذكر فيه ما يتعلق بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات. وقد طبع ولله الحمد.
2 - الرد على الجهمية: وقد طبع بتحقيق الشيخ علي ناصر.
3 - الرد على اللفظية: ذكره في سير أعلام النبلاء. (2)
4 - السنة، ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة. (3)
• موقفه من المرجئة:
له كتاب الإيمان: ويعتبر من أهم الكتب في هذا الباب وأوسعها وأحسنها، وقد أفاض في الرد على المرجئة والخوارج، وذكر كل ما يتعلق بالإيمان وشعبه. وقد طبع والحمد لله رب العالمين بتحقيق الشيخ علي ناصر، وهو رسالته العلمية في مرحلة الدكتوراه، وقد أورد رحمه الله في مستهل بعض الأبواب كلاما جيدا منه:
_________
(1) طبقات الحنابلة (2/ 167).
(2) السير (17/ 41).
(3) (ص.38).(6/2)
- ذكر ما يدل على أن اسم الإيمان يقع ما ذكر جبريل عليه السلام وأن شهادة لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت أصل الإيمان وأساسه وأنها بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان.
قال الله تبارك وتعالى: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (1) وقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} (2).اهـ (3)
_________
(1) البقرة الآية (177).
(2) المؤمنون الآية (1).
(3) الإيمان (1/ 294).(6/3)
- ذكر معنى الإيمان ومن وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنها بضع وسبعون شعبة وبيان ذلك من الأثر.
قال الله عز وجل: {آَمَنَ الرَّسُولُ} (1) معناه صدق الرسول اهـ. وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (2) يصدقون اهـ. وقوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} (3) لن نصدقك اهـ. وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ} (4) لنا يعني بمصدق لنا اهـ. ليكسر أول وآخر فأوله الإقرار وآخره إماطة الأذى عن الطريق كما - صلى الله عليه وسلم -.اهـ
والعباد يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك اعتقاد المعاصي فمنها قيل يزيد وينقص. اهـ وذكر عثمان بن عطاء بن أبي مسلم عن أبيه قال: ضرب مثل الإسلام كمثل بعير؛ فرأسه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإيمان بما هو كائن من بعد الموت والبعث والحساب والجنة والنار والصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج قايمة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، وقد يحمل البعير وهو مجبوب والمجبوب الذي لا سنام له. قال: وقد يحمل البعير الوسق وهو ظالع. اهـ فإن قطع رأس أو كسرت قايم برك البعير فلم ينهض، وأن الفرائض لا تقبل إلا جميعا، لا يقبل الله منها شيء دون شيء.
_________
(1) البقرة الآية (285).
(2) البقرة الآية (3).
(3) الإسراء الآية (90).
(4) يوسف الآية (17).(6/4)
قال: وكان ابن مسعود يقول: لا يقبل نافلة حتى يؤدوا فريضتها. اهـ (1)
- ذكر الأخبار الدالة على الفرق بين الإيمان والإسلام ومن قال بهذا القول من أئمة أهل الآثار.
قال الزهري: الإسلام هي الكلمة، والإيمان العمل. اهـ روى أحمد بن حنبل عن منصور بن سلمة أن حماد بن زيد كان يفرق بين الإسلام والإيمان؛ فيجعل الإيمان الموطأ والإسلام عاما. يعني: أن معرفة الإيمان عند الله دون خلقه خاص له، والإسلام عام. قال: وكذلك قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (2).اهـ
وقال عبد الملك الميموني: سألت أحمد بن حنبل أتفرق بين الإيمان والإسلام؟ فقال لي: نعم. قلت له: بأي شيء تحتج؟ فقال لي: قال الله عز وجل: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (3). قال: وأقول مؤمن إن شاء الله، وأقول مسلم ولا أستثني. اهـ وقال بهذا القول جماعة من الصحابة والتابعين؛ منهم عبد الله بن عباس والحسن ومحمد بن سيرين. اهـ
وقال أبو جعفر محمد بن علي -ووصف الإسلام فدور دائرة واسعة-: فهذا الإيمان، ودور دائرة صغيرة وسط الكبيرة، فإذا زنا وسرق خرج من
_________
(1) (1/ 300 - 301).
(2) فصلت الآية (33).
(3) الحجرات الآية (14).(6/5)
الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله عز وجل. اهـ وهذا مذهب جماعة من أئمة الآثار. (1)
- ذكر الأخبار الدالة والبيان الواضح من الكتاب أن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد، وأن الإيمان الذي دعا الله العباد إليه وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله الله دينا وارتضاه لعباده ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه ولم يرضه لعباده.
فقال الله عز وجل: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (2) وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (4) وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (5)، فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وجعله اسم ثناء وتزكية، وأخبر أن من أسلم فهو على نور من ربه وهدى، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه وسألوه إياه، فقال إبراهيم خليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم - وإسماعيل - صلى الله عليه وسلم - سألا فقالا: {وَاجْعَلْنَا
_________
(1) (1/ 311 - 312).
(2) الزمر الآية (7).
(3) المائدة الآية (3).
(4) الأنعام الآية (125).
(5) الزمر الآية (22).(6/6)
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (1) وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} (2) وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (3) وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) وقال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} إلى قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (5) وقال: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} (6) وقال في موضع: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (7)
فحكم الله عز وجل بأن من أسلم فقد اهتدى، ومن آمن فقد اهتدى، فسوى بينهما. وقال في موضع آخر: {الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)} (8) وقال في قصة لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا
_________
(1) البقرة الآية (128).
(2) يوسف الآية (101).
(3) آل عمران الآية (85).
(4) آل عمران الآية (19).
(5) البقرة الآية (136).
(6) آل عمران الآية (20).
(7) البقرة الآيتان (136و137) ..
(8) الزخرف الآية (69).(6/7)
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (1) وقال: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)} (2) وقال: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)} (3) فدل ذلك على أن من آمن فهو مسلم، وأن من استحق أحد الاسمين استحق الآخر إذا عمل بالطاعات التي آمن بها، فإذا ترك منها شيئا مقرا بوجوبها كان غير مستكمل، فإن جحد منها شيئا كان خارجا من جملة الإيمان والإسلام، وهذا قول من جعل الإسلام على ضربين: إسلام يقين وطاعة، وإسلام استسلام من القتل والسبي، قال الله عز وجل: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. (4)
- ذكر ما يدل على أن الإيمان هو الطاعات كلها، وأن الله سمى الصلاة في كتابه إيمانا. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (5).
قال أهل التأويل: صلاتكم إلى القبلة الأولى وتصديقكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) الزخرف الآيتان (35و36).
(2) القصص الآية (53).
(3) النمل الآية (81).
(4) (1/ 321 - 323).
(5) البقرة الآية (143).(6/8)
واتباعه إلى القبلة الأخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعا. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} (1) قاله علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما. اهـ وقال عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} (2) يعني بما أمر الله أن يؤمن به من الطاعات التي سماها على لسان جبريل عليه السلام إيمانا وإسلاما، وكذلك من يكفر بمحمد أو بالصلاة أو بالصوم فقد حبط عمله. اهـ وما فسره على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد قيس (3) فقال: «أتدرون ما الإيمان؟ ثم فسره فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت».اهـ وقال محمد بن نصر: الإيمان هاهنا عبادة العابدين لله؛ قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (4).اهـ وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} (5) فالمؤمن هو العابد لله، والعبادة لله هو فعله وهو الإيمان، والخالق هو المعبود الذي خلق المؤمن وعبادته وكل شيء منه، فالخالق بصفاته الكاملة خالق غير مخلوق ولا شيء منه مخلوق. والعباد بصفاتهم وأفعالهم وكل شيء منهم مخلوقون ... وقال عز وجل: {إِنَّنَا
_________
(1) البقرة الآية (143).
(2) المائدة الآية (5).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن بطة سنة (387هـ).
(4) البينة الآية (5).
(5) الزمر الآية (2).(6/9)
سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} (1) قال بعض أهل التأويل: يعني القرآن. قال: وإنما أراد أن المنادي هو القرآن ليس يعني أن الإيمان هو القرآن، يعنون أنهم سمعوا القرآن يدعو إلى الإيمان فآمنا، فالله هو الداعي إلى الإيمان بكلامه، وهو القرآن.
فالله الخالق وكلامه صفة له دعا الناس بكلامه إلى الإيمان؛ أي دعاهم إلى أن يؤمنوا بربهم. اهـ فهذا تأويل ما تقدم، لأن مذهب أهل العلم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. اهـ (2)
ذكر اختلاف أقاويل الناس في الإيمان ما هو؟
فقالت طائفة من المرجئة: الإيمان فعل القلب دون اللسان. وقالت طائفة منهم: الإيمان فعل اللسان دون القلب، وهم أهل الغلو في الإرجاء. اهـ وقال جمهور أهل الإرجاء: الإيمان هو فعل القلب واللسان جميعا. اهـ وقالت الخوارج: الإيمان فعل الطاعات المفترضة كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح. اهـ وقال آخرون: الإيمان فعل القلب واللسان مع اجتناب الكبائر. اهـ وقال أهل الجماعة: الإيمان هو الطاعات كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح غير أن له أصلا وفرعا؛ فأصله المعرفة بالله والتصديق له وبه وبما جاء من عنده بالقلب واللسان، مع الخضوع له والحب له والخوف منه، والتعظيم له مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة. فإذا أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان، ولزمه اسمه وأحكامه، ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه وفرعه المفترض عليه أو الفرائض، واجتناب المحارم. وقد
_________
(1) آل عمران الآية (193).
(2) (1/ 327 - 328).(6/10)
جاء الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون -أو ستون- شعبة أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (1) فجعل الإيمان شعبا بعضها باللسان والشفتين، وبعضها بالقلب، وبعضها بسائر الجوارح. اهـ فشهادة أن لا إله إلا الله فعل اللسان تقول: شهدت أشهد شهادة. اهـ والشهادة فعله بالقلب واللسان لا اختلاف بين المسلمين في ذلك، والحياء في القلب، وإماطة الأذى عن الطريق فعل سائر الجوارح. اهـ (2)
- ذكر المثل الذي ضربه الله والنبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمن والإيمان.
قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (3) فضربها مثلا لكلمة الإيمان، وجعل لها أصلا وفرعا وثمرا تؤتيه كل حين، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن معنى هذا المثل من الله فوقعوا في شجر البوادي، فقال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هي النخلة» (4). ثم فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بسنته إذ فهم عن الله مثله: فأخبر أن الإيمان ذو شعب؛ أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، فجعل أصله الإقرار بالقلب واللسان، وجعل شعبه الأعمال. فالذي سمى الإيمان
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(2) (1/ 331 - 332).
(3) إبراهيم الآيتان (24و25).
(4) أخرجه: أحمد (2/ 1) والبخاري (1/ 193/61) ومسلم (4/ 2164 - 2165/ 2811).(6/11)
التصديق، هو الذي أخبر أن الإيمان ذو شعب؛ فمن لم يسم الأعمال شعبا من الإيمان كما سماها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجعل له أصلا وشعبا كما جعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما ضرب الله المثل به كان مخالفا له، وليس لأحد أن يفرق بين صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - للإيمان فيؤمن ببعضها ويكفر ببعضها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان بدأ بالشهادة، وقال لوفد عبد قيس: «أتدرون ما الإيمان؟» فبدأ بالشهادة -وهي الكلمة- أصل الإيمان، والشاهد بلا إله إلا الله هو المصدق المقر بقلبه يشهد بها لله بقلبه ولسانه، يبتدئ بشهادة قلبه والإقرار به، ثم يثني بالشهادة بلسانه والإقرار به بنية صادقة يرجع بها إلى قلب مخلص، فذلك المؤمن المسلم ليس كما شهد به المنافقون إذ قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (1)
قال الله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} فلم يكذب قولهم، ولكن كذبهم من قلوبهم فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} كما قالوا، ثم قال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} فكذبهم؛ لأنهم قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. فالإسلام الحقيقي ما تقدم وصفه؛ وهو الإيمان والإسلام الذي احتجز به المنافقون من القتل والسبي هو الاستسلام، وبالله التوفيق. اهـ (2)
_________
(1) المنافقون الآية (1) ..
(2) (1/ 350 - 351).(6/12)
- ذكر الأبواب والشعب التي قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها الإيمان، وأنها قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان، التي علمهن جبريل عليه السلام الصحابة وكذلك روي عنه من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين المصطفى مجملها.
فمن أفعال القلوب: النيات والإرادات، والعلم والمعرفة بالله وبما أمر به، والاعتراف له والتصديق به وبما جاء من عنده، والخضوع له ولأمره، والإجلال والرغبة إليه والرهبة منه، والخوف والرجاء والحب له ولما جاء من عنده، والحب والبغض فيه، والتوكل والصبر والرضاء، والرحمة والحياء،، والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه، وإخلاص الأعمال كلها مع سائر أعمال القلب. اهـ
ومن أفعال اللسان: الإقرار بالله وبما جاء من عنده، والشهادة لله بالتوحيد، ولرسوله بالرسالة ولجميع الأنبياء والرسل، ثم التسبيح والتكبير، والتحميد والتهليل، والثناء على الله والصلاة على رسوله، والدعاء وسائر الذكر. اهـ
ثم أفعال سائر الجوارح: من الطاعات والواجبات التي بني عليها الإسلام؛ أولها: إتمام الطهارات كما أمر الله عز وجل، ثم الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والزكاة على ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم حج البيت من استطاع إليه سبيلا. وترك الصلاة كفر، وكذلك جحود الصوم والزكاة والحج، والجهاد فرض على كفاية مع البر والفاجر. وسائر الأعمال التطوع التي يستحق بفعلها اسم زيادة الإيمان، والأفعال المنهي عنها التي بفعلها(6/13)
يستحق نقصان الإيمان. اهـ (1)
بديع الزمان الهمذاني (398 هـ)
• موقفه من الرافضة:
قال ياقوت في معجم الأدباء (2): قال البديع يمدح الصحابة ويهجو الخوارزمي (3) ويجيبه عن قصيدة رويت له في الطعن عليهم:
وكَّلَني بِالهمِّ والكآبه ... طعانة لعانة سبابه
للسلف الصالح والصحابه ... أساء سمعا فأساء جابه
تأملوا يا كبراء الشيعه ... لعشرة الإسلام والشريعه
أتستحل هذه الوقيعه ... في بيع الكفر وأهل البيعه
فكيف من صدق بالرساله ... وقام للدين بكل آله
وأحرز الله يد العُقْيَ له ... ذلكم الصديق لا محاله
إمام من أجمع في السقيفه ... قطعا عليه أنه الخليفه
ناهيك من آثاره الشريفه ... في رده كيد بني حنيفه
سل الجبال الشم والبحارا ... وسائل المنبر والمنارا
واستعلم الآفاق والأقطار ... من أظهر الدين بها شعارا
_________
(1) (1/ 362).
(2) (2/ 196 - 200).
(3) هو أبو بكر ممد بن العباس الخوارزمي، كان رافضيا خبيثا، انظر ترجمته في الوافي بالوفيات للصفدي (3/ 191 - 196). وليس هو أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي شيخ الحنفية. انظره فيما يأتي سنة (403هـ).(6/14)
ثم سل الفرس وبيت النار ... من الذي فل شبا الكفار
هل هذه البيض من الآثار ... إلا لثاني المصطفى في الغار
وسائل الإسلام من قَوّاه ... وقال إذ لم تقل الأفواه
واستنجز الوعد فأومى الله ... من قام لما قعدوا إلا هو
ثاني النبي في سني الولاده ... ثانيه في الغارة بعد العاده
ثانيه في الدعوة والشهاده ... ثانيه في القبر بلا وساده
ثانيه في منزلة الزعامه ... نبوة أفضت إلى إمامه
إلى أن قال:
ويلك لم تنبح يا كلب القمر؟ ... ما لك يا مأمون تغتاب عمر
سيد من صام وحج واعتمر ... صرح بإلحادك لا تمش الخمر
يا من هجا الصديق والفاروقا ... كيما يقيم عند قوم سوقا
نفخت يا طبل علينا بوقا ... فما لك اليوم كذا موهوقا
إنك في الطعن على الشيخين ... والقدح في السيد ذي النورين
لواهن الظهر سخين العين ... معترضٌ للحين بعد الحين
هلاّ نهتك الوجنة الموشومه ... عن مشترى الخلد ببئر رومه
كفى من الغيبة أدنى شمّه ... من استجاز القدحَ في الأئمه
ولم يعظم أمناء الأمه ... فلا تلوموه ولوموا أمّه
ما لك يا نذل وللزّكّيه ... عائشة الراضية المرضيّه
يا ساقط الغِيرة والحمّيه ... ألم تكن للمصطفى حظِيَّه(6/15)
محمد بن أبي زَمَنِين (1) (399 هـ)
الإمام القدوة، الزاهد، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد، المري الأندلسي، الألبيري، شيخ قرطبة، ومن المفاخر الغرناطية، ولد في أول سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. كان راسخا في العلم مفننا في الآداب، مقتفيا لآثار السلف، صاحب عبادة وإنابة وتقوى، وكان عارفا بمذهب مالك، بصيرا به. وكان صاحب جد وإخلاص، ومجانبة للأمراء، وكان من حملة الحجة. سمع من وهب بن مسرة وأحمد بن المطرف وأحمد بن الشامة وتفقه بإسحاق بن إبراهيم الطليطلي. وروى عنه أبو عمرو الداني وأبو عمر ابن الحذاء، وجماعة. توفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.
• موقفه من المبتدعة:
آثاره في العقيدة السلفية:
1 - 'أصول السنة': وقد نقل منه شيخ الإسلام في كثير من فتاواه. وهو مطبوع متداول.
2 - تفسير القرآن: مخطوط في القرويين (2) اختصره من تفسير يحيى بن سلام التيمي ذكره الذهبي في السير (3) وهو في الأعلام (4).
ومن أقواله الطيبة في ذمه للبدعة وثنائه على السنة ما جاء في أصول السنة:
_________
(1) ترتيب المدارك (2/ 259 - 261) وتذكرة الحفاظ (3/ 1029) والوافي بالوفيات (3/ 321) والديباج (2/ 232 - 234) وشذرات الذهب (3/ 156) والسير (17/ 188 - 189).
(2) (40/ 34).
(3) (17/ 189).
(4) (6/ 227).(6/16)
- باب في الحض على لزوم السنة واتباع الأئمة:
اعلم رحمك الله أن السنة دليل القرآن، وأنها لا تدرك بالقياس ولا تؤخذ بالعقول، وإنما هي في الاتباع للأئمة ولما مشى عليه جمهور هذه الأمة، وقد ذكر الله عز وجل أقواما أحسن الثناء عليهم فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} (1)، وأمر عباده فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (2).اهـ (3)
- وقال: ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلة، وينهون عن مجالستهم ويخوفون فتنتهم، ويخبرون بخلاقهم، ولا يرون ذلك غيبة لهم ولا طعنا عليهم. (4)
• موقفه من الرافضة:
- قال رحمه الله: ومن قول أهل السنة أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن ينشر محاسنهم وفضائلهم، ويمسك عن الخوض فيما دار بينهم. وقد أثنى الله عز وجل في غير موضع من كتابه ثناء أوجب التشريف إليهم
_________
(1) الزمر الآيتان (17و18).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) رياض الجنة في تخريج أصول السنة (ص.35).
(4) أصول السنة لابن أبي زمنين (293).(6/17)
بمحبتهم والدعاء لهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (1) وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (2).اهـ (3)
• موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله في أصول السنة: ومن قول أهل السنة: إن القرآن كلام الله وتنزيله، ليس بخالق ولا مخلوق، منه تبارك وتعالى بدأ، وإليه يعود. (4)
وقال: ومن قول أهل السنة: إن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)} (5) وفي قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (6) فسبحان من بعد فلا يرى، وقرب
_________
(1) الفتح الآية (29).
(2) الحشر الآيتان (8و9).
(3) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (263).
(4) المصدر نفسه (ص.82).
(5) طه الآيتان (5و6).
(6) الحديد الآية (4).(6/18)
بعلمه وقدرته فسمع النجوى. (1)
وقال: ومن قول أهل السنة: إن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا. (2)
وقال: ومن قول أهل السنة: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإنه يحتجب عن الكفار والمشركين فلا يرونه، وقال عز وجل: {* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (3) وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (4) وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} (5) فسبحان من {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} (6).اهـ (7)
- وقال: وأهل السنة يؤمنون بالميزان يوم القيامة وقال عز وجل: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} (8) وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ
_________
(1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.88).
(2) المصدر نفسه (ص.110).
(3) يونس الآية (26).
(4) القيامة الآيتان (22و23).
(5) المطففين الآية (15).
(6) الأنعام الآية (103).
(7) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.120).
(8) القارعة الآيات (6 - 9).(6/19)
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} (1).اهـ (2)
• موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله: وأهل السنة يؤمنون بأن الله عز وجل يدخل ناسا الجنة من أهل التوحيد بعدما مستهم النار برحمته تبارك وتعالى اسمه، وبشفاعة الشافعين. (3)
- وقال: وأهل السنة لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة، ولا يرون أن تترك الصلاة على من مات منهم وإن كان من أهل الإسراف على نفسه، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (4).اهـ (5)
• موقفه من المرجئة:
- قال: ومن قول أهل السنة: إن الإيمان إخلاص لله بالقلوب، وشهادة بالألسنة، وعمل بالجوارح، على نية حسنة وإصابة السنة. قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} (6)
_________
(1) الأنبياء الآية (47).
(2) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.162).
(3) المصدر نفسه (180).
(4) محمد الآية (19).
(5) أصول السنة (ص.224).
(6) الحجرات الآية (15).(6/20)
وقال: {* إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} (1) ثم وصفهم بأعمالهم فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} -وهم الصائمون- {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} (2) وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (3) وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) قال محمد: والإيمان بالله هو باللسان والقلب وتصديق ذلك العمل. فالقول والعمل قرينان لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه. (5)
- وقال: ومن قول أهل السنة: إن الإيمان درجات ومنازل يتم ويزيد وينقص، ولولا ذلك استوى الناس فيه، ولم يكن للسابق فضل على المسبوق.
_________
(1) التوبة الآية (111).
(2) التوبة الآية (112).
(3) التوبة الآية (5).
(4) فاطر الآية (10).
(5) رياض الجنة بتخريج أصول السنة (207).(6/21)
وبرحمة الله وبتمام الإيمان يدخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة فيه يتفاضلون في الدرجات {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} (1) ومثل هذا في القرآن كثير. (2)
موقفه من القدرية:
قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة: إن المقادير كلها خيرها وشرها حلوها ومرها من الله عز وجل، فإنه خلق الخلق وقد علم ما يعملون وما إليه يصيرون، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وقال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (3)، وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} (4)، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (5)، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (6)، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (7)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (8)،
_________
(1) الإسراء الآية (21).
(2) رياض الجنة بتخريج أصول السنة (211).
(3) الأعراف الآية (54).
(4) الأحزاب الآية (38).
(5) القمر الآية (49).
(6) التوبة الآية (51).
(7) الأنبياء الآية (35).
(8) الأنفال الآية (24).(6/22)
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)} (1)، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (2)، وقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (3) مثل هذا في القرآن كثير.
وساق رحمه الله نصوصا في الرد على القدرية. (4)
موقف السلف من ابن يونس المنجم (399 هـ)
بيان ضلاله:
قال الذهبي: المنجم الكبير، مصنف 'الزيج الحاكمي'، أبو الحسن علي ابن محدث مصر أبي سعيد عبد الرحمن بن الفقيه أحمد بن شيخ الإسلام يونس ابن عبد الأعلى الصدفي المصري. وأهل التنجيم يخضعون لفضيلة هذا التأليف. وله نظم رائق. لبس مرة ثياب النساء، وضرب بالعود، وبخر، ورقب الزهرة، وكان يلبس تحت العمامة طرطورا، كالبدو، وله إصابات عجيبة تضل الجهلة. وقد عدله القاضي محمد بن النعمان وقبله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. (5)
_________
(1) يونس الآية (96).
(2) السجدة الآية (13).
(3) النحل الآية (37).
(4) رياض الجنة بتخريج أصول السنة (197).
(5) السير (17/ 109).(6/23)
وقال في الميزان (1): لا يحل الأخذ عنه؛ فإنه منجم ساحر.
موقف السلف من أبي حيان التوحيدي (في حدود 400 هـ)
بيان زندقته:
لم يتمالك ابن السبكي أعصابه في ترجمة أبي حيان، فشن حملة على الإمام الذهبي لطعنه وتشنيعه على هذا الزنديق، مع أن الذهبي مسبوق بأئمة فحول ذكروا زندقة هذا الضال. ومن أشهرهم ابن الجوزي، وابن بابي في الخريدة والفريدة وغيرهما ولكن على عادته يتخبط تخبط الحاقد الذي يشتعل ناراً حتى أدت به الوقاحة إلى التجرؤ بالقول بأن علماء الحديث كانوا أشاعرة. وهذا من البهتان والكذب. وما أثبتناه في هذا البحث المبارك يبين أن لا علاقة لهم بالأشعرية، بل المحدثون حاربوا الأشعرية في وقتها المبكر، وما نحن بالبعيدين عن قصة أبي الحسن مع البربهاري (2)، وسيمر بنا إن شاء الله فحول تصدوا لها تصدياً.
قال الذهبي رحمه الله: الضال الملحد أبو حيان علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية.
قال ابن بابي في كتاب الخريدة والفريدة: كان أبو حيان هذا كذاباً،
_________
(1) (3/ 132).
(2) انظر مواقف البربهاري من الجهمية سنة (329هـ).(6/24)
قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة، والقول بالتعطيل، ولقد وقف سيدنا الوزير الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يُدغِلُ ويخفيه من سوء الاعتقاد. فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعدائه ونفَقَ عليهم تزخرفُه وإفكُه. ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته وما يبطنه من الإلحاد ويرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من القبائح. فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله. ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية.
وقال أبو الفرج بن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام هو أبو حيان، لأنهما صرّحا وهو مَجْمَج ولم يصرّح. (1)
وفيها عنه قال: أناس مضوا تحت التوهم، وظنوا أن الحق معهم وكان الحق وراءهم.
قال الذهبي: أنت حامل لوائهم. (2)
شدّاد بن إبراهيم (3) (401 هـ)
أبو نجيب الملقب بالطاهر الجزري، شاعر من شعراء عضد الدولة بن بويه.
_________
(1) السير (17/ 119 - 120).
(2) السير (17/ 121 - 122).
(3) معجم الأدباء (11/ 270 - 272) وتتمة يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي (ص 59) وموسوعة شعراء العرب (2/ 626).(6/25)
كان دقيق الشعر لطيف الأسلوب عالي السن. توفي سنة إحدى وأربعمائة.
موقفه من الصوفية:
قال:
أيا جيل التصوف شرَّ جِيلٍ ... لقد جئتم بأمر مستحيل
أفي القرآن قال لكم إلهي ... كلوا مثل البهائم وارقصوا لي (1)
ابن السوسنجردي (2) (402 هـ)
أحمد بن عبد الله بن الخضر بن مسرور، أبو الحسين المعدل المعروف بابن السوسنجردي. سمع محمد بن عمرو الرزاز وأبا عمرو بن السماك، وأحمد بن سلمان وغيرهم، وكتب الناس عنه بانتخاب محمد بن أبي الفوارس، قال الخطيب: وكان ثقة مأمونا دينا مستورا حسن الاعتقاد شديدا في السنة. توفي في رجب سنة اثنتين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في طبقات الحنابلة عنه: أنه اجتاز يوما في سوق الكرخ. فسمع سب بعض الصحابة، فجعل على نفسه أن لا يمشي قط في الكرخ. (3)
_________
(1) معجم الأدباء (11/ 271).
(2) تاريخ بغداد (4/ 237) وطبقات الحنابلة (2/ 168 - 169) والعبر (1/ 410) والمنتظم (15/ 85) وشذرات الذهب (3/ 163).
(3) طبقات الحنابلة (2/ 169).(6/26)
الهَرَوَانِي (1) (402 هـ)
محمد بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الإمام العلامة شيخ الحنفية القاضي، الجحفي المعروف بالهرواني، تلا لعاصم على أبي العباس محمد بن الحسن وسمع من محمد بن القاسم المحاربي، وعلي بن محمد بن هارون ومحمد ابن جعفر بن رياح الأشجعي. قرأ عليه أبو علي غلام الهراس، وحدث عنه أبو محمد يحيى بن محمد بن الحسن، وأبو الفرج محمد بن أحمد بن علان، ومحمد بن الحسن بن المنثور الجهني وآخرون. قال الخطيب: قال لي العتيقي: ما رأيت بالكوفة مثل القاضي الهرواني. وقال: كان ثقة حدث ببغداد، وكان من عاصره يقول: لم يكن بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى وقته أحد أفقه منه. توفي في رجب سنة اثنتين وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
من آثاره السلفية: 'الرد على الجهمية'. (2)
إبراهيم بن محمد بن حسين (3) (402 هـ)
الإمام إبراهيم بن محمد بن حسين أبو إسحاق الأموي الطليطلي. سمع بطليطلة ثم رحل إلى قرطبة ثم إلى سائر بلاد الأندلس، ثم رحل إلى المشرق،
_________
(1) السير (17/ 101 - 102) وتاريخ بغداد (5/ 472 - 473) والعبر (1/ 411 - 412) وغاية النهاية (2/ 177 - 178) وشذرات الذهب (3/ 165).
(2) ذكره ابن تيمية في المنهاج (2/ 363 - 364).
(3) تاريخ الإسلام (حوادث 401 - 410/ص.57) والسير (17/ 151) وشذرات الذهب (3/ 163) والوافي بالوفيات (6/ 103).(6/27)
فسمع بمصر والحجاز. كان زاهدا فاضلا ناسكا صواما قواما ورعا، كثير التلاوة غلب عليه علم الحديث ومعرفة طرقه. توفي سنة اثنتين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في تاريخ الإسلام: وكان سنيا نافرا للمبتدعة، هاجرا لهم. (1)
ابن الباقلاني (2) (403 هـ)
القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري صاحب التصانيف. سمع أبا بكر القطيعي وأبا محمد بن ماسي وطائفة. حدث عنه الحافظ أبو ذر الهروي وأبو جعفر السمنافي وغيرهم. وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية والكرامية. وكان يلقب بسيف السنة ولسان الأمة، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة.
قال أبو بكر الخوارزمي: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس سوى القاضي أبي بكر فإنما صدره يحوي علمه وعلم الناس.
وقال أبو محمد البافي: لو أوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس لوجب أن يدفع إلى أبي بكر الأشعري.
وكانت له مناظرات أفحم فيها النصارى. مات في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة وصلى عليه ابنه حسن، وكانت جنازته مشهودة، وكان
_________
(1) تاريخ الإسلام (حوادث سنة 401 - 410/ص.57) والسير (17/ 151) والتذكرة (3/ 1092).
(2) السير (17/ 190 - 193) والشذرات (3/ 168 - 170) والمنتظم (15/ 96) وتاريخ بغداد (5/ 379 - 383).(6/28)
سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة، وغالب قواعده على السنة.
موقفه من المشركين:
- قال شيخ الإسلام: وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم (يعني الملاحدة) كتبا كبارا وصغارا وجاهدوهم باللسان واليد إذ كانوا بذلك أحق من اليهود والنصارى. ولو لم يكن إلا كتاب 'كشف الأسرار وهتك الأستار' للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب (1) ... وذكر كتبا أخرى.
- وقال أيضا: ولهذا كان مناظرة كثيرة من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية، فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا، ففطن لمكرهم فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه، ففعل نقيض ما قصدوه. ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين، فقال له: ما قيل في عائشة امرأة نبيكم؟ يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضا، فقال القاضي: ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا: مريم وعائشة، فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج، فأبهت النصارى. وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم، فثبوت
_________
(1) الفتاوى (9/ 134).(6/29)
كذب القادحين في عائشة أولى. (1)
- وفيه عنه: قال القاضي أبو بكر بن الطيب: قد اتفق جميع الباطنية، وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم، في ترتيب الدعوة المضلة، على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم، المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم ومذاهبهم، وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم، بغير زيادة ولا نقصان، ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل، فقالوا للداعي: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما: أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف، وقتلهم الحسين، وسبيهم نساءه وذريته، والتبري من تيم وعدي، ومن بني أمية وبني العباس، وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم، والبدء، والتناسخ، والرجعة، والغلو، وأن عليا إله يعلم الغيب، مفوض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم، فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس، حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك، ممن تثق به من أصحابك، فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا، ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت، ثم عجل وخرج عن الحد، وكان له ما كان، يعني من قتلهم له، بعد تكذيبهم إياه، وردهم عليه، وتفرقهم عنه. فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا، أوقفته على مثالب علي وولده، وعرفته حقيقة الحق لمن هو، وفيمن هو، وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة
_________
(1) المنهاج (2/ 56 - 57) وانظرها مطولة في ترتيب المدارك (2/ 209 - 213).(6/30)
محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الرسل، ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب، فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا، وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا.
ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل، في الدرجة الرابعة، من تعظيم النار والنور، والشمس والقمر، واتل عليهم أمر السابق، وأنه نهر من الذي يعرفونه، وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة، فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا، وأولاهم بنا، لولا يسير صحفوه بجهلهم به "قالوا" وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأنه المهدي الذي ينتظره المسلمون بعينه، وعظم السبت عندهم، وتقرب إليهم بذلك، وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول، وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر، يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنه دوره، وأنه هو المسيح، وهو المهدي، وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال، وترك التكليفات، كما أمروا بالراحة يوم السبت، وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر، وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحيارى، الذين يزعمون أن عيسى لم يولد ولا أب له، وَقَوِّ في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه، وأن مريم أمه، وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء، وما شاكل ذلك، فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك. "قال" وإن وجدت المدعى نصرانيا، فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وصحة قولهم في الثالوث، وأن الأب والابن وروح القدس صحيح، وعظم الصليب عندهم، وعرفهم تأويله. وإن وجدته مثانيا فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف، فداخلهم بالممازجة في(6/31)
الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ، التي يصفها من بعد، وامتزج بالنور وبالظلام، فإنك تملكهم بذلك. وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء. ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا. وقد أجمعنا نحن وهم على إبطال نواميس الأنبياء، وعلى القول بقدم العالم، لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه. فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم، فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم.
وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ، قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك، والمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالي، ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه. وسنصنف لك عنهم من بعد واتخذ غليظ العهود، وتوكيد الأيمان، وشدة المواثيق جنة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب: حالا فحالا، وتدرجهم درجة درجة، على ما سنبينه من بعد، وقف بكل فريق حيث احتمالهم، فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل، وأنه حي، لا تجاوز به هذا الحد، لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه، وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار، وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين، وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ، وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد، وتصبر له: إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده، ويكون لك عونا على دهرك، وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل، ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك، ولا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدين بشريعة محمد نبيه - صلى الله عليه وسلم - والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل، وأقم له(6/32)
دلائل الأسابيع فقط، ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد، فإنك يومئذ إن أومأت إلى كريمته، فضلا عن ماله، لم يمنعك، وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه، وورثك إياه، ولم ير في العالم من هو أوثق منك، وآخر ترقيه إلى نسخ شريعة محمد، وأن السابع هو الخاتم للرسل، وأنه ينطق كما ينطقون، ويأتي بأمر جديد، وأن محمدا صاحب الدور السادس، وأن عليا لم يكن إماما، وإنما كان سوسا لمحمد، وحسن القول فيه، وإلا سياسية، فإن هذا باب كبير، وعمل عظيم، منه ترقى إلى ما هو أعظم منه، وأكبر منه، ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك، من وجوب زوال النبوات، على المنهاج الذي هو عليه، وإياك أن ترتفع من هذا الباب، إلا إلى من تقدر فيه النجابة، وآخر ترقيه من هذا إلى
معرفة القرآن ومؤلفه وسببه، وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة، فترقيه إلى غيرها: ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة، واستحكام الثقة به، فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات، والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله، وآخر ترقيه إلى إعلامه أن القائم قد مات، وأنه يقوم روحانيا، وأن الخلق يرجعون إليه بصور روحانية، تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل، ويستصفي المؤمنين من الكافرين بصور روحانية، فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه، والنشور من القبر. وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء، والجن في الأرض، وأنه كان قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا، فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحي، والإرسال إلى البشر بملائكة، والرجوع إلى الحق والقول بقدم العالم.(6/33)
وآخر ترقيه إلى أوائل درجة التوحيد، وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب 'الدرس الشافي للنفس' من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف، فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ"، وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة، إلى أن يصير إماما ناطقا، ثم ينقلب إلها روحانيا، على ما سنشرح قولهم فيه من بعد. قالوا: "ومن بلغته إلى هذه المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام، وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه، ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة علي وولده عند البلاغ، والرجوع إلى القول بالحق". ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد. قال القاضي: "فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم، وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم، وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه، وتكذيب ملائكته ورسله، وجحد المعاد والثواب والعقاب.
وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمخرقون بذكر الأول والثاني والناطق والأساس، إلى غير ذلك، ويخدعون به الضعفاء، حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية والكرامية. (2)
- وفيها: قال أبو حاتم محمود بن الحسين القزويني: كان ما يضمره
_________
(1) المنهاج (8/ 479 - 485).
(2) السير (17/ 190).(6/34)
القاضي أبو بكر الأشعري من الورع والدين أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك، فقال: إنما أظهر ما أظهره غيظا لليهود والنصارى، والمعتزلة والرافضة، لئلا يستحقروا علماء الحق ... وكان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة. (1)
موقفه من الجهمية:
موقفه من المؤولة:
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وقال القاضي أبو بكر "محمد بن الطيب الباقلاني" المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في 'كتاب الإبانة' تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (2) وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) فأثبت لنفسه وجها ويدا. فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا، لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك،
_________
(1) السير (17/ 192 - 193).
(2) الرحمن الآية (27).
(3) ص الآية (57).(6/35)
وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته، وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضا واعتلوا بالوجود. وقال: فإن قال فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (1) وقال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} (3) قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. (4)
- جاء في السير: قال أبو حاتم محمود بن الحسين القزويني: وكان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة، وغالب قواعده على السنة، وقد أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميمي مناديا يقول بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، والذاب عن الشريعة، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة. ثم كان يزور قبره كل جمعة. قيل: ناظر أبو بكر أبا سعيد الهاروني، فأسهب، ووسع
_________
(1) طه الآية (5).
(2) فاطر الآية (10).
(3) الملك الآية (16).
(4) مجموع الفتاوى (5/ 98 - 99).(6/36)
العبارة، ثم قال للجماعة: إن أعاد ما قلت، قنعت به عن الجواب. فقال الهاروني: بل إن أعاد ما قاله، سلمت له. (1)
- قال الذهبي: قلت: هو الذي كان ببغداد يناظر عن السنة وطريقة الحديث بالجدل والبرهان، وبالحضرة رؤوس المعتزلة والرافضة والقدرية وألوان البدع، ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية، وكان يرد على الكرامية، وينصر الحنابلة عليهم، وبينه وبين أهل الحديث عامر، وإن كانوا قد يختلفون في مسائل دقيقة، فلهذا عامله الدارقطني بالاحترام، وقد ألف كتابا سماه: 'الإبانة' يقول فيه: فإن قيل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قال: قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (2)، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3) فأثبت تعالى لنفسه وجها ويدا. إلى أن قال: فإن قيل: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه. إلى أن قال: وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والوجه واليدان والعينان والغضب والرضى. فهذا نص كلامه. وقال نحوه في كتاب 'التمهيد' له، وفي كتاب 'الذب عن الأشعري' وقال: قد بينا دين الأمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير.
قلت: فهذا المنهج هو طريقة السلف، وهو الذي أوضحه أبو الحسن
_________
(1) السير (17/ 192 - 193).
(2) الرحمن الآية (27).
(3) ص الآية (75).(6/37)
وأصحابه، وهو التسليم لنصوص الكتاب والسنة، وبه قال ابن الباقلاني، وابن فورك، والكبار إلى زمن أبي المعالي، ثم زمن الشيخ أبي حامد، فوقع اختلاف وألوان، نسأل الله العفو. (1)
قال عبد الرحمن الوكيل: وقد سجل الباقلاني: أنه سلفي العقيدة في كتبه الآتية: التمهيد، والإبانة، والحيرة. (2)
القَابِسِي (3) (403 هـ)
علي بن محمد بن خلف أبو الحسن الإمام الحافظ الفقيه العلامة عالم المغرب القروي القابسي صاحب 'الملخص'. حج وسمع من حمزة بن محمد الكتاني الحافظ، وأبي زيد المروزي، وابن مسرور الدباغ وطائفة. وكان عارفا بالعلل والرجال والفقه والأصول والكلام مصنفا يقظا دينا تقيا، وكان ضريرا وهو من أصح العلماء كتبا. قال حاتم الأطرابلسي: كان أبو الحسن القابسي زاهدا ورعا يقظا لم أر بالقيروان إلا معترفا بفضله. تفقه عليه أبو عمران الفاسي وأبو القاسم اللبيدي وعتيق السوسي وغيرهم. ألف تواليف بديعة. ولد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. وقد أخذ القراءة عرضا بمصر عن أبي الفتح ابن بدهن وأقرأ الناس بالقيروان دهرا، ثم قطع الإقراء لما بلغه أن بعض أصحابه أقرأ الوالي ثم أعمل نفسه في درس الفقه والحديث حتى برع فيهما،
_________
(1) السير (17/ 558).
(2) الصفات الإلهية بين السلف والخلف (ص.56).
(3) السير (17/ 158 - 162) ووفيات الأعيان (3/ 320 - 322) ومعالم الإيمان (3/ 134 - 143) وتذكرة الحفاظ (3/ 1079 - 1080) والبداية والنهاية (11/ 375) وشذرات الذهب (3/ 168).(6/38)
وصار إمام العصر. أثنى عليه بأكثر من هذا أبو عمرو الداني وقال: كتبنا عنه شيئا كثيرا. توفي في ربيع الأخير بالقيروان سنة ثلاث وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
ألف تواليف بديعة ككتاب 'المنقذ من شبه التأويل' وكتاب 'المنبه للفطن من غوائل الفتن' وكتاب 'الاعتقادات' وغير ذلك. (1)
الخَوارِزْمي (2) (403 هـ)
محمد بن موسى بن محمد أبو بكر المفتي العلامة شيخ الحنفية الخوارزمي ثم البغدادي، تلميذ أبي بكر أحمد بن علي الرازي. سمع من أبي بكر الشافعي وغيره. روى عنه البرقاني، ومن تلامذته الشريف الرضي والقاضي الصيمري. وما شهد الناس مثله في حسن الفتوى والإصابة فيها، دعي مرارا إلى الحكم فامتنع. قال ابن كثير: وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة السلف. توفي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
جاء في السير عنه أنه قال: ديننا دين العجائز، لسنا من الكلام في شيء. (3)
_________
(1) السير (17/ 160) والديباج المذهب (2/ 102).
(2) السير (17/ 235) والبداية والنهاية (11/ 374 - 375) والوافي بالوفيات (5/ 93) وتاريخ بغداد (3/ 247) وشذرات الذهب (3/ 170).
(3) السير (17/ 235).(6/39)
سهل بن محمد الصُّعْلُوكِي (1) (404 هـ)
العلامة، شيخ الشافعية بخراسان، الأديب الفقيه، مفتي نيسابور وابن مفتيها، أبو الطيب سهل بن الإمام أبي سهل محمد بن سليمان بن محمد العجلي الحنفي، انتهت إليه رئاسة أصحاب الحديث بعد والده. تفقه على والده، وسمع من محمد بن يعقوب الأصم وأبي علي الرفاه، وأبي عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي. وروى عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله وأبو بكر البيهقي وغيرهم.
درس الفقه واجتمع إليه الخلق اليوم الخامس من وفاة الأستاذ أبي سهل، وقد تخرج به جماعة من العلماء بنيسابور وسائر مدن خراسان، وتصدر للفتوى والقضاء والتدريس. قال الحاكم: هو من أنظر من رأينا، تخرج به جماعة، وحدث وأملى. قال: وبلغني أنه كان في مجلسه أكثر من خمس مائة محبرة. وقال: كان أبوه يجله، ويقول: سهل والد. وقال أبو إسحاق الشيرازي: كان أبو الطيب فقيها أديبا، جمع رئاسة الدنيا والدين، وأخذ عنه فقهاء نيسابور. له ألفاظ بديعة منها: من تصدر قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه. وكان بعض العلماء يعد أبا الطيب المجدد للأمة دينها على رأس الأربعمائة.
توفي في السنة الرابعة بعد الأربعمائة.
_________
(1) السير (17/ 207 - 209) والأنساب (8/ 64) ووفيات الأعيان (2/ 435 - 436) والبداية والنهاية (11/ 346) وشذرات الذهب (3/ 172 - 173) والوافي بالوفيات (16/ 12 - 13).(6/40)
موقفه من الجهمية:
جاء في ذم الكلام: عنه قال: أقل ما في الكلام من الخسار سقوط هيبة الله من القلب. (1)
أبو حامد الإِسْفَرَايِينِي (2) (406 هـ)
الأستاذ العلامة، شيخ الإسلام، أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الفقيه الإسفراييني، شيخ الشافعية ببغداد. ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. قدم بغداد وهو صغير ابن عشرين سنة. فتفقه على أبي الحسن بن المرزبان وأبي القاسم الداركي، وحدث عن عبد الله بن عدي وأبي بكر الإسماعيلي، وسمع 'السنن' من الدارقطني. وحدث عنه أبو الحسن الماوردي وسليم الرازي وأبو علي السنجي وآخرون. قال الخطيب: حدثونا عن أبي حامد، وكان ثقة، حضرت تدريسه في مسجد ابن المبارك، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبعمائة فقيه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به. وقال أبو إسحاق الشيرازي: سألت أبا عبد الله الصميري: من أنظر من رأيت من الفقهاء؟ فقال: أبو حامد الإسفراييني. قال الشيخ أبو إسحاق في الطبقات: انتهت إليه رئاسة الدين والدنيا ببغداد. توفي في السنة السادسة بعد الأربعمائة.
_________
(1) ذم الكلام (ص.278).
(2) السير (17/ 193 - 197) وتاريخ بغداد (4/ 368 - 370) والأنساب (1/ 238) ووفيات الأعيان (1/ 72 - 74) والوافي بالوفيات (7/ 357 - 358) والبداية والنهاية (12/ 3 - 4) وشذرات الذهب (3/ 178 - 179).(6/41)
موقفه من الجهمية:
- جاء في فتاوى شيخ الإسلام: قال الشيخ أبو الحسن -محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي-: وكان الشيخ أبو حامد شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام، قال أبو الحسن: ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرأون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة، منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما، وأصحابا، إذا سعى إلى الجمعة من قطيعة الكرخ إلى جامع المنصور، ويدخل الرباط المعروف بالروزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول: اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قال أحمد بن حنبل لا كما يقول الباقلاني (1)، وتكرر ذلك منه في جمعات فقيل له في ذلك فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في البلاد أني بريء مما هم عليه يعني الأشعري، وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية، فيقرءون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه وأنا قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته.
_________
(1) مفهوم هذا الكلام يفيد أن الباقلاني يقول بخلق القرآن، وهذا مخالف لما في كتابه التمهيد (ص.268). وهذا أيضا يناقض ما أثبتناه في مواقف الباقلاني سنة (403هـ) من المؤولة من هذا الكتاب.(6/42)
قال الشيخ أبو الحسن: وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفراييني وكان ينهى أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم وذكر قصة قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني، بلغني أنك تدخل على هذا الرجل يعني الباقلاني، فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلال. وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه، واشهدوا علي أني لا أدخل إليه.
قال: وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد، أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعا خوفا من الشيخ أبي حامد الإسفراييني. قال وأخبرني جماعة من الثقات كتابة منهم القاضي أبو منصور اليعقوبي عن الإمام عبد الله بن محمد بن علي هو شيخ الإسلام الأنصاري قال: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن الحسين وهو السلمي يقول: وجدت أبا حامد الإسفراييني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله. (1)
التعليق:
ماذا يقول أشاعرة الشافعية في هذه النصوص، هل تحتمل التأويل فينبغي أن تصرف عن ظاهرها. أو لا يعترفون أن أبا حامد منهم، أو يعتبرونه شاذا
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 284 - 285).(6/43)
عنهم، أو أن شيخ الإسلام اخترع هذا من عنده، أو أن عقولهم أرجح من الشيخ أبي حامد وهم أعلم. ولا أدري ماذا يقول الأشاعرة على العموم في هذا العالم المعترف بعلمه عند الخاص والعام. فإذا كان هذا موقف الشيخ مع أبي بكر بن الباقلاني الذي وصفه شيخ الإسلام بأنه من أجل أصحاب الأشعري الذين معهم شيء من السنة والعقيدة السلفية. فماذا يفعل أبو حامد لو عاصر الجويني والغزالي والرازي وابن العربي والباجي وأما المتأخرون فلا نضع عليهم السؤال ... والله المستعان.
انظر نموذجا من عقيدة الشيخ منقولة من أصول الفقه له في اجتماع الجيوش عند قول الإمام ابن القيم: قول إمام الشافعية في وقته بل هو الشافعي الثاني أبي حامد الإسفراييني: كان من كبار أئمة السنة المثبتين للصفات قال: مذهبي ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وجميع علماء الأمصار أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وأن جبرائيل عليه السلام سمعه من الله -عزوجل-، وحمله إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبرائيل عليه السلام، وسمعه الصحابة -رضي الله عنهم- من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن كل حرف منه كالباء والتاء كلام الله -عز وجل- ليس بمخلوق. ذكره في كتابه في أصول الفقه، ذكره عنه شيخ الإسلام في الأجوبة المصرية. (1)
_________
(1) اجتماع الجيوش (ص.177) ومجموع الفتاوى (12/ 306).(6/44)
أبو بكر محمد بن موهب المالكي (1) (406 هـ)
محمد بن موهب بن محمد أبو بكر التميمي المعروف بالقبري الحصار، هو جد أبي الوليد الباجي لأمه. كان من العلماء الزهاد والفضلاء، أخذ ببلده ورحل إلى المشرق فصحب أبا محمد بن أبي زيد واختص به. وكان القاضي ابن ذكوان يقدمه على فقهاء وقته، وكان الأصيلي يعرف حقه ويثني عليه. وله تآليف في الفقه مفيدة وشرح لرسالة شيخه. خرج من الأندلس إلى سبتة فأخذ عنه بها حمزة بن إسماعيل وغيره، ثم عاد إلى الأندلس. توفي في جمادى الأولى سنة ست وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
قال في شرحه لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: وأما قوله: (إنه فوق عرشه المجيد بذاته) فإن معنى فوق وعلا عند جميع العرب واحد وفي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تصديق ذلك. ثم ساق الآيات في إثبات العلو وحديث الجارية إلى أن قال: وقد تأتي 'في' في لغة العرب بمعنى فوق، وعلى ذلك قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} (2) يريد فوقها وعليها وكذلك قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (3) يريد عليها وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي
_________
(1) تاريخ الإسلام (حوادث 401 - 410/ ص.152 - 153) والديباج المذهب (2/ 234) وشجرة النور الزكية (1/ 111).
(2) الملك الآية (15).
(3) طه الآية (71).(6/45)
السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (1) الآيات، قال أهل التأويل العالمون بلغة العرب: يريد فوقها وهو قول مالك مما فهمه عن جماعة ممن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة رضي الله عنهم، مما فهموه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله في السماء بمعنى فوقها، وعليها، فلذلك قال الشيخ أبو محمد إنه فوق عرشه المجيد بذاته ثم بين أن علوه على عرشه إنما هو بذاته لأنه بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته، إذ لا تحويه الأماكن لأنه أعظم منها وقد كان ولا مكان، ولم يحل بصفاته عما كان إذ لا تجري عليه الأحوال، لكن علوه في استوائه على عرشه هو عندنا بخلاف ما كان قبل أن يستوي على العرش لأنه قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) و"ثم" أبدا لا يكون إلا لاستئناف فعل يصير بينه وبين ما قبله فسحة، إلى أن قال: وقوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (3) فإنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة والملك الذي ظنته المعتزلة ومن قال بقولهم إنه بمعنى الاستيلاء وبعضهم يقول إنه على المجاز دون الحقيقة.
قال: ويبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره، ما قد علمه أهل العقول أنه لم يزل مستوليا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها وكان العرش وغيره في ذلك سواء. فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء
_________
(1) الملك الآية (16).
(2) الحديد الآية (4).
(3) طه الآية (5).(6/46)
الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء وملك وقهر وغلبة، وقال: وكذلك بين أيضا أنه على الحقيقة بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} (1) فلما رأى المنصفون إفراد ذكره بالاستواء على عرشه بعد خلق سمواته وأرضه وتخصيصه بصفة الاستواء علموا أن الاستواء هنا غير الاستيلاء ونحوه فأقروا بصفة الاستواء على عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز لأنه الصادق في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله إذ ليس كمثله شيء من الأشياء. (2)
ابن خلدون البلوي (3) (407 هـ)
حسن بن خلدون أبو علي البلوي، قرأ على الشيخ أبي الحسن النابلسي. كان البلوي ركنا من أركان أهل السنة. وكان من أهل الكرم يعامل الناس معاملة حسنة وقسم مالا جليلا وفضائله كثيرة، حيث كان يجري النفقة على جماعة من أهل العلم والطلبة ويحضر مائدته جماعة من العلماء والطلبة ويصلهم بالدراهم الكثيرة.
استشهد على يد رجال المعز بن باديس سنة سبع وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في معالم الإيمان أنه كان شديدا على أهل البدع والروافض
_________
(1) النساء الآية (122).
(2) اجتماع الجيوش (173 - 174).
(3) معالم الإيمان (3/ 151 - 155).(6/47)
مغريا بهم. (1)
- وفيها أن سبب قتله: لما قدم المعز بن باديس القيروان بعد موت أبيه واستفتاح ولايته وذلك يوم الجمعة منتصف محرم عام سبعة وأربعمائة قتلت العامة الرافضة بالقيروان أقبح قتل، وحرقوهم وانتهبوا أموالهم، وهدموا ديارهم، وقتلوا نساءهم وصبيانهم، وجرحوهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلطها عليهم وخرج الأمر من القيروان إلى المهدية وساير بلادهم، فقتلوا حيث وجدوا وأحرقوا بالنار فلم يترك أحد منهم بمداين إفريقية إلا من اختفى، ولجأت الرافضة إلى مساجد المهدية فقتلوا فيها، وهدموا دار الإمارة وتقدمت العامة بذلك إلى جماعة من أهل السنة ومن غيرهم؛ فلقد حُكِيَ أن العامة جاءت متعلقة برجل اتهموه برأيهم، فمروا به على شيخ من العامة فسألهم عن تعلقهم به فقالوا نسير به إلى الشيخ أبي علي بن خلدون فننظر ما يأمرنا به فقال لهم الشيخ العامي: لا، اقتلوه الآن، فإن كان رافضيا أصبتم، وإن كان سنيا عجلتم بروحه إلى الجنة الآن أو كما قال: فانتقم الله منهم على أيدي عامة المسلمين وقتلوهم كل مقتل، فرعب المعز منهم وأراد كسر شوكتهم فدبر قتل زعيم أهل السنة وشيخ هذه الدعوة، فلما كان يوم الخميس الثاني عشر من شوال من السنة المذكورة أتى عامل القيروان إلى مسجد الشيخ ومعه خيل ورجال ...
فقتلوا أبا محمد الغرياني الفقيه وآخر بدويا ظانين أنه أبو علي، فلما عرفوا مالوا على أبي علي بسكاكينهم، وجردوا جماعة ممن كان في المسجد
_________
(1) المعالم (3/ 151).(6/48)
فحملوا أبا علي إلى داره وقد وقعت فيه ثلاث جراحات إحداها في صدغه أخذت إلى قفاه واثنتان في جانبه الأيسر انفذتا مقاتله، توفي في داره بعد العشاء الآخرة وبقي دمه بالمحراب إلى قريب زماننا هذا. (1)
طغان خان (2) (408 هـ)
أحمد بن طغان خان أبو نصر التركي صاحب تركستان وغيرها. هاجمته جيوش الكفر بعدد هائل فحاربهم وانتصر عليهم انتصارا باهرا. وكانت ملحمة مشهودة، وكان دينا عادلا بطلا شجاعا. توفي بعد رجوعه من تلك المعركة سنة ثمان وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: قصدته جيوش الصين والخَطَا في جمع ما سمع بمثله حتى قيل: كانوا ثلاث مئة ألف. وكان مريضا فقال: اللهم عافني لأغزوهم، ثم توفني إن شئت. فعوفي، وجمع عساكره وساق فبيتهم، وقتل منهم نحو مئتي ألف، وأسر مئة ألف، وكانت ملحمة مشهودة في سنة ثمان وأربع مئة، ورجع بغنائم لا تحصى إلى بلاساغون، فتوفاه الله عقيب وصوله. (3)
_________
(1) المعالم (3/ 153).
(2) السير (17/ 278 - 279) والكامل في التاريخ (9/ 297 - 298).
(3) السير (17/ 278 - 279).(6/49)
أبو بكر بن مردويه (1) (410 هـ)
الحافظ، الثبت، العلامة، محدث أصبهان أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك الأصبهاني. كان مولده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. روى عن أبي سهل بن زياد القطان وميمون بن إسحاق وعبد الله بن إسحاق الخراساني ومحمد بن عبد الله بن علم الصفار وطبقتهم. وروى عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن منده وأخوه أبو عمرو عبد الوهاب، وأبو بكر العطار وخلق كثير.
قال أبو بكر بن أبي علي -وذكر أبا بكر بن مردويه-: هو أكبر من أن ندل عليه وعلى فضله، وعلمه وسيره، وأشهر بالكثرة والثقة من أن يوصف حديثه، أبقاه الله، ومتعه بمحاسنه. وكان من فرسان الحديث، بصيرا بالرجال، فهما يقظا متقنا، كثير الحديث جدا، مليح التصانيف.
توفي في السنة العاشرة بعد الأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
آثاره السلفية:
له تفسير، أكثر من النقل عنه الحافظ ابن كثير وذكره شيخ الإسلام في درء التعارض ضمن التفاسير التي اعتنت بنقل عقيدة السلف. (2)
_________
(1) السير (17/ 308 - 311) وتذكرة الحفاظ (3/ 1050 - 1051) والوافي بالوفيات (8/ 201) وتاريخ الإسلام (حوادث 411 - 420/ص.200) وشذرات الذهب (3/ 190).
(2) درء التعارض (2/ 22).(6/50)
موقف السلف من الحاكم العبيدي الرافضي (411 هـ)
بيان زندقته وتجبره وتسلطه:
- قال الذهبي: وكان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر جوادا ممدحا، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها. أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع. وأمر عماله بالسب. (1)
- وقال: وأنشأ دارا كبيرة ملأها قيودا وأغلالا، وجعل لها سبعة أبواب، وسماها جهنم. فكان من سخط عليه، أسكنه فيها. ولما أمر بحريق مصر، واستباحها، بعث خادمه ليشاهد الحال. فلما رجع، قال: كيف رأيت؟ قال: لو استباحها طاغية الروم ما زاد على ما رأيت، فضرب عنقه. (2)
- وقال: وثم اليوم طائفة من طغام الإسماعيلية الذين يحلفون بغيبة الحاكم، ما يعتقدون إلا أنه باق، وأنه سيظهر. نعوذ بالله من الجهل. (3)
- وقال ابن كثير: ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة فيها عدم الحاكم بمصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك،
_________
(1) السير (15/ 174).
(2) السير (15/ 177).
(3) السير (15/ 183).(6/51)
وذلك لأنه كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا. ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله.
كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كان يروم أن يدعي الألوهية كما ادعاها فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا، إعظاما لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرها، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس. وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الأسواق نهارا، وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا، حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار فوقف عليه فقال: ألم أنهكم؟ فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه. وأعاد الناس إلى أمرهم الأول، وكل هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه.
وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له -وكان لا يركب إلا حمارا- فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبدا أسود معه يقال له(6/52)
مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون، لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا، ومنعهم من طبخ الملوخية، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر، وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها، وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمرهم به، فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا، ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟ ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عز وجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل(6/53)
معهن الفواحش والمنكرات، حتى إن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي
لهم من النساء والحريم. قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عَنَّ له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعا. (1)
أحمد بن أبي نصر الصوفي (2) (412 هـ)
الإمام، المحدث، الزاهد، الجوال، أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن حفص بن الخليل، الأنصاري الهروي، الماليني الصوفي، الملقب بطاووس الفقراء. ارتحل في طلب العلم إلى الآفاق ولقي المشايخ وحَصَّلَ وجمع وصَنَّفَ الكتب الطوال والمصنفات الكبار.
حدث عن أبي أحمد بن عدي، وإسماعيل بن نجيد، وأبي بكر القطيعي، ومحمد بن عبد الله السليطي، وخلق كثير. وحدّث عنه أبو بكر البيهقي، وأبو بكر الخطيب، وتمام الرازي وعبد الغني المصري، وغيرهم.
قال الخطيب: كان ثقة متقنا صالحا. وقال: أحد الرحالين في طلب الحديث، والمكثرين منه. وقال أبو إسحاق الحبال: كأن الإسناد، كان يمسك له في البلاد حتى يدركه.
توفي في السنة الثانية عشرة بعد المائة الرابعة.
_________
(1) البداية (12/ 10 - 11).
(2) تاريخ بغداد (4/ 371 - 372) وتذكرة الحفاظ (3/ 1070 - 1072) والوافي بالوفيات (7/ 330) والبداية والنهاية (12/ 11) وشذرات الذهب (3/ 195) والسير (17/ 301).(6/54)
موقفه من الجهمية:
جاء في ذم الكلام: قال الهروي: سمعت أحمد بن أبي نصر الماليني يقول: دخلت جامع عمرو ابن العاص رضي الله عنه بمصر، في نفر من أصحابي، فلما جلسنا جاء شيخ فقال: أنتم أهل خراسان أهل سنة وهذا هو موضع الأشعرية فقوموا. (1)
التعليق:
يؤخذ من هذا النص، أن هذا الشيخ ميز بين أهل السنة في ذلك العصر، وبين أهل البدع الذين هم الأشعرية. وبعد هذا الزمان انقلبت الموازين، فأطلق على المبتدعة أنهم هم أهل السنة، والسنة ما مرت ببابهم.
موقف السلف من محمد بن الحسين السلمي الصوفي (412 هـ)
بيان فضائحه الصوفية:
كان هذا الرجل من كبارهم، وألف لهم كتبا ما تزال عمدة عندهم ومصدرا ومن أشهرها 'طبقات الصوفية' ملأه بكل باطل، و'حقائق التفسير' الذي ستسمع كلام الأئمة فيه.
- قال الخطيب: وقال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري: كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئا يسيرا،
_________
(1) ذم الكلام (281).(6/55)
فلما مات الحاكم أبو عبد الله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياء كثيرة سواه. قال: وكان يضع للصوفية الأحاديث. (1)
- وجاء في سير أعلام النبلاء عنه قال: من قال لأستاذه لم؟ لا يفلح أبدا. (2)
التعليق:
هذه الكلمة التي قالها هذا الرجل، أصبحت قاعدة مقدسة عند الصوفية. وهي عندهم بمنزلة الوحي. واستغلها مشايخهم في ارتكاب كل ما يريدون من قول أو فعل، فإن كان قولا أولوه، وقال: الشيخ يقصد، كذا ويقصد كذا وإن كان فعلا كذلك حتى أصبحوا يعدون فعل الفاحشة من الكرامات. وقد سمعت أنا شخصيا من بعضهم، حتى لو قرر الشيخ الكفر فلا يجوز الاعتراض عليه. وقالوا نظما:
وسلم للرجال في كل حال ... ولا تغتب ولا ترمي إشاره
فإن الرجال بحر عميق ... لن تدرك له قراره
- قال الإمام تقي الدين ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر رحمه الله أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. (3)
_________
(1) تاريخ الخطيب (2/ 248).
(2) السير (17/ 251).
(3) فتاوى ابن الصلاح (1/ 196 - 197).(6/56)
- وقال الذهبي: وللسلمي سؤالات للدارقطني عن أحوال المشايخ والرواة، سؤال عارف، وفي الجملة ففي تصانيفه أحاديث وحكايات موضوعة وفي حقائق تفسيره أشياء لا تسوغ أصلا، عدها بعض الأئمة من زندقة الباطنية وعدها بعضهم عرفانا وحقيقة نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى فإن الخير كل الخير في متابعة السنة والتمسك بهدي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. (1)
- وقيل بلغت تآليف السلمي ألف جزء وحقائقه قرمطة. (2)
- وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: ومازال إبليس يخطبهم بفنون البدع، حتى جعلوا لأنفسهم سننا. وجاء أبو عبد الرحمن السلمي، فصنف لهم كتاب: السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم، من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم. وإنما حملوه على مذاهبهم، والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن. (3)
- وقال ابن تيمية رحمه الله -في معرض الحديث عما كُذِب على جعفر الصادق: حتى نقل عنه أبو عبد الرحمن في 'حقائق التفسير' من الأكاذيب ما نزه الله جعفرا عنه. (4)
_________
(1) السير (17/ 252).
(2) السير (17/ 255).
(3) التلبيس (ص 203).
(4) المنهاج (4/ 54).(6/57)
موقف السلف من الشيخ المفيد الرافضي (413 هـ)
بيان ضلالاته:
- قال فيه الذهبي: عالم الرافضة، صاحب التصانيف، الشيخ المفيد واسمه: محمد بن محمد بن النعمان البغدادي الشيعي، ويعرف بابن المعَلِّم. (1)
- وقال عنه أيضا: يدور على المكاتب وحوانيت الحاكة، فيتلمح الصبي الفطن، فيستأجره من أبويه -يعني فيضله- قال: وبذلك كثر تلامذته. (2)
- قال ابن تيمية في المنهاج: كما صنف المفيد كتابا سماه 'مناسك حج المشاهد' وفيه من الكذب والشرك ما هو من جنس كذب النصارى وشركهم، ومنها تأخير صلاة المغرب، ومضاهاة لليهود، ومنها تحريم ذبائح أهل الكتاب، وتحريم نوع من السمك، وتحريم بعضهم لحم الجمل، واشتراط بعضهم في الطلاق الشهود على الطلاق، وإيجابهم أخذ خمس مكاسب المسلمين، وجعلهم الميراث كله للبنت دون العم وغيره من العصبة، والجمع الدائم بين الصلاتين، ومثل صوم بعضهم بالعدد لا بالهلال، يصومون قبل الهلال ويفطرون قبله، ومثل ذلك من الأحكام التي يعلم علما يقينيا أنها خلاف دين المسلمين، الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل به كتابه. وقد قدمنا ذكر بعض أمورهم التي هي من أظهر الأمور إنكارا في الشرع والعقل، ولهم مقالات باطلة وإن كان قد وافقهم عليها بعض المتقدمين: مثل إحلال
_________
(1) السير (17/ 344).
(2) السير (17/ 344).(6/58)
المتعة، وأن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع، وإن قصد إيقاعه عند الشرط، وأن الطلاق لا يقع بالكنايات، وأنه يشترط فيه الإشهاد. (1)
علي بن عيسى (414 هـ سنة وفاة الباشاني)
موقفه من الجهمية:
عن محمد بن الحسين الباشاني قال: حضرت علي بن عيسى فذكر بين يديه من كلام الكرامية شيء فقال: اسكتوا لا تنجسوا مسجدي. (2)
ابن النَّحَّاس (3) (416 هـ)
الشيخ، الإمام، المحدث، مسند الديار المصرية، أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ابن محمد بن سعيد التجيبي المصري المالكي البزاز. ولد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. سمع من أبي سعيد بن الأعرابي، وأبي طاهر المديني وعلي ابن عبد الله بن أبي مطر وطبقتهما. وحدث عنه الصوري وأبو عمرو الداني وأبو إسحاق الحبال، وخلق. كان أول سماعه وهو ابن ثمان سنين، وكان الخطيب قد عزم على الرحلة إليه، فلم يقض. توفي في السنة السادسة عشرة بعد المائة الرابعة.
_________
(1) المنهاج (3/ 419 - 420).
(2) ذم الكلام (277) وفيه: الحسين بن محمد الباساني، ولعل الصواب ما أثبتناه. انظر السير (17/ 339 - 340).
(3) السير (17/ 313 - 314) وشذرات الذهب (3/ 204) والنجوم الزاهرة (4/ 263) وحسن المحاضرة (1/ 373) والعبر (1/ 428).(6/59)
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية: 'رؤية الله' وقد حققه محفوظ الرحمان.
هِبَة الله اللاَّلَكائِي (1) (418 هـ)
أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الرازي، وهو طبري الأصل الحافظ المجود، المفتي الشافعي اللالكائي. درس الفقه على مذهب الشافعي عند أبي حامد الإسفراييني وبرع فيه. سمع من عيسى بن علي الوزير وأبي طاهر المخلص وعلي بن محمد القصار وعدة. وروى عنه أبو بكر الخطيب وابنه محمد بن هبة الله وأبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي وعدة.
قال ابن كثير: كان يفهم ويحفظ، وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك.
توفي سنة ثمان عشرة وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
'شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة'، وقد طبع الكتاب والحمد لله رب العالمين بتحقيق صديقنا الشيخ أحمد سعد حمدان، ويعتبر الكتاب من أكبر المصادر في العقيدة السلفية وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك.
_________
(1) السير (17/ 419 - 420) وتاريخ بغداد (13/ 70 - 71) والكامل في التاريخ (9/ 364) وتذكرة الحفاظ (3/ 1083 - 1085) والبداية والنهاية (12/ 26) وشذرات الذهب (3/ 211).(6/60)
- ومن طيب أقواله فيه ما ذكره في المقدمة قال: أما بعد: فإن أوجب ما على المرء: معرفة اعتقاد الدين وما كلف الله به عباده من فهم توحيده وصفاته وتصديق رسله بالدلائل واليقين والتوصل إلى طرقها والاستدلال عليها بالحجج والبراهين.
وكان من أعظم مقول وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين ثم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأخيار المتقين ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إلى يوم الدين ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلون.
فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة والآثار المحفوظة المنقولة وطرايق الحق المسلوكة والدلائل اللايحة المشهورة والحجج الباهرة المنصورة التي عملت عليها الصحابة والتابعون ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين.
ثم من اقتدى بهم من الأئمة المهتدين واقتفى آثارهم من المتبعين واجتهد في سلوك سبيل المتقين وكان مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فمن أخذ في مثل هذه المحجة وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة أمن في دينه التبعة في العاجلة والآجلة، وتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، واتقى بالجنة التي يتقي بمثلها ليتحصن بجملتها ويستعجل بركتها ويحمد عاقبتها في المعاد والمآل إن شاء الله.
ومن أعرض عنها وابتغى الحق في غيرها مما يهواه أو يروم سواها مما تعداه أخطأ اختيار بغيته وأغواه، وسلكه سبيل الضلالة، وأرداه في مهاوي(6/61)
الهلكة فيما يعترض على كتاب الله وسنة رسوله بضرب الأمثال ودفعهما بأنواع المحال والحيدة عنهما بالقيل والقال مما لم ينزل الله به من سلطان ولا عرفه أهل التأويل واللسان ولا خطر على قلب عاقل بما يقتضيه من برهان ولا انشرح له صدر موحد عن فكر أو عيان فقد استحوذ عليه الشيطان وأحاط به الخذلان وأغواه بعصيان الرحمن حتى كابر نفسه بالزور والبهتان. (1)
- ثم قال: فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدا ودردا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقا وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة حتى تقابلت الشبه في الحجج وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقرانا، وأخدانا، وعلى المداهنة خلانا وإخوانا بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادا وفي الهجرة في الله أعوانا يكفرونهم في وجوههم عيانا ويلعنونهم جهارا، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين.
نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا وأن يمسكنا بالإسلام والسنة ويعصمنا بهما بفضله ورحمته.
فهلم الآن إلى تدين المتبعين وسيرة المتمسكين وسبيل المتقدمين بكتاب
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 7 - 9).(6/62)
الله وسنته والمنادين بشرايعه وحكمته الذين قالوا: {آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} (1). وتنكبوا سبيل المكذبين بصفات الله وتوحيد رب العالمين فاتخذوا كتاب الله إماما وآياته فرقانا، ونصبوا الحق بين أعينهم عيانا وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنة وسلاحا واتخذوا طرقها منهاجا، وجعلوها برهانا فلقوا الحكمة ووقوا من شر الهوى والبدعة، لامتثالهم أمر الله في اتباع الرسول وتركهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق.
يقول الله عزوجل فيما يحث على اتباع دينه، والاعتصام بحبله، والاقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} (2). وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ
_________
(1) آل عمران الآية (53).
(2) آل عمران الآية (103).
(3) الزمر الآية (55).(6/63)
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (1) وقال: {فَبَشِّرْ عباد (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} (2) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (3) وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} (4).
ثم أوجب الله طاعته وطاعة رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أطيعوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} (5) وقال تعالى: {مَنْ أطاع الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (7) وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ
_________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) الزمر الآيتان (17و18).
(3) آل عمران الآية (31).
(4) يوسف الآية (108).
(5) الأنفال الآية (20).
(6) النساء الآية (80).
(7) النور الآية (54).(6/64)
فَوْزًا عَظِيمًا (71)} (1) وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفائزون (52)} (2). وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) قيل في تفسيرها: إلى الكتاب والسنة ثم حذر من خلافه والاعتراض عليه فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (4) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (5) وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (6).
وروى العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة دمعت منها الأعين ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله موعظة مودع فبما
_________
(1) الأحزاب الآية (71).
(2) النور الآية (52).
(3) النساء الآية (59).
(4) النساء الآية (65).
(5) الأحزاب الآية (36).
(6) النور الآية (63).(6/65)
تعهد إلينا فقال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة». (1)
وروى عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم خط خطوطا يمينا وشمالا ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه -ثم قرأ- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2)».اهـ (3)
وعن ابن مسعود قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع وذم التكلف والاختراع. فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخصهم بهذا الرسم "أصحاب الحديث" لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباعهم لقوله وطول ملازمتهم له، وتحملهم علمه، وحفظهم أنفاسه وأفعاله، فأخذوا الإسلام عنه مباشرة، وشرايعه مشاهدة، وأحكامه معاينة من غير واسطة ولا سفير بينهم وبينه واصله. فجاولوها عيانا، وحفظوا عنه شفاها وتلقفوه
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13 - 15/ 4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة ". ووافقه الذهبي.
(2) الأنعام الآية (153).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).(6/66)
من فيه رطبا، وتلقنوه من لسانه عذبا، واعتقدوا جميع ذلك حقا وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقينا. فهذا دين أخذ أوله عن رسول الله مشافهة لم يشبه لبس ولا شبهة ثم نقلها العدول عن العدول من غير تحامل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، والصافة عن الصافة، والجماعة عن الجماعة أخذ كف بكف وتمسك خلف بسلف كالحروف يتلو بعضها بعضا ويتسق آخرها على أولاها رصفا ونظما.
فهؤلاء الذين تعهدت بنقلهم الشريعة وانحفظت بهم أصول السنة فوجبت لهم بذلك المنة على جميع الأمة والدعوة لهم من الله بالمغفرة فهم حملة علمه، ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته، وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه فحري أن يكونوا أولى الناس به في حياته ووفاته.
وكل طائفة من الأمم مرجعها إليهم في صحة حديثه وسقيمه، ومعولها عليهم فيما يختلف فيه من أموره.
ثم كل من اعتقد مذهبا فإلى صاحب مقالته التي أحدثها ينسب وإلى رأيه يستند، إلا أصحاب الحديث فإن صاحب مقالتهم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون، وعلى أعداء سنته بقربهم منه يصولون فمن يوازيهم في شرف الذكر؟ ويباهيهم في ساحة الفخر وعلو الاسم؟.
إذ اسمهم مأخوذ من معاني الكتاب والسنة يشتمل عليهما لتحققهم بهما أو لاختصاصهم بأخذهما فهم مترددون في انتسابهم إلى الحديث بين ما(6/67)
ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال تعالى ذكره: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (1) فهو القرآن، فهم حملة القرآن وأهله وقراؤه وحفظته -وبين أن ينتموا إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم نقلته وحملته فلا شك أنهم يستحقون هذا الاسم لوجود المعنيين فيهم لمشاهدتنا أن اقتباس الناس الكتاب والسنة منهم واعتماد البرية في تصحيحهما عليهم لأنا ما سمعنا عن القرون التي قبلنا ولا رأينا نحن في زماننا مبتدعا رأسا في اقراء القرآن وأخذ الناس عنه في زمن من الأزمان ولا ارتفعت لأحد منهم راية في رواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما خلت من الأيام ولا اقتدى بهم أحد في دين ولا شريعة من شرايع الإسلام والحمد لله الذي كمل لهذه الطايفة سهام الإسلام وشرفهم بجوامع هذه الأقسام وميزهم من جميع الأنام حيث أعزهم الله بدينه ورفعهم بكتابه وأعلى ذكرهم بسنته وهداهم إلى طريقته وطريقة رسوله فهي الطايفة المنصورة والفرقة الناجية والعصبة الهادية والجماعة العادلة المتمسكة بالسنة التي لا تريد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديلا ولا عن قوله تبديلا ولا عن سنته تحويلا ولا يثنيهم عنها تقلب الأعصار والزمان ولا يلويهم عن سمتها تغير الحدثان ولا يصرفهم عن سمتها ابتداع من كاد الإسلام ليصد عن سبيل الله ويبغيها عوجا ويصدف عن طرقها جدلا ولجاجا ظنا منه كاذبا وتمنيا باطلا: أنه يطفي نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون. (2)
_________
(1) الزمر الآية (23).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 19 - 26).(6/68)
موقفه من الجهمية:
قال في مقدمة كتابه 'أصول الاعتقاد' -وهو يتحدث عن المعتزلة-: قوم لم يتدينوا بمعرفة آية من كتاب الله -في تلاوة أو دراية، ولم يتفكروا في معنى آية -ففسروها أو تأولوها على معنى اتباع من سلف من صالح علماء الأمة- إلا على ما أحدثوا من آرائهم الحديثة، ولا اغبرت أقدامهم في طلب سنة أو عرفوا من شرايع الإسلام مسألة.
فيعد رأي هؤلاء حكمة وعلما وحججا وبراهين، ويعد كتاب الله وسنة رسوله حشوا وتقليدا وحملتها جهالا وبلها، ذلك ظلما وعدوانا وتحكما وطغيانا.
ثم تكفيره للمسلمين بقول هؤلاء إذ لا حجة عندهم بتكفير الأمة إلا مخالفتهم قولهم من غير أن يتبين لهم خطؤهم في كتاب أو سنة.
وإنما وجه خطئهم عندهم: إعراضهم عما نصبوا من آرائهم لنصرة جدلهم وترك اتباعهم لمقالتهم واستحسانهم لمذاهبهم.
فهو كما قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)} (1).
ثم ما قذفوا به المسلمين من التقليد والحشو. ولو كشف لهم عن حقيقة مذاهبهم كانت أصولهم المظلمة وآراؤهم المحدثة وأقاويلهم المنكرة -كانت
_________
(1) الحج الآيتان (8و9).(6/69)
بالتقليد أليق، وبما انتحلوها من الحشو أخلق، إذ لا إسناد له في تمذهبه إلى شرع سابق، ولا استناد لما يزعمه إلى قول سلف الأمة باتفاق مخالف أو موافق.
إذ فخره على مخالفيه بحذقه، واستخراج مذاهبه بعقله وفكره من الدقائق، وأنه لم يسبقه إلى بدعته إلا منافق مارق، أو معاند للشريعة مشاقق. فليس بحقيق من هذه أصوله أن يعيب على من تقلد كتاب الله وسنة رسوله واقتدى بهما، وأذعن لهما، واستسلم لأحكامهما، ولم يعترض عليهما بظن أو تخرص واستحالة أن يطعن عليه، لأن بإجماع المسلمين أنه على طريق الحق أقوم وإلى سبل الرشاد أهدى وأعلم وبنور الاتباع أسعد ومن ظلمة الابتداع وتكلف الاختراع أبعد وأسلم من الذي لا يمكنه التمسك بكتاب الله إلا متأولا ولا الاعتصام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا منكرا أو متعجبا ولا الانتساب إلى الصحابة والتابعين والسلف الصالحين إلا متمسخرا مستهزيا. لا شيء عنده إلا مضغ الباطل والتكذب على الله ورسوله والصالحين من عباده. وإنما دينه الضجاج والبقباق والصياح واللقلاق قد نبذ قناع الحياء وراءه وأدرع سربال السفه فاجتابه وكشف بالخلاعة رأسه وتحمل أوزاره وأوزار من أضله بغير علم ألا ساء ما يزرون، فهو كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا(6/70)
مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} (1).
فهو في كيد الإسلام وصد أهله عن سبيله ونبز أهل الحق بالألقاب أنهم مجبرة ورمي أولي الفضل من أهل السنة بقلة بصيرة والتشنيع عند الجهال بالباطل والتعدي على القوام بحقوق الله والذابين عن سنته ودينه. فهم كلما أوقدوا نارا لحرب أوليائه أطفأها الله، ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين. (2)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: فلم تزل الكلمة مجتمعة والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ومن بعدهم من السلف الصالحين حتى نبغت نابغة بصوت غير معروف وكلام غير مألوف في أول إمارة المروانية في القدر وتتكلم فيه حتى سئل عبد الله بن عمر فروى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر بإثبات القدر والإيمان به وحذر من خلافه، وأن ابن عمر ممن تكلم بهذا أو اعتقده برئ منه وهم برءاء منه. وكذلك عرض على ابن عباس وأبي سعيد الخدري وغيرهما فقالا له مثل مقالته. وسنذكر هذه الأقاويل بأسانيدها وألفاظها في المواضع التي تقتضيه إن شاء الله.
ثم انطمرت هذه المقالة، وانجحر من أظهرها في جحره، وصار من اعتقدها جليس منزله، وخبأ نفسه في السرداب كالميت في قبره خوفا من القتل والصلب والنكال والسلب من طلب الأئمة لهم لإقامة حدود الله
_________
(1) العنكبوت الآيتان (12و13).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 11 - 14).(6/71)
عزوجل فيهم، وقد أقاموا في كثير منهم ونذكر في مواضعه أساميهم وحث العلماء على طلبهم وأمروا المسلمين بمجانبتهم ونهوهم عن مكالمتهم والاستماع إليهم والاختلاط بهم لسلامة أديانهم، وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة ومذاهبهم الخبيثة خوفا من مكرهم أن يضلوا مسلما عن دينه بشبهة وامتحان أو بزخرف قول من لسان، وكانت حياتهم كوفاة وأحياؤهم عند الناس كالأموات. المسلمون منهم في راحة، وأديانهم في سلامة، وقلوبهم ساكنة وجوارحهم هادية، وهذا حين كان الإسلام في نضارة، وأمور المسلمين في زيادة. (1)
- ثم ذكر رحمه الله أبوابا في القدر والرد على القدرية معنونا عليها بقوله: (سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عزوجل وما روى من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عزوجل طاعاتها ومعاصيها).
(سياق ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن أول شرك يظهر في الإسلام: القدر).
(سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين في مجانبة أهل القدر وسائر أهل الأهواء).
(سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن القدرية مجوس هذه الأمة ومن كفرهم وتبرأ منهم) ...
_________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 15 - 17).(6/72)
(سياق ما روي في منع الصلاة خلف القدرية والتزويج إليهم وأكل ذبائحهم ورد شهادتهم). (1)
أبو إسحاق الإسفراييني (2) (418 هـ)
الإمام العلامة الأوحد، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني أحد المجتهدين في عصره، وصاحب المصنفات الباهرة، سمع من دعلج السجزي وعبد الخالق بن أبي روبا ومحمد بن يزداد وأبي بكر الإسماعيلي وعدة. وأملى مجالس، حدث عنه: أبو بكر البيهقي وأبو الطيب الطبري وأبو السنابل وعدة.
وبنيت له بنيسابور مدرسة مشهورة، وكان من المجتهدين في العبادة المبالغين في الورع. قال عنه الحاكم في تاريخه: أبو إسحاق الأصولي الفقيه المتكلم المتقدم في هذه العلوم، انصرف من العراق وقد أقر له العلماء بالتقدم، وبرع في المناظرة لتبحره في العلوم واستجماعه شرائط الإمامة في العربية والفقه والكلام والأصول ومعرفة الكتاب والسنة.
مات في ثماني عشرة وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
من تصانيفه كتاب 'جامع الخلي في أصول الدين والرد على الملحدين'،
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 589 - 823).
(2) السير (17/ 353 - 356) والعبر (1/ 430 - 431) وتبيين كذب المفتري (ص 243 - 244) والبداية والنهاية (12/ 26) ووفيات الأعيان (1/ 28) وشذرات الذهب (3/ 209 - 210).(6/73)
في خمس مجلدات. (1)
معمر بن أحمد الأصبهاني الصوفي (418 هـ)
موقفه من الجهمية:
له عقيدة أسماها 'الوصية من السنة' نقلها صاحب الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة. كما نقل منها شيخ الإسلام في بعض كتبه.
- وقال رحمه الله في وصيته: وأن القرآن كلام الله عز وجل، ووحيه وتنزيله، تكلم به وهو غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر بالله جهمي، ومن وقف في القرآن فقال: لا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق فهو واقفي جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو لفظي جهمي، ولفظي بالقرآن وكلامي بالقرآن وقراءتي وتلاوتي للقرآن قرآن، والقرآن حيثما تلي وقرئ وسمع وكتب وحيثما تصرف فهو غير مخلوق. (2)
- وقال: وأن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط، ولا ملاصقة، لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد، الغني عن الخلق، وأن الله سميع بصير، عليم خبير، يتكلم، ويرضى ويسخط، ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول:
_________
(1) السير (17/ 353).
(2) الحجة في بيان المحجة (1/ 231 - 232).(6/74)
هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر.
قال: ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول وتأول فهو مبتدع ضال. (1)
موقف السلف من المسبحي الرافضي (420 هـ)
بيان رفضه:
قال عنه الذهبي: نال دنيا ورتبة من الحاكم. وكان رافضيا منجما، رديء الاعتقاد. (2)
محمود بن سُبُكْتِكِين (3) (421 هـ)
سيف الدولة، أبو القاسم محمود بن الأمير ناصر الدولة سبكتكين التركي، صاحب خراسان والهند وغير ذلك. افتتح غزنة، ثم بلاد ما وراء النهر، ثم استولى على سائر خراسان، وعظم ملكه، ودانت له الأمم، وفرض على نفسه غزو الهند كل عام، فافتتح منه بلادا واسعة، وكان على عزم
_________
(1) درء التعارض (6/ 256 - 257) والاستقامة (1/ 168 - 169) والحجة في بيان المحجة (1/ 232 - 233).
(2) السير (17/ 362).
(3) السير (17/ 483 - 495) والكامل في التاريخ (9/ 139و301) ووفيات الأعيان (5/ 175 - 182) والبداية والنهاية (12/ 32 - 33) وشذرات الذهب (3/ 220 - 221).(6/75)
وصدق في الجهاد. كان مولده سنة إحدى وستين وثلاثمائة. قال عبد الغافر الفارسي: كان صادق النية في إعلاء الدين، مظفرا كثير الغزو، وكان ذكيا بعيد الغور، صائب الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء. وقال: قد صنف في أيام محمود وأحواله لحظة لحظة، وكان في الخير ومصالح الرعية يُسِّرَ له الإسار والجنود والهيبة والحشمة مما لم يره أحد. توفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.
موقفه من المشركين والرافضة:
أثنى عليه العلماء والمؤرخون، وذكروا له جهاده الكبير في تحطيم الأصنام التي كانت تعبد من دون الله في بلاد العجم.
- قال شيخ الإسلام في الفتاوى: ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه، كان الإسلام والسنة في مملكته أعز، فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر من العدل مالم ينشره مثله. فكانت السنة في أيامه ظاهرة، والبدع في أيامه مقموعة. (1)
- جاء في السير: قال أبو النضر الفامي: لما قدم التاهرتي الداعي من مصر على السلطان يدعوه سرا إلى مذهب الباطنية، وكان التاهرتي يركب بغلا يتلون كل ساعة من كل لون، ففهم السلطان سر دعوتهم، فغضب، وقتل التاهرتي الخبيث، وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي؛ شيخ هراة، وقال: كان يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس
_________
(1) الفتاوى (4/ 22).(6/76)
الموحدين. (1)
- وقال الذهبي: قرأت بخط الوزير جمال الدين بن علي القفطي في سيرته: قال كاتبه الوزير ابن الميمندي: جاءنا رسول الملك بيدا على سرير كالنعش؛ بأربع قوائم يحمله أربعة. وكان السلطان يعظم أمر الرسل لما يفعله أصحابهم برسله. قال: فحمل على حالته حتى صار بين يديه، فقال له الهندي: أي رجل أنت؟ قال: أدعو إلى الله، وأجاهد من يخالف دين الإسلام. قال: فما تريد منا؟ قال: أن تتركوا عبادة الأصنام، وتلتزموا شروط الدين، وتأكلوا لحم البقر. وتردد بينهما الكلام، حتى خوفه محمود وهدده، وقال الحاجب للهندي: أتدري لمن تخاطب؟ وبين يدي أي سلطان أنت؟ فقال الهندي: إن كان يدعو إلى الله كما يزعم، فليس هذا من شروط ذلك، وإن كان سلطانا قاهرا لا ينصف، فهذا أمر آخر. فقال الوزير: دعوه. ثم ورد الخبر بتشويش خراسان، وضاق على صاحب الهند الأمر، ورأى أن بلاده تخرب، فنفذ رسولا آخر، وتلطف، وقال: إن مفارقة ديننا لا سبيل إليه، وليس هنا مال نصالحك عليه، ولكن نجعل بيننا هدنة، ونكون تحت طاعتك. قال: أريد ألف فيل وألف منا ذهبا. قال: هذا لا قدرة لنا عليه. ثم تقرر بينهما تسليم خمس مئة فيل وثلاثة آلاف من فضة، واقترح محمود على الملك بيدا أن يلبس خلعته، ويشد السيف والمنطقة، ويضرب السكة باسمه. فأجاب، لكنه استعفى من السكة، فكانت الخلعة قباء نسج بالذهب، وعمامة قصب، وسيفا محلى، وفرسا وخفا، وخاتما عليه اسمه، وقال لرسوله: امض
_________
(1) السير (17/ 486).(6/77)
حتى يلبس ذلك، وينزل إلى الأرض، ويقطع خاتمه وأصبعه، ويسلمها إليك، فذلك علامة التوثقة. قال وكان عند محمود شيء كثير من أصابع الملوك الذين هادنهم. (1)
- وقال أيضا: ثم بلغ السلطان أن الهنود قالوا: أخرب أكثر بلاد الهند غضب الصنم الكبير سومنات على سائر الأصنام ومن حولها، فعزم على غزو هذا الوثن، وسار يطوي القفار في جيشه إليه، وكانوا يقولون: إنه يرزق ويحيي ويميت ويسمع ويعي، يحجون إليه، ويتحفونه بالنفائس، ويتغالون فيه كثيرا، فتجمع عند هذا الصنم مال يتجاوز الوصف، وكانوا يغسلونه كل يوم بماء وعسل ولبن، وينقلون إليه الماء من نهر حيل مسيرة شهر، وثلاث مئة يحلقون رؤوس حجاجه ولحاهم، وثلاث مئة يغنون. فسار الجيش من غزنة، وقطعوا مفازة صعبة، وكانوا ثلاثين ألف فارس وخلقا من الرجالة والمطوعة، وقوى المطوعة بخمسين ألف دينار، وأنفق في الجيش فوق الكفاية، وارتحل من المليا ثاني يوم الفطر سنة 416هـ، وقاسوا مشاق، وبقوا لا يجدون الماء إلا بعد ثلاث، غطاهم في يوم ضباب عظيم، فقالت الكفرة: هذا من فعل الإله سومنات.
ثم نازل مدينة أنهلوارة، وهرب منها ملكها إلى جزيرة، فأخرب المسلمون بلده، ودكوها، وبينها وبين الصنم مسيرة شهر في مفاوز، فساروا حتى نازلوا مدينة دبولوارة؛ وهي قبل الصنم بيومين، فأخذت عنوة، وكسرت أصنامها، وهي كثيرة الفواكه، ثم نازلوا سومنات في رابع عشر ذي القعدة، ولها قلعة منيعة على البحر، فوقع الحصار، فنصبت السلالم عليها،
_________
(1) السير (17/ 488 - 489).(6/78)
فهرب المقاتلة إلى الصنم، وتضرعوا له، واشتد الحال وهم يظنون أن الصنم قد غضب عليهم، وكان في بيت عظيم منيع، على أبوابه الستور الديباج، وعلى الصنم من الحلي والجواهر ما لا يوصف، والقناديل تضيء ليلا ونهارا، على رأسه تاج لا يقوم، يندهش منه الناظر، ويجتمع عنده في عيدهم نحو مئة ألف كافر، وهو على عرش بديع الزخرفة؛ علو خمسة أذرع، وطول الصنم عشرة أذرع، وله بيت مال فيه من النفائس والذهب ما لا يحصى، ففرق محمود في الجند معظم ذلك، وزعزع الصنم بالمعاول، فخر صريعا، وكانت فرقة تعتقد أنه منات، وأنه تحول بنفسه في أيام النبوة من ساحل جدة، وحصل بهذا المكان ليقصد ويحج معارضة للكعبة. فلما رآه الكفار صريعا مهينا، تحسروا، وسقط في أيديهم، ثم أحرق حتى صار كلسا، وألقيت النيران في قصور القلعة، وقتل بها خمسون ألفا، ثم سار محمود لأسر الملك بهيم، ودخلوا بالمراكب، فهرب، وافتتح محمود عدة حصون ومدائن، وعاد إلى غزنة، فدخلها في ثامن صفر سنة سبع عشرة، ودانت له الملوك، فكانت مدة الغيبة مئة وثلاثة وستين يوما. (1)
- وقال أيضا: وكان إلبا على القرامطة والإسماعيلية وعلى المتكلمين. (2)
- قال ابن كثير: وفيها -أي سنة عشرين وأربعمائة- ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا، وصلبا شنيعا، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي،
_________
(1) السير (17/ 490 - 491).
(2) السير (17/ 492).(6/79)
فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك. (1)
- جاء في التذكرة: وذلك أن السلطان محمودا لما دخل الري وقتل بها الباطنية منع الكل من الوعظ (غير أبي حاتم) وكان من دخل الري يعرض اعتقاده عليه فإن رضيه أذن له في الكلام على الناس وإلا منعه. (2)
موقفه من الجهمية:
- جاء في طبقات الحنابلة: بالسند إلى أبي مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود فتناظرا. قال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية. لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمني أن أصفه بالتحتية وإنما هو وصف نفسه بذلك. قال: فبهت. (3)
- جاء في أصول الاعتقاد: وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود، يعني ابن سبكتكين، أعز الله نصرته أمر أمير المؤمنين القادر بالله واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفيهم، والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل
_________
(1) البداية (12/ 28).
(2) التذكرة (3/ 1186 والطبقات (3/ 52).
(3) طبقات الحنابلة (3/ 12) والسير (17/ 487).(6/80)
البدع، وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين في الآفاق. (1)
- وجاء في الدرء: وأظهر السلطان محمود سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر، وأظهر السنة، وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو، فرأى قوة كلام ابن الهيصم، فرجح ذلك، ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك، فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسما. ومن الناس من يقول: إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله، وتناظر عنده فقهاء الحديث، من أصحاب الشافعي وغيرهم، وفقهاء الرأي، فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه، وغزا المشركين بالهند. (2)
القاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي (3) (422 هـ)
الإمام القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد، أبو محمد الثغلبي العراقي، الفقيه المالكي. ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ببغداد.
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 799/1333).
(2) درء التعارض (6/ 253).
(3) تاريخ بغداد (11/ 31 - 32) وترتيب المدارك (2/ 272 - 275) ووفيات الأعيان (3/ 219 - 222) والمرتبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا للنباهي (40 - 41) وسير أعلام النبلاء (17/ 429 - 432) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.85 - 88).(6/81)
روى عن الحسين بن محمد بن عبيد العسكري وعمر بن سبنك وأبي حفص بن شاهين وغيرهم.
قال الخطيب البغدادي: كتبت عنه وكان ثقة ولم نلق من المالكيين أحدا أفقه منه، وكان حسن النظر، جيد العبارة، وتولى القضاء ببادرايا وباكسايا.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: أدركته وسمعته يناظر، وكان قد رأى القاضي الأبهري ولم يسمع منه، وكان فقيها شاعرا متأدبا، وله كتب كثيرة في كل فن من الفقه. وله في خروجه من بغداد:
سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف
فوالله ما فراقتها عن قلى لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
روى عنه جماعة منهم: عبد الحق بن هارون الفقيه وأبو عبد الله المازري وأبو بكر الخطيب والقاضي ابن شماخ الغافقي وغيرهم.
له كتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة وكتاب المعونة لدرس مذهب عالم المدينة وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني وغيرها.
توفي رحمه الله سنة اثنتين وعشرين وأربع مائة.
موقفه من المبتدعة:
قال في تعليقه على قول أبي زيد القيرواني: [وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه].(6/82)
قال القاضي رحمه الله: إن القلب إذا لم يسبق الشر إليه يقبل ما يرد عليه من الخير أشد تقبل، ولم يكن هناك مانع منه، ولا قاطع دونه، وإذا سبق إليه اعتقاد الشر، احتيج في تقبله الخير إلى تكلفه زوال ما قد تمكن فيه، ومشقته في قطع ما قد استولى عليه، ولهذا أمر عليه السلام بأن يؤمر الصبيان بالصلاة لسبع (1)، ليمرنوا عليها ويألفوها، وتسبق إلى قلوبهم حلاوة الإيمان، وتتمكن من أفئدتهم محبة الدين، وهذا حجة لأبي محمد فيما رسمه في هذا الكتاب من تعليم الولدان، ولهذا قال بعض السلف: لا تمكن زائغ القلب من أذنيك، حراسة للقلب أن يطرقه من ذلك ما يخاف أن يعلق به. (2)
موقفه من المشركين:
قال: أما الكلام في نبوته - صلى الله عليه وسلم - وصحة رسالته: فليس من الكلام مع أهل الملة في شيء، وإنما هو كلام مع فرق أهل الكفر الطاعنين على الإسلام وعلى كل ملة، وهم البراهمة وغيرهم ممن ينكر بعث الرسل جملة، ويزعمون أنه محال أن يبعث الصانع جل اسمه رسلا إلى خلقه، وفرق الكتابيين ومن جرى مجراهم من المجوس ومن يقر ببعث الرسل، وينكر بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، مثل اليهود والنصارى وغيرهم. (3)
موقفه من الرافضة:
- قال معلقا على قول ابن أبي زيد: [وأن خير القرون قرن الذين رأوا
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 180و187) وأبو داود (1/ 334/495) والحاكم (1/ 197) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.16 - 17).
(3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.68).(6/83)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم].
قال القاضي رضي الله عنه: اعلم أن هذا الذي قاله لا خلاف فيه في الجملة، ثم الذي يدل عليه، إجماع الأمة ونصوص القرآن والسنة على فضيلة السبق والترجيح بالتقدم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (1) وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} (2) وقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (3) الآية، وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (4) الآية: وما اشتهر عن الصحابة من اعتقاد الفضيلة بالسابقة ومقدم الإيمان والهجرة، وأنهم إذا عدوا فضائل الفاضل ومحاسنه ذكروا هجرته وسابقته، وقولهم: والله إنا لنعلم فضلك وسابقتك، ويدلك على فضل السبق على المتأخر: تسميته تعالى لمن جاء بعدهم بأنهم تابعون وترتيبه إياهم بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وتسميتهم بذلك يقتضي فضيلة السابقين
_________
(1) التوبة الآية (100).
(2) الواقعة الآيتان (10و11).
(3) الحديد الآية (10).
(4) الحشر الآية (9).(6/84)
عليهم، وكذلك كانت الصحابة تقول: أبو بكر السابق، وعمر المصلي، ويدل عليه الخبر المشهور، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (1)
ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلني ذوو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (2).اهـ (3)
- وقال في قوله: [ولا يذكر أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بأحسن الذكر، والإمساك عما شجر بينهم]: هذا لأن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أوجب علينا تعظيمهم وموالاتهم ومدحهم والثناء عليهم وتفضيلهم وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} (4) وقال تعالى: {محمدٌ رسول اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (5) الآية، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (6) وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (7) وقوله
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي بكر الخلال سنة (311هـ) ..
(2) أخرجه: أحمد (1/ 457) ومسلم (323/ 432 [123]) وأبو داود (1/ 436/674) والترمذي (1/ 440 - 441/ 228) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.124 - 125).
(4) الأنفال الآية (64).
(5) الفتح الآية (29).
(6) الحشر الآية (9).
(7) التوبة الآية (111).(6/85)
تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (2) وكل هذا مدح وثناء وتعظيم وتشريف، فوجب علينا إمساك ذلك فيهم. (3)
موقفه من الجهمية:
واعلم أن الوصف له تعالى بالاستواء اتباع النص، وتسليم للشرع، وتصديق لما وصف نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشيء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار إلى الأماكن، وذلك يؤول إلى التجسيم، وإلى قدم الأجسام، وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام، وقد أجمل مالك رحمه الله الجواب عن سؤال من سأله: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، ثم أمر بإخراج السائل. (4)
- وقال معلقا على قوله: [له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته وأسمائه، تعالى أن تكون صفاته مخلوقة، وأسماؤه محدثة ... ]
قال القاضي رضي الله عنه: اعلم أن هذا الذي قاله رحمه الله، هو الدين
_________
(1) آل عمران الآية (110).
(2) التوبة الآية (100).
(3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.135 - 136).
(4) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.28).(6/86)
الصحيح، والمذهب المستقيم، الذي من حاد عنه ابتدع وضل، وفيه رد على المبتدعة والرافضة وغيرهم من ضروب المبتدعة النافين لصفات ذاته تعالى من علمه وقدرته، وسائر صفاته، والزاعمين أنه لا علم له، ولا قدرة ولا حياة، والجاعلين كلامه من صفات فعله، وأنه بمثابة سائر الأعراض التي تبيد وتفنى، وأنه من جنس كلام البشر ولغات الأمم، والقائلين بأن الله تعالى كان في أزله بلا اسم ولا صفة، وأن عباده هم الذين خلقوا له الأسماء والصفات، والبغداديون منهم الذين انتهى علمهم في هذا الوقت إلى طريق البلخي: أن الله ليس بسميع بصير على الحقيقة، وأن وصفه نفسه بذلك مجاز واتساع، وعلى معنى العلم له، دون أن يكون سميعا على الحقيقة أو بصيرا، ردا لقوله سبحانه: {إن اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}، وقوله تعالى منبها على وجوب ذلك، ومنع نفيه عنه، مخبرا عن إبراهيم عليه السلام (القائل) لأبيه على عبادة الأصنام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} (1) فسوى بين الله وبين الأصنام، فكان لأبي إبراهيم على قوله أن يقول له في جواب هذا: فَإلاَهُكَ لايسمع ولا يبصر ... (2)
- وقال القاضي رحمه الله: فأما قوله: [إنه تعالى كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته]، إلى آخر ما قاله في ذلك، فهو الكلام في أن القرآن غير مخلوق، وهو إجماع كافة أهل السنة وأئمة الملة، قبل الجهمية، ومن نشأ
_________
(1) مريم الآية (42).
(2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.29 - 30).(6/87)
بعدهم من أتباعهم المبتدعة. (1)
- وقال في الشفاعة: فمذهب أهل السنة وأئمة الملة، والأخبار متواترة به على المعنى وإن اختلفت ألفاظه ... ثم ذكر بعض الأحاديث وقال: ومن المعتزلة من يتأول أخبار الشفاعة ولا يقدم على ردها وجحدها كما يفعل إخوانه، وقد تأولوها على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أراد أن الشفاعة لمن واقع الصغائر وهو مجتنب للكبائر، وهذا لا معنى له، لأن صاحب الصغيرة إذا فعلها مع اجتناب الكبائر لم يستحق العقاب، ومتى عوقب كان عندهم ظلما وجورا، فما معنى الشفاعة في أن لا يعذب من لا يستحق العذاب؟ وهل هذا إلا قول بالشفاعة في أن لا يظلم تعالى ولا يجور. وهذا تكلف يحمل النفس على رد الشرع وجحد السنة.
والتأويل الثاني: أن الشفاعة لمرتكب الكبائر التائب منها، والنادم على فعلها، وهذا تلو الأول في السقوط، لأن التوبة سقطت لاستحقاق العقاب، فأي تأثير للشفاعة؟!
والثالث -وهو أقربها-: إن قالوا: إن الشفاعة للمؤمنين المجانبين للكبائر، وليست شفاعة في إسقاط عقاب مستحق عليهم، لكن في الزيادة لهم في الثواب على قدر ما استحقوه بأعمالهم. وهذا ادعاء لما لم يرد به خبر ولا شرع، ورد لما ورد، لأن الشفاعة التي وردت بها الأخبار، إنما هي في
_________
(1) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.34).(6/88)
القرآن لأهل الكبائر والرغبة إلى الله في العفو عنهم والتجاوز، وهذا غير ما قالوه، والكلام هنا في هذه الشفاعة التي هذا مقصودها فنحن نثبتها، وهم ينفونها، فما تأولوه ليس يخرجهم عن ردها، والله أعلم. (1)
- قال القاضي رحمه الله: [قوله: إن الله خلق الجنة والنار]: هذا قول سلف الأمة وأئمة الحديث والسنة، وأنها الجنة التي كان بها آدم، وأهبط منها، وهي جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة. وقد دل عليه الكتاب والسنة. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} (2) وهذا يفيد كونها مخلوقة، وأنه قد سكنها وأخرج منها. وقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا} وإن كانت لم تخلق لكان هابطا من غيرها لا هابطا منها، وخالف المعتزلة في ذلك إلى مذاهب تخالف ما وصفناه، واعلم أنهم ليس يقدمون على إنكار ذلك، وأن الله خلق جنة أسكن بها آدم نبيه وزوجته، ولكن يقولون: ليست هي دار الخلد وجنة المأوى.
إلى أن قال: ودليل أهل السنة على خلقهما، قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (3) فإن قالوا: لسنا ننكر أن الله تعالى خلق جنة ونارا، ولكن الخلاف هل هي جنة المأوى التي وعد الله عباده، أو غيرها؟ قلنا: عنه جوابان:
_________
(1) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.80 - 81).
(2) البقرة الآيتان (35و36).
(3) البقرة الآية (35) والأعراف الآية (19).(6/89)
أحدهما: أنه لا يعرف في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، ولا عن أحد من السلف: أن الله خلق جنة غير الجنة التي ذكر أنه أعدها لأوليائه، فمن ادعى جنة غيرها احتاج إلى دليل سمعي، لأن العقل لا مجال له في ذلك، وإنما تتأولون أنتم هذا التأويل لا بتوقيف ولا بسمع منكم.
والثاني: أنه لو كان الأمر على ما قلتموه لكان قوله: الجنة والإشارة إليها بلام التعريف يفيد: المعهودة، ولا جنة معهودة في الشرع إلا التي وعدها الله لأوليائه. ويدل على ذلك قوله تعالى: {* وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} (1) وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} يعني وجودها. (2)
- وقال: وأما الدليل على وجود (3) رؤيته تعالى في الآخرة، فهو السمع المحض الذي لا مجال للعقل فيه، وهو أدلة الكتاب والسنة المتواترة فيها، منها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (4) قال أصحابنا: والنظر في كتاب الله يرد على وجوه: منها النظر بمعنى التفكر والاعتبار، مثل قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} (5) وقوله تعالى:
_________
(1) آل عمران الآية (133).
(2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.82 - 84).
(3) قال في هامشه: كذا، ولعلها "وجوب". (م. ب).
(4) القيامة الآيتان (22و23).
(5) الغاشية الآية (17).(6/90)
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} (1) وما إلى ذلك، يريد: أفلم يعتبروا ويتفكروا. ومنها: النظر بمعنى الانتظار، ومنه قوله تعالى {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} (2) أي منتظرة، ومنها: الإنظار، وهو الإمهال، كقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (3) يريد: أمهلونا، وهو يقرب من معنى ما قبله، ومن أصحابنا من يخرج هذه الأقسام من مجملات القول نظرا، ومنها التعطف والرحمة كقوله تعالى: {ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} (4) يريد: ولا يتعطف عليهم، ومنها: رؤية البصر كقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (5) يريد: انظرها بعينك.
والقسم الأول غير جائز، لأن الآخرة ليست بدار اعتبار وتفكر، وكذلك الانتظار، لأن ذلك يوجب إضمارا في الظاهر ونقله إلى المجاز بغير دليل، لأن ما ينتظر فيه ليس بمذكور، والظاهر يوجب تعلق النظر به تعالى، وكذلك القسم الثالث، وهو الإنظار، لأنه لا يجوز أن يقال: قد أنظرنا ربنا وأمهلنا، وكذلك القسم الآخر الذي هو التعطف والرحمة، لا يجوز أن يقع منها لله تعالى، فلم يبق إلا ما قلناه من رؤية البصر، ووجه آخر، وهو أن النظر إذا قرن بما لذكر الوجه والبصر
_________
(1) ق الآية (6).
(2) النمل الآية (35).
(3) الحديد الآية (13).
(4) آل عمران الآية (77).
(5) البقرة الآية (259).(6/91)
عدي بحرف الجر الذي هو قولك إن لم يكن المراد به إلا رؤية البصر، ألا ترى أن نظر الاعتبار إذا عدي بِـ (إلى) لم يقرن بالوجه أو البصر، وكذلك نظر التعطف والرحمة وغيره، وقد تأولوه على أن المراد به: ثواب ربها منتظرة، وهذا باطل من وجوه، أحدها: إن ثواب الله غيره، والظاهر يوجب أن يكون النظر إليه لا إلى غيره، والثاني: يعود إلى أن النظر بمعنى الانتظار، وذلك ما قد أبنا عن فساده، ومنها: الحديث المأثور، والخبر المشهور بالنقل المتواتر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم ترون ربكم، لا تضامون في رؤيته، كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب» (1) وهذا الحديث مروي من عدة طرق، وألفاظ مختلفة ومعنى متفق، ورواه نيف وعشرون نفسا من الصحابة، وذكرهم أهل النقل. (2)
موقفه من الخوارج:
قال معلقا على قول ابن أبي زيد: [إن مات مصرا على الكبائر فأمره إلى الله، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فإنه إن عذبه أخرجه إلى جنته] إلى آخر ما قاله: فإنه صحيح على ما ذكره، وهو مذهب أهل السنة، والمخالف فيه أكثر فرق أهل البدعة، وهم المعتزلة والخوارج والشراة، ولهذا سميت المعتزلة، لأنهم انفردوا بالبصرة، واعتزلوا عن مجالس أهل الحديث والسنة لما عقدوه بينهم من البدعة، وهم: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيرهم ممن تبعهم، واعتزلوا عن أئمة الدين وخافوا أن يظهر عليهم علماء المسلمين، وركبوا في ذلك ما كان طريقا لأهل الكبائر إلى الإصرار واليأس من مغفرة
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.92 - 94).(6/92)
ربهم ردا لقوله تعالى: {* قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (1)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) وأمثال هذه الآيات، ولما اجتاز أبو عمرو بن العلاء بعمرو بن عبيد بالبصرة، وهو يتكلم في الوعيد وإثباته، ومنع غفران الله لأهله، قال له أبو عمرو: من العجمة أتيتم، أما علمت أن الكريم إذا وعد وفى، وإذا توعد عفا، ثم أنشده:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فلم يكن عند عمرو من الجواب أكثر من الإعنات والتعلق بعبارة لا طائل فيها. (3)
إلى أن قال: الدليل على جواز الغفران لأهل الكبائر: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) استثنى الشرك من المعاصي، وجعل غفران ما دونه متعلقا بمشيئته، ويدل عليه قوله عزوجل: {* قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (5). وهذا أيضا نص فيما عدا
_________
(1) الزمر الآية (53).
(2) النساء الآية (48) والآية (116).
(3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.75).
(4) النساء الآية (48) و (116).
(5) الزمر الآية (53).(6/93)
الكفر والشرك الذي أخبر أنه لا يغفره، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (1) والكبائر في هذا الموضع هي الكفر والشرك، بدليل الآية الأخرى، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) والسيآت المرادة في هذا الموضع: ما دون الشرك به، ويدل عليه قوله: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} (3) فاستثنى الكافر ممن يلحقهم الروح من دونهم من مذنبي أهل الملة على الرجاء، ولهذه الآيات أمثال يطول تتبعها ويعوز جمعها، فثبت بما ذكرنا من الظواهر: جواز الغفران لأهل الكبار. فإن قالوا: فقد وردت ظواهر تعارض ما ذكرتموه، منها قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} (4) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} إلى قوله: {هم فِيهَا خَالِدُونَ} (5) في نظائر لذلك، والقرآن لا يتناقض.
_________
(1) النساء الآية (31).
(2) النساء الآية (48) والآية (116).
(3) يوسف الآية (87).
(4) النساء الآية (14).
(5) يونس الآية (27).(6/94)
فالجواب: أنه ليس في هذا تعارض ولا تناقض، لأن هذه الآية مقصورة على الشرك الذي أخبر أنه لا يغفره، وأنه يغفر ما دونه للظواهر التي تلونها، ونفرض الكلام في أن الإيمان الذي مع الفاسق، والطاعات لا يحبطه ما ركبه من الكبائر، وأنه يستحق عليه الجزاء بإخبار الله عن ذلك، والذي يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) ولا حسنة أعلى وأشرف من الإقرار بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله وشريعته وكتابه، ويدل عليه قوله تعالى: {إني لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (2) وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (3) وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} (4) في نظائر ذلك، فدل على أن المؤمن يجازى بإيمانه وطاعته، ويثاب عليها من غير تخصيص لكون من وجد منه ذلك غير عاص بارتكاب الكبائر التي لا تخرجه عن الإيمان. (5)
- وقال في تعليقه على ابن أبي زيد: [ولا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة]:
قال القاضي: وهذا كما قال، فالمذنبون من أهل الملة مؤمنون مذنبون، ولا يخرجون بذنوبهم من الإسلام ولا عن الإيمان، ولا تحبط ذنوبهم إيمانهم،
_________
(1) هود الآية (114).
(2) آل عمران الآية (195)
(3) الأنعام الآية (160).
(4) الزلزلة الآية (7).
(5) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.77 - 78).(6/95)
هذا قول أئمة السنة، وسلف الأمة، وقالت الخوارج: إن كل ذنب كفر يخرج به صاحبه من الإسلام، وقالت المعتزلة: إن الكبائر يخرج بها صاحبها من الإيمان إلى منزلة بين المنزلتين لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، وقال بعضهم: يسمى منافقا، والذي يدل عليه الدليل أن اسم الإيمان لا يزول عنه بتفسيقه، وأن فسقه لا يخرجه عن كونه مصدقا بالله وبرسوله وكتبه وشرائعه، وعن اعتقاده، لكون ما ركبه إثما ومعصية، فإذا كانت حقيقة الإيمان ما وصفناه، وكان هذا موجودا مع فعل الفاسق، وجب أن لا ينفيه. (1)
- وفي قوله: [والسمع والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم]:
قال القاضي رحمه الله: هذا لقوله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) فعم ولاة الأمر من العلماء والأمراء، وإن قلنا: إن إطلاق أولي الأمر يختص الإمامة ومن يلي الحرب والتدبير، كانت الآية مقصورة عليهم؛ وكيف كان الأمر فقد ثبت مما أردناه، وقوله: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (3) وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} (4) فأمر بالرد اليهم عند التنازع
_________
(1) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.107).
(2) النساء الآية (59).
(3) التغابن الآية (16).
(4) النساء الآية (83).(6/96)
والاختلاف، وذلك يعم وصف طاعتهم في أمور الدين والدنيا، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو ولي عليكم مجدع فاسمعوا له وأطيعوا» (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية» (2) ولأن ذلك إجماع الصحابة، ولأنها كانت تأمر به وتحض عليه، وتحذر من الخلاف على الأئمة وتنهى عن الشقاق عليهم والاخلال بطاعتهم، وترى ذلك من أوجب أمور الدين، وألزم أحكام الشرع. (3)
موقفه من المرجئة:
- قال في شرح عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني عند قوله: [وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقص الأعمال، فيكون فيها النقصان وبها الزيادة، ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل]: هذا الذي قاله هو مذهب أهل السنة والسلف الصالح، والذي يدل على أن اعتقاد القلب وإخلاصه إيمان: أن الإيمان في اللغة التصديق، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (4) أي مصدق لنا، وقال: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ} (5) أي صدقنا به، وقال تعالى
_________
(1) تقدم في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة (23هـ).
(2) أحمد (2/ 296) ومسلم (3/ 477/1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.137).
(4) يوسف الآية (17).
(5) النور الآية (47).(6/97)
عن الأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} (1) أي لم تصدقوا بقلوبكم، ثم القول باللسان إيمان إذا قصد به التعبير عما في القلب، فإن لم يقارنه ذلك لم يكن إيماناً، لأنه حينئذ يكون حكاية لكلام الغير، أو لغوا وعبثا، ولذلك قلنا في اليهودي: إنه إذا لفظ بالشهادتين مع الإكراه، أو قاصدا به الحكاية عن غيره، أنه لا يكون ذلك إيمانا منه لما لم يقارنه تصديق القلب، وكذلك العمل بالجوارح الصادر عن تصديق القلب على ما روي في الحديث، وجاء في الحديث في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (2) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، إلا أن زيادته بالطاعة ونقصانه بالمعصية، لا يبلغ به نقصان ارتفاع بالجملة حتى ينتفي اسمه وحكمه، فيكون حرفه التصديق مقارنا للمعاصي بالجوارح كافرا؛ لأنه يسمى إيمانا لما يشبه التصديق، فلا يجب أن يرتفع بارتفاعه، ونحن نذكر هذا الفصل، وقد توقف مالك رضي الله عنه عن الكلام في نقصانه، وعلى القول الذي يقول: يريد به نقص الكمال دون إحباط الأعمال، لأن ذلك لا يكون إلا بانتفاء التصديق. (3)
- وقال عند قوله [ولا قول ولا عمل إلا بنية]: هذا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) فنفى أن يكون ما لم يخلص له
_________
(1) الحجرات الآية (14).
(2) البقرة الآية (143).
(3) شرح عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني (ص.104 - 105).
(4) البينة الآية (5).(6/98)
عبادة، والإخلاص هو القصد إليه بالفعل، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (1) فأخبر أن العمل موقوف على النية، وأنه يجازى عليه على حسب ما ينوى به، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} (2) فأمر أن لا يلتفت إلى ما يقولونه بألسنتهم إذ في قلوبهم خلافه، فدل على أن المعول على النية دون اللسان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» الحديث (3)، فربط الأعمال بالنيات، ومفهوم هذا أن الانتفاع بالأعمال والاعتداد بها يكون بالنية، وأن النية هي عماد الأعمال ومعلولها، كقولهم: إنما الطائر بجناحيه، وإنما الرعية بإمامها، يريدون: أن ذلك هو عمادها، وكذلك قولهم: إنما الأعمال بخواتيمها، وبين هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وهذا خرج على سبب: وهو أن رجلا خرج إلى المدينة يظهر الهجرة وقصده أن يتزوج امرأة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المجازاة على الأعمال الخالصة وهي مما ينويه الإنسان ويقصد له. (4)
_________
(1) الحج الآية (37).
(2) النساء الآية (63).
(3) انظر تخريجه في مواقف الإمام الشافعي سنة (204هـ).
(4) شرح عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني (ص.105 - 106).(6/99)
موقفه من القدرية:
قال القاضي عند شرحه لقول ابن أبي زيد: والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا. ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (1).
قال القاضي رضي الله عنه: هذا الذي قاله، هو قول أهل السنة وأئمة الحديث، ومذهب السلف الصالح، والأخبار متواترة باللفظ الذي عبر به، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن لصيبه، وأن كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس» (2) وفيه أخبار كثيرة مسندة وموقوفة على الصحابة والتابعين، لولا تعذر جمعها للشغل بالسفر، وضيق الوقت به لذكرنا طرقها واستقصينا جميع ما ورد منها، وقد قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) فعم ولم يخص. وقال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} (4) وقد زعمت القدرية المعتزلة: أن الله تعالى
_________
(1) الملك الآية (14).
(2) سيأتي تخريجه في مواقف ابن رجب الحنبلي سنة (797هـ).
(3) القمر الآية (49).
(4) المرسلات الآية (23).(6/100)
لم يقدر المعاصي ولا الشر، وأن ذلك جار في خلقه وسلطانه بغير قدرة الله ولا بإرادته، فنفوه عن الله، وأثبتوا لأنفسهم تقدير ذلك، والتفرد بملكه والقدرة عليه دون ربهم، حتى قال بعض طواغيتهم: إنه لو كان طفل على حاجز بين الجنة والنار، لما كان الله موصوفا بالقدرة على طرحه إلى الجنة، وإبليس موصوف بالقدرة على طرحه إلى النار، وأن الله لا يوصف بالقدرة على ذلك، وزعموا أن خلاف هذا كفر وشرك، واستوجبوا بذلك هذه التسمية التي أجمع المسلمون على كفر من باد بموجبها، والأخبار متواترة بتكفير القدرية وإخراجهم من الإسلام وإضافتهم إلى أصناف الكفر، وأن جميع ما يتصرف العباد فيه من خير وشر، وطاعة ومعصية بقدر سابق من الله سبحانه وتعالى، وبتكذيب من نفى ذلك وتكفيره، فمن متواتر الأخبار ومستفيضها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «القدرية مجوس هذه الأمة» (1) ...
ثم أطال في شرح كلام المصنف وساق كثيرا من الأدلة على ذلك (2) مقررا بذلك كله منهج السلف في هذا الباب الذي زاغ فيه القدرية عن الصواب، نسأل الله حسن المآب. (3)
- قال ابن أبي زيد القيرواني: [أو يكون لأحد عنه غنى].
قال القاضي رحمه الله معلقا: اعلم أن هذا رد على المعتزلة وغيرهم من المبتدعة في قولهم: إنهم مستطيعون لأفعالهم قبل أن يحدثوها، وقادرون على
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).
(2) من (ص.38) إلى (ص.66).
(3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.38 - 39).(6/101)
إيجادها قبل إيجادها، ومستغنون عن ربهم في حال اختراعهم لها أن يقدرهم عليها، لأنهم لا حاجة لهم في تلك الحال بل هم مستغنون عنه، وهذا هو الضلال الذي لا شبهة فيه والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (1) ويقول: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} (2) وهذا يعم سائر أحوالهم، ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (3) ولم يقل في حال دون حال، ومن جهة العقول: فلأن الأدلة قد دلت على استحالة بقاء الأعراض كلها على اختلاف أجناسها من القدر وغيرها، فلو كانت موجودة قبل الفعل لم يخل أن تبقى إلى أن يفعل الفعل بها، وهذا يوجب ما قد قام الدليل على استحالة مردها لها أو يعدم مثل ذلك، وهذا أيضا محال، لأنه يؤدي إلى أن يوقع الفعل بقدرة معدومة، وذلك باطل. (4)
يحيى بن عمّار (5) (422 هـ)
يحيى بن عمار بن يحيى بن عمار بن العنبس الإمام المحدث الواعظ شيخ سجستان أبو زكريا الشيباني نزيل هراة. حدث عن حامد بن محمد الرفاء
_________
(1) محمد الآية (38).
(2) فاطر الآية (15).
(3) الفاتحة الآية (5).
(4) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.55 - 56).
(5) السير (17/ 481 - 483) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.97 - 99) والعبر (1/ 439) وشذرات الذهب (3/ 226).(6/102)
وعبد الله بن عدي بن حمدويه وأخيه محمد بن عدي وعدة. روى عنه أبو نصر الطبسي، وأبو محمد عبد الواحد الهروي، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد وآخرون. كان متحرقا على المبتدعة والجهمية. وكان فصيحا مفوها حسن الموعظة رأسا في التفسير وكان من كبار المذكرين تحول إلى هراة فعظم بها جدا، وتخرج به أبو إسماعيل الأنصاري. توفي في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. وصلى عليه الإمام عمر بن إبراهيم الزاهد وكانت جنازته مشهودة.
موقفه من الجهمية:
للإمام يحيى رسالة في السنة. نقل منها الحافظ ابن القيم في اجتماع الجيوش ما يتعلق بمسألة الاستواء.
- جاء في اجتماع الجيوش عنه قال في رسالته في السنة بعد كلام: بل نقول: هو بذاته على العرش، وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وهو معنى قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (1) ورسالته موجودة مشهورة. (2)
قلت: لعلنا نظفر بها ونستفيد من علومها.
- جاء في السير: وكان متحرقا على المبتدعة والجهمية بحيث يؤول به ذلك إلى تجاوز طريقة السلف، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، إلا أنه كان له
_________
(1) الحديد الآية (4).
(2) اجتماع الجيوش (ص.254).(6/103)
جلالة عجيبة بهراة وأتباع وأنصار. (1)
- وقال أبو إسماعيل: سمعت يحيى بن عمار يقول: العلوم خمسة، علم هو حياة الدين وهو علم التوحيد، وعلم هو قوت الدين وهو العظة والذكر، وعلم هو دواء الدين وهو الفقه، وعلم هو داء الدين وهو أخبار ما وقع بين السلف، وعلم هو هلاك الدين وهو الكلام. قلت -أي الذهبي-: وعلم الأوائل. (2)
- وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث. (3)
القادر بالله (4) (422 هـ)
الخليفة أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر العباس أبو العباس مولده سنة ست وثلاثين وثلاثمائة كان دينا عالما متعبدا وقورا من جلة الخلفاء وأمثلهم تفقه على أبي بشر أحمد بن محمد الهروي. قال الخطيب: كان من الدين وإدامة التهجد وكثرة الصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد. صنف كتابا في الأصول ذكر فيه فضل الصحابة وإكفار المعتزلة القائلين بخلق القرآن. عاش سبعا وثمانين سنة
_________
(1) السير (17/ 481).
(2) السير (17/ 482).
(3) مجموع الفتاوى (6/ 359).
(4) السير (15/ 127 - 137) والوافي بالوفيات (6/ 229 - 241) وتاريخ بغداد (4/ 37 - 38) والعبر (1/ 438) وشذرات الذهب (3/ 221 - 223).(6/104)
إلا شهرا وثمانية أيام ولم يبلغ أحد من الخلفاء قبله هذا العمر، ولا قام في الخلافة هذه المدة توفي ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
لقد كان هذا الخليفة من خيرة خلفاء بني العباس إذ حمى العقيدة حماية يشكره عليها رب العالمين ويثيبه بجنته إن شاء الله تعالى. فقد طرد الرافضة أعداء الله وأعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونبذ المعتزلة والجهمية والأشاعرة وجميع أهل البدع. ولم يكتف بفعله وأمره، بل كتب اعتقادا قرأه على العلماء والفقهاء، وأخذ عليهم خطوطهم بالموافقة على الاعتقاد حتى يكون رسميا متفقا عليه. وهاك الاعتقاد من المنتظم؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: (أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الفراء قال: أخرج الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين أبو جعفر بن القادر بالله في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة الاعتقاد القادري، الذي ذكره القادر، فقرئ في الديوان وحضر الزهاد والعلماء، وممن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني فكتب خطه تحته قبل أن يكتب الفقهاء، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه أن هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر، وهو: يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل وحده لا شريك له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك، وهو أول لم يزل وآخر لا يزال، قادر على كل شيء غير عاجز عن شيء، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، غني غير محتاج إلى شيء، لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة(6/105)
ولا نوم، يطعم ولا يطعم، لا يستوحش من وحدة ولا يأنس بشيء، وهو الغني عن كل شيء، لا تخلفه الدهور والأزمان وكيف تغيره الدهور والأزمان وهو خالق الدهور والأزمان والليل والنهار والضوء والظلمة والسماوات والأرض وما فيها من أنواع الخلق والبر والبحر وما فيهما وكل شيء حي أو موات أو جماد.
كان ربنا وحده لا شيء معه ولا مكان يحويه فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجته إليه فاستوى عليه كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق. وهو مدبر السموات والأرضين ومدبر ما فيهما ومن في البر والبحر ولا مدبر غيره ولا حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم ويحييهم، والخلق كلهم عاجزون والملائكة والنبيون والمرسلون والخلق كلهم أجمعون، وهو القادر بقدرة والعالم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع بسمع والمبصر ببصر يعرف صفتهما من نفسه لا يبلغ كنههما أحد من خلقه، متكلم بكلام لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين. لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه عليه السلام، وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهي صفة حقيقية لا مجازية. ويعلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق تكلم به تكليما، وأنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - على لسان جبريل بعد ما سمعه جبريل منه، فتلاه جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتلاه محمد على أصحابه، وتلاه أصحابه على الأمة. ولم يصر بتلاوة المخلوقين مخلوقا لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به فهو غير مخلوق، فبكل حال متلوا ومحفوظا ومكتوبا ومسموعا؛ ومن قال إنه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم(6/106)
بعد الاستتابة منه.
ويعلم أن الإيمان قول وعمل ونية، وقول باللسان وعمل بالأركان والجوارح وتصديق به، يزيد وينقص: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو ذو أجزاء وشعب؛ فأرفع أجزائه لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. والإنسان لا يدري كيف هو مكتوب عند الله ولا بماذا يختم له، فلذلك يقول: مؤمن إن شاء الله، وأرجو أن أكون مؤمنا، ولا يضره الاستثناء والرجاء، ولا يكون بهما شاكا ولا مرتابا؛ لأنه يريد بذلك ما هو مغيب عنه عن أمر آخرته وخاتمته. وكل شيء يتقرب به إلى الله تعالى ويعمل لخالص وجهه من أنواع الطاعات فرائضه وسننه وفضائله فهو كله من الإيمان، منسوب إليه. ولا يكون للإيمان نهاية أبدا؛ لأنه لا نهاية للفضائل ولا للمتبوع في الفرائض أبدا.
ويجب أن يحب الصحابة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ونعلم أنهم خير الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن خيرهم كلهم وأفضلهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ويشهد للعشرة بالجنة، ويترحم على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن سب سيدتنا عائشة رضي الله عنها فلا حظ له في الإسلام، ولا يقول في معاوية رضي الله عنه إلا خيرا، ولا يدخل في شيء شجر بينهم، ويترحم على جماعتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا(6/107)
غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (1). وقال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} (2).
ولا يكفر بترك شيء من الفرائض غير الصلاة المكتوبة وحدها؛ فإنه من تركها من غير عذر وهو صحيح فارغ حتى يخرج وقت الأخرى فهو كافر، وإن لم يجحدها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بين العبد والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر» (3)، ولا يزال كافرا حتى يندم ويعيدها؛ فإن مات قبل أن يندم ويعيد أو يضمر أن يعيد لم يصل عليه، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، وسائر الأعمال لا يكفر بتركها وإن كان يفسق حتى يجحدها.
ثم قال: هذا قول أهل السنة والجماعة الذي من تمسك به كان على الحق المبين وعلى منهاج الدين والطريق المستقيم، ورجي به النجاة من النار ودخول الجنة إن شاء الله تعالى. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم» (4)، وقال عليه السلام: «أيما عبد جاءته موعظة من الله تعالى في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها يشكر، وإلا كانت حجة عليه من الله يزداد بها إثما
_________
(1) الحشر الآية (10).
(2) الحجر الآية (47).
(3) مسلم (1/ 88/82) وأبو داود (5/ 58 - 59/ 4678) والترمذي (5/ 14 - 15/ 2620) والنسائي (1/ 251/463) وابن ماجه (1/ 342/1078) من حديث جابر.
(4) تقدم تخريجه ص ضمن مواقف محمد بن نصر المروزي سنة (294هـ).(6/108)
ويزاد بها من الله سخطا» (1). جعلنا الله لآلائه من الشاكرين ولنعمائه ذاكرين وبالسنة معتصمين وغفر لنا ولجميع المسلمين. (2)
التعليق:
من قرأ هذا الاعتقاد علم ما كان عليه هؤلاء الخلفاء في الجمع بين العلم والحكم، ومن أمعن فيه النظر يجده يرد على جميع المبتدعة، بما فيهم المعتزلة والشيعة وغيرهم. ومن أمعن النظر يرى شدة اهتمام هؤلاء الخلفاء بالعقيدة السلفية ولم يكن همهم هو الاشتغال بملذات الحياة وشهواتها، ويرى على الاعتقاد نفس الصالحين العالمين بما يجري في رعاياهم من الدخل. ومن قارن بين الأمس واليوم ومخاطبة الحكام لرعاياهم يجد همهم اليوم هو السعي في تثبيت الحاكم نفسه في نفوس رعيته. وأما الأمس فترى الحاكم يثبت عقيدته في نفس رعيته، لا كلام في معيشة ولا في غيرها مما يعد إغراء فقط للرعية، إلا من شاء الله، فليكن البصير بهذا على بينة.
استتابته لأهل البدع:
جاء في أصول الاعتقاد: قال الشيخ أبو القاسم الطبري الحافظ رحمه الله: واستتاب أمير المؤمنين القادر بالله -حرس الله مهجته وأمد بالتوفيق أموره ووفقه من القول والعمل بما يرضي مليكه- فقهاء المعتزلة الحنفية في
_________
(1) أبو نعيم في الحلية (6/ 136) والبيهقي في الشعب (6/ 29/7410) من حديث عطية بن بشر وقال العراقي في تخريج الأحياء (3/ 1368): "رواه ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء وفيه أحمد بن عبيد بن ناصح"، وعزاه الألباني لابن عساكر عن عطية بن قيس وقال: "ضعيف". ضعيف الجامع (2245).
(2) المنتظم (15/ 279 - 282).(6/109)
سنة ثمان وأربعمائة فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال.
ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام والسنة، وأخذ خطوطهم بذلك وأنهم مهما خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم.
وامتثل يمين الدولة وأمين الملة: أبو القاسم محمود أعز الله نصرته أمر أمير المؤمنين القادر بالله، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفيهم، والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم.
وصار ذلك سنة في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين في الآفاق. وجرى ذلك على يدي الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد رحمه الله، في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة تمم الله ذلك وثبته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (1)
التعليق:
إن قراءة مثل هذه المواقف تسلي السلفي وتفرج ما به من غموم وحزن على ما نحن فيه من بدع ومبتدعة ملئت بهم الأرض. فلعل الله ييسر للمسلمين مثل هذا الخليفة العادل يزيل عنهم الضيم ويرجع المسلمين إلى صدرهم الأول عقيدة نقية وعبادة سنية، وسلوكا نبويا يجلب الراحة والاطمئنان.
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 799 - 800/ 1333).(6/110)
موقفه من الرافضة:
كان أمير المؤمنين من أكبر الخلفاء الرافضين للرفض كيفما كان شكله ونوعه، ولم يفرق بين الغالية والمتساهلة، ولكن الرفض المطلق. انظر إلى فعلته بكتاب الداعي الذي أرسله الحاكم الرافضي:
- جاء في السير: وبعث ابن سبكتكين إلى القادر بأنه ورد إليه الداعي من الحاكم يدعوه إلى طاعته فخرق كتابه وبصق عليه. (1)
- وفيها: وفي هذا الوقت انبثت دعاة الحاكم في الأطراف، فأمر القادر بعمل محضر يتضمن القدح في نسب العبيدية، وأنهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرمي، فشهدوا جميعا أن الناجم بمصر منصور بن نزار الحاكم حكم الله عليه بالبوار، وأن جدهم لما صار إلى الغرب تسمى بالمهدي عبيد الله، وهو وسلفه أرجاس أنجاس خوارج أدعياء، وأنتم تعلمون أن أحدا من الطالبيين لم يتوقف عن إطلاق القول بأنهم أدعياء، وأن هذا الناجم وسلفه كفار زنادقة، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. (2)
- وفيها: واستتاب القادر فقهاء المعتزلة، فتبرؤا من الاعتزال والرفض، وأخذت خطوطهم بذلك. (3)
- وفيها: وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر، فبث السنة بممالكه، وتهدد
_________
(1) السير (15/ 133).
(2) السير (15/ 132).
(3) السير (15/ 134).(6/111)
بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة، والمشبهة والجهمية والمعتزلة. ولعنوا على المنابر. (1)
التعليق:
ولم يكتف القادر بالله بعمله الشخصي مع الروافض أعداء الله، بل جمع لذلك أهل العلم المعتبرين في ذلك الوقت، وما يزال هؤلاء العلماء هم العمدة كل واحد في فنه وتخصصه، فجزاه الله وجزاهم خيرا على هذا الميراث الدائم الذي سيثابون عليه إن شاء الله، تقبل الله منه ومنهم.
- جاء في المنتظم: وفي هذا الشهر كتب في ديوان الخلافة محاضر في معنى الذين بمصر والقدح في أنسابهم ومذاهبهم، وكانت نسخة ما قرئ منها ببغداد وأخذت فيه خطوط الأشراف والقضاة والفقهاء والصالحين والمعدلين والثقات والأماثل بما عندهم من العلم والمعرفة بنسب الديصانية وهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرمي، أحزاب الكافرين ونطف الشياطين شهادة متقرب إلى الله جلت عظمته وممتعض للدين والإسلام ومعتقد إظهار ما أوجب الله تعالى على العلماء أن يبينوه للناس ولا يكتمونه، شهدوا جميعا أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم حكم الله عليه بالبوار والدمار والخزي والنكال والاستئصال بن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد لا أسعده الله، فإنه لما صار إلى الغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي ومن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس عليه وعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين،
_________
(1) السير (15/ 135).(6/112)
أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب ولا يتعلقون منه بسبب، وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه من الانتساب إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أن أحدا من أهل بيوتات الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم أدعياء، وقد كان هذا الانكار لباطلهم ودعواهم شائعا بالحرمين، وفي أول أمرهم بالغرب منتشرا انتشارا يمنع من أن يتدلس على أحد كذبهم أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار ملحدون زنادقة معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. وكتب في ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعمائة.
وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير من العلويين: المرتضى والرضي وابن الأزرق الموسوي وأبو طاهر بن أبي الطيب ومحمد بن محمد بن عمر وابن أبي يعلى ومن القضاة: أبو محمد بن الأكفاني وأبو القاسم الخرزي وأبو العباس السوري. ومن الفقهاء أبو حامد الاسفراييني وأبو محمد الكشفلي وأبو الحسين القدوري وأبو عبد الله الصيمري وأبو عبد الله البيضاوي وأبو علي بن حمكان ومن الشهداء: أبو القاسم التنوخي وقرئ بالبصرة وكتب فيه خلق كثير. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال الذهبي في سيره: وصنف كتابا في الأصول، ذكر فيه فضل الصحابة، وإكفار من قال: بخلق القرآن. وكان ذلك الكتاب يقرأ في كل
_________
(1) المنتظم (15/ 82 - 83).(6/113)
جمعة في حلقة أصحاب الحديث، ويحضره الناس مدة خلافته، وهي إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر. (1)
- وقال: واستتاب القادر فقهاء المعتزلة، فتبرؤوا من الاعتزال والرفض، وأخذت خطوطهم بذلك. (2)
- وقال: وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر، فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة، والمشبهة والجهمية والمعتزلة. ولعنوا على المنابر. (3)
الفَشِيدَيْزَجي (4) (424 هـ)
الحسين بن الخضر بن محمد البخاري أبو علي قاضي بخارى نعمان زمانه، انتهت إليه إمامة أهل الرأي وقد قدم بغداد وتفقه وناظر وسمع من أبي الفضل الزهري وسمع ببخارى من أبي عمرو محمد بن محمد بن صابر. وانتشر له التلامذة وآخر من حدث عنه سبطه علي بن محمد البخاري. ولأبي علي سماع من ابن شبويه وجعفر بن فناكي. توفي في شعبان سنة أربع وعشرين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قيل: ناظره الشريف المرتضى الشيعي في خبر: ما تركنا
_________
(1) السير (15/ 128).
(2) السير (15/ 134).
(3) السير (15/ 135).
(4) السير (17/ 424 - 426) والوافي بالوفيات (12/ 361) والعبر (1/ 441) والأنساب (4/ 387 - 388) وشذرات الذهب (3/ 227).(6/114)
صدقة. فقال للمرتضى: إذا صيرت "ما" نافية، خلا الحديث من فائدة، فكل أحد يدري أن الميت يرثه أقرباؤه، ولا تكون تركته صدقة. ولكن لما كان المصطفى بخلاف الأمة، بين ذلك، وقال: «ما تركناه صدقة» (1).اهـ (2)
المنيني (3) (426 هـ)
محمد بن رزق الله بن عبيد الله المنيني الأسود أبو بكر الإمام المقرئ خطيب منين، سمع علي بن أبي العقب وأبا عبد الله محمد بن إبراهيم والحسين ابن أحمد بن أبي ثابت وأبا علي بن آدم. وروى عنه أبو الوليد الدربندي وعبد العزيز الكتاني وأبو القاسم بن أبي العلاء وآخرون. وكان المنيني يحفظ القرآن بأحرف. قال الحافظ الدربندي: كان من ثقات المسلمين. مات سنة ست وعشرين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
قال الدربندي: لم يكن في جميع الشام من يكنى بأبي بكر غيره، وكان ثقة. قال الذهبي: وكذا لم يكن يوجد بمصر منذ تملك بنو عبيد أحد يكنى بأبي بكر، وكانت الدنيا تغلي بهم رفضا وجهلا. (4)
_________
(1) أحمد (1/ 25) والبخاري (9/ 627/5358) ومسلم (3/ 1377/1757 (49)) وأبو داود (3/ 365 - 366/ 2963) والترمذي (4/ 135 - 136/ 1610) والنسائي (7/ 153 - 154/ 4159) من طرق عن مالك بن أوس رضي الله عنه.
(2) السير (17/ 425).
(3) السير (17/ 452 - 453) والوافي بالوفيات (3/ 70) والعبر (1/ 443) والأنساب (5/ 401) وشذرات الذهب (3/ 230).
(4) السير (17/ 453).(6/115)
الظاهر لإعزاز دين الله العبيدي الرافضي الخبيث الدعي (427 هـ)
في ولاية هذا الخبيث حاول بعض العبيديين تهديم البيت.
- جاء في السير: قال المحدث محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي الكوفي: في سنة ثلاث عشرة لما صليت الجمعة والركب بعد بمنى، قام رجل، فضرب الحجر الأسود بدبوس ثلاثا، وقال: إلى متى يعبد الحجر فيمنعني محمد مما أفعله؟ فإني اليوم أهدم هذا البيت، فاتقاه الناس، وكاد يفلت، وكان أشقر، أحمر، جسيما، تام القامة، وكان على باب المسجد عشرة فرسان على أن ينصروه. فاحتسب رجل، فوجأه بخنجر، وتكاثروا عليه، فأحرق، وقتل جماعة من أصحابه وثارت الفتنة، فقتل نحو العشرين، ونهب المصريون وقيل: أخذ أربعة من أصحابه، فأقروا بأنهم مائة تبايعوا على ذلك، فضربت أعناق الأربعة، وتهشم وجه الحجر. وتساقط منه شظايا. وخرج مكسره أسمر إلى صفرة. (1)
موقف السلف من ابن سينا الفيلسوف وضلاله (428 هـ)
- قال الذهبي: قد سقت في 'تاريخ الإسلام' أشياء اختصرتها، وهو رأس الفلاسفة الإسلامية، لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة. وله كتاب 'الشفاء' وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في
_________
(1) السير (15/ 185 - 186) وهو في المنتظم لابن الجوزي (15/ 154) بسياق أتم.(6/116)
كتاب 'المنقذ من الضلال' وكفر الفارابي. (1)
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ضلال ابن سينا: وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض ...
والمقصود هنا: أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة: كأرسطو وأتباعه، فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه ...
وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه. ومما أحدثه: مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود ونحو ذلك. (2)
_________
(1) السير (17/ 535).
(2) مجموع الفتاوى (9/ 133 - 135) باختصار.(6/117)
- وقال: والمعنى الثالث، الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله، قالوا: نقول العالم محدث، أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته، فلم يزل معها، وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره: الحدوث الزماني. والتعبير بلفظ "الحدوث" عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات، لا العرب ولا غيرهم، إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى. والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة، ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة على هذا القول، وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس.
وهذا القول، إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين، كابن سينا وأمثاله. وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه: أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه، ويقولون: إنه محدث، ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلا موجبا له بذاته، وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها، ثم جاء الذين أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أولى لغيرها، كما جعلها الفارابي وغيره، ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة، لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق، وإن كان لا شعور له ولا قصد، وجعلوه مدبرا بهذا الاعتبار -كما فعل ابن رشد وابن سينا- جعلوه موجبا بالذات لما سواه، وجعلوا ما سواه ممكنا. (1)
- وقال: وهذه الطرق التي أخذها ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة
_________
(1) درء التعارض (1/ 126 - 127).(6/118)
ونحوهم، وخلطها بكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين. وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية.
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعالي فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} (1). ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن، مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك، كما صنفه الرازي وغيره في ذلك. (2)
- وقال: وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كالإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيدا، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم. ولكن قوله في قدم العالم
_________
(1) المائدة الآية (54).
(2) درء التعارض (8/ 239).(6/119)
أفسد من قولهم، ويمكن إظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم. فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم. وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب؛ فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد. وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه. وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه. ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد، وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا. ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء. (1)
- وقال: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد: التوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب
_________
(1) درء التعارض (8/ 241 - 243).(6/120)
لشيء من الممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم إخراج الحوادث كلها عن فعله. وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه: وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا. وهذا النفي الذي سموه توحيدا، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول. (1)
- وقال: وحدثني غير مرة رجل، وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين، أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي، وهو من أكابر أهل الكلام والنظر، دروسا من 'المحصل' لابن الخطيب، وأشياء من 'إشارات' ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير. وكان له نور وهدى، ورؤيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك. و'إشارات' ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا، بخلاف 'المحصل' يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود. قال فكتبت عليه:
محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله أصل بلا دين
أصل الضلالات والشك المبين فما ... فيه فأكثره وحي الشياطين
_________
(1) درء التعارض (8/ 246 - 247).(6/121)
قلت: وقد سئلت أن أكتب على 'المحصل' ما يعرف به الحق فيما ذكره، فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه.
وكذلك تكلمت على ما في 'الإشارات' في مواضع أخر. (1)
الحسن بن شهاب أبو علي العُكْبُرِي (2) (428 هـ)
الحسن بن شهاب بن الحسن بن علي، أبو علي العكبري الحنبلي. مولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. سمع من أبي علي بن الصواف، وأبي بكر ابن خلاد وأبي بكر القطيعي وغيرهم. وسمع منه أبو بكر الخطيب، وعيسى ابن أحمد الهمداني. شيخ جليل معمر طلب الحديث وهو كبير وكان يضرب المثل بحسن كتابته. برع في المذهب، وكان من أئمة الفقه والعربية والشعر. وثقه أبو بكر البرقاني. مات ابن شهاب في رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
قال ابن أبي يعلى في الطبقات: قرأت بخط أبي القاسم قال: سمعت أبا الحسن الزاهد يقول: سمعت أبا علي ابن شهاب يقول: أقام أخي أبو الخطاب معي في الدار عشرين سنة ما كلمته. وأشار إلى أنه ينسب إلى الرفض. (3)
_________
(1) المنهاج (5/ 433 - 434).
(2) تاريخ بغداد (7/ 329 - 330) وطبقات الحنابلة (2/ 186 - 187) والسير (17/ 542 - 543) والوافي بالوفيات (12/ 55) والبداية والنهاية (12/ 43 - 44).
(3) طبقات الحنابلة (2/ 187).(6/122)
أبو علي بن أبي موسى الهاشمي (1) (428 هـ)
محمد بن أحمد بن أبي موسى الشريف أبو علي الهاشمي البغدادي. مولده في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. سمع محمد بن المظفر وأبا الحسين بن سمعون وغيرهما، وسمع منه أبو بكر الخطيب والقاضي أبو يعلى بن الفراء وتفقه به، وأبو الحسين بن الطيوري وآخرون. كان سامي الذكر، شيخ الحنابلة عديم النظير، صاحب التصانيف المذكورة، له وجاهة عند الخليفتين القادر والقائم، صنف الإرشاد في المذهب، كانت حلقته بجامع المنصور، يفتي ويشهد. مات في يوم الأحد الثالث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
قال شيخ الإسلام: قال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في 'الإرشاد' وهو ممن يعتمد نقله: ومن سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل ولم يستتب، ومن سبه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمة قتل وإن أسلم. (2)
موقفه من الرافضة:
قال ابن أبي موسى: ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج، ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين،
_________
(1) تاريخ بغداد (1/ 354) وطبقات الحنابلة (2/ 182 - 186) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.240) والوافي بالوفيات (2/ 63 - 64) والبداية (11/ 44).
(2) الصارم (310).(6/123)
ولم ينعقد له نكاح على مسلمة، إلا أن يتوب ويظهر توبته. (1)
موقفه من الجهمية:
عقيدته السلفية:
جاء في طبقات الحنابلة: عنه قال: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب الديانات: حقيقة الإيمان عند أهل الأديان: الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان: أن الله تعالى واحد أحد فرد صمد لا يغيره الأبد ليس له والد ولا ولد وأنه سميع بصير بديع قدير حكيم خبير علي كبير ولي نصير قوي مجير، ليس له شبيه ولا نظير ولا عون ولا ظهير ولا شريك ولا وزير ولا ند ولا مشير، سبق الأشياء فهو قديم لا كقدمها، وعلم كون وجودها في نهاية عدمها، لم تملكه الخواطر فتكيفه ولم تدركه الأبصار فتصفه، ولم يخل من علمه مكان فيقع به التأيين ولم يقدمه زمان فينطلق عليه التأوين، ولم يتقدمه دهر ولا حين ولا كان قبله كون ولا تكوين. ولا تجرى ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال ولا يدخل في الأمثال والأشكال صفاته كذاته ليس بجسم في صفاته جل أن يشبه بمبتدعاته أو يضاف إلى مصنوعاته {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2)، أراد ما الخلق فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو أراد أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم. لا سمي له في أرضه وسمواته، على
_________
(1) الصارم (571).
(2) الشورى الآية (11).(6/124)
العرش استوى وعلى الملك احتوى وعلمه محيط بالأشياء. كذلك سئل الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه عن قوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) فقال: علمه.
والقرآن كلام الله تعالى وصفة من صفات ذاته غير مخلوق ولا محدث كلام رب العالمين في صدور الحافظين وعلى ألسن الناطقين وفي أسماع السامعين وأكف الكاتبين وملاحظة الناظرين، برهانه ظاهر وحكمه قاهر ومعجزه باهر، وأن الله عز وجل كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما وأنه خلق النفوس وسواها وألهمها فجورها وتقواها.
والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن مع كل عبد رقيبا وعتيدا وحفيظا وشهيدا يكتبان حسناته ويحصيان سيآته وأن كل مؤمن وكافر وبر وفاجر، يعاين عمله عند حضور منيته ويعلم مصيره قبل ميتته. وأن منكرا ونكيرا إلى كل أحد ينزلان -سوى النبيين- فيسألان ويمتحنان عما يعتقده من الأديان. وأن المؤمن يخبر في قبره بالنعيم والكافر يعذب بالعذاب الأليم، وأنه لا محيص لمخلوق من القدر المقدور ولن يتجاوز ما خط في اللوح المسطور وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأنه جل اسمه يعيد خلقهم كما بدأهم ويحشرهم كما ابتدأهم من صفائح القبور وبطون الحيتان في تخوم البحور وأجواف السباع وحواصل النسور. وأن الله
_________
(1) المجادلة الآية (7).(6/125)
تعالى يتجلى في القيامة لعباده الأبرار فيرونه بالعيون والأبصار وأنه يخرج أقواما من النار فيسكنهم الجنة دار القرار، وأنه يقبل شفاعة محمد المختار في أهل الكبائر والأوزار. وأن الميزان حق، توضع فيه أعمال العباد فمن ثقلت موازينه نجا من النار ومن خفت موازينه أدخل جهنم وبئس القرار. وأن الصراط حق يجوزه الأبرار، وأن حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق يرده المؤمنون ويذاذ عنه الكفار. وأن الإيمان غير مخلوق فهو قول وإخلاص بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأمته خير الأمم أجمعين وأفضلهم: القرن الذين شاهدوه وآمنوا به وصدقوه وأفضل القرن الذي صحبوه: أربع عشرة مائة بايعوه بيعة الرضوان وأفضلهم: أهل بدر إذ نصروه وأفضلهم: أربعون في الدار كنفوه وأفضلهم: عشرة عزروه ووقروه شهد لهم بالجنة وقبض وهو عنهم راض وأفضل هؤلاء العشرة الأبرار: الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة الأخيار، وأفضل الأربعة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليهم السلام وأفضل القرون القرن الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يتبعونهم.
وأن نتولى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بأسرهم، ولا نبحث عن اختلافهم في أمرهم ونمسك عن الخوض في ذكرهم إلا بإحسان الذكر لهم. وأن نتولى أهل القبلة ممن ولي حرب المسلمين على ما كان فيهم من علي وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية رضوان الله عليهم ولا ندخل فيما شجر بينهم اتباعا لقول رب العالمين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ(6/126)
لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (1). (2)
الإمام الكبير أبو عمر الطَّلْمَنْكِي (3) (429 هـ)
أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي عيسى لب بن يحيى، المحدث، الحافظ، الأثري، المعافري الأندلسي الطلمنكي، نزيل قرطبة، وطلمنكة مدينة بالأندلس. حدث عن أبي بكر الزبيدي، وأبي الحسن الأنطاكي وأبي محمد الباجي وأبي عيسى الليثي وابن أبي زيد وعدة. وأخذ القراءة عن الأنطاكي وابن غلبون ومحمد بن الحسين بن النعمان. وحدث عنه أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وعبد الله بن سهل المقرئ وعدة.
قال ابن بشكوال: كان سيفا مجردا على أهل الأهواء والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله، أقرأ الناس محتسبا، وأسمع الحديث، والتزم للإمامة بمسجد منعة، ثم خرج، وتحول في الثغر، وانتفع الناس بعلمه، وقصد بلده في آخر عمره، فتوفي بها. أدخل الأندلس علما جما نافعا، وكان عجبا في حفظ علوم القرآن، قراآته ولغته وإعرابه وأحكامه ومنسوخه ومعانيه.
_________
(1) الحشر الآية (10).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 183 - 185).
(3) السير (17/ 566 - 569) والوافي بالوفيات (8/ 32 - 33) وتذكرة الحفاظ (3/ 1098 - 1100) وشذرات الذهب (3/ 243 - 244)(6/127)
توفي في ذي الحجة، سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
كان هذا الإمام سيفا مسلولا على أهل البدع، وبارك الله له في العمر فعمر، وترك آثارا سلفية، وكتب الله له الذكر الحسن على ألسنة الموحدين، أما المبتدعة فكلامهم فيه يرفع الله به الدرجات هو وأمثاله ممن سلوا سيوفهم القلمية والكلامية ضد المبتدعة.
قال عنه ابن بشكوال: كان سيفا مجردا على أهل الأهواء والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله، أقرأ الناس محتسبا، وأسمع الحديث، والتزم للإمامة لمسجد منعة. (1)
وقول الإمام الذهبي: عاش تسعين عاما سوى أشهر وقد امتحن لفرط إنكاره، وقام عليه طائفة من أضداده، وشهدوا عليه بأنه حروري يرى وضع السيف في صالحي المسلمين، وكان الشهود عليه خمسة عشر فقيها، فنصره قاضي سرقسطة في سنة خمس وعشرين وأربعمائة وأشهد على نفسه بإسقاط الشهود وهو القاضي محمد بن عبد الله بن قرنون. (2)
آثاره السلفية:
1 - 'الوصول إلى معرفة الأصول'. ذكره غير واحد وذكره شيخ الإسلام في الدرء. (3)
_________
(1) الصلة (1/ 45) وتذكرة الحفاظ (3/ 1099).
(2) السير (17/ 568).
(3) (6/ 250).(6/128)
2 - 'كتاب السنة'. ذكره الذهبي في السير وقال: رآه في مجلدين وقال عامته جيد وفي بعض تبويبه ما لا يوافق عليه أبدا مثل باب الجنب لله، وذكر فيه {يَا حَسْرَتَا على مَا فَرَّطْتُ فِي جنب اللَّهِ} (1) فهذه زلة عالم.
هذا إذا لم يكن كتابه هذا هو 'الوصول' وإلا فهما كتابان. (2)
3 - 'الرد على الباطنية'. ذكره الذهبي وذكر جملة منه قال: ومنهم قوم تعبدوا بغير علم، وزعموا أنهم يرون الجنة كل ليلة، ويأكلون من ثمارها، وتنزل عليهم الحور العين، وأنهم يلوذون بالعرش، ويرون الله بغير واسطة، ويجالسونه. (3)
موقفه من الجهمية:
قال الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي، أحد أئمة وقته بالأندلس، في كتاب 'الوصول إلى معرفة الأصول' قال: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (4) ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء.
وقال أيضا: قال أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (5) أن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز. (6)
_________
(1) الزمر الآية (56).
(2) (17/ 569).
(3) السير (17/ 569).
(4) الحديد الآية (4).
(5) طه الآية (5).
(6) درء التعارض (6/ 250) ومجموع الفتاوى (3/ 219 - 220).(6/129)
أبو نعيم الأصبهاني (1) (430 هـ)
أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران، الحافظ، العلامة، أبو نعيم الأصبهاني، أحد الأعلام. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. سمع من أبي أحمد العسال وأبي القاسم الطبراني وأبي بكر القطيعي وأبي أحمد الحاكم وأبي بكر الآجري، وخلق كثير. وروى عنه أبو بكر الخطيب وأبو سعد الماليني، وأبو بكر بن أبي علي الهمداني، وأبو علي الوخشي، وعدة.
قال أبو محمد السمرقندي: سمعت أبا بكر الخطيب يقول: لم أر أحدا أطلق عليه اسم الحفظ غير رجلين، أبو نعيم الأصبهاني وأبو حازم العبدويي.
وقال أحمد ابن محمد بن مردويه: كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه. ولم يكن في أفق من الآفاق أسند ولا أحفظ منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، فكان كل يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريده إلى قريب الظهر، فإذا قام إلى داره، ربما كان يقرأ عليه في الطريق جزء، وكان لا يضجر.
وقال حمزة بن العباس العلوي: كان أصحاب الحديث يقولون: بقي أبو نعيم أربع عشرة سنة بلا نظير، لا يوجد شرقا ولا غربا أعلى منه إسنادا ولا أحفظ منه.
توفي في العشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة وله أربع وتسعون سنة.
_________
(1) معجم المؤلفين (1/ 282) والسير (17/ 453 - 464) والكامل في التاريخ (9/ 466) ووفيات الأعيان (1/ 91 - 92) وتذكرة الحفاظ (3/ 1092 - 1098) والوافي بالوفيات (7/ 81 - 84) والبداية والنهاية (2/ 48 - 49) ولسان الميزان (1/ 201) وشذرات الذهب (3/ 245).(6/130)
موقفه من المبتدعة:
قال أبو نعيم عقب حديث: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلاة علي» (1):
وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها. لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا. (2)
_________
(1) أخرجه: ابن أبي شيبة في مسنده (1/ 207 - 208/ 306) في المصنف (6/ 325/31788) ومن طريقه أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 177) وأبو يعلى (8/ 427 - 428/ 5011) وابن حبان (3/ 192/911) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (رقم 63) وأخرجه الطبراني (10/ 17 - 18/ 9800) والبزار (البحر الزخار 4/ 278/1446) كلهم من طريق خالد بن مخلد نا موسى بن يعقوب الزمعي قال أخبرني عبد الله بن كيسان قال أخبرني عبد الله بن شداد بن الهاد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود به. وفي إسناده عبد الله بن كيسان، قال فيه ابن القطان (الوهم والإيهام 3/ 613/1422): "وعبد الله بن كيسان لا تعرف حاله، ولا يعرف روى عنه إلا موسى بن يعقوب الزمعي وقال ابن حجر في التقريب: مقبول، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا".
قال الألباني في تخريج المشكاة (1/ 291): "وإسناده ضعيف، فيه عبد الله بن كيسان، لم يوثقه غير ابن حبان. وموسى بن يعقوب اختلف فيه، فضعفه ابن المديني"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال أحمد: "لا يعجبني حديثه" وقال الدارقطني في العلل (5/ 113): "والاضطراب فيه من موسى بن يعقوب ولا يحتج به". وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق سيء الحفظ".
قلت: وقد وقع الاختلاف في إسناده.
فرواه الترمذي (2/ 354/484) وقال: "حسن غريب"، والبخاري في التاريخ الكبير (5/ 177) والبغوي في شرح السنة (3/ 196 - 197/ 686) والبزار (البحر الزخار 5/ 190/1789). لم يذكروا الواسطة بين عبد الله بن شداد وبين عبد الله بن مسعود، وقد بين هذا الاختلاف الدارقطني في العلل (5/ 111 - 113). وهناك اختلاف آخر في إسناده، فقد ذكر البخاري في تاريخه (5/ 177) إسنادين آخرين: الأول: من طريق موسى عن عبد الله بن كيسان عن عتبة بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود به. الثاني: من طريق قاسم بن أبي زياد عن عبد الله بن كيسان عن سعيد بن أبي سعيد عن عتبة بن مسعود أو عبد الله بن مسعود به، ولذلك حكم عليه الدارقطني في العلل بالاضطراب.
(2) شرف أصحاب الحديث (35).(6/131)
موقفه من الجهمية:
كان هذا الإمام سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات، يتبين ذلك من عقيدته التي ألفها، وقد نقل منها شيخ الإسلام في الدرء والفتاوى، وكذلك الحافظ ابن القيم والحافظ الذهبي في العلو.
وأما التصوف فكان صوفيا حتى إنه ألف كتابه المشهور المسمى 'الحلية' وذكر فيه جملة من السلف هم بريئون مما عمل. وإليك نموذجا من عقيدته.
- جاء في مختصر العلو: طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومما اعتقدوه: أن الله لم يزل كاملا بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول، لم يزل عالما بعلم بصيرا ببصر سميعا بسمع متكلما بكلام، ثم أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله وكذلك سائر كتبه المنزلة. كلامه غير مخلوق وأن القرآن في جميع الجهات مقروءا ومتلوا ومحفوظا ومسموعا ومكتوبا وملفوظا كلام الله حقيقة، لا حكاية ولا ترجمة وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق وأن الواقفة واللفظية من الجهمية وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية وأن الجهمي عندهم كافر إلى أن قال: وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه. (1)
- وقال أبو طاهر السلفي: سمعت أبا العلاء محمد بن عبد الجبار
_________
(1) مختصر العلو (ص.261) ومجموع الفتاوى (5/ 60).(6/132)
الفرساني يقول: حضرت مجلس أبي بكر بن أبي علي الذكواني المعدل في صغري مع أبي، فلما فرغ من إملائه، قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم، فليقم. وكان أبو نعيم في ذلك الوقت مهجورا بسبب المذهب، وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة، وقيل وقال، وصداع طويل، فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام، وكاد الرجل يقتل. قلت -أي الذهبي-: ما هؤلاء بأصحاب الحديث، بل فجرة جهلة، أبعد الله شرهم. (1)
قلت: وأما التصوف فيؤيد ما ذكرناه ما قاله الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية. وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة، ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسادات الصحابة رضي الله عنهم. فذكر عنهم فيه العجب، وذكر منهم شريحا القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل. (2)
أبو عمران الفاسي (3) (430 هـ)
موسى بن عيسى بن أبي حاج واسمه يحج الإمام أبو عمران الفاسي الدار البربري الفقيه المالكي نزيل القيروان ولد هو وابن عبد البر في عام واحد سنة ثمان وستين وثلاثمائة. سمع من عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر
_________
(1) السير (17/ 459).
(2) التلبيس (ص.204).
(3) ترتيب المدارك (2/ 280 - 283) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.299 - 301) والسير (17/ 545 - 548).(6/133)
وأحمد ابن القاسم التاهرتي، وتفقه بأبي الحسن القابسي وهو أكبر تلامذته، تخرج بهذا الإمام خلق من الفقهاء والعلماء.
كان أبو عمران من أعلم الناس وأحفظهم جمع الفقه إلى الحديث ومعرفة معانيه. وكان يقرأ القراءات ويجودها مع معرفته بالرجال والجرح والتعديل. وقال ابن بشكوال: أقرأ الناس مدة بالقيروان، ثم ترك الإقراء ودرس الفقه وروى الحديث.
توفي رحمه الله في ثالث عشر رمضان من سنة ثلاثين وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: وحكى القاضي عياض قال: حدث في القيروان مسألة في الكفار، هل يعرفون الله تعالى أم لا؟ فوقع فيها اختلاف العلماء، ووقعت في ألسنة العامة، وكثر المراء، واقتتلوا في الأسواق إلى أن ذهبوا إلى أبي عمران الفاسي، فقال: إن أنصتم، علمتكم. قالوا: نعم. قال: لا يكلمني إلا رجل، ويسمع الباقون. فنصبوا واحدا، فقال له: أرأيت لو لقيت رجلا، فقلت له: أتعرف أبا عمران الفاسي؟ قال: نعم. فقلت له: صفه لي. قال: هو بقال في سوق كذا، ويسكن سبتة، أكان يعرفني؟ فقال: لا. فقال: لو لقيت آخر فسألته كما سألت الأول، فقال: أعرفه، يدرس العلم، ويفتي، ويسكن بغرب الشماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: فكذلك الكافر قال: لربه صاحبة وولد، وأنه جسم، فلم يعرف الله ولا وصفه بصفته بخلاف المؤمن. فقالوا: شفيتنا. ودعوا له، ولم يخوضوا بَعْدُ في المسألة. (1)
_________
(1) السير (17/ 546 - 547).(6/134)
جعفر المُسْتَغْفِرِي (1) (432 هـ)
أبو العباس، جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر بن الفتح النسفي، الإمام، الحافظ، العلامة، صاحب التصانيف الكثيرة، كان مولده بعد الخمسين والثلاثمائة بيسير. حدث عن زاهر بن أحمد السرخسي، وإبراهيم بن لقمان، وأبي سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الرازي، وخلق كثير. وحدث عنه الحسن بن عبد الملك النسفي، والحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ، وآخرون. وكان محدث ما وراء النهر في زمانه. مات بنسف سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة عن ثمانين سنة، رحمه الله.
موقفه من الجهمية:
جاء في الأنساب للسمعاني: عنه قال: لا أستجيز الرواية عنه، لأنه كان داعية إلى الاعتزال -يريد شيخ المعتزلة عبد الله بن أحمد الكعبي-. (2)
موقف السلف من أبي ذر الهروي (434 هـ)
دخول علم الكلام إلى بلاد المغرب والأندلس:
قدمنا غير ما مرة أن العقيدة السلفية هي عقيدة الصدر الأول، ولا يعرفون غيرها لأنها هي المتلقاة عن صاحب الشرع. ولذا كانت البلاد التي
_________
(1) السير (17/ 564 - 565) وتذكرة الحفاظ (3/ 1102 - 1103) والوافي بالوفيات (11/ 149 - 150) وشذرات الذهب (3/ 249 - 250) ومعجم المؤلفين (3/ 150) وكشف الظنون (1/ 296 - 308).
(2) الأنساب (1/ 444).(6/135)
يفتحونها أو يدخلونها ويسلم أهلها لا ينشر فيها إلا العقيدة السلفية. ولكن بعد دخول طاغوت الكلام الذي عكر الجو، وأفسده وجد له دعاة ينشرونه في البلاد التي كانت لا تعرف إلا العقيدة السلفية. وبلاد المغرب والأندلس من البلاد التي فتحها الصدر الأول ونشر فيها عقيدة السلف.
- يقول المؤرخ الكبير الذهبي في كتاب السير في ترجمة أبي ذر الهروي: أخذ الكلام ورأي أبي الحسن عن القاضي أبي بكر بن الطيب، وبث ذلك بمكة، وحمله عنه المغاربة إلى المغرب والأندلس، وقبل ذلك كانت علماء المغرب لا يدخلون في الكلام؛ بل يتقنون الفقه أو الحديث أو العربية، ولا يخوضون في المعقولات وعلى ذلك كان الأصيلي وأبو الوليد بن الفرضي وأبو عمر الطلمنكي ومكي القيسي وأبو عمرو الداني وأبو عمر بن عبد البر والعلماء. (1)
قلت: وهذا ما يؤكده المؤرخ المغربي الكبير؛ أبو العباس أحمد الناصري في كتاب الاستقصا وهو يتحدث عن حال أهل المغرب قال: وأما حالهم في الأصول والاعتقادات، فبعد أن طهرهم الله تعالى من نزعة الخارجية أولا والرافضية ثانيا، أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة مقلدين للجمهور من السلف -يعني متبعون لهم- رضي الله عنهم في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل مع التنزيه عن الظاهر، وهو والله أحسن المذاهب وأسلمها ولله در القائل:
_________
(1) السير (17/ 557).(6/136)
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ... ولا ذاته شيء، عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها ... وأخبارها للظاهر المتقارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ... وتأويلنا، فعل اللبيب المراقب
ونركب للتسليم سفنا، فإنها ... لتسليم دين المرء خير المراكب
واستمر الحال على ذلك مدة إلى أن ظهر محمد بن تومرت مهدي الموحدين في صدر المائة السادسة فرحل إلى المشرق وأخذ عن علمائه مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ومتأخري أصحابه من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من الكتاب والسنة، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغتها، مما يوافق عليه النقل والشرع ويسلمه العقل والطبع ثم عاد محمد بن تومرت إلى المغرب، ودعا الناس إلى سلوك هذه الطريقة وجزم بتضليل من خالفها بل بتكفيره، وسمى أتباعه الموحدين تعريضا بأن من خالف طريقته ليس بموحد وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على ملك المغرب حسب ما تقف عليه مفصلا بعد إن شاء الله، لكنه ما أتى بطريقة الأشعري خالصة بل مزجها بشيء من الخارجية والشيعية حسبما يعلم ذلك بإمعان النظر في أقواله وأحواله وأحوال خلفائه من بعده، ومن ذلك الوقت أقبل علماء المغرب على تعاطي مذهب الأشعري وتقريره وتحريره درسا وتأليفا إلى الآن وإن كان قد ظهر بالمغرب قبل ابن تومرت فظهورا ما والله أعلم. (1)
_________
(1) الاستقصا (1/ 140 - 141).(6/137)
من تصانيفه:
قال الذهبي: ولأبي ذر الهروي مصنف في الصفات على منوال كتاب أبي بكر البيهقي بحدثنا وأخبرنا. (1)
المُهَلَّب بن أحمد بن أَسِيد (2) (435 هـ)
المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أبو القاسم الأندلسي، سكن المرية، وصحب الأصيلي، وسمع منه، وتفقه معه، وسمع من غيره عن شيوخ الأندلس ثم رحل إلى القيروان ومصر وسمع من جماعة منهم أبو الحسن القابسي، وأبو ذر الهروي وحدث عنه القاضي بن المرابط، وأبو عمر بن الحذاء، وأبو العباس الدلائي. وكان من أهل العلم الراسخين فيه، والمتفننين في الفقه والحديث.
قال أبو عمر بن الحذاء: كان أذهن من لقيته وأفصحهم وأفهمهم. له شرح واختصار لصحيح البخاري سماه: 'كتاب النصيح في اختصار الصحيح'.
توفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال الحافظ في فتح الباري: قال المهلب: هذا الباب والذي قبله -يعني باب (إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة) وباب (قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن
_________
(1) السير (17/ 559).
(2) ترتيب المدارك (2/ 313) وسير أعلام النبلاء (17/ 579) وشذرات الذهب (3/ 255) وتاريخ الإسلام (حوادث 431 - 440/ص.422) وشجرة النور الزكية (1/ 114) والديباج المذهب (2/ 346).(6/138)
سنن من كان قبلكم» (1) - في معنى التحذير من الضلال، واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين، والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين. (2)
موقف السلف من المرتضى الشريف الرافضي الخبيث (436 هـ)
بيان رفضه:
جاء في السير: قال ابن حزم: الإمامية كلهم على أن القرآن مبدل، وفيه زيادة ونقص سوى المرتضى، فإنه كفر من قال ذلك، وكذلك صاحباه أبو يعلى الطوسي، وأبو القاسم الرازي.
قال الذهبي: وفي تواليفه سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنعوذ بالله من علم لا ينفع. (3)
قال ابن كثير ناقلا عن ابن الجوزي: وأعجب منها -أي من أقواله ومذاهبه العجيبة- ذم الصحابة رضي الله عنهم. ثم سرد -أي ابن الجوزي- من كلامه شيئا قبيحا في تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وحفصة رضي الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الأرجاس الأنجاس، أهل الرفض والارتكاس، إن لم يكن تاب؛ فقد روى ابن الجوزي قال: أنبأنا ابن ناصر عن أبي الحسن بن الطيوري قال سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلت
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(2) الفتح (13/ 302).
(3) السير (17/ 590).(6/139)
على الشريف المرتضى وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: أبو بكر وعمر ولِّيا فعدلا واسترحما فرحما؛ فأنا أقول: ارتدا بعدما أسلما؟ قال: فقمت عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه. (1)
مكي بن أبي طالب (2) (437 هـ)
أبو محمد مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم القرطبي، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. سمع من أبي محمد بن أبي زيد وأبي الحسن القابسي وأحمد بن فراس المكي وعدة، تلا عليه خلق منهم: عبد الله بن سهل ومحمد بن أحمد بن مطرف، كان من أوعية العلم مع الدين والسكينة والفهم، غلب عليه علم القرآن وكان من الراسخين فيه. وكان خيرا فاضلا، متدينا، متواضعا، مشهورا بالصلاح، أقرأ بجامع قرطبة، وعظم اسمه، وبعد صيته. قال ابن بشكوال: قلده أبو الحزم جَهْوَر خطابة قرطبة.
توفي رحمه الله في المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
موقفه من القدرية:
قال الحافظ في الفتح: وقال مكي بن أبي طالب في إعراب القرآن له قالت المعتزلة (ما) في قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (3) موصولة فرارا من أن
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 57) وانظر المنتظم (15/ 294 - 300).
(2) ترتيب المدارك (2/ 304) ووفيات الأعيان (5/ 274 - 277) وتاريخ الإسلام (حوادث 431 - 440/ص.452 - 455) والسير (17/ 591 - 593).
(3) الصافات الآية (96).(6/140)
يقروا بعموم الخلق لله تعالى، يريدون أنه خلق الأشياء التي تنحت منها الأصنام، وأما الأعمال والحركات فإنها غير داخلة في خلق الله، وزعموا أنهم أرادوا بذلك تنزيه الله تعالى عن خلق الشر، ورد عليهم أهل السنة بأن الله تعالى خلق إبليس وهو الشر كله، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} (1) فأثبت أنه خلق الشر، وأطبق القراء حتى أهل الشذوذ على إضافة شر إلى "ما" إلا عمرو بن عبيد رأس الاعتزال فقرأها بتنوين شر ليصحح مذهبه، وهو محجوج بإجماع من قبله على قراءتها بالإضافة، قال: وإذا تقرر أن الله خالق كل شيء من خير وشر وجب أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى خلقكم وخلق عملكم انتهى. (2)
عبد الله بن يوسف الجُوَيْنِي (3) (438 هـ)
شيخ الشافعية، أبو محمد، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، الطائي السنبسي الجويني، والد إمام الحرمين. وجوين ناحية كبيرة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة. سمع وتفقه على أبي الطيب الصعلوكي وأبي بكر القفال وأبي نعيم الاسفراييني وطائفة. وروى عنه ابنه أبو المعالي، وعلي بن أحمد بن الأحزم وسهل بن إبراهيم المسجدي
_________
(1) الفلق الآيتان (1و2).
(2) فتح الباري (13/ 529).
(3) السير (17/ 617 - 618) والكامل في التاريخ (9/ 535) ووفيات الأعيان (3/ 47 - 48) والبداية والنهاية (12/ 59) وشذرات الذهب (3/ 261 - 262).(6/141)
وغيرهم. كان فقيها مدققا محققا، نحويا مفسرا، مجتهدا في العبادة، مهيبا بين التلامذة، صاحب جد ووقار وسكينة. قال ابن شهبة في طبقاته: كان يلقب ركن الإسلام. وقال أبو عثمان الصابوني: لو كان الشيخ أبو محمد في بني إسرائيل لنقلت إلينا شمائله، وافتخروا به. توفي في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
هذا والد أبي المعالي عبد الملك المشهور بإمام الحرمين، وإذا أطلق الجويني انصرف إلى الابن. وكان الوالد بحرا في شتى العلوم كما بين ذلك ابن السبكي في طبقاته، وهو كغيره في وقته تربى على الأشعرية وتلقى العلوم على مشايخها، وبصيرته بنصوص القرآن والسنة والفطرة السلفية جعلته يتوقف ويشك في صحة ما يقوله مشايخ الأشاعرة من التأويل والتعطيل. ثم أخيرا هداه الله وشرح صدره لعقيدة السلف، فكتب في ذلك رسالته التي بين فيها أعظم المسائل في العقيدة السلفية وهي إثبات الفوقية والاستواء والحرف والصوت لله رب العالمين.
وهذه الرسالة طبعت منفردة ومع مجموعة الرسائل المنيرية.
وأما ابنه عبد الملك فسبح في بحر الأشعرية وتخبط مدة طويلة من الزمن، ثم رجع وكتب رجوعه في العقيدة النظامية، ولكن إلى عقيدة التفويض. انظر الصفات الإلهية بين الخلف والسلف. (1)
نموذج من رسالة الجويني الوالد:
_________
(1) (ص.82 وما بعدها).(6/142)
وبعد أن ذكر خطبة الرسالة قال: وبعد، فهذه نصيحة كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء والإخلاص والوفاء لما تعين علي من محبتهم في الله ونصيحتهم في صفات الله عز وجل، فإن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (1). وعن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة» ثلاثا، قال: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (2). أعرفهم أيدهم الله تعالى بتأييده ووفقهم لطاعته ومزيده أنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف فيها أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات وكذلك في إثبات العلو والفوقية وكذلك في الحرف والصوت.
ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ويؤول النزول بنزول الأمر
_________
(1) أحمد (4/ 365) والبخاري (1/ 182 - 183/ 57) ومسلم (1/ 75/56) والترمذي (4/ 286/1925) ورواه أبو داود (5/ 234/4945) والنسائي (7/ 158 - 159/ 4168) كلاهما بلفظ: « ... على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم».
(2) أخرجه: أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 74/55) وأبو داود (5/ 233 - 234/ 4944) والنسائي (7/ 176/4208) عن تميم الداري. والحديث ذكره البخاري تعليقا (1/ 182). قال ابن حجر في الفتح: "هذا الحديث أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة".(6/143)
ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم وأمثال ذلك ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائما بالذات بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.
وممن ذهب إلى هذه الأقوال وبعضها، قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأني على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه عرفت فرائض ديني وأحكامه فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها. فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره.
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها، وأعلم بالاضطرار أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحضر في مجلسه: الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلمين، مثل تأويلهم الاستيلاء بالاستواء ونزول الأمر للنزول وغير ذلك ولم أجد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لديه من الفوقية واليدين وغيرها، ولم ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني(6/144)
أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية المرئية ويد النعمة والقدرة وغير ذلك. وأجد الله عز وجل يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (1) .. ثم ذكر آيات الاستواء وأحاديثه ثم قال -فصل-: إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبه التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته والحق واضح في ذلك والصدور تنشرح له فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وعي مع كون أن الرب تعالى وصف لنا نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ولا نقف في ذلك وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة فمن وفقه الله تعالى للإثبات بلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله تعالى.
ثم قال -فصل-: والذي شرح الله صدري في حال هؤلاء الشيوخ الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر واليدين بالنعمتين والقدرتين هو علمي بأنهم ما فهموا في صفات الرب تعالى إلا ما يليق بالمخلوقين، فما فهموا عن الله استواء يليق به ولا نزولا يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه وعطلوا ما وصف الله تعالى نفسه به. (2)
_________
(1) طه الآية (5).
(2) مجموعة الرسائل المنيرية (1/ 175 - 181).(6/145)
التعليق:
ماذا يقول علماء الأشاعرة في هذه الرسالة السلفية؟ هل اخترعت على الجويني أم هي حقيقة من تأليفه ينبغي أن يؤول ما فيها أو يرفض لأنه لا يتفق والعقيدة الأشعرية. والله إن هذا لهو الحق المبين مهما كان الأمر ومهما قيل.
انظر رحمك الله إلى عبارات هذا الإمام في التأويل والتشبيه يستطيع شيخ الإسلام ومن سار على طريقه أن يعبر أكثر من هذا التعبير في الوصف بالعماوة والحماقة؟ فهذا تعبير لا مزيد عليه. وابن تيمية إنما يشرح كلام أمثال هؤلاء الفحول ويبينها لا غير، إذا فليرجع أئمة الأشاعرة إلى عقيدة السلف ويكفنوا عقيدة أهل اليونان ويرموها في مكان سحيق حتى لا يتأذى الناس بشرها. أو يندبون خدودهم على مثل هذه العقائد السلفية من أئمة كانوا فحولا في العقيدة الأشعرية، فنرجو الله أن يرجع بإخواننا إلى الصراط المستقيم إنه سميع مجيب.
محمد بن علي الصوري (1) (441 هـ)
الإمام الحافظ الحجة، أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الشامي الصوري ولد سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة. سمع محمد بن أحمد بن جميع الصيداوي، ومحمد بن عبد الصمد الزرافي وعبد الغني بن سعيد المصري. وحدث عنه شيخه الحافظ عبد الغني، وأبو بكر الخطيب، والقاضي أبو عبد الله
_________
(1) السير (17/ 627 - 631) وتاريخ بغداد (3/ 103) وتذكرة الحفاظ (3/ 1114) والأنساب (3/ 565).(6/146)
الدامغاني، قال الخطيب: كان الصوري من أحرص الناس على الحديث. قال أبو الحسين بن الطيوري: كتبت عن عدة، فما رأيت فيهم أحفظ من الصوري، كان يكتب بفرد عين، وكان متفننا يعرف من كل علم، وقوله حجة، وعنه أخذ الخطيب علم الحديث. قال الذهبي: كان من أئمة السنة وله شعر رائق.
توفي سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
روى له الخطيب أبياتا في أهل الحديث وهي:
قل لمن عاند الحديث وأضحى ... عائبا أهله ومن يدعيه
أبعلم تقول هذا أبن لي ... أم بجهل فالجهل خلق السفيه
أيعاب الذين هم حفظوا الديـ ... ـن من الترهات والتمويه
وإلى قولهم وما قد رووه ... راجع كل عالم وفقيه (1)
القزويني الحربي (2) (442 هـ)
الإمام القدوة شيخ العراق أبو الحسن، علي بن عمر بن محمد البغدادي الحربي الزاهد، سمع أبا حفص بن الزيات وأبا بكر بن شاذان والقاضي أبا الحسن الجراحي وطبقتهم وأملى عدة مجالس، حدث عنه: الخطيب وابن
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (77 - 78).
(2) السير (17/ 609 - 613) والعبر (1/ 459) والبداية والنهاية (12/ 66) والنجوم الزاهرة (5/ 49) وشذرات الذهب (3/ 268 - 269).(6/147)
خيرون وأبو الوليد الباجي وخلق.
قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان أحد الزهاد، ومن عباد الله الصالحين، يقرئ القرآن، ويروي الحديث، ولا يخرج من بيته إلا للصلاة.
عليه بعض المؤاخذات فيما حكي عنه من مبالغات في بعض الكرامات كشهوده عرفة وهو ببغداد!!!
توفي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
من آثاره السلفية: 'السنة' ذكره في 'الحجة في بيان المحجة'. (1)
عثمان أبو عمرو الدَّانِي (2) (444 هـ)
الإمام، الحافظ، عالم الأندلس، أبو عمرو، عثمان بن سعيد بن عثمان ابن سعيد بن عمر الأموي مولاهم القرطبي المقرئ، الداني، ويعرف قديما بابن الصيرفي، والداني: نسبة إلى دانية، مدينة بالأندلس.
كان مولده سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. سمع أبا مسلم محمد بن أحمد الكاتب وأحمد بن فراس المكي وعبد الرحمن بن عثمان القشيري الزاهد وعدة. وحدث عنه وقرأ عليه عدد كثير، منهم ولده أبو العباس وخلف بن إبراهيم الطليطلي.
_________
(1) (ص.171).
(2) السير (18/ 77 - 85) وتذكرة الحفاظ (3/ 1120 - 1121) والديباج المذهب (2/ 84 - 85) وشذرات الذهب (3/ 272) وشجرة النور الزكية (1/ 115) وتاريخ الإسلام (حوادث 441 - 450/ص.97 - 101).(6/148)
قال ابن بشكوال: كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن، رواياته وتفسيره ومعانيه، وطرقه وإعرابه، وجمع في ذلك كله تواليف حسانا مفيدة، وله معرفة بالحديث وطرقه، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط، جيد الضبط، من أهل الذكاء والحفظ، والتفنن في العلم، دينا فاضلا، ورعا سنيا.
قال الذهبي: إلى أبي عمرو المنتهى في تحرير علم القراءات وعلم المصاحف، مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو، وغير ذلك.
مات سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ودفن بمقبرة دانية.
موقفه من المبتدعة والجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة:
كان أبو عمرو الداني من كبار العلماء في بلاد الأندلس، من الله عليه بدراسة عقيدة السلف، وبدا ذلك عليه في أرجوزته المسماة بالمنبهة فذكر في مطلعها عقيدة أصول البدع وبينها. وعلى كل حال، فأبو عمرو في هذه الأرجوزة دافع عن عقيدة السلف. وكان صاحب سنة كما قال فيه الذهبي.
دفاعه عن العقيدة السلفية في أرجوزته المنبهة:
القول في عقود السنة:
ومن عقود السنة الايمان ... بكل ما جاء به القرآن
وبالحديث المسند المروي ... عن الأئمة عن النبي
وأن ربنا قديم لم يزل ... وهو دائم إلى غير أجل
ليس له شبه ولا نظير ... ولا شريك لا ولا وزير
ولا له ند ولا عديل ... ولا انتقال لا ولا تحويل
ولا له صاحبة ولا ولد ... بل هو فرد صمد وتر أحد(6/149)
كان وما كان شيء قبله ... أجل ولا شيء يكون مثله
جل عن الوصف وكيف كانا ... سبحانه من بارئ سبحانا
كلم موسى عنده تكليما ... ولم يزل مدبرا حكيما
كلامه وقوله قديم ... وهو فوق عرشه العظيم
والقول من كتابه المفضل ... بأنه كلامه المنزل
على رسوله النبي الصادق ... ليس بمخلوق ولا بخالق
من قال فيه انه مخلوق ... أو محدث فقوله مروق
والوقف فيه بدعة مضلة ... ومثل ذاك اللفظ عند الجلة
كلا الفريقين من الجهمية ... الواقفون فيه واللفظية
هو القرآن لا يسوغ فيه ... مقال ذي الشك وذي التمويه
بل الذي أجمع أهل السنة ... عليه كابن حنبل ذي المحنة
ونظرائه من الأئمة ... ذوي التقى سرج هذه الأمة
أهون بقول جهم الخسيس ... وواصل وبشر المريسي
ذي السخف والجهل وذي العناد ... ومعمر وابن أبي دؤاد
وابن عبيد شيخ الاعتزال ... وشارع البدع والضلال
والجاحظ القادح في الاسلام ... وجبت هذه الأمة النظام
والفاسق المعروف بالجبائي ... ونجله السفيه ذي الخناء
واللاحقي وأبي الهذيل ... مؤيد الزيغ بكل ويل
وذي العمى ضرار المرتاب ... وشبههم من أهل الارتياب
جميعهم قد غالط الجهالا ... وأظهر البدعة والضلال(6/150)
وعد ذاك شرعة ودينا ... فمنهم لله قد برينا
وعن قريب منهم ينقم ... ومن مضى من مجهم سيندم
وبعد فالايمان قول وعمل ... ونية عن ذاك ليس ينفصل
هو على ثلاثة مبني ... خلاف ما يقوله المرجي
وتارة يزيد بالتشمير ... وتارة ينتقص بالتقصير
القول في حب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ما كان من عصيان أو من طاعة ... فماله فيه من استطاعة
بل للإله العلم والقضية ... في كل شيء وله المشيئة
وحب أصحاب النبي فرض ... ومدحهم تزلف وقرض
وأفضل الصحابة الصديق ... وبعده المهذب الفاروق
وبعده عثمان ذو النورين ... وبعده علي أبو السبطين
وبعد هؤلاء باقي العشرة ... الأتقياء المرتضين البررة
أهل الخشوع والتقى والخوف ... طلحة والزبير وابن عوف
ثمت سعد بعدهم وعامر ... ثم سعيد بن نفيل العاشر
وسائر الصحب فهم أبرار ... منتخبون سادة أخيار
وربنا جللهم إنعامه ... وخصهم بالفضل والكرامه
والسمع والطاعة للأئمة ... مفترض على جميع الأمة
وهم على ما جاء من قريش ... بذا أدين الله طول عيشي
وأمراؤهم كلهم في الطاعة ... هذا الذي تقوله الجماعة
من مات وهو لا يرى إماما ... فقد هوى إذ فارق الاسلاما ...(6/151)
ومن يمت منا على العصيان ... فهو في مشيئة الرحمان
ان شاء عذب وان شاء غفر ... وليس يصلى النار إلا من كفر
والنار والجنة قد خلقتا ... وللخلود دائما أعدتا
فالمومنون في النعيم سرمدا ... والجاحدون في العذاب أبدا
وكل ما أحدثه أهل البدع ... فبدعة مضلة لا تتبع
والبدع الأصول فاعلم أربعة ... قول الشراة مذهب ما أفظعه
أخسس بهم وما به قد جاءوا ... والرفض والقدر والإرجاء
وكل فرقة فقد تفرقت ... على ثماني عشرة تمزقت
فاستكملت صدقا بغير مين ... فرقهم سبعين واثنتين
وهي التي في مسند الأخبار ... بأنها بجمعها في النار
كذا رويناه عن أولينا ... فالزم هديت الواضح المبينا
القول في باقي العقود:
ومن صريح السنة الاقرار ... بكل ما صحت به الآثار
فمن صحيح ما أتى به الأثر ... وشاع في الناس قديما وانتشر
نزول ربنا بلا امتراء ... في كل ليلة إلى السماء
بغير ما حد ولا تكييف ... سبحانه من قادر لطيف
ورؤية المهيمن الجبار ... وأنه نراه بالأبصار
يوم القيامة بلا ازدحام ... وضغطة القبر على المقبور ... كرؤية البدر بلا غمام ... وفتنة المنجر والمنكر
ونحو هذا من أصول الدين ... كالجائي في الصفات واليمين(6/152)
وكالذي جاء من البيان ... في الحوض والصراط والميزان
والعرش والكرسى والحساب ... والعرض والثواب والعقاب
والكتب والسؤال والشفاعة ... في كل عاص تارك للطاعة
من الموحدين أهل القبلة ... إذ كلهم مستمسك بالملة
فيتمتعون في الجنان ... بعد خروجهم من النيران
كما أتى ذلك في الأنباء ... بعدا لأهل الزيغ والأهواء
ماذا يردون من الآثار ... فهم كما جاء كلاب النار
يعطلون شرعة الاسلام ... وما لهم في الدين من إمام
كم أحدثوا من بدعة في الدين ... وأنكروا من خبر يقين
وحرفوا من محكم التنزيل ... واخترعوا من باطل التأويل
وزخرفوا من كذب وزور ... واستهزءوا بالوارد المسطور
عن النبي وعن الكرام ... أصحابه في العقد والأحكام
قد أنكروا سخفا نزول عيسى ... وشأنه تعسا لهم وبؤسا
وأنكروا الدجال والاشراطا ... وأسقطوا جميعها اسقاطا
فالحمد لله الذي هدانا ... لواضح السنة واجتبانا
فهذه عقود أهل السنة ... فالتزمنها وارجون الجنة (1)
موقفه من القدرية:
له فصل جيد في 'الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات
_________
(1) أطروحة دكتوراه للشيخ الحسن وجاج (2/ 347 - 366 مخطوط).(6/153)
وأصول الديانات' تحدث فيه عن القدر على مذهب أهل السنة فقال: ومن قولهم: إن الأقدار كلها خيرها وشرها، حلوها ومرها: قد علمها تبارك وتعالى وقدرها، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا. وكذا جميع الأعمال قد علمها وكونها وأحصاها وكتبها في اللوح المحفوظ، فكلها بقضائه جارية وعلى من سعد أو شقي في بطن أمه ماضية، لا محيص لخلقه عن إرادته، ولا عمل من خير ولا شر إلا مشيئته.
وقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} (1). ومشيئته تبارك وتعالى، ومحبته، ورضاه، ورحمته وغضبه، وسخطه، وولايته، وعداوته هو أجمع راجع إلى إرادته.
والإرادة صفة لذاته غير مخلوقة، وهو يريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه، مما ينفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده.
وما يجعله منه كسبا لعباده من خير وشر، ونفع وضر، وهوى وضلال، وطاعة، وعصيان، ولا يكون حادث إلا بإرادته، ولا يخرج مخلوق عن مشيئته. وما شاء كونه كان. وما لم يشأ لم يكن. يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لا مضل لمن هداه، ولا هادي لمن أضله، كما أخبر عن نفسه في قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (2)، وقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ
_________
(1) يس الآية (12).
(2) الكهف الآية (17).(6/154)
فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} (1). وقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} (2)، وقال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3)، وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (4) وقال: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) وقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يتكبرون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (6) عن الإيمان بها بالخذلان المانع منه.
وقال مخبرا عن موسى عليه السلام: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} (7)، وقال: {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} (8)، وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (9) الآية، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
_________
(1) الزمر الآيتان (36و37).
(2) النحل الآية (37).
(3) المدثر الآية (31).
(4) إبراهيم الآية (27).
(5) الأنعام الآية (39).
(6) الأعراف الآية (146).
(7) الأعراف الآية (155).
(8) الفتح الآية (11).
(9) المائدة الآية (41).(6/155)
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (1) الآية. وقال مخبرا عن نوح عليه السلام: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} (2) أي: يضلكم. وقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} في آي كثيرة. فهو جل جلاله موفق أهل محبته وولايته لطاعته، وخاذل أهل معصيته، وذلك كله عدل من تدبيره وكلمته.
وكذا ما يبتليهم به ويقضيه عليهم من خير وشر، ونفع وضر، وغنى وفقر، وألم ولذة، وسقم وصحة، وضلال وهداية، هو عدل منه في جميعهم: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (3) {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (4) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (5) {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (6) وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (7) الآية.
وقال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (8) الآية. فجعل تبارك وتعالى
_________
(1) الأنعام الآية (125).
(2) هود الآية (34).
(3) الأنبياء الآية (23).
(4) الأنعام الآية (149).
(5) يونس الآية (99).
(6) الأنعام الآية (35).
(7) السجدة الآية (13).
(8) يونس الآية (25).(6/156)
الدعاء عموما، والهداية خصوصا. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (1) أي: للحال اليسرى، وهي العمل بالطاعة. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (2) أي: للحال العسرى، وهي العمل بالمعصية. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» ثم تلا الآيتين. (3)
فالمؤمنون بالتوفيق آثروا الإيمان، وأقدرهم الله عزوجل عليه، وعلى ترك الكفر. والكافرون بالخذلان آثروا الكفر وأقدرهم الله تعالى عليه وعلى ترك الإيمان. ومعنى قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (4) إن قوما من ثمود آمنوا ثم ارتدوا فاستحبوا العمى على الهدى، أي: اختاروا الكفر على الإيمان.
ومعنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5) الخصوص يريد بعضهم وهم الذين علم أنهم يعبدونه، لأنه قال في آية أخرى: {وَلَقَدْ
_________
(1) الليل الآيات (5 - 7).
(2) الليل الآيات (8 - 10).
(3) سيأتي تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).
(4) فصلت الآية (17).
(5) الذاريات الآية (56).(6/157)
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (1) ومن ذرأه لجنهم لم يخلقه لعبادته.
وقال مجاهد: معنى {ليعبدون} ليعرفون. أي: ليعرفوا أن لهم خالقا ورازقا، وقوله عزوجل: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} (2) الحسنة هاهنا: الخصب والغنيمة، والسيئة: الجدب والنكبة، لأنهم كانوا يتشاءمون بالأنبياء عليهم السلام كما أخبر بذلك في قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} يعني الرخاء والعافية {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي: بحق أصابتنا {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعني بلاء وشدة {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} فقال الله تعالى رادا عليهم متعجبا من قولهم: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (3) {مَا أَصَابَكَ} أي: يقولون: ما أصابك {مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (4)، وإضمار القول في القرآن والكلام كثير. قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ
_________
(1) الأعراف الآية (179).
(2) النساء الآية (78).
(3) الأعراف الآية (131).
(4) النساء الآية (79).(6/158)
كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (1) أي: يقولون: سلام عليكم. ومثله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (2) أي: يقولون: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (3) أي: يقولون: أخرجوا. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} (4) أي: يقولون: ما نعبدهم، فكذلك ما تقدم سواء. (5)
عبيد الله أبو نصر السِّجْزِي (6) (444 هـ)
الإمام العالم، شيخ السنة، أبو نصر، عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي البكري، نزيل مصر. سمع من أبي عبد الله الحاكم وأبي أحمد الفرضي وطبقتهما. وحدث عنه أبو إسحاق الحبال وسهل بن بشر الإسفراييني وخلق. كان متقنا مكثرا بصيرا بالحديث والسنة، واسع الرحلة. قال محمد بن طاهر: سألت الحافظ أبا إسحاق الحبال عن أبي نصر السجزي، وأبي عبد الله
_________
(1) الرعد الآيتان (22و23).
(2) آل عمران الآية (191).
(3) الأنعام الآية (93).
(4) الزمر الآية (3).
(5) الرسالة الوافية (ص.63 - 68).
(6) السير (17/ 654 - 657) وتذكرة الحفاظ (3/ 1118 - 1120) والعقد الثمين (5/ 307 - 308) وشذرات الذهب (3/ 271 - 272).(6/159)
الصوري، أيهما أحفظ؟ فقال: كان السجزي أحفظ من خمسين مثل الصوري. صنف 'الإبانة الكبرى' في أن القرآن غير مخلوق، وهو مجلد كبير دال على سعة علم الرجل بفن الأثر. توفي أبو نصر بمكة، في المحرم سنة أربع وأربعين وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1 - 'الإبانة في مسألة القرآن'، ذكره شيخ الإسلام في كثير من كتبه ونقل منه.
2 - 'الرد على من أنكر الحرف والصوت'، حقق رسالة علمية في مرحلة الماجستير قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بتحقيق الأخ الفاضل محمد باكريم الزهراني.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وقال السجزي في 'الإبانة' وأئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد وإسحاق: متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى ويتكلم بما شاء. فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء. (1)
- وقال شيخ الإسلام أيضا في الدرء: وقال الحافظ أبو نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 222).(6/160)
القرآن: اعلموا -أرشدنا الله وإياكم- أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم، بل أخس حالا منهم في الباطن، من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة، وقالت -يعني علماء العربية-: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا، فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض، وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى، لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض، والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات. قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: (خلق الله، وعبد الله، وفعل الله). قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا(6/161)
الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل.
فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه "تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام" ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة فيه تشبيه، وتعلقوا بشبه، منها قول الأخطل:
إن البيان من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فغيروه، وقالوا: "إن الكلام من الفؤاد" وزعموا أن لهم حجة على مقالتهم في قول الله تعالى: {ويقولون فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (1) وفي قول الله عز وجل: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} (2).
واحتجوا بقول العرب: "أرى في نفسك كلاما، وفي وجهك كلاما" فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت والنائم، ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم
_________
(1) المجادلة الآية (8).
(2) يوسف الآية (77).(6/162)
متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام.
وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه، ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر، بل يجانب ويُقمع. (1)
- وفيه أيضا: قال أبو نصر: خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل، وقال: التجزؤ على القديم غير جائز، فقلت له: أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه على الحقيقة بلا ترجمان؟ فقال: نعم -وهم يطلقون ذلك، ويموهون على من لم يخبر مذهبهم- وحقيقة سماع كلام الله من ذاته، على أصل الأشعري، محال، لأن سماع الخلق -على ما جبلوا عليه من البنية، وأجروا عليه من العادة- لا يكون ألبتة إلا لما هو صوت أو في معنى الصوت، وإذا لم يكن كذلك كان الواصل إلى معرفته بضرب من العلم والفهم، وهما يقومان في وقت مقام السماع، لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع، وربما سمي ذلك سماعا على التجوز لقربه من معناه، فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري. قال: فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال، وليس ههنا من تتقيه وتخشى تشنيعه، وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه، حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله، والذي أريد أن ألزمك وارد على الفهم وروده على السماع، فدع التمويه،
_________
(1) درء التعارض (2/ 83 - 86).(6/163)
ودع المصانعة. ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله. أفهم كلام الله مطلقا أم مقيدا؟ فتلكأ قليلا، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي وأجب بما عندك، فأبى وقال: ما تريد بهذا؟ فقلت: أريد أنك إن قلت: إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه موسى، وهذا يؤول إلى الكفر، فإن الله تعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1)
ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالما بالغيب وبما في نفس الله تعالى، وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} (2) وإذا لم يجز إطلاقه، وألجئت إلى أن تقول: "أفهمه الله ما شاء من كلامه" دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت أبيت أن تقبل ذلك، وادعيت أن الواجب، المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئا. فقال: هذا يحتاج إلى تأمل، وقطع الكلام. (3)
_________
(1) البقرة الآية (255) ..
(2) المائدة الآية (116).
(3) درء التعارض (2/ 90 - 92).(6/164)
الحسن الأهوازي (1) (446 هـ)
الشيخ أبو علي، الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد بن هرمز، مقرئ الشام، ولد سنة اثنتين وستين وثلاث مئة.
سكن دمشق، وقرأ القرآن بروايات كثيرة، وصنف كتبا في القراءات.
قال الكتاني: كان حسن التصنيف في القراءات مكثرا من الحديث وفي إسناده القراءات غرائب، كان يذكر أنه أخذها رواية وتلاوة، وإن شيوخها أخذوها كذلك وقال: انتهت إليه الرياسة في القراءات ما رأيت منه إلا خيرا.
قال ابن الجزري: وانتصب للكلام في الإمام أبي الحسن الأشعري فبالغ الأشعرية في الحطِّ عليه مع أنه إمام جليل القدر، أستاذ في الفن، ولكنه لا يخلو من أغاليط وسهو وكثرة الشره أوقع الناس في الكلام فيه، ولكنه ذكر الحافظ أبو طاهر السلفي في معجمه قال: سمعت أبا البركات الخدير بن الحسن الحازمي صاحبنا بدمشق يقول: سمعت الشريف النسيب علي بن إبراهيم العلوي يقول: أبو علي الأهوازي ثقة ثقة.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ولقد تلقى الناس رواياته بالقبول، وكان يقرئ بدمشق من بعد سنة أربعمائة وذلك في حياة بعض شيوخه.
توفي أبو علي في رابع ذي الحجة سنة ست وأربعين وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
- هذا الرجل اشتهر بحملته على الأشعري والأشعرية، وألف تأليفا في
_________
(1) السير (18/ 13) وميزان الاعتدال (1/ 512 - 513) ولسان الميزان (2/ 237 - 240) وشذرات الذهب (3/ 274). غاية النهاية (1/ 220 - 222).(6/165)
ثلبه وله كتاب في الصفات قال الذهبي عنه: لو لم يجمعه لكان خيرا له. (1)
- وله شرح البيان في عقود أهل الإيمان - قال ابن عساكر أودعه أحاديث منكرة. (2)
التعليق:
أخاف أن يكون التحامل على الحسن الأهوازي من قبل الأشاعرة لأنه كما قدمنا كان كثير الحط على الأشعري. فيدخل عليه في كتبه ما ليس منها وينسب إليه، كما فعل ابن الجويني لما ذكر كتاب الآجري وصفه بأوصاف لا علاقة لها بالكتاب ولا وجود لها.
حكم بن محمد بن حكم بن إِفْرانك (3) (447 هـ)
حكم بن محمد بن حكم بن إفرانك، أبو العاص الجذامي القرطبي. حدث عن أبي بكر بن المهندس، وإبراهيم بن علي التمار، وعبد المنعم بن غلبون. وروى عنه أبو زوان الطنبي، وأبو علي الغساني. قال عنه الغساني: كان رجلا صالحا ثقة مسندا، صلبا في السنة، مشددا على أهل البدع، عفيفا ورعا. توفي رحمه الله في ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: قال الغساني: كان رجلا صالحا، ثقة مسندا، صلبا في
_________
(1) الميزان (1/ 512).
(2) تاريخ دمشق (13/ 145).
(3) السير (17/ 659 - 660) وشذرات الذهب (3/ 287).(6/166)
السنة، مشددا على أهل البدع. (1)
موقف السلف من القادسي الرافضي (447 هـ)
بيان رفضه:
قال أبو بكر الخطيب: حضرته يوم الجمعة بعد الإملاء، وطالبته بأن يريني أصوله، فدفع إلي عن ابن شاذان وغيره أصولا كان سماعه فيها صحيحاً، ولم يدفع إلي عن ابن مالك شيئا، فقلت له: أرني أصلك عن ابن مالك. فقال: أنا لا يشك في سماعي من ابن مالك، أسمعني منه خالي هبة الله ابن سلامة المفسر 'المسند' كله. فقلت له: لا تروين هاهنا شيئا إلا بعد أن تحضر أصولك وتوقف عليها أصحاب الحديث، فانقطع عن حضور الجامع بعد هذا القول، ومضى إلى مسجد براثا فأملى فيه، وكانت الرافضة تجتمع هناك، وقال لهم: قد منعني النواصب أن أروي في جامع المنصور فضائل أهل البيت. ثم جلس في مسجد الشرقية واجتمعت إليه الرافضة ولهم إذ ذاك قوة، وكلمتهم ظاهرة، فأملى عليهم العجائب من الأحاديث الموضوعة في الطعن على السلف. (2)
_________
(1) السير (17/ 660).
(2) تاريخ بغداد (8/ 17) وانظر السير (18/ 11 - 12).(6/167)
أبو عثمان الصابوني (1) (449 هـ)
شيخ الإسلام، إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الواعظ، المفسر، المصنف، أحد الأعلام. ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. حدث عن أبي طاهر بن خزيمة، والحاكم أبي عبد الله الحافظ وأبي علي السرخسي وأبي عبد الرحمن السلمي، وخلق سواهم. وروى عنه عبد العزيز الكتاني والبيهقي، وأبو القاسم بن أبي العلاء وغيرهم. قدم دمشق حاجا سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وحدث بها وذكر. قال أبو بكر البيهقي: أخبرنا إمام المسلمين حقا وشيخ الإسلام صدقا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بحكاية ذكرها. وقال عبد الغافر الفارسي: رزق العز والجاه في الدين والدنيا، وكان جمالا للبلد، زينا للمحافل والمجالس، مقبولا عند الموافق والمخالف، مجمعا على أنه عديم النظير، وسيف السنة، ودامغ أهل البدعة. وقال أيضا: قرأت في كتاب كتبه زين الإسلام من طوس في التعزية لشيخ الإسلام: أليس لم يجسر مفتر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقته؟ أليست السنة كانت بمكانه منصورة، والبدعة لفرط حشمته مقهورة؟ أليس كان داعيا إلى الله، هاديا عباد الله، شابا لا صبوة له، كهلا لا كبوة له، شيخا لا هفوة له؟ يا أصحاب المحابر، وطئوا رحالكم، قد غيب من كان عليه إلمامكم، ويا أرباب المنابر، أعظم الله أجوركم، فقد مضى سيدكم وإمامكم. وقال الكتاني: ما رأيت
_________
(1) شذرات الذهب (3/ 282 - 283) والسير (18/ 40 - 44) والأنساب (3/ 506) والكامل في التاريخ (9/ 638) والوافي بالوفيات (9/ 143 - 144) والبداية والنهاية (12/ 81 - 82) وطبقات الشافعية للسبكي (3/ 117) وغاية النهاية (1/ 220 - 221).(6/168)
شيخا في معنى أبي عثمان زهدا وعلما، كان يحفظ من كل فن لا يقعد به شيء، وكان يحفظ التفسير من كتب كثيرة، وكان من حفاظ الحديث. توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
آثاره السلفية: مصنف 'عقيدة السلف وأصحاب الحديث'.
"ما رآه منصف إلا اعترف له" قاله في السير (1) وقد طبع منفردا ومع الرسائل المنيرية. وقد ذكره شيخ الإسلام في كتبه. انظر الدرء. (2)
ومما جاء فيه مما يبين نصره للسنة وأهلها:
- قال رحمه الله عن السلف وأصحاب الحديث: ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ويقتدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبأصحابه الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدوا اهتدوا، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله فيهم (3)، ويقتدون بالسلف الصالحين، من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين، من الدين المتين والحق المبين.
ويبغضون أهل البدع، الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم،
_________
(1) (18/ 43).
(2) (2/ 26).
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامعه (2/ 925/1760) وابن حزم في الأحكام (6/ 82) من طريق سلام بن سليم قال: حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا به، وقال ابن عبد البر: "هذا اسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول". وقال ابن حبان: "سلام بن سليم يروى الموضوعات كأنه المتعمد لها". وقال ابن حزم: "يروي الموضوعات، وهذا منها بلا شك" وروي نحوه عن ابن عباس وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله انظرها في الضعيفة (1/رقم 58 - 61).(6/169)
ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم، التي إذا مرت بالآذان، وقرت في القلوب ضرت، وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت، وفيه أنزل الله عزوجل قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1).
وعلامات البدع على أهلها ظاهرة بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية، وجهلة، وظاهرية، ومشبهة. اعتقادا منهم في أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم، من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} (2)، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} (3).اهـ (4)
- وقال أيضا: وإحدى علامات أهل السنة: حبهم لأئمة السنة وعلمائها، وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع، الذين يدعون إلى
_________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) محمد الآية (23).
(3) الحج الآية (18).
(4) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.298 - 299).(6/170)
النار، ويدلون أصحابهم على دار البوار.
وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة، ونورها بحب علماء السنة، فضلا منه جل جلاله ومنة.
أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ، أسكنه الله وإيانا الجنة، ثنا محمد بن إبراهيم بن الفضل المزكى، ثنا أحمد بن سلمة، قرأ علينا أبو رجاء قتيبة بن سعيد كتاب 'الإيمان' له، فكان في آخره: فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وشعبة، وابن المبارك، وأبا الأحوص، وشريكا، ووكيعا، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، فاعلم أنه صاحب سنة. قال أحمد بن سلمة رحمه الله: فألحقت بخطي تحته: ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، فلما انتهى إلى هذا الموضع نظر إلينا أهل نيسابور وقال: هؤلاء القوم يتعصبون ليحيى بن يحيى، فقلنا له: يا أبا رجاء ما يحيى بن يحيى؟ قال: رجل صالح إمام المسلمين، وإسحاق بن إبراهيم إمام، وأحمد بن حنبل أكبر ممن سميتهم كلهم.
وأنا ألحقت بهؤلاء الذين ذكرهم قتيبة رحمه الله، أن من أحبهم فهو صاحب سنة، من أئمة أهل الحديث الذين بهم يقتدون، وبهديهم يهتدون، ومن جملتهم ومتبعيهم وشيعتهم أنفسهم يعدون، وفي اتباعهم آثارهم يجدون، جماعة آخرين: منهم: محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، الإمام المقدم، والسيد المعظم، العظيم المنة على أهل الإسلام والسنة، الموفق الملقن الملهم المسدد، الذي عمل في دين الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النصر لهما والذب عنهما- ما لم يعمله أحد من علماء عصره، ومن بعدهم.(6/171)
ومنهم الذين كانوا قبل الشافعي رحمه الله: كسعيد بن جبير، والزهري، والشعبي، ... والتيمي.
ومن بعدهم: كالليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وسفيان بن عيينة الهلالي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويونس بن عبيد، وأيوب، وابن عون، ونظرائهم.
ومن بعدهم: مثل يزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وجرير بن عبد الحميد.
ومن بعدهم: مثل محمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وأبي داود السجستاني، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم، وابنه، ومحمد بن مسلم بن وارة، ومحمد بن أسلم الطوسي، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة -الذي كان يدعى إمام الأئمة، ولعمري كان إمام الأئمة في عصره ووقته-، وأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل البستي وجدَّيَّ منْ قِبَلِ أَبَوَيَّ: أبي سعيد يحيى بن منصور الزاهد الهروي، وعدي بن حمدويه الصابوني، وولديه سيفي السنة أبي عبد الله الصابوني، وأبي عبد الرحمن الصابوني. وغيرهم من أئمة السنة، الذين كانوا متمسكين بها، ناصرين لها، داعين إليها، دالين عليها.
وهذه الجمل التي أثبتها في هذا الجزء كانت معتقد جميعهم، لم يخالف فيها بعضهم، بل أجمعوا عليها كلها، واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم وإخزائهم، وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عزوجل بمجانبتهم ومهاجرتهم.
وأنا -بفضل الله عزوجل- متبع لآثارهم، مستضيء بأنوارهم، ناصح(6/172)
إخواني وأصحابي ألا يزيغوا عن منارهم، ولا يتبعوا غير أقوالهم، ولا يشتغلوا بهذه المحدثات من البدع، التي اشتهرت فيما بين المسلمين، وظهرت وانتشرت، ولو جرت واحدة منها على لسان واحد في عصر أولئك الأئمة لهجروه، وبدعوه، ولكذبوه، وأصابوه بكل سوء ومكروه.
ولا يغرن إخواني -حفظهم الله- كثرة أهل البدع، ووفور عددهم، فإن ذلك من أمارات اقتراب الساعة، إذ الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من علامات الساعة واقترابها أن يقل العلم ويكثر الجهل» (1) والعلم هو السنة والجهل هو البدعة.
ومن تمسك اليوم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل بها واستقام عليها، ودعا بالسنة إليها، كان أجره أوفر وأكثر من أجر من جرى على هذه الجملة، في أوائل الإسلام والملة، إذ الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال: «له أجر خمسين» فقيل: خمسين منهم؟ قال: «بل منكم» (2). وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك لمن يعمل بسنته عند فساد أمته. اهـ (3)
ومن أقواله رحمه الله: ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه. (4)
موقفه من الرافضة:
- جاء في عقيدة السلف له أنه قال: ويشهدون ويعتقدون أن أفضل
_________
(1) أحمد (3/ 213 - 214) والبخاري (1/ 235/80) ومسلم (4/ 2056/2671) والترمذي (4/ 426/2205) وابن ماجه (2/ 1343/4045) من حديث أنس.
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).
(3) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.307 - 318).
(4) الاقتضاء (2/ 612).(6/173)
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم الخلفاء الراشدون، الذين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافتهم بقوله -فيما رواه سعيد بن جمهان عن سفينة-: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» (1) وبعد انقضاء أيامهم عاد الأمر إلى الملك العضوض، على ما أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا فرضيناه لدنيانا، يعني أنه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيام مرضه -وهي الدين- فرضيناه خليفة للرسول - صلى الله عليه وسلم - علينا في أمور دنيانا.
وقولهم: قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذا الذي يؤخرك وأرادوا أنه - صلى الله عليه وسلم - قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك؟.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته، بما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه والله، وارتفعوا به وارتفقوا، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف لما عبد الله، ولما قيل له: مه يا أبا هريرة، قام بحجة صحة قوله فصدقوه فيه وأقروا به.
ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه، واتفاق الصحابة عليه بعده، وإنجاز الله سبحانه -بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه- وعده.
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف سفينة أبي عبد الرحمن (توفي بعد 70هـ).(6/174)
ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى، وإجماع الأصحاب كافة، ورضاهم به، حتى جعل الأمر إليه.
ثم خلافة علي رضي الله عنه، ببيعة الصحابة إياه، عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنهم أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة، ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه.
فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدين، الذين نصر الله بهم الدين، وقهر وقسر بمكانهم الملحدين وقوى بمكانهم الإسلام، ورفع في أيامهم للحق الأعلام، ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام، وحقق بخلافتهم وعده السابق في قوله عزوجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} (1) الآية، وفي قوله: {أشداء عَلَى الْكُفَّارِ} (2).
فمن أحبهم وتولاهم ودعا لهم، ورعى حقهم وعرف فضلهم فاز في الفائزين، ومن أبغضهم وسبهم ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض، والخوارج، لعنهم الله، فقد هلك في الهالكين. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي،
_________
(1) النور الآية (55).
(2) الفتح الآية (29).(6/175)
فمن سبهم فعليه لعنة الله». (1)
وقال: «من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن سبهم فعليه لعنة الله» (2). (3)
- وفيها عنه أيضا قال: ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا لهم، ونقصا فيهم.
ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم. وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن، والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين. (4)
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: أصحاب الحديث -حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلت العدول الثقات عنه،
_________
(1) ابن عدي في الكامل (1/ 377) بلفظ: "إن الناس يكثرون وأصحابي يقلون فلا تسبوهم فمن سبهم فلعنه الله". وفي إسناده أبو الربيع السمان أشعث بن سعيد. قال في التقريب "متروك". وأخرجه الخطيب في التاريخ (3/ 149) ينحوه. وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية. كذبوه كما في التقريب. قال ابن عدي: "ولا أعلم من روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، غير أبي الربيع السمان، ومحمد بن الفضل بن عطية، عن عمرو".
(2) أحمد (5/ 54/58)، الترمذي (5/ 653/3862) وقال: "هذا حديث غريب". وابن حبان (16/ 244/7256). قال المناوي في فيض القدير (2/ 98): "فيه عبد الرحمن بن زياد"، قال الذهبي: "لا يعرف". وفي الميزان: "في الحديث اضطراب". وانظر الضعيفة (2901).
(3) عقيدة السلف (289 - 294).
(4) عقيدة السلف (294).(6/176)
ويثبتون له جل جلاله ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، فيقولون إنه خلق آدم بيديه، كما نص سبحانه عليه في قوله -عز من قائل-: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين، تحريف المعتزلة، الجهمية -أهلكهم الله- ولا يكيفونهما، بكيف، أو شبهها- بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبهة -خذلهم الله-.
وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف، والتشبيه، والتكييف، ومن عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2).
وكما ورد القرآن بذكر اليدين بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (3)، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (4)، ووردت الأخبار الصحاح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر اليد، كخبر محاجة موسى وآدم، وقوله له:
_________
(1) ص الآية (75).
(2) الشورى الآية (11).
(3) ص الآية (75).
(4) المائدة الآية (64).(6/177)
«خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته» (1)، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أجعل صالح ذرية من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان» (2)،
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خلق الله الفردوس بيده» (3) ... ].
وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت به الأخبار الصحاح، من السمع، والبصر والعين، والوجه، والعلم، والقوة والقدرة، والعزة والعظمة، والإرادة والمشيئة، والقول والكلام، والرضى والسخط، والحب والبغض، والفرح والضحك، وغيرها، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى وقاله رسوله صلى الله - صلى الله عليه وسلم -، من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه، بتأويل منكر يستنكر، ويجرون على
_________
(1) تقدم تخريجه. انظر مواقف أمير المؤمنين هارون الرشيد سنة (193هـ).
(2) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 99 - 100/ 6169) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفيه طلحة بن زيد، قال الهيثمي في المجمع (1/ 82): "كذاب". ورواه في الكبير كما في تفسير ابن كثير (3/ 51) والمجمع (1/ 82). وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي. قال الهيثمي: "كذاب متروك". ورواه عثمان بن سعيد في النقض على المريسي (1/ 256 - 257). وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف. ورواه ابن عساكر (52/ 139) من حديث أنس في ترجمة محمد بن أيوب بن الحسن أبي بكر ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. ورواه من حديث الأنصاري البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 121 - 122/ 688) وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 469/1065) والأنصاري لا يدرى هل هو صحابي أم تابعي.
وبالجملة فأسانيد الحديث كلها واهية خلا إسناد عبد الله بن أحمد. والحديث ضعفه شارح الطحاوية سندا ومتنا (ص.306).
(3) رواه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (23) والدارقطني في الصفات رقم (28) وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1017) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 125/692) من حديث عبد الله بن الحارث بلفظ: «غرس الفردوس بيده». قال البيهقي: "هذا مرسل".(6/178)
الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} (1).
ويشهد أهل الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله، وكتابه، ووحيه، وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم.
والقرآن -الذي هو كلام الله ووحيه- هو الذي نزل به جبريل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا، كما قال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (2).
وهو الذي بلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته، كما أمر به في قوله تعالى: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (3)، فكان الذي بلغهم -بأمر الله تعالى- كلامه عز وجل، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم -: «أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي». (4)
وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيفما تصرف بقراءة قارئ، ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، وحيث تلي وفي
_________
(1) آل عمران الآية (7).
(2) الشعراء الآيات (192 - 195).
(3) المائدة الآية (67).
(4) سيأتي تخريجه. انظر مواقف يحيى بن سالم العمراني سنة (558هـ).(6/179)
أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم، وغيرها، كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم. (1)
- وقال: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله سبحانه فوق سبع سمواته، على عرشه مستو، كما نطق به كتابه، في قوله عز وجل في سورة الأعراف: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2). وقوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (3). وقوله في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (4). وقوله في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} (5). وقوله في سورة السجدة: {الرحمن اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (6). وقوله في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
_________
(1) عقيدة السلف (160 - 166).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) يونس الآية (3).
(4) الرعد الآية (2).
(5) الفرقان الآية (59).
(6) السجدة الآية (4).(6/180)
اسْتَوَى (5)} (1).
وأخبر الله سبحانه عن فرعون اللعين أنه قال لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (2). وإنما قال ذلك لأنه سمع موسى عليه السلام يذكر أن ربه في السماء، ألا ترى إلى قوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} يعني في قوله: إن في السماء إلها، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته.
يثبتون من ذلك ما أثبته الله تعالى، ويؤمنون به، ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى، من استوائه على عرشه، ويمرونه على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، ويقولون: {آمنا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} (3)، كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك ورضي منهم فأثنى عليهم به. (4)
- وقال أيضا: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا
_________
(1) طه الآية (5).
(2) غافر الآيتان (36و37).
(3) آل عمران الآية (7).
(4) عقيدة السلف (175 - 176).(6/181)
تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله.
وكذلك يثبتون ما أنزله الله -عز اسمه- في كتابه، من ذكر المجيء، والإتيان، المذكورين في قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (1)، وقوله عز اسمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (2).اهـ (3)
- قال شيخ الإسلام: قلت: فلما صح خبر النزول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (4) أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول، على ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه ولم يبحثوا عن كيفيته، إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحققوا، واعتقدوا أن صفات الله سبحانه، لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المشبهة، والمعطلة، علوا كبيرا، ولعنهم لعنا كبيرا. (5)
- وقال: ويشهد أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم، وينظرون إليه، على ما ورد به الخبر الصحيح، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) البقرة الآية (210).
(2) الفجر الآية (22).
(3) عقيدة السلف (191 - 192).
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(5) عقيدة السلف (ص.232).(6/182)
في قوله: «إنكم ترون ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر» (1). (2)
موقفه من الخوارج:
- جاء في عقيدة السلف له قال: ويعتقد أهل السنة: أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة، صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها. وإن خرج عن الدنيا، غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عزوجل: إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة، سالما غانما، غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار. وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار. (3)
- وقال فيها أيضا: ويرى أصحاب الحديث الجمعة، والعيدين، وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم، برا كان، أو فاجرا. ويرون جهاد الكفرة معهم، وإن كانوا جورة فجرة. ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح. ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف. ويرون قتال الفئة الباغية، حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل. (4)
_________
(1) تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة ضمن مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(2) عقيدة السلف (ص.263).
(3) عقيدة السلف (276).
(4) عقيدة السلف (294).(6/183)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله في كتابه عقيدة السلف: ومن مذهب أهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. (1)
- وقال أيضا: فمن كانت طاعته وحسناته أكثر، فإنه أكمل إيمانا ممن كان قليل الطاعة كثير المعصية والغفلة والإضاعة. (2)
موقفه من القدرية:
قال في عقيدته: ويشهد أهل السنة ويعتقدون: أن الخير والشر، والنفع والضر بقضاء الله وقدره. لا مرد لها ولا محيص ولا محيد عنها، ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروه بما لم يقضه الله لم يقدروا. على ما ورد به خبر عبد الله بن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). قال الله عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (4) الآية.
ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم مع قولهم بأن الخير والشر من الله وبقضائه أنه لا يضاف إلى الله تعالى ما يتوهم منه نقص على الانفراد فيقال: يا خالق القردة والخنازير، والخنافس والجعلان، وإن كان لا مخلوق إلا
_________
(1) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.264).
(2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.271).
(3) أحمد (1/ 293) والترمذي (4/ 575 - 576/ 2516) من حديث ابن عباس، وقال: "حسن صحيح".
(4) يونس الآية (107).(6/184)
والرب خالقه وفي ذلك ورد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستفتاح «تباركت وتعاليت، والشر ليس إليك». (1)
ومعناه والله أعلم، والشر ليس مما يضاف إليك إفرادا وقصدا، حتى يقال لك في المناداة: يا خالق الشر، ويا مقدر الشر، وإن كان الخالق والمقدر لهما جميعا. لذلك أضاف الخضر عليه السلام إرادة العيب إلى نفسه. فقال فيما أخبر الله عنه في قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (2) ولما ذكر الخير والبر والرحمة، أضاف إرادتها إلى الله عزوجل فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (3). ولذلك قال مخبرا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} (4) فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه وإن كان الجميع منه.
ومن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله عزوجل مريد لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، ولم يؤمن أحد إلا بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء أن لا يعصى ما خلق إبليس. فكفر الكافرين، وإيمان
_________
(1) أخرجه من حديث علي: أحمد (1/ 102،103) ومسلم (1/ 534 - 536/ 771) وأبو داود (1/ 481 - 482/ 760) والترمذي (5/ 453 - 454/ 3422) والنسائي (2/ 467 - 468/ 896).
(2) الكهف الآية (79).
(3) الكهف الآية (82).
(4) الشعراء الآية (80).(6/185)
المؤمنين، بقضائه سبحانه وتعالى وقدره، وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه.
ويرضى الإيمان والطاعة، ويسخط الكفر والمعصية.
قال الله عزوجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِن اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (1).
ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث: أن عواقب العباد مبهمة، لا يدري أحد بم يختم له، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار، لأن ذلك مغيب عنهم، لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان. (2)
ابن بطال علي بن خلف (3) (449 هـ)
العلامة أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري، القرطبي، ثم البلنسي، ويعرف بابن اللجام، أصلهم من قرطبة وأخرجتهم الفتنة إلى بلنسية. أخذ عن أبي عمر الطلمنكي، وابن عفيف وأبي المطرف القنازعي، ويونس بن مغيث وغيرهم. روى عنه أبو داود المقرئ، وعبد الرحمن بن بشر وغيرهم. قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة عني بالحديث العناية
_________
(1) الزمر الآية (7).
(2) عقيدة السلف (ص.284 - 286).
(3) ترتيب المدارك (2/ 365) والديباج المذهب (2/ 105 - 106) وتاريخ الإسلام (حوادث 441 - 450/ص.233) والسير (18/ 47) وشذرات الذهب (3/ 283).(6/186)
التامة شرح 'الصحيح' في عدة أسفار رواه الناس عنه، واستقضي بحصن لورقة. له كتاب في 'الزهد والرقائق'. كان رحمه الله من علماء المالكية الكبار. توفي في صفر سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في الفتح نقلا من كتاب ابن بطال قال: ويؤخذ منه (يعني حديث عمر لما جعل الأمر بعده شورى) بطلان قول الرافضة وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أن الإمامة في أشخاص بأعيانهم، إذ لو كان كذلك لما أطاعوا عمر في جعلها شورى، ولقال قائل منهم ما وجه التشاور في أمر كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسوله، ففي رضا الجميع بما أمرهم به دليل على أن الذي كان عندهم من العهد في الإمامة أوصاف من وجدت فيه استحقها، وإدراكها يقع بالاجتهاد، وفيه أن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد التشاور والاجتهاد لم يكن لغيرهم أن يحل ذلك العقد، إذ لو كان العقد لا يصح إلا باجتماع الجميع، لقال قائل لا معنى لتخصيص هؤلاء الستة، فلما لم يعترض منهم معترض بل رضوا وبايعوا، دل ذلك على صحة ما قلناه. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الفتح: قال ابن بطال اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا فقالت المعتزلة معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة واحتجوا بقول الشاعر:
_________
(1) الفتح (13/ 198).(6/187)
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وقالت الجسمية معناه الاستقرار، وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع، وبعضهم معناه علا، وبعضهم معناه الملك والقدرة ومنه استوت له الممالك، يقال لمن أطاعه أهل البلاد، وقيل معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء، ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} (1) فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق، وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء وقيل أن "على" في قوله على العرش بمعنى: إلى، فالمراد على هذا انتهى إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء، ثم قال ابن بطال: فأما قول المعتزلة فإنه فاسد لأنه لم يزل قاهرا غالبا مستوليا، وقوله: {ثم اسْتَوَى} يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه، وهذا منتف عن الله سبحانه، وأما قول المجسمة ففاسد أيضا، لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي، وهو محال في حق الله تعالى، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (2) وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (3) قال: وأما تفسير استوى: علا فهو صحيح وهو المذهب الحق، وقول أهل السنة لأن الله سبحانه
_________
(1) القصص الآية (14).
(2) المؤمنون الآية (28).
(3) الزخرف الآية (13).(6/188)
وصف نفسه بالعلي، وقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} (1) وهي صفة من صفات الذات. (2)
- وفيه قال ابن بطال: ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثا وحالا في مكان، وأولوا قوله {ناظرة} بمنتظرة وهو خطأ لأنه لا يتعدى بإلى. (3)
- قال ابن بطال: غرضه الرد على المعتزلة في زعمهم أن أمر الله مخلوق، فتبين أن الأمر هو قوله تعالى للشيء كن فيكون بأمره له وأن أمره وقوله بمعنى واحد، وأنه يقول كن حقيقة، وأن الأمر غير الخلق لعطفه عليه بالواو. (4)
موقفه من الخوارج:
قال ابن بطال في حديث ابن عباس مرفوعا: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» (5): في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته
_________
(1) الزمر الآية (67).
(2) الفتح (13/ 405 - 406).
(3) الفتح (13/ 426).
(4) الفتح (13/ 444).
(5) أحمد (1/ 275،297،310) والبخاري (13/ 6/7054) ومسلم (3/ 1477/1849).(6/189)
خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. (1)
- وقال ابن بطال في حديث أبي هريرة مرفوعا: «هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ... » (2): وفي هذا الحديث أيضا حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء وأسماء آبائهم ولم يأمرهم بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين. (3)
- وقال أيضا في حديث حذيفة «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير ... » (4):
فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم «دعاة على أبواب جهنم» ولم يقل فيهم «تعرف وتنكر» كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة. (5)
_________
(1) الفتح (13/ 7).
(2) أحمد (2/ 324) والبخاري (6/ 760/3605).
(3) الفتح (13/ 11).
(4) البخاري (6/ 763 - 764/ 3606) ومسلم (3/ 1475 - 1476/ 1847) وابن ماجه (2/ 1317/3979) من طريق بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة ابن اليمان يقول: فذكره.
وأخرجه: أحمد (5/ 386 - 387) وأبو داود (4/ 447/4246) وابن حبان (الإحسان 13/ 298 - 299/ 5963) من طرق عن سليمان بن المغيرة عن حميد عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط ... فذكره.
(5) الفتح (13/ 37).(6/190)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من كتاب الله من ذكر الزيادة في الإيمان وبيان ذلك أنه من لم تحصل له بذلك الزيادة، فإيمانه أنقص من إيمان من حصلت له.
فإن قيل: إن الإيمان في اللغة التصديق وبذلك نطق القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} (1) أي: ما أنت بمصدق يعني: في إخبارهم عن أكل الذئب ليوسف فلا ينقص التصديق.
قال المهلب: فالجواب في ذلك أن التصديق وإن كان يسمى إيماناً في اللغة، فإن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان من كمال إيمانه، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص.
ألا ترى قول عمر بن عبد العزيز أن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان.
وأما التصديق بالله وبرسله فلا ينقص؛ ولذلك توقف مالك في بعض الروايات عنه عن القول بالنقصان فيه، إذ لا يجوز نقصان التصديق؛ لأنه إن نقص صار شكا، وانتقل عن اسم الإيمان.
_________
(1) يوسف الآية (17).(6/191)
وقال بعض العلماء: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب. وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة، ذكر أحمد بن خالد قال: حدثنا عبيد بن محمد بصنعاء قال: حدثنا مسلمة بن شبيب ومحمد بن يزيد قالا: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن عمر، والأوزاعي، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. ومن غير رواية عبد الرزاق وهو قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي.
وحكى الطبري: أنه قول الحسن البصري، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك.
فإن قيل: قد تقدم من قولكم أن الإيمان في اللغة التصديق، وأنه لا ينقص، فكيف يكون الإيمان قولا وعملا؟
قيل: كذلك نقول: التصديق في نفسه لا ينقص إلا أنه لا يتم بغير عمل، إلا لرجل أسلم ثم مات في حين إسلامه قبل أن يدرك العمل فهذا معذور؛ لأنه لم يتوجه إليه فرض الأمر والنهي ولا لزمه. وأما من لزمه فرض الأمر والنهي فلا يتم تصديقه لقوله إلا بفعله.
قال الطبري: ألا ترى أن من وعد عدة ثم أنجز وعده وحقق بالفعل قوله، أنه يقال: صدق فلان قوله بفعله، فالتصديق يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، والمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو(6/192)
إتيانه بهذه المعاني الثلاثة، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه أنه لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من توحيد ربه أنه غير مستحق اسم مؤمن، وكذلك لو أقر بالله وبرسله ولم يعمل الفرائض لا يسمى مؤمنا بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب قد يجوز أن يسمى بالتصديق مؤمنا فغير مستحق ذلك في حكم الله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1)، فأخبر تعالى أن المؤمن على الحقيقة من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل وضيع ما أمر به وفرط. (2)
- وقال أيضا: تفاضل المؤمنين في أعمالهم لا شك فيه، وأن الذي خرج من النار بما في قلبه من مقدار حبة من خردل من إيمان معلوم أنه كان ممن انتهك المحارم وارتكب الكبائر، ولم تفِ طاعته لله عند الموازنة بمعاصيه.
ومَن أطاع الله وقام بما وجب عليه وبرئ من مظالم العباد: فلا شك أن عمله أفضل من عمل الرجل المنتهك.
وقد مثَّل ذلك عليه السلام بالقمص التي كانت تبلغ الثدي، وبقميص
_________
(1) الأنفال الآيات (2 - 4).
(2) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 56 - 58).(6/193)
عمر الذي كان يجرُّه (1). ومعلوم أن عمل عمر في إيمانه أفضل من عمل من بلغ قميصه ثدييه.
فإيمانه أفضل من إيمانه بما زاد عليه من العمل. وتأويله عليه السلام ذلك بالدين يدل أن الإيمان الواقع على العمل يُسمى ديناً، كالإيمان الواقع على القول.
وهذا يرد قول أهل البدع الذين يزعمون أن إيمان المذنبين كإيمان جبريل، وأنه لا تفاضل في الإيمان، وقولهم غلط لا يخفى؛ لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وسائر الخلق يملُّون ويفترون.
فكيف يبلغ أحد منهم منزلتهم في العمل. وفي كتاب الله حجة لتفاضل المؤمنين في الإيمان؛ وذلك أن إبراهيم سأل ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى، فطلب المعاينة التي هي أعلى منازل العلم التي تسكن النفوس إليها، وتقع الطمأنينة بها، ولا يجوز أن نظن بإبراهيم خليل الله ونبيه أنه حين سأل المعاينة لم يكن مؤمناً، أو أنه اعترضه شك في إيمانه.
والدليل على صحة هذا قوله لربه حين قال له: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (2)، فأوجب لنفسه الإيمان قبل أن يعاين ما طلب معاينته، وعَذَرَه الله تعالى في طلب ذلك؛ لأن المعاينة أشفى ويهجم على النفوس منها ما لا يهجم من الخبر.
ألا ترى أن موسى حين كلمه ربه لم يشك أن الله هو المتكلم له،
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 86) والبخاري (1/ 100/23) ومسلم (4/ 1859/2390) والترمذي (4/ 467 - 468/ 2268) والنسائي (8/ 467/5026) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) البقرة الآية (260).(6/194)
ولكن طلب ما هو أرفع من ذلك وهي المعاينة، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (1)، فأعلمه ربه أنه لا يجوز أن تقع عليه حاسة البصر، وأنه لا تدركه الأبصار بما أراه الله من الآيات في الجبل الذي صار دكا بتجليه له تعالى.
ومما يشبه هذا المعنى أن الله تعالى أخبر موسى عن بني إسرائيل بعبادة العجل، فلم يشك في صدق خبره، فلما رجع إلى قومه وعاين حالهم حدث في نفسه من الإنكار والتغيير ما لم يحدث بالخبر، فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه.
وقد نبّه عليه السلام على ذلك فقال: «ليس الخبر كالمعاينة» (2). (3)
موقف السلف من أبي العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان (449 هـ)
بيان زندقته:
- قال عنه ابن عقيل: من العجائب أن المعري أظهر ما أظهر من الكفر البارد الذي لا يبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين، بل قصر فيه كل التقصير، وسقط من عيون الكل، ثم اعتذر بأن لقوله باطنا، وأنه مسلم في الباطن، فلا عقل له ولا دين ... (4)
_________
(1) الأعراف الآية (143).
(2) أخرجه: أحمد (1/ 215 و271) والحاكم (2/ 321) وصححه ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان (14/ 96/6213) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) شرح البخاري لابن بطال (1/ 74 - 75).
(4) المنتظم (16/ 23).(6/195)
- قال ابن الجوزي: وقد رأيت للمعري كتابا سماه 'الفصول والغايات' يعارض به السور والآيات، وهو كلام في نهاية الركة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته. (1)
- أشعاره عديدة، وأفكاره فيها ليست سديدة، فيها خبث وزندقة وإلحاد منها ما ذكره ابن كثير في البداية نقلا عن ابن الجوزي:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل فلاذنب يارب السماء على امرىء ... وترزق مجنونا وترزق أحمقا
رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
وقوله:
ألا إن البرية في ضلال ... وقد نظر اللبيب لما اعتراها
تقدم صاحب التوراة موسى ... وأوقع في الخسار من افتراها
فقال رجاله وحي أتاه ... وقال الناظرون بل افتراها
وما حجي إلى أحجار بيت ... كروس الحمرتشرف في ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها
وقوله:
عفت الحنيفة والنصارى اهتدت ... ويهود جارت والمجوس مضلله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر ذو دين ولا عقل له
_________
(1) المنتظم (16/ 24).(6/196)
وقوله:
فلا تحسب مقال الرسل حقا ... ولكن قول زور سطروه
فكان الناس في عيش رغيد ... فجاؤوا بالمحال فكدروه
وقلت أنا -أي ابن كثير- معارضة عليه:
فلا تحسب مقال الرسل زورا ... ولكن قول حق بلغوه
وكان الناس في جهل عظيم ... فجاؤوا بالبيان فأوضحوه
وقوله:
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا ... وأورثتنا أفانين العداوات
وهل أبيح نساء الروم عن عرض ... للعرب إلا بأحكام النبوات
وقوله:
وما حمدي لآدم أو بنيه ... وأشهد أن كلهم خسيس
وقوله:
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما ... دياناتكم مكرا من القدما
وقوله:
صرف الزمان مفرق الالفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
ونهيت عن قتل النفوس تعمدا ... وبعثت تقبضها مع الملكين
وزعمت أن لها معادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالين(6/197)
وقوله:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعود له سبك
وقوله:
أمور تستخف بها حلوم ... وما يدري الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور
وقوله:
قالت معاشرلم يبعث إلهكم ... إلى البرية عيساها ولا موسى
وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ... وصيروا دينهم في الناس ناموسا
وذكر ابن الجوزي وغيره أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه الأشياء تدل على كفره، وزندقته وانحلاله، ويقال إنه أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد
معناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله. (1)
_________
(1) البداية (12/ 79 - 81).(6/198)
أبو القاسم بن المسلمة (1) (450 هـ)
الوزير القائم بأمر الله، الصدر المعظم، أبو القاسم علي بن الحسن بن الشيخ أبي الفرج بن المسلمة. استكتبه القائم ثم استوزره وكان عزيزا عليه جدا. وكان من خيار الوزراء العادلين. ولد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. وسمع من جده وابن أبي مسلم الفرضي، وإسماعيل الصرصري. حدث عنه الخطيب، وكان خصيصا به، وقال: اجتمع فيه من الآلات ما لم يجتمع في أحد قبله مع سداد مذهب ووفور عقل وأصالة رأي.
كان من علماء الكبراء ونبلائهم. وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهرا، ثم قتله البساسيري بعدما شهره وذلك سنة خمسين وأربعمائة. وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر.
موقفه من الرافضة:
جاء في البداية والنهاية: وأمر رئيس الرؤساء -أبو القاسم- الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره. (2)
_________
(1) تاريخ بغداد (11/ 391 - 392) وتاريخ الإسلام (حوادث 441 - 450/ص.250 - 252) والسير (18/ 216 - 218) والبداية والنهاية (12/ 86).
(2) البداية والنهاية (12/ 73).(6/199)
عبد الله بن ياسين (1) (451 هـ)
الفقيه أبو محمد، عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي المصمودي، ذو الأنباء العظيمة، والقصص الغريبة، القائم بدعوة المرابطين وجامع شملهم، وصاحب الدعوة الإصلاحية فيهم، كان من طلبة العلم بالسوس "بدار المرابطين". قال القاضي عياض: ولقد ذكر أنه ضرب بالسوط أبا بكر بن عمر وهو إذ ذاك أمير المسلمين، لحق تعين عليه عنده، والكل له مطيع، وسيرته في أموره هناك وتقريراته معروفة، محفوظة، يتأثر عليها مشيخة المرابطين، ويحفظون في فتاويه وأجوبته ما لا يعدلون عنه. توفي سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. ودفن بموضع يعرف بكريفلة.
موقفه من الرافضة:
جاء في الاستقصا: وكان أبو بكر بن عمر رجلا صالحا ورعا فجعل على مقدمته ابن عمه يوسف بن تاشفين اللمتوني، ثم سار حتى انتهى إلى بلاد السوس. فغزا جزولة من قبائلها وفتح مدينة ماسة وتارودانت قاعدة بلاد السوس وكان بها قوم من الرافضة يقال لهم: البجلية نسبة إلى علي بن عبد الله البجلي الرافضي. كان سقط إلى بلاد السوس أيام قيام عبيد الله الشيعي بإفريقية فأشاع هنالك مذهب الرافضة فتوارثوه عنه جيلا بعد جيل وعضوا عليه، فكانوا لا يرون الحق إلا ما في يدهم فقاتلهم عبد الله بن ياسين وأبو بكر بن عمر حتى فتحوا مدينة تارودانت عنوة، وقتلوا بها خلقا كثيرا،
_________
(1) الاستقصا (2/ 7 - 18) والأعلام للزركلي (4/ 144) وترتيب المدارك (2/ 333).(6/200)
ورجع من بقي منهم إلى مذهب السنة والجماعة. (1)
التعليق:
وهكذا الرافضة مثل الذباب لا يتركون مكانا إلا دخلوه. فجزى الله هذا القائد خيرا إذ أبادهم وأراح المسلمين من شرهم.
ابن حزم (2) (456 هـ)
الإمام العلامة الحافظ الفقيه المجتهد أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم اليزيدي القرطبي الظاهري صاحب التصانيف كان جدهم خلف أول من دخل إلى الأندلس في صحابة عبد الرحمن الداخل. ولد بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وسمع من أبي عمر بن الحسور، ويحيى بن مسعود بن وجه الجنة ويوسف بن عبد الله القاضي وابن عبد البر وغيرهم. وروى عنه أبو عبد الله الحميدي فأكثر وابنه أبو رافع الفضل وطائفة.
كان شافعيا ثم انتقل إلى القول بالظاهر ونفي القول بالقياس وتمسك بالعموم والبراءة الأصلية، وكان صاحب فنون فيه دين وتورع وتزهد وتحر للصدق. وزر للمستظهر بالله ثم نبذ الوزارة وأقبل على العلم. له عدة مصنفات منها: 'الإيصال إلى فهم كتاب الخصال' و'الأحكام' و'المحلى' و'الفصل' وعدة.
_________
(1) الاستقصا (2/ 14).
(2) وفيات الأعيان (3/ 325 - 330) وتاريخ الإسلام (حوادث 451 - 460/ص.403 - 417) والسير (18/ 184 - 212) وتذكرة الحفاظ (3/ 1146 - 1155) والبداية والنهاية (12/ 98) وشذرات الذهب (3/ 299 - 300).(6/201)
وقال صاحب بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة. ومع هذا، فقد أخطأ رحمه الله في غير ما مسألة في العقيدة حتى قال ابن عبد الهادي: ولكن تبين لي منه أنه جهمي جلد، لا يثبت معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل، كالخالق والحق، وسائر الأسماء عنده لا يدل على معنى أصلا كالرحيم والعليم والقدير، بل العلم عنده هو القدرة، والقدرة هي العلم، وهما عين الذات. وقال ابن كثير: وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات.
وقال الذهبي رحمه الله: ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين.
قال أبو الخطاب بن دحية: كان ابن حزم قد برص من أكل اللبان وأصابه زمانة وعاش اثنتين وسبعين سنة إلا شهرا.
توفي ليومين بقيا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال ابن حزم: والواجب إذا اختلف الناس أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع إلى القرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا إلى شيء غيرهما ولا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم.
برهان ذلك قول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ(6/202)
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (1) فصح أنه لا يحل الرد عند التنازع إلى شيء غير كلام الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا تحريم الرجوع إلى قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن من رجع إلى قول إنسان دونه عليه السلام فقد خالف أمر الله تعالى بالرد إليه وإلى رسوله لا سيما مع تعليقه تعالى ذلك بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ولم يأمر الله تعالى بالرجوع إلى قول بعض المؤمنين دون جميعهم، وقد كان الخلفاء رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وعثمان بالمدينة وعمالهم باليمن ومكة وسائر البلاد وعمال عمر بالبصرة والكوفة ومصر والشام.
ومن الباطل المتيقن الممتنع الذي لا يمكن أن يكونوا رضي الله عنهم طووا علم الواجب والحلال والحرام عن سائر الأمصار واختصوا به أهل المدينة فهذه صفة سوء قد أعاذهم الله تعالى منها وقد عمل ملوك بني أمية بإسقاط بعض التكبير من الصلاة وبتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين حتى فشا ذلك في الأرض فصح أنه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- وقال رحمه الله: ولا يحل لأحد أن يقلد أحدا لا حيا ولا ميتا وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عزوجل في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) المحلى (1/ 55/99).(6/203)
عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا دل عليه سأله، فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله عزوجل ورسوله؟ فإن قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا، وإن قال له هذا رأيي أو هذا قياس أو هذا قول فلان وذكر له صاحبا (1) أو تابعا أو فقيها قديما أو حديثا أو سكت أو انتهره أو قال له لا أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله ولكنه يسأل غيره.
برهان ذلك قول الله عزوجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) فلم يأمرنا عزوجل قط بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلد عالما أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا أولي الأمر، وإذا لم يرد إلى من ذكرنا فقد خالف أمر الله عزوجل ولم يأمر الله عزوجل قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض.
فإن قيل: فإن الله عزوجل قال: {فسألوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} (3) وقال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} (4). قلنا: نعم ولم يأمر الله عزوجل أن يقبل من النافر للتفقه في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه لم يأذن به الله عزوجل وإنما أمر تعالى أن يسأل أهل الذكر عما يعلمونه في الذكر الوارد من عند الله تعالى فقط لا
_________
(1) هذا مذهب ابن حزم في رد قول الصحابي، والراجح أن قول الصحابي حجة ما لم يخالف. انظر إعلام الموقعين (4/ 118 فما بعدها).
(2) النساء الآية (59).
(3) النحل الآية (43).
(4) التوبة الآية (122).(6/204)
عمن قاله من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر الله تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا في دين لم يشرعه الله عزوجل، ومن ادعى وجود تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل وقال قولا لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله، قال تعالى ذاما لقوم قالوا: {إنا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} (1) والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله عزوجل الذي أوجبه على عباده، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلما إلا حتى يقر بأن الله تعالى إلهه لا إله غيره وأن محمدا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين إليه وإلى غيره، فإذ لا شك في هذا فكل سائل في الأرض عن نازلة في دينه فإنما يسأل عما حكم الله تعالى به في هذه النازلة، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا: أهذا حكم الله وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهذا لا يعجز عنه من يدري ما الاسلام ولو أنه كما جلب من قوقوا وبالله تعالى التوفيق. (2)
- وقال رحمه الله: والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب، هذا في أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل ولا للمقلد، وكلاهما هالك.
برهان هذا ما ذكرناه آنفا باسناده من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا اجتهد
_________
(1) الأحزاب الآية (67).
(2) المحلى (1/ 66 - 67/ 103).(6/205)
الحاكم فأخطأ فله أجر» (1) وذم الله التقليد جملة، فالمقلد عاص والمجتهد مأجور، وليس من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقلدا لأنه فعل ما أمره الله تعالى به، وإنما المقلد من اتبع من دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه فعل ما لم يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (2).اهـ (3)
- وقال رحمه الله: والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ. وبالله تعالى التوفيق.
قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (4)، وقال تعالى: {ولو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (5) وذم الله الاختلاف فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (6) وقال تعالى: {ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} (7) وقال تعالى: {تبياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (8) فصح أن الحق
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 204 - 205) والبخاري (13/ 393/7352) ومسلم (3/ 1342/1716) وأبو داود (4/ 6 - 7/ 3574) والترمذي (3/ 615/1326) وابن ماجه (2/ 772/2314).
(2) آل عمران الآية (85).
(3) المحلى (1/ 69 - 70/ 108).
(4) يونس الآية (32).
(5) النساء الآية (82).
(6) آل عمران الآية (105).
(7) الأنفال الآية (46).
(8) النحل الآية (89).(6/206)
في الأقوال ما حكم الله تعالى به فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله عزوجل. ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا معقول، وما كان هكذا فهو باطل، ويبطله أيضا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» فنص عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ، ومن قال: إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كلفوا إلا إصابة ما أمر الله به قال الله عزوجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (1) فافترض عزوجل اتباع ما أنزل الينا وأن لا نتبع غيره وأن لا نتعدى حدوده، وإنما أجر المجتهد المخطئ أجرا واحدا على نيته في طلب الحق فقط، ولم يأثم إذا حرم الإصابة، فلو أصاب الحق أجر أجرا آخر كما قال عليه السلام: «إنه إذا أصاب أجر أجرا ثانيا».
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أخبرنا ابراهيم بن أحمد الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حيوة بن شريح حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن ابراهيم بن الحرث عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص انه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». ولا يحل الحكم بالظن أصلا لقول الله تعالى: {إِنْ
_________
(1) الأعراف الآية (3).(6/207)
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} (1) ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (2) وبالله تعالى التوفيق. (3)
- ومن شعره يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله:
فإن تَحْرِقوا القِرْطَاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رَقّ وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة ... فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت ... أكفهم القرآن في مدن الثغر (4)
- وقال:
أشهد الله والملائكة أني ... لا أرى الرأي والمقاييس دينا
حاش لله أن أقول سوى ما ... جاء في النص والهدى مستبينا
كيف يخفى على البصائر هذا ... وهو كالشمس شهرة ويقينا (5)
فقال الذهبي مجيبا له:
_________
(1) النجم الآية (28).
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (4/ 312) والبخاري (9/ 248/5143) ومسلم (4/ 1985/2563) وأبو داود (5/ 216 - 217/ 4917) والترمذي (4/ 313/1988).
(3) المحلى (1/ 70 - 71/ 109).
(4) السير (18/ 205).
(5) السير (18/ 205 - 206).(6/208)
لو سلمتم من العموم الذي ... نعلم قطعا تخصيصه ويقينا
وترطبتم فكم قد يبستم ... لرأينا لكم شفوفا مبينا
- وله:
أنائم أنت عن كتب الحديث وما ... أتى عن المصطفى فيها من الدين
كمسلم والبخاري اللذين هما ... شدا عرى الدين في نقل وتبيين
أولى بأجر وتعظيم ومحمدة ... يا من هدى بهما اجعلني كمثلهما ... من كل قول أتى من رأي سحنون في نصر دينك محضا غير مفتون (1)
- وقال:
قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت ... أقوالهم وأقاويل الورى محن
فقلت: هل عيبهم لي غير أني ... لا أقول بالرأي إذ في رأيهم فتن
وأنني مولع بالنص لست إلى ... سواه أنحو ولا في نصره أهن
لا أنثني لمقاييس يقال بها ... في الدين بل حسبي القرآن والسنن
يا برد ذا القول في قلبي وفي كبدي ... ويا سروري به لو أنهم فطنوا
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا ... من مات من قوله عندي له كفن (2)
موقفه من المشركين:
من مواقفه الجليلة رده المفحم على قصيدة الأرمني المرتد:
قال ابن كثير: وها أنا أذكر القصيدة الأرمنية المخذولة الملعونة، وأتبعها بالفريدة الإسلامية المنصورة الميمونة قال المرتد الكافر الأرمني على لسان
_________
(1) السير (18/ 209).
(2) السير (18/ 212).(6/209)
ملكه لعنهما الله وأهل ملتهم أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين آمين يا رب العالمين. ومن خط ابن عساكر كتبتها، وقد نقلوها من كتاب صلة الصلة للفرغاني:
من الملك الطهر المسيحي مالك ... إلى خلف الأملاك من آل هاشم
إلى الملك الفضل المطيع أخي العلا ... ومن يرتجى للمعضلات العظائم
أما سمعت أذناك ما أنا صانع ... ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم
فإن تك عما قد تقلدت نائما ... فإني عما همني غير نائم
ثغوركم لم يبق فيها لوهنكم ... وضعفكم إلا رسوم المعالم
فتحنا الثغور الأرمنية كلها ... بفتيان صدق كالليوث الضراغم
ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها ... وتبلغ منها قضمها للشكائم
إلى كل ثغر بالجزيرة آهل ... إلى جند قنسرينكم فالعواصم
وملطية مع سميساط وكركر ... وفي البحر أضعاف الفتوح التواخم
وبالحدث الحمراء جالت عساكري ... وكيسوم بعد الجعفري للمعالم
وكم قد ذللنا من أعزة أهلها ... فصاروا لنا من بين عبد وخادم
وسد سروج إذ خربنا بجمعنا ... لنا رتبة تعلو على كل قائم
وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا وصبح رأس العين منا بطارق ... بمنديل مولى جل عن وصف آدمي ببيض غزوناها بضرب الجماجم
ودارا وميافارقين وأزرنا ... أذقناهم بالخيل طعم العلاقم
واقريطش جازت إليها مراكبي ... على ظهر بحر مزبد متلاطم
فحزتم أسرى وسيقت نساؤهم ... ذوات الشعور المسبلات النواعم(6/210)
هناك فتحنا عين زربة عنوة ... نعم وأبدنا كل طاغ وظالم
إلى حلب حتى استبحنا حريمها ... وهدم منها سورها كل هادم
أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم ... وصبيانهم مثل المماليك خادم
وقد فر عنها سيف دولة دينكم ... وناصركم منا على رغم راغم
وملنا على طرسوس ميلة حازم ... أذقنا لمن فيها لحز الحلاقم
فكم ذات عز حرة علوية ... منعمة الأطراف ريا المعاصم
سبينا فسقنا خاضعات حواسرا ... بغير مهور لا ولا حكم حاكم
وكم من قتيل قد تركنا مجندلا ... يصب دما بين اللها واللهازم
وكم وقعة في الدرب أفنت كماتك ... وسقناهم قسرا كسوق البهائم
وملنا على أرياحكم وحريمها ... مدوخة تحت العجاج السواهم
فأهوت أعاليها وبدل رسمها ... من الأنس وحشا بعد بيض نواعم
إذا صاح فيها البوم جاوبه الصدى ... وأتبعه في الربع نوح الحمائم
وإنطاك لم تبعد علي وإنني ... سأفتحها يوما بهتك المحارم
ومسكن آبائي دمشق فإنني ... سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي
ومصر سأفتحها بسيفي عنوة وأجزي كافورا بما يستحقه ... ألا شمروا يا أهل حمدان شمروا ... وآخذ أموالي بها وبهائمي ... بمشط ومقراض وقص محاجم أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم
فإن تهربوا تنجوا كراما وتسلموا ... من الملك الصادي بقتل المسالم
كذاك نصيبين وموصلها إلى ... جزيرة آبائي وملك الأقادم
سأفتح سامرا وكوثا وعكبرا ... وتكريتها مع ماردين العواصم(6/211)
وأقتل أهليها الرجال بأسرها ... وأغنم أموالا بها وحرائم
ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم ... فكلكم مستضعف غير رائم
رضيتم بحكم الديلمي ورفضه ... فصرتم عبيدا للعبيد الديالمي
ويا قاطني الرملات ويلكم ارجعوا ... إلى أرض صنعا راعيين البهائم
وعودوا إلى أرض الحجاز أذلة ... وخلوا بلاد الروم أهل المكارم
سألقي جيوشا نحو بغداد سائرا ... إلى باب طاق حيث دار القماقم
وأحرق أعلاها وأهدم سورها ... وأسبي ذراريها على رغم راغم
وأحرز أموالا بها وأسرة ... وأقتل من فيها بسيف النقائم
وأسري بجيشي نحو أهواز مسرعا ... لإحراز ديباج وخز السواسم
وأشعلها نهبا وأهدم قصورها ... وأسبي ذراريها كفعل الأقادم
ومنها إلى شيراز والري فاعلموا ... خراسان قصري والجيوش بحارم
إلى شاس بلخ بعدها وخواتها ... وفرغانة مع مروها والمخازم
وسابور أهدمها وأهدم حصونها ... وأوردها يوما كيوم السمائم
وكرمان لا أنسى سجستان كلها ... وكابلها النائي وملك الأعاجم
أسير بجندي نحو بصرتها التي ... لها بحر عج رائع متلازم
إلى واسط وسط العراق وكوفة ... كما كان يوما جندنا ذو العزائم
وأخرج منها نحو مكة مسرعا ... أجر جيوشا كالليالي السواجم
فأملكها دهرا عزيزا مسلما ... أقيم بها للحق كرسي عالم
وأحوي نجدا كلها وتهامها ... وسرا واتهام مذحج وقحاطم
وأغزو يمانا كلها وزبيدها ... وصنعاءها مع صعدة والتهائم(6/212)
فأتركها أيضا خرابا بلاقعا ... خلاء من الأهلين أهل نعائم
وأحوي أموال اليمانين كلها ... وما جمع القرماط يوم محارم
أعود إلى القدس التي شرفت بنا ... بعز مكين ثابت الأصل قائم
وأعلو سريري للسجود معظما ... وتبقى ملوك الأرض مثل الخوادم
هنالك تخلو الأرض من كل مسلم ... لكل نقي الدين أغلف زاعم
نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم ... وأعلنتموا بالمنكرات العظائم
قضاتكم باعوا القضاء بدينهم ... كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم
عدو لكم بالزور يشهد ظاهرا ... وبالإفك والبرطيل مع كل قائم
سأفتح أرض الله شرقا ومغربا ... وأنشر دينا للصليب بصارمي
فعيسى علا فوق السموات عرشه ... يفوز الذي والاه يوم التخاصم
وصاحبكم بالترب أودى به الثرى ... فصار رفاتا بين تلك الرمائم
تناولتم أصحابه بعد موته ... بسب وقذف وانتهاك المحارم
هذا آخرها لعن الله ناظمها وأسكنه النار، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} (1) يوم يدعو ناظمها ثبورا ويصلى نارا سعيرا، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ
_________
(1) غافر الآية (52).(6/213)
خَذُولًا (29)} (1) إن كان مات كافرا.
وهذا جوابها لأبي محمد بن حزم الفقيه الظاهري الأندلسي قالها ارتجالا حين بلغته هذه الملعونة غضبا لله ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك من رآه، فرحمه الله وأكرم مثواه وغفر له خطاياه. (2)
من المحتمي بالله رب العوالم ... ودين رسول الله من آل هاشم
محمد الهادي إلى الله بالتقى ... وبالرشد والإسلام أفضل قائم
عليه من الله السلام مرددا ... إلى أن يوافي الحشر كل العوالم
إلى قائل بالإفك جهلا وضلة ... عن النقفور المفتري في الأعاجم
دعوت إماما ليس من أمرائه ... بكفيه إلا كالرسوم الطواسم
دهته الدواهي في خلافته كما ... دهت قبله الأملاك دهم الدواهم
ولا عجب من نكبة أو ملمة ... تصيب كريم الجد ابن الأكارم
ولو أنه في حال ماضي جدوده ... لجرعتم منه سموم الأراقم
عسى عطفة لله في أهل دينه ... تجدد منه دارسات المعالم
فخرتم بما لو كان فيكم حقيقة ... لكان بفضل الله أحكم حاكم
إذن لاعترتكم خجلة عند ذكره ... وأخرس منكم كل فاه مخاصم
سلبناكم كَرّاً ففزتم بغرة ... من الكر أفعال الضعاف العزائم
فطرتم سرورا عند ذاك ونشوة ... كفعل المهين الناقص المتعالم
وما ذاك إلا في تضاعيف عقله ... عريقا وصرف الدهر جم الملاحم
_________
(1) الفرقان الآيات (27 - 29).
(2) البداية والنهاية (11/ 260 - 269).(6/214)
ولما تنازعنا الأمور تخاذلا ... ودانت لأهل الجهل دولة ظالم
وقد شعلت فينا الخلائف فتنة ... لعُبدانهم مع تُركهم والدلائم
بكفر أياديهم وجحد حقوقهم ... بمن رفعوه من حضيض البهائم
وثبتم على أطرافنا عند ذاكم ... وثوب لصوص عند غفلة نائم
ألم تنتزع منكم بأعظم قوة ... جميع بلاد الشام ضربة لازم
ومصرا وأرض القيروان بأسرها ... وأندلسا قسرا بضرب الجماجم
ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا ... صقلية في بحرها المتلاطم
مشاهد تقديساتكم وبيوتها ... لنا وبأيدينا على رغم راغم
أما بيت لحم والقمامة بعدها ... بأيدي رجال المسلمين الأعاظم
وسركيسكم في أرض اسكندرية ... وكرسيكم في القدس في أدرثاكم
ضممناكم قسرا برغم أنوفكم ... وكرسي قسطنطينية في المعادم
ولابد من عود الجميع بأسره ... إلينا بعز قاهر متعاظم
أليس يزيدٌ حل وسط دياركم ... على باب قسطنطينية بالصوارم
ومسلمة قد داسها بعد ذاكم ... بجيش تهام قد دوى بالضراغم
وأخدمكم بالذل مسجدنا الذي ... بنى فيكم في عصره المتقادم
إلى جنب قصر الملك من دار ملككم ... ألا هذه حق صرامة صارم
وأدى لهارون الرشيد مليككم ... رفادة مغلوب وجزية غارم
سلبناكم مصرا شهودٌ بقوة ... حبانا بها الرحمن أرحم راحم
إلى بيت يعقوب وأرباب دومة ... إلى لجة البحر المحيط المحاوم
فهل سرتم في أرضنا قط جمعة ... أبى الله ذا كم يا بقايا الهزائم(6/215)
فمالكم إلا الأماني وحدها ... بضائع نوكى تلك أحلام نائم
رويدا فما بعد الخلافة نورها ... وسفر مغير أوجوه الهواشم
وحينئذ تدرون كيف قراركم ... إذا صدمتكم خيل جيش مصادم
على سالف العادات منا ومنكم ... ليالي بهم في عداد الغنائم
سبيتم سبايا يحصر العد دونها ... وسبيكم فينا كقطر الغمائم
فلو رام خلق عدها رام معجزا ... وأنى بتعداد لرش الحمائم
بابني حميدان وكافور صلتم ... أرذال أنجاس قصارالمعاصم
دعي وحجام سطوتم عليهما ... وما قدرهم مصاص دم المحاجم
فهلا على دميانة قبل ذلك أو ... على محل أرباض رماة الضراغم
ليالي قادوكم كما اقتادكم ... أقيال جرجان بحز الحلاقم
وساقوا على رسل بنات ملوككم ... سبايا كما سيقت ظباء الصرائم
ولكن سلوا عنا هرقلا ومن خلى ... لكم من ملوك مكرمين قماقم
يخبركم عنا التنوخ وقيصر ... وكم قد سبينا من نساء كرائم
وعما فتحنا من منيع بلادكم ... وعما أقمنا فيكم من مآتم
ودع كل نذل مفتر لا تعده ... إماما ولا الدعوى له بالتقادم
فهيهات سامرا وتكريت منكم ... إلى جبل تلكم أماني هائم
منى يتمناها الضعيف ودونها ... نظائرها ... وحز الغلاصم
تريدون بغداد سوقا جديدة ... مسيرة شهر للفنيق القواصم
محلة أهل الزهد والعلم والتقى ... ومنزلة يختارها كل عالم
دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها ... من المسلمين الغر كل مقاوم(6/216)
ودون دمشق جمع جيش كأنه ... سحائب طير ينتحي بالقوادم
وضرب يلقي الكفر كل مذلة ... كما ضرب السِّكِّي بِيض الدراهمِ
ومن دون أكناف الحجاز جحافل ... كقطر الغيوم الهائلات السواجم
بها من بني عدنان كل سميدع ... ومن حي قحطان كرام العمائم
ولو قد لقيتم من قضاعة كبة ... لقيتم ضراما في يبيس الهشائم
إذا أصبحوكم ذكَّروكم بما خلا ... لهم معكم من صادق متلاحم
زمان يقودون الصوافن نحوكم ... فجئتم ضمانا أنكم في الغنائم
سيأتيكم منهم قريبا عصائب ... تنسيكم تذكار أخذ العواصم
وأموالكم حل لهم ودماؤكم ... بها يشتفي حر الصدور الحوايم
وأرضيكم حقا سيقتسمونها ... كما فعلوا دهرا بعدل المقاسم
ولو طرقتكم من خراسان عصبة ... وشيراز والري الملاح القوائم
لما كان منكم عند ذلك غير ما ... عهدنا لكم: ذل وعض الأباهم
فقد طالما زاروكم في دياركم ... مسيرة عام بالخيول الصوادم
فأما سجستان وكرمان بالأولى ... وكابل حلوان بلاد المراهم
وفي فارس والسوس جمع عرمرم ... وفي أصبهان كل أروع عارم
فلو قد أتاكم جمعهم لغدوتم ... فرائس كالآساد فوق البهائم
وبالبصرة الغراء والكوفة التي ... سمت وبآدي واسط بالعظائم
جموع تسامي الرمل عدا وكثرة ... فما أحد عادوه منهم بسالم
ومن دون بيت الله في مكة التي ... حباها بمجد للبرايا مراحم
محل جميع الأرض منها تيقنا ... محلة سفل الخف من فص خاتم(6/217)
دفاع من الرحمن عنها بحقها ... فما هو عنها رد طرف برائم
بها وقع الأحبوش هلكى وفيلهم ... بحصباء طير في ذرى الجو حائم
وجمع كجمع البحر ماض عرمرم ... حمى بنية البطحاء ذات المحارم
ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة ... جموع كمسود من الليل فاحم
يقودهم جيش الملائكة العلى ... دفاعا ودفعا عن مصل وصائم
فلو قد لقيناكم لعدتم رمائما ... كما فرق الإعصار عظم البهائم
وباليمن الممنوع فتيان غارة ... إذا مالقوكم كنتم كالمطاعم
وفي جانبي أرض اليمامة عصبة ... معاذر أمجاد طوال البراجم
ونستفتكم والقرمطيين دولة ... تقووا بميمون التقية حازم
خليفة حق ينصر الدين حكمه ... ولا يتقي في الله لومة لائم
إلى ولد العباس تنمي جدوده ... بفخر عميم مزبد الموج ناعم
ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم ... فأهلا بماض منهم وبقادم
محلهم في مسجد القدس أو لدى ... منازل بغداد محل المكارم
وإن كان من عليا عدي وتيمها ... ومن أسد هذا الصلاح الحضارم
فأهلا وسهلا ثم نعمى ومرحبا بهم ... من خيار سالفين أقادم
هم نصروا الإسلام نصرا مؤزرا ... وهم فتحوا البلدان فتح المراغم
رويدا فوعد الله بالصدق وارد ... بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم
سنفتح قسطنطينية وذواتها ... ونجعلكم فوق النسور القعاشم
ونفتح أرض الصين والهند عنوة ... بجيش لأرض الترك والخزر حاطم
مواعيد للرحمن فينا صحيحة وليست ... كآمال العقول السواقم(6/218)
ونملك أقصى أرضكم وبلادكم ... ونلزمكم ذل الحراب المخارم
إلى أن ترى الإسلام قد عم حكمه ... جميع الأراضي بالجيوش الصوارم
أتقرن يا مخذول دينا مثلثا ... بعيدا عن المعقول بادي المآثم
تدين لمخلوق يدين لغيره ... فيالك سحقا ليس يخفى لعالم
أناجيلكم مصنوعة قد تشابهت ... كلام الأولى فيها أتوا بالعظائم
وعود صليب ما تزالون سجدا ... له يا عقول الهاملات السوائم
تدينون تضلالا بصلب إلهكم ... بأيدي يهود أرذلين الآثم
إلى ملة الإسلام توحيد ربنا ... فما دين ذي دين لها بمقاوم
وصدق رسالات الذي جاء بالهدى ... محمد الآتي برفع المظالم
وأذعنت الأملاك طوعا لدينه ... ببرهان صدق طاهر في المواسم
كما دان في صنعاء مالك دولة ... وأهل عمان حيث رهط الجهاضم
وسائر أملاك اليمانين أسلموا ... ومن بلد البحرين قوم اللهازم
أجابوا لدين الله لا من مخافة ... ولا رغبة يحظى بها كف عادم
فحلوا عرى التيجان طوعا ورغبة ... بحق يقين بالبراهين فاحم
وحاباه بالنصر المكين إلهه ... وصير من عاداه تحت المناسم
فقير وحيد لم تعنه عشيرة ... ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم
ولا عنده مال عتيد لناصر ... ولا دفع مرهوب ولا لمسالم
ولا وعد الأنصار مالا يخصهم ... بلى كان معصوما لأقدر عاصم
ولم تنهه في الحق قوة آسر ... ولا مكنت من جسمه يد ظالم
كما يفتري إفكا وزورا وضلة ... على وجه عيسى منكم كل لاطم(6/219)
على أنكم قد قتلتموا هو ربكم ... فيا لضلال في القيامة عائم
أبى الله أن يدعى له ابن وصاحب ... ستلقى دعاة الكفر حالة نادم
ولكنه عبد نبي مكرم ... من الناس مخلوق ولا قول زاعم
أيلطم وجه الرب؟ تبا لدينكم ... لقد فقتم في قولكم كل ظالم
وكم آية أبدى النبي محمد ... وكم علم أبداه للشرك حاطم
تساوى جميع الناس في نصر حقه ... بلى ولكل في العطا حال خادم
فعرب وأحبوش وفرس وبربر ... وكرديهم قد فاز قدح المراحم
وقبط وأنباط وخزر وديلم ... وروم رموكم دونه بالقواصم
أبوا كفر أسلاف لهم فتمنعوا ... فآبوا بحظ في السعادة لازم
به دخلوا في ملة الحق كلهم ... ودانوا لأحكام الإله اللوازم
به صح تفسير المنام الذي أتى ... به دانيال قبله حتم حاتم
وهند وسند أسلموا وتدينوا ... بدين الهدى رفض لدين الأعاجم
وشق له بدر السموات آية ... وأشبع من صاع له كل طاعم
وسالت عيون الماء في وسط كفه ... فأروى به جيشا كثيرا هماهم
وجاء بما تقضي العقول بصدقه ... ولا كدعاء غير ذات قوائم
عليه سلام الله ما ذر شارق ... تعقبه ظلماء أسحم قاتم
براهينه كالشمس لا مثل قولكم ... وتخليطكم في جوهر وأقانم
لنا كل علم من قديم ومحدث ... وأنتم حمير داميات المحازم
أتيتم بشعر بارد متخاذل ... ضعيف معاني النظم جم البلاعم
فدونكها كالعقد فيه زمرد ... ودر وياقوت بإحكام حاكم(6/220)
وجاء في ميزان الاعتدال: قال ابن حزم: قالت فرقة عادية بنبوة المغيرة ابن سعيد وكان لعنه الله مولى بجيلة. وكان لعنه الله يقول: إن معبوده على صورة رجل على رأسه تاج وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء. وإنه لما أراد أن يخلق تكلم باسمه فطار فوقع على تاجه، ثم كتب بأصبعه أعمال العباد. فلما رأى المعاصي ارفض عرقا، فاجتمع من عرقه بحران ملح وعذب؛ وخلق الكفار من البحر الملح. تعالى الله عما يقول. وحاكي الكفر ليس بكافر؛ فإن الله تبارك وتعالى قص علينا في كتابه صريح كفر النصارى واليهود، وفرعون ونمرود، وغيرهم. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال الذهبي في سيره: وكان في هذا الحين المتكلم البارع هشام بن الحكم الكوفي الرافضي المشبه المعثر، وله نظر وجدل، وتواليف كثيرة. قال ابن حزم: جمهور متكلمي الرافضة كهشام بن الحكم، وتلميذه أبي علي الصكاك وغيرهما يقولون بأن علم الله محدث، وأنه لم يعلم شيئا في الأزل، فأحدث لنفسه علما. قال: وقال هشام بن الحكم في مناظرته لأبي الهذيل: إن ربه طوله سبعة أشبار بشبر نفسه. قال: وكان داود الجواربي من كبار متكلميهم يزعم أن ربه لحم ودم على صورة الآدمي. قال: ولا يختلفون في رد الشمس لعلي مرتين. ومن قول كلهم: إن القرآن مبدل زيد فيه ونقص منه إلا الشريف المرتضى وصاحبيه. قال النديم: هو من أصحاب جعفر
_________
(1) الميزان (4/ 162).(6/221)
الصادق، هذب المذهب، وفتق الكلام في الإمامة. (1)
- قال في الملل والنحل: ومن قول الإمامية كلها قديما وحديثا أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه، ونقص منه كثير، وبدل منه كثير حاشا علي بن الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي ابن الحسن بن علي بن أبي طالب. وكان إماميا يظاهر بالاعتزال مع ذلك؛ فإنه كان ينكر هذا القول ويكفر من قاله، وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي.
قال أبو محمد: القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صحيح وتكذيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت طائفة من الكيسانية بتناسح الأرواح، وبهذا يقول السيد الحميري الشاعر لعنه الله؛ ويبلغ الأمر بمن يذهب إلى هذا إلى أن يأخذ أحدهم البغل أو الحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أن روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه، فاعجبوا لهذا الحمق الذي لا نظير له. وما الذي خص هذا البغل الشقي أو الحمار المسكين بنقله الروح إليه دون سائر البغال والحمير. وكذلك يفعلون بالعنز على أن روح أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فيها ... (2)
- ثم ذكر من سخافاتهم إلى أن قال: فهذه مذاهب الإمامية، وهي المتوسطة في الغلو من فرق الشيعة، وأما الغالية من الشيعة فهم قسمان: قسم أوجبت النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لغيره، والقسم الثاني أوجبوا الإلهية لغير الله عز
_________
(1) السير (10/ 543 - 544).
(2) الملل والنحل (4/ 182).(6/222)
وجل فلحقوا بالنصارى واليهود وكفروا أشنع الكفر، فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق؛ فمنهم الغرابية وقولهم إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب، وإن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل بمحمد ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط. وقالت طائفة منهم بل تعمد ذلك جبريل، وكفروه ولعنوه لعنهم الله.
قال أبو محمد: فهل سمع بأضعف عقولا وأتم رقاعة من قوم يقولون إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يشبه علي بن أبي طالب، فيا للناس أين يقع شبه ابن أربعين سنة من صبي ابن إحدى عشرة سنة حتى يغلط به جبريل عليه السلام، ثم محمد عليه السلام فوق الربعة، إلى الطول، قويم القناة، كث اللحية، أدلج العينين، ممتلي الساقين - صلى الله عليه وسلم -، قليل شعر الجسد، أفرع. وعليّ دون الربعة إلى القصر، منكب شديد الانكباب كأنه كسر ثم جبر، عظيم اللحية قد ملأت صدره من منكب إلى منكب إذ التحي (1) ثقيل العينين دقيق الساقين أصلع عظيم الصلع ليس في رأسه شعر إلا في مؤخره يسير، كثير شعر اللحية. فاعجبوا لحمق هذه الطبقة، ثم لو جاز أن يغلط جبريل -وحاشا لروح القدس الأمين-كيف غفل الله عز وجل عن تقويمه وتنبيهه؟ وتركه على غلطه ثلاثا وعشرين سنة، ثم أظرف من هذا كله، من أخبرهم بهذا الخبر؟ ومن خرفهم بهذه الخرافة وهذا لا يعرفه إلا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل عليه السلام، ثم شاهد خلافه، فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة الناس أجمعين ما دام لله في عالمه خلق. وفرقة قالت بنبوة علي، وفرقة قالت بأن
_________
(1) كذا في الأصل.(6/223)
علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد ابن علي والحسن بن محمد والمنتظر بن الحسن أنبياء كلهم. وفرقة قالت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط، وهم طائفة من القرامطة. وفرقة قالت بنبوة علي وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط، وهم طائفة من الكيسانية، وقد حام المختار حول أن يدعي النبوة لنفسه، وسجع إسجاعا وأنذر بالغيوب عن الله، واتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة. وقال بإمامة محمد بن الحنفية.
وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة، وهو الذي أحرقه خالد بن عبد الله القسري بالنار، وكان لعنه الله يقول: إن معبوده صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حرف الهجا؛ الألف للساقين ونحو ذلك مما لا ينطلق لسان ذي شعبة من دين به. تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً. (1)
موقفه من الخوارج:
- له كتاب 'الفصل في الملل والأهواء والنحل' بيَّن فيه زيغ الفرق الضالة كالخوارج فشنع عليهم رحمه الله وبين زيف أصولهم، وتشتت جمعهم إلى طرائق قددا كل منها مناقضة للأخرى. (2)
- قال فيه: من وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئمة الجور وأن أصحاب الكبائر مخلدون في
_________
(1) الملل والنحل (4/ 183 - 184).
(2) انظر الفصل (4/ 188 - 192).(6/224)
النار وأن الإمامة جائزة في غير قريش فهو خارجي، وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون خالفهم فيما ذكرنا فليس خارجيا. (1)
وقال: ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون ولا أجر لهم كما روينا من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش نا خيثمة نا سويد بن غفلة قال: قال علي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» (2). وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان هو الأعمش عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق هم شر الخلق -أو من شر الخلق- تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق. وذكر الحديث (3). قال أبو محمد: ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم، وأنهم من شر الخلق وأنهم يخرجون في فرقة من الناس، فصح أن أولئك أيضا مفترقون وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق.
فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق وإن كانت الأخرى أولى به، ولم يجعل للثالثة شيئا
_________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 113).
(2) البخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066).
(3) مسلم (2/ 745/1065).(6/225)
من الدنو إلى الحق فصح أن التأويل يختلف؛ فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم أو تكفير أهل الذنوب أو استقراض المسلمين أو قتل الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر أو إبطال الرؤية أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون أو إلى البراءة عن بعض الصحابة أو إبطال الشفاعة أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى المنع من الزكاة أو من أداء حق من مسلم أو حق لله تعالى فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد لأنها جهالة تامة. (1)
موقفه من المرجئة:
قال في 'الفصل': غلاة المرجئية طائفتان إحداهما الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان وان اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز وجل ولي له عز وجل من أهل الجنة، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وهو بخراسان وبيت المقدس، والثانية الطائفة القائلة أن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليت في دار الإسلام ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ولي لله عز وجل من أهل الجنة. وهذا قول محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارث ابن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان وقول أبي الحسن
_________
(1) المحلى (11/ 97 - 98).(6/226)
علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما ... -إلى أن قال رحمه الله - ... وقالت طائفة من الكرامية: المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار. وقالت طائفة منهم أيضاً: من آمن بالله وكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مؤمن كافر معاً ليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً على الإطلاق. وقال مقاتل بن سليمان وكان من كبار المرجئة: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً. (1)
أحداث السنة الثامنة والخمسين بعد الأربعمائة (458 هـ)
جاء في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
في يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن على الحسين كما جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة الخالفة، فحين وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخليفة أبا الغنائم وأنكر عليه ذلك، فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به، وأنه حين علم أزاله، وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون من ذلك، وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع. (2)
التعليق:
هذا حين كان عامة المسلمين لهم دين وعقيدة، أما الآن فلا دين ولا عقيدة، شغلهم الشاغل هو الانهماك في الملذات مهما كانت حراما أو حلالا، ففتن الناس في بيوتهم بأنواع الملاهي التي سلطها أعداء الله على المسلمين
_________
(1) الفصل (4/ 204 - 205).
(2) البداية والنهاية (12/ 99).(6/227)
وشغلوهم بها فكيف يكون هؤلاء آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فضلا عن الغيرة على عقيدتهم إلا من شاء الله إخلاصه فهو مخلص وقلبه يشتعل نارا لما يرى من منكرات.
الإمام القاضي أبو يعلى (1) (458 هـ)
محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد، أبو يعلى المعروف بابن الفراء البغدادي الحنبلي. ولد سنة ثمانين وثلاثمائة. حدث عن أبي القاسم بن حبابة وعلي بن معروف البزاز، وعلي بن عمر الحربي وخلق. وحدث عنه الخطيب البغدادي وأبو الوفاء بن عقيل وأبو علي الأهوازي.
قال أبو بكر الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة. قال ابن الجوزي: كان من سادات الثقات، وشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا والدامغاني، فقبلا شهادته وتولى النظر في الحكم بحريم دار الخلافة، وكان إماما في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة، في مذهب أحمد، ودرس وأفتى سنين، وانتهى إليه المذهب. وكان متعففا، نزه النفس، كبير القدر، ذا عبادة وتهجد، وملازمة للتصنيف، مع الجلالة والمهابة، ولم تكن له يد طولى في معرفة الحديث.
توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ودفن في مقبرة باب حرب.
_________
(1) السير (18/ 89 - 92) وتاريخ بغداد (2/ 256) وطبقات الحنابلة (2/ 193 - 230) والأنساب (4/ 351 - 352) والكامل في التاريخ (10/ 52) والوافي بالوفيات (3/ 7 - 8) والبداية والنهاية (12/ 101) وشذرات الذهب (3/ 306 - 307).(6/228)
موقفه من المشركين:
- قال شيخ الإسلام: قال القاضي في سابِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإنه لا تقبل توبته، ويتحتم قتله، ولا يخير الإمام في قتله وتركه؛ لأن قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي. (1)
- وقال أيضا: قال القاضي في 'المجرد' وغيره من أصحابنا: والردة تحصل بجحد الشهادتين، وبالتعريض بسب الله تبارك وتعالى، وبسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2)
آثاره السلفية: 'الرد على الباطنية'. (3)
موقفه من الرافضة:
قال القاضي أبو يعلى: الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة: إن كان مستحلا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر، سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم. (4)
آثاره السلفية: كتاب 'إثبات إمامة الخلفاء الأربعة'. (5)
موقفه من الجهمية:
آثاره السلفية:
لقد ألف الشيخ جملة من الكتب في العقيدة السلفية كل واحد منها يعتبر ردا على طائفة معينة من أهل البدع. وقد ذكر ابنه في الطبقات جملة
_________
(1) الصارم (276).
(2) الصارم (309).
(3) طبقات الحنابلة (2/ 205).
(4) الصارم (572).
(5) ذكره ابنه في طبقات الحنابلة (2/ 205).(6/229)
من عقائد الشيخ لكنها مفرقة فمن شاء رجع إليها. وإليك الآن آثاره السلفية.
1 - 'الرد على المجسمة'. (1)
2 - 'القطع على خلود الكفار في النار'. (2)
3 - 'الكلام في الاستواء'. (3)
4 - 'الرد على الكرامية'. (4)
5 - 'الرد على الأشعرية'. (5)
6 - 'إبطال التأويلات لأخبار الصفات'. (6) ولشيخ الإسلام عليه ملاحظات ذكرها في درء التعارض.
في كتابه 'إبطال التأويلات' بعد المقدمة وذكر مواقف الناس من الصفات: واعلم أنه لا يجوز رد هذه الأخبار على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة ولا التشاغل بتأويلها على ما ذهب إليه الأشعرية والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات لله تعالى لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها لكن على ما روي عن شيخنا وإمامنا أبي عبد الله أحمد ابن محمد بن حنبل وغيره من أئمة أصحاب الحديث أنهم قالوا في هذه
_________
(1) ذكره في طبقات الحنابلة (2/ 205) والذهبي في السير (18/ 91).
(2) ذكره ابنه في طبقات الحنابلة (2/ 205).
(3) ذكره في طبقات الحنابلة (2/ 205) والذهبي في السير (18/ 91).
(4) ذكره في طبقات الحنابلة (2/ 205) والذهبي في السير (18/ 91).
(5) ذكره ابنه في طبقات الحنابلة (2/ 205).
(6) ذكره ابن تيمية في درء التعارض (5/ 237) والذهبي في السير (18/ 90).(6/230)
الأخبار: أمروها كما جاءت، فحملوها على ظاهرها في أنها صفات لله تعالى لا تشبه سائر الموصوفين. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال: وقد اختلف الناس في الفاسق الملي، فذهب الخوارج إلى أن الفاسق يكون كافرا بكل معصية، ومنهم من يكفره بالكبائر دون غيرها.
وحكي عن الحسن وعمرو بن عبيد أنه يكون منافقا.
وقالت المعتزلة: "لا يكون مؤمنا ولا كافرا، ولكن يكون فاسقا"، فسلبوه اسم الإيمان في الجملة وجعلوا له منزلة بين المنزلتين، وقيل: إن أول من قال هذا عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وبه سموا معتزلة.
وقالت الأشعرية: "هو مؤمن كامل الإيمان"، وبنوا هذا على أن الإيمان عندهم هو التصديق، وأن ترك الطاعات وارتكاب المحظورات لا يؤثر في التصديق.
فالدلالة على بطلان قول الخوارج في قولهم: "يكون كافرا" أشياء، منها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2)، فأثبت أن غير الشرك مغفور، فلو كانت الكبائر كفرا لم تكن مغفورة لأنها كفر. وأيضا قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
_________
(1) إبطال التأويلات (1/ 43 - 44).
(2) النساء الآيتان (48) والآية (116).(6/231)
وَالْعِصْيَانَ} (1)، فجعل المعاصي ضروبا وعطف بعضها على بعض فوجب أن يكون بعضها ليس بكفر، وإلا لم يكن للعطف معنى ويكون تكرارا وعطف الشيء على نفسه. وقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (2)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (3)، وهذا يدل على أنه يغفر له ما دون الكبائر، وعند بعضهم هو كافر بجميع ذلك.
وأيضا فإن الله تعالى أوجب على القاذف الجلد إذا لم يأت بالشهود، وأوجب رد شهادته وسماه فاسقا، ولو كان ذلك كفرا لم ينه عن رد شهادته لأن ذلك من الأحكام التي لا تصح إلا مع الحياة، والكفر يمنع بقاء الحياة.
وكذلك أمر الله تعالى من يرمي زوجته باللعان، ولو كان ذلك كفرا لم يصح ذلك من جهات:
أحدها: أنه كان يجب أن لا يكون راميا لزوجته لأنها إن كانت زانية فقد بانت منه على قولهم وإن لم تكن كذلك فقد بانت برميه لها وذلك كفر، فكان يجب أن يكون راميا لأجنبية.
الثاني: ما كان يجب أن تقف الفرقة بينهما على اللعان لأن أحدهما قد كفر وارتد على قولهم، فكان يجب أن تكون قد بانت منه وفي ذلك خروج
_________
(1) الحجرات الآية (7).
(2) النساء الآية (31).
(3) النجم الآية (32).(6/232)
عن الإجماع.
الثالث: أن القصد باللعان إذا لم يكن ولد إزالة الفراش وقد زال على قولهم فلا وجه للتعبد باللعان.
وأيضا الحديث المشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، ولكن أناس تمسهم النار بذنوبهم -أو قال- بخطاياهم، ليميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فيلقون على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة في حميل السيل». (1)
وأيضا فإنه إجماع الصحابة وذلك أنهم نسبوا الكفر إلى مانع الزكاة وقاتلوه وحكموا عليه بالردة، ولم يفعلوا مثل ذلك بمن ظهر منه الكبائر، ولو كان الجميع كفرا لسووا بين الجميع.
وأيضا فإن القول بالكفر في جميع المعاصي يوجب تكفير الأنبياء صلوات الله عليهم، لأنه قد وجد منهم وقوع الصغائر.
وأيضا فإن الكفر يختص بأحكام لا توجد في مرتكب الكبائر منها انقطاع التوارث بين المسلم والكافر، ومنها امتناع المناكحة ولا يثبت ذلك بين مرتكب الكبائر وبين من لم يرتكبها. فإن منعوا ذلك وقالوا أثبت ذلك فالإجماع يحجهم لأنه قد كان في أيام الخلفاء من يقدم على الشراب والفسق فيقام عليه الحد ولم يفرق بينه وبين امرأته، ولا منعوه من التوارث وظهر
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 11،20،79) ومسلم (1/ 172/184) وابن ماجه (2/ 1441/4309). وأصله عند البخاري (1/ 98 - 99/ 22).(6/233)
ذلك في أيام علي عليه السلام ولم يقض بذلك فدل على فساد قولهم.
واحتجوا في ذلك بأشياء، منها: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (1)، فدل على أن كل مكلف ليس بمؤمن فهو كافر.
والجواب: أن الآية تدل على أن بعضا من خلقه كافر وبعضه مؤمن، وهذا لا يمنع أن يكون هناك ثالث كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (2)، ولم يمنع ذلك أن يكون فيهم من يمشي على أكثر من ذلك وهو الشنظان، وعلى أنا نقول بظاهرها وأن الخلق مؤمن وكافر، وعندنا هذا مؤمن في الحقيقة لكنه ناقص الإيمان ونقصانه لا يسلبه الاسم لأن إقدامه على المعاصي لا يخرجه من كونه مؤمنا بإيمانه لأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر.
واحتج بقوله تعالى: {وهل نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} (3) فدل على أن الذي يجازى بالنار هو الكفور وهذا ممن يجازى به.
والجواب: أنه محمول على الجزاء الذي تقدم ذكره وهو قصة سبأ لأنه
_________
(1) التغابن الآية (2).
(2) النور الآية (45).
(3) سبأ الآية (17).(6/234)
جل وعز قال: {فأرسلنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} (1). وقد أجرى سبحانه العادة بأنه لا يجازي بالجزاء المعجل في دار الدنيا على جهة الاستئصال إلا من كفر وكذب بالرسل.
واحتج بقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (2)، فدل على أنه لا منزلة للمكلف إلا هذين وكذلك قوله تعالى: {قال هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (3).
والجواب: أن الفاسق لا يمتنع أن يكون شاكرا، فليس هو بخارج عن هذين الأمرين، لأن إقدامه على الزنا والقتل لا يخرجه من كونه شاكرا لنعمه لأن أحد الأمرين لا ينافي الآخر.
واحتج بقوله تعالى: {ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} (4)، فدل على أن ترك الحج كفر.
_________
(1) سبأ الآيتان (16و17).
(2) الإنسان الآية (3).
(3) النمل الآية (40).
(4) آل عمران الآية (97).(6/235)
والجواب: أنه محمول على جحد الإيجاب للحج، وهذا هو الظاهر، لأن الذي تقدم إيجابه فوجب أن يكون ذلك كفرا بما أوجب عليه، يبين صحة هذا أنه لا فائدة لتخصيصه الحج بذلك وغيره من الطاعات إذا تركه كفرا عنده.
واحتج بقوله تعالى: {ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (1) وظاهر هذا يوجب إكفار أئمة الجور وهذا قولنا.
والجواب: أن المراد بتلك اليهود، يبين ذلك أنه جل وعز ذكر اليهود فقال: {فإن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} ثم قال بعد: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} ثم لم يقطع ذكرهم بل قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (2). فإذا كانت القصة أولها وآخرها في اليهود حملت عليهم.
واحتج بقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
_________
(1) المائدة الآية (44).
(2) المائدة الآيات (42 - 46).(6/236)
الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)} (1) دل على أن كل من يدخل النار لابد من أن يكون كافرا.
والجواب: أنه محمول على من خفت موازينه بكفره أنهم في جهنم خالدون.
واحتج بقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2). فنرى أن كل من يسود وجهه لابد من أن يكون كافرا، لأن أهل النار لابد أن يكون هذا وصفهم.
والجواب: أنا لا نسلم أن أهل الكبائر لابد أن تسود وجوههم لأنهم معرضون للغفران. وهكذا الجواب عن قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} (3).
وذلك أنا لا نقطع عليهم بالغبرة والقترة حتى يدخلوا تحت اسم الكفر.
_________
(1) المؤمنون الآيات (102 - 105).
(2) آل عمران الآية (106).
(3) عبس الآيات (38 - 42).(6/237)
واحتج بقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} (1)، فدل على أن كل من يدخل النار من الفساق لا يكون إلا كافرا.
والجواب: أن المراد بالفاسق ها هنا الكافر، لأن الفاسق الملي لا يأوي النار عندنا.
واحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} (2).
والجواب: أنا لا نسلم أنه معرض عن ذكر ربه لوجود الإيمان الذي فيه، فعلم أن المراد به الكافر.
واحتج بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} (3) فدل أنه لا فاسق إلا كافر.
_________
(1) السجدة الآيات (18 - 20).
(2) طه الآية (124).
(3) النور الآية (55).(6/238)
والجواب: أن الآية واردة فيمن ارتد، لأنه قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ثم قال: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} (1). ومن هذه حاله فهو كافر.
واحتج بقوله تعالى مخبرا عن إبليس: {فبعزتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} (2). فدل على أن من لم يكن مخلصا فهو كافر.
والجواب: أنه لا يدل على ذلك، بل يجوز أن يكون مؤمنا فاسقا.
واحتج بأنه إذا كان عز وجل قد أمر بالصلاة والزكاة كأمره بالمعرفة والتوحيد وتصديق الرسول ثم كان مضيع هذه الأمور كافرا، كذلك مضيع الفرائض، ولأن منكر أحدهما يكفر كما يكفر منكر الآخر.
والجواب: أن هذه المعرفة وتصديق الرسل هو أصل الإيمان وبه كان مؤمنا في صدر الإسلام وإنما زيد فيه بالعبادات فهو أعظم من غيره من المأمورات فلا يجب أن يلحق بما دونه كما لم يجب أن تلحق الكبائر بالصغائر في باب التأثم والوعيد، ومن قال أن قدرهما في العقاب سواء لزمه أن يقول أن قدرهما في الثواب سواء، ولوجب أن لا يتفاضل المطيعون في الطاعات
_________
(1) النور الآية (55).
(2) ص الآيتان (82و83).(6/239)
وقد قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (1).
واحتج بأن جميع المعاصي طاعة لإبليس، لأنه يدعو إلى جميعها وطاعته عبادة له ولا يكون ذلك إلا كفرا.
والجواب: أنه ليس إذا كان طاعة له كان عبادة لأن العبادة هي الخضوع والتعظيم والإجلال، وهذا غير موجود ممن أطاع إبليس يبين صحة هذا أنه ليس كل طاعة لله هي عبادة له كالنظر في معرفة الله قبل لزومها، ولأن هذا يوجب أن تكون طاعة الولد لوالده عبادة له لأنه قد أطاعه، وأحد لا يقول هذا.
واحتج بأن ولاية الله تعالى من جهة الدين لابد أن تكون إيمانا وجب أن تكون كل عداوة من جهة الدين لابد من أن تكون كفرا والفسق عداوة من جهة الدين.
والجواب: إنا لسنا نقول في كل طاعة أنها ولاية، ولا في كل معصية أنها عداوة، ولهذا لا نقول في معاصي الأنبياء الصغائر أنها عداوة لله ولا في طاعة الكافر أنها ولاية، وإنما صار بذلك من أهل الثواب والعقاب من جهة الدين.
واحتج بأنه قد ثبت أن سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم للمؤمنين وحربه حرب للمؤمنين، ثم ثبت أن سلمه إيمان كذلك سلم المؤمنين فيجب أن يكون
_________
(1) الحديد الآية (10).(6/240)
حربهم كحرب النبي كفرا. قالوا: "وهذا يوجب أن سائر البغاة ومن يحارب المؤمنين أن يكون كافرا"، قالوا: "وهو مذهبنا".
والجواب: أن حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان كفرا لا لأنه ذنب ومعصية، لكن لأنه استخفاف به والاستخفاف بالرسول كفر، وحرب المؤمن استخفاف به والاستخفاف بالمؤمن لا يجب أن يكون كفرا، فلهذا فرقنا فيهما. (1)
موقفه من المرجئة:
قال في مسائل الإيمان: إن حقيقة الإيمان في اللغة وأصل الوضع: تصديق القلب المتضمن للعلم بالمصدق به. وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب الإبانة الصغير فقال: الإيمان اسم ومعناه التصديق، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} (2)، يريد بمصدق لنا.
وأما حده في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، فالباطنة أعمال القلب وهو تصديق القلب، والظاهرة هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات، وقد نص أحمد على هذا في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: السنة أن تقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وكذلك قال في رواية محمد بن موسى: الإيمان قول وعمل يزيد
_________
(1) مسائل الإيمان (323 - 353).
(2) يوسف الآية (17).(6/241)
وينقص، وإذا عملت الحسن زاد وإذا ضيعت نقص، والإيمان لا يكون إلا بعمل.
وكذلك قال في رواية المروذي: قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (1)، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (2)، وهذا من الإيمان، فالإيمان قول وعمل والزيادة في العمل والنقصان في الزنا وإذا زنا وسرق.
وكذلك قال في كتابه إلى أبي عبد الرحيم محمد بن أحمد بن الجواح الجوزجاني رواية أبي بكر المروزي ومحمد بن حاتم المروزي: من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين. وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا مصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء فإن جحد وقال لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال عظيما ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق كذلك العمل مع هذه الأشياء، وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم» (3)، فجعل ذلك كله من الإيمان. وقال
_________
(1) التوبة الآية (11).
(2) البقرة الآية (43).
(3) سيأتي تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).(6/242)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء من الإيمان» (1)، وقال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (2)، وقال: «البذاذة من الإيمان» (3)، وقال: «الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناه إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله» (4) مع أشياء كثيرة. وذكر الكلام بطوله. وهذا ظاهر من كلام أحمد.
وإن الإيمان الشرعي جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، الواجبة والمندوبة، وهذا قول أكثر المعتزلة.
وقال منهم أبو هاشم والجبائي: إن ذلك مختص بالواجبات دون التطوع.
وقال ابن قتيبة في غريب القرآن: من صفاته المؤمن إلى أن قال: وأما إيمان العبد بالله فتصديقه به قولا وعقدا وعملا. قال: وقد سمى الله الصلاة إيمانا، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (5) يعنى صلاتكم إلى بيت المقدس.
وقالت الأشعرية: "الإيمان هو التصديق في اللغة والشريعة جميعا وأن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان".
وقال المرجئة والكرامية: "الإيمان هو التصديق باللسان، وهو الإقرار
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(2) أحمد (509) وأبو داود (5/ 60/4689) والترمذي (3/ 466/1162) وقال: "حسن صحيح" والحاكم (1/ 3) وابن حبان (الإحسان 2/ 227/479) من حديث أبي هريرة وفي الباب عن عائشة وابن عباس.
(3) أبو داود (4/ 393 - 394/ 41619) ابن ماجه (2/ 1379/4118) والحاكم (1/ 9) من حديث أبي أمامة.
(4) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(5) البقرة الآية (143).(6/243)
بالشهادتين دون طمأنينة القلب".
ويفيد هذا أن الأفعال ليست من الإيمان ولا من شرائعه وأنه إذا أتى بالشهادتين فهو كامل الإيمان وإن لم يأت بالأفعال.
وقال الجهمية: "الإيمان هو المعرفة بالله فحسب".
والأدلة على أن الطاعات إيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1) فبين أن جميع ما تقدم مما به يصير المؤمن مؤمنا. وقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) إلى آخر الآيات، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وإنما عنى به الصلاة التي استقبلوا بها بيت المقدس، وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} (3) فدل
_________
(1) الأنفال الآيتان (2و3).
(2) المؤمنون الآيتان (1و2).
(3) التوبة الآية (71).(6/244)
على أن كل ذلك مما يصير المؤمن مؤمنا.
فإن قيل: ذكر الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف من شرائع الإيمان يعني من أحكامه الواجب فعلها فيه لا أنها من نفس الإيمان أو نحمل ذلك على أنه سماه إيمانا على طريق المجاز أو نحمل ذلك على أنها من الإيمان يعني دالة عليه لأنه يستدل بها على تصديقه.
قيل: أما قولك إنها من شرائعه فإن أردت به أنها من واجباته فهو معنى قولنا إنها من الإيمان وأنه بوجودها يكمل إيمانه وبعدمها ينقص، فيحصل الخلاف بيننا في عبارة يبين هذا أن شرائع الشيء منه ولهذا يقال شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشريعة موسى عليه السلام وذلك عبارة عن جميع أوامره ونواهيه.
وأما قولهم إنا نحمله على أنه دال على الإيمان فلا يصح لأن هذه الأفعال توجد من الكافر ولا تدل على إيمانه.
وأما حمله على المجاز فالأصل في كلام الله تعالى الحقيقة والمجاز يحتاج إلى دليل ولأنه قال في بعضها: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، وهذا تأكيد بوصفه الإيمان بذلك.
ويدل عليه أيضا ما روي بالأسانيد الصحاح ما يدل على ذلك فروى أحمد بإسناده في كتاب الإيمان عن النعمان بن مرة أن رجلا ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بحياء فقال: «إن الإيمان ذو شعب وإن الحياء شعبة من الإيمان». (1)
وروى أيضا بإسناده عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).(6/245)
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالإيمان بالله عز وجل قال: «أتدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم» (1) ...
فإن قيل: هذه الأخبار كلها تدل على أن الخصال المذكورة من شرائع الإيمان لا أنها من نفس الإيمان أو على أنها دالة عليه. أو نقول سماها إيمانا على طريق المجاز، أو نحمل ذلك على أنها من الإيمان يعنى دالة عليه لأنه يستدل بها على تصديقه. قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم.
فإن قيل: نحمل قوله: «الإيمان بضع وسبعون خصلة» أراد به الإسلام فعبر عن الإسلام بالإيمان وأحدهما غير الآخر.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا} أَسْلَمْنَا (2) وفي حديث جبريل: ما الإيمان؟ ما الإسلام؟ فنحمل الخبر على الإسلام الذي لم يحصل معه طمأنينة القلب.
ويحتمل أن يكون قوله: «بضع وسبعون خصلة» يرجع إلى التصديق بمخبراته بالعلم به وبصفاته الأزلية وما يجوز عليه والاقرار بنبوة رسوله والعلم به وقد يبلغ ذلك بضع وسبعون خصلة، وعلى أن قوله: «أعلاها قول لا إله إلا الله» ليس فيه قول باللسان فنحن نحمله على الشهادة بالقلب والاعتراف
_________
(1) سيأتي تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(2) الحجرات الآية (14).(6/246)
بالقلب.
قيل: أما حمله على الإسلام الذي لم يحصل معه طمأنينة القلب لا يصح لأن ذلك ليس بإسلام لأن الإسلام لا يحصل بعدم التصديق.
أما قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} معناه استسلمنا لتسلم أموالنا. وليس المراد به الإسلام يدل على ذلك أن هذه الآية نزلت في جهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع كانت منازلهم بين مكة والمدينة فكانوا إذا مرت بهم سرية من سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: آمنا ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. فلما سار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية مر بهم فاستنفرهم معه فلم يسيروا معه فنزلت فيهم الآية.
وعلى أن الإسلام في الشرع عبارة عن الشهادتين ولهذا لو حلف لا أسلمت فشهد الشهادتين حنث. وإذا كان عبارة عن ذلك لم يصح حمل الخبر عليه.
أما قوله: إنني أحمله على الإيمان الذي هو التصديق دون القول باللسان والفعل بالبدن فلا يصح أيضا لأنه قال: «أعلاها قول لا إله إلا الله»، وإطلاق الأمر بالشهادتين في الشرع ينصرف إلى القول باللسان فلهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله». (1)
وقوله: «إذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى شهادة أن لا إله
_________
(1) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة.(6/247)
إلا الله» (1)، وغير ذلك، فإنه ينصرف إلى القول باللسان، كذلك ها هنا وعلى أن التصديق لا يتنوع والخبر يقتضي أقوالا وأفعالا متنوعة.
فإن قيل: فاختلاف العدد في هذه الأخبار يدل على أنها متناقضة.
قيل: أجاب أبو عبيد عن هذا في كتاب الإيمان فقال: نزول الفرائض بالإيمان متفرقا فكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله عددها بالإيمان حتى جاوز ذلك سبعين خلة وليست هذه الزيادة بخلاف ما قبله إنما تلك دعائم وأصول، وهذه فروعها وزيادات في شعب الإيمان، فنرى -والله أعلم- إن هذا القول هو آخر ما وصف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان لأن العدد تناها إليه وبه كملت خصاله والمصدق له قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) فروى طارق بن شهاب أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: إنكم لتقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فذكر هذه الآية فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة (3).اهـ (4)
_________
(1) أحمد (352) ومسلم (3/ 1356 - 1358/ 1731) وأبو داود (3/ 83 - 85/ 2613) والترمذي (4/ 138 - 139/ 1617) وابن ماجه (2/ 953 - 954/ 2858).
(2) المائدة الآية (3).
(3) البخاري (1/ 141/45) ومسلم (4/ 2312/3017) والترمذي (5/ 233/3043) وقال: "حسن صحيح". النسائي (5/ 277/3002).
(4) (ص.151 - 184).(6/248)
البيهقي (1) (458 هـ)
الإمام الحافظ، العلامة، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو بكر البيهقي، شيخ خراسان وصاحب التصانيف. وبيهق هي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا منها. ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. سمع من أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي وأبي عبد الله الحاكم وأبي عبد الرحمن السلمي وخلق سواهم. وروى عنه أبو إسماعيل الأنصاري بالإجازة، وأبو زكريا بن مندة الحافظ، وأبو عبد الله الفراوي، وطائفة سواهم. قال عبد الغافر بن إسماعيل: أبو بكر الفقيه، الحافظ الأصولي، الدين، الورع، واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، وقال: كان البيهقي على سيرة العلماء، قانعا باليسير متجملا في زهده وورعه. قال أبو المعالي الجويني: ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أبا بكر البيهقي، فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه. توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ودفن ببيهق.
موقفه من الجهمية:
خلف آثارا سلفية جيدة غير أنه هو في حد ذاته لم يتخذ السلفية منهجا له، فالأشعرية هي الغالبة عليه وأحيانا يميل إلى مذهب السلف كما هو واضح في كتابه الأسماء والصفات. فليكن القارئ على حذر منه،
_________
(1) شذرات الذهب (3/ 304 - 305) والسير (18/ 163 - 170) والأنساب (1/ 438) والكامل في التاريخ (10/ 52) ووفيات الأعيان (1/ 75 - 76) وتذكرة الحفاظ (3/ 1132 - 1135) والوافي بالوفيات (6/ 354) والبداية والنهاية (12/ 100).(6/249)
وليستفد من كتبه ما يناسب العقيدة السلفية. ولقد أشبع الأستاذ الفاضل: أحمد بن عطية الزهراني في كتابه: 'البيهقي وموقفه من الإلهيات' القول عنه.
وكتبه التي في العقيدة:
1 - 'الأسماء والصفات' طبع بتحقيق حامل راية الجهمية وقد عبث فيه كما يحلو له، وقد طبع مؤخرا في مجلدين، بتحقيق عبد الله محمد الحاشدي وقدم له الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله.
2 - 'الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد'. طبع.
3 - 'البعث والنشور'. حقق رسالة علمية في الجامعة الإسلامية.
4 - 'إثبات عذاب القبر'. قال الزهراني ويوجد من هذا الكتاب نسخة مخطوطة بمكتبة أحمد الثالث ضمن مكتبة المتحف بإستنبول ضمن مجموعة رقمها: 4288.
5 - 'الجامع لشعب الإيمان' وهو كتاب كبير ملأه البيهقي بكل ما هب ودب من صحيح وسقيم ودجل وخرافة وأشعرية. وقد وزع رسائل علمية في الجامعة الإسلامية.
6 - 'دلائل النبوة' وقد طبع والحمد لله.
7 - 'الزهد الكبير' وقد طبع.
قال البيهقي في 'كتاب الاعتقاد' القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفات ذاته، وليس شيء من صفات ذاته مخلوقا ولا محدثا ولا حادثا. قال(6/250)
تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} (1) فلو كان القرآن مخلوقا لكان مخلوقا بكن ويستحيل أن يكون قول الله لشيء بقول لأنه يوجب قولا ثانيا وثالثا فيتسلسل وهو فاسد، وقال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (2) فخص القرآن بالتعليم لأنه كلامه وصفته، وخص الإنسان بالتخليق لأنه خلقه ومصنوعه، ولولا ذلك لقال خلق القرآن والإنسان، وقال الله تعالى: {وكلم اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (3) ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم قائما بغيره، وقال الله تعالى: {* وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} (4) الآية، فلو كان لا يوجد إلا مخلوقا في شيء مخلوق لم يكن لاشتراط الوجوه المذكورة في الآية معنى لاستواء جميع الخلق في سماعه عن غير الله فبطل قول الجهمية أنه مخلوق في غير الله، ويلزمهم في قولهم أن الله خلق كلاما في شجرة كلم به موسى أن يكون من سمع كلام الله من ملك أو نبي أفضل في سماع الكلام من موسى، ويلزمهم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بما ذكر الله أنه كلم به موسى وهو قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (5) وقد أنكر الله تعالى قول
_________
(1) النحل الآية (40).
(2) الرحمن الآيات (1 - 3).
(3) النساء الآية (164).
(4) الشورى الآية (51).
(5) طه الآية (14).(6/251)
المشركين {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} (1)،
ولا يعترض بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)} (2) لأن معناه قول تلقاه عن رسول كريم كقوله تعالى: {فأجره حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (3) ولا بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (4) لأن معناه سميناه قرآنا، وهو كقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} (5) وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (6) وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (7) فالمراد أن تنزيله إلينا هو المحدث لا الذكر نفسه، وبهذا احتج الإمام أحمد. (8)
موقفه من الخوارج:
لقد ضمن كتاب قتال أهل البغي من سننه أبوابا في الخوارج منها:
باب ما جاء في قتال أهل البغي والخوارج. (9)
باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى يسألوا ما نقموا ثم يؤمروا بالعود ثم
_________
(1) المدثر الآية (25) ..
(2) التكوير الآية (19).
(3) التوبة الآية (6).
(4) الزخرف الآية (3).
(5) الواقعة الآية (82).
(6) النحل الآية (62).
(7) الأنبياء الآية (2).
(8) الفتح (13/ 454) بتصرف من الحافظ وانظر الاعتقاد للبيهقي (ص.94 - 98).
(9) السنن الكبرى (8/ 168 - 172).(6/252)
يؤذنوا بالحرب. (1)
باب أهل البغي إذا فاؤوا لم يتبع مدبرهم ولم يقتل أسيرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يستمتع بشيء من أموالهم. (2)
باب الرجل يقتل واحدا من المسلمين على التأويل أو جماعة غير ممتنعين يقتلون واحدا كان عليهم القصاص. (3)
باب القوم يظهرون رأي الخوارج لم يحل به قتالهم. (4)
باب الخوارج يعتزلون جماعة الناس ويقتلون واليهم من جهة الإمام العادل قبل أن ينصبوا إماما ويعتقدوا ويظهروا حكما مخالفا لحكمه كان في ذلك عليهم القصاص. (5)
باب المقتول من أهل البغي يغسل ويصلى عليه. (6)
موقفه من المرجئة:
جاء في كتاب الاعتقاد: باب: القول في الإيمان. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ
_________
(1) السنن الكبرى (8/ 178 - 181).
(2) السنن الكبرى (8/ 181 - 183).
(3) السنن الكبرى (8/ 183).
(4) السنن الكبرى (8/ 184).
(5) السنن الكبرى (8/ 184 - 185).
(6) السنن الكبرى (8/ 185).(6/253)
الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1). فأخبر أن المؤمنين هم الذين جمعوا هذه الأعمال التي بعضها يقع في القلب، وبعضها باللسان، وبعضها بهما وسائر البدن، وبعضها بهما أو بأحدهما وبالمال، وفيما ذكره الله من هذه الأعمال تنبيه على ما لم يذكره، وأخبر بزيادة إيمانهم بتلاوة آياته عليهم، وفي كل ذلك دلالة على أن هذه الأعمال وما نبّه بها عليه من جوامع الإيمان، وأن الإيمان يزيد، وإذا قَبِلَ الزيادة قبل النقصان.
وبهذه الآية وما في معناها من الكتاب والسنة ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن اسم الإيمان لجميع الطاعات فرضها ونفلها، وأنها على ثلاثة أقسام:
فقسم يُكفَّر بتركه، وهو اعتقاد ما يجب اعتقاده، والإقرار بما اعتقده.
وقسم يُفسَّق بتركه أو يعصي ولا يكفر به إذا لم يجحده، وهو مفروض الطاعات كالصلاة والزكاة والصيام والحج واجتناب المحارم.
وقسم يكون بتركه مخطئاً للأفضل غير فاسق ولا كافر، وهو ما يكون من العبادات تطوعاً.
واختلفوا في كيفية تسمية جميع ذلك إيماناً.
فمنهم من قال: جميع ذلك إيمان بالله تبارك وتعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وكل طاعة تصديق لأن أحداً لا يطيع من لا
_________
(1) الأنفال الآيات (2 - 4).(6/254)
يُثبِتُهُ ولا يثبت أمره.
ومنهم من قال: الاعتقاد والإقرار إيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبسائر الطاعات إيمان لله ولرسوله، فيكون التصديق بالله إثباته والاعتراف بوجوده، والتصديق له قبول شرائعه واتباع فرائضه على أنها صواب وحكمة وعدل، وكذلك التصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والتصديق له، وقد ذكرنا بيانه ودليله في كتاب الإيمان، وفي كتاب الجامع، ونحن نذكر هاهنا طرفاً من ذلك.
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو عامر، عن إسرائيل، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1). (2)
ورواه أيضا البراء بن عازب أتمّ منه. (3)
وفي هذا دلالة على أنه سمّى صلاتهم إلى بيت المقدس إيماناً، وإذا ثبت ذلك في الصلاة، ثبت ذلك في سائر الطاعات، وقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطهور إيماناً. فقال في حديث أبي مالك الأشعري عنه: «الطُّهور شطر
_________
(1) البقرة الآية (143).
(2) أخرجه أحمد (1/ 295) وأبو داود (5/ 59 - 60/ 4680) والترمذي (5/ 192/2964).
(3) أخرجه: أحمد (4/ 283) والبخاري (1/ 128 - 129/ 40) ومسلم (1/ 374/525) والترمذي (2/ 169 - 170/ 340) والنسائي (1/ 262 - 263/ 487) وابن ماجه (1/ 322 - 323/ 1010).
أخرجه: أحمد (5/ 342 و343 - 344) ومسلم (1/ 203/223) والترمذي (5/ 501/3517) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي (5/ 8/2436) وفي الكبرى (2/ 5/2217) وابن ماجه (1/ 102 - 103/ 280).(6/255)
الإيمان) ... » (1) ثم ساقه بسنده. (2)
وقال: والأحاديث في تسمية شرائع الإسلام إيماناً، وأن الإيمان والإسلام عبارتان عن دين واحد إذا كان الإسلام حقيقة، ولم يكن بمعنى الاستسلام، وأن الإيمان يزيد وينقص سوى ما ذكرنا كثيرة، وفيما ذكرنا هاهنا كفاية.
وقد روينا في ذلك عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم عن عبد الله بن رواحة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وعمّار بن ياسر، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعثمان بن حُنيف، وعُمير بن حبيب، وجندب، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم.
ثم من التابعين وأتباعهم، عن جماعة يكثر تعدادهم.
وهو قول فقهاء الأمصار رحمهم الله: مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري، وسفيان بن عيينة، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سلمة، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وغيرهم من أهل الحديث.
ورويناه عن قتيبة بن سعيد، عن أبي يوسف القاضي.
وكل ذلك مذكور في كتاب الإيمان. (3)
وقال أيضا: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثني الزبير بن
_________
(1) أخرجه: أحمد (5/ 342 و343 - 344) ومسلم (1/ 203/223) والترمذي (5/ 501/3517) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي (5/ 8/2436) وفي الكبرى (2/ 5/2217) وابن ماجه (1/ 102 - 103/ 280).
(2) الاعتقاد للبيهقي (ص.287 - 290).
(3) الاعتقاد للبيهقي (ص.295 - 296).(6/256)
عبد الواحد الحافظ بأسدآباد قال: حدثني يوسف بن عبد الأحد قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
قال الشيخ رحمه الله: وأما الاستثناء في الإيمان، فقد كان يستثني جماعة من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وإنما رجع استثناؤهم إلى كمال الإيمان وإلى بقائهم على إيمانهم في ثاني الحال، فأما أصل الإيمان، فكانوا لا يشكون في وجوده في الحال، وبأن يتغير حال إنسان في الإيمان، ولم يمنع كونه مؤمن بأنه في الحال قبل التغير، والله أعلم.
وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو أحمد الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن شادل الهاشمي، حدثنا أحمد بن نصر المقرئ الزاهد، حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن تمام بن نجيح قال: سأل رجل الحسن البصري عن الإيمان فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1). فوالله ما أدري منهم أنا أم لا؟
_________
(1) الأنفال الآيات (2 - 4).(6/257)
فلم يتوقف الحسن في أصل إيمانه في الحال، وإنما توقف في كماله الذي وعد الله -عز وجل- لأهله الجنة بقوله: {لهم دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} (1).
أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، أخبرنا بشر بن أحمد المهرجاني، حدثنا داود بن الحسين البيهقي، سمعت محمد بن مقاتل المروزي وسعيد بن يعقوب، قالا: حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال: سمعت الثوري يقول: قد خالفنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل.
ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص.
ونحن نقول: أهل القبلة عندنا مؤمنون وأما عند الله فالله أعلم، وهم يقولون: نحن عند الله مؤمنون.
فسفيان الثوري رحمه الله أخبر عن أهل السنة أنهم لا يقطعون بكونهم مؤمنين عند الله يعني: في ثاني الحال، لأن الله تعالى يعلم الغيب، فهو عالم بما يَصير إليه حال العبد ثم يموت عليه، ونحن لا نعلمه فَنَكِل الأمر فيما لا نعلمه إلى عالمه خوفاً من سوء العاقبة، ونستثني على هذا المعنى، ونرجو من الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والأحاديث التي وردت في جريان القلم بما هو كائن، ورجوع كل إنسان إلى ما كتب له من الشقاوة والسعادة، وموته عليه، مانعة من قطع القول بما يكون في العاقبة،
_________
(1) الأنفال الآية (4).(6/258)
حاملة على الاستثناء، وعلى الخوف من تبدل الحالة، والله يعصمنا من ذلك بفضله وسعة رحمته. (1)
موقفه من القدرية:
قال في كتاب الاعتقاد له (باب القول في خلق الأفعال): قال الله عزوجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (2)، فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر. وقال: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3). فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق. فلو كانت الأفعال غير مخلوقة، لكان الله سبحانه خالق بعض الأشياء دون جميعها، وهذا خلاف الآية.
ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله خالق الأعيان، والناس خالقي الأفعال، لكان خلق الناس أكثر من خلقه، ولكانوا أتم قوة منه، وأولى بصفة المدح من ربهم سبحانه، ولأن الله تعالى قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (4). فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله عزوجل.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا محمد ابن عبيد الله بن المنادي: ثنا يونس بن محمد: ثنا شيبان، عن قتادة في قوله:
_________
(1) الاعتقاد للبيهقي (ص.296 - 299).
(2) غافر الآية (62).
(3) الرعد الآية (16).
(4) الصافات الآية (96).(6/259)
{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} (1). قال: الأصنام. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (2). قال: خلقكم وخلق ما تعملون بأيديكم.
قلنا: ولأن الله تعالى قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} (3). فامتدح بالقولين جميعا، فكما لا يخرج شيء من علمه، لا يخرج شيء غيره من خلقه. ولأنه قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (4) فأخبر أن قولهم وسرهم وجهرهم خلقه، وهو بجميع ذلك عليم. وقال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} (5). كما قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)} (6). فكما كان مميتا محييا، بأن خلق الموت والحياة، كان مضحكا مبكيا، بأن خلق الضحك والبكاء. وقد يضحك الكافر سرورا بقتل المسلمين، وهو منه كفر، وقد يبكي حزنا بظهور المسلمين، وهو منه كفر. فثبت أن الأفعال كلها خيرها وشرها، صادرة عن خلقه وإحداثه إياها. (7)
_________
(1) الصافات الآية (95).
(2) الصافات الآية (96).
(3) الأنعام الآية (101).
(4) الملك الآيتان (13و14).
(5) النجم الآية (43).
(6) النجم الآية (44).
(7) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد (ص.142 - 143).(6/260)
وله فصل في الرد على القدرية في كتابه شعب الإيمان طبع في رسالة مستقلة.
السهروردي (1) (458 سنة وفاة البيهقي وهو من أقرانه)
الإمام أبو عمرو عثمان بن أبي الحسن بن الحسين السهروردي.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية: كتاب في أصول الدين، ذكره ابن القيم ونقل منه ما يتعلق بمسألة الاستواء، وكلامه من أجود ما يكون.
قال عنه الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش: له كتاب في أصول الدين قال في أوله: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام على الأديان. وزين أهله بزينة الإيمان. وجعل السنة عصمة أهل الهداية. ومجانبتها إمارة أهل الغواية، وأعز أهلها بالاستقامة، ووصل عزهم بالقيامة، وصلى الله على محمد وسلم وعلى آله أجمعين. وبعد.
فإن الله تعالى لما جعل الإسلام ركن الهدى، والسنة سبب النجاة من الردى، ولم يجعل من ابتغى غير الإسلام دينا هاديا، ولا من انتحل غير الإسلام نحلة ناجيا، جمعت أصول السنة الناجي أهلها التي لا يسع الجاهل نكرها، ولا العالم جهلها، ومن سلك غيرها من المسالك. فهو في أودية البدع هالك.
إلى أن قال: ودعاني إلى جمع هذا المختصر في اعتقاد السنة على مذهب
_________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص.169).(6/261)
الشافعي وأصحاب الحديث، إذ هم أمراء العلم، وأئمة الإسلام قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «تكون البدع في آخر الزمان محنة، فإذا كان كذلك فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -» (1)، ثم ساق الكلام في الصفات إلى أن قال:
فصل: ومن صفاته تبارك وتعالى فوقيته واستواؤه على عرشه بذاته، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف.
ودليله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (2). وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (3). وقوله تعالى في خمس مواضع: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. وقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (4).
وساق آيات العلو ثم قال: وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا في أن الله سبحانه مستو على عرشه، وعرشه فوق سبع سمواته، ثم ذكر كلام عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته على عرشه بائن من خلقه، وساق قول ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله تعالى فوق عرشه
_________
(1) ابن عساكر (54/ 80) من طريق خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن معاذ مرفوعا بلفظ: «إذا ظهرت البدع، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -». والحديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله (انظر الضعيفة 1506).
(2) طه الآية (5).
(3) الفرقان الآية (59).
(4) آل عمران الآية (55).(6/262)
قد استوى فوق سبع سمواته، فهو كافر. بإسناده من كتاب معرفة علوم الحديث، ومن كتاب تاريخ نيسابور للحاكم ... ثم قال: وإمامنا في الأصول والفروع أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله تعالى ورضي عنه- احتج في كتابه المبسوط على المخالف في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعرف أنها مؤمنة أم لا، فقال لها: «أين ربك؟» فأشارت إلى السماء، إذ كانت أعجمية، فقال لها: «من أنا؟» فأشارت إليه وإلى السماء، تعني أنك رسول الله الذي في السماء، فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة» (1) فحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. هذا لفظه. (2)
ملك المغرب أبو بكر بن عمر (3) (462 هـ)
أبو بكر بن عمر اللمتوني البربري ظهر بعد الأربعين وأربعمائة. بايعه الفقيه عبد الله بن ياسين، ولقبوه بأمير المسلمين، وقام معه طائفة من قومه (لمتونة) وطائفة من قبيلة جدالة وحرضهم ابن ياسين على الجهاد وسماهم
_________
(1) أحمد (5/ 447) ومسلم (1/ 381 - 382/ 537) وأبو داود (1/ 570 - 571/ 930) والنسائي (3/ 19 - 22/ 1217) وفي الكبرى (1/ 362/1141) من حديث معاوية بن الحكم.
(2) اجتماع الجيوش (169 - 171).
(3) وفيات الأعيان (7/ 113) والكامل (9/ 618 - 622) وسير أعلام النبلاء (18/ 425 - 430) وتاريخ الإسلام (حوادث 461 - 470/ص.79 - 84) والبداية والنهاية (12/ 74و143).(6/263)
المرابطين. وقام بالجهاد ودانت له الصحراء. ثم ضاقت الصحراء بهم وأرادوا إعلان الحق وأن يسيروا إلى الأندلس للغزو، فأتوا السوس (وعاصمتها طنجة) فحاربهم أهلها فقتل ابن ياسين وانهزم أبو بكر بن عمر. ثم انتصر بعد ذلك. وتمكن من سجلماسة أيضا. فاستناب أبو بكر عليها يوسف بن تاشفين ابن عمه. ورجع هو إلى الصحراء وخطب لنفسه. وقال صاحب "المغرب عن سيرة ملك المغرب": إن أبا بكر بن عمر كان رجلا ساذجا خير الطباع مؤثرا لبلاده المغرب غير ميال إلى الرفاهية. توفي رحمه الله بالصحراء في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، فتملك بعده ابن تاشفين.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: ظهر بعد الأربعين وأربع مئة، فذكر علي بن أبي فنون قاضي مراكش أن جوهرا -رجلا من المرابطين- قدم من الصحراء إلى بلاد المغرب ليحج- والصحراء برية واسعة جنوبي فاس وتلمسان، متصلة بأرض السودان، ويذكر لمتونة أنهم من حمير نزلوا في الجاهلية بهذه البراري، وأول ما فشا فيهم الإسلام في حدود سنة أربع مئة، ثم آمن سائرهم، وسار إليهم من يذكر لهم جملا من الشريعة، فحسن إسلامهم -ثم حج الفقيه المذكور، وكان دينا خيرا، فمر بفقيه يقرئ مذهب مالك -ولعله أبو عمران الفاسي بالقيروان- فجالسه وحج، ورجع إليه، ثم قال: يا فقيه ما عندنا في الصحراء من العلم إلا الشهادتين والصلاة في بعضنا. قال: خذ معك من يعلمهم الدين. قال جوهر: نعم وعلي كرامته. فقال لابن أخيه: يا عمر اذهب مع هذا. فامتنع، فقال لعبد الله بن ياسين: اذهب معه. فأرسله. وكان عالما قوي(6/264)
النفس، فأتيا لمتونة، فأخذ جوهر بزمام جمل ابن ياسين تعظيما له، فأقبلت المشيخة يهنئونه بالسلامة، وقالوا: من ذا؟ قال: حامل السنة. فأكرموه، وفيهم أبو بكر بن عمر، فذكر لهم قواعد الإسلام، وفهمهم، فقالوا: أما الصلاة والزكاة فقريب، وأما من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنى يجلد، فلا نلتزمه، فاذهب، فأخذ جوهر بزمام راحلته، ومضيا. وفي تلك الصحاري المتصلة بإقليم السودان قبائل ينسبون إلى حمير، ويذكرون أن أجدادهم خرجوا من اليمن زمن الصديق، فأتوا مصر، ثم غزوا المغرب مع موسى بن نصير، ثم أحبوا الصحراء وهم: لمتونة، وجدالة، ولمطة، وإينيصر، ومسوفة. قال: فانتهيا إلى جدالة، قبيلة جوهر، فاستجاب بعضهم، فقال ابن ياسين للذين أطاعوه: قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الجاحدين، وقد تحزبوا لكم، فانصبوا راية وأميرا. قال جوهر: فأنت أميرنا. قال: لا، أنا حامل أمانة الشرع، بل أنت الأمير.
قال: لو فعلت لتسلطت قبيلتي، وعاثوا، قال: فهذا أبو بكر بن عمر رأس لمتونة، فسر إليه، واعرض عليه الأمر، إلى أن قال: فبايعوا أبا بكر، ولقبوه: أمير المسلمين، وقام معه طائفة من قومه وطائفة من جدالة، وحرضهم ابن ياسين على الجهاد، وسماهم المرابطين، فثارت عليهم القبائل، فاستمالهم أبو بكر وكثر جمعه، وبقي أشرار، فتحيلوا عليهم حتى زربوهم في مكان، وحصروهم، فهلكوا جوعا، وضعفوا، فقتلوهم، واستفحل أمر أبي بكر بن عمر، ودانت له الصحراء، ونشأ حول ابن ياسين جماعة فقهاء وصلحاء، وظهر الإسلام هناك. وأما جوهر، فلزم الخير والتعبد، ورأى أنه لا وضع له، فتألم، وشرع في إفساد الكبار، فعقدوا له مجلسا، ثم(6/265)
أوجبوا قتله بحكم أنه شق العصا، فقال: وأنا أحب لقاء الله. فصلى ركعتين، وقتل. وكثرت المرابطون، وقتلوا، ونهبوا، وعاثوا، وبلغت الأخبار إلى ذلك الفقيه بما فعل ابن ياسين، فاسترجع وندم، وكتب إليه ينكر عليه كثرة القتل والسبي، فأجاب يعتذر بأن هؤلاء كانوا جاهلية يزنون، ويغير بعضهم على بعض، وما تجاوزت الشرع فيهم.
وفي سنة خمسين وأربع مئة قحطت بلادهم، وماتت مواشيهم، فأمر ابن ياسين ضعفاءهم بالمسير إلى السوس وأخذ الزكاة، فقدم سجلماسة منهم سبع مئة، وسألوا الزكاة، فجمعوا لهم مالا، فرجعوا به، ثم ضاقت الصحراء بهم، وأرادوا إعلان الحق، وأن يسيروا إلى الأندلس للغزو، فأتوا السوس، فحاربهم أهلها، فقتل عبد الله بن ياسين، وانهزم أبو بكر بن عمر، ثم حشد وجمع وأقبل، فالتقوه، فانتصر، وأخذ أسلابهم، وقوي جأشه، ثم نازل سجلماسة، وطالب أهلها بالزكاة، فبرز لحربهم مسعود الأمير، وطالت بينهم الحرب مرات، ثم قتلوا مسعودا، وملكوا سجلماسة، فاستناب أبو بكر عليها يوسف بن تاشفين ابن عمه، فأحسن السيرة، وذلك في سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة، ورجع الملك أبو بكر إلى الصحراء، ثم قدم سجلماسة، وخطب لنفسه، واستعمل عليها ابن أخيه، وجهز جيشه مع ابن تاشفين، فافتتح السوس، وكان ابن تاشفين ذا هيئة شجاعا، سائسا. توفي الملك أبو بكر اللمتوني بالصحراء في سنة اثنتين وستين وأربع مئة، فتملك بعده ابن تاشفين، ودانت له الأمم. (1)
_________
(1) السير (18/ 425 - 428).(6/266)
ابن عبد البر (1) (463 هـ)
الإمام، شيخ الإسلام، حافظ المغرب، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي. ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة. حدث عن خلف بن القاسم وعبد الوارث بن سفيان وعبد الله بن محمد بن عبد المؤمن وسعيد بن نصر، وعدة. وحدث عنه أبو محمد بن حزم، والحافظ أبو عبد الله الحميدي، وأبو علي الغساني.
قال أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث، وقال: أبو عمر أحفظ أهل المغرب. وقال الحميدي: أبو عمر فقيه حافظ مكثر، عالم بالقراءات وبالخلاف، وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع. وقال الذهبي: كان إماما دينا، ثقة، متقنا، علامة، متبحرا، صاحب سنة واتباع. وقال: كان في أصول الديانة على مذهب السلف، لم يدخل في علم الكلام، بل قفا آثار مشايخه رحمهم الله.
من تصانيفه كتاب 'التمهيد' و'الاستذكار' و'الاستيعاب' و'جامع بيان العلم' وغيرهما كثير. وقال ابن حزم عن التمهيد: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه.
توفي بشاطبة سنة ثلاث وستين وأربعمائة عن خمس وتسعين سنة وخمسة أيام، رحمه الله.
_________
(1) السير (18/ 153 - 163) وترتيب المدارك (2/ 352 - 353) ووفيات الأعيان (7/ 66 - 72) وتذكرة الحفاظ (3/ 1128 - 1132) والبداية والنهاية (12/ 111) والديباج المذهب (2/ 367 - 370) وشذرات الذهب (3/ 314 - 316).(6/267)
موقفه من المبتدعة:
- جاء في التمهيد: مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب، أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مثل هذا، إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرني عن رأيه لا أساكنك أرضا أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر ذلك له، فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن. (1)
ثم ساق أبو عمر بسنده أن عبادة أنكر على معاوية شيئا فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها ورحل إلى المدينة فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره فقال: ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: لا إمارة لك عليه.
قال أبو عمر: فقول عبادة: لا أساكنك بأرض أنت بها، وقول أبي الدرداء، على ما في حديث زيد بن أسلم يحتمل أن يكون القائل ذلك قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده، وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه، وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا، وهو عندهم عظيم: رد السنن بالرأي.
وجائز للمرء أن يهجر من خاف الضلال عليه، ولم يسمع منه، ولم
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الدرداء سنة (32هـ).(6/268)
يطعه، وخاف أن يضل غيره، وليس هذا من الهجرة المكروهة؛ ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ما أحدث، حتى تاب الله عليه (1)، وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع، وهجرته، وقطع الكلام معه. وقد حلف ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة:
أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا عبد الملك بن بحر، قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا العباس بن الوليد، قال: حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي، عن رجل من عبس، أن ابن مسعود رأى رجلا يضحك في جنازة، فقال: تضحك وأنت في جنازة؟ والله لا أكلمك أبدا.
وغير نكير أن يجهل معاوية ما قد علم أبو الدرداء وعبادة؛ فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم. (2)
- وقال رحمه الله عقب إيراده لحديث: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» (3): وفيه الحض على الاعتصام والتمسك بحبل الله في حال اجتماع وائتلاف، وحبل الله في هذا الموضع
_________
(1) أحمد (3/ 456 - 459) والبخاري (8/ 436/4677) ومسلم (4/ 2120 - 2128/ 2769) وأخرجه أبو داود (2/ 652/2202) والترمذي (5/ 263 - 264/ 3102) والنسائي (6/ 464 - 465/ 3423) مختصرا.
(2) فتح البر (1/ 178 - 179).
(3) أحمد (2/ 327) ومسلم (3/ 1340/1715) عن أبي هريرة.(6/269)
فيه قولان: أحدهما: كتاب الله، والآخر: الجماعة -ولا جماعة إلا بإمام. وهو -عندي- معنى متداخل متقارب، لأن كتاب الله يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، قال الله -عزوجل-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (1) الآية. وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2).اهـ (3)
- قال أبو عمر: ليس أحد من خلق الله إلا وهو يوخذ من قوله، ويترك، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يترك من قوله، إلا ما تركه هو ونسخه، قولا أو عملا، والحجة فيما قال - صلى الله عليه وسلم -، وليس في قول غيره حجة ... (4)
- قال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني. قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه، فإن قال: "قلدته لأني أعلم أنه على صواب". قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: "نعم" أبطل
_________
(1) آل عمران الآية (105).
(2) آل عمران الآية (103).
(3) فتح البر (1/ 120).
(4) فتح البر (9/ 336).(6/270)
التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال: "قلدته لأنه أعلم مني" قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا، ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك، فإن قال: "قلدته لأنه أعلم الناس" قيل له: فإنه إذا أعلم من الصحابة، وكفى بقول مثل هذا قبحا. فإن قال: "أنا أقلد بعض الصحابة" قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه.
وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار قال: عن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه، لقول الله عز وجل: {الذين يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (1) فإن قال: "قصري وقلة علمي يحملني على التقليد" قيل له: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور، لأنه قد أدى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة، لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك، ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير ما كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في
_________
(1) الزمر الآية (18).(6/271)
ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه؟ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن وقال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1) وقال: {أتقولون عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} (2) وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يتيقن فليس بعلم وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئا. (3)
موقفه من الرافضة:
- قال ابن عبد البر: وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه -والله أعلم، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم مثل الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم يبدلون. (4)
- قال أبو عمر: الخلفاء الراشدون المهديون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (5)
- قال أبو عمر: ومن أوكد آلات السنن المعينة عليها، والمؤدية إلى حفظها، معرفة الذين نقلوها عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، وحفظوها عليه،
_________
(1) الإسراء الآية (36).
(2) الأعراف الآية (28).
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 994 - 996).
(4) التمهيد (20/ 262) وانظر فتح البر (1/ 200 - 201).
(5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1168).(6/272)
وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين، حتى كمل بما نقلوه الدين، وثبتت بهم حجة الله تعالى على المسلمين، فهم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عزوجل عليهم وثناء رسوله عليه السلام، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه. قال الله تعالى ذكره: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (1) الآية. فهذه صفة من بادر إلى تصديقه والإيمان به، وآزره ونصره، ولصق به وصحبه، وليس كذلك جميع من رآه ولا جميع من آمن به، وسترى منازلهم من الدين والإيمان، وفضائل ذوي الفضل والتقدم منهم، فالله قد فضل بعض النبيين على بعض، وكذلك سائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وقال عزوجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2) ... الآية. (3)
_________
(1) الفتح الآية (29).
(2) التوبة الآية (100).
(3) مقدمة الاستيعاب (1/ 1 - 2).(6/273)
موقفه من الصوفية:
- قال رحمه في الاستذكار: وفي حديث سويد بن النعمان (1) إباحة اتخاذ الزاد في السفر، وفي ذلك رد على الصوفية الذين يقولون: لا ندخر بعد، فإن غدا له رزق جديد. (2)
- وقال في التمهيد: وفي هذا الحديث دليل على أن الصالحين والفضلاء لا يستغنون عن الزاد في سفرهم، وهو يبطل مذهب الصوفية الذين لا يدخرون لغد. (3)
موقفه من الجهمية:
هذا الإمام أجمع الناس على علمه وحفظه وتبحره في كل الفنون، وأصبح مرجعا لمن جاء بعده، وترك تراثا قيما شكره عليه الأولون والآخرون، لما فيه من جواهر غالية. وركز في كتابين له على بيان العقيدة السلفية: جامع بيان العلم وفضله وهو من أحسن المراجع في هذا الباب، وكتاب التمهيد ذكر فيه عقيدة كاملة بحججها وبراهينها، وشبه المبتدعة وردها والجواب عنها. وسألخص ما جاء في التمهيد حتى يكون أنموذجا ومثالا لما يقول. وذلك في سياق حديث أبي هريرة «ينزل ربنا إلى السماء
_________
(1) وهو "أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا ... ".
أخرجه: أحمد (3/ 462) والبخاري (1/ 412/209) والنسائي (1/ 117/186) وابن ماجه (1/ 165/492).
(2) الاستذكار (2/ 151).
(3) فتح البر (3/ 379).(6/274)
الدنيا ... » الحديث). (1)
- قال أبو عمر: وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش. والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك، قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (2) ثم ساق الآيات التي تدل على استواء الله على عرشه ثم قال: وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {استوى} قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت
_________
(1) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) طه الآية (5).(6/275)
فوق الدابة واستويت فوق البيت وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد.
قال أبو عمر: الاستواء: الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله عز وجل وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (1) وقال: {واستوت عَلَى الْجُودِيِّ} (2) وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (3) وقال الشاعر:
فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى
وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى: لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة قال: حدثني الخليل وحسبك بالخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا! فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال. قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (4) فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير وماء نمير؟ فقلنا الساعة فارقناه فقال: سلاما فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه
_________
(1) الزخرف الآية (13).
(2) هود الآية (44).
(3) المؤمنون الآية (28).
(4) فصلت الآية (11).(6/276)
سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} (1). (2)
شبه الجهمية والجواب عليها:
وأما نزع من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن واقد الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (3): على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان فالجواب عن هذا: أن هذا حديث منكر عن ابن عباس ونقلته مجهولون ضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقلوا أوأنصفوا؟ أما سمعوا الله عز وجل حيث يقول: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (4)، فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا.
_________
(1) الفرقان الآية (63).
(2) التمهيد (7/ 129 - 132) وانظر فتح البر (2/ 7 - 10).
(3) طه الآية (5).
(4) غافر الآيتان (36و37).(6/277)
فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد
مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت وفيه يقول في وصف الملائكة:
فمن حامل إحدى قوائم عرشه ... ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا
قيام على الأقدام عانون تحته ... فرائصهم من شدة الخوف ترعد
قال أبو عمر: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (1) وبقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (2) وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (3). وزعموا أن الله تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة: أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض وكذلك قال أهل العلم بالتفسير. فظاهر التنزيل يشهد على أنه على العرش، والاختلاف في ذلك بيننا فقط وأسعد الناس به من ساعده الظاهر، وأما قوله في الآية الأخرى: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فالإجماع والاتفاق قد بين المراد بأنه معبود من أهل الأرض فتدبر هذا، فإنه قاطع إن شاء الله. ومن
_________
(1) الزخرف الآية (84).
(2) الأنعام الآية (3).
(3) المجادلة الآية (7).(6/278)
الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للأَمَة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن قال لها: «أين الله؟» فأشارت إلى السماء ثم قال لها: «من أنا؟» قالت: رسول الله قال: «أعتقها، فإنها مؤمنة» (1) فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها برفعها رأسها إلى السماء ...
ثم قال: وأما احتجاجهم: لو كان في مكان لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته مخلوق فشيء لا يلزم ولا معنى له لأنه عز وجل ليس كمثله شيء من خلقه ولا يقاس بشيء من بريته، لا يدرك بقياس ولا يقاس بالناس، لا إله إلا هو كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسماوات والأرض وما بينهما، وهو الباقي بعد كل شيء وخالق كل شيء لا شريك له. وقد قال المسلمون وكل ذي عقل: إنه لا يعقل كائن لا في مكان ما وما ليس في مكان فهو عدم. وقد صح في المعقول وثبت بالواضح من الدليل أنه كان في الأزل لا في مكان، وليس بمعدوم فكيف يقاس على شيء من خلقه؟ أو يجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذي لا يبلغ من وصفه إلا إلى ما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيه ورسوله، أو اجتمعت عليه الأمة الحنيفية عنه. فإن قال قائل منهم: إنا وصفنا ربنا أنه
_________
(1) تقدم تخريجه صمن مواقف أبي عمرو عثمان السهروردي سنة (458هـ).(6/279)
كان لا في مكان ثم خلق الأماكن فصار في مكان وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال، إذ زال عن صفته في الأزل وصار في مكان دون مكان، قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان وانتقل إلى صفة هي الكون في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، وهذا لا ينفك منه لأنه إن زعم أنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن فقد أوجب الأماكن والأشياء موجودة معه في أزله وهذا فاسد. فإن قيل: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟ قيل له: أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا وكذلك نقله لا يوجب مكانا، وليس في ذلك كالخلق لأن كون ما كونه يوجب مكانا من الخلق ونقلته توجب مكانا، ويصير منتقلا من مكان إلى مكان والله عز وجل ليس كذلك لأنه في الأزل غير كائن في مكان وكذلك نقلته لا توجب مكانا وهذا ما لا تقدر العقول على دفعه ولكنا نقول: استوى من لا مكان إلى مكان ولا نقول انتقل وإن كان المعنى في ذلك واحدا.
ألا ترى أنا نقول: له عرش ولا نقول له سرير ومعناهما واحد: ونقول: هو الحكيم ولا نقول: هو العاقل ونقول: خليل إبراهيم ولا نقول: صديق إبراهيم وإن كان المعنى في ذلك كله واحدا لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه على ما تقدم ذكرنا له من وصفه لنفسه لا شريك له، ولا ندفع ما وصف به نفسه لأنه دفع للقرآن وقد قال الله عز(6/280)
وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (1) وليس مجيئه حركة ولا زوالا ولا انتقالا لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا، فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا نقلة ولو اعتبرت ذلك بقولهم: جاءت فلانا قيامته وجاءه الموت وجاءه المرض وشبه ذلك. مما هو موجود نازل به ولا مجيء، لبان لك وبالله العصمة والتوفيق.
فإن قال: إنه لا يكون مستويا على مكان إلا مقرونا بالتكييف؛ قيل: قد يكون الاستواء واجبا والتكييف مرتفع وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء ولو لزم هذا لزم التكييف في الأزل لأنه لا يكون كائن في لا مكان إلا مقرونا بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحا في أبداننا ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه ...
قال أبو عمر: وأما احتجاجهم بقوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التآويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.
_________
(1) الفجر الآية (22).
(2) المجادلة الآية (7).(6/281)
ثم قال أبو عمر بعد كلام وسياق لأحاديث بعض الصفات: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله. ثم قال أبو عمر بعد سياق لمجموعة من الصفات: الذي أقول: إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا، علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة لا من قبل حركة ولا من باب الكل والبعض ولا من باب كان ويكون. ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا في الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما، ما أضاعوه ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم ولو كان ذلك من عملهم مشهورا أو من أخلاقهم معروفا لاستفاض عنهم ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات.
ثم قال أبو عمر بعد سوق رواية أحاديث الرؤية: وأهل البدع المخالفون لنا في هذا التأويل يقولون: إن من جوز مثل هذا وأمكن عنده فقد كفر، فيلزمهم تكفير موسى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وكفى بتكفيره كفرا وجهلا. (1)
_________
(1) التمهيد (7/ 132 - 155) وانظر فتح البر (2/ 10 - 31).(6/282)
التعليق:
ما أدري ماذا يقول متعصبة الأشاعرة المنتسبون إلى المالكية خصوصا والأشاعرة عموما في كلام هذا الإمام، هل سيعدونه مشبها أو حنبليا متعصبا أو حشويا متبلدا، أو سيضعون الرمال فوق هذه الوديان والبحار المنسابة بالحق ونور النبوة المتوارث، فلا أدري كم يكفيهم من مقدار لسد ذلك وتغطيته، أو سيقولون إن أبا عمر لم يكن في العلم والحفظ بذلك. أو سيقولون: إن حافظ المشرق والمغرب أعلم بمذاهب الناس وأكثرهم فهما لها، فالحق معه وهذا الذي قرره ينبغي لكل مسلم يؤمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبعه وهذا هو الظن بهم إن شاء الله وبأمثالهم ممن يطلب الحق ويبحث عنه.
بقية آراء ومواقف أبي عمر:
- جاء في جامع بيان العلم وفضله بعد أن ساق قول مالك في بدعة الكلام قال: والذي قاله مالك رحمه الله، عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع -المعتزلة وسائر الفرق- وأما الجماعة على ما قال مالك رحمه الله، إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشي ضلال عامة أو نحو هذا. (1)
- وفيه قال رحمه الله: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء وإنما
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 938).(6/283)
العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم. (1)
- وجاء فيه عنه قال رحمه الله: وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين. ألا ترى مناظرة بشر في قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (2) قال: هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه: فهو في قلنسوتك وفي حشك وفي جوف حمارك، تعالى الله عما يقولون. حكى ذلك وكيع.
وأنا والله أكره أن أحكي كلامهم قبحهم الله. (3)
- وفيه قال رحمه الله: في الكلام على الصفات: رواها السلف وسكتوا عنها وهم كانوا أعمق الناس علما وأوسعهم فهما وأقلهم تكلفا ولم يكن سكوتهم عن عي فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر. (4)
- وجاء فيه عند الكلام على الصفات: ليس في الاعتقاد في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه. (5)
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 942).
(2) المجادلة الآية (7).
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 948).
(4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 946).
(5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 943).(6/284)
آثاره السلفية:
1 - 'كتاب الشواهد في إثبات خبر الواحد'.
2 - 'كتاب الإنصاف في أسماء الله تعالى'. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال أبو عمر: كان للخوارج مع خروجهم تأويلات في القرآن ومذاهب سوء مفارقة لسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الذين أخذوا الكتاب والسنة عنهم، وتفقهوا معهم، فخالفوا في تأويلهم مذاهبهم الصحابة والتابعين وكفروهم، وأوجبوا على الحائض الصلاة، ودفعوا رجم المحصن الزاني، ومنهم من دفع الظهر والعصر، وكفروا المسلمين بالمعاصي، واستحلوا بالذنوب دماءهم، وكان خروجهم فيما زعموا -تغييرا للمنكر ورد الباطل- فكان ما جاءوا به أعظم المنكر وأشد الباطل إلى قبيح مذاهبهم، مما قد وقفنا على أكثرها، وليس هذا والحمد لله موضع ذكرها، فهذا أصل أمر الخوارج، وأول خروجهم كان على علي رضي الله عنه فقتلهم بالنهروان، ثم بقيت منهم بقايا من أنسابهم ومن غير أنسابهم على مذاهبهم، يتناسلون ويعتقدون مذاهبهم، وهم بحمد الله -مع الجماعة مستترون بسوء مذهبهم، غير مظهرين لذلك ولا ظاهرين به- والحمد لله، وكان للقوم صلاة بالليل والنهار، وصيام، يحتقر الناس أعمالهم عندها، وكانوا يتلون القرآن آناء الله والنهار، ولم يكن يتجاوز حناجرهم ولا تراقيهم، لأنهم كانوا يتأولونه بغير علم بالسنة المبينة، فكانوا قد حرموا فهمه
_________
(1) التذكرة (3/ 1129).(6/285)
والأجر على تلاوته، فهذا والله أعلم -معنى قوله: لا يجاوز حناجرهم- يقول: لا ينتفعون بقراءته، كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب بما لا يجاوز حنجرته.
وقد قيل: إن معنى ذلك: أنهم كانوا يتلونه بألسنتهم ولا تعتقده قلوبهم، وهذا إنما هو في المنافقين. (1)
حكم من شق عصا المسلمين:
- قال أبو عمر: أجمع العلماء على أن من شق العصا وفارق الجماعة، وشهر على المسلمين السلاح، وأخاف السبيل، وأفسد بالقتل والسلب، فقتلهم وإراقة دمائهم واجب، لأن هذا من الفساد العظيم في الأرض، والفساد في الأرض موجب لإراقة الدماء بإجماع، إلا أن يتوب فاعل ذلك من قبل أن يقدر عليه، والانهزام عندهم ضرب من التوبة، وكذلك من عجز عن القتال، لم يقتل إلا بما وجب عليه قبل ذلك. ومن أهل الحديث طائفة تراهم كفارا على ظواهر الأحاديث فيهم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (2) ومثل قوله: «يمرقون من الدين» (3)، وهي آثار يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئا، ويريد بعمله وجهه، -وإن أخطأ في حكمه واجتهاده- والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها
_________
(1) فتح البر (1/ 458 - 459).
(2) أحمد (2/ 329) والبخاري (12/ 192/6873) ومسلم (1/ 98/98 - 99 - 100 - 101) عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وغيرهم.
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي سعيد الخدري سنة (63هـ).(6/286)
الإيمان، لأنهما ضدان. (1)
- وقال رحمه الله: والمعنى فيه (2) عند أهل الفقه والأثر: أهل السنة والجماعة: النهي عن أن يكفر المسلم أخاه المسلم بذنب، أو تأويل لا يخرجه من الإسلام عند الجميع، فورد النهي عن تكفير المسلم في هذا الحديث وغيره بلفظ الخبر دون لفظ النهي، وهذا موجود في القرآن والسنة، ومعروف في لسان العرب.
وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لرجل يا كافر فقد باء بها أحدهما» (3)، قال: أرى ذلك في الحرورية، فقلت له: أفتراهم بذلك كفارا؟ فقال: ما أدري ما هذا؟ ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (5) وقوله: «لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» (6). ومثل هذا كثير من الآثار التي وردت بلفظ التغليظ، وليست على ظاهرها عند أهل
_________
(1) فتح البر (1/ 473).
(2) أي حديث ابن عمر مرفوعا: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بهما أحدهما». أخرجه: أحمد (2/ 11و18و44) والبخاري (10/ 514/6104) ومسلم (1/ 79/111 [60]) والترمذي (5/ 22/2637).
(3) انظر الذي قبله.
(4) أحمد (1/ 439) والبخاري (1/ 110/48) ومسلم (1/ 81/116 - 117) والترمذي (4/ 353/1983) والنسائي (7/ 137 - 139/ 4115 - 4124) وابن ماجه (1/ 28/69) عن ابن مسعود وسعد وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(5) البخاري (1/ 217/121) ومسلم (1/ 81/118) وأبو داود (5/ 63/4686) والترمذي (4/ 486/2193) والنسائي (7/ 126 - 128/ 4135 - 4143) وابن ماجه (2/ 1300/3942) عن جماعة من الصحابة: جرير، ابن عمر، ابن عباس ... رضي الله عنهم.
(6) البخاري (12/ 54/6768) ومسلم (1/ 80/113).(6/287)
الحق والعلم، لأصول تدفعها أقوى منها من الكتاب والسنة المجتمع عليها، والآثار الثابتة أيضا من جهة الإسناد، وهذا باب يتسع القول فيه ويكثر، فنذكر منه ههنا ما فيه كفاية -إن شاء الله-، وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب، فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين.
واحتجوا من كتاب الله بآيات ليست على ظاهرها، مثل قوله عز وجل: {ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (1) وقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} (2) وقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} (3) وقوله: {إن هم إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} (4) وقوله: {وهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (5) ونحو هذا. وروي عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} قال: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر. وقد أوضحنا معنى الكفر في اللغة في مواضع من هذا الكتاب، والحجة عليهم قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
_________
(1) المائدة الآية (44).
(2) الحجرات الآية (2).
(3) الجاثية الآية (32).
(4) الزخرف الآية (20).
(5) الكهف الآية (104).(6/288)
يَشَاءُ} (1). ومعلوم أن هذا بعد الموت لمن لم يتب، لأن الشرك ممن تاب منه -قبل الموت- وانتهى عنه غفر له، كما تغفر الذنوب كلها بالتوبة جميعا، قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2).
وقد وردت آيات في القرآن محكمات، تدل أنه لا يكفر أحد إلا بعد العلم والعناد، منها قول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} (3) و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)} (4) وقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} (5) وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (6) وقوله: {مهما تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)} إلى قوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)}، ثم قال على إثر ذلك: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ
_________
(1) النساء الآية (48) والآية (116).
(2) الأنفال الآية (38).
(3) آل عمران الآية (71).
(4) آل عمران الآية (70).
(5) آل عمران الآية (75).
(6) النساء الآية (153).(6/289)
كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} (1)، ثم قال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} (2)، ثم ذكر الأمم فقال: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ (5)} (3) ثم ذكر الأمم فقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} (4)
ولذلك قال: {تشابهت قُلُوبُهُمْ} (5). {وخضتم كَالَّذِي خَاضُوا} (6). وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (7)، وقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
_________
(1) الأعراف الآيات (132 - 135).
(2) المؤمنون الآية (76).
(3) غافر الآية (5).
(4) الذاريات الآيتان (52و53) ..
(5) البقرة الآية (118).
(6) التوبة الآية (69).
(7) الصف الآية (5).(6/290)
بَيْنَهُمْ} (1) وقال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} (2) وقال: {بل جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)} (3) وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (4) وقال: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} (5) وقال: {فلما جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} الآية (6) وقال: {وشاقوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} (7) وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} (8) إلى آيات كثيرة في معنى ما ذكرنا، كلها تدل على معاندة الكفار، وأنهم إنما كفروا بالمعاندة والاستكبار، وقال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (9) وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (10)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات لا يشرك بالله
_________
(1) الشورى الآية (14).
(2) البقرة الآية (22).
(3) المؤمنون الآية (70).
(4) الجاثية الآية (23).
(5) التوبة الآية (17).
(6) فاطر الآيتان (42و43).
(7) محمد الآية (32).
(8) النمل الآية (14).
(9) الإسراء الآية (15).
(10) التوبة الآية (115).(6/291)
شيئا دخل الجنة، ومن مات وهو يشرك بالله شيئا فهو في النار» (1).
وجعل الله عز وجل في بعض الكبائر حدودا جعلها طهرة، وفرض كفارات في كتابه للذنوب من التقرب إليه بما يرضيه، فجعل على القاذف جلد ثمانين إن لم يأت بأربعة شهداء، ولم يجعله بقذفه كافرا، وجعل على الزاني مائة، وذلك طهرة له، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في التي رجمها: «لقد خرجت من ذنوبها كيوم ولدتها أمها». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أقيم عليه الحد فهو له كفارة، ومن لم يقم عليه حده فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» (2) وما لم يجعل فيه حدا فرض فيه التوبة منه، والخروج عنه إن كان ظلما لعباده، وليس في شيء من السنن المجتمع عليها ما يدل على تكفير أحد بذنب، وقد أحاط العلم بأن العقوبات على الذنوب كفارات، وجاءت بذلك السنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاءت بكفارة الأيمان والظهار والفطر في رمضان، وأجمع علماء المسلمين أن الكافر لا يرث المسلم، وأجمعوا أن المذنب -وإن مات مصرا- يرثه ورثته، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ونسك نسكنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم» (3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الندم توبة» (4) رواه عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،
_________
(1) البخاري (3/ 110/1237) ومسلم (1/ 94/92).
(2) الدارمي (2/ 182) وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 268) وقال: "رواه الطبراني وأحمد بنحوه وفيه راو لم يسم وهو ابن خزيمة، وبقية رجاله ثقات".
(3) البخاري (2/ 448/955) ومسلم (3/ 1553/1961).
(4) أحمد (1/ 376 - 423 - 433) وابن ماجه (2/ 1420/4252) والحاكم (4/ 243) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي.(6/292)
وقال: - صلى الله عليه وسلم - «ليس أحد من خلق الله إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة، إلا يحيى بن زكرياء» (1)،
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أنكم تذنبون وتستغفرون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم، إن الله يحب أن يغفر لعباده» (2).
ومن هذا قول الأول:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما
فهذه الأصول كلها تشهد على أن الذنوب لا يكفر بها أحد، وهذا يبين لك أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»، أنه ليس على ظاهره، وأن المعنى فيه النهي عن أن يقول أحد لأخيه: كافر، أو يا كافر.
قيل لجابر بن عبد الله: يا أبا محمد، هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب كفرا أو شركا أو نفاقا؟ قال: معاذ الله، ولكنا نقول: مؤمنين مذنبين، روي ذلك عن جابر من وجوه، ومن حديث الأعمش عن أبي سفيان قال: قلت لجابر: أكنتم تقولون لأحد من أهل القبلة: كافر؟ قال: لا، قلت: فمشرك؟ قال: معاذ الله، وفزع!.
وقد قال جماعة من أهل العلم في قول الله عز وجل: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (3)، هو قول الرجل لأخيه: يا كافر، يا فاسق، وهذا موافق لهذا الحديث، فالقرآن والسنة ينهيان عن
_________
(1) أحمد (1/ 254 - 292 - 295 - 301 - 320) وفيه علي بن زيد ..
(2) أحمد (5/ 414) ومسلم (4/ 2105/2748) والترمذي (5/ 512/3539).
(3) الحجرات الآية (11).(6/293)
تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه.
ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له، أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنبا أو تأول تأويلا، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام، لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر، أو سنة ثابتة لا معارض لها.
وقد اتفق أهل السنة والجماعة -وهم أهل الفقه والأثر- على أن أحدا لا يخرجه ذنبه -وإن عظم- من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أوقام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة. (1)
- قال رحمه الله: وأما قوله: «وأن لا ننازع الأمر أهله» (2)، فاختلف الناس في ذلك، فقال قائلون: أهله أهل العدل والإحسان والفضل والدين، فهؤلاء لا ينازعون لأنهم أهله، وأما أهل الجور والفسق والظلم، فليسوا له بأهل، ألا ترى إلى قول الله عزوجل لإبراهيم عليه السلام قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} (3) وإلى منازعة الظالم الجائر، ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج. وأما
_________
(1) فتح البر (1/ 475 - 480).
(2) أحمد (3/ 441) والبخاري (13/ 238/7200) ومسلم (3/ 1470/1709) والنسائي (7/ 155/4160) وابن ماجه (2/ 957/2866) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) البقرة الآية (124).(6/294)
أهل الحق وهم أهل السنة، فقالوا: هذا هو الاختيار: أن يكون الإمام فاضلا عدلا محسنا، فإن لم يكن، فالصبر على طاعة الجائرين من الأئمة أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحمل على هراق الدماء وشن الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، وكل إمام يقيم الجمعة والعيد، ويجاهد العدو ويقيم الحدود على أهل العداء، وينصف الناس من مظالمهم بعضهم لبعض، وتسكن له الدهماء وتأمن به السبل، فواجب طاعته في كل ما يأمر به من الصلاح أو من المباح. (1)
موقفه من المرجئة:
قال في 'التمهيد': أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا قالوا إنما الإيمان التصديق والإقرار، ومنهم من زاد والمعرفة. -ثم ذكر ما احتجوا به ... - إلى أن قال: وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك بن أنس، والليث ابن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، وأبو جعفر الطبري، ومن سلك سبيلهم؛ فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان
_________
(1) فتح البر (1/ 111).(6/295)
وهو الإقرار واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة قالوا: وكل مايطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (1) يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر -إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام- من قرابتهم المؤمنين الذين ليسوا (2)
بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا: أن مرتكب الذنوب ناقص الإيمان بفعله ذلك، وليس بكافر كما زعمت الخوارج في تكفيرهم المذنبين، وقد جعل الله في ارتكاب الكبائر حدودا، جعلها كفارة وتطهيرا كما جاء في حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فمن واقع منها شيئا -يعني من الكبائر- وأقيم عليه الحد فهو له كفارة، ومن لا فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» (3). وليس هذا حكم الكافر لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(2) في التمهيد: (آمنوا) والتصويب من مجموع الفتاوى (7/ 330) ..
(3) البخاري (1/ 87/18).(6/296)
والإيمان مراتب بعضها فوق بعض، فليس الناقص فيها كالكامل، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (1) أي: إنما المؤمن حق الإيمان من كانت هذه صفته، ولذلك قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (2). ومثل هذه الآية في القرآن كثير.
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» (3) أن هو المؤمن المسلم حقا. ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (4) ومعلوم معمول أنه لا يكون هذا أكمل حتى يكون غيره أنقص، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» (5) وقوله: «لا إيمان لمن لا صلاة له ولا من لا
_________
(1) الأنفال الآية (2).
(2) الأنفال الآية (4).
(3) الترمذي (5/ 18/2627) وقال: "حسن صحيح". والنسائي (8/ 479/5010) والحاكم (1/ 10) وقال: "قد اتفقا على إخراج طرق حديث: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ولم يخرجا هذه الزيادة وهي صحيحة على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
(4) أحمد (2/ 250، 472) وأبو داود (5/ 60/4682) والترمذي (3/ 466/1162) وقال: "حسن صحيح". والحاكم (1/ 3) وصححه ووافقه الذهبي.
(5) أحمد (4/ 286) من حديث البراء. وابن أبي شيبة (6/ 172/30443) من حديث ابن مسعود. وله طرق لا تخلوا من مقال، أوردها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1728) وقال: "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم".(6/297)
أمانة له» (1) كل ذلك يدل على أنه ليس بإيمان كامل، وأن بعض الإيمان أوثق عروة وأكمل من بعض، كما قال: «ليس المسكين بالطواف عليكم» الحديث (2) يريد ليس الطواف بالمسكين حقا، لأن ثم من هو أشد مسكنة منه، وهو الذي لا يسأل الناس ويتعفف. ويدلك على ذلك قول عائشة: إن المسكين ليقف على بابي ... الحديث.
وروى مجاهد بن جبر وأبو صالح السمان جميعا عن عبد الله بن جمرة عن كعب قال: «من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنح لله فقد استكمل الإيمان» (3).
ومن الدلائل على أن الإيمان قول وعمل كما قالت الجماعة والجمهور، قول الله عز وجل: {وما كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (4).لم يختلف المفسرون أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيمانا، ومثل هذا القول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} الآية إلى قوله: {أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (5).
_________
(1) أحمد (3/ 135) وابن حبان (1/ 423/195) والبغوي في شرح السنة (1/ 74/38) وحسنه. وفي الباب من حديث أبي أمامة وابن مسعود رضي الله عنهما.
(2) أحمد (1/ 384) والبخاري (3/ 433/1476) والنسائي (5/ 89/2570).
(3) ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (133) موقوفا عليه، وقد ورد مرفوعا من حديث أبي أمامة عند أبي داود (5/ 60/4681)، ومن حديث سعد بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عند أحمد (3/ 440)، والترمذي (4/ 578/2521) وحسنه. والحاكم (2/ 164) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
(4) البقرة الآية (143).
(5) البقرة الآية (177).(6/298)
وأما من السنة فكثير جدا، من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» (1) وقد كان معاذ بن جبل يقول لأصحابه: تعالوا بنا نؤمن ساعة. (2) أي: نذكر الله. فجعل ذكر الله من الإيمان، ومثل هذا حديث طلحة ابن عبيد الله: أن أعرابيا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام فقال: «خمس صلوات ... » الحديث (3) ... -إلى أن قال- وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، جماعة أهل الآثار؛ والفقهاء من أهل الفتوى بالأمصار وقد روى ابن القاسم عن مالك أن الإيمان يزيد ووقف في نقصانه. وروى عنه عبد الرزاق ومعن (4) بن عيسى وابن نافع وابن وهب أنه يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث، والحمد لله. (5)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: وجملة القول في القدر أنه سر الله لا يدرك بجدال ولا نظر ولا تشفى منه خصومة ولا احتجاج، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، له الخلق
_________
(1) أحمد (2/ 26) والبخاري (1/ 68/8) ومسلم (1/ 45/22) والنسائي (8/ 481 - 482/ 5016) من حديث ابن عمر.
(2) تقدم في مواقفه رضي الله عنه.
(3) البخاري (1/ 142/46) ومسلم (1/ 40/8) وأبو داود (1/ 242/391) والنسائي (1/ 246/457).
(4) في التمهيد معمر بن عيسى وهو تحريف والتصويب ما أثبتناه من مجموع الفتاوى (7/ 331).
(5) فتح البر (1/ 432 - 445)، ونقله عن ابن عبد البر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/ 330 - 331).(6/299)
والأمر كله لا شريك له، نظام ذلك قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1). وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2). وحسب المؤمن من القدر، أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم فمن رد على الله تعالى خبره في الوجهين أو في أحدهما كان عنادا، وكفرا، وقد تظاهرت الآثار في التسليم للقدر والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له والإقرار بخيره وشره والعلم بعدل مقدره وحكمته. وفي نقض عزائم الانسان برهان فيما قلنا، وتبيان، والله المستعان. (3)
- وقال رحمه الله -شارحا لحديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها» (4) -: في هذا الخبر من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به، فإنما لها ما سبق به القدر عليها، لا ينقصها طلاق ضرتها شيئا مما جرى به القدر لها ولا يزيدها. وقال الأخفش: كأنه يريد أن تفرغ صحفة تلك من خير الزوج وتأخذه هي وحدها.
قال أبو عمر: وهذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم
_________
(1) الإنسان الآية (30).
(2) القمر الآية (49).
(3) التمهيد (فتح البر 2/ 196).
(4) أحمد (2/ 489) والبخاري (11/ 604/6601) ومسلم (2/ 1033/1413) وأبو داود (2/ 630/2176) والنسائي (6/ 380 - 381/ 3239).(6/300)
والسنة، وفيه أن المرء لا يناله إلا ما قدر له.
قال الله عزوجل: {قل لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (1). والأمر في هذا واضح لمن هداه الله، والحمد لله. (2)
- وقال -تعليقا على حديث مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم، عن طاوس اليماني أنه قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيء بقدر. قال طاوس: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز» (3) -: وفي هذا الحديث أدل الدلائل وأوضحها على أن الشر والخير كل من عند الله، وهوخالقهما لا شريك له، ولا إله غيره، لأن العجز شر، ولوكان خيرا ما استعاذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استعاذ من الكسل والعجز والجبن والدين، ومحال أن يستعيذ من الخير، وفي قول الله عزوجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (4) كفاية لمن وفق، وقال عزوجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (5).اهـ (6)
_________
(1) التوبة الآية (51).
(2) التمهيد (فتح البر 2/ 273).
(3) أحمد (2/ 110) ومسلم (4/ 2045/2655).
(4) الفلق الآيتان (1و2).
(5) النحل الآية (93). فاطر الآية (8).
(6) التمهيد (فتح البر 2/ 277 - 278).(6/301)
- وقال رحمه الله: قال الله عزوجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1). وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2). فليس لأحد مشيئة تنفذ، إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى، وإنما يجرى الخلق فيما سبق من علم الله. والقدر سر الله لا يدرك بجدال، ولايشفى منه مقال، والحجاج فيه مرتجة، لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار، وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار، الطيبين الأبرار، بالاستسلام والانقياد والاقرار، بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (3).اهـ (4)
الخطيب البغدادي (5) (463 هـ)
أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر الخطيب البغدادي، العلامة المفتي، الحافظ الناقد، محدث الوقت. ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. سمع من القاضي أبي عبد الله القضاعي، وأبي نعيم الحافظ
_________
(1) القمر الآية (49).
(2) التكوير الآية (29).
(3) فصلت الآية (46).
(4) التمهيد (فتح البر 2/ 293 - 294).
(5) السير (18/ 270 - 297) والأنساب (2/ 384) والكامل في التاريخ (10/ 68) ووفيات الأعيان (1/ 92 - 93) وتذكرة الحفاظ (3/ 1135 - 1146) والوافي بالوفيات (7/ 190 - 199) والبداية والنهاية (12/ 108 - 110) وشذرات الذهب (3/ 311 - 312).(6/302)
وابن ماكولا، وغيرهم كثير. وحدث عنه أبو بكر البرقاني وأبو الفضل بن خيرون والحميدي وخلق يطول ذكرهم. قال السلفي: سألت شجاعا الذهلي عن الخطيب، فقال: إمام مصنف حافظ، لم ندرك مثله. قال الذهبي: طلب هذا الشأن ورحل فيه إلى الأقاليم وبرع، وصنف وجمع وسارت بتصانيفه الركبان وتقدم في عامة فنون الحديث. وقال ابن السمعاني: كان إمام عصره بلا مدافعة، وحافظ وقته بلا منازعة، صنف قريبا من مائة مصنف، صارت عمدة لأهل الحديث. وقال: كان الخطيب مهيبا وقورا، ثقة متحريا، حجة حسن الخط، كثير الضبط، فصيحا، ختم به الحفاظ. وقال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظا واتقانا وضبطا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو إسحاق الشيرازي الفقيه: أبو بكر الخطيب يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. وقال مؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني مثل الخطيب. توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في مطلع كتابه 'شرف أصحاب الحديث': أما بعد، وفقكم الله لعمل الخيرات، وعصمنا وإياكم من اقتحام البدع والشبهات، فقد وقفنا على ما ذكرتم من عيب المبتدعة لأهل السنن والآثار، وطعنهم على من شغل نفسه بسماع الأحاديث وحفظ الأخبار، وتكذيبهم بصحيح ما نقله إلى الأمة الأئمة الصادقون، واستهزائهم بأهل الحق فيما وضعه عليهم الملحدون؛(6/303)
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بهم وَيَمُدُّهُمْ في طغيانهم يَعْمَهُونَ (15)} (1). وليس ذلك عجيبا من متبعي الهوى ومن أضلهم الله عن سلوك سبيل الهدى.
ومن واضح شأنهم الدال على خذلانهم: صدوفهم عن النظر في أحكام القرآن، وتركهم الحجاج بآياته الواضحة البرهان، واطراحهم السنن من ورائهم، وتحكمهم في الدين بآرائهم. فالحدث منهوم بالغزل، وذو السن مفتون بالكلام والجدل، قد جعل دينه غرضا للخصومات، وأرسل نفسه في مراتع الهلكات، ومناه الشيطان دفع الحق بالشبهات، إن عرض عليه بعض كتب الأحكام المتعلقة بآثار نبينا عليه أفضل السلام، نبذها جانبا، وولى ذاهبا عن النظر فيها، يسخر من حاملها وراويها، معاندة منه للدين وطعنا على أئمة المسلمين. ثم هو يفتخر على العوام بذهاب عمره في درس الكلام، ويرى جميعهم ضالين سواه، ويعتقد أن ليس ينجو إلا إياه؛ لخروجه زعم عن حد التقليد وانتسابه إلى القول بالعدل والتوحيد؛ وتوحيده إذا اعتبر كان شركا وإلحادا؛ لأنه يجعل لله من خلقه شركاء وأندادا، وعدله عدول عن نهج الصواب الى خلاف محكم السنة والكتاب. وكم يرى البائس المسكين إذا ابتلي بحادثة في الدين يسعى إلى الفقيه يستفتيه ويعمل على ما يقوله ويرويه راجعا إلى التقليد بعد فراره منه، وملتزما حكمه بعد صدوفه عنه، وعسى أن يكون في حكم حادثته من الخلاف ما يحتاج إلى إنعام النظر فيه والاستكشاف، فكيف استحل التقليد بعد تحريمه، وهون الإثم فيه بعد
_________
(1) البقرة الآية (15).(6/304)
تعظيمه، ولقد كان رفضه ما لا ينفعه في الآخرة والأولى واشتغاله بأحكام الشريعة أحرى وأولى. (1)
التعليق:
انظر رحمك الله إلى هذا الإمام كيف صور حالة المبتدع الأخلاقية والنفسية، وما ثمن العلم الذي يحمله وما ثمن العلم الذي يجهله. علم يقود إلى الشرك والعياذ بالله، وجهل بالضروريات من أمور الدين. ومع هذه الفضائح، صاحبه يفتخر به على الأقران وكان الأولى به الخجل والتحسر والندم. وعلم لو مضى فيه قليلا من العمر لنور الله بصيرته فعرف به ربه ودينه والله المستعان.
- قال أبو بكر: ولو أن صاحب الرأي المذموم شغل نفسه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين، واقتفى آثار الفقهاء والمحدثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عما سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه؛ لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين، تعالى عن مقالات الملحدين، والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله تعالى فيهما للمتقين والفجار، وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقربين، ونعت الصافين والمسبحين. وفي الحديث قصص الأنبياء، وأخبار الزهاد والأولياء، ومواعظ البلغاء، وكلام الفقهاء، وسير ملوك العرب
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (3 - 5).(6/305)
والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسراياه وجمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته، وأعلامه ومعجزاته، وعدة أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه، وذكر فضائلهم ومآثرهم، وشرح أخبارهم ومناقبهم، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم. وفيه تفسير القرآن العظيم، وما فيه من النبأ والذكر الحكيم، وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالفين والفقهاء المجتهدين. وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة؛ وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته.
إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع. ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن. وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم. وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر. من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذلهم الله. لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم. المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم(6/306)
حسير {وإن اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} (1).اهـ (2)
- وقال: ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي، ومجانبته خلافا بعيدا، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي، ودلهم على غوره وغورته، ... ولكن السنن من الإسلام، بحيث جعلها الله، هي ملاك الدين وقيامه الذي بني عليه الإسلام، وأي قول أجسم وأعظم خطرا مما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حين خطب الناس فقال: «وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا: كتاب الله وسنة نبيه» (3). فقرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وأيم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب ومن (4) - أخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف، بتأويل كتاب الله وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث عن الأمور وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - كراهية ذلك أن قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من
_________
(1) الحج الآية (39).
(2) الشرف (7 - 9).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ).
(4) زيادة اقتضاها المعنى.(6/307)
قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» (1). فأي أمر أكف لمن يعقل عن التنقيب من هذا؟.
ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم، وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم، فهم كل يوم على دين ضلال وشبهة جديدة لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضيه لهم، ولكنهم تكلفوا ما قد كفوا مؤنته وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله ما قصرت عنه عقولهم، وحق لها أن تقصر عنه وتحسر دونه، فهنالك تورطوا وأين ما أعطى الله العباد من العلم في قلته وزهادته مما تناولوا، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (2)، وقد قص الله تعالى ما عير -أو غير هذه الكلمة- به موسى عليه السلام، من أمر الرجل الذي لقيه فقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} (3)،
فكان منه في خرقه السفينة، وقتله الغلام، وبنائه الجدار، ما قد قال الله تعالى
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد سنة (130هـ).
(2) الإسراء الآية (85).
(3) الكهف الآية (65) ..(6/308)
في كتابه، فأنكر موسى ذلك عليه، وجاءه ذلك في ظاهر الأمر منكرا لا تعرفه القلوب، ولا يهتدي له التفكير، حتى كشف الله ذلك لموسى فعرفه، وكذلك ما جاء من سنن الإسلام وشرائع الدين التي لا توافق الرأي، ولا تهتدي لها العقول، ولو كشف للناس عن أصولها لجاءت للناس واضحة بينة غير مشكلة على مثل ما جاء عليه أمر السفينة وأمر الغلام وأمر الجدار، فإن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كالذي جاء به موسى يعتبر بعضه ببعض، ويشبه بعضه بعضا، ومن أجهل وأضل وأقل معرفة بحق الله وحق رسوله وبنور الإسلام وبرهانه ممن قال لا أقبل سنة ولا أمرا مضى من أمر المسلمين حتى يكشف لي غيبه وأعرف أصوله؟ أو لم يقل ذلك بلسانه، فكان عليه رأيه وفعله، ويقول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (1).اهـ (2)
موقفه من الرافضة:
- جاء في الكفاية عنه قال: كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن. (3)
_________
(1) النساء الآية (65).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 393 - 396) وقد مر معنا بطوله في مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ).
(3) الكفاية (ص.46).(6/309)
- وفيها قال: وذهبت طائفة من أهل البدع إلى أن حال الصحابة كانت مرضية إلى وقت الحروب التي ظهرت بينهم، وسفك بعضهم دماء بعض فصار أهل تلك الحروب ساقطي العدالة، ولما اختلطوا بأهل النزاهة وجب البحث عن أمور الرواة منهم، وليس في أهل الدين، والمتحققين بالعلم من يصرف إليهم خبر ما لا يحتمل نوعا من التأويل وضربا من الاجتهاد فهم بمثابة المخالفين من الفقهاء المجتهدين في تأويل الأحكام لإشكال الأمر والتباسه، ويجب أن يكونوا على الأصل الذي قدمناه من حال العدالة والرضا، إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم. (1)
- قال الخطيب في الحسن بن محمد بن أشناس المتوكلي الحمامي: رافضي خبيث كتبت عنه؛ كان يقرأ على الشيعة مثالب الصحابة. (2)
- قال الخطيب في عيسى بن مهران المستعطف: كان من شياطين الرافضة ومردتهم، وقع إلي كتاب من تصنيفه في الطعن على الصحابة وتكفيرهم، فلقد قف شعري وعظم تعجبي مما فيه من الموضوعات والبلايا. (3)
- وقال الخطيب: وتجوز فتاوى أهل الأهواء، ومن لم تخرجه بدعته إلى فسق، فأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة، ويسبون السلف الصالح، فإن فتاويهم مرذولة، وأقاويلهم غير مقبولة. (4)
_________
(1) الكفاية (ص.49).
(2) الميزان (1/ 521).
(3) الميزان (3/ 324 - 325).
(4) الفقيه والمتفقه (2/ 333).(6/310)
موقفه من القادسي الرافضي:
قال أبو بكر الخطيب: حضرته يوم الجمعة بعد الإملاء، وطالبته بأن يريني أصوله، فدفع إلي عن ابن شاذان وغيره أصولا كان سماعه فيها صحيحاً، ولم يدفع إلي عن ابن مالك شيئا، فقلت له: أرني أصلك عن ابن مالك. فقال: أنا لا يشك في سماعي من ابن مالك، أسمعني منه خالي هبة الله ابن سلامة المفسر 'المسند' كله. فقلت له: لا تروين هاهنا شيئا إلا بعد أن تحضر أصولك وتوقف عليها أصحاب الحديث، فانقطع عن حضور الجامع بعد هذا القول، ومضى إلى مسجد براثا فأملى فيه، وكانت الرافضة تجتمع هناك، وقال لهم: قد منعني النواصب أن أروي في جامع المنصور فضائل أهل البيت. ثم جلس في مسجد الشرقية واجتمعت إليه الرافضة ولهم إذ ذاك قوة، وكلمتهم ظاهرة، فأملى عليهم العجائب من الأحاديث الموضوعة في الطعن على السلف. (1)
موقفه من الجهمية:
عقيدة الخطيب ودفاعه عن العقيدة السلفية:
جاء في مقدمة مختصر العلو: قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: وهنا يطيب لي بهذه المناسبة أن أنقل من بعض المخطوطات فصلا رائعا من كلام بعض علماء السلف مما لم يطبع حتى الآن -فيما علمت- وهو للخطيب البغدادي الحافظ المؤرخ المشهور، وقد ذكر المصنف طرفا
_________
(1) تاريخ بغداد (8/ 17) وانظر السير (18/ 11 - 12).(6/311)
منه في ترجمته كما يأتي فرأيت أن أذكره هنا بنصه إتماما للحجة على الخلف الذين يتوهم الكثير منهم أن القول بوجوب الإيمان بحقائق الصفات ومعانيها كما يليق بالله تعالى هو مذهب تفرد به ابن تيمية ومن اقتدوا به فيها، ولم يعلموا أنه رحمه الله تابع لهم في ذلك وإنما فضله في بيانه وشرحه له وإقامة الأدلة عليه بالمنقول والمعقول، ودفع الشبهات عنه، وإلا فهو سلفي المعتقد وهو الواجب على كل مسلم ولذلك بادرنا إلى نشر كتاب الذهبي هذا الذي بين يديك لتعلم به ما قد يكون خافيا عليك كما خفي على غيرك. فكان ذلك سببا قويا من أسباب الابتعاد عن العقيدة السلفية والطريقة المحمدية.
قال الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى: أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضوان الله عليهم اثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه. والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة ولا أن معنى السمع والبصر: العلم ولا نقول: إنها(6/312)
جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى: {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1) وقوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (2)
ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث، ولبسوا على من ضعف علمه، بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد ولا يصح في الدين، ورموهم بكفر أهل التشبيه وغفلة أهل التعطيل، أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات يفهم منها المراد بظاهرها وآيات متشابهات لا يوقف على معناها إلا بردها إلى المحكم، ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع فكذلك أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - جارية هذا المجرى ومنزلة على هذا التنزيل، يرد المتشابه منها إلى المحكم ويقبل الجميع، وتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام: منها أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها لاستفاضتها وعدالة ناقليها فيجب قبولها والإيمان بها، مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيها لله بخلقه، ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات والتغير والحركات. القسم الثاني: أخبار ساقطة بأسانيد واهية وألفاظ شنيعة أجمع أهل العلم بالنقل على بطولها فهذه لا يجوز الاشتغال بها ولا التعريج عليها. والقسم الثالث: أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها فقبلهم البعض دون
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) الإخلاص الآية (4) ..(6/313)
الكل، فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها لتلحق بأهل القبول أو تجعل في حيز الفساد والبطول. (1)
قلت: وهذه العقيدة التي نقل الشيخ، من مخطوطات الظاهرية، نقل الذهبي بعضها في سير أعلام النبلاء. (2)
التعليق:
أليس هذا هو الذي سماه شيخ الإسلام في الحموية بعنوان: الأصلان والمثلان، ثم فصل القول رحمه الله في ذلك، فأين ابن تيمية والخطيب؟ الأول عاش في القرن الخامس والثاني عاش في القرن الثامن؟ ويقرر الثاني ما قرره الأول، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأنه ما ثبت ولا وجدنا أحدا ولا سمعنا أن فلانا تاب من العقيدة السلفية ولكن العكس، التاريخ والتراجم طافحة بتوبة فلان كان على مذهب المتكلمين أو الفلاسفة. فلذا السلفي يكون ثابت العقيدة، ثابت المواقف، غير متلون ولا متقلب كما قال هرقل لما سأل أبا سفيان عن أصحاب رسول الله: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. (3)
_________
(1) مختصر العلو (46 - 48) والتذكرة (3/ 1142 - 1143).
(2) السير (18/ 283 - 284).
(3) أحمد (1/ 262 - 263) والبخاري (1/ 42/7) ومسلم (3/ 1393/1773) مطولا والترمذي (5/ 65 - 66/ 2717) والنسائي في الكبرى (5/ 265/8845) مختصراً.(6/314)
القائم بأمر الله (1) (467 هـ)
أمير المؤمنين، القائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي. مولده في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. بويع سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. ونكب سنة خمسين في كائنة البساسيري ففر إلى البرية في ذمام أمير للعرب ثم عاد إلى خلافته بعد عام. كان أبيض وسيما، عالما مهيبا فيه دين وعدل. وكان ذا حظ من تعبد وصيام وتهجد وكان تاركا للملاهي رحمه الله وكانت خلافته خمسا وأربعين سنة. وغسله شيخ الحنابلة أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي وعاش ستا وسبعين سنة، وبويع بعده ابن ابنه المقتدي بالله. توفي في شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في البداية: وفيها -أي سنة تسع وعشرين وأربعمائة- استدعى الخليفة بالقضاة والفقهاء وأحضر جاثليق النصارى ورأس جالوت اليهود، وألزموا بالغيار (2).اهـ (3)
_________
(1) تاريخ بغداد (9/ 399 - 404) وطبقات الحنابلة (2/ 240) والكامل في التاريخ (10/ 94 - 95) وتاريخ الإسلام (حوادث 461 - 470/ص.226 - 231) والسير (18/ 307 - 318) والبداية والنهاية (12/ 117) وشذرات الذهب (3/ 326 - 327).
(2) الغيار: مخالفة المسلمين باللباس.
(3) البداية (12/ 46)(6/315)
الداوودي عبد الرحمن بن محمد (1) (467 هـ)
الإمام العلامة الورع القدوة، جمال الإسلام مسند الوقت، أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد الداوودي البوشنجي. مولده في ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. سمع 'الصحيح' و'مسند عبد بن حميد' وتفسيره ومسند الدارمي من أبي محمد بن حمويه السرخسي، وتفرد في الدنيا بعلو ذلك. وسمع من عبد الرحمن بن أبي شريح وأبي عبد الله الحاكم وابن الصلت وتفقه على أبي حامد وأبي بكر القفال وعلى أبي الطيب الصعلوكي. قيل: إنه كان يتقوت بما يحمل إليه من ملك له ببوشنج ويبالغ في الورع ومحاسنه جمة ومن شعره:
رب تقبل عملي ... أصلح أموري كلها ... ولا تخيب أملي
قبل حلول الأجل
قال السلفي سألت المؤتمن عن الداوودي فقال: كان من سادات رجال خراسان، ترك أكل الحيوانات وما يخرج منها، منذ دخل التركمان ديارهم. وقال أبو سعد السمعاني: له قدم في التقوى راسخ. وقال: فضله في الفنون مشهور، وذكره في الكتب مسطور، وأيامه غرر، وكلامه درر. توفي رحمه الله ببوشنج في شوال سنة سبع وستين وأربعمائة.
موقفه من الخوارج:
ونقل ابن التين عن الداوودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور
_________
(1) المنتظم (16/ 168 - 169) وتاريخ الإسلام (حوادث 461 - 470/ص.232 - 236) والسير (18/ 222 - 226) والبداية والنهاية (12/ 121) وشذرات الذهب (3/ 327).(6/316)
أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر. (1)
عبيد الله بن محمد بن الحسين الفَرَّاء (2) (469 هـ)
أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن الحسين الفراء الأخ الأكبر لصاحب طبقات الحنابلة. ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري، وجده لأمه جابر بن ياسين، وأبي الحسين بن المهتدي. ورحل إلى الآفاق في طلب العلم. وكان ذا عفة وديانة وصيانة. وكان له معرفة بالجرح والتعديل وأسماء الرجال والكنى وكان حسن الخط صحيحا، فهما لقراءة الحديث. توفي سنة تسع وستين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في طبقات الحنابلة: ولما ظهرت البدع في سنة تسع وستين وأربعمائة هاجر من بلدنا إلى حرم الله وكانت وفاته في مضيه إلى مكة، بموضع يعرف بمعدن النقرة، في أواخر ذي القعدة من هذه السنة. (3)
أبو منصور الديلمي (4) (469 هـ)
اسبهندوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي، الشاعر، لقي أبا
_________
(1) الفتح (13/ 8).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 235 - 236).
(3) طبقات الحنابلة (2/ 236).
(4) المنتظم (16/ 184 - 185) والبداية والنهاية (12/ 123 - 124) والكامل لابن الأثير (10/ 106) والنجوم الزاهرة (5/ 104).(6/317)
عبد الله بن الحجاج وعبد العزيز بن نباتة، وغيرهما من الشعراء وكان شيعيا يهجو الصحابة وغيرهم، فتاب كما في قصيدته التي ذكر فيها اعتقاده، وهي قصيدة طويلة جدا، اقتطف منها كل من ترجم له.
توفي سنة تسع وستين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في المنتظم: شاعر مجود لقي أبا عبد الله بن الحجاج، وعبد العزيز ابن نباتة، وغيرهما من الشعراء، وكان يتشيع ثم تاب من ذلك.
وذكر توبته في قصيدة يقول فيها:
لاح الهدى فجلا عن الأبصار ... كالليل يجلوه ضياء نهار
ورأت سبيل الرشد عيني بعدما ... غطى عليها الجهل بالأستار
لابد فاعلم للفتى من توبة ... قبل الرحيل إلى ديار بوار
يمحو بها ما قد مضى من ذنبه ... وينال عفو إلهه الغفار
يا رب إني قد أتيتك تائبا ... من زلتي يا عالم الأسرار
وعلمت أنهم هداة قادة ... وأئمة مثل النجوم دراري
وعدلت عما كنت معتقدا له والسيد الصديق والعدل الرضى ... في الصحب صحب نبيه المختار عمر وعثمان شهيد الدار
وعلي الطهر المفضل بعدهم ... سيف الإله وقاتل الفجار
صحب النبي الغُرِّ بَلْ خلفاؤه ... فينا بأمر الواحد القهار
رحماء بينهم بذاك صفاتهم ... وردت أشداء على الكفار
وتراهم من راكعين وسجد ... يستغفرون الله بالأسحار(6/318)
أيقنت حقا أن من والاهم ... سيفوز بالحسنى بدار قرار
فعدلت نحوهم مقرا بالولا ... ومخالفا للعصبة الأشرار
مترجيا عفو الإله ومحوه ... ما قدمته يدي من الأوزار
وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما ... كانت عليه مذاهب الأبرار
وأقول خير الناس بعد محمد ... صديقه وأنيسه في الغار
ثم الثلاثة بعده خير الورى ... أكرم بهم من سادة أطهار
هذا اعتقادي والذي أرجو به ... فوزي وعتقي من عذاب النار
أبو عبد الله محمد بن جعفر الكوفي (1) (470 هـ)
أبو عبد الله محمد بن جعفر الكوفي، كان فقيه القيروان وعالمها في زمانه، وكان فصيحا لسنا سنيا مباينا لأهل البدع شديدا عليهم. وجرت عليه محنة ذكر سببها صاحب معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان ففر على إثرها من القيروان ونزل مصر ثم الشام بعدها وتوفي هنالك سنة سبعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في معالم الإيمان: كان فصيحا لسنا، سنيا مباينا لأهل البدع، شديدا عليهم. ولما أمر المعز بن باديس بلعنة عبيد الله في الخطب وذلك في يوم عيد الفطر من سنة أربعين وأربعمائة، خطب القاضي محمد بن جعفر هذا
_________
(1) معالم الإيمان (3/ 196).(6/319)
فقال -بعد ذكر ما جرت العادة به في خطبة الفطر-: اللهم والعن الفسقة الكفار المرائين الفجار، أعداء الدين وأنصار الشياطين، المخالفين لأمرك والناقضين لعهدك، المتبعين غير سبيلك والمبدلين لكتابك، اللهم العنهم لعنا وبيلا، واخزهم خزيا عريضا طويلا، اللهم وإن مولانا وسيدنا أبا تمام المعز بن باديس بن المنصور القائم بدينك، والناصر لسنة نبيك، والرافع للواء أولئك، يقول مصدقا لكتابك وتابعا لأمرك، مباينا لمن غير الدين وسلك غير سبيل المرشدين المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} (1)، (هكذا بإسقاط "قل" من أول السورة وترك "لكم دينكم ولي دين" لتعلق الأمر بالمراد)، وأمر السلطان خطيب جامع القيروان أن يفعل مثل ذلك على المنبر في الجمع في كل خطبة، وهذا دليل على فصاحته ومباينته لأهل البدع ومحبته لأهل السنة، وجرت عليه محنة أعقبها التأخر عن قضائهم، والزهد في جوارهم. (2)
المظفر بن الأفطس (3) (470 هـ)
أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلمة التجيبي، سلطان الثغر
_________
(1) الكافرون الآيات (1 - 5).
(2) معالم الإيمان (3/ 196 - 197).
(3) الكامل في التاريخ (9/ 288) ووفيات الأعيان (7/ 123) والسير (18/ 594 - 596) والوافي بالوفيات (3/ 323).(6/320)
الشمالي من الأندلس، ودار ملكه بطليوس. كان رأسا في العلم والأدب والشجاعة والرأي فكان منافرا للروم شجى في حلوقهم لا ينفس لهم مخنقا ولا يوجد لهم إلى الظهور عليه مرتقى. له تفسير للقرآن كبير. كان مع استغراقه في الجهاد لا يفتر عن العلم، ولا يترك العدل، صنع مدرسة يجلس فيها كل جمعة ويحضره العلماء. وكان يبيت في منظرة له، فإذا سمع صوتا وجه أعوانا لكشف الخبر لا ينام إلا قليلا.
توفي بعد السبعين وأربعمائة أو قبلها، قاله الذهبي.
موقفه من المشركين:
- قال الذهبي: كان رأسا في العلم والأدب والشجاعة والرأي، فكان مناغرا للروم، شجى في حلوقهم، لا ينفس لهم مخنقا، ولا يوجد لهم إلى الظهور عليه مرتقى، ... ومن نثره -وقد غنم بلاد شلمنكة وهي مجاورته، فكتب إلى المعتمد بالله يفخر، وينكت عليه بمسالمته للروم، فقيل: إنه حصل من هذه الغزوة ألف جارية حسناء من بنات الأصفر-: من يصد صيدا فليصد كما صيدي، صيدي الغزالة من مرابض الأسد. أيها الملك إن الروم إذا لم تغز غزت، ولو تعاقدنا تعاقد الأولياء المخلصين فللنا حدهم، وأذللنا جدهم، ورأي السيد المعتمد على الله سراجٌ تضيء به ظلمات المنى. (1)
- وقال: وكان كاتبه الوزير أبو محمد عبد الله بن النحوي أحد البلغاء، فكتب أذفونش -لعنه الله- يرعد ويبرق، فأجاب: وصل إلى الملك المظفر من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ويفرق،
_________
(1) السير (18/ 594 - 595).(6/321)
ويهدد بالجنود الوافرة، ولم يدر أن لله جنودا أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا عليه الصلاة والسلام، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، فأما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، فبالذنوب المركوبة، والفرق المنكوبة، ولو اتفقت كلمتنا علمت أي صائب أذقناك، كما كانت آباؤك مع آبائنا، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد في كل عام عليه، ونحن فإن قَلَّتْ أعدادُنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر تخوضه، ولا صعب تروضه، إلا سيوف يشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في يومك، وبالله وملائكته (1) نتقوى عليك، ليس لنا سواه مطلب، ولا إلى غيره مهرب، وهل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، شهادة، أو نصر عزيز. (2)
عبد الرحمن بن مَنْدَه (3) (470 هـ)
الشيخ الإمام، المحدث، المفيد الكبير، المصنف، أبو القاسم عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني. ولد سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. كان صاحب خلق وفتوة وسخاء وبهاء. قال ابن رجب: وكان متمسكا بالسنة، معرضا عن أهل
_________
(1) كان الاولى أن يقول: وبالله ثم بملائكته نتقوى عليك.
(2) السير (18/ 595 - 596)
(3) السير (18/ 349 - 355) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 26 - 31) والكامل في التاريخ (10/ 108) وتذكرة الحفاظ (3/ 1165 - 1170) وفوات الوفيات (1/ 288 - 289) والبداية والنهاية (12/ 126) وشذرات الذهب (3/ 337 - 338) والمنتظم (16/ 194 - 195).(6/322)
البدع، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم. قال القاضي أبو الحسين: لم يكن في عصره وبلده مثله في ورعه وزهده وصيانته، وحاله أظهر من ذلك. من أقواله: علامة الرضاء إجابة الله تبارك وتعالى من حيث دعا بالكتاب والسنة، وعلامة الورع: الخروج من الشبهات بالأخبار والآيات، وعلامة القناعة: السكوت على الكتاب والسنة في الوقوف عند الشبهة، وعلامة الإخلاص: زيادة السر على الإعلان في إيثار قول الله تعالى وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الأقاويل كلها بالإيمان والاحتساب، وعلامة الصبر: حبس النفس في استحكام الدرس بالكتاب والسنة، وعلامة التسليم: الثقة بالله الحكيم في قوله، والسكون إلى الله العليم بقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأشياء. توفي في سادس عشر شوال سنة سبعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال ابن أبي يعلى: وكان قدوة أهل السنة بأصبهان، وشيخهم في وقته، وكان مجتهدا متبعا آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحرض الناس عليها، وكان شديدا على أهل البدع، مباينا لهم. وما كان في عصره وبلده مثله في ورعه، وزهده وصيانته. وحاله أظهر من ذلك. (1)
- وقال ابن رجب: وكان متمسكا بالسنة، معرضا عن أهل البدع، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم. (2)
- وقال أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب: كان عمي سيفا على أهل
_________
(1) طبقات الحنابلة (2/ 242).
(2) طبقات الحنابلة (3/ 27).(6/323)
البدع وهو أكبر من أن يثني عليه مثلي. (1)
- وله تصانيف كثيرة، وردود جمة على المبتدعين والمنحرفين في الصفات وغيرها. (2)
- جاء في السير عنه قال: قد عجبت من حالي، فإني وجدت أكثر من لقيته إن صدقته فيما يقوله مداراة له سماني موافقا، وإن وقفت في حرف من قوله أوفى شيء من فعله سماني مخالفا، وإن ذكرت في واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك، سماني خارجيا، وإن قرئ علي حديث في التوحيد سماني مشبها، وإن كان في الرؤية سماني سالميا ... -إلى أن قال-: وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرئ إلى الله من الشبه والمثل والند والضد والأعضاء والجسم والآلات، ومن كل ما ينسبه الناسبون إٍلَيَّ، ويدعيه المدعون عليَّ، من أن أقول في الله تعالى شيئا من ذلك، أو قلته، أو أراه، أو أتوهمه، أو أصفه به. (3)
التعليق:
هذا الإمام يحكي حاله مع أهل زمنه الذين لا يتورعون في نبزه بالألقاب؛ فكل صاحب هوى يرميه بوصمة عار. وسبحان الله! التاريخ يعيد نفسه، فأهل هذا الزمن على هذا المنوال، وعلى المرء -كما قال هذا الإمام- أن يتمسك بالكتاب والسنة ولا عليه من لمز فلان وعلان.
_________
(1) التذكرة (3/ 1166).
(2) طبقات الحنابلة (3/ 28).
(3) السير (18/ 351) وتذكرة الحفاظ (3/ 1167).(6/324)
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
- الرد على الجهمية: ذكره في طبقات الحنابلة (1). ونقل منه قولة تكتب بماء الذهب وهي (التأويل عند أصحاب الحديث نوع من التكذيب). (2)
عبد الخالق بن عيسى الشريف أبو جعفر (3) (470 هـ)
الإمام شيخ الحنبلية، أبو جعفر، عبد الخالق بن أبي موسى عيسى بن أحمد، الهاشمي، العباسي، الحنبلي، البغدادي. قال ابن الجوزي: ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وكان عالما، فقيها، ورعا عابدا زاهدا، قوالا بالحق لا يحابي أحدا، ولا تأخذه في الله لومة لائم. قال ابن السمعاني: إمام الحنابلة في عصره بلا مدافعة، مليح التدريس، حسن الكلام في المناظرة، ورع زاهد، متقن عالم بأحكام القرآن والفرائض، مرضي الطريقة. قال ابن رجب: وكان شديد القول واللسان على أهل البدع ولم تزل كلمته عالية عليهم. وكان له المنزلة والصيت عند الخاص والعام وعند الحاكم والمحكوم، معظما عندهم، زاهدا في الدنيا إلى الغاية، قائما في إنكار المنكرات بيده ولسانه، مجتهدا في ذلك. وإذا ذكرت فتنة ابن القشيري والصدع بالحق فيها فلا ينصرف ذلك
_________
(1) (3/ 29).
(2) (3/ 31).
(3) السير (18/ 546 - 548) والبداية والنهاية (12/ 127 - 128) وطبقات الحنابلة (3/ 15 - 26) وشذرات الذهب (3/ 336 - 337) والمنتظم (16/ 195 - 197).(6/325)
إلا إليه، وقد أخذ في هذه الفتنة وحبس أياما. توفي ليلة الخميس للنصف من صفر، سنة سبعين بعد الأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال ابن أبي يعلى: وكان إذا بلغه منكر قد ظهر عظم عليه ذلك جدا، وعرف فيه الكراهة الشديدة، وكان شديد القول واللسان في أصحاب البدع، والقمع لباطلهم، ودحض كلمتهم وإبطالها.
ولم تزل كلمته عالية عليهم، وأصحابه متظاهرين على أهل البدع، لا يرد يدهم عنهم أحد. (1)
موقفه من الجهمية:
كان هذا الإمام يضرب به المثل في الزهد والورع، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان شوكة في حلق المبتدعة، وكان له المنزلة والصيت عند الخاص والعام وعند الحاكم والمحكوم. وإذا ذكرت فتنة ابن القشيري والصدع بالحق فيها فلا ينصرف إلا إلى الشريف أبي جعفر وسنوردها إن شاء الله.
جاء في طبقات الحنابلة: (وفي سنة ستين وأربعمائة كان أبو علي بن الوليد -شيخ المعتزلة- قد عزم على إظهار مذهبه، لأجل موت الشيخ الأجل أبي منصور بن يوسف، فقام الشريف أبو جعفر، وعبر إلى جامع المنصور هو وأهل مذهبه وسائر الفقهاء وأعيان أهل الحديث وبلغوا ذلك. ففرح أهل
_________
(1) طبقات الحنابلة (2/ 238).(6/326)
السنة بذلك وقرأوا كتاب التوحيد لابن خزيمة ثم حضروا الديوان وسألوا إخراج الاعتقاد الذي جمعه الخليفة القادر فأجيبوا إلى ذلك وقرئ هناك بمحضر من الجميع واتفقوا على لعن من خالفه وتكفيره). (1)
موقفه من فتنة ابن القشيري:
جاء في طبقات الحنابلة: ومضمون ذلك أن أبا نصر بن القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان يتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة، ويسأله المعونة فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت. فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر. فوقعت الفتنة وقتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأخذت ثياب .. وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله يا منصور -يعنون العبيدي صاحب مصر- وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي وأنه ممالئ للحنابلة، لاسيما والشريف أبو جعفر ابن عمه. وغضب أبو إسحاق وأظهر التأهب للسفر، وكاتب فقهاء الشافعية نظام الملك لما جرى فورد كتابه بالامتعاض من ذلك والغضب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى. وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما. وحكى أبو المعالي صالح بن شافع عن شيخه أبي الفتح الحلواني وغيره. ممن
_________
(1) طبقات الحنابلة (3/ 19).(6/327)
شاهد الحال أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة، فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن جردة، فتلطفوا به حتى حضر في الليل وحضر أبو إسحاق وأبو سعد الصوفي وأبو نصر ابن القشيري، فلما حضر الشريف عظمه الوزير ورفعه وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم وهؤلاء يصالحونك على ما تريد وأمرهم بالدنو من الشريف فقام إليه أبو إسحاق وكان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ فقال: أنا ذاك الذي تعرف وهذه كتبي في أصول الفقه أقول فيها خلافا للأشعرية ثم قبل رأسه.
فقال له الشريف: قد كان ما تقول إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجا بزرك -يعني النظام- أبديت ما كان مخفيا، ثم قام أبو سعد الصوفي فقبل يد الشريف وتلطف به فالتفت مغضبا وقال: أيها الشيخ إن الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتعبير فمن زاحمك على ذلك حتى داخلت المتكلمين، والفقهاء فأقمت سوق التعصب؟ ثم قام ابن القشيري -وكان أقلهم احتراما للشريف- فقال الشريف: من هذا؟ فقيل: أبو نصر بن القشيري فقال لو جاز أن يشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب، لأنه باد هنا بما في نفسه ولم ينافقنا كما فعل هذان، ثم التفت إلى الوزير فقال: أي صلح يكون بيننا؟ إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دنيا أو تنازع في ملك. فأما هؤلاء القوم فإنهم يزعمون أنا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرا، فأي(6/328)
صلح بيننا؟ وهذا الإمام يصدع المسلمين وقد كان جداه -القائم والقادر- أخرجا اعتقادهما للناس، وقرئ عليهم في دواوينهم وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض ونحن على اعتقادهما. وأنهى الوزير إلى الخليفة ما جرى وخرج في الجواب: عرف ما أنهيته من حضور ابن العم -كثر الله في الأولياء مثله- وحضور من حضر من أهل العلم والحمد لله الذي جمع الكلمة وضم الألفة، فليؤذن للجماعة في الانصراف وليقل لابن أبي موسى: أنه قد أفرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور المهمة وليتبرك بمكانه، فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها. فحمل إلى موضع أفرد له بدار الخلافة وكان الناس يدخلون عليه مدة مديدة ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة فاقتصر على من تعين دخوله فقال: مالي غرض في دخول أحد علي، فامتنع الناس.
ثم إن الشريف مرض مرضا أثر في رجليه فانتفختا. فيقال: إن بعض المتفقهة من الأعداء ترك له في مداسه سما والله تعالى أعلم. ثم إن أبا نصر بن القشيري أخرج من بغداد وأمر بملازمة بلده لقطع الفتنة وذلك نفي في الحقيقة. قال ابن النجار: كوتب نظام الملك الوزير بأن يأمره بالرجوع إلى وطنه وقطع هذه الثائرة، فبعث واستحضره وأمره بلزوم وطنه فأقام به إلى حين وفاته. (1)
التعليق:
ما يستفاد من هذا الحادث:
_________
(1) طبقات الحنابلة (3/ 19 - 22).(6/329)
- ما كان يمثله السلفيون من قوة حسية ومعنوية وعلمية.
- حسن قصد السلفيين وسلامة فطرتهم، وبالمقابل كيد المبتدعة ومكرهم.
- ما كان عليه معظم خلفاء بني العباس من حسن العقيدة.
- الصلح في أمر الدنيا جائز، وأما العقيدة فلا بيع فيها ولا شراء ولا مصالحة.
- منقبة للشريف أبي جعفر.
الملك أقسيس (1) (471 هـ)
هو أَتْسِز بن أوق الخوارزمي، صاحب دمشق، كان يلقب بالمعظم، وكانت تسميه العامة بأقسيس. قال ابن كثير: وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين. قال ابن عساكر: ولي دمشق في ذي القعدة سنة ثمان وستين وأربعمائة بعد حصاره إياها دفعات، وأقام بها الدعوة لبني العباس، وتغلب على أكثر الشام، وقصد مصر ليأخذها فلم يتم له ذلك ثم رجع إلى دمشق، ووجه المصريون إليه عسكرا ثقيلا فلما خاف من ظفرهم به راسل تتش بن ألب أرسلان يستنجد به، فقدم دمشق سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فغلب على البلد، وقتل أتسز لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر من هذه السنة واستقام الأمر لتتش.
_________
(1) السير (18/ 431 - 432) والكامل في التاريخ (10/ 99 - 100) والوافي بالوفيات (6/ 195) والبداية والنهاية (12/ 127) وتاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 348).(6/330)
موقفه من الرافضة:
جاء في البداية والنهاية: وقد كان إقسيس هذا ... من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين. (1)
سعد بن علي الزَّنْجاني (2) (471 هـ)
سعد بن علي بن محمد بن علي بن حسين، أبو القاسم الزنجاني الحافظ. ولد في حدود سنة ثمانين وثلاثمائة. سمع أبا عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف وأبا الحسن الحبان وعلي بن سلامة وعبد الرحمن بن ياسر والحسين بن ميمون الصدفي وجماعة. وروى عنه أبو بكر الخطيب وأبو المظفر السمعاني ومحمد ابن طاهر المقدسي وهبة الله بن فاخر، وآخرون. قال أبو سعد: كان أبو القاسم حافظا، متقنا، ثقة، ورعا، كثير العبادة. وقال محمد بن طاهر: ما رأيت مثله، سمعت أبا إسحاق الحبال يقول: لم يكن في الدنيا مثل أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني في الفضل.
وقال الذهبي: وقد كان الحافظ سعد بن علي هذا من رؤوس أهل السنة وأئمة الأثر وممن يعادي الكلام وأهله، ويذم الآراء والأهواء. وله قصيدة مشهورة في السنة. وسئل إسماعيل الطلحي عنه فقال: إمام كبير
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 127).
(2) الأنساب (3/ 168) والمنتظم (16/ 201) والسير (18/ 385 - 389) وتاريخ الإسلام (حوادث 471 - 480/ 45 - 49) وتذكرة الحفاظ (3/ 1174 - 1178) والوافي بالوفيات (15/ 180) وشذرات الذهب (3/ 339 - 340).(6/331)
عارف بالسنة. توفي رحمه الله سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وقيل سنة سبعين بمكة.
موقفه من المبتدعة والجهمية:
قال الذهبي في التذكرة: وقد كان الحافظ سعد بن علي هذا من رؤوس أهل السنة وأئمة الأثر وممن يعادي الكلام وأهله ويذم الآراء والأهواء فنسأل الله أن يختم لنا بخير وأن يتوفانا على الإيمان والسنة، فلقد قل من يتمسك بمحض السنة بل تراه يثني على السنة وأهلها وقد تلطخ ببدع الكلام ويجسر على الخوض في أسماء الله وصفاته وبادر إلى نفيها وبالغ بزعمه في التنزيه، وإنما كمال التنزيه تعظيم الرب عز وجل ونعته بما وصف به نفسه تعالى. (1)
له من الآثار السلفية:
قصيدة أبدى عقيدته السلفية فيها، ونقل منها الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش (2) والذهبي في السير (3) وهي من أبلغ القصائد، قال رحمه الله:
تدبر كلام الله واعتمد الخبر ... ودع عنك رأيا لا يلائمه الأثر
ونهج الهدى فالزمه واقتد بالألى ... هم شهدوا التنزيل علك تنجبر
وكن موقنا أنا وكل مكلف ... أمرنا بقفو الحق والأخذ بالحذر
وحكم فيما بيننا قول مالك ... قدير حليم عالم الغيب مقتدر
سميع بصير واحد متكلم ... مريد لما يجري على الخلق من قدر
_________
(1) التذكرة (3/ 1177 - 1178).
(2) (179 - 180).
(3) (18/ 387 - 389).(6/332)
فمن خالف الوحي المبين بعقله ... فذاك امرء قد خاب حقا وقد خسر
وفي ترك أمر المصطفى فتنة فذر ... خلاف الذي قد قاله واتل واعتبر (1)
إلى أن قال:
وما أجمعت فيه الصحابة حجة ... وتلك سبيل المؤمنين لمن سبر
ففي الأحذ بالإجماع فاعلم سعادة ... كما في شذوذ القول نوع من الخطر
وفي اجتماع الجيوش:
تمسك بحبل الله واتبع الأثر ... ودع عنك رأيا لا يلائمه خبر
ثم قال ابن القيم: وقال في شرح هذه القصيدة: والصواب عند أهل الحق أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وكان عرشه على الماء مخلوقا قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض على ما ورد به النص ونطق به القرآن، وليس معنى استوائه أنه ملكه واستولى عليه لأنه كان مستوليا عليه قبل ذلك وهو أحدثه، لأنه مالك جميع الخلائق ومستول عليها، وليس معنى الاستواء أيضا أنه ماس العرش أو اعتمد عليه أو طابقه فإن كل ذلك ممتنع في وصفه جل ذكره ولكنه مستو بذاته على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه. (2)
_________
(1) السير (18/ 387 - 388).
(2) اجتماع الجيوش (ص.180).(6/333)
ابن البناء (1) (471 هـ)
الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء البغدادي أبو علي الإمام العالم المفتي المحدث، صاحب التآليف، سمع من هلال الحفار وأبي الفتح بن أبي الفوارس وعبد الله بن يحيى السكري وطبقتهم، فأكثر وأحسن. روى عنه أحمد ابن ظفر المغازلي وأبو منصور عبد الرحمن القزاز وآخرون وقد تلا بالروايات على أبي الحسن الحمامي، وعلق الفقه والخلاف عن القاضي أبي يعلى قديما، واشتغل في حياته وصنف في الفقه والأصول والحديث، وكان له حلقة للفتوى وحلقة للوعظ وكان شديدا على المخالفين. قال القفطي: كان مشارا إليه في القراءات واللغة والحديث. وقال شجاع الذهلي: كان أحد القراء المجودين سمعنا منه قطعة من تصانيفه. توفي في رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
آثاره السلفية:
1 - 'المختار في أصول السنة' وهو عبارة عن مختصر لشريعة الآجري، وهو مطبوع ومتداول.
2 - 'شرح قصيدة ابن أبي داود في السنة'. (2) وكان أديبا شديدا على أهل الأهواء. (3)
3 - 'شرف أصحاب الحديث'، ذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (4) والعليمي في الدر المنضد (5).
4 - 'كتاب مفرد في الاثنين والسبعين فرقة'، ذكره المؤلف نفسه في كتابه المختار في أصول السنة (6) (حيث قال: وقد أفردت كتابا بالاثنين وسبعين فرقة ومذاهبهم وبعض أدلتهم، وأجبت على جميع ذلك بحمد الله ومنه إن شاء الله.
5 - 'كتاب في السنة'، وهو جزآن يشتمل على خمسين بابا. وقد ذكره المؤلف في كتاب المختار (7).
موقفه من المشركين:
قال شيخ الإسلام: وقال أبو علي ابن البناء في 'الخصال والأقسام' له: ومن سب النبي عليه الصلاة والسلام وجب قتله، ولا تقبل توبته، وإن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يقتل أيضا ولا يستتاب. قال: ومذهب مالك كمذهبنا. (8)
موقفه من الجهمية والقدرية:
قال رحمه الله: وأما القدرية والمعتزلة وأنواعهم فينكرون الصراط والميزان والكرسي وفزع يوم القيامة، ونعيم القبر، وعذابه، وسؤال منكر ونكير
_________
(1) السير (18/ 380 - 382) والوافي بالوفيات (11/ 381 - 383) وتذكرة الحفاظ (3/ 1176 - 1177) والعبر (2/ 5) والمنتظم (16/ 200 - 201) وشذرات الذهب (3/ 338 - 339).
(2) طبقات الحنابلة (3/ 35).
(3) طبقات الحنابلة (3/ 33).
(4) (1/ 35).
(5) (1/ 209).
(6) (ص.91 - 92).
(7) (ص.150).
(8) الصارم (310 - 311).(/)
وضغطة القبر، وخلق الجنة والنار والحور العين، وقالوا: ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة شفاعة، ولا له حوض، وكذبوا بالأخبار الواردة في ذلك، وقالوا: لا يجوز أن يرى الله عزوجل أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة لا مؤمن ولا كافر، وقالوا: كلام الله محدث مخلوق، وقالوا: أسماء الله مخلوقة، وما كان له اسم حتى خلق له الخلق اسما، ويبقى عند عدم الخلق بلا اسم ولا صفة، وقالوا: يجوز أن يقال: بأن الله قادر على الظلم والكذب وغيرهما من القبائح، وقال الجبائي: يجوز أن يقال: بأن الله محبل نساء العالمين، وقالوا: يجب على الله أن يعوض الثواب والجزاء، وأهل السنة يقولون ذلك تفضل منه غير واجب عليه.
وعندنا جميع أفعال العباد خلق لله تعالى كسب لهم خيرها وشرها، وعند القدرية هي خلق لهم لا رب لها ولا إله، وعندنا صانع العالم واحد، وعندهم عدد كثير يشركونه في الصنعة والخلق. (1)
موقف السلف من ابن العجوز محمد بن عبد الرحمن (474 هـ)
بيان زندقته وتحريفه لكلام الله:
قال الذهبي: لقي أبا إسحاق التونسي بالقيروان، وعليه وعلى ابن البريا كانت العمدة في الفتوى، وكانت بينهما إحن، فجرت محنة للفظة قالها أبو عبد الله، قرأ الخطيب: (وأعدوا لهم ما استطعتم من) عدة، بدل: (قوة) (2)
_________
(1) المختار في أصول السنة له (ص.87).
(2) الأنفال الآية (60).(6/336)
فقال: الوزن واحد. فكفروه، وأفتوا باستتابته، وسجن. (1)
أحمد بن علي بن عبد الله المقرئ أبو الخطاب (2) (476 هـ)
أحمد بن علي بن عبد الله المقرئ الصوفي أبو الخطاب البغدادي. ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة قرأ على أبي الحسن الحمامي وغيره. تلا على الحمامي المذكور بالسبع وقرأ عليه خلق كثير منهم أبو الفضل بن المهتدي وهبة الله بن المجلى وغيرهما. وروى عنه الحديث أبو بكر بن عبد الباقي وله مصنف في السبعة وقصيدة في السنة وقصيدة في عدد الآي وكان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين بتجويد القراءة وتحسينها. توفي يوم الثلاثاء سادس وعشرين رمضان سنة ست وسبعين وأربعمائة ودفن بباب حرب.
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله:
وإن كتاب الله ليس بمحدث ... على ألسن تتلو، وفي الصدر يجمع
وما كتب الحفاظ في كل مصحف ... كذلك إن أبصرت، أوكنت تسمع
وللجبل الرحمن لما بدا ... له تدكدك خوفا كالشطى يتقطع
وكلم موسى ربه فوق عرشه ... على الطور تكليما، فما زال يخضع (3)
_________
(1) السير (18/ 551).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 45 - 48) وغاية النهاية (1/ 85) ومعرفة القراء الكبار (1/ 446 - 447) وتاريخ الإسلام (32/ 183) وشذرات الذهب (3/ 353).
(3) ذيل الطبقات (1/ 47).(6/337)
أبو الفتح عبد الوهاب ابن جَلَبَة (1) (476 هـ)
عبد الوهاب بن أحمد بن جلبة الحراني أبو الفتح مفتي حران وقاضيها، تفقه بالقاضي أبي يعلى بن الفراء، وكتب تصانيفه وسمع من أبي علي بن شاذان وأبي بكر البرقاني والحسن بن شهاب العكبري. أخذ عنه مكي الرميلي والرحالة، وكان ولي قضاء حران نيابة من أبي يعلى. درس ووعظ وخطب ونشر السنة.
قتله ابن قريش العقيلي في سنة ست وسبعين وأربعمائة. عند قيام أهل حران على ابن قريش لما أظهر سب الصحابة.
موقفه من المبتدعة والرافضة:
- قال ابن أبي يعلى: واختار الله العظيم له الشهادة على يدي ابن قريش العقيلي في سنة ست وسبعين وأربعمائة، عند اضطراب أهل حران على ابن قريش. لما أظهر سب السلف بها. (2)
- جاء في السير: وكان ولي قضاء حران نيابة من أبي يعلى. درس ووعظ وخطب ونشر السنة.
_________
(1) السير (18/ 560 - 561) والعبر (2/ 9) والكامل في التاريخ (10/ 129 - 130) وشذرات الذهب (3/ 352).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 245) والسير (18/ 561) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 43).(6/338)
أبو إسحاق الشِّيرَازِي (1) (476 هـ)
الشيخ الإمام، القدوة، المجتهد، شيخ الإسلام، أبو إسحاق إبراهيم بن علي ابن يوسف، الفيروز أبادي، الشيرازي الشافعي. ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. وقيل سنة ست وتسعين. سمع من أبي علي بن شاذان، وأبي بكر البرقاني، ومحمد بن عبيد الله الخرجوشي. وعنه الخطيب، وأبو الوليد الباجي، والحميدي وآخرون. قال ابن كثير: كان زاهدا عابدا ورعا، كبير القدر معظما محترما إماما في الفقه والأصول والحديث وفنون كثيرة، وله المصنفات الكثيرة النافعة. قال أبو بكر الشاشي: أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر. وقال الموفق الحنفي: أبو إسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء. وقال شيرويه الديلمي: وكان ثقة فقيها زاهدا في الدنيا على التحقيق أوحد زمانه. وقال الذهلي: إمام أصحاب الشافعي والمقدم عليهم في وقته ببغداد، كان ثقة، ورعا، صالحا، عالما بالخلاف علما لا يشاركه فيه أحد. وقال القاضي ابن هانئ: إمامان ما اتفق لهما الحج، أبو إسحاق وأبو عبد الله الدامغاني، أما أبو إسحاق فكان فقيرا، ولو أراده لحملوه على الأعناق ... توفي سنة ست وسبعين وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
لقد اختلفت الآراء في أبي إسحاق، هل هو سلفي أو أشعري، والذي رجحه الكثير من الباحثين أنه كان على عقيدة السلف. وقد ذكر الدكتور
_________
(1) السير (18/ 452 - 464) والأنساب (9/ 361 - 362) والمنتظم (16/ 228 - 231) والكامل في التاريخ (10/ 132 - 133) ووفيات الأعيان (1/ 29 - 31) والوافي بالوفيات (6/ 62 - 66) والبداية والنهاية (12/ 133) وشذرات الذهب (3/ 349 - 351).(6/339)
زكريا عبد الرزاق في مقدمة تحقيقه لكتاب النكت في المسائل المختلف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة مرجحات ثمانية لسلفية الشيخ، ثم عقد فصلا للجواب عن شبه من ادعى أنه أشعري وكذلك الدكتور عبد المجيد التركي في مقدمته لكتاب 'الوصول إلى مسائل الأصول' للشيخ أبي إسحاق فقال: (والمرجح أن ابن الصباغ لم يكن يقول بمقالة الأشاعرة، وإنما كان على غرار الشيرازي على عقيدة السلف الصالح ويبدو هذا من خلال كتابه الوحيد الذي وصل إلينا من كامل كتبه -أي كتاب الطريق السالم-).
ومن أكبر المرجحات ما تركه من الآثار السلفية: 'عقيدة السلف'.
كان الشيخ أبو إسحاق يقول: إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة. (1)
عبد الله بن عطاء الهروي (2) (476 هـ)
عبد الله بن عطاء بن عبد الله الإبراهيمي الهروي المحدث الحافظ أبو محمد. أحد الحفاظ المشهورين الرحالين سمع من عبد الواحد المليحي وشيخ الإسلام الأنصاري ومن عبد الرحمن وعبد الوهاب ابني منده وجماعة. وكتب بخطه الكثير وخرج التخاريج وحدث.
روى عنه أبو محمد سبط الخياط وأبو بكر بن الزعفراني وآخر من
_________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 17).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 44 - 45) وشذرات الذهب (3/ 352 - 353) والميزان (2/ 462) واللسان (3/ 316) والمنتظم (16/ 231 - 232).(6/340)
روى عنه أبو المعالي بن النحاس ووثقه طائفة من حفاظ وقته في الحديث منهم المؤتمن الساجي.
قال شهردار الديلمي عنه كان صدوقا حافظا متقنا واعظا حسن التذكير.
وقال يحيى بن منده: كان أحد من يفهم الحديث ويحفظ صحيح النقل كثير الكتابة حسن الفهم وكان واعظا حسن التذكير.
وتوفي في طريق مكة بعد عوده منها على يومين من البصرة سنة ست وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى.
موقفه من الجهمية:
قال خميس الجوزي: رأيته ببغداد ملتحقا بأصحابنا، ومتخصصا بالحنابلة، يخرج لهم الأحاديث المتعلقة بالصفات، ويرويها لهم. وأضداده من الأشعرية يقولون: هو يضعها. وما علمت فيه ذلك. وكان يعرفه. (1)
موقف السلف من البكري أبي بكر عتيق الأشعري (476 هـ)
بيان فضائحه الأشعرية:
جاء في السير: وفد على النظام الوزير -أي البكري-،فنفق عليه، وكتب له توقيعا بأن يعظ بجوامع بغداد، فقدم وجلس، واحتفل الخلق، فذكر
_________
(1) ذيل الطبقات (1/ 45).(6/341)
الحنابلة، وحط وبالغ، ونبزهم بالتجسيم، فهاجت الفتنة، وغلت بها المراجل، وكفر هؤلاء هؤلاء، ولما عزم على الجلوس بجامع المنصور، قال نقيب النقباء: قفوا حتى أنقل أهلي، فلابد من قتل ونهب. ثم أغلقت أبواب الجامع، وصعد البكري، وحوله الترك بالقسي، ولقب بعلم السنة، فتعرض لأصحابه طائفة من الحنابلة، فشدت الدولة منه، وكبست دور بني القاضي ابن الفراء، وأخذت كتبهم، وفيها كتاب في الصفات، فكان يقرأ بين يدي البكري، وهو يشنع ويشغب، ثم خرج البكري إلى المعسكر متشكيا من عميد بغداد أبي الفتح بن أبي الليث. وقيل: إنه وعظ وعظم الإمام أحمد، ثم تلا: {وما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (1) فجاءته حصاة ثم أخرى، فكشف النقيب عن الحال فكانوا ناسا من الهاشميين حنابلة قد تخبؤوا في بطانة السقف، فعاقبهم النقيب، ثم رجع البكري عليلا، وتوفي في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربعمائة. (2)
التعليق:
من هذه الحادثة يستفاد:
- ما كان عليه نظام الملك من نصرة لعقيدة الأشاعرة.
- جرأة الأشاعرة على أهل الإثبات.
- مصادرة كتب السلف.
_________
(1) البقرة الآية (102).
(2) السير (18/ 561 - 562).(6/342)
- تمسك السلفيين بعقيدتهم مهما كان المقابل.
- تشويه الأشاعرة لأهل الإثبات ومحاولة التستر وراء الإمام أحمد وهو بريء منهم.
موقف السلف من مسعود بن ناصر (477 هـ)
بيان ضلاله في باب القدر:
قال أبو بكر بن الخاضبة: وكان مسعود قدريا، سمعته يقرأ الحديث، فلما أتى على حديث أبي هريرة: «احتج آدم وموسى» (1) في الحديث، وقال: «فحج آدم موسى» فجعل موسى فاعلا وآدم محجوجا، نوزع في ذلك وجرت قصة. (2)
عبد الملك الجُوَيْنِي (3) (478 هـ)
إمام الحرمين، الإمام الكبير، شيخ الشافعية، أبو المعالي، عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، ثم النيسابوري، ضياء الدين الشافعي، صاحب التصانيف. ولد في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة. سمع من والده، وأبي حسان محمد بن أحمد المزكي، وأبي
_________
(1) تقدم في مواقف هارون الرشيد سنة (193هـ).
(2) المنتظم (16/ 238) والتذكرة (4/ 1217).
(3) السير (18/ 468 - 477) والأنساب (3/ 386 - 387) والمنتظم (16/ 244 - 247) والكامل في التاريخ (10/ 145) ووفيات الأعيان (1/ 167 - 170) والبداية والنهاية (12/ 136 - 137) والعقد الثمين (5/ 127 - 128) وشذرات الذهب (3/ 358 - 362).(6/343)
عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النبلي وآخرين. وعنه جماعة منهم أبو عبد الله الفراوي، وزاهر الشمامي، وأحمد بن سهل المسجدي. سمع الحديث الكثير في البلاد وفي بغداد، وخرج إلى الحجاز فأقام بمكة أربع سنين، وعاد إلى نيسابور فجلس للتدريس ثلاثين سنة، وقد سلم إليه التدريس والمحراب والمنبر والخطابة ومجلس التذكير يوم الجمعة، وكان يحضر درسه كل يوم نحو ثلاثمائة، وتخرج به جماعة من الأكابر، حتى درسوا في حياته. قال أبو إسحاق الفيروز أبادي: تمتعوا من هذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني أبا المعالي الجويني. كان من أئمة أهل الكلام، فتاب منه وتبرأ من أهله، ورجع إلى مذهب السلف. توفي رحمه الله ليلة الأربعاء بعد العشاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
هذا الرجل تركه أبوه وعمره عشرون سنة مع أن أباه رجع إلى عقيدة السلف ونبذ الأشعرية، ولا أدري كيف لم يستفد عبد الملك من أبيه عبد الله الذي تقدم الحديث عنه. والمهم أن أبا المعالي تربى على الأشعرية وعلم الكلام وترعرع في ذلك، حتى أصبح العمدة عند الأشاعرة على الخصوص وعند علماء الكلام على العموم، وألف لهم كتبا أصبحت المصدر الأول للعقيدة الأشعرية، منها 'الإرشاد' وقد طبع، و'الشامل' وهو الذي سماه شيخ الإسلام بـ'زبور الأشاعرة'، والحق أنه قطع الطريق على الأشعري وأصحابه، وأصبحت العقيدة الأشعرية مستمدة على ما قعده أبو المعالي. والكلام على أبي المعالي يحتاج إلى تأليف خاص، والمهم عندنا الإشارة إلى المواقف السلفية،(6/344)
ومن كان واقفا عقبة أمام العقيدة السلفية، فكان هذا الرجل من أكبر العقبات التي واجهت العقيدة السلفية واسمع ما يقوله في السلف وكتبهم.
قال أبو المعالي: إن أئمة السنة وأخيار الأمة بعد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، لم يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات، فلم يورد مالك رضي الله عنه في الموطأ منها شيئا مما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وسفيان والليث والثوري ولم يفتوا بنقل المشكلات.
ونبغت ناشئة ضروا بنقل المشكلات وتدوين المتشابهات، وتبويب أبواب ورسم تراجم على ترتيب فطرة المخلوقات، ورسموا بابا في ضحك الباري، وبابا في نزوله وانتقاله وعروجه ودخوله وخروجه، وبابا في إثبات الأضراس، وبابا في خلق الله آدم على صورة الرحمن، وبابا في إثبات القدم والشعر القطط، وبابا في إثبات الأصوات والنغمات، تعالى الله عن قول الزائغين.
قال: وليس يعتمد جمع هذه الأبواب وتمهيد هذه الأنساب إلا مشبه على التحقيق أو متلاعب زنديق. (1)
التعليق:
انظر إلى هذا الحقد على السلف وكتبهم حتى جعله يخترع ما لم يوجد، ولا خطر ببال، وأين هذه الدعاوى في كتاب الآجري الذي مثل به. ودعواه أن الأئمة لم يوردوا شيئا من أحاديث الصفات جهل واضح. وقد
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 291).(6/345)
بين شيخ الإسلام ذلك بيانا مفصلا في الفتاوى الكبرى. (1)
وكانت بضاعة أبي المعالي في الحديث قليلة وربما منعدمة.
يقول الإمام الذهبي: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته، لا يدري الحديث كما يليق به، لا متنا ولا إسنادا. ذكر في كتاب البرهان حديث معاذ في القياس فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته. (2)
التعليق:
فمن كان حاله كما وصف الذهبي، هل له أن يقول إن الأئمة لم يوردوا شيئا من أحاديث الصفات. فكل فن له أربابه، ومن تكلم فيما لا يحسنه كان ساقط الحجة.
وقوعه في الحيرة لمخالفة عقيدة السلف في العلو:
- قال محمد بن طاهر: حضر المحدث أبو جعفر الهمذاني مجلس وعظ أبي المعالي، فقال: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه. فقال أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها، ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا، أو قال: فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ قال: يا حبيبي ما ثم إلا الحيرة. ولطم على رأسه، ونزل، وبقي
_________
(1) (5/ 292 - 307).
(2) السير (18/ 471).(6/346)
وقت عجيب، وقال فيما بعد: حيرني الهمذاني. (1)
- ونقل أن أبا المعالي تاب ورجع إلى عقيدة السلف نحسن الظن به أنه رجع في نيته إلى عقيدة السلف، ولكن العبارة التي يستدل بها من قال إنه رجع في كتابه المسمى العقيدة النظامية، والعبارة عبارة عن التعبير عن التفويض لا عن الإثبات وهذه هي العبارة بعينها من العقيدة النظامية قال: اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في القرآن وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقد اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة ... (2)
- ومن أقواله في رجوعه عن الكلام إلى الحديث والآثار ما جاء في السير: قال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب -وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام- فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به.
_________
(1) السير (18/ 474 - 475).
(2) العقيدة النظامية (ص.23) والسير (18/ 473).(6/347)
- وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال: حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور. (1)
- قال ابن الجوزي: وكان أبو المعالي الجويني يقول لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني. وكان يقول لأصحابه يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به. (2)
- قال المازري في شرح 'البرهان' في قوله: إن الله يعلم الكليات لا الجزئيات: وددت لو محوتها بدمي. وقيل: لم يقل بهذه المسألة تصريحا، بل ألزم بها لأنه قال بمسألة الاسترسال فيما ليس بمتناه من نعيم أهل الجنة، فالله أعلم. قلت -أي الذهبي-: هذه هفوة اعتزال، هجر أبو المعالي عليها، وحلف أبو القاسم القشيري لا يكلمه، ونفي بسببها، فجاور وتعبد، وتاب - ولله الحمد- منها، كما أنه في الآخر رجح مذهب السلف في الصفات
_________
(1) السير (18/ 474) ومجموع الفتاوى (5/ 11).
(2) تلبيس إبليس (104 - 105).(6/348)
وأقره. (1)
- قال الفقيه الغانم الموشيلي: سمعت الإمام أبا المعالي يقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام. (2)
موقف السلف من مسلم بن قريش صاحب الموصل (478 هـ)
بيان رفضه وتسلطه:
جاء في السير: السلطان شرف الدولة، أبو المكارم، مسلم بن ملك العرب قريش بن بدران بن الملك حسام الدولة مقلد بن المسيب بن رافع العقيلي.
كان يترفض كأبيه. ونهب أبوه دور الخلافة في فتنة البساسيري، وأجار القائم بأمر الله. ومات سنة ثلاث وخمسين كهلا، فولي ابنه ديار ربيعة ومضر، وتملك حلب، وأخذ الأتاوة من بلاد الروم، وحاصر دمشق، وكاد أن يأخذها، فنزع أهل حران طاعته، فبادر إليها، فحاربوه، فافتتحها، وبذل السيف في السنة بها، وأظهر سب الصحابة، ودانت له العرب، ورام الإستيلاء على بغداد بعد طغرلبك، وكان يجيد النظم، وله سطوة وسياسة وعدل بعنف، وكان يعطي جزية بلاده للعلوية. عمر سور الموصل وشيدها. ثم إنه عمل المصاف مع سلطان الروم سليمان بن قتلمش في سنة 478 بظاهر
_________
(1) السير (18/ 472).
(2) السير (18/ 473).(6/349)
أنطاكية، فقتل مسلم وله بضع وأربعون سنة. وقيل: بل خنقه خادم في الحمام. وملكوا أخاه إبراهيم، وله سيرة طويلة وحروب وعجائب. (1)
شيخ الإسلام عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (481 هـ)
كان هذا الإمام سدا منيعا في وجوه المبتدعة، برز ذلك في شخصه وكتبه ومناظراته، لقد عرض على السيف خمس مرات ومع ذلك رزقه الله الصمود في وجه من أراد أن يجعله أشعريا أو كلابيا. ولأبي إسماعيل أخطاء تمنينا وتمنى أهل العلم قبلنا عدم صدورها من الشيخ يتمثل ذلك في كتابه: 'منازل السائرين' ذكر فيه أشياء يتبرأ السلف منها، وربما فيه ما يؤدي إلى الحلول. وقد قال الإمام الذهبي في 'منازل السائرين': فيه أشياء مطربة وفيه أشياء مشكلة ومن تأمله لاح له ما أشرت إليه. (2)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام له على إبطال أن الله في كل مكان: وإن قالوا بحلوله بذاته في قلوب العارفين كان هذا قولا بالحلول الخالص وقد وقع في ذلك طائفة من الصوفية حتى صاحب: 'منازل السائرين' في توحيده المذكور في آخر المنازل في مثل هذا الحلول. (3)
وقال الذهبي: ورأيت أهل الاتحاد يعظمون كلامه في منازل السائرين ويدعون أنه موافقهم، ذائق لوجدهم، ورامز لتصوفهم الفلسفي، وأنى يكون
_________
(1) السير (18/ 482 - 483).
(2) السير (18/ 509).
(3) مجموع الفتاوى (5/ 230).(6/350)
ذلك وهو من دعاة السنة وعصبة آثار السلف؟. (1)
وقال أيضاً: ... فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في منازل السائرين وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم، كلا بل هو رجل أثري، لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جداً. (2)
وقال ابن رجب: وقد اعتنى بشرح كتابه منازل السائرين جماعة، وهو كثير الإشارة إلى مقام الفناء في توحيد الربوبية، واضمحلال ما سوى الله تعالى في الشهود لا في الوجود. فيتوهم فيه أنه يشير إلى الاتحاد حتى انتحله قوم من الاتحادية، وعظموه لذلك. وذمه قوم من أهل السنة، وقدحوا فيه بذلك. وقد برأه الله من الاتحاد. وقد انتصر له شيخنا أبو عبد الله ابن القيم في كتابه الذي شرح فيه المنازل، وبين أن حمل كلامه على قواعد الاتحاد زور وباطل. (3)
وإليك نماذج من مواقف شيخ الإسلام الهروي من الجهمية:
محن الشيخ:
- قال شيخ الإسلام الهروي: ثم إني لا أعلم أني سمعت في عمري بشرا واحدا في بلدتنا يقر على نفسه بذلك المذهب أو يصرح بشيء من الكلام، وهو يعرفه أو يظهر شيئا من كتبهم إلا من أحد وجوه أربعة:
أحدها: أن يكون رجل عُلِم منه أنه قرأ الكلام فهو يحلف أنه إنما قرأه ليصول به على خصم لا ليدين به دينا.
_________
(1) تذكرة الحفاظ (3/ 1183).
(2) سير أعلام النبلاء (18/ 510).
(3) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 67).(6/351)
والثاني: رجل أخذ عن أستاذ متهم به فهو يحلف بالله أنه إنما أخذ عنه الفقه لا الكلام.
والثالث: قوم لحقهم داء من الصحبة حتى لحظتهم الأعين بالهوان بصحبة أهل التهمة والركون إليهم، فهم إذا خلوا يتناجون، وإذا برزوا يتهاجون.
والرابع: رجل ظهر عليه شيء من كتب الكلام بخطه أو قراءته أو أخذه حيا أو ميتا، فكلهم يحمل من أعباء الذل والهجران والطرد ما لا يحمل عيار ولا يعالجه ماجن ولا مخنث، ولا مريضهم يعاد ولا جنائزهم تشيع، على أنك لا تعدم منهم قلة الورع وقسوة القلب، وقلة الورد وسوء الصلاة والاستخفاف بالسنة والتهاون بالحديث والوضع من أهله وترك الجماعات والشماتة بفواجع أهل السنة والهزوء بهم. وقد سمعت بعض المتهمين يقول: وما الكلام كل ما خرج من الفم من النطق فهو كلام، فهو والله حمق ظاهر أن يكون يلبسه بالشافعي الإمام المطلبي باعترائه الكاذب إليه، وزعمه الباهت عليه، وهو من أشد خلق الله تعالى على المتكلمين وأثقلهم عليه، كما نظمنا عنه من أقاويله الغر في ذمهم، ثم هذا المراوغ يدعي أنه لا يدري ما الكلام، وهؤلاء أئمة الإسلام. وكل هذا التحذير وإيذانه قديما بالضرر الكبير، فليبرزوا به إذا من الخباء، وليخرجوا الطبل من الكساء ويقيموا الخطأ على أولئك السادة الهداة، وليشيروا بنا إلى كل مسلم أدركه في الكلام رشد، أو لقي به خيرا، فلا والله لا دين المتناجين دين، ولا رأي(6/352)
المتسترين متين. (1)
- قال ابن تيمية: وشيخ الإسلام، وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات، وقد صنف كتابه 'الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة' وصنف كتاب 'تكفير الجهمية'وصنف كتاب 'ذم الكلام وأهله' وزاد في هذا الباب، حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات، لكنه في القدر على رأي الجهمية، نفاة الحكم والأسباب. (2)
- جاء في سير أعلام النبلاء: قال ابن طاهر: سمعته يقول: عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي ارجع عن مذهبك، لكن يقال اسكت عمن خالفك. فأقول لا أسكت. (3)
وقال الحافظ أبو النضر الفامي: كان شيخ الإسلام أبو إسماعيل بكر الزمان وواسطة عقد المعاني وصورة الإقبال في فنون الفضائل وأنواع المحاسن منها، نصرة الدين والسنة من غير مداهنة ولا مراقبة لسلطان ولا وزير، وقد قاسى بذلك قصد الحساد في كل وقت وسعوا في روحه مرارا وعمدوا إلى إهلاكه أطوارا، فوقاه الله شرهم، وجعل قصدهم أقوى سبب لارتفاع شأنه. (4)
- وسمعت خادمه أحمد بن أميرجه يقول: حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير نظام الملك، وكان أصحابنا كلفوه الخروج إليه وذلك بعد المحنة ورجوعه إلى وطنه من بلخ -يعني أنه كان قد غرب- قال: فلما دخل عليه
_________
(1) ذم الكلام (4/ 425 - 428 الأنصاري).
(2) المنهاج (5/ 358).
(3) السير (18/ 509) وطبقات الحنابلة (1/ 53 - 54).
(4) السير (18/ 510).(6/353)
أكرمه وبجله وكان هناك أئمة من الفريقين فاتفقوا على أن يسألوه بين يدي الوزير فقال العلوي الدبوسي: يأذن الشيخ الإمام أن يسأل؟ قال: سل؟ قال: لم تلعن أبا الحسن الأشعري؟ فسكت الشيخ وأطرق الوزير. فلما كان بعد ساعة قال الوزير: أجبه؟ فقال: لا أعرف أبا الحسن وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء وأن القرآن في المصحف ويقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم ليس بنبي. ثم قام وانصرف فلم يمكن أحدا أن يتكلم من هيبته فقال الوزير للسائل: هذا أردتم، أن نسمع ما كان يذكره بهراة بآذاننا وما عسى أن أفعل به؟ ثم بعث إليه بصلة وخلع فلم يقبلها وسافر من فوره إلى هراة. (1)
- قال: وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان ألب أرسلان هراة في بعض قدماته اجتمع مشائخ البلد ورؤساؤه، ودخلوا على أبي إسماعيل وسلموا عليه، وقالوا ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه، فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك، وكانوا قد تواطؤوا على أن حملوا معهم صنما من نحاس صغيرا وجعلوه في المحراب تحت سجادة الشيخ وخرجوا وقام الشيخ إلى خلوته ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري وأنه مجسم وأنه يترك في محرابه صنما يزعم أن الله تعالى على صورته وإن بعث السلطان الآن يجده. فعظم ذلك على السلطان وبعث غلاما وجماعة فدخلوا وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم فألقى الغلام الصنم فبعث السلطان من أحضر الأنصاري فأتى فرأى الصنم والعلماء وقد اشتد غضب السلطان فقال له السلطان: ما هذا؟ قال: صنم يعمل من الصفر شبه اللعبة. قال: لست عن ذا
_________
(1) السير (18/ 511) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 54 - 55).(6/354)
أسألك. قال: فعم يسألني السلطان؟ قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا وأنك تقول: إن الله على صورته. فقال شيخ الإسلام بصولة وصوت جهوري: سبحانك هذا بهتان عظيم. فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه فأمر به فأخرج إلى داره مكرما وقال لهم: اصدقوني وهددهم فقالوا: نحن في يدي هذا في بلية من استيلائه علينا بالعامة فأردنا أن نقطع شره عنا. فأمر بهم ووكل بهم وصادرهم وأخذ منهم وأهانهم. (1)
التعليق:
هكذا مكائد المبتدعة في كل زمان ومكان، لا يراقبون الله ولا يخافونه، فالرجل ينافح عن مذهب السلف ويدافع عنه، وهم يتهمونه بالتشبيه والتمثيل وتصل بهم الوقاحة إلى ما فعلوا. ولكن الله لطيف بعباده وهو للظالمين بالمرصاد مهما علا شأنهم وارتفع.
مناظرات الشيخ وفحمه للخصم:
- قال ابن طاهر: حكى لي أصحابنا، أن السلطان ألب أرسلان قدم هراة ومعه وزيره نظام الملك، فاجتمع إليه أئمة الحنفية وأئمة الشافعية للشكوى من الأنصاري ومطالبته بالمناظرة، فاستدعاه الوزير فلما حضر قال: إن هؤلاء قد اجتمعوا لمناظرتك فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق معهم رجعت أو تسكت عنهم، فوثب الأنصاري وقال: أناظر على ما في كمي قال: وما في كمك؟ قال: كتاب الله -وأشار إلى كمه
_________
(1) السير (18/ 512) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 55 - 56).(6/355)
اليمين- وسنة رسوله -وأشار إلى كمه اليسار- وكان فيه: الصحيحان فنظر الوزير إليهم مستفهما لهم؟ فلم يكن فيهم من ناظره من هذا الطريق. (1)
- وجاء في ذيل طبقات الحنابلة: وذكر الرهاوي أن الحسين بن محمد الكتبي، ذكر في تاريخه أن مسعود ابن محمود بن سبكتكين قدم هراة سنة ثلاثين وأربعمائة فاستحضر شيخ الإسلام وقال له: أتقول: إن الله عز وجل يضع قدمه في النار؟ فقال: أطال الله بقاء السلطان المعظم إن الله عز وجل لا يتضرر بالنار والنار لا تضره، والرسول لا يكذب عليه وعلماء هذه الأمة لا يتزيدون في ما يروون عنه، ويسندون إليه فاستحسن جوابه ورده مكرما. (2)
التعليق:
كان السلاح عند علماء السلف الكتاب والسنة. فما وافقهما استعانوا به، وما خالفهما نبذوه وراءهم ظهريا. والأمر إلى يومنا هذا كذلك، فمن تمسك بالكتاب والسنة وطلب الحجة منهما تجده دائما هو القوي والغالب مهما كان شأن المناظر، ومن قصر فيهما يكون كل واحد بحسبه، فعلمه بهما يفيده بقدر ذلك وجهله بهما يجعله مذموما مدحورا.
- جاء في السير: قال المؤتمن وسمعته يقول: تركت الحيري لله، قال: وإنما تركه لأنه سمع منه شيئا يخالف السنة.
قال الإمام الذهبي: كان يدري الكلام على رأي الأشعري وكان شيخ الإسلام أثريا قحا، ينال من المتكلمة فلهذا أعرض عن الحيري، والحيري فثقة
_________
(1) السير (18/ 510 - 511) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 54).
(2) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 57).(6/356)
عالم. (1)
- وجاء في طبقات الحنابلة: وكان شديدا على الأشعرية. (2)
ولشيخ الإسلام قصيدة نونية طويلة مشهورة ذكر فيها أصول السنة. (3)
آثار الشيخ السلفية:
1 - 'الفاروق في الصفات': نقل منه ابن القيم في اجتماع الجيوش (4)، وشيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (5) والمنهاج (6)، وقال فيه الإمام الذهبي: غالب ما رواه في كتاب 'الفاروق' صحاح وحسان وفيه باب إثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة بائنا من خلقه، من الكتاب والسنة ... (7)
2 - 'ذم الكلام': وهو من خيرة المصادر السلفية، وتوجد منه نسخة في الجامعة الإسلامية، ونسخة أخرى في تركيا، وقد سجل رسالة علمية بالجامعة الإسلامية: قسم العقيدة من قبل الطالب عبد الرحمان الشبلي، في مرحلة الماجستير -وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك- وأكثر من النقل عنه العلماء في كتبهم. ولخصه السيوطي في صون المنطق وهو أشهر من أن يعرف به.
3 - 'الأربعون في أصول الدين'، وقد طبع الكتاب بحمد الله بتحقيق الشيخ علي ناصر فقيهي.
_________
(1) السير (18/ 506) وتذكرة الحفاظ (3/ 1186) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 51).
(2) ذيل الطبقات (2/ 247).
(3) ذيل الطبقات (1/ 53).
(4) (ص.253 - 254).
(5) (5/ 49).
(6) (5/ 358).
(7) السير (18/ 514).(6/357)
4 - 'الرد على الجهمية'، ذكره شيخ الإسلام في المنهاج. (1)
السنة الثانية والثمانون بعد الأربعمائة
فضائح الشيعة وموقف المسلمين منهم (482 هـ)
جاء في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة، وفيها كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة ورفعوا المصاحف، وجرت حروب طويلة وقتل فيها خلق كثير، نقل ابن الجوزي في المنتظم من خط ابن عقيل، أنه قتل في هذه السنة قريب من مائتي رجل قال: وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ. وإنما حكيت هذا ليعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم لله ولرسوله وشريعته. (2)
التعليق:
لا أدري ماذا يقول دعاة التقارب في مثل هذه الوقائع المؤلمة، وماذا يقولون في تعبير الإمام ابن كثير هذا: هل هو جاهل بالوقائع التاريخية أو بالأحكام الشرعية، أو لا يعرف الفرق بين السنة والشيعة ومدى إمكانية التقارب بينهما. كل هذه أسئلة ينبغي لها أن توضع، ويجد دعاة التقارب لها جوابا حتى يقنعونا بفكرتهم الفاشلة التي منطلقها الضعف والخور، أو الأغراض الشخصية والمذهبية ...
_________
(1) (5/ 358).
(2) البداية والنهاية (12/ 144).(6/358)
الحَبَّال (1) (482 هـ)
إبراهيم بن سعيد بن عبد الله النعماني أبو إسحاق الإمام الحافظ المتقن العالم المصري الكتبي الوراق الحبال، ولد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. وسمع من الحافظ عبد الغني بن سعيد في سنة سبع وأربعمائة. فكان آخر من سمع منه، وسمع من أحمد بن عبد العزيز بن ثرثال ومن أبي محمد عبد الرحمن بن عمر بن النحاس ومحمد بن الفضل بن نظيف وخلق سواهم. وكان يتجر في الكتب ويخبرها، وحصل من الأصول والأجزاء ما لا يوصف كثرة. روى عنه أبو عبد الله الحميدي وإبراهيم بن الحسن العلوي النقيب ومحمد بن إبراهيم البكري وعدة.
قال ابن ماكولا: كان الحبال ثقة ثبتا ورعا خيرا. قال ابن طاهر: رأيت الحبال وما رأيت أتقن منه.
مات سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة وله إحدى وتسعون سنة.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: وكانت الدولة الباطنية قد منعوه من التحديث، وأخافوه، وهددوه، فامتنع من الرواية، ولم ينتشر له كبير شيء. قال القاضي أبو علي الصدفي: منعت من الدخول إليه إلا بشرط أن لا يسمعني، ولا يكتب إجازة، فأول ما فاتحته الكلام خلط في كلامه، وأجابني على غير سؤالي حذرا من أن أكون مدسوسا عليه، حتى بسطته، وأعلمته أني أندلسي
_________
(1) السير (18/ 495 - 503) والعبر (2/ 15) وتذكرة الحفاظ (3/ 1191 - 1196) والوافي بالوفيات (5/ 355) والنجوم الزاهرة (5/ 129) وشذرات الذهب (3/ 356).(6/359)
أريد الحج، فأجاز لي لفظا، وامتنع من غير ذلك.
- قال الذهبي: قبح الله دولة أماتت السنة ورواية الأثارة النبوية، وأحيت الرفض والضلال، وبثت دعاتها في النواحي تغوي الناس، ويدعونهم إلى نحلة الإسماعيلية، فبهم ضلت جبلية الشام، وتعثروا، فنحمد الله على السلامة في الدين. (1)
موقف السلف من أبي منصور بن شكرويه الأشعري (482 هـ)
بيان أشعريته:
قال السمعاني: سألت أبا سعد البغدادي عن أبي منصور بن شكرويه، فقال: كان أشعريا، لا يسلم علينا، ولا نسلم عليه، ولكنه كان صحيح السماع. (2)
نِظَام الملك (3) (485 هـ)
الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي أبو علي الوزير الكبير نظام الملك، عاقل سائس خبير سعيد متدين، محتشم عامر المجلس بالقراء والفقهاء، أنشأ
_________
(1) السير (18/ 497).
(2) السير (18/ 494).
(3) السير (19/ 94 - 96) والمنتظم (16/ 302 - 307) ووفيات الأعيان (2/ 128 - 131) والوافي بالوفيات (12/ 123 - 127) والبداية والنهاية (12/ 149 - 151) وشذرات الذهب (3/ 373 - 375).(6/360)
المدرسة الكبرى ببغداد وأخرى بنيسابور وأخرى بطوس. ورغب في العلم وأدر على الطلبة الصلات وأملى الحديث وبعد صيته، تنقلت به الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب أرسلان ثم لابنه ملكشاه، فدبر ممالكه على أتم ما ينبغي وخفف المظالم ورفق بالرعايا. سمع من القشيري وأبي مسلم بن مهربزد وأبي حامد الأزهري. روى عنه علي بن طراد الزينبي ونصر بن نصر العكبري وجماعة. وكان فيه تمشعر وفيه خير وتقوى وميل إلى الصالحين وخضوع لموعظتهم يعجبه من يبين له عيوب نفسه فينكسر ويبكي. قتله باطني في هيئة صوفي ليلة الجمعة سنة خمس وثمانين وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: مولده في سنة ثمان وأربع مئة، وقتل صائما في رمضان، أتاه باطني في هيئة صوفي يناوله قصة، فأخذها منه، فضربه بالسكين في فؤاده، فتلف، وقتلوا قاتله، وذلك ليلة جمعة سنة خمس وثمانين وأربعمائة، بقرب نهاوند، وكان آخر قوله: لا تقتلوا قاتلي، قد عفوت، لا إله إلا الله. (1)
أبو الفرج عبد الواحد بن محمد (2) (486 هـ)
الإمام العلم، القدوة، سيد الوعاظ، شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الواحد ابن علي الأنصاري الشيرازي الأصل، الحراني المولد الدمشقي المقر.
_________
(1) السير (19/ 95).
(2) السير (19/ 51 - 53) وطبقات الحنابلة (2/ 248 - 249) والكامل (10/ 228) وتذكرة الحفاظ (3/ 1199) وشذرات الذهب (3/ 378).(6/361)
سمع من أبي الحسن بن السمسار، وأبي عثمان الصابوني، وعبد الرزاق ابن الفضل الكلاعي وآخرين.
قال ابن أبي يعلى: كانت له كرامات ظاهرة ووقعات مع الأشاعرة، وظهر عليهم بالحجة في مجالس السلاطين ببلاد الشام.
قال ابن العماد: وكان إماما عارفا بالفقه والأصول صاحب حال وعبادة وتأله.
توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة ست وثمانين وأربعمائة.
موقفه من الجهمية:
- جاء في السير: قال أبو الحسين بن الفراء: وكانت له كرامات ظاهرة ووقعات مع الأشاعرة وظهر عليهم بالحجة في مجلس السلاطين بالشام. (1)
- قال ابن أبي يعلى: وكان أبو الفرج ناصرا لاعتقادنا متجردا في نشره، مبطلا لتأويلات أخبار الصفات. (2)
وله من الآثار السلفية:
كتاب 'التبصرة في أصول الدين'، والكتاب مخطوط وهو في مكتبتي، أخذته من جامعة سعود بالرياض. وقد سجل رسالة علمية في مرحلة الماجستير في جامعة الإمام وفيه مباحث قيمة.
_________
(1) السير (19/ 52) وطبقات الحنابلة (2/ 248).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 249).(6/362)
هبة الله بن عبد الوارث (486 هـ)
موقفه من الصوفية:
قال أبو نصر الفاشاني: كنت إذا أتيت هبة الله بالرباط، أخرجني إلى الصحراء، وقال: اقرأ هنا، فالصوفية يتبرمون بمن يشتغل بالعلم والحديث، يقولون: يشوشون علينا أوقاتنا. (1)
التعليق:
ما حاجتهم إلى العلم، وهم يعتمدون على الكشف والعلم المباشر، الذي يحصل بطريق الفتح، كما في كتاب 'الإبريز' للمسمى عبد العزيز الدباغ. وكما ذكر الغزالي في الإحياء وغيرهما مما سيأتي إن شاء الله.
ابن الأخضر (2) (486 هـ)
علي بن محمد بن محمد بن يحيى بن شعيب الشيباني بن الأخضر أبو الحسن الشيخ العالم الخطيب المسند. ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. سمع أبا أحمد بن أبي مسلم الفرضي وأبا عمر بن مهدي وأبا الحسن بن رزقويه وغيرهم. روى عنه إسماعيل بن محمد الحافظ وأبو نصر الغازي وأبو سعد بن البغدادي ونصر الله بن محمد مفتي دمشق وعدة. وكان فقيها خطيبا بالأنبار عمر وارتحل الناس إليه. قال السمعاني: كان ثقة نبيلا صدوقا معمرا مسندا
_________
(1) السير (19/ 19).
(2) السير (18/ 605 - 606) والمنتظم (14/ 8) والبداية والنهاية (12/ 155) وتذكرة الحفاظ (3/ 1199) وشذرات الذهب (3/ 379).(6/363)
انتشرت رواياته في الآفاق. أمره البساسيري أن يخطب للمستنصر، فلما خطب دعا للقائم، فأمر البساسيري بقطع يده على المنبر. توفي في شوال سنة ست وثمانين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قال صالح بن علي بن الخطيب الأنباري: أمر البساسيري -الرافضي- جدنا عليا الخطيب أن يخطب للمستنصر صاحب مصر، فلما خطب، دعا للقائم، ولم يمتثل أمر البساسيري، فأمر بقطع يده على المنبر. (1)
موقف السلف من صاحب سمرقند الزنديق (487 هـ)
بيان زندقته:
جاء في السير: الخان أحمد، كان جبارا مارقا، قام عليه الأمراء، وأمسكوه، ثم عقدوا له مجلسا، فادعوا أنه زنديق، فجحد، فأقاموا الشهود عليه بعظائم، فأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه، وسلطنوا بعده ابن عمه مسعودا سنة سبع وثمانين وأربعمائة. (2)
التعليق:
نقرأ مثل هذه الوقائع ونبكي الدم على أحوالنا: كم من الزنادقة الذين يحتاجون إلى تنفيذ الحدود فيهم؟ والله المستعان.
_________
(1) السير (18/ 606).
(2) السير (19/ 127 - 128).(6/364)
موقف السلف من المستنصر العبيدي الرافضي (487 هـ)
بيان رفضه:
- جاء في السير: وكان ناصر الدولة، يظهر التسنن، ويعيب المستنصر لخبث رفضه وعقيدته. (1)
- وفيها: مات المستنصر في ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وقد قارب السبعين. وكان سب الصحابة فاشيا في أيامه، والسنة غريبة مكتومة، حتى إنهم منعوا الحافظ أبا إسحاق الحبال من رواية الحديث، وهددوه، فامتنع. ثم قام بعد المستنصر ابنه أحمد. (2)
الحُمَيْدِي (3) (488 هـ)
الإمام الحافظ شيخ المحدثين محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله أبو عبد الله الأزدي الحميدي الأندلسي. ولد قبل سنة عشرين وأربعمائة. لازم أبا محمد علي بن أحمد بن حزم، فأكثر عنه، وأخذ عن أبي عمر بن عبد البر وارتحل إلى مصر والحجاز والعراق وسمع الحديث هنالك من طائفة من أهل الحديث. حدث عنه الحافظ أبو عامر العبدري، ومحمد بن طرخان التركي وغيرهما.
قال عنه يحيى بن إبراهيم السلماسي: كان ورعا تقيا إماما في
_________
(1) السير (15/ 191).
(2) السير (15/ 195 - 196).
(3) السير (19/ 120 - 127) ونفح الطيب (2/ 112) ومعجم الأدباء (18/ 282) وتذكرة الحفاظ (4/ 1218).(6/365)
الحديث ... على مذهب أصحاب الحديث بموافقة الكتاب والسنة. قال أحمد ابن محمد المقري: كان إماما من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته واتقانه وثقته ونبله وديانته. ومن نظمه:
طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله تأدية الحقوق
فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك وذر بنيات الطريق
وقال أيضا:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
له أبيات يبين فيها منهجه السلفي:
كتاب الله عز وجل قولي ... وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين
فدع ما صد عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين (1)
وقال رحمه الله:
زين الفقيه حديث يستضيء به ... عند الحجاج وإلا كان في ظلم
إن تاه ذو مذهب في قفر مشكلة ... لاح الحديث له في الوقت كالعلم (2)
وقال أيضا:
_________
(1) السير (19/ 127).
(2) الإلماع (ص.40).(6/366)
الناس نبت، وأرباب العلوم معا ... روض، وأهل الحديث الماء والزهر
من كان قول رسول الله حاكمه ... فلا شهود له إلا الأولى ذكروا (1)
موقف السلف من أبي يوسف القزويني المعتزلي (488 هـ)
بيان اعتزاله:
من تآليفه التي بث فيها اعتزاله:
قال السمعاني: كان أحد الفضلاء المقدمين، جمع 'التفسير' الكبير الذي لم ير في التفاسير أكبر منه، ولا أجمع للفوائد، لولا أنه مزجه بالاعتزال، وبث فيه معتقده، ولم يتبع نهج السلف. أقام بمصر سنين، وحصل أحمالا من الكتب، وحملها إلى بغداد وكان داعية إلى الاعتزال. وقال ابن عساكر: سكن طرابلس مدة. سمعت الحسين بن محمد البلخي يقول: إن أبا يوسف صنف 'التفسير' في ثلاث مئة مجلد ونيف. وقال: من قرأه علي وهبت له النسخة. فلم يقرأه أحد. (2)
قال ابن عقيل في 'فنونه': قدم علينا من مصر القاضي أبو يوسف القزويني، وكان يفتخر بالاعتزال، ويتوسع في قدح العلماء، وله جرأة، وكان إذا قصد باب نظام الملك، يقول: استأذنوا لأبي يوسف المعتزلي. وكان طويل اللسان بعلم تارة، وبسفه تارة، لم يكن محققا إلا في التفسير، فإنه لهج بذلك
_________
(1) المصدر نفسه.
(2) السير (18/ 617).(6/367)
حتى جمع كتابا بلغ خمس مئة مجلد، فيه العجائب، رأيت منه مجلدة في آية واحدة، وهي: {واتبعوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} (1) فذكر السحر والملوك الذين نفق عليهم السحر، وتأثيراته وأنواعه. (2)
نصره لمذهب الاعتزال وبغضه السلف:
قال أبو علي بن سكرة: أبو يوسف كان معتزليا داعية يقول: لم يبق من ينصر هذا المذهب غيري، وكان قد أسن، وكاد أن يخفى في مجلسه، وله لسان شاب، ذكر لي أن 'تفسيره' ثلاث مئة مجلد، منها سبعة في سورة الفاتحة. وكان عنده جزء من حديث أبي حاتم الرازي، عن الأنصاري، فقرأت عليه بعضه، عن القاضي عبد الجبار، عن رجل عنه، قرأته لولدي شيخنا ابن سوار المقرئ، وقرأت لهما جزءا من حديث المحاملي، وسمعه في سنة تسع وتسعين وثلاث مئة وهو ابن أربع سنين أو نحوها. وكان لا يسالم أحدا من السلف، ويقول لنا: اخرجوا تدخل الملائكة. (3)
أبو المظفر منصور بن محمد السَّمْعاني (4) (489 هـ)
إمام عصره بلا مدافعة، وعديم النظير في فنه بلا منازعة، مفتي خراسان،
_________
(1) البقرة الآية (102).
(2) السير (18/ 618).
(3) السير (18/ 619 - 620).
(4) السير (19/ 114 - 119) والأنساب (7/ 139 - 140) والمنتظم (17/ 37 - 38) ووفيات الأعيان (3/ 211) والبداية والنهاية (12/ 164) وشذرات الذهب (3/ 393 - 394).(6/368)
شيخ الشافعية، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي، السمعاني، المروزي. ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة. سمع بمرو أباه، وأبا غانم أحمد ابن علي الكراعي، وأبا بكر محمد بن عبد الصمد الترابي وآخرين. وعنه أولاده، وعمر بن محمد السرخسي، ومحمد بن أبي بكر السنجي وأبو نصر الغازي وغيرهم.
قال عبد الغافر في تاريخه: هو وحيد عصره في وقته فضلا، وطريقة، وزهدا وورعا، من بيت العلم والزهد، تفقه بأبيه، وصار من فحول أهل النظر، وأخذ يطالع كتب الحديث، وحج ورجع، وترك طريقته التي ناظر عليها ثلاثين سنة، وتحول شافعيا. له تصانيف عديدة، وكان شوكا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة. وكان مناظرا فقيها. قال الإمام أبو علي بن الصفار: إذا ناظرت أبا المظفر، فكأني أناظر رجلا من أئمة التابعين، مما أرى عليه من آثار الصالحين. وقال حفيده في الأنساب: لا أقدر أن أصف بعض مناقبه، ومن طالع تصانيفه وأنصف، عرف محله من العلم.
توفي رحمه الله في ربيع الأول سنة تسع وثمانين بعد الأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام ممن شاع صيته وبارك الله له في العمر وجعل من نسله العلماء، ألف تراثا عظيما سلفيا، يقول الذهبي عنه: تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة وكان شوكا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة. (1)
آثاره السلفية:
_________
(1) السير (19/ 116).(6/369)
1 - 'الانتصار لأهل الحديث'، ذكره حفيده في الأنساب (1) والذهبي في السير (2) وذكره السيوطي في صون المنطق ولخصه (3) وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (4) وابن الجوزي في المنتظم. (5)
2 - 'التفسير'، مطبوع متداول وذكره حفيده في الأنساب (6). وقد نحا فيه نحو السلف.
3 - 'منهاج أهل السنة'، ذكره حفيده في الأنساب. (7)
4 - 'تقويم الأدلة'، ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة (8) وقال: نقل فيه الإجماع من علماء السنة أن أبا بكر أعلم من علي.
وله من المواقف الطيبة والكلام البليغ الذي مَن قرأه عرف قيمة الرجل العلمية والسلفية منها على سبيل المثال ما ذكره في كتابه 'الانتصار لأهل الحديث':
قال السيوطي: قال في كتابه 'الانتصار لأهل الحديث': قد لهج بذم أصحاب الحديث صنفان: أهل الكلام، وأهل الرأي. فهم في كل وقت يقصدونهم بالثلب والعيب وينسبونهم إلى الجهل وقلة العلم، واتباع السواد
_________
(1) (3/ 299).
(2) (19/ 117).
(3) (147 - 183).
(4) (1/ 173).
(5) (17/ 38).
(6) (3/ 299).
(7) (3/ 299).
(8) (7/ 502).(6/370)
على البياض، وقالوا غثاء وغثر، وزوامل أسفار، وقالوا أقاصيص وحكايات وأخبار، وربما قرأوا {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (1). وفي الحقيقة: ما ثلموا إلا دينهم ولا سعوا إلا في هلاك أنفسهم، وما للأساكفة وصوغ الحلي وصناعة البز، وما للحدادين وتقليب العطر والنظر في الجواهر. أما يكفيهم صدأ الحديد، ونفخ في الكير وشواظ الذيل والوجه وغبرة في الحدقة، وما لأهل الكلام ونقد حملة الأخبار، وما أحسن قول من قال:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
ينيلك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
لكن الحق عزيز، وكل مع عزته يدعيه. ودعواهم الحق تحجبهم عن مراجعة الحق. نعم إن على الباطل ظلمة وإن على الحق نورا، ولا يبصر نور الحق إلا من حشى قلبه بالنور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} (2) فالمتخبط في ظلمات الهوى والمتردي في مهاوي الهلكة، والمتعسف في المقال لا يوفق للعود إلى الحق، ولا يرشد إلى طريق الهدى ليظهر وعورة مسلكه وعز جانبه، وتأبيه إلا على أهله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} (3).
- ثم قال (باب الحث على السنة، والجماعة، والاتباع، وكراهة التفرق
_________
(1) الجمعة الآية (5).
(2) النور الآية (40).
(3) الأنعام الآية (108).(6/371)
والابتداع): اعلم أن الله تعالى أمر خلقه بلزوم الجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وندبهم إلى الاتباع، وحثهم عليه، وذم الابتداع، وأوعدهم عليه، وذلك بين في كتابه وسنة رسوله، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) وقال: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (2). وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (3) وأمر تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في آيات من كتابه. وقد وردت الأحاديث حاثة على لزوم سنته واجتناب كل بدعة. (4)
- ثم قال: فهؤلاء الأئمة هم المرجوع إليهم في أمر الدين وبيان الشرع ومن سلك طريقا في الاسلام بعدهم فإياهم يتبع وبهم يقتدى وموافقتهم تتحرى، فلا يجوز لمسلم أن يظن بهم ظن السوء وإنهم قالوا ذلك عن جهل وقلة علم وخبرة في الدين وما هذا إلا من الغل الذي أمر الله بالاستعاذة منه فقال: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} (5) فتبين لنا أن الطريق عند
_________
(1) آل عمران الآية (103).
(2) الشورى الآية (13).
(3) الأنعام الآية (153).
(4) صون المنطق (ص.147 - 149).
(5) الحشر الآية (10).(6/372)
الأئمة الهادية اتباع السلف والاقتداء بهم دون الرجوع إلى الآراء. (1)
- ثم قال: واعلم أنك متى تدبرت سيرة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح وجدتهم ينهون عن جدال أهل البدعة بأبلغ النهي، ولا يرون رد كلامهم بدلائل العقل، وإنما كانوا إذا سمعوا بواحد من أهل البدعة أظهروا التبري منه، ونهوا الناس عن مجالسته ومحاورته والكلام معه، وربما نهوا عن النظر إليه. وقد قالوا: إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخر. ولقد ظهرت هذه الأهواء الأربع التي هي رأس الأهواء، أعني القدر والإرجاء، ورأي الحرورية والرافضة في آخر زمان الصحابة. فكان إذا بلغهم أمرهم أمروا بما ذكرنا ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه جادلهم بدلائل العقل، أو أمر بذلك، وقد كانوا إلى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرب. وقد شاهدوا الوحي والتنزيل وعدلهم الله في القرآن، وشهد لهم بالصدق وشهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية في الدين. وكانت طاعتهم أجل، وقلوبهم أسلم، وصدورهم أطهر، وعلمهم أوفر، وكانوا من الهوى والبدع أبعد. ولو كان طريق الرد على المبتدعة هو الكلام ودلائل العقل والجدال معهم لاشتغلوا به وأمروا بذلك وندبوا إليه، وإنما ظهرت المجادلات في الدين والخصومات بعد مضي قرن التابعين ومن يليهم، حين ظهر الكذب، وفشت شهادات الزور، وشاع الجهل، واندرس أمر السنة بعض الاندراس، وأتى على الناس زمان حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده. ولقد صدق إبراهيم النخعي حيث يقول: إن القوم لم يؤخر عنهم شيء خبي لكم لفضل عندكم، وإنما كان غايتهم
_________
(1) صون المنطق (ص.151).(6/373)
التبري، وإظهار المجانبة، والأمر بالتباعد، والمشهور عن ابن عمر أنه لما بلغه قول أهل القدر قال: أبلغوهم أنى منهم بريء، ولو وجدت أعوانا لجاهدتهم، وقال ابن عباس: لو رأيت بعضهم لضربت رأسه. وأتى رجل علي بن أبي طالب، فقال: أخبرني عن القدر، قال طريق مظلم فلا تسلكه، قال أخبرني عن القدر. قال بحر عميق فلا تلجه.
قال أخبرني عن القدر، قال سر الله فلا تكلفه، وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: يستتاب القدري، فإن تاب وإلا نفي من بلاد المسلمين. وقال عمر بن عبد العزيز: ينبغي أن نتقدم إليهم فيما أحدثوا من القدر، فإن كفوا وإلا استلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالا. فهذا طريق القوم في أمر البدع وأهلها. قال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: يا أبا بكر أسألك عن كلمة، فولى وهو يقول ولا نصف كلمة. وقال ابن طاووس لابن له، وتكلم رجل من أهل البدع: يا بني أدخل أصبعيك في أذنيك، ثم قال اشدد اشدد، وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات، أكثر التنقل. وقال رجل للحكم بن عتيبة: ما حمل أهل الأهواء على هواهم؟ قال الخصومات. وقال معاوية بن قرة -وكان أبوه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال. وقال أبو قلابة وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات، ولا تكلموهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون. ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث. قال: لا. قالا نقرأ عليك آية من كتاب الله. قال لا لتقومان أو لأقومن.(6/374)
وكانوا يقولون إن القلب ضعيف، وإنا نخاف إن استمعت منهم شيئا أن يميل قلبك إلى قولهم. وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: اعلموا أن اتباع الكتاب والسنة أسلم، والخوض في أمر الدين بالمنازعة والرد حرام. والاجتناب عنه سلامة. وأرجو أن يجوز القياس على الأصل الثابت من العالم الفطن المتيقظ. ولا تكاد تجد شيئا من تأويل الكتاب مخالفا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صحت الرواية، وعامة تاركي العلم والسنة وأصحاب الأهواء والرأي والمقاييس لثقل السنة عليهم ولا أعرف حديثين يخالف أحدهما الآخر، ولكل ما روي من الأحاديث المختلفة معان يعلمها أهل العلم بها.
فهذا الذي نقلناه طريقة السلف وما كانوا عليه. واعلم أن الأئمة الماضين وأولي العلم من المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه، ولا انقطاعا دونه. وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة. وقد كانت هذه الفتن قد وقعت في زمانهم، وظهرت. وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وعلموه من سوء عاقبتها وسيء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمورهم وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله بنوره، وشرح صدورهم بضياء معرفته، فرأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة مما سواها، وأن الحجة قد وقعت وتمت بهما، وأن العلة والشبهة قد أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، والطاعنون في الدين بجدلهم، حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ودلائل العقل، لم يقووا عليهم،(6/375)
ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي، وخدعة من الشيطان. فلو سلكوا سبيل القصد، ووقفوا عند ما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين، وروح القلوب، ولكثرت البركة، وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، وأضاءت فيها مصابيح النور، وإنما وقعوا فيما وقعوا فيه عند أهل الحق بعد ما تدبروا. وظهر لهم بتوفيق الله سبب ذلك، وهو أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه زيادة فهم، وفضل ذكاء وذهن يوهمه أنه إن رضي في عمله ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها، كان أسوة العامة، وعد واحدا من الجمهور والكافة. وأنه قد ضل فهمه، واضمحل عقله وذهنه، فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر، ليمتازوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتبينوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء.
فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا عن حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفا نفس ولا قبلوه بيقين علم. ولما رأوا كتاب الله ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليه بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض، وتأولوها على ما يسنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم. ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسنته المأثورة عنه، وردوها على وجوهها. وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بمعاني ما يرونه من الحديث. ولو أنهم أحسنوا الظن بسلفهم، وآثروا متابعتهم، وسلموا حيث سلموا، وطلبوا المعاني حيث طلبوا،(6/376)
واجتهدوا في رد الهوى وخداع الشيطان لانشرحت صدورهم، وظهر لهم من برد اليقين وروح المعرفة، وضياء التسليم ما ظهر لسلفهم، وبرز لهم من أعلام الحق ما كان مكشوفا لهم غير أن الحق عزيز، والدين غريب والزمان مفتن {ومن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} (1).اهـ (2)
ثم قال: والذي يزيد ما قلناه إيضاحا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الفرقة الناجية. قال: «ما أنا عليه وأصحابي» (3)، بمعنى من كان على ما أنا عليه وأصحابي، فلا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وليس طريق معرفتنا إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنازعوا الأمر أهله» (4) فكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء، الذين صاروا قدوة في هذه الأمة إلى أهل الفقه، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، ويرجع في معرفة النحو إلى أهل النحو، فكذلك يجب أن يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى أهل النقل والرواية، لأنهم عنوا بهذا الشأن، واشتغلوا بحفظه والتفحص عنه ونقله، ولولاهم لاندرس علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقف أحد على سنته وطريقته. فإن قال قائل: إن أهل الفقه مجمعون على قول الفقهاء وطريق كل واحد منهم في الفروع. وأهل النحو مجمعون على طريق البصريين والكوفيين في النحو وكذلك أهل الكلام مجمعون على
_________
(1) النور الآية (40).
(2) صون المنطق (153 - 157).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ).
(4) الطبراني (18/ 247 - 248/ 621) والطحاوي في المشكل (3/ 221 - 222/ 1185) والحاكم (1/ 96) من حديث العرباض بن سارية وقال: "صحيح على شرطهما، ولا أعرف له علة" ووافقه الذهبي.(6/377)
طريق كل واحد منهم: من متقدميهم وسلفهم. فأما ما يرجع إلى العقائد فلم يجتمع أهل الإسلام على ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وأصحابه، بل كل فريق يدعي دينه وينتسب إلى ملته ويقول نحن الذين تمسكنا بملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعنا طريقته، ومن كان على غير ما نحن عليه، فهو مبتدع صاحب هوى، فلم يجز اعتبار الذي تنازعنا فيه بما قلتم.
الجواب: أن كل فريق من المبتدعة إنما يدعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم كلهم يدعون شريعة الإسلام، ملتزمون في الظاهر شعائرها، يرون أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك، وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأن الحق الذي قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يعتقده وينتحله، غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة، إلا مع أهل الحديث والآثار، لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف، وقرنا عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس من الدين المستقيم، والصراط القويم إلا هذا الطريق، الذي سلكه أصحاب الحديث، وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه، لأنهم رجعوا إلى معقولهم، وخواطرهم، وآرائهم. فطلبوا الدين من قبله، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة، والمعاني المستنكرة،(6/378)
فحادوا عن الحق، وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم، وجعلوا السنة تحت أقدامهم، تعالى الله عما يصفون.
وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم وطلبوا الدين من قبلهما وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه، وشكروا الله عزوجل حيث أراهم ذلك ووقفهم عليه، وإن وجدوه مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل، وهذا معنى قول أبي سليمان الداراني، وهو واحد زمانه في المعرفة: ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منه شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتى بهما وإلا رددته في نحره (1). أو كلام هذا معناه، ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد لا ترى بينهم اختلافا ولا تفرقا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا. قال الله تعالى:
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف أبي سليمان الصوفي.(6/379)
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (1)، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (2)
وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين وشيعا وأحزابا لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضا، بل يترقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره. تراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} (3). أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين والبصريون منهم البغداديين ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم. إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
_________
(1) النساء الآية (82).
(2) آل عمران الآية (103) ..
(3) الحشر الآية (14).(6/380)
شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} (1) وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والايتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه. وأما دلائل العقل فقلما يتفق بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يرى الآخر وهذا بين والحمد لله. وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول فإنا وجدنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم من بعده واختلفوا في أحكام الدين، فلم يفترقوا ولم يصيروا شيعا.
لأنهم لم يفارقوا الدين ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة، مثل مسألة الحد والمشتركة وذوي الأرحام ومسألة الحرام وفي أمهات الأولاد، وغير ذلك مما يكثر تعداده من مسائل البيوع والنكاح والطلاق، وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة وهيآت الصلاة وسائر العبادات. فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين، وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة حيث أيدهم باليقين، ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة فكانوا مع هذا الاختلاف، أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام ولم ينقطع عنهم نظام الألفة. فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار ظهرت العداوة وتباينوا
_________
(1) الأنعام الآية (159).(6/381)
وصاروا أحزابا، فانقطعت الأخوة في الدين، وسقطت الألفة، فهذا يدل على أن هذا التباين والفرقة إنما حدثت من المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان فألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا ويرمي بعضهم بعضا بالكفر. فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس، فتفرقوا واختلفوا فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضا ولا تفرقا وبقيت بينهم الألفة والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال لا يوجب تبديعا ولا تكفيرا كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء الألفة والمودة، وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع، وربما ارتقى إلى التكفير علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها ويعرض عن الخوض فيها لأن الله شرط تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخوانا، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (1).
فإن قال قائل: إن الخوض في مسائل القدر، والصفات، وشرط الإيمان يورث التقاطع والتدابر والاختلاف فيجب طرحها والإعراض عنها على ما زعمتم.
الجواب: إنما قلنا هذا في المسائل المحدثة، فأما الإيمان في هذه المسائل من شرط أصل الدين، فلابد من قبولها على نحو ما ثبت فيه النقل عن رسول الله
_________
(1) آل عمران الآية (103).(6/382)
- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها لتفرق الناس في ذلك كما في أصل الإسلام والدعاء إلى التوحيد، وإظهار الشهادتين، وقد ظهر بما قدمنا، وذكرنا بحمد الله ومنه أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث، وأن الحق ما نقلوه ورووه، ومن تدبر ما كتبناه وأعطى من قلبه النصفة وأعرض عن هواه واستمع وأصغى بقلب حاضر، وكان مسترشدا مستهديا ولم يكن متعنتا وأمده الله بنور اليقين عرف صحة جميع ما قلناه ولم يخف عليه شيء من ذلك، والله الموفق {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} (1).اهـ (2)
موقفه من الرافضة:
جاء في المنهاج: وقد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم من علي، منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد أئمة الشافعية، وذكر في كتابه 'تقويم الأدلة' الإجماع من علماء السنة: أن أبا بكر أعلم من علي، كيف وأبو بكر كان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتي ويأمر وينهى ويخطب، كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وإياه- يدعو الناس إلى الإسلام، ولما هاجرا، ويوم حنين، وغير ذلك من المشاهد، وهو ساكت يقره، ولم تكن هذه المرتبة لغيره. (3)
موقفه من الجهمية:
_________
(1) الأنعام الآية (39).
(2) صون المنطق (165 - 170) والحجة في بيان المحجة (2/ 222 - 230).
(3) منهاج السنة (7/ 502).(6/383)
هذا الإمام ممن شاع صيته، وبارك الله له في العمر، وجعل من نسله العلماء، ألف تراثا عظيما سلفيا، يقول الذهبي عنه: تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة، وكان شوكا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة. (1)
وله من المواقف الطيبة والكلام البليغ الذي من قرأه عرف قيمة الرجل العلمية والسلفية، وعلى سبيل المثال، ما نقله الحافظ في الفتح من موقفه من الأشاعرة والمتكلمين عموما.
- جاء في فتح الباري: قال الحافظ عند قول البخاري: باب قول الله تعالى: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (2).
واستدل أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض، قالوا: فالجسم، ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما حمل العرض، والعرض: مالا يقوم بنفسه، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا الأخبار في خلق الروح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حدسهم وما يؤدي إليه نظرهم ثم يعرضون عليه النصوص، فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه، ثم ساق هذه الآيات ونظائرها من الأمر بالتبليغ، قال وكان مما أمر بتبليغه التوحيد بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئا من أمور الدين، أصوله وقواعده وشرائعه، إلا بلغه ثم لم
_________
(1) السير (19/ 116).
(2) المائدة الآية (67).(6/384)
يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه، فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاكتراث بمقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاما يوازنه أو يقاربه فكل بكل مقابل، وبعض ببعض معارض، وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنا إذا جرينا على ما قالوه، وألزمنا الناس بما ذكروه، لزم من ذلك تكفير العوام جميعا لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد، ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم، فضلا عن أن يصير منهم صاحب نظر، وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين، والعض عليها بالنواجذ والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك، فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه ولو قطعوا إربا إربا، فهنيئا لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة.
فإذا كفر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمة فما هذا إلا طي بساط الإسلام وهدم منار الدين والله المستعان. (1)
التعليق:
_________
(1) الفتح (13/ 507).(6/385)
هذا الكلام فيه البيان الكافي لمن يعقل عن الله وعن رسوله وعن السلف الصالح الذين يتكلمون من مشكاة النبوة. فأين الذين يتبجحون، ويقولون: إن ابن تيمية وابن القيم هما اللذان أحدثا هذه الطرق، التي اعتمد عليها السلفيون.
فهذا الإمام بعيد عن الشيخين بعد الثرى من الثريا، فهما -كما يزعمون- حنابلة وهذا الإمام شافعي، وهما عاشا في القرن الثامن، وهو عاش في القرن الخامس، وكلامه رضي الله عنه في الإنكار على الأشاعرة والمتكلمين، ربما كان أشد في اللهجة من كلام الشيخين، وإن كانت طريقة الشيخين أكثر تفصيلا، ولكن هذه شذرة من شجرة هذا الإمام فمن رجع إلى كتابه: الانتصار لأهل الحديث، الذي لخصه السيوطي في 'صون المنطق' لرأى كلام الرجل السلفي بحق، وهذا الكتاب أحد تراث الشيخ السلفي.
- قال الحافظ في الفتح: وقال أبو المظفر بن السمعاني: تعقب بعض أهل الكلام قول من قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد، بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث، وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل، وأجاب: أما أولا فإن الشارع والسلف الصالح نهوا عن الابتداع وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف(6/386)
أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب ... (1)
- وقال الحافظ أيضا: وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضا ما ملخصه: إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم، ما وجب على أحد شيء، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (2) وقوله: {لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (3) وغير ذلك من الآيات. فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالا، ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب والأحاديث الصحيحة التي تواترت ولو بالطريق المعنوي، ولو كان كما يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فان عقلناه فبتوفيق الله، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيقته على وفق مراد الله سبحانه وتعالى. انتهى. (4)
- وجاء في كتاب الحجة للأصبهاني عن أبي المظفر أنه قال: واعلم: أن
_________
(1) الفتح (13/ 352).
(2) الإسراء الآية (15).
(3) النساء الآية (165).
(4) الفتح (13/ 353).(6/387)
فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول، وأما أهل السنة، قالوا: الأصل في الدين الاتباع والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئا حتى يعقلوا. ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله، وما تعبد الناس به من اعتقاده، وكذلك ما ظهر بين المسلمين، وتداولوه بينهم، ونقلوه عن سلفهم، إلى أن أسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذكر عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والحوض، والميزان، والصراط، وصفات الجنة، وصفات النار وتخليد الفريقين فيهما، أمور لا ندرك حقائقها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين، وعقلناه، وفهمناه، فلله الحمد في ذلك والشكر، ومنه التوفيق، وما لم يمكنا إدراكه وفهمه ولم تبلغه عقولنا آمنا به، وصدقنا، واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته، واكتفينا في ذلك بعلمه ومشيئته، وقال الله تعالى في مثل هذا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (1). وقال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (2)
ثم نقول لهذا القائل الذي يقول: بني ديننا على العقل، وأمرنا باتباعه: أخبرنا إذا أتاك
_________
(1) الإسراء الآية (85).
(2) البقرة الآية (255) ..(6/388)
أمر من الله يخالف عقلك فبأيهما تأخذ؟ بالذي تعقل، أو بالذي تؤمر؟ فإن قال: بالذي أعقل، فقد أخطأ، وترك سبيل الإسلام وإن قال: آخذ بالذي جاء من عند الله، فقد ترك قوله: وإنما علينا أن نقبل ما عقلناه إيمانا وتصديقا، وما لم نعقله قبلناه استسلاما وتسليما، وهذا معنى قول القائل من أهل السنة: إن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم. فنسأل الله التوفيق فيه، والثبات عليه، وأن يتوفانا على ملة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمنه وفضله. (1)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله في تفسيره: والإيمان في الشريعة يشتمل على الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. (2)
- وقال أيضا: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (3) أي: صلاتكم فجعل الصلاة إيمانا، وهذا دليل على المرجئة، حيث لم يجعلوا الصلاة من الإيمان، وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان. (4)
موقفه من القدرية:
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (1/ 320 - 322).
(2) تفسير القرآن (1/ 43).
(3) البقرة الآية (143).
(4) تفسير القرآن (1/ 150).(6/389)
آثاره السلفية:
'الرد على القدرية': ذكره حفيده في الأنساب (1) والذهبي في السير. (2)
- قال أبو القاسم الأصبهاني في كتابه 'الحجة': قال أبو المظفر السمعاني: قد ذكرنا أن سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من قبل الكتاب والسنة، دون محض القياس، ومجرد المعقول فمن عدل عن التوقيف في هذا الباب، ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا وصل إلى ما يطمئن به القلب. وذلك لأن القدر سر من سر الله وعلم من علمه. ضربت دونه الأستار، وكفت عليه الأزرار، واختص الله به علام الغيوب، حجبه عن عقول البشر ومعارفهم، لما علم من الحكمة. وسبيلنا أن ننتهي إلى ما حد لنا فيه، وأن لا نتجاوز إلى ما وراءه. فالبحث عنه تكلف، والاقتحام فيه تعمق وتهور.
قال: وجماع هذا الباب أن يعلم أن الله تعالى طوى عن العالم علم ما قضاه وقدره على عباده، فلم يطلع عليه نبيا مرسلا، ولا ملكا مقربا، لأنه خلقهم ليتعبدهم، ويمتحنهم. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (3). وقد نقلنا عن علي رضي الله عنه: أنه خلقهم ليأمرهم بالعبادة.
فلو كشف لهم عن سر ما قضى وقدر لهم وعليهم في عواقب أمورهم لافتتنوا، وفتروا عن العمل، واتكلوا على مصير الأمر في العاقبة فيكون
_________
(1) (3/ 299).
(2) (19/ 117).
(3) الذاريات الآية (56).(6/390)
قصاراهم عند ذلك أمن أو قنوط. وفي ذلك بطلان العبادة وسقوط الخوف والرجاء. فلطف الله سبحانه بعباده وحجب عنهم علم القضاء والقدر، وعلقهم بين الخوف والرجاء، والطمع والوجل: ليبلو سعيهم واجتهادهم، وليميز الله الخبيث من الطيب، ولله الحجة البالغة. (1)
نصر بن إبراهيم (2) (490 هـ)
نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود المقدسي أبو الفتح شيخ الإسلام العلامة القدوة الفقيه المحدث صاحب التصانيف والأمالي ولد قبل سنة عشر وأربعمائة، وارتحل إلى دمشق قبل الثلاثين فسمع صحيح البخاري من أبي الحسن بن السمسار صاحب الفقيه أبي زيد المروزي وسمع من عبد الرحمن بن الطبيز وأبي الحسن محمد بن عوف المزني، وابن سلوان وطبقتهم. حدث عنه الخطيب وهو من شيوخه ومكي الرميلي ومحمد بن طاهر وخلق كثير.
وكان فقيها إماما زاهدا عاملا لم يقبل صلة من أحد بدمشق. حكى ناصر النجار وكان يخدمه من زهده وتقلله وتركه الشهوات أشياء عجيبة. قال نصر: درست على الفقيه سليم الرازي من سنة سبع وثلاثين وأربعمائة إلى سنة أربعين ما فاتني منها درس ولا وجعت إلا يوما واحدا وعوفيت. وجرى على منهاج السلف من التقشف، وتجنب السلاطين ورفض الطمع،
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 30 - 31).
(2) السير (19/ 136 - 143) وشذرات الذهب (3/ 395 - 396) تهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 125 - 126).(6/391)
والاجتزاء باليسير مما يصل إليه من غلة أرض له كانت بنابلس، وكانت أوقاته كلها مستغرقة في عمل الخير إما في نشر علم وإما في صلاح عمل. توفي في المحرم سنة تسعين وأربعمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في الاعتصام: قال ابن العربي: وقد كان قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى: إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة، فشكا إليه فساد الخلق، وأن هذا لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر، فقال نصر: هل لخروجه ميقات أم لا؟ قال الشيعي: نعم. قال له أبو الفتح: ومعلوم هو أو مجهول؟ قال: معلوم. قال نصر: ومتى يكون؟ قال: إذا فسد الخلق. قال أبو الفتح: فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم، فلو فسدتم؛ لخرج، فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا، فبهت. (1)
موقفه من الجهمية:
قال شيخ الإسلام في الدرء: وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي الشيخ المشهور في كتاب 'الحجة' له: إن قال قائل: قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة، فاذكر مذاهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم، وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم. فالجواب: أن الذي
_________
(1) الاعتصام (1/ 205).(6/392)
أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم، ومن بلغني قوله من غيرهم ... فذكر جمل اعتقاد أهل السنة وفيه: أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، كما قال في كتابه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (1)، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} (2).اهـ (3)
له من الآثار السلفية:
'الحجة على تارك المحجة': ذُكِرَ في السير (4) وشذرات الذهب (5) ودرء التعارض (6) وهدية العارفين. (7)
وهو كتاب مفقود تتبعت الكثير من الفهارس ولم أجد له خبرا. فلعل الله ييسر وجوده فيما بعد إن كان له وجود. وله مختصر في مخطوطات الجامعة الإسلامية، وقد سجل رسالة علمية وهو تحت التحقيق بإشراف الشيخ الفاضل عبد المحسن بن حمد العباد.
ابن جَزْلَة (8) (493 هـ)
_________
(1) الطلاق الآية (12).
(2) الجن الآية (28).
(3) درء التعارض (6/ 251).
(4) (19/ 137).
(5) (3/ 396).
(6) (6/ 251).
(7) (2/ 490).
(8) السير (19/ 188) ووفيات الأعيان (6/ 267 - 268) والبداية والنهاية (12/ 170) والمنتظم (17/ 61) والنجوم الزاهرة (5/ 166) والكامل في التاريخ (10/ 302).(6/393)
يحيى بن عيسى بن جزلة أبو علي البغدادي إمام الطب كان نصرانيا فأسلم في كهولته على يد قاضي القضاة الدامغاني وقيل على أبي علي بن الوليد المعتزلي، وحسن إسلامه، وصنف يرد على النصارى. ثم كان يطبب الناس بعد ذلك بلا أجر وربما ركب لهم الأدوية من ماله تبرعا، وكان يتفقد الفقراء ويحسن إليهم، ووقف كتبه قبل وفاته.
وتوفي في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
قال ابن خلكان: وصنف رسالة في الرد على النصارى وبيان عوار مذاهبهم، ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق، وذكر فيها ما قرأه في التوراة والإنجيل من ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه نبي مبعوث وأن اليهود والنصارى أخفوا ذلك ولم يظهروه، ثم ذكر فيها معايب اليهود والنصارى. وهي رسالة حسنة أجاد فيها. (1)
حوادث أربع وتسعين وأربعمائة (494 هـ)
وقال ابن كثير في حوادث سنة أربع وتسعين وأربعمائة: عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية فقتل السلطان منهم خلقا كثيرا، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودي فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها في
_________
(1) وفيات الأعيان (6/ 267).(6/394)
سنة ثلاث وثمانين، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها، ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيا جاهلا، لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز، حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال، أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول له فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التف عليه بشر كثير، وجم غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك، وبعث إليه بفتاوى العلماء، فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولا إلى مولاه، فاشرأبت وجوه الحاضرين، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك، فأخرج سكينا فضرب بها غلصمته فسقط ميتا، وقال لآخر منهم: ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع. ثم قال لرسول السلطان. هذا الجواب. فمنها امتنع السلطان من مراسلته. (1)
محمد بن الفرج الطَّلاَعِي (2) (497 هـ)
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 170 - 171).
(2) السير (19/ 199 - 202) وشذرات الذهب (3/ 407) وشجرة النور الزكية (1/ 123).(6/395)
الشيخ الإمام القدوة أبو عبد الله محمد بن الفرج القرطبي المالكي. ولد سنة أربع وأربعمائة. حدث عن يونس بن عبد الله القاضي، ومكي بن أبي طالب، وأبي عبد الله بن عابد. وروى عنه أبو جعفر البطروجي، ومحمد بن عبد الخالق الخزرجي، ومحمد بن عبد الله بن خليل. وكان رأسا في العلم والعمل قوالا بالحق رحل الناس إليه من الأقطار لسماع الموطأ والمدونة لعلوه في ذلك. قال عنه الذهبي: كان ذا دين وخير وفضل، وطول صلاة، قوالا للحق وإن أوذي لا تأخذه في الله لومة لائم، معظما عند الخاصة والعامة. قال ابن بشكوال: هو بقية الشيوخ الأكابر في وقته، وزعيم المفتين بحضرته. توفي سنة سبع وتسعين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: قال القاضي عياض: كان صالحا، قوالا للحق، شديدا على المبتدعة.
وفيها: وكان شديدا على أهل البدع، مجانبا لمن يخوض في غير الحديث. (1)
السلطان بركياروق (2) (498 هـ)
بركياروق السلطان ركن الدين بن ملكشاه أبو المظفر، أحد الملوك
_________
(1) السير (19/ 200).
(2) المنتظم (17/ 93) والسير (19/ 195 - 196) والبداية والنهاية (12/ 175 - 176) وشذرات الذهب (3/ 407 - 408) والوافي بالوفيات (10/ 121 - 122) والنجوم الزاهرة (5/ 191).(6/396)
السلجوقية، ولي بعد موت أبيه وهو حدث، له ثلاث عشرة سنة. وكان شابا شهما شجاعا فيه كرم وحلم، لم يكن فيه عيب سوى ملازمته للشراب والإدمان عليه. مات ببروجرد في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
موقفه من المشركين:
قال ابن الأثير: وفي هذه السنة -أي سنة أربع وتسعين وأربعمائة- أمر السلطان بركياروق بقتل الباطنية، وهم الإسماعيلية، وهم الذين كانوا قديما يسمون القرامطة. (1)
جاء في المنتظم: قتل السلطان بركيارق خلقا من الباطنية ممن تحقق مذهبه. ومن اتهم به، فبلغت عدتهم ثمانمائة ونيفا، ووقع التتبع لأموال من قتل منهم، فوجد لأحدهم سبعون بيتا من الزوالي المحفور، وكتب بذلك كتاب إلى الخليفة، فتقدم بالقبض على قوم يظن فيهم ذلك المذهب، ولم يتجاسر أحد أن يشفع في أحد لئلا يظن ميله إلى ذلك المذهب، وزاد تتبع العوام لكل من أرادوا، وصار كل من في نفسه شيء من إنسان يرميه بهذا المذهب، فيقصد وينهب حتى حسم هذا الأمر فانحسم، وأول ماعرف من أحوال الباطنية في أيام ملك شاه جلال الدولة، فإنهم اجتمعوا فصلوا صلاة العيد في ساوة، ففطن بهم الشحنة، فأخذهم وحبسهم، ثم أطلقهم، ثم اغتالوا مؤذنا من أهل ساوة، فاجتهدوا أن يدخل معهم فلم يفعل، فخافوا أن ينم عليهم فاغتالوه فقتلوه، فبلغ الخبر إلى نظام الملك، وتقدم بأخذ من يتهم بقتله فقتل
_________
(1) الكامل (10/ 313)(6/397)
المتهم، وكان نجارا، فكانت أول فتكة لهم قتل نظام الملك وكانوا يقولون: قتلتم منا نجارا، وقتلنا به نظام الملك، فاستفحل أمرهم بأصبهان لما مات ملك شاه، فآل الأمر إلى أنهم كانوا يسرقون الإنسان فيقتلونه ويلقونه في البئر، فكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله يئسوا منه، وفتش الناس المواضع، فوجدوا امرأة في دار الأزج فوق حصير، فأزالوها تحت الحصير أربعين قتيلا، فقتلوا المرأة، وأخربوا الدار والمحلة، وكان يجلس رجل ضرير على باب الزقاق الذي فيه الدار، فإذا مر به إنسان سأله أن يقوده خطوات إلى الزقاق، فإذا حصل هناك جذبه من في الدار، واستولوا عليه، فجد المسلمون في طلبهم بأصبهان، وقتلوا منهم خلقا كثير. (1)
يوسف بن تاشفين (2) (500 هـ)
يوسف بن تاشفين أبو يعقوب اللمتوني أمير المسلمين الملثم البربري، بنى مراكش وصيرها دار ملكه، قال ابن الأثير: وكان حسن السيرة خيرا، عادلا يميل إلى أهل الدين والعلم، ويكرمهم ويصدر عن رأيهم وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام. قال ابن خلكان: وكان حازما سائسا للأمور، ضابطا لمصالح مملكته مؤثرا لأهل العلم والدين، كثير المشورة لهم. وكان رجلا شجاعا مقداما، استقدمه ملوك الأندلس لغزو الفرنج فعبر البحر
_________
(1) المنتظم (17/ 62 - 63).
(2) السير (19/ 252 - 254) والكامل في التاريخ (10/ 417 - 418) ووفيات الأعيان (7/ 112 - 130) والعبر (2/ 39) والنجوم الزاهرة (5/ 195) وشذرات الذهب (3/ 412 - 413).(6/398)
وكانوا قد جاءوا بجيوش كثيرة فسحقهم ثم تملك الأندلس بعد ذلك فجمع الفقهاء وأحسن إليهم فقالوا له: ينبغي أن تكون ولايتك من الخليفة لتجب طاعتك على الكافة فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يخبره بما فتح من بلاد الفرنج ويطلب تقليدا بولاية البلاد فكتب له تقليدا من ديوان الخلافة بما أراد ولقب أمير المسلمين وبقي على ملكه إلى سنة خمسمائة فتوفي وملك بعده البلاد ولده علي بن يوسف.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: قال ابن خلكان: كان الأذفونش قد قوي أمره، وكانت الملوك بالأندلس يصالحونه، ويحملون إليه ضرائب، وأخذ طليطلة في سنة ثمان وسبعين بعد حصار شديد، من القادر بن ذي النون، فكان ذلك أول وهن دخل من الفرنج على المسلمين، وكان المعتمد يؤدي إليه، فلما تمكن لم يقبل الضريبة، وتهدده، وطلب منه أن يسلم حصونا، فضرب الرسول، وقتل من معه، فتحرك اللعين، واجتمع العلماء، واتفقوا على أن يكاتبوا الأمير أبا يعقوب بن تاشفين صاحب مراكش لينجدهم، فعبر ابن تاشفين بجيوشه إلى الجزيرة، ثم اجتمع بالمعتمد، وأقبلت المطوعة من النواحي وركب الأذفونش في أربعين ألف فارس، وكتب إلى ابن تاشفين يتهدده، فكتب في ظهر كتابه: "الذي يكون ستراه" ثم التقى الجمعان، واصطدم الجبلان بالزلاقة من أرض بطليوس، فانهزم الكلب، واستؤصل جمعه، وقل من نجا، في رمضان سنة تسع وسبعين، وجرح المعتمد في بدنه ووجهه، وشهد له بالشجاعة والإقدام،(6/399)
وغنم المسلمون ما لا يوصف ... (1)
السَّرَّاج (2) (500 هـ)
الشيخ الإمام أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسن البغدادي، السراج القارئ. ولد سنة ست عشرة وأربعمائة. سمع أبا علي بن شاذان وأبا محمد الخلال والحافظ أبا نصر عبيد الله السجزي وأبا بكر الخطيب، وعدة. وحدث عنه ابنه ثعلب ومحمد بن ناصر وأبو طاهر السلفي وإسماعيل بن السمرقندي وعبد الوهاب الأنماطي.
قال السلفي: كان ممن يفتخر برؤيته ورواياته لديانته ودرايته. وقال ابن ناصر: كان ثقة مأمونا، عالما فهما صالحا. وقال أبو بكر ابن العربي: ثقة، عالم مقرئ، له أدب ظاهر واختصاص بالخطب. وقال أبو علي الصدفي: هو شيخ فاضل، جميل وسيم، مشهور يفهم، عنده لغة وقراءات، وكان الغالب عليه الشعر.
توفي رحمه الله في صفر سنة خمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
من شعره قوله:
قتل الذين بجهلهم ... أضحوا يعيبون المحابر
_________
(1) السير (19/ 61 - 62).
(2) المنتظم (17/ 102 - 103) والسير (19/ 228 - 231) وتاريخ الإسلام (حوادث 491 - 500/ص.315) والوافي بالوفيات (11/ 92 - 93) والبداية والنهاية (12/ 179 - 180).(6/400)
والحاملين لها من الـ ... أيدي بمجتمع الأساور
لولا المحابر والمقا ... لم والصحائف والدفاتر
والحافظون شريعة الـ ... والناقلون حديثه عن ... لرأيت من بشع الضلا ... ـمبعوث من خير العشائر
كل يقول بجهله ... كابر ثبت وكابر ... ل عساكرا تتلو عساكر
سميتهم أهل الحديث ... والله للمظلوم ناصر
هم حشو جنات النعيم ... أولي النهي وأولي البصائر
رفقاء أحمد كلهم ... على الأسرة والمنابر
عن حوضه ريان صادر (1)
موقف السلف من أحمد بن غطاش الباطني (500 هـ)
بيان زندقته:
جاء في السير: طاغية الإسماعيلية، هو الرئيس أحمد بن عبد الملك بن غطاش العجمي.
كان أبوه من كبار دعاة الباطنية، ومن أذكياء الأدباء، له بلاغة وسرعة جواب، استغوى جماعة، ثم هلك، وخلفه في الرياسة ابنه هذا، فكان جاهلا، لكنه شجاع مطاع، تجمع له أتباع، وتحيلوا، حتى ملكوا قلعة أصبهان التي
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 179 - 180).(6/401)
غرم عليها السلطان ملكشاه ألفي ألف دينار، وصاروا يقطعون السبل، والتف عليهم كل فاجر، ودام البلاء بهم عشر سنين، حتى نازلهم محمد بن ملكشاه أشهرا، فجاعوا، ونزل كثير منهم بالأمان، وعصى ابن غطاش في برج أياما، وجرت أمور طويلة، ثم أخذ وسلخ، وتأمر على الباطنية بعده ابن صباح، وكانوا بلاء على المسلمين، وقتلوا عددا من الأعيان بشغل السكين. (1)
وقال ابن الجوزي: كان هذا ابن عطاش في أول أمره طبيبا، فأخذ أبوه في أيام طغرلبك لأجل مذهبه، فأراد قتله فأظهر التوبة ومضى إلى الري، وصاحب أبا علي النيسابوري وهو متقدمهم هناك وصاهره وصنف رسالة في الدعاء إلى هذا المذهب سماها (العقيقة). ومات في سواد الري. (2)
الرُّويَانِي (3) (501 هـ)
القاضي، العلامة، أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني الطبري الشافعي. ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة. سمع أبا منصور محمد بن عبد الرحمن الطبري وشيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني وأبا نصر أحمد بن محمد البلخي وجده أبا العباس أحمد بن محمد الروياني وعدة. وحدث عنه أبو طاهر السلفي وإسماعيل بن محمد التيمي وأبو الفتوح الطائي. تفقه ببخارى
_________
(1) السير (19/ 267).
(2) المنتظم (17/ 102).
(3) المنتظم (17/ 113) والسير (19/ 260 - 262) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 277) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.62 - 63) والبداية والنهاية (12/ 182) وطبقات الشافعية لابن كثير (2/ 524 - 526) وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (4/ 264 - 265).(6/402)
مدة، وبرع في المذهب حتى قال العماد محمد بن أبي سعد صدر الري في عصره: أبو المحاسن القاضي شافعي عصره. وكان يقول: لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي. وقال السبكي: كان يلقب فخر الإسلام، وله الجاه العريض في تلك الديار والعلم الغزير والدين المتين، والمصنفات السائرة في الآفاق، والشهرة بحفظ المذهب يضرب المثل باسمه في ذلك. قتل سنة إحدى وخمسمائة.
موقفه من المشركين:
قال الذهبي: قال معمر بن الفاخر: قتل بجامع آمل يوم جمعة حادي عشر المحرم، قتلته الملاحدة يعني الإسماعيلية. (1)
الغزالي (2) (505 هـ)
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي أبو حامد الغزالي الشيخ الإمام صاحب التصانيف والذكاء، لازم إمام الحرمين فبرع في الفقه في مدة قريبة ومهر في الكلام والجدل، تعاطى الفلسفة وخاض فيها وليس له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وقد ألف في الرد عليهم كتاب التهافت، ووقع في بعض ضلالهم وغلا فيها حتى قال عنه أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. ودخل
_________
(1) السير (19/ 262).
(2) السير (19/ 322 - 346) والمنتظم (17/ 124 - 127) والكامل في التاريخ (10/ 491) ووفيات الأعيان (4/ 216 - 219) والوافي بالوفيات (1/ 273 - 277) والبداية (12/ 185 - 186).(6/403)
التصوف وصنف فيه أغلب تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع وساءت به الظنون حتى أمر سلطان المغرب ابن تاشفين بحرق كتبه بفتوى الفقهاء. كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه وساد في شبيبته حتى إنه درس بالنظامية ببغداد في سنة أربع وثمانين وله أربع وثلاثون سنة فحضر عنده رؤوس العلماء فتعجبوا من فصاحته واطلاعه. رحل إلى دمشق وبيت المقدس مدة ثم إلى نيسابور فدرس بنظاميتها ثم عاد إلى طوس فأقام بها وابتنى رباطا واتخذ دارا حسنة وغرس فيها بستانا أنيقا ورجع عما كان فيه من الكلام والفلسفة والتصوف وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الأحاديث الصحاح، حكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة.
إن الكلام على الغزالي يحتاج إلى تفصيل أكثر لما فيه من تشعب. ويكفينا نحن في بحثنا هذا الإشارة، لأن القصد بيان المواقف السلفية والعقبات التي تعرضت لها العقيدة السلفية. وكان أبو حامد هذا من الذين كان ضررهم على العقيدة الإسلامية على العموم واضحا، ولا ينكر هذا إلا مكابر أو معاند، أو صاحب هوى. فما يزال المسلمون يتجرعون سموم كتبه التي خلفها ما بين باطنية مدسوسة أو ظاهرة. وقد هيأ الله لهذه الأمة من يفضح مثل هذه الأباطيل. فمن المضنون به على غير أهله إلى مشكاة الأنوار إلى إحياء علوم الدين ومع الأسف قد انتشرت كتبه المليئة بالضلال انتشارا فاحشا لا نظير له، وقد فرح بها الدجاجلة والمغرضون.(6/404)
أما المضنون به على غير أهله فقد أفرد بالرد عليه كتاب مستقل، وسيمر بنا إن شاء الله. وقد بين شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه ما فيه من الضلال وأكتفي بنقل عبارة له في درء التعارض: كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد. (1)
وأما مشكاة الأنوار فقد ردَّ عليها الشيخ في كثير من كتبه، انظر الدرء. (2)
وأما إحياء علوم الدين فقد رد عليه جماعة من أهل العلم عددهم يفوق الحصر، وقد أمر سلطان مراكش ابن تاشفين بحرقه بفتوى أهل العلم في عصره. وسيمر بنا ذلك إن شاء الله.
نماذج من مواقف العلماء من أبي حامد وكتبه:
قال الغزالي: وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع. ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه. فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع فلا يستقر له قدم.
قال شيخ الإسلام: هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة. وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة
_________
(1) (5/ 82).
(2) (1/ 317) و (5/ 354) و (6/ 223).(6/405)
إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات. (1)
وقال الإمام ابن الجوزي في التلبيس: وجاء أبو حامد الغزالي، فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله عز وجل، ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه المفصح بالأحوال: إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. (2)
التعليق:
قال جامعه: هذه نقطة من بحر، وكم كنت أتمنى أن تفرد هذه الكتب بالرد والبيان في رسائل علمية جامعية مركزة حتى يعلم الناس خبثها وما فيها من السموم والأفاعي المفتكة. (3)
- قال الذهبي في السير: وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه. (4)
- وفيها قال: ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في
_________
(1) درء التعارض (5/ 348).
(2) التلبيس (ص.205).
(3) وقد يسر الله إخراج كتاب في بيان ضلالات ما في الإحياء تحت عنوان: 'الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين' فليراجعه من أراد الاستزادة، والله الموفق للصواب.
(4) السير (19/ 323).(6/406)
كتاب كيمياء السعادة والعلوم وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا توافق مراسم الشرع وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به -والحق أحق ما يقال- ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له، فإن العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك، تخيلوا منه ما هو المضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. (1)
وفيها: ولأبي المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في كتاب رياض الأفهام في مناقب أهل البيت قال: ذكر أبو حامد في كتابه سر العالمين وكشف ما في الدارين فقال في حديث: «من كنت مولاه، فعلي مولاه» (2) إن عمر قال لعلي: بخ بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبا للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلاف، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون، وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية، وما أدري ما عذره في هذا؟ والظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق، فإن الرجل من بحور العلم، والله أعلم. هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تتطبب، وقال في أوله: إنه قرأه عليه محمد بن تومرت المغربي سرا بالنظامية، قال: وتوسمت فيه الملك.
قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف
_________
(1) السير (19/ 326).
(2) أخرجه: أحمد (1/ 118) والترمذي (5/ 591/3713) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 134/8478)، وصححه ابن حبان (15/ 375 - 376/ 6931).(6/407)
عوارهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف. فالحذار الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم يغفر له وينجو إن شاء الله.
وقال أبو عمرو بن الصلاح: فصل لبيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد: ففي تواليفه أشياء لم يرتضها أهل مذهبه من الشذوذ، منها قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا. قال: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا. (1)
- وفيها أيضا: وقد رأيت كتاب الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء للمازري، أوله: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله، وأبار الباطل وأزاله، ثم أورد المازري أشياء مما نقده على أبي حامد، يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكا الإمام يهرب من التحديد، ويجانب أن يرسم رسما، وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير
_________
(1) السير (19/ 328 - 329).(6/408)
من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز إلى قدح الملحدين. (1)
- وفيها: وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية، فيجلس فارغ القلب، مجموع الهم يقول: الله الله الله، على الدوام، فليفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة ولا كتب حديث. قال: فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة في بيت مظلم، وتدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} (2) و {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} (3).
قال الذهبي: سيد الخلق إنما سمع (يا أيها المدثر) من جبريل عن الله، وهذا الأحمق لم يسمع نداء الحق أبدا، بل سمع شيطانا، أو سمع شيئا لا حقيقة من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالسنة والإجماع. (4)
- وفيها: قال أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما انتقده عليه العلماء، فقال: وليس في قدرة الله أبدع من هذا العالم في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع أو أحكم منه ولم
_________
(1) السير (19/ 330).
(2) المدثر الآية (1).
(3) المزمل الآية (1).
(4) السير (19/ 333 - 334).(6/409)
يفعله، لكان ذلك منه قضاء للجود، وذلك محال. ثم قال: والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة ونفي النهاية عن تقدير المقدورات المتعلقة بها، ولكن في تفاصيل هذا العالم المخلوق، لا في سواه، وهذا رأي فلسفي قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبت الإتقان إلى الحياة مثلا، والوجود إلى السمع والبصر، حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب، وأجمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها لكل مقدر الوجود، لا لكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة، ثم قال: وهذه وهلةٌ لاَ لَعًا لَها، ومزلة لا تماسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد عليه إلا بقوله.
قال الذهبي: كذا فليكن الرد بأدب وسكينة. (1)
- وفيها: ولأبي الحسن بن سكر رد على الغزالي في مجلد سماه: إحياء ميت الأحياء في الرد على كتاب الإحياء. (2)
- وفيها: وللإمام محمد بن علي المازري الصقلي كلام على الإحياء يدل على إمامته، يقول: وقد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبني أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب سوى نبذ منه، فإن نفس الله في العمر، مددت فيه الأنفاس، وأزلت
_________
(1) السير (19/ 337).
(2) السير (19/ 342).(6/410)
عن القلوب الالتباس: اعلموا أن هذا رأيت تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعا من حاله ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه ... وأما مذاهب الصوفية، فلا أدري على من عول فيها، لكني رأيت فيما علق بعض أصحابه أنه ذكر كتب ابن سينا وما فيها، وذكر بعد ذلك كتب أبي حيان التوحيدي، وعندي أنه عليه عول في مذهب التصوف ... وفي الإحياء من الواهيات كثير. قال: وعادة المتورعين أن لا يقولوا: قال مالك، وقال الشافعي، فيما لم يثبت عندهم. ثم قال: ويستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له ... ثم قال: وقال: من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن البارئ قديم، مات مسلما إجماعا. قال: فمن تساهل في حكاية الإجماع في مثل هذا الذي الأقرب أن يكون الإجماع في خلافه، فحقيق أن لا يوثق بما روى، ورأيت له في الجزء الأول يقول: إن في علومه ما لا يسوغ أن يودع في كتاب، فليت شعري أحق هو أو باطل؟. فإن كان باطلا، فصدق، وإن كان حقا، وهو مراده بلا شك، فَلِمَ لا يودع في الكتب، ألغموضه ودقته؟. فإن كان هو فهمه، فما المانع أن يفهمه غيره؟ (1)
- وذكر شيخ الإسلام في المنهاج رجوع أبي حامد الغزالي من الكلام والتصوف قال: وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل
_________
(1) السير (19/ 340 - 342).(6/411)
بالحديث: بالبخاري ومسلم. (1)
موقفه من المشركين:
- قال شيخ الإسلام: قال أبو حامد الغزالي عن الفلسفة: هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم.
قال ابن تيمية عقبه: فإن ما يقوم عليه الدليل، من الرياضي ونحوه، كثير التعب قليل الفائدة، لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل. (2)
- وقال الشاطبي: قال أبو حامد رحمه الله: ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال، إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية، إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرمز، وكل ما يتصور أن تنطق به ألسنتهم، فإما نظر أو نقل، أما النظر؛ فقد أبطلوه، وأما النقل؛ فقد جوزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه، فلا يبقى لهم معتصم، والتوفيق بيد الله. (3)
- وقال شيخ الإسلام: وصنف كتابا سماه 'القسطاس المستقيم'، ذكر فيه خمس موازين: الثلاث الحمليات؛ والشرطي المتصل، والشرطي المنفصل. وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين وذكر أنه خاطب بذلك
_________
(1) المنهاج (5/ 269).
(2) درء التعارض (5/ 71).
(3) الاعتصام (1/ 324 - 325).(6/412)
بعض أهل التعليم، وصنف كتابا في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد؛ وبين في آخر كتبه؛ أن طريقهم فاسدة، لا توصل إلى يقين، وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين. وكان أولا يذكر في كتبه كثيرا من كلامهم: إما بعبارتهم، وإما بعبارة أخرى. ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم، وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريق المتكلمين. (1)
وقال الشيخ أيضا: وصرح الغزالي بأن قتل من ادعى أن رتبة الولاية أعلى من رتبة النبوة أحب إليه من قتل مائة كافر، لأن ضرر هذا في الدين أعظم. (2)
موقفه من الرافضة:
جاء في مجموع الفتاوى: قال أبو حامد الغزالي -في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم (أي على الإسماعيلية) - ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض. (3)
موقفه من الجهمية:
قال أبو حامد الغزالي: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام. (4)
المعمر بن علي أبو سعد البغدادي (5) (506 هـ)
_________
(1) الفتاوى (9/ 184 - 185).
(2) مجموع الفتاوى (4/ 173).
(3) مجموع الفتاوى (4/ 320).
(4) مجموع الفتاوى (4/ 28).
(5) السير (19/ 451 - 452) وذيل طبقات الحنابلة (3/ 107 - 110) وشذرات الذهب (4/ 14 - 15) وتاريخ الإسلام (35/ 150) والمنتظم (17/ 130 - 132) والبداية والنهاية (12/ 187).(6/413)
المفتي الواعظ الكبير أبو سعد المعمر بن علي بن المعمر بن أبي عمامة البغدادي الحنبلي. ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وسمع من ابن غيلان والحسن بن محمد الخلال وأبي القاسم التنوخي وروى اليسير. حدث عنه ابن ناصر وأبو المعمر الأنصاري. قال ابن النجار: درس الفقه على شيوخ زمانه وأفتى وناظر وحفظ من الآداب والشعر والنوادر في الجد والهزل ما لم يحفظه غيره. وانفرد بالوعظ وانتفعوا بمجالسه فكان يبكي الناس ويضحكهم، وله قبول عظيم عند الخاص والعام. مات في ربيع الأول سنة ست وخمسمائة وشيعه خلق كثير.
موقفه من الجهمية:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان في زمن أبي علي بن الوليد شيخ المعتزلة، يجلس في مجلسه، ويلعن المعتزلة. (1)
الأَبيوَرْدِي (2) (507 هـ)
العلامة أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد الأموي، الأبيوردي اللغوي، الشاعر المشهور. سمع إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي وأبا بكر بن خلف الشيرازي. وأخذ العربية عن عبد القاهر الجرجاني. وروى عنه
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 107).
(2) المنتظم (17/ 135 - 136) والأنساب (1/ 79 - 80) ووفيات الأعيان (4/ 444 - 449) وسير أعلام النبلاء (19/ 283 - 292) وطبقات الشافعية الكبرى (4/ 62 - 63) والوافي بالوفيات (2/ 91 - 93).(6/414)
ابن طاهر المقدسي وأبو الفتوح الطائي وأبو طاهر السلفي، وجماعة.
قال السلفي: كان الأبيوردي -والله- من أهل الدين والخير والصلاح والثقة. وقال عبد الغافر: فخر العرب أبو المظفر الأبيوردي الكوفني، الرئيس الأديب، الكاتب النسابة من مفاخر العصر وأفاضل الدهر، له الفضائل الرائقة والفصول الفائقة والتصانيف المعجزة، والتواليف المعجبة. وقال أبو زكريا بن منده: فخر الرؤساء أفضل الدولة، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، متصرف في فنون جمة من العلوم، عارف بأنساب العرب، فصيح الكلام، حاذق في تصنيف الكتاب. قال الذهبي: هو ريان من العلوم، موصوف بالدين والورع إلا أنه تياه، معجب بنفسه، قد قتله حب السؤدد.
توفي رحمه الله سنة سبع وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
قال يحيى بن منده: سئل الأديب أبو المظفر عن أحاديث الصفات، فقال: تقر وتمر.
النَّسيب أبو القاسم (1) (508 هـ)
الشيخ الإمام، النسيب أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس، الحسيني الدمشقي الخطيب، مولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة. حدث عن أبيه وعمه أبي البركات وأبي علي الأهوازي وأبي بكر الخطيب وسليم بن أيوب
_________
(1) تاريخ دمشق (41/ 244 - 247) والكامل في التاريخ (10/ 508) وسير أعلام النبلاء (19/ 358 - 360) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.209) وشذرات الذهب (4/ 21).(6/415)
وأبي القاسم الحنائي. وروى عنه هبة الله الأكفاني وأبو المعالي بن صابر، وأبو القاسم والصائن ابنا ابن عساكر وخلق سواهم.
قال ابن عساكر: كان مكثرا ثقة، وله أصول بخطوط الوراقين، وكان متسننا، وسبب تسننه مؤدبه أبو عمران الصقلي وكثرة سماعه للحديث. وقال الذهبي: كان صدرا، نبيلا، مرضيا، ثقة، محدثا، مهيبا، سنيا، ممدوحا بكل لسان.
توفي رحمه الله سنة ثمان وخمسمائة. ودفن بالمقبرة الفخرية في المصلى.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قال ابن عساكر: وكانت له جنازة عظيمة، وأوصى أن يصلي عليه جمال الإسلام أبو الحسن الفقيه، وأن يسنم قبره، وأن لا يتولاه أحد من الشيعة. (1)
ابن حَمْدِين (2) (508 هـ)
محمد بن علي بن محمد بن عبد العزيز أبو عبد الله العلامة قاضي الجماعة الأندلسي، صاحب فنون ومعارف وتصانيف ولي القضاء ليوسف بن تاشفين الملك، فسار أحسن سيرة وحمل عن أبيه. روى عنه القاضي عياض وعظمه، ولي قضاء قرطبة، وله إجازة من أبي عمر بن عبد البر وأبي العباس ابن دلهاث وتفقه بأبيه وبمحمد بن عتاب وحاتم بن محمد وكان ذكيا بارعا في العلم
_________
(1) السير (19/ 360) وهو في تاريخ دمشق (41/ 247).
(2) السير (19/ 422) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.212 - 213).(6/416)
متفننا أصوليا لغويا شاعرا حميد الأحكام. وقال القاضي عياض: أجل رجال الأندلس وزعيمها في وقته ومقدمها جلالة ووجاهة وفهما ونباهة ... تقلد الشورى بقرطبة لأول الدولة المرابطية. توفي سنة ثمان وخمسمائة في محرم لثلاث بقين منه عن تسع وستين سنة.
موقفه من الصوفية:
- جاء في السير: وكان يحط على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف وألف في الرد عليه. (1)
- وفيها أيضا: وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي: إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من شنع مناكيره، ومضاليل أساطيره المباينة للدين؟! وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة الواقع بهم على سر الربوبية الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه إلا من تمطى إليه ثبج ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها. قال أبو حامد: وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا، فاعرض قوله على قوله، ولا يشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جبته، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق، فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا ما آمركم به. (2)
_________
(1) السير (19/ 422).
(2) السير (19/ 332).(6/417)
أبو الخطاب محفوظ بن أحمد (1) (510 هـ)
الإمام العلامة، أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني ثم البغدادي الأزجي. ولد سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. سمع أبا محمد الجوهري وأبا طالب العشاري وأبا يعلى محمد بن الحسين بن الفراء وغيرهم. وروى عنه ابن ناصر وأبو المعمر الأنصاري وأبو الكرم بن الغسال، وجماعة من الأئمة.
قال أبو الكرم بن الشهرزوري: كان إلكيا إذا رأى أبا الخطاب الكلوذاني مقبلا قال: قد جاء الجبل.
وقال السمعاني: أحد الفقهاء، وكان مفتيا، فاضلا، ورعا، دينا غزير الفضل، وافر العقل، وكان له شعر رقيق.
وقال الذهبي: كان أبو الخطاب من محاسن العلماء، خيرا صادقا حسن الخلق، حلو النادرة، من أذكياء الرجال، روى الكثير، وطلب الحديث وكتبه.
توفي رحمه الله سنة عشر وخمسمائة.
موقفه من الجهمية والرافضة والمرجئة والقدرية:
قال أبو الخطاب رحمه الله:
_________
(1) الأنساب (5/ 90) والمنتظم (17/ 152 - 155) والسير (19/ 348 - 350) وذيل طبقات الحنابلة (3/ 116 - 127) والنجوم الزاهرة (5/ 212) وشذرات الذهب (4/ 27 - 28) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.251 - 253).(6/418)
دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشوق نحو الآنسات الخرد
والنوح في أطلال سعدى إنما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد
واسمع مقالي إن أردت تخلصا ... يوم الحساب وخذ بهديي تهتد
واقصد فإني قد قصدت موفقا ... نهج ابن حنبل الإمام الأوحد
خير البرية بعد صحب محمد ... والتابعين إمام كل موحد
ذي العلم والرأي الأصيل ومن حوى ... شرفا علا فوق السها والفرقد
واعلم بأني قد نظمت مسائلا ... لم آل فيها النصح غير مقلد
وأجبت عن تسآل كل مهذب ... ذي صولة عند الجدال مسود
هجر الرقاد وبات ساهر ليله ... ذي همة لا يستلذ بمرقد
قوم طعامهم دراسة علمهم ... يتسابقون إلى العلا والسؤدد
قالوا بما عرف المكلف ربه؟ ... فأجبت بالنظر الصحيح المرشد
قالوا فهل رب الخلائق واحد؟ ... قلت الكمال لربنا المتفرد
قالوا فهل لله عندك مشبه؟ ... قلت المشبه في الجحيم الموصد
قالوا فهل تصف الإله؟ أبن لنا ... قلت الصفات لذي الجلال السرمد
قالوا فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات؟ قلت كذاك لم تتجدد
قالوا فأنت تراه جسما مثلنا؟ ... قلت المجسم عندنا كالملحد
قالوا فهل هو في الأماكن كلها؟ ... فأجبت بل في العلو مذهب أحمد
قالوا أتزعم أن على العرش استوى ... قلت الصواب كذاك أخبر سيدي
قالوا فما معنى استواه أبن لنا ... فأجبتهم هذا سؤال المعتدي
قالوا النزول؟ فقلت ناقلة له ... قوم تمسكهم بشرع محمد(6/419)
قالوا فكيف نزوله؟ فأجبتهم ... لم ينقل التكييف لي في مسند
قالوا فينظر بالعيون؟ أبن لنا ... فأجبت رؤيته لمن هو مهتدي
قالوا فهل لله علم؟ قلت ما ... من عالم إلا بعلم مرتدي
قالوا فيوصف أنه متكلم؟ ... قلت السكوت نقيصة المتوحد
قالوا فما القرآن؟ قلت كلامه ... من غير ما حدث وغير تجدد
قالوا الذي نتلوه؟ قلت كلامه ... لا ريب فيه عند كل مسدد
قالوا فأفعال العباد؟ فقلت ما ... من خالق غير الإله الأمجد
قالوا فهل فعل القبيح مراده؟ ... قلت الإرادة كلها للسيد
لو لم يرده لكان ذاك نقيصة ... سبحانه عن أن يعجز في الردي
قالوا فما الإيمان؟ قلت مجاوبا ... عمل وتصديق بغير تبلد
قالوا فمن بعد النبي خليفة؟ ... قلت الموحد قبل كل موحد
حاميه في يوم العريش ومن له ... في الغار مسعد يا له من مسعد
خير الصحابة والقرابة كلهم ... ذاك المؤيد قبل كل مؤيد
قالوا فمن صديق أحمد؟ قلت من ... تصديقه بين الورى لم يجحد
قالوا فمن تالي أبي بكر الرضا؟ ... قلت الإمارة في الإمام الأزهد
فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليد
قالوا فثالثهم؟ فقلت مسارعا ... من بايع المختار عنه باليد
صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فضل تلاوة وتهجد
أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي ... في الناس ذا النورين صهر محمد
قالوا فرابعهم؟ فقلت مبادرا ... من جاز دونهم أخوة أحمد(6/420)
زوج البتول وخير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد
أعني أبا الحسن الإمام ومن له ... بين الآنام فضائل لم تجحد
ولعم سيدنا النبي مناقب ... لو عددت لم تنحصر بتعدد
أعني أبا الفضل الذي استسقى به ... عمر أوان الجدب بين الشهد
ذاك الهمام أبو الخلائف كلهم ... نسقا إلى المستظهر بن المقتدي
صلى الإله عليه ما هبت صبا ... وعلى بنيه الراكعين السجد
وأدام دولتهم علينا سرمدا ... ما حن في الأسحار كل مغرد
قالوا أبان الكلوذاني الهدى ... قلت الذي فوق السماء مؤيدي (1)
وله أيضا:
ومذ كنت من أصحاب أحمد لم أزل ... أناضل عن أعراضهم وأحامي
وما صدني عن نصرة الحق مطمع ... ولا كنت زنديقا حليف خصام
ولا خير في دنيا تنال بذلة ... ولا في حياة أولعت بسقام
ومن جانب الأطماع عز وإنما ... مذلته تطلابه لحطام
أبو شجاع السلطان صاحب العراق (2) (511 هـ)
محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان التركي السلجوقي أبو
_________
(1) المنتظم (17/ 153 - 155).
(2) السير (19/ 506 - 507) والمنتظم (17/ 159) والكامل في التاريخ (10/ 525 - 527) ووفيات الأعيان (5/ 71) والوافي بالوفيات (5/ 62) والبداية والنهاية (12/ 193) وشذرات الذهب (4/ 30).(6/421)
شجاع الملك صاحب العراق، لما مات أبوه سنة خمس وثمانين وأربعمائة، اقتسموا الأقاليم، وكانت نزاعات بينه وبين أخويه ثم عظم شأن محمد وتفرد بالسلطنة، ودانت له البلاد وكان أخوه يخطب له بخراسان، وقد كان محمد فحل آل سلجوق وله بر في الجملة وحسن سيرة مشوبة، فمن عدله أنه أبطل ببغداد المكس والضرائب ومنع من استخدام يهودي أو نصراني، وكسا في نهار أربعمائة فقير وكان قد كف مماليكه عن الظلم. ملك العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة والأقاليم الواسعة، كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلا رحيما سهل الأخلاق محمود العشرة، لما حضرته الوفاة استدعى ولده محمودا وضمه إليه وبكى كل منهما، ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة وعمره إذ ذاك أربعة عشر سنة فحكم بعد وفاة أبيه سنة إحدى عشرة وخمسمائة. توفي السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأيام.
موقفه من المشركين:
- قال ابن كثير: ومما وقع في هذه السنة -أي خمسمائة- من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر قلاعا كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة وقتل خلقا منهم، منها قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان في رأس جبل منيع هناك ... أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له أحمد(6/422)
ابن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل، وحشا جلده تبنا وقطع رأسه وطاف به في الأقاليم، ثم نقض هذه القلعة حجرا حجرا، وألقت امرأته نفسها من أعلى القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفيسة، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة يقولون: كان دليلها كلبا والمشير بها كافرا والمتحصن بها زنديقا. (1)
- وجاء في السير: وقد حارب الإسماعلية وأباد منهم وأخذ منهم قلعة أصبهان وقتل ابن غطاش ملكهم. (2)
ابن عَقِيل (3) (513 هـ)
علي بن عقيل بن محمد أبو الوفاء الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة صاحب التصانيف المفيدة. ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وسمع أبا بكر ابن بشران وأبا الفتح بن شيطا وأبا محمد الجوهري، وتلا بالعشر على ابن شيطا وأخذ العربية على أبي القاسم بن برهان وأخذ علم العقليات على شيخي الاعتزال أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان فانحرف عن السنة، وكان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهب فربما لامه بعض أصحابه فلا
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 178).
(2) السير (19/ 507).
(3) السير (19/ 443 - 451) وطبقات الحنابلة (2/ 259) والمنتظم (17/ 179 - 182) والكامل في التاريخ (10/ 561) وميزان الاعتدال (3/ 146) والبداية والنهاية (12/ 197) ولسان الميزان (4/ 243 - 244) وشذرات الذهب (4/ 35 - 40).(6/423)
يلوي عليهم. فلهذا برز على أقرانه وساد أهل زمانه في فنون كثيرة مع صيانة وديانة وحسن صورة وكثرة اشتغال وكان فيه شيء من الاعتزال. قال ابن حجر: ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحت توبته ثم صنف في الرد عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم. حدث عنه أبو حفص المغازلي وأبو المعمر الأنصاري وأبو طاهر السلفي وابن ناصر وآخرون. قال السلفي: ما رأت عيني مثل أبي الوفاء بن عقيل الفقيه ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه وحسن إيراده وبلاغة كلامه وقوة حجته. كان يقول: عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعابا قط ولا عاشرت إلا أمثالي من طلاب العلم. توفي بكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. وصلى عليه ابن شافع بجامع القصر وكان الجمع ما لا يحصى.
موقفه من المشركين:
- قال ابن الجوزي: قال أبو الوفاء علي بن عقيل رضي الله عنه: صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والامتثال لأوامرها كابن الراوندي ومن شاكله كأبي العلاء. ثم مع ذلك لا يرون لمقالتهم نباهة ولا أثرا بل الجوامع تتدفق زحاما والأذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والإقرار بما جاء به، وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد. فجعل بعضهم يندس في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد، ويضع السير والأخبار، وبعضهم يروي ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار(6/424)
وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ في تقرير ذلك حتى قالوا إن سطيحا قال في الخبيء الذي خبئ له: حبة بر، في إحليل مهر. والأسود كان يعظ ويقول الشيء قبل كونه. وههنا اليوم معزمون يكلمون الجني الذي في باطن المجنون فيكلمهم بما كان ويكون وما شاكل ذلك من الخرافات فمن رأى مثل هذا قال بقلة عقله وقلة تلمحه لقصد هؤلاء الملحدة وهل ما جاءت به النبوات إلا مقارب هذا، وليس قول الكاهن. حبة بر في إحليل مهر، وقد أخفيت كل الإخفاء بأكثر من قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (1) وهل بقي لهذا وقع في القلوب وهذا التقويم ينطق بالمنع من الركوب اليوم، وهل ترك تلمح هذا إلا النبي، والله ما قصدوا بذلك إلا قصدا ظاهرا ولمحوا إلا لمحا جليا، فقالوا تعالوا نكثر الجولان في البلاد والأشخاص والنجوم والخواص فلا يخلو مع الكثرة من مصادفة الاتفاق لواحدة من هذه. فيصدق بها الكل ويبطل أن يكون ما جاء به الأنبياء خرقا للعادات. ثم دس قوم من الصوفية أن فلانا أهوى بإنائه إلى دجلة فامتلأ ذهبا فصار هذا كالعادة بطريق الكرامات من المتصوفين.
وبطريق العادات في حق المنجمين وبطريق الخواص في حق الطبائعيين. وبطريق الكهانة في حق المعزمين والعرافين. فأي حكم بقي لقول عيسى عليه السلام. {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وأي خرق بقي للعادات وهل العادات إلا استمرار الوجود وكثرة الحصول.
_________
(1) آل عمران الآية (49).(6/425)
فإذا نبههم العاقل المتدين على ما في هذا من الفساد، قال الصوفي: أتنكر كرامات الأولياء، وقال أهل الخواص: أتنكر المغناطيس الذي يجذب الحديد، والنعامة تبلع النار فتسكت عن جحد ما لم يكن لأجل ما كان، فويل للمحق معهم. هذا، والباطنية من جانب والمنجمون من جانب مع أرباب المناصب لا يحلون ولا يعقدون إلا بقولهم فسبحان من يحفظ هذه الملة ويعلي كلمتها حتى إن كل الطوائف تحت قهرها إقبالا من الله عز وجل على حراسة النبوات وقمعا لأهل المحال. (1)
- وقال ابن رجب: وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة (ملكشاه) وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودعوه إلى إنكار الصانع: أيها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فقدوه جحدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس، ولم يجحدها العقل، ولا يمكننا جحدها لقيام دلالة العقل على إثباتها. فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن هاهنا دخل الإلحاد على جهال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التي تنمي ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة. فعلموا أن ذلك صادر عن أمر وراء هذه الأجساد المستحيلة، وهو الروح والعقل. فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهما من طريق الاستدلال بما صدر عنهما من التأثيرات، قلنا: فما لكم
_________
(1) التلبيس (85 - 87).(6/426)
جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة؟ وكما أن لهذا الجسد عقلا وروحا بهما قوامه ولا يدركهما الحس، لكن شهدت بهما أدلة العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه -وله المثل الأعلى- ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله. وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لي أنه أعاده عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له. (1)
- وجاء في البداية والنهاية: وفي شوال قتل رجل باطني عند باب النوبي، كان قد شهد عليه عدلان: أحدهما ابن عقيل، أنه دعاهما إلى مذهبه فجعل يقول: أتقتلونني وأنا أقول لا إله إلا الله؟ فقال ابن عقيل: قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (2) الآية وما بعدها. (3)
موقفه من الرافضة:
- جاء في التلبيس: قال ابن عقيل: الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم. فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله. فإذا قال قائل: إنهم أول ما بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة وابنته في إرثها وما هذا
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 148 - 149).
(2) غافر الآية (84).
(3) البداية والنهاية (12/ 164 - 165).(6/427)
إلا لسوء اعتقاد في المتوفى. فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم. فإذا قالت الرافضة إن القوم استحلوا هذا بعده خابت آمالنا في الشرع لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول. وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول. ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه. فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة ولم يبق على دينه إلا الأقل من أهله فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل وهو المعجزات، فهذا من أعظم المحن على الشريعة. (1)
التعليق:
انظر هذا الإمام الحنبلي كيف عبر عن أصل الرفض. وهذا الذي ذكره لا يشك فيه من له علم بأحوال القوم، قاتلهم الله وأخزاهم.
موقفه من الصوفية والجهمية:
- جاء في تلبيس إبليس: وقال ابن عقيل: عَبَّرت الصوفية عن الحرام بعبارات غيروا لها الأسماء مع حصول المعنى، فقالوا في الاجتماع على الطيبة والغناء والخنكرة: أوقات. وقالوا في المردان: شب. وفي المعشوقة: أخت. وفي المحبة: مريدة. وفي الرقص والطرب: وجد، وفي مناخ اللهو والبطالة: رباط. وهذا التغيير للأسماء لا يباح. (2)
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.120).
(2) التلبيس (424).(6/428)
- وفيه عنه قال: والصوفية يوهمون التشبيه. فأكثر كلامهم يشير إلى إسقاط السفارة والنبوات. فإذا قالوا عن أصحاب الحديث، قالوا: أخذوا علمهم ميتا عن ميت. فقد طعنوا في النبوات وعولوا على الواقع. ومتى أزري على طريق سقط الأخذ به. ومن قال حدثني قلبي عن ربي فقد صرح أنه غني عن الرسول، ومن صرح بذلك فقد كفر. فهذه كلمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ومن رأيناه يزري على النقل علمنا أنه قد عطل أمر الشرع. وما يؤمن هذا القائل (حدثني قلبي عن ربي) أن يكون ذلك من إلقاء الشياطين. فقد قال الله عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم} (1). وهذا هو الظاهر لأنه ترك الدليل المعصوم وعول على ما يلقى في قلبه الذي لم يثبت حراسته من الوساوس، وهؤلاء يسمون ما يقربهم خاطرا. قال: والخوارج على الشريعة كثير إلا أن الله عز وجل يؤيدها بالنقلة الحفاظ الذابين عن الشريعة حفظها لأصلها، وبالفقهاء لمعانيها: وهم سلاطين العلماء لا يتركون لكذاب رأسا ترتفع.
- قال ابن عقيل: والناس يقولون إذا أحب الله خراب بيت تاجر: عاشر الصوفية قال وأنا أقول: وخراب دينه. لأن الصوفية قد أجازوا لُبْس النساء الخرقة من الرجال الأجانب فإذا حضروا السماع والطرب فربما جرى في خلال ذلك مغازلات واستخلاء بعض الأشخاص ببعض، فصارت الدعوة عرسا للشخصين فلا يخرج إلا وقد تعلق قلب شخص بشخص، ومال طبع
_________
(1) الأنعام الآية (121).(6/429)
إلى طبع وتتغير المرأة على زوجها، فإن طابت نفس الزوج سمي بالديوث، وإن حبسها طلبت الفرقة إلى من تلبس منه المرقعة والاختلاط بمن لا يضيق الخنق ولا يحجر على الطباع. ويقال: تبات فلانة وألبسها الشيخ الخرقة وقد صارت من بناته. ولم يقنعوا أن يقولوا هذا لعب وخطأ، حتى قالوا هذا من مقامات الرجال وجرت على هذه السنون وبرد حكم الكتاب والسنة في القلوب. (1)
- قال ابن الجوزي في المنتظم في ترجمة حماد بن مسلم الصوفي: وكان ابن عقيل ينفر الناس عنه، حتى إنه بلغه أنه يعطي كل من يشكو إليه الحصى لوزة وزبيبة ليأكلها فيبرأ. فبعث إليه ابن عقيل إن عدت إلى مثل هذا ضربت عنقك. (2)
التعليق:
وقد أسهب القول رحمه الله في بيان ضلال الصوفية وخطرهم، جاعلا مقارنة بينهم وبين أهل الكلام من الجهمية وغيرهم كما سيأتي قريبا.
كان هذا الإمام آية في الذكاء والصبر على طلب العلم. وحكوا في ترجمته أن له كتابا اسمه: الفنون قال الذهبي في سيره (3) وهو أزيد من أربع مئة مجلد، حشد فيه كل ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة وما يسنح له من الدقائق والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث.
وذكر في ترجمته في الطبقات أنه مال إلى مذهب المعتزلة وهجر بسبب
_________
(1) التلبيس (452).
(2) المنتظم (17/ 266).
(3) (19/ 445).(6/430)
ذلك. وأحضر وتاب على ملأ منهم، وأعلن توبته وبراءته من الحلاج، وبين أنه كان مقتنعا بأهل البدع وذكر براءته منهم ونقتطف له بعض المواقف التي توافق طريقة السلف.
- جاء في ذيل طبقات الحنابلة: أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت.
وذكر عنه أنه قال: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب. وقد حكى هذا عنه القرطبي في شرح مسلم. وله من الكلام في السنة والانتصار لها والرد على المتكلمين شيء كثير وقد صنف في ذلك مصنفاً. (1)
التعليق:
هذه الكلمات من إمام مجرب ذكي، لها وزنها وقيمتها العلمية، فهل للسادة الأشاعرة أن يعتبروا بهذا الإمام ويقتنعوا بعقيدة أبي بكر وعمر، ولا يضيعوا الأوقات في تحليل الجوهر والعرض، مع أن النظريات العلمية أبطلت وهم الجوهر والعرض، وبينت تحليل الخلايا إلى أصغر جزء.
- وقال: فصل: المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول فتفلسفوا واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا لأن الفلاسفة
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 152).(6/431)
اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم، والكهان اعتمدوا على ما يلقى إليهم من الاطلاع، وجميعا خوارج على الشرائع، هذا يتجاسر أن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول، بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل، وهذا يقول: قال لي قلبي عن ربي، فلا على هؤلاء أصبحت، ولا على هؤلاء أمسيت، لا كان مذهب جاء على غير طريق السفراء والرسل، يريد تعلم بيان الشرائع، وبطلان المذاهب والتوهمات، والطرايق المخترعات، هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرج، أو تحريم معاملة، أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق؟ أو تصيب للمتوهمة فتاوى وأحكام؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء: هؤلاء يروون أحاديث الشرع، وينفون الكذب عن النقل، ويحمون النقل عن الاختلاف. وهؤلاء المفتون ينفون عن الأخبار تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، هم الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحملة العدول، فقال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين» (1).
فالخارج -وإن خفقت بنوده، وكثرت جموعه، وسمي بالملك- يبعد أن يضرب له دينار أو درهم، أو
_________
(1) أخرجه البزار (1/ 86/143 كشف الأستار) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة مرفوعا. وأخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 256) وابن عدي في الكامل (1/ 146) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 58 - 59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص.29) والبيهقي (10/ 209) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلا .. قال القسطلاني في إرشاد الساري (1/ 13): وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسنا كما جزم به ابن كيكلدي العلائي.(6/432)
يخطب له على منبر، أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة، بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك، ويتخشى من أن يقابله بقتال، أو يصافه بحرب، لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل، وللملك -وإن قل جمعه- صولة الحق، وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم: هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال، ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة، فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزالة المرض، ويصبح على أرض أخرى، ومنزل بعيد، وطبه مجازفة، لأنه يأمن الموافقة والمعاينة. والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج، وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة، لأن الحادة من الأدوية، وإن عجلت سكون الألم، فإنها غير مأمونة الغوائل، ولا سليمة العواقب، لأن ما تعطي الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض، وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض، فهو كما قيل: الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه، كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب، فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه لأنهم عن النقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون، فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة، والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون، كتهجم البرخشتي، فعلومهم فرح ساعة، ليس لعلومهم ثبات، فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفية عليهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن في أمتي محدثين ومكلمين» (1) وهو ما يلقى من الفراسات
_________
(1) أحمد (2/ 339) والبخاري (7/ 52/3689) والنسائي في الكبرى (5/ 40/8120) كلهم أخرجه من حديث أبي هريرة. وفي الباب من حديث عائشة رضي الله عنها.(6/433)
والدرايات، كما نطق به عمر. قيل لهم: لو نطق عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير، لما التفت إلى واقعته، ولا يبتنى الشرع على فراسته.
ألا تراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي؟ (1) وقال في الكلالة ما قال. يقول الصديق هذا، وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه، ويسمع الغناء من أمرد وحرة، ويأكل من الحرام شبعة، ويرقص كما تشمس الخيل، لا يسأل الفقهاء، ولا يبني أمره على النقل، يقول بواقعة، ويقول أتباعه: الشيخ يسلم إليه طريقته، وأي طريقة مع الشرع؟ وهل أبقت الشريعة لقائل قولا؟ وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق؟ ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين. هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول، وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان، يحبون البطالات، والاجتماع على اللذات، وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات، وأولئك يجرئون الشباب والأحداث، على البحث وكثرة السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمناقضات. وما عرفنا للسلف الصالح أعمال هؤلاء الصوفية، بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل، ولا أحوال المتكلمين: لا التكشف ولا البحث، بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات، وجد وتشهير في الأعمال والطاعات، فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحدين أن
_________
(1) ضعيف. أخرجه: أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 211/842) وابن أبي شيبة (10/ 513) والبيهقي في الشعب (2/ 424) وهو منقطع كما حكم عليه ابن حجر في الفتح (13/ 336 - 337) وابن كثير في التفسير ((1/ 11) تحقيق سامي السلامة).(6/434)
لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغى مسامعهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة، والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام. وقد خبرت طريقة الفريقين: غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح.
والمتكلمون عندي خير من المتصوفة، لأن المتكلمين مرادهم مع التحقيق مزيد الشكوك في بعض الأشخاص، ومؤدى المتصوفة إلى توهم الإشكال، والتشبيه هو الغاية في الإبطال، بل هو حقيقة المحال، مما يسقط المشايخ من عيني، وإن نبلوا في أعين الناس أقدارا وأنسابا، وعلوما وأخطارا، إلا قول القائل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع: عادتي كذا وكذا، يشير إلى طريقة قد قننها لنفسه، تخرج عن سمت الشرع، فذاك مختلق طريقة، وكل مختلق مبتدع، ولو كان في ترك النوافل، لأن الاستمرار على ترك السنن خذلان. قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رجل استمر على ترك الوتر: هذا رجل سوء. أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يعزي إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير - صلى الله عليه وسلم -، الله الله، الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السنة، أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة، الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه، كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها. أصحاب الحديث رسل السفير: الفقهاء المترجمون لما أراد السفير من معاني كتابه، ولا يتم اتباع إلا بمنقول، ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان، وما عداهما تكلف لا يفيد. وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نقلة وفقهاء، ولا نعرف فيهم(6/435)
ثالثا. أصحاب أسواق وصفقات وتجارات، لا ربط ولا مناخ للبطالات، يا أصحاب المخالطات والمعاملات، عليكم بالورع، يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع. يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع، ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد، ولا لأبي بكر وعمر، ولا الشيعة عندي من زار المشاهد، وأنشد المراثي والقصايد.
السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء، واحتذى الرسم، واتبع الأمر وكف عن النهي، وتنزه عن الشبه، ووقف عند الشك، وتفرغ من كل علم خالف النقل، وإن كانت له طلاوة في السمع، وقبول في القلب، ليس قلبك معيارا على الشرع، ما لله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه، وما أحدثوا وعولوا على ما رووا، ولا على ما رأوا، الصبر على الرواية مقام الصديقين. قال الخضر للسفير: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)} (1) لأن مستحسنا برأيه ومستقبحا برأيه لا يتبع، لأنه قد بان لك بنص القرآن أن استحسان عقل السفير الكليم واستقباحه ما كان على القانون الصحيح، حتى كشف له عن العذر فيما كان استقبحه. (2)
مخالطته للمعتزلة ونهي السلف له عن ذلك:
ثم قال: وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علما نافعا.
قال الذهبي: كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في
_________
(1) الكهف الآية (67).
(2) درء التعارض (8/ 61 - 68) والصواعق المرسلة (4/ 1342 - 1349).(6/436)
حبائلهم وتجسر على تأويل النصوص نسأل الله السلامة. (1)
تلبسه بمذهب الاعتزال وتوبته منه:
وفي تاريخ ابن الأثير قال: كان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على ابن الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة. (2)
قال ابن رجب رحمه الله: والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها، وذلك أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله.
ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحم على الحلاج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أبو جعفر؛ لأنه كان عاتبا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره في ترجمته. فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خطه:
_________
(1) السير (19/ 447).
(2) السير (19/ 448).(6/437)
يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم، وما كنت علقته، ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالتهم، فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته. ولا تحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
وإنني علقت مسألة الليل في جملة ذلك. وإن قوما قالوا: هو أجساد سود. وقلت: الصحيح: ما سمعته من الشيخ أبي علي، وأنه قال: هو عدم ولا يسمى جسما، ولا شيئا أصلا. واعتقدت أنا ذلك. وأنا تائب إلى الله تعالى منهم. واعتقدت في الحلاج أنه من أهل الدين والزهد والكرامات، ونصرت ذلك في جزء عملته. وأنا تائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو. ومع ذلك فإني أستغفر الله تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة، والمبتدعة، وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم؛ فإن ذلك كله حرام. ولا يحل لمسلم فعله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عظم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام». (1)
وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان معه من الشيوخ، والأتباع، سادتي وإخواني -حرسهم الله تعالى- مصيبين في الإنكار علي؛ لما شاهدوه بخطي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحقق أني كنت مخطئا غير مصيب. ومتى حفظ علي ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار: فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك. وأشهدت الله وملائكته وأولي العلم، على ذلك غير مجبر، ولا مكره وباطني وظاهري -يعلم الله تعالى- في ذلك سواء. قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} (2). وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة. (3)
موقفه من المرجئة:
قال ابن عقيل: ما أشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقا، فإن صلاح العالم بإثبات الوعيد واعتقاد الجزاء. (4)
موقف السلف من
ابن القشيري (514 هـ)
فتنته مع الحنابلة بسبب تعصبه للأشاعرة:
وحج، فوعظ
_________
(1) رواه ابن عدي (2/ 324) وابن عساكر (14/ 4) والهروي في ذم الكلام (ص:219) وابن حبان في المجروحين (1/ 235 - 236) وابن الجوزي في الموضوعات (1/ 199) من حديث عائشة رضي الله عنها. وفيه الحسن بن يحيى الخشني. قال ابن حبان: منكر الحديث جدا يروي عن الثقات ما لا أصل له. وحكم على الحديث بالبطلان والوضع. وتابعه الليث بن سعد عند ابن عساكر (26/ 456) والهروي (ص:219) وفي السند إليه العباس بن يوسف الشِّكْلي وهو مجهول الحال. وروي الحديث عن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن بُسْر رضي الله عنهم. قال ابن الجوزي: "هذه الأحاديث كلها باطلة موضوعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
(2) المائدة الآية (95).
(3) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 144 - 145).
(4) تلبيس إبليس (ص.103).(/)
ببغداد، وبالغ في التعصب للأشاعرة، والغض من الحنابلة، فقامت الفتنة على ساق، واشتد الخطب، وشمر لذلك أبو سعد أحمد بن محمد الصوفي عن ساق الجد، وبلغ الأمر إلى السيف، واختبطت بغداد، وظهر مبادر البلاء، ثم حج ثانيا، وجلس، والفتنة تغلي مراجلها، وكتب ولاة الأمر إلى نظام الملك ليطلب أبا نصر بن القشيري إلى الحضرة إطفاء للنائرة، فلما وفد عليه، أكرمه وعظمه، وأشار عليه بالرجوع إلى نيسابور، فرجع، ولزم الطريق المستقيم، ثم ندب إلى الوعظ والتدريس، فأجاب، ثم فتر أمره، وضعف بدنه، وأصابه فالج، فاعتقل لسانه إلا عن الذكر نحوا من شهر، ومات. (1)
وقد تقدمت قصته مطولة مع أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى الشريف (سنة 470هـ).
_________
(1) السير (19/ 425).(6/440)
البَغَوِي (1) (516 هـ)
الحسين بن مسعود بن محمد البغوي أبو محمد الشيخ الإمام العلامة القدوة الحافظ شيخ الإسلام محيي السنة المفسر صاحب التصانيف الجليلة، تفقه على شيخ الشافعية، القاضي حسين بن محمد وسمع من أبي عمر عبد الواحد المليحي وأبي الحسن محمد بن محمد وعبد الرحمن بن محمد الداودي وغيرهم. حدث عنه أبو منصور محمد بن أسعد العطاري وأبو الفتوح محمد ابن محمد الطائي وأبو المكارم فضل الله بن محمد وآخرون. كان سيدا إماما عالما علامة زاهدا قانعا باليسير، بورك له في تصانيفه ورزق فيها القبول التام لحسن قصده وصدق نيته وتنافس العلماء في تحصيلها، وكان على منهاج السلف حالا وعقدا، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة. قال السبكي: قل أن رأيناه يختار شيئا إلا وإذا بحث عنه وجد أقوى من غيره، هذا مع اختصار كلامه وهو يدل على نبل كثير وهو حري بذلك فإنه جامع لعلوم القرآن والسنة والفقه، توفي بمرو الروذ في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة. ودفن بجانب شيخه القاضي حسين وعاش بضعا وسبعين سنة.
• موقفه من المبتدعة:
- له كتاب: شرح السنة.
قال رحمه الله مبينا الغاية من جمعه لهذا الكتاب: والقصد بهذا الجمع -مع وقوع الكفاية بما عملوه (أي علماء السلف)، وحصول الغنية فيما فعلوه-
_________
(1) السير (19/ 439 - 443) ووفيات الأعيان (2/ 136 - 137) وتذكرة الحفاظ (4/ 1257 - 1259) والوافي بالوفيات (13/ 26) والبداية والنهاية (12/ 206) وشذرات الذهب (4/ 48).(7/1)
الاقتداء بأفعالهم، والانتظام في سلك أحد طرفيه متصل بصدر النبوة، والدخول في غمار قوم جدوا في إقامة الدين، واجتهدوا في إحياء السنة، شغفا بهم، وحبا لطريقتهم -وإن قصرت في العمل عن مبلغ سعيهم- طمعا في موعود الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن «المرء مع من أحب» (1)، ولأني رأيت أعلام الدين عادت إلى الدروس، وغلب على أهل الزمان هوى النفوس، فلم يبق من الدين إلا الرسم، ولا من العلم إلا الاسم، حتى تصور الباطل عند أكثر أهل الزمان بصورة الحق، والجهل بصورة العلم، وظهر فيهم تحقيق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». (2)
ولما كان الأمر على ما وصفته لك، أردت أن أجدد لأمر العلم ذكرا، لعله ينشط فيه راغب متنبه، أو ينبعث له واقف متثبط، فأكون كمن يسعى لإيقاد سراج في ظلمة مطبقة، فيهتدي به متحير أو يقع على الطريق مسترشد، فلا يخيب من الساعي سعيه، ولا يضيع حظه، والله المستعان وعليه التكلان، وهو حسبي ونعم الوكيل. (3)
- وقال رحمه الله: (باب مجانبة أهل الأهواء): قال الله سبحانه
_________
(1) أحمد (3/ 192) والبخاري (10/ 677/6167) ومسلم (4/ 2032/2639) وأبو داود (5/ 345/5127) والترمذي (4/ 513/2385) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) أخرجه: البخاري (13/ 349/7307) ومسلم (4/ 2058/2673) والترمذي (5/ 30 - 31/ 2652) وابن ماجه (1/ 20/52).
(3) شرح السنة (1/ 3 - 4).(7/2)
وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (1) وقال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (2) وقال عزوجل: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} (3) وقال الله عزوجل: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} (4) أي: صاروا أحزابا وفرقا على غير دين ولا مذهب، وقيل: اختلفوا في الاعتقاد والمذاهب.
وقال سعيد بن جبير في قوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} (5) قال: الأيدي: القوة في العمل، والأبصار: بصراء بما هم فيه من دينهم.
قال مجاهد في قوله تعالى: {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال: الحلال والحرام. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يصدق بعضها بعضا، كقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} (6) وكقوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} (7) وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
_________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) الكهف الآية (28).
(3) الجاثية الآية (17).
(4) المؤمنون الآية (53).
(5) ص الآية (45).
(6) البقرة الآية (26).
(7) يونس الآية (100).(7/3)
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (1) .. -ثم ساق بسنده- عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} (2)، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم». هذا حديث متفق على صحته ... (3)
وقوله: {آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} أي: غير منسوخات، وقوله: {آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (4) أي: المحكم، وقوله: {أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (5) أي: أحكمت بالأمر والنهي، والحلال والحرام، ثم فصلت بالوعد والوعيد. وقيل: المحكم: هو الذي يعرف بظاهره معناه. وأما المتشابه، ففيه أقاويل: أحدها -ما قال الخطابي وجماعة-: ما اشتبه منه، فلم يُتلق معناه من لفظه،
_________
(1) محمد الآية (17).
(2) آل عمران الآية (7).
(3) تقدم تخريجه في مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ).
(4) يونس الآية (1).
(5) هود الآية (1).(7/4)
وذلك عن ضربين: أحدهما: إذا رد إلى المحكم عرف معناه، والآخر: ما لا سبيل إلى معرفة كنهه، والوقوف على حقيقته، ولا يعلمه إلا الله، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ يبتغون تأويله، كالإيمان بالقدر والمشيئة، وعلم الصفات ونحوها مما لم نتعبد به، ولم يكشف لنا عن سره، فالمتبع لها مبتغ للفتنة، لأنه لا ينتهي منه إلى حد تسكن إليه نفسه، والفتنة: الغلو في التأويل المظلم.
وقوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: معظمه، يقال لمعظم الطريق: أم الطريق، وقوله عزوجل: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} (1) أي: في معظمها. (2)
- وقال (3): (باب ثواب من دعا إلى هدى أو أحيا سنة وإثم من ابتدع أو دعا إليها): قال الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (4)، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} (5)، وقال الله عزوجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (6)، وقال الله تعالى:
_________
(1) القصص الآية (59).
(2) شرح السنة (1/ 219 - 222).
(3) شرح السنة (1/ 231 - 232).
(4) النحل الآية (125).
(5) الحج الآية (67).
(6) يوسف الآية (108).(7/5)
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} (1) قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا.
وقال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (2) أي بنبيهم، وقيل: بكتابهم، وقيل: بإمامهم الذي اقتدوا به.
وقال الله عزوجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3)، وقال الله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} (4) قال عبد الله بن مسعود: ما قدمت من خير، وما أخرت من سنة استن بها بعده، فله مثل أجر من اتبعه، أو سيئة فعليه مثل وزر من عمل بها.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} (5).
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، ثنا أحمد بن علي الكشميهني، نا علي بن حجر، نا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل
_________
(1) الفرقان الآية (74).
(2) الإسراء الآية (71).
(3) النحل الآية (25).
(4) الانفطار الآية (5).
(5) القيامة الآية (13).(7/6)
أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن علي بن حجر. (1)
وقال (2): (باب الاعتصام بالكتاب والسنة): قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (3) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (4) حبل الله: عهده، وقال أبو عبيد: الاعتصام بحبل الله: هو اتباع القرآن، وترك الفرقة.
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (5) يعني: اتبعوا القرآن كما قال الله تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (6) وقال الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} (7) قال الحسن: تدبر آياته، اتباعه والعمل بعلمه، ما هو بحفظ
_________
(1) مسلم (4/ 2060/2674) وأبو داود (5/ 15 - 16/ 4609) والترمذي (5/ 42/2674) وابن ماجه (1/ 75/206).
(2) شرح السنة (1/ 189 - 192).
(3) المائدة الآيتان (15و16).
(4) آل عمران الآية (103).
(5) الزمر الآية (55).
(6) الزمر الآية (23).
(7) ص الآية (29).(7/7)
حروفه، وإضاعة حدوده.
وقال مجاهد في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} (1) قال: يعملون به حق عمل به.
وقال جل ذكره: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} (2) يعني: هذا القرآن ذو بلاغ، أي ذو بيان كاف، والبلاغة: هي البيان الكافي.
وقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} (3) أي: لا يتفكرون فيعتبروا، يقال: تدبرت الأمر: إذا نظرت في أدباره وعواقبه.
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (4) أي: لم يتفهموا ما خوطبوا به في القرآن. وقال الله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} إلى قوله تعالى: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} (5) أي: تذكرا.
وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} (6) قيل: معناه: من يعرض عن ذكر القرآن وما فيه من الحكم إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم نعاقبه بشيطان نقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينا له.
_________
(1) البقرة الآية (121).
(2) إبراهيم الآية (52).
(3) النساء الآية (82).
(4) المؤمنون الآية (68).
(5) طه الآية (113).
(6) الزخرف الآية (36).(7/8)
وقال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (1) وقال مجاهد: أمروا أن يدعوه في لين وتواضع، وقيل: لا تجعلوا دعاء الرسول إذا دعاكم لأمر أو نهي، كدعاء بعضكم بعضا تجيبون إذا شئتم، وتمتنعون إذا شئتم.
وسأل رجل مالكا مسألة، فقال مالك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فقال الرجل: أرأيت؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}. (2)
وقال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} (3) أي: مستقيما.
وقال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} (4) أي: تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة {وَمِنْهَا جائر} أي: طريق غير قاصد.
وقال الله سبحانه وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (5)
_________
(1) النور الآية (63).
(2) النور الآية (63).
(3) الأنعام الآية (161).
(4) النحل الآية (9).
(5) النساء الآية (80).(7/9)
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (1) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. (2)
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (3) أي: الاختيار. وقال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (4) أي: قدوة، يقال: تأسى به، أي: اتبع فعله، واقتدى به، ويقال للتعزية: التأسية، كأنه يقول: قد أصاب فلانا ما أصابك، فصبر، فتأس به واقتد.
ثم احتج من السنة بأحاديث كثيرة، منها حديث العرباض بن سارية فقال رحمه الله (5): وقوله: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا» (6) إشارة إلى ظهور البدع والأهواء -والله أعلم- فأمر بلزوم سنته، وسنة الخلفاء الراشدين، والتمسك بها بأبلغ وجوه الجد، ومجانبة ما أحدث على خلافها.
- وقال رحمه الله: (باب رد البدع والأهواء): قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (7)، وقال الله تعالى:
_________
(1) النور الآية (54).
(2) الحشر الآية (7).
(3) الأحزاب الآية (36)
(4) الأحزاب الآية (21).
(5) شرح السنة (1/ 206).
(6) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة (23هـ).
(7) القصص الآية (50).(7/10)
{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)، وقال الله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (2)، أي: على علم أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوه بغيا، أي: للبغي.
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} (3)، قيل: العوج فيما لا شخص له، يقال: في الأمر والدين عوج بكسر العين، وفي الجدار والشجر: عوج بفتح العين.
وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (4)، هم أهل البدع والأهواء، وقال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (5)، أي: زينته وحسنه بترقيش الكذب، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} (6)، أي: تزينت بألوان نباتها، والزخرف: كمال حسن الشيء. (7)
- وقال رحمه الله: قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن افتراق هذه الأمة، وظهور
_________
(1) ص الآية (26).
(2) البقرة الآية (213).
(3) الأعراف الآية (45).
(4) الأنعام الآية (159).
(5) الأنعام الآية (112).
(6) يونس الآية (24).
(7) شرح السنة (1/ 210 - 211).(7/11)
الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته، وسنة أصحابه رضي الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتا، فلا يسلم عليه إذا لقيه ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق. والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا. (1)
- وقال عقب إيراده لقصة الثلاثة الذين خلفوا (2): وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم. (3)
• موقفه من المشركين:
- أورد رحمه الله في (باب قتل المرتد) (4) حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه». وحديث عكرمة قال: لما بلغ ابن عباس أن عليا حرق المرتدين أو الزنادقة، قال: لو كنت أنا، لم أحرقهم
_________
(1) شرح السنة (1/ 224).
(2) تقدم تخريجه في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ).
(3) شرح السنة (1/ 226 - 227).
(4) شرح السنة (10/ 237 - 241).(7/12)
ولقتلتهم، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه» ولم أحرقهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله». (1)
ثم قال: والعمل على هذا عند أهل العلم أن المسلم إذا ارتد عن دينه يقتل، واختلفوا في استتابته، فذهب بعضهم إلى أنه لا يستتاب، يروى ذلك عن الحسن وطاووس، وإليه ذهب عبيد بن عمير، وقال عطاء: إن كان أصله مسلما، فارتد لا يستتاب، وإن كان مشركا فأسلم، ثم ارتد، فإنه يستتاب. وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يقتل حتى يستتاب، إلا أنهم اختلفوا في مدة الاستتابة، فذهب قوم -وهو القياس- أنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل مكانه، وهو أظهر قولي الشافعي، ويروى ذلك عن معاذ وأبي موسى، وقال الزهري: يستتاب ثلاث مرات، فإن تاب، وإلا ضرب عنقه، وقال أصحاب الرأي: ثلاث مرات في ثلاثة أيام. وذهب بعضهم إلى أنه يتأنى به ثلاثا لعله يرجع، وإليه ذهب عمر رضي الله عنه، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال مالك: أرى الثلاث حسنا.
واختلفوا في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام، فذهبت طائفة إلى أنها تقتل كالرجل، وهو قول الأوزاعي والشافعي، وأحمد وإسحاق، وذهبت طائفة إلى أنها تحبس ولا تقتل، وهو قول سفيان الثوري، وأصحاب الرأي.
واختلف أهل العلم في قتل الساحر، روي عن عمرو بن دينار أنه سمع
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سنة (40هـ).(7/13)
بجالة يقول: كتب عمر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر (1). وروي عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جارية لها سحرتها، فأمرت بها فقتلت (2). وإلى هذا ذهب جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من أهل العلم، وهو قول مالك، وسئل الزهري أعلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع به ذلك، فلم يقتل من صنعه، وكان من أهل الكتاب.
وعند الشافعي يقتل الساحر إن كان ما يسحر به كفرا إن لم يتب، فإن لم يبلغ عمله الكفر، فلا يقتل، وتعلم السحر لا يكون كفرا عنده إلا أن يعتقد قلب الأعيان منه، وذهب قوم إلا أن تعلمه كفر، وهو قول أصحاب الرأي.
ولو قتل الساحر رجلا بسحره وأقر: أني سحرته، وسحري يقتل غالبا، فيجب عليه القود عند الشافعي، وعند أصحاب الرأي: لا يجب به القود، ولو قال: سحري قد يقتل، وقد لا يقتل، فهو شبه عمد، وإن قال: أخطأت إليه من غيره، فهو خطأ تجب به الدية مخففة، وتكون في ماله، لأنه ثبت باعترافه إلا أن تصدقه العاقلة، فتكون عليهم. ولو قاتل أهل الإسلام أهل الردة، فلا يجب على المسلمين ضمان ما أتلفوا على أهل الردة من نفس ومال. واختلفوا في أهل الردة هل يجب عليهم ضمان ما أتلفوا على المسلمين في حال القتال من نفس ومال؟ فقد روي عن أبي بكر أنه قال لقوم جاؤوه تائبين: تدون
_________
(1) أحمد (1/ 190 - 191) وأبو داود (3/ 431 - 432/ 3043) وأخرجه مختصرا: البخاري (6/ 316/3156 - 3157) والترمذي (4/ 124 - 125/ 1586) وحسنه. والنسائي في الكبرى (5/ 234 - 235/ 8768).
(2) رواه مالك بلاغا في كتاب العقول (2/ 871/14) ووصله عبد الرزاق في مصنفه (10/ 180 - 181/ 18747) وابن أبي شيبة (10/ 135 - 136/ 9029) والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 136).(7/14)
قتلانا ولا ندي قتلاكم، فقال عمر: لا نأخذ لقتلانا دية، فرأى أبو بكر عليهم الضمان، وهو أصح قولي الشافعي. وأما قول عمر: "فلا نأخذ لقتلانا دية". فيحتمل أنه ذهب إلى أنه لا ضمان عليهم على خلاف رأي أبي بكر، كما لا يجب على أهل الحرب ضمان ما أتلفوا على المسلمين ويحتمل أنه كان يرى رأي أبي بكر في وجوب الضمان غير أنه رأى الإعراض عنه ترغيبا لهم في الثبات على الإسلام. قال شعبة: سألت الحكم عن العبد يأبق، فيلحق بأرض الشرك؟ قال: لا تزوج امرأته، وسألت حمادا، فقال: تزوج امرأته.
• موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله (1) تحت حديث العرباض (2): والحديث يدل على تفضيل الخلفاء الراشدين على من سواهم من الصحابة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فهؤلاء أفضل الناس بعد النبيين والمرسلين صلى الله عليهم، وترتيبهم في الفضل، كترتيبهم في الخلافة، فأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. وكما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء من بين الصحابة باتباع سنتهم، فقد خص من بينهم أبا بكر وعمر في حديث حذيفة عن النبي عليه السلام قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». (3)
• موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: الأصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز
_________
(1) شرح السنة (1/ 208).
(2) تقدم قريبا.
(3) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة (23هـ).(7/15)
وجل (1)، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل في صفات الله تعالى، كالنفس، والوجه، والعين، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك والفرح. قال الله سبحانه وتعالى لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} (2) وقال الله عز وجل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} (3) وقال الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (4) وقال الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (5) وقال عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (6) وقال: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (7)، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (8)، {هَلْ
_________
(1) يشير إلى حديث ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغ ... أخرجه: أحمد (4/ 182) وابن ماجه (1/ 72/199) والنسائي في الكبرى (4/ 414/7738) وصححه ابن حبان ((3/ 222 - 223/ 943) الإحسان) والحاكم (1/ 706 - 707/ 1926) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(2) طه الآية (41).
(3) طه الآية (39).
(4) القصص الآية (88).
(5) الرحمن الآية (27).
(6) المائدة الآية (64).
(7) ص الآية (75).
(8) الزمر الآية (67).(7/16)
يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (1) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (2) وقال الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (3) وقال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (4)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» (5) وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه» (6)، وفي رواية أبي هريرة: «حتى يضع الله رجله» (7) وفي حديث أبي هريرة في آخر من يخرج من النار: «فيضحك الله منه، ثم يأذن له في دخول الجنة» (8) وفي حديث جابر: «فيتجلى لهم يضحك» (9) وفي حديث أنس وغيره: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يسقط على بعيره وقد أضله في أرض
_________
(1) البقرة الآية (210).
(2) الفجر الآية (22).
(3) طه الآية (5).
(4) الفرقان الآية (59) ..
(5) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(6) تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(7) تقدم تخريجه. انظر مواقف إبراهيم بن أحمد بن شاقلا سنة (369هـ).
(8) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 275 - 276) والبخاري (11/ 543 - 544/ 6573) ومسلم (1/ 163 - 167/ 182). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري.
(9) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد (3/ 345) ومسلم (1/ 177/191).(7/17)
فلاة» (1) فهذه ونظائرها صفات لله تعالى، ورد بها السمع يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها معرضا فيها عن التأويل، مجتنبا عن التشبيه، معتقدا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (2)
وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعا بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم، فقال عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (3).اهـ (4)
- وقال أيضا: (باب الرد على من قال بخلق القرآن): قال الله سبحانه وتعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} (5) فالقرآن كلام الله ووحيه، وتنزيله وصفته، ليس بخالق، ولا مخلوق، ولا محدث ولا حادث، مكتوب في المصاحف، محفوظ في القلوب، متلو بالألسن، مسموع بالآذان، قال الله
_________
(1) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 213) والبخاري (11/ 123/6309) ومسلم (4/ 2104 - 2105/ 2747). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما.
(2) الشورى الآية (11) ..
(3) آل عمران الآية (7).
(4) شرح السنة للبغوي (1/ 168 - 171).
(5) الجاثية الآية (29).(7/18)
تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (1) وقال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} (2) وقال الله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} (3) وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (4) وقال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (5) وقال الله عزوجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} (6) وقال الله عزوجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ} (7) وقال الله عزوجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (8) وقال الله عزوجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} (9) وقال ابن عباس: لولا أن يسره على لسان الآدميين ما استطاع
_________
(1) الحجر الآية (9).
(2) ص الآية (29).
(3) الطور الآيات (1 - 3).
(4) البروج الآيتان (21و22).
(5) العنكبوت الآية (49).
(6) الشعراء الآيتان (193و194).
(7) النمل الآيتان (91و92)
(8) الأحزاب الآية (34).
(9) القمر الآية (17).(7/19)
أحد أن يتكلم بكلام الله. وقال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1)
وقال عزوجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ} (2) وقال عزوجل: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} (3) وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (4) ليس ذلك حدث الخلق، إنما هو حدوث أمر، كما قال الله عزوجل: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} (5) وقال ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحدث من أمره شيئا، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» (6). وقوله عزوجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (7) يريد: ذكر القرآن لهم، وتلاوته عليهم، وعلمهم به، كل ذلك محدث، فالمذكور المتلو المعلوم غير محدث، كما أن ذكر العبد لله محدث، والمذكور غير محدث. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عزوجل:
_________
(1) التوبة الآية (6) ..
(2) الأحقاف الآية (29).
(3) الجن الآيتان (1و2)
(4) الأنبياء الآية (2).
(5) الطلاق الآية (1).
(6) أخرجه أحمد (1/ 377) والبخاري (13/ 607) تعيلقا وأبو داود (1/ 567 - 568/ 924) والنسائي (3/ 23/1220) وصححه ابن حبان (6/ 15 - 16/ 2243).
(7) الأنبياء الآية (2).(7/20)
{قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (1) قال: غير مخلوق. وقال سفيان بن عيينة: بين الله الخلق من الأمر، فقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (2) وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (3) فلم يجمع القرآن مع الإنسان في الخلق، بل أوقع اسم الخلق على الإنسان، والتعليم على القرآن. وقال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (4)
وقال الله عزوجل: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (5). عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أي شيء؟» قال: لدغتني عقرب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، لم يضرك إن شاء الله» (6). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي صالح.
وفي هذا الحديث وفي أمثاله مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله دليل
_________
(1) الزمر الآية (28).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) الرحمن الآيات (1 - 3).
(4) الكهف الآية (109) ..
(5) لقمان الآية (27).
(6) أخرجه: أحمد (2/ 357) ومسلم (4/ 2081) وأبو داود (4/ 221/3898) والترمذي في الدعوات كما في التحفة (10/ 48/3839) (سقط الحديث من طبعة الشيخ أحمد شاكر وأثبتناه من تحفة الأحوذي) والنسائي في الكبرى (6/ 152/10452) وابن ماجه (2/ 1162/3518). وفي الباب عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها.(7/21)
على أن كلام الله غير مخلوق، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ به، كما استعاذ بالله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} (1) وقال: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} (2) وقال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». واستعاذ بصفاته، كما جاء في دعاء المشتكي: «قل: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد» (3) ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بمخلوق من مخلوق.
وبلغني عن أحمد بن حنبل رحمه أنه كان يستدل بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» على أن القرآن غير مخلوق، لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص. وقيل: كلمات الله في هذا الحديث: القرآن، وروي عن عكرمة قال: صلى ابن عباس على جنازة، فقال رجل من القوم: اللهم رب القرآن العظيم اغفر لي، فقال ابن عباس: لا تقل مثل هذا، إن القرآن منه بدأ وإليه يعود.
وقد مضى سلف هذه الأمة، وعلماء السنة على أن القرآن كلام الله، ووحيه ليس بخالق ولا مخلوق، والقول بخلق القرآن ضلالة وبدعة، لم يتكلم بها أحد في عهد الصحابة والتابعين رحمهم الله، وخالف الجماعة الجعد بن درهم، فقتله خالد بن عبد الله القسري بذلك، فخطب بواسط في يوم أضحى، وقال: ارجعوا أيها الناس فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد ابن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما،
_________
(1) المؤمنون الآيتان (97و98).
(2) الفلق الآية (1).
(3) أخرجه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي: أحمد (4/ 21) ومسلم (4/ 1728/2202) وأبو داود (4/ 217/3891) والترمذي (4/ 355/2080) وابن ماجه (2/ 1163/3522) والنسائي في الكبرى (6/ 248 - 249/ 10839).(7/22)
سبحانه وتعالى عما يقول الجعد. ثم نزل فذبحه.
وكان الجهم بن صفوان صاحب الجهمية أخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم. (1)
- قال رحمه الله: واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه.
سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: الزم دين الصبي في الكتاب والأعرابي، واله عما سوى ذلك.
وقال أيضا: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل.
وقال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - البلاغ، وعلينا التسليم.
وقال مالك بن أنس: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
روى عبد الرحمن بن مهدي عن مالك: لو كان الكلام علما، لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل.
وسئل سفيان الثوري عن الكلام فقال: دع الباطل، أين أنت عن الحق، اتبع السنة، ودع البدعة. وقال: وجدت الأمر الاتباع، وقال: عليكم بما عليه
_________
(1) شرح السنة للبغوي (1/ 181 - 186).(7/23)
الجمالون والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاب من الإقرار والعمل.
قال الربيع عن الشافعي: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء.
وقال يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي: لأن يبتلى المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير له من أن يبتليه بالكلام.
وقال أبو ثور عن الشافعي: ما ارتدى أحد الكلام فأفلح.
وقال الحسن بن محمد بن الصباح: سمعت الشافعي يقول: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام.
وقال الربيع عن الشافعي: لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر، وكان فيها كتب الكلام، لم يدخل في الوصية، لأنه ليس من العلم. وقال: لو أوصى لأهل العلم، لم يدخل أهل الكلام.
وقال يحيى بن سعيد: سمعت أبا عبيد يقول: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع أمر الآخرة في كلمة: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (1) وجميع أمر الدنيا في كلمة: «إنما الأعمال بالنيات» (2) يدخلان في كل باب. (3)
- وقال معقبا على الخطابي الذي أول صفتي الفرح والضحك بالرضى: والمتقدمون من أهل الحديث فهموا من هذه الأحاديث ما وقع الترغيب فيه من
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف الخلال سنة (311هـ).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الإمام الشافعي سنة (204هـ).
(3) شرح السنة (1/ 216 - 218).(7/24)
الأعمال والإخبار عن فضل الله عزوجل، وأثبتوا هذه الصفات لله عزوجل، ولم يشتغلوا بتفسيرها مع اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1).اهـ (2)
- قال رحمه الله: (باب الرد على الجمهية): قال الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3)، سمى الله نفسه شيئا. وقال الله عزوجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (4) وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن شيئا، فقال لرجل: «أمعك من القرآن شيء؟» قال: نعم. (5)
وساق بسنده عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات، فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (6).اهـ (7)
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) شرح السنة (5/ 88).
(3) القصص الآية (88).
(4) الأنعام الآية (19).
(5) أحمد (5/ 336) والبخاري (9/ 256/5149) ومسلم (2/ 1040 - 1041/ 1425) وأبو داود (2/ 586 - 587/ 2111) والترمذي (3/ 421 - 422/ 1114) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي (6/ 432 - 433/ 3359) وابن ماجه (1/ 608/1889) مختصرا.
(6) أحمد (4/ 405) ومسلم (1/ 161 - 162/ 179) وابن ماجه (1/ 70/195).
(7) شرح السنة (1/ 172).(7/25)
- وقال رحمه الله -فيما يجب علينا اتجاه الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: والواجب فيه وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث، والتلسيم وترك التصرف فيه بالعقل، والله الموفق.
وعلى العبد أن يعتقد أن الله سبحانه وتعالى عظيم له عظمة، كبير له كبرياء، عزيز له عزة، حي له حياة، باق له بقاء، عالم وله علم، ومتكلم وله كلام، قوي له قوة، وقادر وله قدرة، وسميع وله سمع، بصير له بصر. قال الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} (1) وقال الله عزوجل: {وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} (2) وقال الله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3) وقال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)} (4) وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (5) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله عزوجل: «وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله» (6). وقال الله سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (7) {وَعَنَتِ
_________
(1) الواقعة الآية (74).
(2) الحج الآية (62).
(3) الجاثية الآية (37).
(4) الفتح الآية (7).
(5) فاطر الآية (10).
(6) جزء من حديث الشفاعة الطويل وقد تقدم تخريجه ضمن مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).
(7) غافر الآية (65).(7/26)
الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (1) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (2) وقال الله عزوجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3) وقال الله عزوجل: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} (4) وقال عزوجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} (5) وقال تبارك وتعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (6) وقال عزوجل: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (7)
وقال عزوجل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (8) وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (9) وقال عزوجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (10) وقال جل ذكره: {إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (11) وقال
_________
(1) طه الآية (111).
(2) الرحمن الآية (27).
(3) القصص الآية (88).
(4) سبأ الآية (3).
(5) النساء الآية (17).
(6) النساء الآية (166).
(7) فاطر الآية (11) ..
(8) البقرة الآية (255).
(9) النساء الآية (164).
(10) الفتح الآية (15).
(11) الحج الآية (40).(7/27)
عزوجل: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (1) وقال عزوجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} (2) وقال سبحانه وتعالى: {إِن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} (3) وقال عزوجل: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} (4) وقال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} (5) وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (6) وقال عزوجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (7) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (8). ويجب أن يعتقد أن الله عز اسمه قديم بجميع أسمائه وصفاته، لا يجوز له اسم حادث، ولا صفة حادثة، كان الله خالقا ولا مخلوق، وربا ولا مربوب، ومالكا ولا مملوك، كما هو الآخر قبل فناء العالم، والوارث قبل فناء الخلق، والباعث قبل مجيء البعث، ومالك يوم الدين قبل مجيء يوم القيامة. وأسماء الله تعالى لا تشبه أسماء العباد، لأن أفعال الله تعالى مشتقة من أسمائه، وأسماء العباد مشتقة من أفعالهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله سبحانه وتعالى: أنا
_________
(1) الذاريات الآية (58).
(2) الأنعام الآية (65).
(3) البقرة الآية (20)
(4) القمر الآية (55).
(5) النساء الآية (134).
(6) المجادلة الآية (1).
(7) طه الآية (46).
(8) تقدم تخريجه قريبا.(7/28)
الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي» (1)
فبين أن أفعاله مشتقة من أسمائه، فلا يجوز أن يحدث له اسم بحدوث فعله، ولا يعتقد في صفات الله تعالى أنها هو ولا غيره، بل هي صفات له أزلية، لم يزل جل ذكره، ولا يزال موصوفا بما وصف به نفسه، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم. (2)
- له من الآثار السلفية:
1 - مقدمة جيدة في شرح السنة، وله فيها مواقف طيبة من الجهمية وغيرهم.
2 - تفسيره. فيه سلفية وتأويل قد بينته في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات'. (3)
موقفه من الخوارج:
- قال رحمه الله (4): (باب من مات لا يشرك بالله شيئا): قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5). وأما قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
_________
(1) أحمد (1/ 194) وأبو داود (2/ 328/1694) والترمذي (4/ 278/1907) وصححه .. وابن حبان (2/ 186 - 187/ 443) والحاكم (4/ 157 - 158) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) شرح السنة (1/ 177 - 180).
(3) (2/ 587 - 604).
(4) شرح السنة (1/ 92).
(5) النساء الآية (48).(7/29)
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (1) قيل: نزل هذا في رجل قتل مسلما ثم ارتد، وقيل: معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه ولم يعف عنه، فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} خبر لا يقع فيه خلف، وقوله سبحانه وتعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وعيد يرجى فيه العفو.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ... } (2) إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} (3).
- ثم ساق طائفة من الأحاديث إلى أن قال: اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئا منها، فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث، بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته، كما ورد في حديث عبادة بن الصامت في البيعة (4). واختلفوا في ترك الصلاة المفروضة عمدا، فكفره بعضهم، ولم يكفره
_________
(1) النساء الآية (93).
(2) الفرقان الآية (68).
(3) الفرقان الآية (70).
(4) أخرجه أحمد (3/ 441) والبخاري (13/ 6/7055و7056) ومسلم (3/ 1470/1709) والنسائي (7/ 157/4164) وابن ماجه (2/ 957/2866).(7/30)
الآخرون. (1)
- وقال رحمه الله: كتاب قتال أهل البغي (باب قتال الخوارج والملحدين): -ثم ساق بسنده أحاديث قتال الخوارج، وقد تقدمت معنا مرارا- ثم قال (2): إذا بغت طائفة من المسلمين، وخرجت على إمام العدل بتأويل محتمل، ونصبت إماما، وامتنعت عن طاعة إمام العدل، يبعث الإمام إليهم، فيسألهم: ما تنقمون؟ فإن ذكروا مظلمة، أزالها عنهم، وإن لم يذكروا مظلمة بينة، يقول لهم: عودوا إلى طاعتي لتكون كلمتكم، وكلمة أهل دين الله على المشركين واحدة، فإن امتنعوا يدعوهم إلى المناظرة، وإن امتنعوا عن المناظرة، أو ناظروا، وظهرت الحجة عليهم، فأصروا على بغيهم، يقاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3). وسئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: منافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم.
وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في القتال من نفس أو مال، فلا
_________
(1) شرح السنة (1/ 103).
(2) المصدر نفسه (10/ 235 - 237).
(3) الحجرات الآية (9).(7/31)
ضمان فيه على قول الأكثرين، وهو قول الشافعي في الجديد، ومذهب أصحاب الرأي. قال الشافعي: أمر الله سبحانه وتعالى أن يصلح بينهم بالعدل، ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، فأشبه هذا أن تكون التباعات في الدماء والجراح، وما تلف من الأموال ساقطة بينهم، كما قال ابن شهاب: كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلفت فيها أموال، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم، وجرى الحكم عليهم، فما علمت اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه. وقال في القديم: ما أتلفت الفئة الباغية على العادلة من نفس أو مال، ضمنوه، فأما ما أتلفت إحداهما على الأخرى في غير حال القتال، فيجب ضمانه مالا كان أو نفسا بالاتفاق.
ومن ولي من أهل البغي ظهره في الحرب هاربا، لا يتبع، وكذلك لو أثخن واحد، أو أسر، فلا يقتل، نادى منادي علي يوم الجمل: ألا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح يريد: لا يجهز عليه، أي: لا يقتل، وأتي علي يوم صفين بأسير، فقال له علي: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله. قال حماد عن إبراهيم: لولا أن عليا قاتل أهل القبلة لم يدر أحد كيف يقاتلهم.
وإذا استولى أهل البغي على بلد، فأخذوا صدقات أهلها لا يثنى عليهم، وينفذ قضاء قاضيهم، وتقبل شهادة عدولهم، وإنما تثبت هذه الأحكام في حقهم باجتماع ثلاث شرائط:
أحدها: أن يكون لهم قوة ومنعة.
والثاني: أن يكون لهم تأويل محتمل.(7/32)
والثالث: أن ينصبوا إماما بينهم، فلو فقد شرط من هذه الشرائط، فحكمهم حكم قطاع الطريق في المؤاخذة بضمان ما أتلفوا، ورد قضائهم، وجرح شاهدهم.
قال الشافعي: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات، وأكفروهم، لم يحل بذلك قتالهم، بلغنا أن عليا رضي الله عنه، سمع رجلا يقول: لا حكم إلا لله في ناحية المسجد، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال.
قال الشافعي: ولو قتلوا واليهم أو غيره قبل أن ينصبوا إماما، ويظهروا حكما مخالفا لحكم الإمام، كان عليهم في ذلك القصاص. قد أسلموا وأطاعوا واليا عليهم من قبل علي رضي الله عنه، ثم قتلوه، فأرسل إليهم علي: أن ادفعوا إلينا قاتله نقتله به، قالوا: كلنا قتله، قال: فاستسلموا نحكم عليكم، قالوا: لا، فسار إليهم فقاتلهم، فأصاب أكثرهم.
ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر من قتل ذي الخويصرة، لأنه لم يجتمع فيه ما يبيح قتله. وفيه دليل على أن من توجه عليه التعزير لحق الله سبحانه وتعالى، جاز للإمام تركه، والإعراض عنه. (1)
- وقال رحمه الله: ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم كلهم من أمته. (2)
_________
(1) شرح السنة (10/ 224).
(2) شرح السنة (1/ 227).(7/33)
• موقفه من المرجئة:
- قال في شرح السنة: اتفق الصحابة والتابعون، فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} (1) فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة. (2)
وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء ... (3)
إلى أن قال: واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته، قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة.
وكرهوا أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، بل يقول: أنا مؤمن، ويجوز
_________
(1) الأنفال الآيتان (2و3).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الفزاري سنة (186هـ).
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أحمد (3/ 373 - 374) والبخاري (3/ 415/1462) ومسلم (1/ 87/132 [80]) والترمذي (5/ 11 - 12/ 2613) والنسائي في الكبرى (5/ 400 - 401/ 9271) وفي الباب عن غير واحد من الصحابة.(7/34)
أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على معنى الشك في إيمانه واعتقاده من حيث علمه بنفسه، فإنه فيه على يقين وبصيرة، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة، وخفاء علم الله تعالى فيه عليه، فإن أمر السعادة والشقاوة يبتني على ما يعلم الله من عبده، ويختم عليه أمره، لا على ما يعلمه العبد من نفسه، والاستثناء يكون في المستقبل، وفيما خفي عليه أمره، لا فيما مضى وظهر، فإنه لا يسوغ في اللغة لمن تيقن أنه قد أكل وشرب أن يقول: أكلت إن شاء الله، وشربت إن شاء الله، ويصح أن يقول: آكل وأشرب إن شاء الله.
ولو قال: أنا مؤمن من غير استثناء يجوز، لأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، مقر بها من غير شك. (1)
- وقال رحمه الله: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال: «ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم» (2) والتصديق والعمل يتناولها اسم الإيمان والإسلام جميعاً، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (4) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ
_________
(1) شرح السنة (1/ 38 - 41).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الطوسي سنة (242هـ).
(3) آل عمران الآية (19).
(4) المائدة الآية (3).(7/35)
دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (1) فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل. (2)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: (باب الإيمان بالقدر): قال الله سبحانه وتعالى {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} (3) وقال الله عزوجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} (4) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» (5). -ثم ساق بسنده أحاديث- منها: عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» (6). زاد عبيد الله: «خيره وشره». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء» (7). وعن أبي هريرة قال: قال
_________
(1) آل عمران الآية (85).
(2) شرح السنة (1/ 10 - 11).
(3) الأحزاب الآية (38).
(4) الفرقان الآية (2).
(5) تقدم تخريجه قريبا وهو حديث جبرائيل.
(6) أحمد (1/ 97) والترمذي (4/ 393/2145) وابن ماجه (1/ 32/81) وابن حبان (1/ 404 - 405/ 178) والحاكم (1/ 32 - 33) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(7) أحمد (2/ 169) ومسلم (4/ 2044/2653) والترمذي (4/ 398 - 399/ 2156) وقال: "حسن صحيح".(7/36)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى». (1)
ثم ختم الباب قائلا: الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (2) وقال الله عزوجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) وقال عزوجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (4) فالإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما بالثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب، قال سبحانه وتعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} (5) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
_________
(1) تقدم تخريجه في مواقف هارون الرشيد سنة (191هـ).
(2) الصافات الآية (96).
(3) الرعد الآية (16).
(4) القمر الآية (49).
(5) إبراهيم الآية (27).(7/37)
يُرِيدُ (253)} (1) {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} (2) وقال عزوجل: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (3) قال ابن عباس: الحرج: موضع الشجر الملتف لا تصل الراعية إليه، فقلب الكافر لا تصل إليه الحكمة، وكل ضيق حرج وحرج.
وقال الله سبحانه وتعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (4) أي طبع عليها، فلا تعقل ولا تعي خيرا، ومعنى الختم: التغطية على الشيء، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء. وقال جل ذكره: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} (5) قيل: المستور هاهنا بمعنى الساتر. والحجاب: الطبع. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}. (6)
فالعبد له كسب، وكسبه مخلوق يخلقه الله حالة ما يكسب، والقدر سر من أسرار الله لم يطلع عليه ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق بالعقل، بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق،
_________
(1) البقرة الآية (253).
(2) الحج الآية (18).
(3) الأنعام الآية (125).
(4) البقرة الآية (7).
(5) الإسراء الآية (45).
(6) الزمر الآية (7).(7/38)
فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (1) وقال الله سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (2) قال سعيد بن جبير: ما قدر لهم من الخير والشر، ومن الشقوة والسعادة، وقال الله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)} (3) قال مجاهد: بمضلين {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} (4) إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم، وقال الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} (5) قال سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (6) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (7) وقيل في قوله سبحانه وتعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} (8) أي طريق الخير،
_________
(1) الأعراف الآية (179).
(2) الأعراف الآية (37).
(3) الصافات الآية (162).
(4) الصافات الآية (163).
(5) الأعراف الآية (29).
(6) الأعراف الآية (30).
(7) الإنسان الآية (3).
(8) البلد الآية (10).(7/39)
وطريق الشر. وقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق إبليس ويروى هذا مرفوعا.
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} (1) فنسأل الله التوفيق لطيب المكتسب، ونعوذ به من سوء المنقلب بفضله. (2)
- وقال: (باب وعيد القدرية): ثم ساق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} (3) إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (4). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي كريب عن وكيع عن سفيان الثوري (5). قوله: {فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} قيل: في أمر يسعر، أي: يلهب. وقال الأزهري: يقال: ناقة مسعورة، إذا كان بها جنون، وقيل: سعر: جمع سعير. (6)
_________
(1) السجدة الآية (13).
(2) شرح السنة (1/ 122 - 145).
(3) القمر الآية (47).
(4) القمر الآية (49)
(5) أخرجه: أحمد (2/ 444و476) ومسلم (4/ 2046/2656) والترمذي (4/ 399/2157) وابن ماجه (1/ 32/83).
(6) شرح السنة (1/ 150 - 151).(7/40)
السنة الثامنة عشرة بعد الخمسمائة (518 هـ)
فضائح الباطنية وموقف المسلمين منهم:
قال ابن كثير: ثم دخلت ثمان عشرة وخمسمائة فيها ظهرت الباطنية بآمد فقاتلهم أهلها فقتلوا منهم سبعمائة. (1)
موقف السلف من أسعد بن أبي روح الرافضي (قبل 520 هـ)
قال الذهبي: رأس الرفض بالشام، القاضي أبو الفضل أسعد بن أحمد بن أبي روح الأطرابلسي، صاحب التصانيف. أخذ عن ابن البراج، وسكن صيدا إلى أن أخذتها الفرنج، فقتل بها. (2)
البُرْسُقِي (3) (520 هـ)
الملك آقسُنْقُر مملوك بُرْسُق غلام السلطان طُغْرُلْبَك قسيم الدولة أبو سعيد، ولي الموصل والرحبة، وقد ولي شحنكية بغداد، وكان تركيا جيد السيرة محافظا على الصلوات في أوقاتها، كثير البر والصدقات إلى الفقراء، كثير الإحسان إلى الرعايا، ولاه السلطان محمد بعدما استقرت له السلطنة
_________
(1) البداية (12/ 207).
(2) السير (19/ 499).
(3) السير (19/ 510 - 512) والمنتظم (17/ 230) والكامل في التاريخ (10/ 633 - 635) ووفيات الأعيان (1/ 242 - 243) والبداية والنهاية (12/ 209) وشذرات الذهب (4/ 61).(7/41)
وتقدم إليه بالتجهز إلى الموصل والاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصل فملكها وغزا ودفع الفرنج عن حلب ثم عاد إلى الموصل، وكان خيرا يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة كثير التهجد من الليل، وكان من كبراء الدولة السلجوقية، وله شهرة كبيرة بينهم، قتلته الباطنية بجامع الموصل يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة. وكانوا قد جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه وأثخنوه جراحا، وذلك لأنه كان تصدى لاستئصال شأفتهم وتتبعهم وقتل منهم عصبة كبيرة رحمه الله.
• موقفه من المشركين:
جاء في السير: وكان قد أباد في الإسماعيلية فشد عليه عشرة بالجامع فقتل بيده منهم ثلاثة. (1)
الطُّرْطُوشِي (2) (520 هـ)
محمد بن الوليد بن خلف أبو بكر الطرطوشي الإمام العلامة، القدوة الزاهد، شيخ المالكية الفقيه، لازم القاضي أبا الوليد الباجي بسرقسطة، وسمع بالبصرة من أبي علي التستري وسمع ببغداد من قاضيها أبي عبد الله الدامغاني ورزق الله التميمي، وأبي عبد الله الحميدي وغيرهم، حدث عنه أبو طاهر
_________
(1) السير (19/ 511).
(2) السير (19/ 490 - 496) والأنساب (4/ 68) ووفيات الأعيان (4/ 262 - 265) والوافي بالوفيات (5/ 175) والديباج المذهب (2/ 244 - 248) وشذرات الذهب (4/ 62).(7/42)
السلفي والفقيه سلار بن المقدم وجوهر بن لؤلؤ المقرئ وآخرون.
قال ابن بشكوال: كان إماما عالما زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقللا من الدنيا راضيا باليسير، سكن الشام مدة ودرس بها، وبعد صيته هناك وأخذ عنه الناس هناك علما كثيرا، وكان سديد السيرة مشتغلا بما يعنيه ملاذا للغرباء والفقهاء. استقر بالإسكندرية ينشر العلم، ويفقه الناس بأمور دينهم، يصلح ما أفسده العبيديون، وكان رحمه الله قد أوذي من الأفضل الوزير العبيدي. وبقي كذلك إلى أن قتل الأفضل وولي مكانه المأمون بن البطائحي، فأكرم الشيخ إكراما كثيرا.
توفي بالإسكندرية في جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
كان هذا الإمام من الموفقين المهديين -نفع الله به وبعلمه- وترك تراثا في العقيدة السلفية، استفاد منه أهل المغرب والمشرق وكانت له مواقف جيدة في العقيدة.
آثاره السلفية:
1 - 'رسالة في الرد على إحياء علوم الدين للغزالي'.
المصدر: ذكرها في السير. (1)
2 - 'الحوادث والبدع' وقد طبع غير ما مرة.
3 - 'الرد على اليهود'.
المصدر: ذكره الذهبي في سيره. (2)
_________
(1) (19/ 494).
(2) (19/ 494).(7/43)
من مواقفه رحمه الله:
- قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فما أصل البدعة؟
قلنا: أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يُحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتُذي، ولا أُلِفَ مثلُهُ.
ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1)، وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (2)؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض.
وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح. (3)
- وقال: اعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الاثنتين وسبعين فرقة عن هؤلاء تفرّقوا وتشعّبوا، وهم: الخوارج -وهي أول فرقة خرجت على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه- والروافض، والقدرية، والمرجئة.
ولم يرد علماؤنا أن أصل كل بدعة من هؤلاء الأربع تفرعت وتشعّبت على مقتضى أصل البدع، حتى كملت ثلاثة وسبعين فرقة؛ فإن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن، وإنما أرادوا أن كل بدعة وضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الأربع فرق، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعاً للأولى وشعبة من
_________
(1) البقرة الآية (117).
(2) الأحقاف الآية (9).
(3) كتاب الحوادث والبدع (ص.39 - 40).(7/44)
شعبها، بل هي بدعة مستقلّة بنفسها، ليست من الأولى بسبب. (1)
- ثم ذكر ما أحدثه الناس عند ختم القرآن فقال: وأعظم من ذلك ما يوجد اليوم في هذا الختم من اختلاط الرجال والنساء وازدحامهم، وتلاصق أجساد بعضهم ببعض، حتى بلغني أن رجلاً ضمّ امرأة من خلفها فعبث بها في مزدحم الناس! (2)
- وقال: فأما ما أحدثه الناس من الخطب في أعقاب الختم؛ فقال مالك: ليس ختم القرآن بسنة لقيام رمضان ...
وقال مالك في المدوّنة: الأمر في رمضان الصلاة، وليس بالقصص بالدعاء. (3)
فتأملوا -رحمكم الله-، فقد نهى مالك أن يقصّ أحد في رمضان بالدعاء، وحكى أن الأمر المعمول به في المدينة إنما هو الصلاة من غير قصص ولا دعاء.
- وقال: وسئل مالك عن الرجل يدعو خلف الصلاة قائماً؟ فقال: ليس بصواب، ولا أحب لأحد أن يفعله.
فعلقّ بقوله: اعلم أن الحرف الذي يدور عليه هذا المذهب إنما هو حماية الذرائع، وألا يزاد في الفروض ولا في السنن المسنّنة، وألا يُعتقد أيضاً في النوافل المبتدأة أنها سنن مؤقتة. (4)
_________
(1) كتاب الحوادث والبدع (ص.33 - 34).
(2) كتاب الحوادث والبدع (ص.46).
(3) كتاب الحوادث والبدع (ص.64 - 65).
(4) كتاب الحوادث والبدع (ص.66).(7/45)
- وقال وهو يرد على من يستدل للمحدثات بشيوع ذلك عند الناس -وهو ما يعبر عنه ما جرى به العمل-: فصل في الكلام على فريق من العامّة وأهل التقليد قالوا: إن هذا الأمر شائع ذائع في أقاليم أهل الإسلام وأقطار أهل الأرض، حتى قال بعض الأغبياء: إن القيروان كانت دار العلم بالمغرب، ولم يزل هذا الأمر بها فاشياً، لا مُنكر له!!
فالجواب أن نقول: شيعوعة الفعل وانتشاره لا يدلّ على جوازه؛ كما أن كتمه لا يدل على منعه.
ألا ترى أن بيع الباقلاّء في قشرته شائع في أقطار أهل الإسلام وعند الشافعي لا يجوز؟
والاستئجار على الحج شائع في بلاد الإسلام وعند أبي حنيفة لا يجوز؟
واقتعاط العمائم شائع في أهل الإسلام، وهو بدعة منكرة.
والاقتعاط: هو التعمّم دون الحنك ...
وإسبال الثوب تحت الكعبين شائع في بلاد أهل الإسلام، وهو حرام لا يجوز؟
وأكثر أفعال أهل زمانك على غير السنة، وكيف لا وقد روينا قول أبي الدرداء إذ دخل على أم الدرداء مغضباً، فقالت له: مالك؟ فقال: (والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا أنهم يصلّون جميعاً)، وما روينا هنالك من الآثار!!
فإنهم لم يبق فيهم من السنة إلا الصلاة في جماعة، كيف لا تكون معظم أمورهم محدثات؟!(7/46)
وأما من تعلّق بفعل أهل القيروان؛ فهذا غبي يستدعي الأدب دون المراجعة!
فنقول لهؤلاء الأغبياء: إن مالك بن أنس رأى إجماع أهل المدينة حجة، فردّه عليه سائر فقهاء الأمصار، هذا وهو بلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرصة الوحي، ودار النبوة، ومعدن العلم، فكيف بالقيروان؟!
وأيضاً؛ فإنما كان يكون فيه مُتَعلَّق لو نقلتُمْ عن علماء القيروان أنهم أفتوا بهذا؛ لأن الاقتداء إنما يكون بالعلماء لا بالعوامّ، وهذا ما لا ينقلونه أبداً، وإنما كان يفعله العوامّ والغوغاء، فإنكارنا عليهم كإنكارنا عليكم.
والدليل على هذا أن الفتيا بالقيروان إنما كانت على مذهب أهل المدينة، وقد كان القوم من أشدّ الناس تمسّكاً بمذهب مالك، فكان علماؤنا إنما يقومون في رمضان في بيوتهم؛ لقول مالك: (قيام الرجل في بيته لمن قوي عليه أحبّ إليّ)، وكان الغالب عليهم الورع والاتباع، وقد قال لهم في المدوّنة: (ليس الشأن في رمضان القصص بالدعاء)، فيبعد من حالهم أن يحدثوا هذه البدعة، وينصبوا المنابر، ويخطبوا عند الختم!
ولو كان هذا؛ لشاع وانتشر، وكان يضبطه طلبة العلم، والخَلَف عن السّلف، فيصل ذلك إلى عصرنا، فلما لم ينقل هذا أحد ممن يعتقد علمه، ولا ممن هو في عداد العلماء؛ علم أن هذه حكاية العوامّ والغوغاء.
ثم يقال لهم: بمَ تنفصلون ممن يعارضكم بشكل آخر من جنسه، فيقول لكم: إن قرطبة أعظم من القيروان، وهي دار العلم والخلافة -فقد فَضَلَت القيروان بالخلافة-، ثم لم يُعهد فيها قطّ خطبةٌ ولا منبر ولا دعاء ولا(7/47)
اجتماع عند ختم القرآن في رمضان؟
فإن قيل: فهل يأثم فاعل ذلك؟
فالجواب أن يقال: أما إن كان ذلك على وجه السلامة من اللغط، ولم يكن إلا الرجال، أو الرجال والنساء منفردين بعضهم عن بعض، يستمعون الذكر، ولم تُنتهك فيه شعائر الرحمن؛ فهذه البدعة التي كرهها مالك.
وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان؛ من اختلاط الرجال والنساء، ومضامة أجسامهم، ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريبة، ومعانقة بعضهم لبعض -كما حكي لنا أن رجلاً وُجد يطأ امرأة وهم وقوف في زحام الناس! وحكت لنا امرأة أن رجلاً واقعها فما حال بينهما إلا الثياب! وأمثال ذلك من الفسق واللغط-؛ فهذا فسوق، فيُفسّق الذي يكون سبباً لاجتماعهم.
فإن قيل: أليس روى عبد الرزاق في التفسير: (أن أنس بن مالك كان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله)؟
قلنا: فهذا هو الحجة عليكم؛ فإنه كان يصلّي في بيته، ويجمع أهله عند الختم، فأين هذا من نصبكم المنابر، وتلفيق الخطب على رؤوس الأشهاد، فيختلط الرجال والنساء والصبيان والغوغاء، وتكثر الزعقات والصياح، ويختلط الأمر، ويذهب بهاء الإسلام ووقار الإيمان؟!
وأيضاً؛ فإنه ما روي أنه دعا، وإنما جمع أهله فحسبُ. (1)
- وقال: فصل في بيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة
_________
(1) كتاب الحوادث والبدع (ص.71 - 76).(7/48)
المسلمين: روى مسلم في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا». (1)
فتدبّر هذا الحديث؛ فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قطّ من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قِبل أنه إذا مات علماؤهم؛ أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قِبله.
وقد صرّف عمر هذا المعنى تصريفاً، فقال: (ما خان أمين قطّ، ولكنه اؤتمن غير أمين فخان).
ونحن نقول: ما ابتدع عالم قطّ، ولكنه استُفتي من ليس بعالم؛ فضلّ وأضلّ. (2)
- وقال: الباب الرابع في نقل غرائب البدع وإنكار العلماء لها:
فمن ذلك البدع المحدثة في الكتاب العزيز من الألحان والتطريب: قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)} (3)؛ يعني: فصِّلْهُ تفصيلاً، وبيِّنْهُ تبييناً، وترسَّل فيه ترسيلاً، ولا تعجل في قراءته، وهو من قول العرب: ثغر رَتِلٌ ورَتْلٌ؛ إذا كان مُفْلجاً ذا فُرج.
قال مالك: (ولا تعجبني القراءة بالألحان، ولا أحبها في رمضان ولا في غيره؛ لأنه يشبه الغناء، ويُضحك بالقرآن، فيُقال: فلان أقرأُ من فلان).
_________
(1) تقدم في مواقف البغوي سنة (516هـ).
(2) كتاب الحوادث والبدع (ص.76 - 77).
(3) المزمل الآية (4).(7/49)
وبلغني أن الجواري يُعلَّمن ذلك كما يُعلمن الغناء! أترى هذا من القراءة التي كان يقرأ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!. (1)
- وقال: ومما ابتدعه الناس في القرآن الاقتصار على حفظ حروفه؛ دون التفقه فيه ... وهذا هو حال المقرئين في هذه الأعصر؛ فإنك تجد أحدهم يروي القرآن بمائة رواية، ويُثقِّف حروفه تثقيف القدح، وهو أجهل الجاهلين بأحكامه، فلو سألته عن حقيقة النّيّة في الوضوء، ومحلّها، وعزوبها، ورفضها، وتفريقها على أعضاء الوضوء؛ لم يخرج جواباً، وهو يتلو عُمُرَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (2).
بل لو سألته عن أوّل درجة، فقلت له: أمر الله تعالى على الوجوب هو؟ أم على الندب والاستحباب؟ أم على الوقف؟ أم على الإباحة؟ فطلبته بفهم هذه الدقائق ووجوهها وترتيبها؛ لم يجد جواباً!. (3)
- وعقد فصلاً نقل فيه أقوال الأئمة ببدعية ما أحدث الناس من الاجتماع في المساجد والدعاء يوم عرفة ثم قال: فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة لا في غيرها، ولم يمنعوا من خلا بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله
_________
(1) كتاب الحوادث والبدع (ص.83 - 84).
(2) المائدة الآية (6).
(3) كتاب الحوادث والبدع (ص.96 - 98).(7/50)
تعالى، وإنما كرهوا الحوادث في الدين، وأن يظن العوامّ أن من سنة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع والدعاء، فيتداعى الأمر إلى أن يُدخل في الدين ما ليس منه.
وقد كنت ببيت المقدس، فإذا كان يوم عرفة؛ حُبس أهل السواد وكثير من أهل البلد، فيقفون في المسجد مستقبلين القبلة مرتفعة أصواتهم كأنه موطن عرفة!
وكنت أسمع هناك سماعاً فاشياً منهم: أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات؛ فإنها تعدل حجة، ثم يجعلونه ذريعة إلى إسقاط فريضة الحج إلى بيت الله الحرام!!. (1)
- وقال: ومن البدع اجتماع الناس بأرض الأندلس على ابتياع الحلوى ليلة سبع وعشرين من رمضان.
وكذلك على إقامة 'يَنَير' بابتياع الفواكه؛ كالعجم، وإقامة العنصرة، وخميس إبريل؛ بشراء المجبّنات والإسفنج، وهي من الأطعمة المبتدعة، وخروج الرجال جميعاً أو أشتاتاً مع النساء مختلطين للتفرّج.
وكذلك يفعلون في أيام العيد، ويخرجون للمصلّى، ويقمن فيه الخيم للتفرج لا للصلاة.
ودخول الحمام للنساء مع الكتابيات بغير مئزر، والمسلمين مع الكفار في الحمام ...
ورجع الناس ينافسون في الضحية؛ للافتخار، لا للسنة، ولا لطلب
_________
(1) كتاب الحوادث والبدع (ص.127 - 128).(7/51)
الأجر، بل لإقامة الدنيا.
ومن البدع قراءة القارئ يوم الجمعة عشراً من القرآن عند خروج السلطان، وكذلك الدعاء بعد الصلاة، وقراءة الحزب في جماعة، وقراءة سورة الكهف بعد العصر في المسجد في جماعة، وكذلك قول من يقول عند قيام الإمام في المحراب قبل تكبيرة الإحرام: اللهم أقِمْها وأدِمْها ما دامت السماوات والأرض! وهذا دعاء المحال؛ لأن ما بقي لقيام الساعة أقل مما مضى؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بُعثتُ أنا والساعة كهاتين» (1)، وقرن السبابة والوسطى. (2)
- وقد ردّ على من يتعلق بحديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله» الحديث (3)، للقراءة الجماعية بقوله: والسّرّ فيه أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يتلونه ويتدارسونه» خطاب عربيّ، ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم، ورجل واحد يقرأ القرآن؛ لجاز أن يقولوا: هؤلاء جماعة يقرؤون القرآن ويتدارسونه. وإن كانوا كلهم سكوتاً.
وكذلك لو مرّ العربيّ بجماعة اجتمعوا لتدريس العلم والتفقه فيه ولسماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لجاز أن يقول: هذه جماعة يدرسون العلم،
_________
(1) أحمد (3/ 124) والبخاري (11/ 422/6504) ومسلم (4/ 2268/2951) والترمذي (4/ 430/2214) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) كتاب الحوادث والبدع (ص.150 - 153).
(3) أحمد (2/ 252) ومسلم (4/ 2074/2699) وأبو داود (2/ 148 - 149/ 1455) والترمذي (5/ 179/2945) والنسائي في الكبرى (4/ 309/7287) وابن ماجه (1/ 82/225) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/52)
ويقرؤون العلم والحديث، وإن كان القارئ واحداً. (1)
- وقال في المآتم: والمأتم: هو الاجتماع في الصّبحة، وهو بدعة منكرة لم يُنقل فيه شيء.
وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والسابع والشهر والسنة، فهو طامّة.
وقد بلغني عن الشيخ أبي عمران الفاسيّ -وكان من أئمة المسلمين- أن بعض أصحابه حضر صبحة، فهجره شهرين وبعض الثالث، حتى استعان الرجل عليه، فقبله وراجعه، وأظنه استتابه ألا يعود.
فأما ما يوقد فيها من الشمع والبخور؛ فتبذير وسرف، وإن أنفقه الوصيّ من مال التركة؛ ضمنه، وسقطت به عدالته، واستأنف الحاكم النظر في الوصاية. (2)
- وقال رحمه الله: اعلم أن ما حدث في سائر أقطار بلاد أهل الإسلام من هذه المنكرات والبدع لا مطمع لأحد في حصرها، لأنها خطأ وباطل، والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه، فاخط كيف شئت، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه، فهو الحق، لأنه أمر واحد مقصود، يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه.
وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف، فإن طرق الإصابة تنحصر وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع، وتسديد السهم.
_________
(1) كتاب الحوادث والبدع (ص.167).
(2) كتاب الحوادث والبدع (ص.175 - 176).(7/53)
فأما من أراد أن يخطئ الهدف، فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط. (1)
- وقال: فأما أصحاب الألحان؛ فإنما حدثوا في القرن الرابع؛ منهم: محمد بن سعيد صاحب الألحان، والكرماني، والهيثم، وأبان ... فكانوا مهجورين عند العلماء، فنقلوا القراءة إلى أوضاع لحون الأغاني، فمدوا المقصور، وقصروا الممدود، وحركوا الساكن، وسكنوا المتحرك، وزادوا في الحرف، ونقصوا منه، وجزموا المتحرك، وحركوا المجزوم؛ لاستيفاء نغمات الأغاني المطربة ... ومن ألحانهم في القرآن: النبطي، والرومي، والحساني، والمكي، والإسكندراني، والمصري، والكاروندي، والراعي، والديباجي، والياقوتي، والعروسي، والزّرجون، والمرجي والمجوسي، والزنجي، والمُنمنم، والسِّندي، وغيرها؛ كرهنا ذكر التطويل بها.
فهذه أسماء ابتدعوها في كتاب الله تعالى: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (2).
فالتالي منهم والسامع لا يقصدون فهم معانيه؛ من أمر، أو نهي، أو وعد، أو وعيد، أو وعظ، أو تخويف، أو ضرب مثل، أو اقتضاء حكم، أو غير ذلك مما أنزل به القرآن، وإنما هو للذة، والطرب، والنغمات، والألحان؛ كنقر الأوتار، وأصوات المزامير؛ كما قال الله عز وجل يذمّ قريشاً: {وَمَا
_________
(1) الحوادث والبدع (ص.22).
(2) النجم الآية (23).(7/54)
كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (1).
وإنما أنزل القرآن لتُتدبّر آياته وتفهم معانيه:
قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} (2). وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} (3). وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (4).
وهذا يمنع أن يقرأ بالألحان المطرِّبة والمشبِّهة للأغاني؛ لأن ذلك يُثمر ضدَّ الخشوع، ونقيضَ الخوف والوجل.
وقوله تعالى فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (5).
وهذا يفيد الأمر بتلاوته على هذا الوجه، وأن بكاءهم إنما كان مما فهموا من معانيه، لا من نغمات القارئ.
فأين هذا من دقّ الرِّجل، وثني العطف، وتحريك الرأس، والصياح، والزعق، والمكاء، والتصدية؟!
_________
(1) الأنفال الآية (35).
(2) ص الآية (29).
(3) النساء الآية (82).
(4) الأنفال الآية (2).
(5) المائدة الآية (82).(7/55)
قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (1).
فليت شعري! ما الذي يورث خشية الله تعالى؟! أألحان الكرماني ونغمات الترمذي، أو فهم معانيه، وتدبر آياته، واستخلاص حكمه وعجائب مضمونه؟!. (2)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق؛ فهي ذات أنواط؛ فاقطعوها. (3)
- وقال: ولا يُتمسّح بقبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَمسح كذلك المنبر، ولكن يدنو من المنبر، فيُسلّم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو مستقبلاً القبلة؛ يُولّيه ظهره -وقيل: لا يوليه ظهره- ويصلّي ركعتين قبل السلام عليه.
وقيل: واسعٌ أن يسلم عليه قبل أن يركع. (4)
موقفه من الرافضة:
جاء في الفكر السامي: ... وكان راضيا من الدنيا بالقليل لورعه، ثم سكن الأسكندرية وتزوج امرأة موسرة، وهبت له دارا سكن أعلاها
_________
(1) الحشر الآية (21).
(2) كتاب الحوادث والبدع (ص.84 - 88).
(3) الحوادث والبدع (ص.38 - 39).
(4) كتاب الحوادث والبدع (ص.156 - 157).(7/56)
وجعل أسفلها مدرسة للطلبة، وكان نزوله بالأسكندرية بعد قتل بني عبيد لعلمائها فنشر العلم بها وأحيا معالمه بعد ما تعطلت دروسه وكان يقول: إن سألني الله عن المقام بالأسكندرية مع ما هي عليه من تعطيل الجمعة وغير ذلك من المناكر التي كانت أيام العبيديين أقول له: وجدت قوما ضلالا فكنت سبب هدايتهم. وهكذا ينبغي للعلماء، بل يجب عليهم هداية الخلق ولا يجوز لهم الهجرة إلا إذا يئسوا الهداية أو خافوا الفتنة على أنفسهم أو دينهم. وامتحنه العبيديون بإخراجه منها وملازمة الفسطاط. (1)
موقفه من الصوفية:
- جاء في السير: أنبأنا ابن علان عن الخشوعي عن الطرطوشي أنه كتب هذه الرسالة جوابا عن سائل سأله من الأندلس عن حقيقة أمر مؤلف الإحياء، فكتب إلى عبد الله بن مظفر: سلام عليك فإني رأيت أبا حامد وكلمته فوجدته امرءا وافر الفهم والعقل وممارسة للعلوم، وكان ذلك معظم زمانه، ثم خالف عن طريق العلماء ودخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان، ثم سابها وجعل يطعن على الفقهاء بمذاهب الفلاسفة ورموز الحلاج وجعل ينتحي عن الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين.
قال الحافظ أبو محمد: إن محمد بن الوليد هذا، ذكر في غير هذه الرسالة: كتاب الإحياء. قال: وهو -لعمر الله أشبه بإماتة علوم الدين. ثم رجعنا إلى تمام الرسالة.
_________
(1) الفكر السامي (2/ 220).(7/57)
قال: فلما عمل كتابه الإحياء، عمد فتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها ولا خبير بمعرفتها. فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قر، ولا في أحوال الزاهدين استقر، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلم كتابا على وجه بسيط الأرض أكثر كذبا على الرسول منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ورموز الحلاج ومعاني رسائل إخوان الصفا وهم يرون النبوة اكتسابا، فليس النبي عندهم أكثر من شخص فاضل تخلق بمحاسن الأخلاق وجانب سفسافها، وساس نفسه حتى لا تغلبه شهوة، ثم ساق الخلق بتلك الأخلاق. وأنكروا أن يكون الله يبعث إلى الخلق رسولا، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. ولقد شرف الله الإسلام وأوضح حججه، وقطع العذر بالأدلة، وما مثل من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة والآراء المنطقية إلا كمن يغسل الثوب بالبول، ثم يسوق الكلام سوقا يرعد فيه ويبرق ويمني ويشوق، حتى إذا تشوفت له النفوس قال: هذا من علم المعاملة وما وراءه من علم المكاشفة، لا يجوز تسطيره في الكتب ويقول: هذا من سر الصدر الذي نهينا عن إفشائه. وهذا فعل الباطنية وأهل الدغل والدخل في الدين، يستقل الموجود ويعلق النفوس بالمفقود، وهو تشويش لعقائد القلوب، وتوهين لما عليه كلمة الجماعة فلئن كان الرجل يعتقد ما سطره، لم يبعد تكفيره وإن كان لا يعتقده فما أقرب تضليله.
وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب، فلعمري إذا انتشر بين من لا معرفة له بسمومه القاتلة، خيف عليهم أن يعتقدوا إِذاً صحة ما فيه، فكان تحريقه في معنى ما حرقته الصحابة من صحف المصاحف التي تخالف(7/58)
المصحف العثماني. (1)
التعليق:
يا من يقرؤون لدعاة التخريف في العصر الحاضر، اقرأوا كلمة عالم خبير، له معرفة بالعلوم الشرعية والباع الطويل. إذا تكلم في واحد منها يظن أنه لا يحسن غيره. ماذا يقول في كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي؟ هل تصدقه أو تصدق سعيد حوى في كتابه 'تربيتنا الروحية' وأمثاله كثير، والله المستعان.
- جاء في الصاعقة المحرقة: سأله بعضهم فقال: ما تقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية أنه يجتمع من الرجال فيكثرون من ذكر الله وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنهم يرقصون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا رحمكم الله.
الجواب: رحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول ما أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون. فهو دين الكفار وعباد العجل. وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة، ويشغلون به المسلمين (2) عن كتاب الله.
_________
(1) السير (19/ 494 - 496).
(2) في الأصل المسلمون، والصواب ما أثبتناه.(7/59)
وإنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار. فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من المسلمين وبالله التوفيق. (1)
موقفه من القدرية:
ذكر حديث افتراق الأمة (2) ومثل بالقدرية فقال: وبيان ذلك بالمثال: أن القدر أصل من أصول البدع، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر، فجميعهم متفقون أن أفعال العباد خلقٌ لهم من دون الله تعالى، ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر:
فقال أكثرهم: لا يكون فعل بين فاعلين! وقال بعضهم -وهو المِرْدار-: يجوز فعلٌ بين فاعلين مخلوقين على التولّد. وأحال مثله بين القديم والمُحدَث.
ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة؛ كاختلافهم في الصلاح والأصلح: فقال البغداديون منهم: يجب على الله -تعالى عن قولهم- فعلُ الأصلح لعباده في دينهم ودنياهم، ولا يجوز في حكمته تبقية وجهٍ ممكن به الصلاح العاجل والآجل؛ إلا وعليه فعلُ أقصى ما يقدِرُ عليه في استصلاح عباده.
قالوا: وواجبٌ على الله -تعالى- ابتداءُ الخلق الذين علم أنه يُكلِّفهم،
_________
(1) الصاعقة المحرقة (34). انظر المعيار المعرب (11/ 162 - 163).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ).(7/60)
ويجب عليه إكمال عقولهم وأقدارهم، وإزاحة عللهم!
وقال البصريون منهم: لا يجب على الله -تعالى- إكمال عقولهم، ولا أن يؤتيهم أسبابَ التكليف.
وقال البغداديون منهم: يجب على الله -تعالى عن قولهم- عقاب العصاة إذا لم يتوبوا، والمغفرة من غير توبة سفهٌ من الغافر! وأبى البصريون ذلك.
وابتدع جعفر بن مبشِّر من القدرية بدعةً، فقال: من استحضر امرأة ليتزوجها، فوثب عليها، فوطئها بلا وليّ ولا شهود ولا رضىً ولا عقد؛ حلّ له ذلك!. وخالفه في ذلك سَلَفه، وخالفه خَلَفُهُ.
وقال ثُمامة بن أشرسَ: إن الله -تعالى- يُصيّر الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين تراباً يوم القيامة؛ لا يُعذبهم، ولا يُعوّضهم! وقوله هذا في الكفار والملحدين خرقٌ لإجماع الأمة؛ من أهل الإثبات، وأهل القدر، وغيرهم. (1)
أبو الوليد ابن رشد (2) (520 هـ)
الإمام العلامة شيخ المالكية، قاضي الجماعة بقرطبة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي جد ابن رشد الفيلسوف. ولد سنة
_________
(1) كتاب الحوادث والبدع (ص.34 - 35).
(2) السير (19/ 501 - 502) وتاريخ الإسلام (35/ 443 - 444) والديباج المذهب (2/ 248 - 250) وشذرات الذهب (4/ 62) وشجرة النور الزكية (1/ 129).(7/61)
خمس وخمسين وأربعمائة. وتفقه بأبي جعفر أحمد بن رزق وسمع الجياني وأبا عبد الله بن فرج وأبا مروان بن سراج. وأجاز له أبو العباس بن دلهاث. قال ابن بشكوال: كان فقيها عالما، حافظا للفقه مقدما فيه على جميع أهل عصره، عارفا بالفتوى بصيرا بأقوال أئمة المالكية، نافذا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن.
كانت الدراية أغلب عليه من الرواية كثير التصانيف. وله ثناء على أئمة الأشاعرة كما في مسائله (1). مات في ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة وصلى عليه ابنه أبو القاسم.
موقفه من القدرية:
له مواقف من القدرية والرد على ضلالهم حذا فيها حذو الأئمة الأعلام.
- جاء في كتاب 'البيان والتحصيل': وسمعت مالكا يقول لرجل سألتني أمس عن القدر؟ فقال له الرجل: نعم، قال: يقول الله تعالى في كتابه: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) حقت كلمته ليملأن جهنم منهم، فلابد من أن يكون ما قال.
قال محمد بن رشد: هذه الآية بينة في الرد على أهل القدر كما قال،
_________
(1) (1/ 716 - 718)
(2) السجدة الآية (13).(7/62)
وذلك أنهم يقولون إن الله تعالى أمر عباده بالطاعة وأرادها منهم ونهاهم عن المعصية ولم يردها منهم، فلم يكن ما أراد من الطاعة وكان ما لم يرد من المعصية، لأن العباد عندهم خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم دون إرادة ربهم وخالقهم، وذلك ضلال بين وكفر صريح عند أكثر العلماء، لأنهم يلحقون العجز بالله تعالى في أن يكون ما لا يريد، ويريد ما لا يكون، والجهل به أيضا لأنهم إذا كانوا هم الخالقون لأفعالهم بمشيئتهم، فلا يعلم وقوعها منهم على قولهم حتى يفعلوها، وهذا كفر صريح وتكذيب لقوله تعالى في غير ما آية من كتابه، وذلك قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (1) وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (2) وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4) وقال: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (5) وقال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (6) والآيات في الرد عليهم أكثر من أن تحصى وأبين من أن تخفى، وقد قال عون بن معمر سمعت سعيد ابن أبي عروبة وكان يترهب بمذهب أهل القدر يقول: ما في
_________
(1) يونس الآية (99).
(2) الأنعام الآية (125).
(3) الإنسان الآية (30).
(4) الرعد الآية (16).
(5) الصافات الآية (96).
(6) الملك الآية (14).(7/63)
القرآن آية أشد علي من قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} (1)
قال: فقلت القرآن يشق عليك؟ والله لا أكلمك أبدا فما كلمته حتى مات، فرحم الله عون بن معمر، والآثار في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متواترة لا تحصى، من ذلك قوله: «كل شيء بقدر» (2)، وقوله: «لا تسأل المرأة طلاق أختها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها» (3) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون»، فقال رجل ففيم العمل؟ فقال رسول الله: «إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» (4)، وقول آدم لموسى في حديث محاجته: أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق (5) وبالله التوفيق. (6)
_________
(1) الأعراف الآية (155) ..
(2) انظر تخريجه في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ).
(3) تقدم في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ).
(4) أحمد (4/ 186) من حديث عبد الرحمن بن قتادة وصححه ابن حبان (2/ 50/338) والحاكم (1/ 31) ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي (7/ 186) وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات"، وفي الباب عن عدة من الصحابة كأنس وأبي موسى وحكيم بن حزام وأبي سعيد وابن عمر ومعاذ وغيرهم.
(5) تقدم في مواقف هارون الرشيد سنة (193هـ).
(6) البيان والتحصيل (16/ 365 - 367).(7/64)
- وقال: سئل مالك عن القدرية فقال قوم سوء فلا تجالسوهم، قيل ولا نصلي وراءهم؟ قال: نعم، وقال سحنون: كان ابن غانم يقول في كراهية مجالسة أهل الأهواء: أرأيت لو أن أحدكم قعد إلى سارق في كمه بضاعة أما كان يختزنها منه خوفا أن يغتاله فيها فلا يجد بدا أن يقول نعم، قال: فدينكم أولى بأن تحرزوه وتتحفظوا به.
وسئل عن الرجل يكون بينه وبين الرجل من أهل القدر في ذلك منازعة حتى يبقى يأتيه القدري فيأخذ بيده وتتصل إليه، فقال: إن كان جاء نازعا تاركا لذلك فليقبل منه ذلك وليكلمه وإن لم يكن جاء لذلك فإني أراه في سعة من ترك كلامه، قيل له: إنه قديتشبت ويتعلق ويأخذ بيدي ويسألني الكلام؟ فقال: لا أرى بأسا أن يترك كلامه.
قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية في أهل القدر إنهم قوم سوء فلا يجالسوا ولا يصلي وراءهم، نص منه على أنهم لا يكفروا باعتقادهم خلاف ظاهر قوله في أول رسم من سماع ابن القاسم آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (1) الآية، قال فأي كلام أبين من هذا، قال ابن القاسم: ورأيته تأولها على أهل الأهواء، فالقدرية عند عامة العلماء كفار، لأنهم نسبوا إلى الله تعالى العجز والجهل في قولهم إن الله لم يقدر المعاصي ولا الشر، وإن ذلك جار في خلقه وسلطانه بغير قدرته ولا إرادته، فنفوا القدرة والإرادة في ذلك
_________
(1) آل عمران الآية (106).(7/65)
عن الله تعالى ونسبوها لأنفسهم حتى قال بعض طواغيتهم: إنه لو كان طفل على حاجز بين الجنة والنار لكان الله تعالى موصوفا بالقدرة على طرحه إلى الجنة وإبليس موصوفا بالقدرة على طرحه في النار، وأن الله لا يوصف بالقدرة على ذلك، وزعموا أن خلاف هذا كفر وشرك، وعند بعضهم قوم سوء ضلال؛ لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في عقود الدين؛ لأن الله تعالى أضلهم وأغواهم ولم يرد هداهم وعمى بصائرهم عن الحق ولم يرد شرح صدورهم له كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} (1) الآية وقد تواترت الآثار بإخراجهم عن الإسلام وإضافتهم إلى أصناف الكفر، من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «القدرية مجوس هذه الأمة» (2) و «القدرية نصارى هذه الأمة» وقوله: «صنفان من أمتي ليس لهم نصيب في الإسلام المرجئة والقدرية» (3)،
وقوله: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة القدرية لا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا هذه القدرية؛ فإنها شعبة من النصرانية» (4) ومن مثل هذا ونحوه كثير، وقد نهى مالك عن مجالستهم وإن لم يرهم كفارا بما لقولهم على هذه الرواية لوجوه ثلاثة، أحدها: أنهم إن لم يكونوا كفارا فهم زائغون ضلال يجب التبرؤ منهم وبغضهم في الله؛ لأن
_________
(1) الأنعام الآية (125).
(2) تقدم في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).
(3) تقدم في مواقف سفيان الثوري سنة (161هـ) ..
(4) أخرجه بلفظ: «اتقوا هذا القدر ... » ابن أبي عاصم (1/ 146/332) واللالكائي (4/ 697/1128) وابن عدي (5/ 194) والطبراني (11/ 262/11680) كلهم من طريق نزار بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس، قال الهيثمي في المجمع (7/ 202): "وفيه نزار بن حيان وهو ضعيف"، وقال الشيخ الألباني: "ضعيف جدا" (الضعيفة 1786).(7/66)
البغض في الله والحب فيه من الإيمان، وقد قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا} الآية، وهم ممن حاد الله ورسوله باعتقادهم الفاسد الذي خرجوا به عن الملة في قول كافة الأمة، والوجه الثاني: مخافة أن يعرض بنفسه سوء الظن بمجالستهم فيظن به أنه يميل إلى هواهم، والثالث: مخافة أن يستمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده بشبههم وكفى من التحرير عن ذلك المثل الصحيح الذي ضربه مالك في رواية ابن غانم عنه ونهى عن الصلاة خلفهم على مقتضى هذه الرواية من أنهم كفار لأنهم وإن لم يكونوا كفارا هم زائغون ضلال ... (1)
وردد ذلك مرارا كلما جاء ذكرهم كما في (17/ 265و503و575) و (18/ 149و210). (2)
أبو العز القَلاَنِسِي (3) (521 هـ)
الإمام الكبير شيخ القراء أبو العز محمد بن الحسين بن بندار الواسطي القلانسي، صاحب التصانيف في القراءات مقرئ العراق. ولد سنة خمس وثلاثين وأربعمائة. وتلا بالعشرة على أبي علي غلام الهراس، وأخذ أيضا عن أبي القاسم الهذلي، وأبي جعفر بن المسلمة، وقرأ ختمة لعاصم على أبي الفوارس الأواني. كان بصيرا بالقراءات وعللها وغوامضها عارفا بطرقها عالي
_________
(1) البيان والتحصيل (16/ 380 - 382).
(2) من كتابه البيان والتحصيل.
(3) المنتظم (10/ 8) والسير (19/ 496 - 498) وميزان الاعتدال (3/ 525) والوافي بالوفيات (3/ 4) وغاية النهاية (2/ 128 - 129) ومعرفة القراء الكبار (1/ 473 - 475) وشذرات الذهب (4/ 64).(7/67)
الإسناد. وتصدر للإقراء دهرا ورحل إليه من الأقطار.
قال السلفي: سألت خميسا الحوزي عن أبي العز، فقال: هو أحد الأئمة الأعيان في علوم القرآن، برع في القراءات، وسمع من جماعة، وهو جيد النقل ذو فهم فيما يقوله. توفي رحمه الله في شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة بواسط.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: قال السمعاني: قرأ عليه عالم من الناس، ورحل إليه من الأقطار، وسمعت عبد الوهاب الأنماطي يسيء الثناء عليه، ونسبه إلى الرفض، ثم وجدت لأبي العز أبياتا في فضيلة الصحابة. (1)
- أنشد أبو العز القلانسي:
إن من لم يقدم الصديقا ... لم يكن لي حتى الممات صديقا
والذي لا يقول قولي في الفا ... روق أهوى لشخصه تفريقا
وبنار الجحيم باغض عثما ... ن ويهوي منها مكانا سحيقا
من يوالي عندي عليا وعادا ... هم جميعا عددته زنديقا (2)
موقف السلف من المهدي بن تومرت (524 هـ)
كان هذا الرجل قنبلة مشؤومة على العقيدة السلفية. ارتحل من المغرب
_________
(1) السير (19/ 497).
(2) لسان الميزان (5/ 144).(7/68)
إلى المشرق والتقى بعلماء أشاعرة مع ما تعلمه من مكر الشيعة الباطنية. فرجع إلى المغرب ونفسه تتشوق إلى الرئاسة وحب الظهور. فدخل المغرب وهو يحمل في رأسه كل حيلة ومكر وخداع. فادعى أنه الإمام المعصوم. واستخدم في ذلك أنواع الدجل حتى إنه يحكى عنه أنه كان يتفق مع مجموعة فينومهم في القبور ويأتيهم، ويأمرهم بالقيام من قبورهم فيخرجون، ثم يقتلهم حتى لا يخبرون عن دجله. وتذرع أيضا بعقيدة مزج فيها الأشعرية والاعتزال وسماها عقيدة الموحدين. وسمى العقيدة السلفية التي كان عليها المرابطون عقيدة التجسيم على عادة المبتدعة في تشويه العقيدة السلفية.
جاء في السير: قال اليسع ابن حزم: سمى ابن تومرت المرابطين بالمجسمين، وما كان أهل المغرب يدينون إلا بتنزيه الله تعالى عما لا يجب وصفه بما يجب له، مع ترك خوضهم عما تقصر العقول عن فهمه ... فكفرهم ابن تومرت لجهلهم العرض والجوهر، وأن من لم يعرف ذلك لم يعرف المخلوق من الخالق، وبأن من لم يهاجر إليه ويقاتل معه فإنه حلال الدم والحريم، وذكر أن غضبه لله وقيامه حسبة. (1)
جاء في المنهاج: وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوما.
ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام: للكتاب والسنة
_________
(1) السير (19/ 550 - 551).(7/69)
وإجماع سلف الأمة وأئمتها. فإن الله تعالى يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) الآية، فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول، أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه، لأنه لايقول عنده إلا الحق كالرسول. وهذا خلاف القرآن.
وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد. والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (2). وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} (3) فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة، ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر، ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الأبرار والفجار، وبين الحق والباطل، وبين الغي والرشاد، والهدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسم الله به
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) النساء الآية (69).
(3) الجن الآية (23).(7/70)
عباده إلى شقي وسعيد، فمن اتبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي. وليست هذه المرتبة لغيره.
ولهذا اتفق أهل العلم -أهل الكتاب والسنة- على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى عليه وسلم، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فإنه المعصوم الذي لاينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} (1) وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم، فيقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ويقال: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: هو عبد الله ورسوله، جاءنا بالبينات والهدى فّآمنا به واتبعناه. ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك، ولا يمتحن في قبره بشخص غير الرسول. (2)
وجاء في السير: وسار ابن تومرت إلى أغمات، فنزلوا على الفقيه عبد الحق المصمودي، فأكرمهم، فاستشاروه، فقال: هنا لا يحميكم هذا الموضع، فعليكم بتينمل فهي يوم عنا، وهو أحصن الأماكن، فأقيموا به برهة كي ينسى ذكركم. فتجدد لابن تومرت بهذا الاسم ذكر لما عنده، فلما
_________
(1) الأعراف الآية (6).
(2) المنهاج (6/ 189 - 191).(7/71)
رآهم أهل الجبل على تلك الصورة، علموا أنهم طلبة علم، فأنزلوهم، وأقبلوا عليهم، ثم تسامع به أهل الجبل، فتسارعوا إليهم، فكان ابن تومرت من رأى فيه جلادة، عرض عليه ما في نفسه، فإن أسرع إليه، أضافه إلى خواصه، وإن سكت، أعرض عنه، وكان كهولهم ينهون شبانهم ويحذرونهم وطالت المدة، ثم كثر أتباعه من جبال درن، وهو جبل الثلج، وطريقه وعر ضيق.
قال اليسع في 'تاريخه': لا أعلم مكانا أحصن من تينملل لأنها بين جبلين، ولا يصل إليهما إلا الفارس، وربما نزل عن فرسه في أماكن صعبة، وفي مواضع يعبر على خشبة، فإذا أزيلت الخشبة، انقطع الدرب، وهي مسافة يوم، فشرع أتباعه يغيرون ويقتلون، وكثروا وقووا، ثم غدر بأهل تينملل الذين آووه، وأمر خواصه، فوضعوا فيهم السيف، فقال له الفقيه الإفريقي أحد العشرة من خواصه: ما هذا؟! قوم أكرمونا وأنزلونا نقتلهم!! فقال لأصحابه: هذا شك في عصمتي، فاقتلوه فقتل.
قال اليسع: وكل ما أذكره من حال المصامدة، فقد شاهدته، أو أخذته متواترا، وكان في وصيته إلى قومه إذا ظفروا بمرابط أو تلمساني أن يحرقوه.
فلما كان عام تسعة عشر وخمس مائة، خرج يوما، فقال: تعلمون أن البشير -يريد الونشريسي- رجل أمي، ولا يثبت على دابة، فقد جعله الله مبشرا لكم، مطلعا على أسراركم، وهو آية لكم، قد حفظ القرآن، وتعلم الركوب، وقال: اقرأ، فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصانا وساقه، فبهتوا، وعدوها آية لغباوتهم، فقام خطيبا، وتلا: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ(7/72)
الطَّيِّبِ} (1)، وتلا: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} (2)، فهذا البشير مطلع على الأنفس، ملهم، ونبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في هذه الأمة محدثين، وإن عمر منهم» (3) وقد صحبنا أقوام أطلعه الله على سرهم، ولا بد من النظر في أمرهم، وتيمم العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: من كان مطيعا للإمام، فليأت، فأقبلوا يهرعون، فكانوا يعرضون على البشير، فيخرج قوما على يمينه، ويعدهم من أهل الجنة، وقوما على يساره، فيقول: هؤلاء شاكون في الأمر، وكان يؤتى بالرجل منهم، فيقول: هذا تائب ردوه على اليمين تاب البارحة، فيعترف بما قال، واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفر منهم أحد، وإذا تجمع منهم عدة، قتلهم قراباتهم حتى يقتل الأخ أخاه.
قال: فالذي صح عندي أنهم قتل منهم سبعون ألفا على هذه الصفة، ويسمونه التمييز، فلما كمل التمييز، وجه جموعه مع البشير نحو أغمات، فالتقاهم المرابطون، فهزمهم المرابطون، وثبت خلق من المصامدة، فقتلوا، وجرح عمر الهنتاتي، عدة جراحات، فحمل على أعناقهم مثخنا، فقال لهم البشير: إنه لا يموت حتى تفتح البلاد، ثم بعد مدة، فتح عينيه، وسلم، فلما أتوا، عزاهم ابن تومرت، وقال: يوم بيوم، وكذلك حرب الرسل. (4)
_________
(1) الأنفال الآية (37).
(2) آل عمران الآية (110).
(3) أحمد (2/ 339) والبخاري (7/ 52/3689) والنسائي في الكبرى (5/ 40/8120) كلهم أخرجه من حديث أبي هريرة. وفي الباب من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) السير (19/ 544 - 547).(7/73)
وفيها: قال عبد الواحد المراكشي: وكان جل ما يدعو إليه الاعتقاد على رأي الأشعري، وكان أهل الغرب ينافرون هذه العلوم، فجمع متولي فاس الفقهاء، وناظروه، فظهر، ووجد جوا خاليا، وقوما لا يدرون الكلام، فأشاروا على الأمير بإخراجه، فسار إلى مراكش، فبعثوا بخبره إلى ابن تاشفين، فجمع له الفقهاء، فناظره ابن وهيب الفيلسوف، فاستشعر ذكاءه وقوة نفسه، فأشار على ابن تاشفين بقتله، وقال: إن وقع إلى المصامدة، قوي شره، فخاف الله فيه، فقال: فاحبسه، قال: كيف أحبس مسلما لم يتعين لنا عليه حق؟ بل يسافر، فذهب ونزل بتينمل، ومنه ظهر، وبه دفن، فبث في المصامدة العلم، ودعاهم إلى الأمر بالمعروف، واستمالهم، وأخذ يشوق إلى المهدي، ويروي أحاديث فيه، فلما توثق منهم قال: أنا هو، وأنا محمد بن عبد الله، وساق نسبا له إلى علي، فبايعوه، وألف لهم كتاب 'أعز ما يطلب'، ووافق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيع، ورتب أصحابه، فمنهم العشرة، فهم أول من لباه، ثم الخمسين، وكان يسميهم المؤمنين، ويقول: ما في الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة الذين عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين» (1)
وأنتم تفتحون الروم، وتقتلون الدجال، ومنكم الذي يؤم بعيسى، وحدثهم بجزئيات اتفق وقوع أكثرها، فعظمت فتنة القوم به حتى قتلوا أبناءهم وإخوتهم لقسوتهم وغلظ طباعهم، وإقدامهم على الدماء، فبعث جيشا، وقال: اقصدوا هؤلاء المارقين المبدلين الدين، فادعوهم إلى إماتة المنكر وإزالة البدع، والإقرار بالمهدي
_________
(1) مسلم (3/ 1525/1925) من حديث سعد أبي وقاص ..(7/74)
المعصوم، فإن أجابوا، فهم إخوانكم، وإلا فالسنة قد أباحت لكم قتالهم، فسار بهم عبد المؤمن يقصد مراكش، فالتقاه الزبير بن أمير المسلمين، فكلموهم بالدعوة، فردوا أقبح رد، ثم انهزمت المصامدة، وقتل منهم ملحمة، فلما بلغ الخبر ابن تومرت، قال: أنجى عبد المؤمن؟ قيل: نعم، قال: لم يفقد أحد، وهون عليهم، وقال: قتلاكم شهداء. (1)
وفيها: وأهل العشرة هم: عبد المؤمن، والهزرجي، وعمر بن يحيى الهنتاتي، وعبد الله البشير، وعبد الواحد الزواوي طير الجنة، وعبد الله بن أبي بكر، وعمر بن أرناق، وواسنار أبو محمد، وإبراهيم بن جامع، وآخر.
وفي أول سنة أربع وعشرين؛ جهز عشرين ألف مقاتل عليهم البشير، وعبد المؤمن بعد أمور يطول شرحها، فالتقى الجمعان، واستحر القتل بالموحدين، وقتل البشير، ودام الحرب إلى الليل، فصلى بهم عبد المؤمن صلاة الخوف، ثم تحيز بمن بقي إلى بستان يعرف بالبحيرة، فراح منهم تحت السيف ثلاثة عشر ألفا، وكان ابن تومرت مريضا، فأوصى باتباع عبد المؤمن، وعقد له، ولقبه أمير المؤمنين، وقال: هو الذي يفتح البلاد، فاعضدوه بأنفسكم وأموالكم، ثم مات في آخر سنة أربع وعشرين وخمس مائة. (2)
وخلاصة القول إن ابن تومرت أحدث بدعا شنيعة لم تكن بأرض المغرب منها:
1 - فرض العقيدة الأشعرية الممزوجة بالاعتزال بالسيف؛ وقد تقدم قول اليسع.
_________
(1) السير (19/ 548 - 549).
(2) السير (19/ 550).(7/75)
2 - بدعة المهدية والإمام المعصوم.
3 - بدعة الحزب بعد صلاة المغرب والصبح، وهذه البدعة ما تزال إلى يومنا هذا، وقد وضعت لها أوقاف في جميع بلاد المغرب. (1)
4 - بدعة "أصبح ولله الحمد" في الأذان، ومجموعة من البدع الأخرى. (2)
القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى بن الفَرَّاء (3) (526 هـ)
الإمام العلامة الفقيه القاضي، أبو الحسين محمد بن القاضي الكبير أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء الحنبلي البغدادي. ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. سمع أباه، وأبا جعفر بن المسلمة، وأبا بكر الخطيب، وأبا المظفر هناد النسفي، وعدة. وأجاز له أبو محمد الجوهري، وتفقه بعد موت أبيه، وبرع وناظر، ودرس وصنف، وكان يبالغ في السنة، ويلهج بالصفة وجمع طبقات الفقهاء الحنابلة. حدث عنه السلفي، وابن عساكر، وأبو موسى المديني، ومظفر بن البري وعدة. قال ابن النجار: تميز وصنف في الأصلين والخلاف والمذهب وكان دينا ثقة حميد السيرة. قال ابن الجوزي: كان يبيت في داره بباب المراتب وحده، فعلم من كان يخدمه بأن له مالا فذبحوه ليلا، وأخذوا المال ليلة عاشوراء سنة ست وعشرين وخمسمائة، ثم وقعوا بهم فقتلوا.
_________
(1) انظر الاعتصام (2/ 585).
(2) انظر الاعتصام (1/ 327).
(3) المنتظم (17/ 274) والسير (19/ 601 - 602) والوافي بالوفيات (1/ 159 - 160) والبداية والنهاية (12/ 219) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 176 - 177) وشذرات الذهب (4/ 79).(7/76)
موقفه من المبتدعة:
آثاره السلفية:
1 - 'طبقات الحنابلة' وهو مطبوع مشهور.
2 - 'إيضاح الأدلة في الرد على الفرق الضالة المضلة'.
3 - 'الرد على زائفي الاعتقادات في منعهم من سماع الآيات'.
4 - 'شرف الاتباع وسرف الابتداع'.
المصدر: ذيل طبقات الحنابلة. (1)
- قال رحمه الله وهو يتحدث عن فضائل أحمد بن حنبل: الثالثة: أنه ما أحبه أحد -إما محب صادق، وإما عدو منافق- إلا وانتفت عنه الظنون، وأضيفت إليه السنن. ولا انزوى عنه رفضا، وأظهر له عنادا وبغضا، إلا واتفقت الألسن على ضلالته، وسفه في عقله وجهالته، وقد قدمنا قول الشافعي: من أبغض أحمد بن حنبل فقد كفر. (2)
موقفه من الرافضة:
له كتاب: تنزيه معاوية بن أبي سفيان.
ذكره في ذيل طبقات الحنابلة. (3)
موقفه من الجهمية:
- قال السلفي: كان أبو الحسين متعصبا في مذهبه، وكان كثيرا ما
_________
(1) (1/ 177).
(2) طبقات الحنابلة (1/ 15).
(3) (1/ 177).(7/77)
يتكلم في الأشاعرة ويسمعهم، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله تصانيف في مذهبه، وكان دينا ثقة ثبتا، سمعنا منه. (1)
- قال القاضي أبو الحسين رحمه الله: حسبك لشيخي الإسلام، وإمامي الهدى، وخليفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهاديين الراشدين، وتوقفهما وإحجامهما عن تفسير آية من كتاب الله عز وجل، وهما أعلم الخلق بالله عز وجل، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبرسوله، وبكتاب الله وتأويله، فماذا عسى أن نقول في جسارة المعتزلة، والأشاعرة، وبقية المتكلمين الضالين في تأويل صفات الرحمن عز وجل، التي نطق بها القرآن ونقلها الأئمة الأثبات، والعلماء الثقات؟ (2)
- وقال: ومعتقدنا ومعتقد الوالد السعيد، ومن تقدمه من أئمتنا: مبني على حرفين: السكوت عن "لم؟ " في أفعاله عز وجل، وعن "كيف؟ " في أوصافه تبارك وتعالى. (3)
تاج الملوك (4) (526 هـ)
صاحب دمشق تاج الملوك بوري بن صاحب دمشق الأتابك طغتكين مولى السلطان تتش السلجوقي. كان ذا علم وحلم وكرم، له أثر كبير في قتل الإسماعيلية. ولد سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. قال ابن الأثير: وكان
_________
(1) السير (19/ 602).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 148).
(3) الطبقات (2/ 226).
(4) السير (19/ 573 - 575) والكامل في التاريخ (10/ 679 - 680) والوافي بالوفيات (10/ 322) والبداية والنهاية (12/ 218) والنجوم الزاهرة (5/ 249) وشذرات الذهب (4/ 78).(7/78)
بوري كثير الجهاد شجاعا مقداما سد مسد أبيه وفاق عليه، وكان ممدحا، أكثر الشعراء مدائحه لا سيما ابن الخياط. توفي على إثر جرح اشتد عليه وأضعفه كان من تحايل الإسماعيلية على قتله فأصابه بعضهم بسكين، ثم توفي بعد في رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة.
موقفه من المشركين:
- قال الذهبي: كان عجبا في الجهاد، لا يفتر من غزو الفرنج، ولو كان له عسكر كثير، لاستأصل الفرنج. (1)
- جاء في السير: تملك بعد أبيه في صفر سنة اثنين وعشرين، وكان ذا حلم وكرم، له أثر كبير في قتل وزيره والإسماعيلية.
ولما علم ابن صباح صاحب الألموت بما جرى على أشياعه الإسماعيلية بدمشق، تنمر، وندب طائفة لقتل تاج الملوك، فعين اثنين بشربوشين في زي الجند، ثم قدما، فاجتمعا بناس منهم أجناد، وتحيلا على أن صارا من السلحدانة، وضمنوهما، ثم وثبا عليه فقتلاه. قال أبو يعلى ابن القلانسي: وثبوا عليه في خامس جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين، فضربه الواحد بالسيف قصد رأسه، فجرحه في رقبته جرحا سليما، وضربه الآخر بسكين في خاصرته، فمرت بين الجلد واللحم. (2)
_________
(1) السير (19/ 575).
(2) السير (19/ 574).(7/79)
أبو الحسن ابن الزَّاغُونِي (1) (527 هـ)
الإمام العلامة، شيخ الحنابلة، ذو الفنون، أبو الحسن علي بن عبيد الله ابن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغوني البغدادي، صاحب التصانيف. ولد سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وسمع من أبي جعفر بن المسلمة، وعبد الصمد بن المأمون، وابن النقور، وعدد كثير. وعني بالحديث وقرأ الكثير. حدث عنه السلفي، وابن ناصر وابن عساكر، وابن الجوزي وعدة. وكان من بحور العلم، كثير التصانيف، يرجع إلى دين وتقوى وزهد وعبادة. قال الذهبي: كان إماما فقيها، متبحرا في الأصول والفروع، متفننا، واعظا، مناظرا، ثقة، مشهورا بالصلاح. قال ابن الجوزي: مات في سابع عشر المحرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
قال ابن الزاغوني في قصيدة له:
إني سأذكر عقد ديني صادقا ... نهج ابن حنبل الإمام الأوحد
منها:
عال على العرش الرفيع بذاته ... سبحانه عن قول غاو ملحد (2)
_________
(1) المنتظم (18/ 278 - 279) والكامل في التاريخ (11/ 9) وتاريخ الإسلام (حوادث 521 - 530/ص.154 - 156) والسير (19/ 605 - 607) وشذرات الذهب (4/ 80 - 81).
(2) السير (19/ 606).(7/80)
مَرْدَنِيش المغربي (1) (527 هـ)
محمد الجذامي أبو عبد الله مردنيش المغربي الزاهد المجاهد، ولمردنيش مغازي ومواقف مشهودة وفضائل، وهو جد الملك محمد بن سعد بن محمد صاحب شرق الأندلس. كان معه عدة رجال أبطال يغير بهم يمنة ويسرة وكانوا يحرثون على خيلهم كما يحرث أهل الثغر، وكان أمير المسلمين ابن تاشفين يمدهم بالمال والآلات ويبرهم. توفي سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: فمن عجيب ما صح عندي من مغازيه -يقول ذلك اليسع بن حزم- أنه أغار يوما، فغنم غنيمة كثيرة، واجتمع عليه من الروم أكثر من ألف فارس، فقال لأصحابه وكانوا ثلاث مئة فارس: ما ترون؟ فقالوا: نشغلهم بترك الغنيمة. فقال: ألم يقل القائل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2) فقال له ابن مورين: يا رئيس، الله قال هذا. فقال: الله يقول هذا وتقعدون عن لقائهم؟ قال: فثبتوا، فهزموا الروم. (3)
_________
(1) المنتظم (17/ 278 - 279) والكامل في التاريخ (11/ 9) وتاريخ الإسلام (حوادث 521 - 530/ص.154 - 156) والسير (19/ 605 - 607) وشذرات الذهب (4/ 80 - 81).
(2) الأنفال الآية (65).
(3) السير (20/ 233).(7/81)
المسترشد بالله (1) (529 هـ)
المسترشد بالله الفضل بن المستظهر بالله أبو منصور أمير المؤمنين. ولد في شعبان سنة ست وثمانين وأربعمائة في أيام المقتدي. سمع في سنة أربع وتسعين من أبي الحسن ابن العلاف وسمع من أبي القاسم بن بيان ومن مؤدبه أبي البركات ابن السيبي. روى عنه وزيره علي بن طراد وحمزة ابن علي الرازي وإسماعيل بن الملقب. له خط بديع ونثر صنيع ونظم جيد مع دين ورأي وشهامة وشجاعة، وكان خليقا للإمامة قليل النظير. كان يتنسك في أول زمنه، وختم القرآن وتفقه. لم يكن في الخلفاء من كتب أحسن منه وكان يستدرك على كتابه، ويصلح أغاليط في كتبهم. ألب عليه الباطنية جماعة من الملاحدة فقتلوه في يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
موقفه من المشركين:
- قال ابن النجار: أنشدنا هبة الله بن الحسن بن السبط حفظا للمسترشد بالله:
قالوا تقيم وقد أحا ... ط بك العدو ولا تفر
فأجبتهم المرء ما لم ... يتعظ بالوعظ غر
لا نلت خيرا ما حييت ... ولا عداني الدهر شر
إن كنت أعلم أن غير ... الله ينفع أو يضر
_________
(1) السير (19/ 561 - 568) والمنتظم (17/ 294 - 299) والكامل في التاريخ (11/ 27 - 28) والعبر (2/ 71) والبداية والنهاية (12/ 222 - 224) وشذرات الذهب (4/ 86 - 88).(7/82)
وله:
أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم
ستبلغ أرض الروم خيلي وتنتضى ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي
وقيل: إنه قال لما أسر مستشهدا:
ولا عجبا للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم
فحربة وحشي سقت حمزة الردى ... وموت علي من حسام ابن ملجم (1)
- قتل الباطنية له:
نقل ابن كثير ما حدث بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود ثم قال: فلما كان مستهل ذي الحجة جاءت الرسل من جهة الملك سنجر إلى ابن أخيه يستحثه على الإحسان إلى الخليفة، وأن يبادر إلى سرعة رده إلى وطنه، وأرسل مع الرسل جيشا ليكونوا في خدمة الخليفة إلى بغداد فصحب الجيش عشرة من الباطنية، فلما وصل الجيش حملوا على الخليفة فقتلوه في خيمته وقطعوه قطعا، ولم يلحق الناس منه إلا الرسوم، وقتلوا معه أصحابه منهم عبيد الله بن سكينة، ثم أخذ أولئك الباطنية فأحرقوا قبحهم الله، وقيل: إنهم كانوا مجهزين لقتله فالله أعلم. (2)
_________
(1) السير (19/ 562 - 563).
(2) البداية والنهاية (12/ 223).(7/83)
أبو جعفر الهَمذَانِي (1) (531 هـ)
أبو جعفر محمد بن أبي علي الحسن بن محمد الهمذاني، الحافظ الصدوق، رحل وروى عن ابن النقور وأبي صالح المؤذن، والفضل بن المحب وطبقتهم بخراسان والعراق والحجاز والنواحي. قال ابن السمعاني: ما أعرف أن أحدا في عصره سمع أكثر منه. توفي في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
نقل الذهبي في العلو عن أبي جعفر بن أبي علي قال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (2) فقال: كان الله ولا عرش -وجعل يتخبط في الكلام- فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما نريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق ومن التحت، وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة، وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل، ولم يجبني إلا: يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة. فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون:
_________
(1) العبر (2/ 75) وشذرات الذهب (4/ 97) وتاريخ الإسلام (حوادث 531 - 540/ص.251 - 252) والسير (20/ 101 - 102).
(2) طه الآية (5).(7/84)
سمعناه يقول: حيرني الهمذاني. (1)
محمد بن عبد الملك الكَرَجِي (2) (532 هـ)
محمد بن عبد الملك بن محمد أبو الحسن الكرجي، فقيه، محدث، مفسر أديب، شاعر، ولد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بالكرج، وسمع بها، وبهمذان وأصبهان وبغداد، ومن شيوخه في الحديث مكي بن علان الكرجي وأبو القاسم علي بن أحمد الرزازة، وأبو علي محمد بن سعيد بن نبهان وغيرهم. وروى عنه ابن السمعاني وأبو موسى المدني وجماعة، وصنف تصانيف كثيرة، منها: الفصول في اعتقاد الأئمة الفحول، وتفسير ومؤلف في الفقه الشافعي، وكان لا يقنت في الفجر، ويقول: لم يصح في ذلك حديث، وقد كان إمامنا الشافعي، يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الحائط. وقد كان حسن الصورة، جميل المعاشرة، قال ابن السمعاني: رأيته بالكرج، إمام، ورع، فقيه، مفت، محدث، خير، أديب شاعر. أفنى عمره في جمع العلم ونشره. توفي سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: ومن ذلك: ما ذكره شيخ الحرمين: أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في كتابه الذي سماه
_________
(1) مختصر العلو (ص.276 - 277).
(2) المنتظم (17/ 331 - 332) وطبقات الشافعية (4/ 81 - 86) والبداية والنهاية (12/ 229) وشذرات الذهب (4/ 100) ومعجم المؤلفين (10/ 258) وتاريخ الإسلام (حوادث 531 - 540/ص.294 - 296).(7/85)
'الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول' وكان من أئمة الشافعية -ذكر فيه من كلام الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، والبخاري -صاحب الصحيح- وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم. وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام، وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم -دون غيرهم- لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقا وغربا إلى مذاهبهم، ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم، وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها: من جودة الحفظ والبصيرة، والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنة، والإجماع والسند والرجال، والأحوال، ولغات العرب، ومواضعها، والتاريخ، والناسخ والمنسوخ، والمنقول والمعقول، والصحيح، والمدخول في الصدق، والصلابة، وظهور الأمانة، والديانة ممن سواهم.
قال: وإن قصر واحد منهم في سبب منها جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم، فإن غيرهم من الأئمة -وإن كانوا في منصب الإمامة- لكن أخلوا ببعض ما أشرت إليه مجملا من شرائطها، إذ ليس هذا موضعا لبيانها. قال: ووجه ثالث لا بد من أن نبين فيه، فنقول: إن في النقل عن هؤلاء إلزاما للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة، فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه، أو يبدعه، أو يكفره، فانتحال مذهبه -مع مخالفته له في العقيدة- مستنكر، والله شرعا وطبعا، فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد،(7/86)
قلنا له: هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد، إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد. ومن قال: أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذا عن سواء السبيل فيما تزعمه، إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد.
قال: وقد افتتن أيضا خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية، وهذه والله سبة وعار، وفلتة تعود بالوبال والنكال وسوء الدار، على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار، فإن مذهبهم ما رويناه من تكفيرهم: الجهمية، والمعتزلة والقدرية والواقفية، وتكفيرهم اللفظية. وبسط الكلام في مسألة اللفظ، إلى أن قال: فأما غير ما ذكرناه من الأئمة: فلم ينتحل أحد مذهبهم، فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم. قال: فإن قيل: فهلا اقتصرتم إذا على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث، وهم الأئمة: الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد، إذ لا نرى أحدا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم؟
قلنا: لأن من ذكرناه من الأئمة -سوى هؤلاء- أرباب المذاهب في الجملة، إذ كانوا قدوة في عصرهم، ثم اندرجت مذاهبهم الآخرة تحت مذاهب الأئمة المعتبرة. وذلك أن ابن عيينة كان قدوة، ولكن لم يصنف في الذي كان يختاره من الأحكام، وإنما صنف أصحابه، وهم الشافعي، وأحمد وإسحق، فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم. وأما الليث بن سعد فلم يقم أصحابه بمذهبه، قال الشافعي: لم يرزق الأصحاب إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما، فاندرج مذهبه تحت مذهبهما. وأما الأوزاعي فلا نرى له في أعم المسائل قولا إلا ويوافق قول مالك أو قول(7/87)
الثوري، أو قول الشافعي: فاندرج اختياره أيضا تحت اختيار هؤلاء، وكذلك اختيار إسحق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما.
قال: فإن قيل: فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة؟ قلت: من التعليقة للشيخ أبي حامد الاسفرائيني، التي هي ديوان الشرائع، وأم البدائع: في بيان الأحكام، ومذاهب العلماء الأعلام، وأصول الحجج العظام، في المختلف والمؤتلف.
قال: وأما اختيار أبي زرعة، وأبي حاتم في الصلاة والأحكام -مما قرأته وسمعته من مجموعيهما- فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور. وأما البخاري فلم أر له اختيارا، ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول: استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق. فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم دون غيرهم، إذ هم أرباب المذاهب في الجملة، ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة، وليس من سواهم في درجتهم، وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم.
ثم ذكر بعد ذلك الفصل الثاني عشر: في ذكر خلاصة تحوي مناصيص الأئمة بعد أن أفرد لكل منهم فصلا- قال: لما تتبعت أصول ما صح لي روايته، فعثرت فيها بما قد ذكرت من عقائد الأئمة، فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول التي أثبتها، وافتتحت كل فصل بنيف من المحامد، يكون لإمامتهم إحدى الشواهد، داعية إلى اتباعهم، ووجوب وفاقهم، وتحريم خلافهم وشقاقهم، فإن اتباع من ذكرناه من الأئمة في الأصول في زماننا بمنزلة اتباع الإجماع الذي يبلغنا عن الصحابة والتابعين، إذ لا يسع مسلما(7/88)
خلافه، ولا يعذر فيه فإن الحق لا يخرج عنهم، لأنهم الأدلاء، وأرباب مذاهب هذه الأمة، والصدور والسادة، والعلماء القادة، أولوا الدين والديانة، والصدق والأمانة، والعلم الوافر، والاجتهاد الظاهر، ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع، فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين الله، حتى صاروا أرباب المذاهب في المشارق والمغارب، فليرضوا كذلك بهم في الأصول فيما بينهم وبين ربهم وبما نصوا عليه ودعوا إليه.
قال: فإنا نعلم قطعا أنهم أعرف قطعا بما صح من معتقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده، لجودة معارفهم وحيازتهم شرائط الإمامة ولقرب عصرهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كما بيناه في أول الكتاب.
قال: ثم أردت -ووافق مرادي سؤال بعض الإخوان- أن أذكر خلاصة مناصيصهم متضمنة بعض ألفاظهم. فإنها أقرب إلى الحفظ، وهي اللباب لما ينطوي عليه الكتاب، فاستعنت بمن عليه التكلان، وقلت: إن الذي آثرناه من مناصيصهم يجمعه فصلان:
أحدهما: في بيان السنة وفضلها.
والثاني: في هجران البدعة وأهلها.
أما الفصل الأول: فاعلم أن السنة طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتسنن بسلوكها وإصابتها، وهي أقسام ثلاثة: أقوال، وأعمال، وعقائد. فالأقوال: نحو الأذكار والتسبيحات المأثورة. والأفعال: مثل سنن الصلاة والصيام والصدقات المذكورة، ونحو السير المرضية، والآداب المحكية، فهذان القسمان في عداد التأكيد والاستحباب، واكتساب الأجر والثواب. والقسم الثالث:(7/89)
سنة العقائد، وهي من الإيمان إحدى القواعد.
قال: وهاأنذا أذكر بعون الله خلاصة ما نقلته عنهم مفرقا، وأضيف إليه ما دون في كتب الأصول مما لم يبلغني عنهم مطلقا، وأرتبها مرشحة، وببعض مناصيصهم موشحة، بأوجز لفظ على قدر وسعي، ليسهل حفظه على من يريد أن يعي، فأقول: ليعلم المستن أن سنة العقائد على ثلاثة أضرب: ضرب يتعلق بأسماء الله، وذاته، وصفاته. وضرب يتعلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ومعجزاته، وضرب يتعلق بأهل الإسلام في أولاهم وأخراهم.
أما الضرب الأول: فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات، ودل القرآن المبين والحديث الصحيح المتين على ثبوتها. قال رحمه الله تعالى: وهي أن الله تعالى أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم علي عظيم، رفيع مجيد، وله بطش شديد، وهو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1) إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس، والوجه، والعين، والقدم، واليدين، والعلم، والنظر، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والرضى، والغضب، والمحبة، والضحك، والعجب، والاستحياء، والغيرة، والكراهة، والسخط، والقبض، والبسط، والقرب، والدنو، والفوقية والعلو والكلام، والسلام، والقول، والنداء والتجلي واللقاء والنزول،
_________
(1) الشورى الآية (11).(7/90)
والصعود والاستواء، وأنه تعالى في السماء، وأنه على عرشه بائن من خلقه. قال مالك: إن الله في السماء وعلمه في كل مكان، وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سمواته على العرش بائنا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه ههنا- وأشار إلى الأرض وقال سفيان الثوري: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) قال: علمه. قال الشافعي: إنه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، قال أحمد: إنه مستو على العرش عالم بكل مكان، وإنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وإنه يأتي يوم القيامة كيف شاء، وإنه يعلو على كرسيه، والإيمان بالعرش والكرسي وما ورد فيهما من الآيات والأخبار.
ثم ذكر الأدلة من السنة على ذلك ثم قال: إلى غيرها من الأحاديث، هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا، اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصفات: أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها، ولا نعطلها ولا نتأولها، وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها بل نؤمن بها ونكل علمها إلى عالمها، كما فعل ذلك السلف الصالح، وهم القدوة لنا في كل علم. روينا عن إسحاق أنه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك
_________
(1) الحديد الآية (4).(7/91)
الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب عز وجل. فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات فلا يدركه أحد. وكما روينا عن مالك، والأوزاعي وسفيان، والليث وأحمد بن حنبل أنهم قالوا في الأحاديث في الرؤية والنزول: أمروها كما جاءت وكما روي عن محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- أنه قال في الأحاديث التي جاءت: «إن الله يهبط إلى السماء الدنيا» (1) ونحو هذا من الأحاديث: إن هذه الأحاديث قد رواها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها. ولا نفسرها انتهى كلام الكرجي رحمه الله. (2)
موقفه من الجهمية:
هذا الإمام كان من كبار سيوف السنة المهندين، أعطاه الله قوة البيان وفصاحة اللسان وقوة البلاغة، يعرف ذلك من قرأ له الأبيات التي سنذكرها إن شاء الله، وهذا الإمام من الأئمة الذين أغضبوا الشيخ النجدي -الكوثري- وحمل عليهم، فذكره في السيف الصقيل بأبشع الألقاب، وأما ابن السبكي فلا تسأل عن حماقته وتأويله البارد ورده السمج على القصيدة الرائعة التي تسمى عروس القصائد. وهي من خيرة الآثار التي خلفها الشيخ. وهاك نزرا يسيرا منها:
جاء في طبقات الشافعية: ثم قال ابن السمعاني وله قصيدة تائية في السنة شرح فيها اعتقاده واعتقاد السلف تزيد على مائتي بيت، قرأتها عليه في داره بالكرج.
_________
(1) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) مجموع الفتاوى (4/ 175 - 186).(7/92)
ثم قال السبكي: فاعلم أنا وقفنا على قصيدة تعزى إلى هذا الشيخ وتلقب بـ: عروس القصائد في شموس العقائد.
منها:
عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب
ومنها:
ففي كرج والله من خوف أهلها ... يذوب بها البدعي يا شر ذائب
يموت ولا يقوى لإظهار بدعة ... مخافة جز الرأس من كل جانب
ومنها:
طرائق تجسيم وطرق تجهم ... وسبل اعتزال مثل نسج العناكب
وفي قدر والرفض طرق عمية ... وما قيل في الإرجاء من نعب ناعب
وخبث مقال الأشعري تخنث ... يضاهي تلويه تلوى الشغازب
يزين هذا الأشعري مقاله ... ويشبه بالسم يا شر آشب
فينفي تفاصيلا ويثبت جملة ... كناقضة من بعد شد الذوائب
يؤول آيات الصفات برأيه ... فجرأته في الدين جرأة خارب
ويجزم بالتأويل في سنن الهدى ... ويخلب أغمارا فاسئم بخالب
ومنها:
ولم يك ذا علم ودين وإنما ... بضاعته كانت مخوق مداعب
وكان كلاميا بالأحشاء موته ... تأسوا بموت ماته ذو السوائب(7/93)
ومنها:
كذا كل رأس للضلالة قد مضى ... بقتل وصلب باللحى والشوارب
كجعد وجهم والمريسي بعده ... وذا الأشعري المبتلى شر دائب
ومنها:
معايبهم توفي على مدح غيرهم ... وذا المبتلى المفتون عيب المعايب (1)
التعليق:
انظر رحمك الله إلى هذا النفس السلفي القوي في هذه الأبيات، ثم انظر إلى أول الأبيات، كيف يعبر الشيخ عن حالة السلفيين في بلاده كرج، وأنهم أهل البلاد، وأن المبتدعة أذلة خاسئون، وأنه بمجرد ظهورهم تجز رؤوسهم، فكانت البدع مقموعة، وانقلب الحال والله المستعان.
وذكر رؤوس المبتدعة وأوصافهم وعاقبة أمرهم، غير أن ذكر الشيخ للأشعري بتلك الأوصاف التي لا يحق أن يرمى بها بعد أن نبذ التأويل ورجع إلى مذهب السلف، فلعل الشيخ لم تبلغه توبته فقال فيه ما قال.
وللشيخ كتاب مهم بين فيه عقيدة السلف ومذاهبهم سماه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول، ذكره شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه، ونقل منه جملة كبيرة. انظر مجموع الفتاوى. (2)
وكذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية قال رحمه الله: وله
_________
(1) طبقات الشافعية (4/ 82 - 85).
(2) (4/ 175 - 186).(7/94)
مصنفات كثيرة منها 'الفصول في اعتقاد الأئمة الفحول'، يذكر فيه مذاهب السلف في باب الاعتقاد. (1)
إسماعيل بن محمد بن الفضل التَّيْمِي الأصبهاني (2) (535 هـ)
الملقب بـ 'قوام السنة'
الإمام، العلامة، الحافظ، شيخ الإسلام، أبو القاسم، إسماعيل بن محمد ابن الفضل التيمي الأصبهاني الملقب بقوام السنة، مصنف الترغيب والترهيب. ولد سنة سبع وخمسين وأربعمائة. سمع: أبا عمرو عبد الوهاب بن أبي عبد الله ابن منده، وعائشة بنت الحسن، وسليمان بن إبراهيم الحافظ، وغيرهم بأصبهان، وخلقا ببغداد وبنيسابور وسمع بمكة، وجاور سنة، وأملى وصنف وجرح وعدل. حدث عنه أبو سعد السمعاني، وأبو العلاء الهمذاني، وأبو طاهر السلفي، وأبو القاسم ابن عساكر، وأبو موسى المديني وغيرهم. قال أبو موسى المديني: أبو القاسم إسماعيل الحافظ، إمام أئمة وقته وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السنة في زمانه، وكان أبوه صالحا ورعا، وأمه كانت من ذرية طلحة بن عبيد الله التيمي، أحد العشرة رضي الله عنهم. وقال أيضا: ولا أعلم أحدا عاب عليه قولا ولا فعلا، ولا عانده أحد إلا نصره الله. وكان نزه النفس عن المطامع، لا يدخل على السلاطين، ولا على من اتصل بهم، قد
_________
(1) (12/ 229).
(2) السير (20/ 80 - 88) والأنساب (3/ 368 - 369) والمنتظم (18/ 10) والكامل في التاريخ (11/ 80) وتذكرة الحفاظ (4/ 1277 - 1282) والوافي بالوفيات (9/ 211) والبداية والنهاية (12/ 233) وشذرات الذهب (4/ 105 - 106).(7/95)
أخلى دارا من ملكه لأهل العلم مع خفة ذات يده، ولو أعطاه الرجل الدنيا بأسرها لم يرتفع عنده، وقال الحافظ يحيى بن منده: كان أبو القاسم حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، قليل الكلام، ليس في وقته مثله. توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال رحمه الله: وحين رأيت قوام الإسلام بالتمسك بالسنة، ورأيت البدعة قد كثرت، والوقيعة في أهل السنة قد فشت، ورأيت اتباع السنة عند قوم نقيصة، والخوض في الكلام درجة رفيعة، رأيت أن أملي كتابا في السنة يعتمد عليه من قصد الاتباع وجانب الابتداع، وأبين فيه اعتقاد أئمة السلف وأهل السنة في الأمصار، والراسخين في العلم في الأقطار، ليلزم المرء اتباع الأئمة الماضين، ويجانب طريقة المبتدعين، ويكون من صالحي الخلف لصالحي السلف، وسميته كتاب 'الحجة في بيان المحجة وشرح التوحيد ومذهب أهل السنة'. أعاذنا الله من مخالفة السنة ولزوم الابتداع، وجعلنا ممن يلزم طريق الاتباع وصلى الله على محمد أفضل صلاة وأزكاها وأطيبها وأنماها، وأحيانا على ملته، وأماتنا على سنته، وحشرنا في زمرته، إنه المنعم الوهاب. (1)
- وقال رحمه الله: قوله: ما أنا عليه وأصحابي (2) الذي كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما مضى عليه أئمة الدين المشهورون في الآفاق. (3)
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (1/ 83 - 84).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ).
(3) الحجة في بيان المحجة 1/ 109).(7/96)
- وقال: ثم من السنة ترك الرأي والقياس في الدين، وترك الجدال والخصومات، وترك مفاتحة القدرية وأصحاب الكلام، وترك النظر في كتب الكلام وكتب النجوم، فهذه السنة التي اجتمعت عليها الأئمة، وهي مأخوذة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله تبارك وتعالى قال الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (1) وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2)، وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3). فأمر الله عز وجل رسوله بالبلاغ فقال: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (4) فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسالة، ودعا إلى الله عز وجل بالكتاب والسنة، فأمر الناس باتباع الصحابة العالمين بالله، وأولي الأمر من العلماء من بعدهم لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (5). فأفضل العلماء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أولي الأمر: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ثم الأكابر فالأكابر من العشرة وغيرهم من الصحابة الذين أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضائلهم، وأمر
_________
(1) التغابن الآية (12).
(2) النساء الآية (80).
(3) الحشر الآية (7).
(4) المائدة الآية (67).
(5) النساء الآية (59).(7/97)
بالاقتداء بهم، فقال عليه السلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر». (1)
وقال عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». (2)
فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السنة عن الله عز وجل، وأخذ الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ التابعون عن الصحابة وهؤلاء الصحابة الذين أشار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم، ثم أشار الصحابة إلى التابعين بعدهم. (3)
- وقال: فمن نظر بعين الإنصاف، علم أنه لا يكون أحد أسوأ مذهبا ممن يدع قول الله وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقول الصحابة رضوان الله عليهم، وقول العلماء والفقهاء بعدهم، ممن يبني مذهبه ودينه على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتبع من ليس بعالم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كيف لا يأمن أن يكون متبعا للشيطان أعاذنا الله من متابعة الشيطان. (4)
- وقال: ولا يجوز مجالسة أهل المعاصي الذين ظهر فسقهم، ولا مجالسة أهل البدع الذين ظهرت بدعهم، ولا يجوز دخول الحمام إلا بمئزر، والحب في الله والبغض في الله من الإيمان. (5)
- وقال: ومن صفة أهل السنة الأخذ بكتاب الله عز وجل، وبأحاديث
_________
(1) أحمد (5/ 382و385و402) والترمذي (5/ 569/3662) وابن ماجه (1/ 37/97) وابن حبان (15/ 327 - 328/ 6902) والحاكم (3/ 75) من طرق عن ربعي بن حراش عن حذيفة مرفوعا. قال الترمذي: "حديث حسن، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه". وقال الحاكم بعد ذكره طرق هذا الحديث: "فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث"، ووافقه الذهبي ..
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ).
(3) الحجة في بيان المحجة (1/ 235 - 237).
(4) الحجة في بيان المحجة (1/ 311).
(5) الحجة في بيان المحجة (2/ 267).(7/98)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأحاديث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك الرأي والابتداع. (1)
- وقال: قال أهل اللغة: السنة: السيرة والطريقة. فقولهم فلان على السنة ومن أهل السنة، أي هو موافق للتنزيل والأثر في الفعل والقول، ولأن السنة لا تكون مع مخالفة الله ومخالفة رسوله. فإن قيل كل فرقة تنتحل اتباع السنة، وتنسب مخالفيها إلى خلاف الحق، فما الدليل على أنكم أهلها دون من خالفكم؟
قلنا: الدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2). فأمر باتباعه وطاعته فيما أمر ونهى.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي» (3)، و «من رغب عن سنتي فليس مني». (4)
وعرفنا سنته بالآثار المروية بالأسانيد الصحيحة، وهذه الفرقة الذين هم أصحاب الحديث لها أطلب، وفيها أرغب ولصحاحها أتبع. فعلمنا بالكتاب والسنة أنهم أهلها دون سائر الفرق لأن مدعي كل صناعة إذا لم يكن معه دلالة من صناعته يكون مبطلا في دعواه، وإنما يستدل على صناعته كل صاحب صنعة بآلته فإذا رأيت الرجل فتح باب دكانه، وبين يديه الكير،
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 269).
(2) الحشر الآية (7).
(3) تقدم تخريجه ضمن مواقف اللالكائي سنة (418هـ).
(4) أحمد (3/ 241و259) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217) من حديث أنس.(7/99)
والمطرقة، والسندان، علمت أنه حداد، وإذا رأيت بين يديه الإبرة، والمقراض علمته أنه خياط، وكذلك ما أشبه هذا، ومتى قال صاحب التمر لصاحب العطر: أنا عطار. قال له: كذبت، أنا هو وشهد له بذلك كل من أبصره من العامة. وقد وجدنا أصحابنا دخلوا في طلب الآثار التي تدل على سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذوها من معادنها وجمعوها من مظانها وحفظوها، ودعوا إلى اتباعها. وعابوا من خالفها وكثرت عندهم وفي أيديهم، حتى اشتهروا بها كما اشتهر البزاز ببزه، والتمار بتمره والعطار بعطره، ورأينا قوما تنكبوا معرفتها واتباعها، وطعنوا فيها وزهدوا الناس في جمعها ونشرها، وضربوا لها ولأهلها أسوأ الأمثال، فعلمنا بهذه الدلائل أن هؤلاء الراغبين فيها، وفي جمعها، وحفظها، واتباعها أولى بها من سائر الفرق الذين تنكبوها لأن الإتباع عند العلماء هو الأخذ بسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي صحت عنه التي أمر بالأخذ بما أمر، والانتهاء عما نهى وهذه دلالة ظاهرة لأهل السنة باستحقاقهم هذا الاسم دون من اتبع الرأي والهوى.
فإن قيل: الأمر كما قلت، غير أن كل فرقة تحتج لمذهبها بحجة، قيل: من احتج بحديث ضعيف في معارضة حديث صحيح، أو حديث مرسل في معارضة حديث مسند، أو احتج بقول تابعي في معارضة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتساويان. فإن من اتبع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد استمسك بما هو الحجة قطعا، ومن احتج بالثابت القوي أحسن حالا ممن احتج بالواهي الضعيف، وبهذا استبان الاتباع من غيره، لأن صاحب السنة لا يتبع إلا ما هو الأقوى،(7/100)
وأصحاب الأهواء وصاحب الهوى يتبع ما يهوى. (1)
- وقال: قال بعض علماء السنة: كل من صح عنده شيء من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهيه، صغيره وكبيره، بلا معارض له يعرفه من حديثه أو ناسخ له، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وأنا أقول بخلافه؛ فقد تكلم بعظيم، وإن كان ذلك الشيء مما لا يضل الرجل بتركه؛ لأن أدنى معاندة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى شيء من أمره ونهيه عظيم، فمن قبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنما يقبل عن الله، ومن رد عليه؛ فإنما يرد على الله، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2).
وقول من قال: تعرض السنة على القرآن؛ فإن وافقت ظاهره وإلا استعملنا ظاهر القرآن وتركنا الحديث، فهذا جهل؛ لأن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كتاب الله عزوجل تقام مقام البيان عن الله عزوجل، ليس شيء من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالف كتاب الله؛ لأن الله عزوجل أعلم خلقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي إلى صراط مستقيم فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} (3)؛ وليس لنا مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر شيء إلا الاتباع والتسليم، ولا يعرض على قياس، ولا غيره، وكل ما سواها من قول الآدميين تبع لها، ولا عذر لأحد يتعمد ترك السنة، ويذهب إلى غيرها؛ لأنه لا حجة لقول أحد مع قول
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 384 - 386).
(2) النساء الآية (80).
(3) الشورى الآية (52).(7/101)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صح.
فإذا لم يوجد في الحادثة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء ووجد فيها عن أصحابه رضي الله عنهم شيء فهم الأئمة بعده والحجة، اعتبارا بكتاب الله وبأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وصفهم في كتابه من الخير والصدق والأمانة، وأنه رضي الله عنهم وعن من اتبعهم بإحسان وقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) واختلف المفسرون في أولي الأمر فقال بعضهم: هم العلماء، وقال بعضهم: هم الأمراء، وكل هذا قد اجتمع في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيهم الأمراء، والخلفاء، والعلماء والفقهاء. قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2) أخبر الله عزوجل أنه رضي الله عنهم ورضي أعمالهم ورضي عمن اتبعهم بإحسان، فهم القدوة في الدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإصابة الحق وأقربهم إلى التوفيق لما يقرب إلى رضاه، وكذلك وصفهم الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (3).اهـ (4)
- وقال: وينبغي للمرء أن يحذر محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة،
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) التوبة الآية (100).
(3) أخرجه: أحمد (1/ 434) والبخاري (5/ 324/2652) ومسلم (4/ 1963/2533 [212]) والترمذي (5/ 652/3859) وابن ماجه (2/ 791/2362) عن ابن مسعود.
(4) الحجة في بيان المحجة (2/ 397 - 399)(7/102)
والسنة إنما هي التصديق لآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك معارضتها بكيف، ولم، والكلام والخصومات في الدين، والجدال محدث وهو يوقع الشك في القلوب، ويمنع من معرفة الحق والصواب، وليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو الاتباع، والاستعمال. يقتدى بالصحابة، والتابعين وإن كان قليل العلم، ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال وإن كان كثير العلم. (1)
- وقال: قال بعض علماء أهل السنة: نحن لا نرى الكلام، والخوض في الدين والمراء والخصومات، فمهما وقع الخلاف في مسألة رجعنا إلى كتاب الله عزوجل، وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى قول الأئمة، فإن لم نجد ذلك في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقله الصحابة والتابعون، سكتنا عن ذلك ووكلنا علمه إلى الله تعالى، لأن الله تعالى أمرنا بذلك فقال عز من قائل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2).اهـ (3)
- وقال: وعلى المرء محبة أهل السنة، أي موضع كانوا رجاء محبة الله له، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت محبتي للمتاحبين فيّ والمتجالسين فيّ والمتلاقين فيّ» (4)، وعليه بغض أهل البدع أي موضع كانوا حتى يكون ممن
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 437 - 438).
(2) النساء الآية (59).
(3) الحجة في بيان المحجة (2/ 452).
(4) أخرجه أحمد (5/ 247) ومالك في الموطأ (2/ 953 - 954) وابن حبان (2/ 335/575) والطبراني ... (20/ 80 - 81/ 150،152،153) والحاكم (4/ 168،169،170) من طرق عن أبي ادريس الخولاني عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في والمتزاورين في» وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.(7/103)
أحب في الله وأبغض في الله، ولمحبة أهل السنة علامة، ولبغض أهل البدعة علامة. فإذا رأيت الرجل يذكر مالك بن أنس، وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن إدريس الشافعي، والأئمة المرضيين بخير، فاعلم أنه من أهل السنة. وإذا رأيت الرجل يخاصم في دين الله ويجادل في كتاب الله فإذا قيل له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: حسبنا كتاب الله، فاعلم أنه صاحب بدعة، وإذا رأيت الرجل إذا قيل له لم لا تكتب الحديث؟ يقول: العقل أولى، فاعلم أنه صاحب بدعة، وإذا رأيته يمدح الفلسفة والهندسة ويمدح الذين ألفوا الكتب فيها فاعلم أنه ضال، وإذا رأيت الرجل يسمي أهل الحديث حشوية، أو مشبهة، أو ناصبة فاعلم أنه مبتدع، وإذا رأيت الرجل ينفي صفات الله، أو يشبهها بصفات المخلوقين فاعلم أنه ضال.
قال علماء أهل السنة: ليس في الدنيا مبتدع إلا وقد نزع حلاوة الحديث من قلبه. (1)
موقفه من الرافضة:
عقد رحمه الله في كتابه 'الحجة' فصولا في فضل الصحابة رضي الله عنهم خصوصا الخلفاء الأربعة، ومعاوية وعائشة، وحث على حبهم رضوان الله عليهم ونشر محاسنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم والكف عن مساوئهم. (2)
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 500 - 501).
(2) انظر الحجة في بيان المحجة (2/ 319 - 378).(7/104)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الحجة في بيان المحجة: قال بعض علماء أهل السنة: ويجب الإيمان بصفات الله تعالى كقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (1)، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (3)، وقوله: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} (4)، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} (5). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا» (6) رواه ثلاثة وعشرون من الصحابة، سبعة عشر رجلا وست نساء. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن». (7) فهذا وأمثاله مما صح نقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن مذهبنا فيه ومذهب السلف إثباته وإجراؤه على ظاهره ونفي الكيفية والتشبيه عنه، وقد نفى قوم الصفات فأبطلوا ما أثبته الله تعالى، وتأولها قوم على خلاف الظاهر، فخرجوا من ذلك إلى ضرب من التعطيل والتشبيه، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين؛ لأن دين الله تعالى بين الغالي والمقصر عنه.
والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات،
_________
(1) طه الآية (5).
(2) ص الآية (75).
(3) القمر الآية (14).
(4) النور الآية (9).
(5) البينة الآية (8).
(6) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(7) تقدم تخريجه. انظر مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ).(7/105)
وإثبات الله تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فإذا قلنا يد، وسمع، وبصر، ونحوها؛ فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ولم يقل: معنى اليد القوة، ولا معنى السمع والبصر: العلم والإدراك، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار، ونقول إنما وجب إثباتها؛ لأن الشرع ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (1)، كذلك قال علماء السلف في أخبار الصفات: أمروها كما جاءت. فإن قيل: فكيف يصح الإيمان بما لا يحيط علمنا بحقيقته؟ أو كيف يتعاطى وصف شيء لا درك له في عقولنا؟
فالجواب، أن إيماننا صحيح بحق ما كلفنا منها، وعلمنا محيط بالأمر الذي ألزمناه فيها وإن لم نعرف لما تحتها حقيقة كافية، كما قد أمرنا أن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنة ونعيمها، والنار وأليم عذابها، ومعلوم أنا لا نحيط علما بكل شيء منها على التفصيل، وإنما كلفنا الإيمان بها جملة واحدة، ألا ترى أنا لا نعرف أسماء عدة من الأنبياء وكثير من الملائكة، ولا يمكننا أن نحصي عددهم، ولا أن نحيط بصفاتهم، ولا نعلم خواص معانيهم، ثم لم يكن ذلك قادحا في إيماننا بما أمرنا أن نؤمن به من أمرهم.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة الجنة: يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي
_________
(1) الشورى الآية (11).(7/106)
الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (1).اهـ (2)
- وفيها: قال بعض علماء أهل السنة: أما بعد فإني وجدت جماعة من مشائخ السلف وكثيرا ممن تبعهم من الخلف ممن عليهم المعتمد في أبواب الديانة، وبهم القدوة في استعمال السنة قد أظهروا
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 466) والبخاري (6/ 391 - 392/ 3244) ومسلم (4/ 2174/2824) والترمذي (5/ 323/3197) وابن ماجه (2/ 1447/4328) كلهم من حديث أبي هريرة.
(2) الحجة في بيان المحجة (1/ 287 - 289).(7/107)
اعتقادهم، وما انطوت عليه ضمائرهم في معاني السنن ليقتدي بهم المقتفي، وذلك حين فشت البدع في البلدان وكثرت دواعيها في الزمان، فحينئذ وقع الاضطرار إلى الكشف والبيان ليهتدي بها المسترشد في الخلف، كما فاز لها من مضى من السلف، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتقين، وأن يعصمنا من اختراع المبتدعين، وأنا أذكر بتوفيق الله تعالى جماعة من أئمتنا من السلف ممن شرعوا في هذه المعاني فمنهم أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري فإنه قد أظهر اعتقاده، ومذهبه في السنة في غير موضع، وقد أملاه على شعيب بن حرب.
ومنهم أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي فإنه قد أجاب في اعتقاده حين سئل عنه كما رواه محمد بن إسحاق الثقفي، ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام فإنه قد أظهر اعتقاده في زمانه، ورواه ابن إسحاق الفزاري. ومنهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك إمام خراسان، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، ويوسف بن أسباط، قد أظهروا اعتقادهم، ومذاهبهم بالسنن، ومنهم شريك بن عبد الله النخعي، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو إسحاق الفزاري، ومنهم أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي المديني إمام دار الهجرة وفقيه الحرمين فانه قد أظهر اعتقاده في باب الإيمان والقرآن، ومنهم أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي سيد الفقهاء في زمانه، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام، والنضر بن شميل، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي من تلاميذ الشافعي، أظهر اعتقاده حين ظهرت المحنة في باب القرآن، ومنهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل سيد أهل الحديث في زمانه، وأفضل من تورع في عصره وأوانه، قد أظهر اعتقاده ودعا الناس إليه وثبت في المحنة، وبالغ فيه غاية المبالغة، ومنهم الشيخ الزاهد الفاضل زهير بن نعيم البابي السجستاني، له اعتقاد في رسالة كتبها إلى بعض إخوانه.
ثم ذكر طائفة من العلماء ممن ألف في الاعتقاد، إلى أن قال رحمه الله: وكان أبو أحمد بن أبي أسامة القرشي الهروي من أفاضل من بخراسان من العلماء والفقهاء أملى اعتقادا له قال: وينبغي لمن من الله بعلم الهداية والكرامة بالسنة ممن بقي من الخلف القدوة ممن مضى من السلف، وأن مذهبنا ومذهب أئمتنا من أهل الأثر: أن نقول أن الله عز وجل أحد لا شريك له، ولا ضد له ولا ند له ولا شبيه له، إلها واحدا أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يشرك في حكمه أحدا.
قال: ونؤمن بصفاته أنه كما وصف نفسه في كتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ونؤمن بما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفاته جل جلاله بنقل العدول، والأسانيد المتصلة التي(7/108)
اجتمع عليها أهل المعرفة بالنقل أنها صحيحة ثابتة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ونطلقها بألفاظها كما أطلقها، وتعتقد عليها ضمائرنا بصدق وإخلاص أنها كما قال - صلى الله عليه وسلم -، ولا نكيف صفات الله عز وجل، ولا نفسرها تفسير أهل التكييف والتشبيه، ولا نضرب لها الأمثال، بل نتلقاها بحسن القبول تصديقا، ونطلق ألفاظها تصريحا، كما قال الله عز وجل في كتابه، وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونقول: إن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة، ليس من كلامه وعلمه وصفاته شيء مخلوق، جل الله تعالى عن صفات المخلوقين. والكيف عن صفات الله مرفوع.
ونقول كما قال السلف من أهل العلم الزهري وغيره: على الله البيان، وعلى رسول الله البلاغ، وعلينا التسليم، ونؤدي أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سمعنا، ولا نقول في صفات الله كما قالت الجهمية والمعطلة، بل نثبت صفات الله تعالى بإيمان وتصديق.
قال الأوزاعي: أقروا أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمروها كما جاءت.
وقال سفيان الثوري: إني لآخذ الحديث على ثلاثة أوجه: آخذ الحديث على وجه أتخذه دينا، ومن وجه آخر لا أتركه وأتحرج أن أتخذه دينا أو فقها، وآخذه من وجه لا أتخذه دينا، وإنما آخذه لأعرفه. (1)
- وقال رحمه الله أيضا: أجمع المسلمون أن القرآن كلام الله، وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة لله تعالى، وأنه عز وجل موصوف به، وهذه الصفة لازمة لذاته. تقول العرب: زيد متكلم، فالمتكلم صفة له، إلا أن
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 473 - 477).(7/109)
حقيقة هذه الصفة الكلام، وإذا كان كذلك، كان القرآن كلام الله وكانت هذه الصفة لازمة له أزلية. والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم، أنه لو كان يفارقه لم يكن للمتكلم إلا كلمة واحدة، فإذا تكلم بها لم يبق له كلام، فلما كان المتكلم قادرا على كلمات كثيرة بعد كلمة، دل على أن تلك الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة. والدليل على أن القرآن غير مخلوق: أنه كلام الله، وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} (1). أي أردنا خلقه، وإيجاده، وإظهاره.
فقوله: كن، كلام الله وصفته، والصفة التي منها يتفرع الخلق والفعل وبها يتكون المخلوق لا تكون مخلوقة، ولا يكون مثلها للمخلوق. (2)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: ويجوز الزيادة والنقصان في الإيمان، وزيادته بفعل الطاعات، ونقصانه بتركها، وفعل المعاصي، خلافا لمن قال: الإيمان معرفة القلب وتصديقه، وهما عرضان من الأعراض، والزيادة والنقصان لا تجوز على الأعراض. (3)
- وقال: ولا يتساوى إيمان جميع المكلفين من الملائكة والأنبياء ومن دونهم من الشهداء والصديقين، بل يتفاضلون بقدر رتبهم في الطاعات خلافا
_________
(1) النحل الآية (40).
(2) الحجة في بيان المحجة (2/ 193).
(3) الحجة في بيان المحجة (1/ 405).(7/110)
لمن قال: الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما يقع التفاضل في العلم بأصناف أدلته، وقد ذكرنا أن الطاعات من الإيمان. (1)
- ثم قال: ويكره لمن حصل منه الإيمان أن يقول: أنا مؤمن حقا ومؤمن عند الله، ولكن يقول: أنا مؤمن أرجو أو مؤمن إن شاء الله، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وليس هذا على طريق الشك في إيمانه، لكنه على معنى أنه لا يضبط أنه قد أتى بجميع ما أمر به، وترك جميع ما نهي عنه، خلافا لقول من قال: إذا علم من نفسه أنه مؤمن جاز أن يقول: أنا مؤمن حقا. (2)
موقفه من القدرية:
- قال مبينا وهاء حجج القدرية: قد تمسك أهل القدر بآيات جهلوا معانيها، وحملوها على غير وجوهها، وجعلوها ذريعة لبدعتهم، وأهوائهم، ومعانيها عند أهل الحق ظاهرة على ما يوافق العقائد الصحيحة، منها قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3).
وفي قراءة عبد الله: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) وقيل في التفسير: القول هنا مضمر كأنه قال: (ويقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك).
ويدل على هذا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ
_________
(1) الحجة في بيان المحجة (1/ 406).
(2) الحجة في بيان المحجة (1/ 408 - 409).
(3) النساء الآية (79).(7/111)
الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} (1).
وقيل نزلت على سبب: وهو ما فعل الرماة يوم أحد من إخلالهم بالمكان الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بملازمته. فالحسنة ما أصابوا من القتل والسبي والغنائم من الكفار. والسيئة ما أصيب منهم من القتل والجرح.
ونحن إن جعلنا أفعال العباد من الله خلقا ومشيئة وتقديرا، فهي من العباد فعل وكسب. وبهذا المعنى صحت إضافة الأفعال إلى العباد وتحققت منهم الأعمال.
وقد ورد في الكتاب الدلائل على كل واحد من هذين، فاتبعنا القرآن وجرينا معه بما دل عليه من أن الأعمال مخلوقة لله تعالى مكتسبة من العباد.
فالآية الأولى وهي قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} دلت على أنها من الله خلقا وتقديرا وقضاء. والآية الثانية دلت على أنها من العباد كسبا وفعلا. وعلى هذا يحمل جميع ما ورد في القرآن من تحقيق أعمال العباد، وإثبات أفعالهم، وإضافتهم إليهم. (2)
محمد بن عبد الباقي البغدادي (3) (535 هـ)
الشيخ الإمام محمد بن عبد الباقي بن محمد، أبو بكر الأنصاري الكعبي
_________
(1) النساء الآية (78).
(2) الحجة في بيان المحجة (2/ 62 - 64).
(3) المنتظم (18/ 13 - 15) والأنساب (5/ 495) وتاريخ دمشق (54/ 68 - 70) والكامل في التاريخ (11/ 80) والسير (20/ 23 - 28) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 192 - 198) ولسان الميزان (5/ 241 - 243).(7/112)
البغدادي البصري البزاز، قاضي المرستان. كان أبوه يعرف بصهر هبة المقرئ، وكان شيخا صالحا محدثا. ولد الشيخ أبو بكر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. سمعه أبوه من أبي إسحاق البرمكي وعلي بن عيسى الباقلاني وغيرهما وسمع بمصر من أبي إسحاق الحبال، وأجاز له أبو القاسم التنوخي وأبو الفتح بن شيطا المقرئ وأبو عبد الله القضاعي. وروى عنه أبو القاسم ابن عساكر وأبو سعد السمعاني وابن الجوزي وأبو موسى المديني وغيرهم.
قال ابن الجوزي: وكان حسن الصورة، حلو المنطق، مليح المعاشرة. وقال أيضا: وكان ثقة فهما ثبتا حجة متفننا في علوم كثيرة، متفردا في علم الفرائض.
وقال ابن السمعاني: كان أسند شيخ بقي على وجه الأرض، وكانت إليه الرحلة من الأقطار. عارفا بالعلوم، متقنا حسن الكلام، ما رأيت أجمع للفنون منه، نظر في كل علم، وبرع في الحساب والفرائض. توفي رحمه الله سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وله بضع وتسعون سنة.
موقفه من المشركين:
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: قال ابن السمعاني: وسمعته يقول: أسرتني الروم، وبقيت في الأسر سنة ونصفا، وكان خمسة أشهر الغل في عنقي، والسلاسل على يدي ورجلي. وكانوا يقولون لي: قل المسيح ابن الله، حتى نفعل ونصنع في حقك، فامتنعت وما قلت. (1)
_________
(1) ذيل الطبقات (3/ 193).(7/113)
عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي (1) (536 هـ)
الشيخ الإمام، العلامة، الواعظ، شيخ الحنابلة بدمشق، أبو القاسم، عبد الوهاب بن أجل الحنابلة الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد، الأنصاري الشيرازي الأصل الدمشقي، تفقه على أبيه، وحدث بالإجازة عن أبي طالب بن يوسف، وصار له القبول الزائد في الوعظ، وزادت حشمته ورئاسته، وبعثه الملك بوري رسولا إلى المسترشد بالله يستصرخ به على غزو الفرنج وأنهم أخذوا كثيرا من الشام، وقف المدرسة الكبرى شمالي جامع دمشق، وكان ذا لسن وفصاحة وصورة كبيرة. أثنى عليه السلفي ووثقه، سمع من أبيه.
وقال أبو يعلى حمزة القلانسي: كان على الطريقة المرضية، والخلال الرضية ووفور العلم، وحسن الوعظ، وقوة الدين، وكان يوم دفنه يوما مشهودا من كثرة المشيعين له والباكين عليه، مات في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان يناظر على قواعد عقائد الحنابلة، جرى بينه وبين الفقيه الغندلاوي بحوث وسب، وكان الغندلاوي أشعريا.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1 - 'البرهان في أصول الدين' ذكره ابن مفلح في المقصد الأرشد (2)
_________
(1) السير (20/ 103 - 104) وشذرات الذهب (4/ 113 - 114).
(2) (2/ 147).(7/114)
والعليمي في الدر المنضد (1) وابن رجب في ذيل الطبقات (2). وعلى عادة ابن رجب رحمه الله، أن من كان فيه اعتزال أو أي انحراف يذكره له وينبه عليه، ومن كان موافقا لعقيدة السلف يترجم له ويطريه أو يذكره ذكرا عاديا. وهذا الإمام منهم. ويؤكد أنه كان على عقيدة السلف كتابه الآتي:
2 - 'رسالة في الرد على الأشعرية' ذكرها في ذيل طبقات الحنابلة. (3)
المازري (4) (536 هـ)
الشيخ الإمام الفقيه محمد بن علي بن عمر التيمي، أبو عبد الله المازري، الفقيه المالكي، أحد الأعلام. ومازر بليدة بجزيرة صقلية. كان من كبار أئمة زمانه وآخر المشتغلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر. أخذ عن أبي الحسن اللخمي وعبد الحميد الصائغ وغيرهما. وأخذ عنه أبو حفص الميانشي وأبو محمد البرجيني وابن الحداد المهدوي وأبو عبد الله الشلبي وأبو الحسن صالح بن أبي القاسم وأبو الحسن ابن المقرئ وغيرهم.
وممن أخذ عنه بالإجازة القاضي عياض وأبو بكر بن أبي جمرة وأبو بكر بن الخير وابن رشد الحفيد. كان رحمه الله واسع الباع في العلم والاطلاع، حسن الخلق، مليح المجلس، كثير الحكايات وإنشاد قطع الشعر،
_________
(1) (1/ 249).
(2) (1/ 199).
(3) (1/ 199).
(4) الوافي بالوفيات (4/ 151) والديباج المذهب (2/ 250 - 252) وشجرة النور الزكية (1/ 127 - 128) وشذرات الذهب (4/ 114).(7/115)
مع علم بالطب.
قال الصفدي: أخبرني من أنسيته عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى أنه كان يقول: ما رأيت أعجب من هذا -يعني المازري- لأي شيء ما ادعى الاجتهاد.
له تآليف تدل على إمامته منها: كتاب المعلم بفوائد مسلم، وكتاب الرد على الإحياء للغزالي سماه الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء، وكتاب التعليقة على المدونة، وكتاب إيضاح المحصول من برهان الأصول لأبي المعالي الجويني، وكتاب الواضح في قطع لسان الكلب النابح وغيرها.
إلا أن مما يؤاخذ على المازري أشعريته الواضحة، وكتابه المعلم خير دليل على ذلك، فكلما مر فيه على صفة من صفات الله تعالى إلا وجنح فيها إلى التأويل المذموم. توفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وقد نيف على الثمانين.
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله في كتابه الكشف والإنباء من كتاب الإحياء: ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكا الإمام يهرب من التحديد، ويجانب أن يرسم رسما وإن كان فيه أثر ما أو قياس ما تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على مالا حقيقة له، وفيه كثير من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا(7/116)
يجوز إطلاقها لشناعتها وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز إلى قدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل. (1)
الأمير علي بن يوسف بن تاشفين (2) (537 هـ)
السلطان، صاحب المغرب، أمير المسلمين، أبو الحسن، علي بن يوسف ابن تاشفين. تولى بعد أبيه سنة خمسمائة. وكان حسن السيرة، جيد الطوية، عادلا، نزها، حتى كان إلى أن يعد من الزهاد المتبتلين أقرب، وأدخل من أن يعد من الملوك. واشتد إيثاره لأهل العلم والدين، وكان إذا ولى أحدا من قضاته، كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرا دون أن يكون بمحضر أربعة من أعيان الفقهاء، يشاورهم في ذلك الأمر، وإن صغر، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما. وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه. ودان أهل زمانه بعدم الخوض في علم الكلام وأنه بدعة، واعتنى بعلم الرسائل والإنشاء، وعمر. وابتلي بنواب ظلمة، ثم خرج عليه ابن تومرت وحاربه وقوي عليه وأخذ البلاد، ومات رحمة الله عليه سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
_________
(1) نقلا عن الذهبي في السير (19/ 330).
(2) السير (20/ 124 - 125) ووفيات الأعيان (5/ 49و7/ 123 - 126) والعبر (2/ 83) وشذرات الذهب (4/ 115) والاستقصا (2/ 61 - 68) والكامل في التاريخ (10/ 417).(7/117)
موقفه من الصوفية:
تقدم ما ذكره الذهبي في أمره بإحراق كتب أبي حامد، وهذا أمر قد أجمع عليه المؤرخون، بل قد ذكر في المغرب أنه أمر بإحراق كتاب كل بدعة، ولم يقتصر على إحراق الإحياء فقط. وهذا الأمر شكره عليه الأولون والآخرون، ولكن كما تقدم في موقف البربهاري: مثل أصحاب البدع مثل العقارب، يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب، ويخرجون أذنابهم، فإذا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس، فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون، فرغم المجهودات التي بذلها علماء السلف في دحض البدع، ما تزال إلى الآن بادية أعناقها، فاتحة فمها تريد ابتلاع كل من يدعو الناس إلى الرجوع إلى مذهب السلف، ولعل الله ييسر لها سيفا مهندا فيكسر الفم ويقطعه شقين، ويرميه إلى الكلاب تتناحر عليه. والله المستعان.
جاء في الفكر السامي: وكان علي بن يوسف واقفا كأبيه عند إشارة الفقهاء وأهل العلم قد رد جميع الأحكام إليهم، فلما أفتوه بإحراق كتاب الإحياء كتب إلى أهل مملكته في سائر الأمصار والأقطار بأن يبحث عن نسخ الإحياء بحثا أكيدا، ويحرق ما عثر عليه منها، فجمع من نسخها عدد كثير ببلاد الأندلس، ووضعت بصحن جامع قرطبة، وصب عليها الزيت ثم أوقد عليها بالنار. وكذا فعل بما ألفي من نسخها بمراكش، وتوالى الإحراق عليها في سائر بلاد المغرب.
وفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة توفي الشيخ الفقيه أبو العباس أحمد ابن محمد ... وسعي به إلى أمير المسلمين علي بن يوسف فأمر بإشخاصه إلى(7/118)
حضرة مراكش. (1)
التعليق:
هكذا كان هذا الملك الصالح مع مبتدعة الصوفية وغيرهم، فما فعله مع أبي العباس أحمد بن محمد بن العريف، ينبغي أن يفعل بكل مبتدع حتى يقف عند حده.
موقفه من الجهمية:
كان ملوك المرابطين من خيرة الناس في عقائدهم، لم يبتلوا بما ابتلي به غيرهم من رفض أو كلام. وكانوا سدا منيعا في وجوه الفلاسفة والمتكلمين وزنادقة المتصوفة، لولا غلوهم في التمسك بالمذهب المالكي. وسنرى إن شاء الله مواقفهم المشرفة التي تبعث على السرور.
- جاء في المعجب لعبد الواحد المراكشي: ... ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين -أي علي بن يوسف- تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين. وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله. (2)
- وجاء في السير: ... وأهينت الفلسفة ومج الكلام ومقت، واستحكم في ذهن علي أن الكلام بدعة ما عرفه السلف، فأسرف في ذلك،
_________
(1) الفكر السامي (2/ 75 - 76).
(2) المعجب (ص.254 - 255).(7/119)
وكتب يتهدد ويأمر بإحراق الكتب وكتب يأمر بإحراق تواليف الشيخ أبي حامد وتوعد بالقتل من كتمها. (1)
عباس صاحب الري (2) (541 هـ)
كان عباس من غلمان السلطان محمود، حسن السيرة، عادلا في رعيته، كثير الجهاد للباطنية، قتل منهم خلقا كثيرا، وحكي أنه ما شرب الخمر قط ولا زنى. قتله السلطان مسعود سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وتأسف الناس عليه.
موقفه من المشركين:
قال ابن كثير: وقد كان عباس من الشجعان المشهورين، قاتل الباطنية مع مخدومه جوهر، فلم يزل يقتل منهم حتى بنى مئذنة من رؤوسهم بمدينة الري. (3)
عبد الله بن علي سبط الخياط (4) (541 هـ)
هو أبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد الإمام العلامة مقرئ العراق النحوي، سبط الإمام الزاهد أبي منصور الخياط. ولد سنة أربع وستين
_________
(1) السير (20/ 124).
(2) البداية (12/ 238) والمنتظم (18/ 52 - 53) والكامل في التاريخ (11/ 116 - 117).
(3) البداية والنهاية (12/ 237).
(4) السير (20/ 130) ومعرفة القراء الكبار (1/ 494 - 497/ت 443) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/ 434 - 435).(7/120)
وأربعمائة. تلقى القرآن من أبي الحسن بن الفاعوس. وسمع من أبي الحسين ابن النقور وأبي منصور محمد العكبري ورزق الله التميمي وعدة. وتلا بالروايات على جده أبي منصور الخياط، وأبي الخطاب بن الجراح، وثابت بن بندار وأبي العز القلانسي وغيرهم. وتصدر للإقراء وصنف الكتب الشهيرة كالمبهج والإيجاز والكفاية وغيرها.
حدث عنه ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي وخلق. توفي رحمه الله في الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. قال فيه الإمام الذهبي: كان إماما محققا، واسع العلم، متين الديانة، قليل المثل، وكان أطيب أهل زمانه صوتا بالقرآن على كبر السن.
ومن شعره:
كتبت علوما ثم أيقنت أنني فإن كنت عند الله فيها مخلصا وإن كانت الأخرى فبالله فاسألوا ... سأبلى ويبقى ما كتبت من العلم
فذاك لعمر الله قصدي في الحكم
إلهي غفرانا من الذنب والجرم
موقفه من الجهمية:
- جاء في ذيل الطبقات عنه قال:
الفقه علم به الأديان ترتفع ... ثم الحديث إذا ما رمته فرج ... ثم الكلام فذره، فهو زندقة ... والنحو عز به الإنسان ينتفع
من كل معنى به الإنسان يبتدع
وخرقه فهو خرق ليس يرتفع (1)
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 211).(7/121)
- وله أيضا:
ظهرت في الأنام بدعة قوم عطلوا وصفه، وحادوا عن الحق ... جحدوا الله والقرآن المبينا
جميعا، وخالفوه يقينا (1)
أبو الحسن الآبَنُوسِي (2) (542 هـ)
الفقيه المفتي العابد، أبو الحسن أحمد بن الإمام المحدث أبي محمد عبد الله ابن علي بن الآبنوسي، البغدادي الشافعي الوكيل. ولد سنة ست وستين وأربعمائة. سمع أبا القاسم ابن البسري، وإسماعيل بن مسعدة، وأبا نصر الزينبي وعدة، وتفقه على القاضي الحموي (أبي بكر ابن المظفر). روى عنه السمعاني وابن عساكر والكندي وسليمان الموصلي وآخر من روى عنه بنته شرف النساء. وكان ثقة مصنفا على سنن السلف، والتقشف وسبيل أهل السنة في الاعتقاد، وكان يخلو بالأذكار والأوراد من بكرة إلى وقت الظهر ثم يقرأ عليه بعد الظهر، وكان عالي السند. توفي ثامن ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
- قال الذهبي: ونظر في الاعتزال، ثم أنقذه الله وتسنن. ثم قال: جمع
_________
(1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 212).
(2) المنتظم (18/ 57) وتذكرة الحفاظ (4/ 1294) وسير أعلام النبلاء (20/ 162 - 163) وتاريخ الإسلام (حوادث 541 - 550/ص.98 - 99) والوافي بالوفيات (7/ 114) طبقات الشافعية للسبكي (4/ 39) وشذرات الذهب (4/ 130).(7/122)
وصنف، ودعا إلى السنة. (1)
- قال ابن الجوزي في المنتظم: وصحب شيخنا أبا الحسن ابن الزاغوني، فحمله على السنة بعد أن كان معتزليا، وكانت له اليد الحسنة في المذهب والخلاف والفرائض والحساب والشروط، وكان ثقة مصنفا على سنن السلف والتقشف وسبيل أهل السنة في الاعتقاد، وكان ينابذ من أصحاب الشافعي من يخالف ذلك من المتكلمين. (2)
ابن عياض المجاهد (3) (542 هـ)
عبد الله وقيل عبد الرحمن أبو محمد بن عياض المجاهد في
_________
(1) السير (19/ 279).
(2) المنتظم (18/ 57).
(3) السير (20/ 237 - 239) ونفح الطيب (4/ 465) وتاريخ ابن خلدون (4/ 357).(7/123)
سبيل الله، فارس الأندلس، وبطلها المشهور، اتفق عليه أهل شرق الأندلس. قال عبد الواحد المراكشي: كان من الصالحين الكبار، فإذا ركب الخيل لا يقوم له أحد. كان النصارى يعدونه بمائة فارس، فحمى الله به الناحية مدة إلى أن توفي. وله مواقف مشهودة، وكان فارس الإسلام في زمانه. قال عنه اليسع ابن حزم: أشجع من ركب الخيل وأفرس من سام الروم الويل. توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بسبب سهم أصابه في النخاع.
موقفه من المشركين:
وقال اليسع بن حزم في أخبار المغرب: حدثني الأمير الملك المجاهد في سبيل الله أبو محمد عبد الله بن عياض أشجع من ركب الخيل، وأفرس من سام الروم الويل، قال: نزلت محلة الفرنج علينا، فكانوا إذا رمونا بالنبل صار حائلا بيننا وبين الشمس كالجراد، والذي صح عندنا أن عدد خيلهم مئة ألف فارس، ومن الرجل مئتا ألف أو أزيد، وكنا نعد على مقربة من سورنا أربع مئة خيمة ديباج أو نحوها نحقق هذا، فاشتد علينا الحصار، فخرجنا في مئتي فارس، فشققنا الروم نقتل فيهم، ولجأنا إلى حصن الزيتونة قاصدين بلنسية، قال اليسع: قال لي مسعود بن عز الناس: أبصرت ابن عياض وهو شاب حدث، وقد صارع روميا غلب جميع من في بلاد الأندلس، فجاءه الرومي، فدفعه ابن عياض عن نفسه دفعة حسبت أن الرومي انتفضت أوصاله، ثم أمسك بخاصرة الرومي حتى رأيت الدم تحت أصابع ابن عياض، ثم رفعه، وألقى به الأرض، فطار دماغه. وله قصة أخرى: وذلك أنه وقف فارس من جملة خيالة الروم على لارِدَة، وطلب المبارزة، فخرج ابن عياض عليه قميص طويل الكم قد أدخل فيه حجرا مدحرجا، وربط رأس الكم، وتقلد سيفه، والرومي شاك في سلاحه، فحمل عليه ابن عياض، فطعنه الرومي في الطارقة، فنشب الرمح، فأطلقها ابن عياض من يده، وبادر فضرب الرومي بكمه، فنثر دماغه، فعجبنا وكبرنا، فاشتهر ذكره على صغر سنه، وأما أنا فحضرت معه أيام مملكته حروبا، كان حجر لا يؤثر فيه، وكان في هيئته كأنه برج غريب الخلقة. قال مسعود: ولما وصلنا الزيتونة بعد قضاء حوائجنا، جئنا لاردة في السحر، فوقعنا في خيام العدو المحيط بالبلد، فجعلنا نضرب على الطوارق ونصيح، فنفرت الخيل، ونحن نقتل من(7/124)
لقيناه، فدخلنا البلد سالمين. قلت: ولابن عياض مواقف مشهودة، وكان فارس الإسلام في زمانه، لعله بقي إلى بعد الأربعين وخمس مئة، وقام بعده خادمه محمد بن سعد بن مردنيش، استخلفه عند موته على الناس، فدامت أيامه إلى سنة ثمان وستين وخمس مئة.
قال اليسع في تاريخ المغرب -وقد خدم ابن عياض، وصار كاتبا له- فذكر أن ابن عياض التقى البرشلوني، وانتصر المسلمون، فلما انفصل المصاف، قصد المسلمون الماء ليشربوا، وتجرد ابن عياض من درعه، ونحو الخمس مئة من الروم في غابة عند الماء، فالتفت ابن عياض إلى أصحابه أن ارموا الروم بالنبل، فجاءه سهم في فقار ظهره، فأخرج منه بعد قتل أولئك الخمس مئة، وإذا بالسهم قد أصاب النخاع، فوصل مرسية، وتوفي بعد ولايته إياها أربع سنين، ووجد المسلمون لفقده. (1)
الحسين بن إبراهيم الجَوْزَقَانِي (2) (543 هـ)
الإمام الحافظ أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم بن حسين بن جعفر الهمذاني الجوزقاني، مصنف كتاب الأباطيل. روى عن أبي الغنائم شيرويه الديلمي وابن طاهر المقدسي وحمد بن نصر ويحيى بن مندة وجماعة. حدث عنه عبد الرزاق الجيلي وابن أخته نجيب بن غانم الطيان وغيرهما. قال ابن النجار: كتب وحصل وصنف عدة كتب في علم الحديث، منها كتاب
_________
(1) السير (20/ 237 - 239).
(2) السير (20/ 177 - 178) وتذكرة الحفاظ (4/ 1308 - 1309) والوافي بالوفيات (12/ 315 - 316) ولسان الميزان (2/ 269 - 271) وشذرات الذهب (4/ 136) وتاريخ الإسلام (حوادث 541 - 550/ص.140 - 141).(7/125)
الموضوعات، أجاد تصنيفه، روى لنا عنه عبد الرزاق الجيلي. توفي رحمه الله في سادس عشر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وهو في السفر.
موقفه من المرجئة:
- له كتاب الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، قال فيه عن محمد ابن كرام وضلالاته:
واعلم يا أخي، وفقك الله للخيرات، أن أبا عبد الله ابن كرام كان من نواحي سجستان من قرية يقال لها الحروي، وكان يتعبد ويظهر الزهد والتقشف والتخلي والتقلل، وذلك في أصحابه إلى اليوم حيث كانوا من أرض خراسان وغيرها من البلاد. وأكثر ظهورهم بنيسابور وأعمالها، وببيت المقدس منهم طائفة قد عكفوا على قبره، مال إليهم كثير من العامة لاجتهادهم وظلف عيشهم. وكان يقول: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والمعرفة ليست من الإيمان، والإيمان باللسان مجرد عن عقد القلب، وعمل الأركان، فمن أقر بلسانه بكلمة التوحيد، فهو مؤمن حقا، وإن اعتقد بقلبه الكفر والتثليث وضيع جميع قوانين الشريعة وتركها، وأتى كل فاحشة وكبيرة وارتكبها، إلا أنه مقر بلسانه بكلمة التوحيد، فهو مؤمن موحد ولي الله من أهل الجنة، وأنه لا تضره سيئة، مع إقراره بالوحدانية كما لا تنفعه حسنة مع إظهار الشرك بالله عزوجل. فلزمهم من هذا القول أن المنافقين مؤمنون حقا، وقد أكذبهم الله تعالى في غير موضوع من كتابه، وحقق أنه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا. وذكر {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ(7/126)
النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} (1). وغير ذلك من الآيات المنصوص الوارد فيهم. (2)
أبو بكر ابن العربي (3) (543 هـ)
محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله أبو بكر ابن العربي الإمام العلامة الحافظ القاضي الأندلسي صاحب التصانيف، سأله ابن بشكوال عن مولده فقال: في سنة ثمان وستين وأربعمائة. سمع من خاله الحسن بن عمر الهوزني وطائفة بالأندلس، ارتحل مع أبيه وسمعا ببغداد من طراد بن محمد الزينبي وأبي عبد الله النعالي وأبي الخطاب ابن البطر وغيرهم. وتفقه بأبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي والتبريزي وجماعة. رجع إلى الأندلس بعد أن دفن أباه في رحلته، وصنف وجمع، وفي فنون العلم برع وكان فصيحا خطيبا بليغا. حدث عنه عبد الخالق بن أحمد اليوسفي وأحمد بن خلف الإشبيلي والحسن ابن علي القرطبي وعدد كثير. وتخرج به أئمة، وكان ثاقب الذهن عذب المنطق كريم الشمائل كامل السؤدد، ولي قضاء إشبيلية فحمدت سياسته ثم عزل، وأقبل على نشر العلم وتدوينه. كان ممن يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد. توفي بفاس في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
_________
(1) النساء الآية (145).
(2) (ص.138).
(3) السير (20/ 197 - 204) ووفيات الأعيان (4/ 296 - 297) والوافي بالوفيات (3/ 330) والديباج المذهب (2/ 252 - 256) والبداية والنهاية (12/ 245 - 246) والعبر (2/ 92 - 93) والنجوم الزاهرة (5/ 302) وشذرات الذهب (4/ 141 - 142).(7/127)
موقفه من الرافضة:
- جاء في الاعتصام عنه: خرجت من بلادي على الفطرة، فلم ألق في طريقي إلا مهتديا، حتى بلغت هذه الطائفة -يعني: الإمامية والباطنية من فرق الشيعة-، فهي أول بدعة لقيت، فلو فجأتني بدعة مشبهة، كالقول بالمخلوق، أو نفي الصفات، أو الإرجاء، لم آمن. فلما رأيت حماقاتهم، أقمت على حذر، وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة، ولبثت بينهم ثمانية أشهر.
ثم خرجت إلى الشام، فوردت بيت المقدس، فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين -مدرسة الشافعية بباب الأسباط، وأخرى للحنفية-، وكان فيها من رؤوس العلماء ورؤوس المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير، فوعيت العلم، وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنة.
ثم نزلت إلى الساحل لأغراض، وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والإمامية، فطفت في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر، ونزلت عكا، وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكي، وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي.
فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين، فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا؛ ولع بي، وفيهم -لعمر الله، وإن كانوا على باطل- انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر، فكان لا يفارقني، ويساومني الجدال، ولا يفاترني، فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعميم من(7/128)
المعصوم بما يطول ذكره. ومن جملة ذلك أنهم يقولون: إن لله في عباده أسرارا وأحكاما، والعقل لا يستقل بدركها، فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم. فقلت لهم: أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد؟ فقال لي: مات -وليس هذا بمذهبه، ولكنه تستر معي-. فقلت: هل خلفه أحد؟ فقال: خلفه وصيه علي. قلت: فهل قضى بالحق وأنفذه؟ قال: لم يتمكن لغلبة المعاند. قلت: فهل أنفذه حين قدر؟ قال: منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت؛ إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى، فلم يمكن إلا المداراة؛ لئلا ينفتح عليه أبواب الاختلال. قلت: وهذه المداراة حق أم لا؟ فقال: باطل أباحته الضرورة. قلت: فأين العصمة؟ قال: إنما تغني العصمة مع القدرة. قلت: فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا؟ قال: لا. قلت: فالدين مهمل، والحق مجهول مخمل؟ قال: سيظهر. قلت: بمن؟ قال: بالإمام المنتظر. قلت: لعله الدجال؟ فما بقي أحد إلا ضحك. وقطعنا الكلام على غرض مني؛ لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده.
ثم قلت: ومن أعجب ما في هذا الكلام: أن الإمام إذا أوعز إلى من لا قدرة له؛ فقد ضيع، فلا عصمة له! وأعجب منه أن الباري تعالى -على مذهبه- إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم، وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم؛ فكأنه ما علمه وما بعثه، وهذا عجز منه وجور، لاسيما على مذهبهم! فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة. وشاع الحديث، فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي، فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي، وقال: إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك. فقلت: أنا مشغول.(7/129)
فقال: هنا موضع مرتب قد جاء إليه، وهو محرس الطبرانيين، مسجد في قصر على البحر، وتحامل علي، فقمت ما بين حشمة وحسبة، ودخلت قصر المحرس، وطلعنا إليه، فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية، فرأيت النكر في وجوههم، فسلمت، ثم قصدت جهة المحراب، فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم والخلاص منهم. فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم؛ إن كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا، ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس، فأقول: هذا قبري الذي يدفنوني فيه، وأنشد في سري:
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان؟
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري التي أنقدني الله منها.
فلما سلمت؛ استقبلتهم، وسألتهم عن أحوالهم عادة، وقد اجتمعت إلي نفسي، وقلت: أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين. فقال لي أبو الفتح -وأشار إلى فتى حسن الوجه-: هذا سيد الطائفة ومقدمها، فدعوت له، فسكت، فبدرني وقال: قد بلغتني مجالستك وانتهى إِليَّ كلامك، وأنت تقول: قال الله وفعل! فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه؟! أخبرني واخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة -وقد احتد نفسا، وامتلأ غيظا، وجثا على ركبتيه، ولم أشك أنه لا يتم الكلام إلا وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب. فعمدت -بتوفيق الله- إلى كنانتي،(7/130)
واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه، فسقط لليدين والفم. (1)
وانظر بقية المناظرة في المرجع نفسه فهي شيقة تبرز عمق علم السلف رحمهم الله وتوقد ذكائهم.
- وجاء في العواصم: وهذه حقيقة مذهبهم (أي الروافض)، أن الكل منهم (أي الصحابة) كفرة، لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب. وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية: إن كل عاص بكبيرة كافر، على رسم القدرية، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين (وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) ومن ساعدهم على أمرهم، وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحرص الناس على دنيا، وأقلهم حماية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة.
قال القاضي أبو بكر: يكفيك من شر سماعه، فكيف التململ به. خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا -لا ينقص منها يوما ولا يزيد يوما- وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟
ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل. فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
_________
(1) الاعتصام (1/ 198 - 202).(7/131)
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (1)، وهذا قول صدق، ووعد حق. وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين، ولا أمن ولا سكون، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة. (2)
القاضي عياض (3) (544 هـ)
الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي، ثم السبتي المالكي. ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة. رحل إلى الأندلس وروى عن القاضي أبي علي ابن سكرة الصدفي ولازمه، وعن أبي بحر بن العاص وعدة. وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي والقاضي محمد المسيلي. واستبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق. ولي القاضي عياض القضاء مرارا، في سبتة أولا، ثم في غرناطة، ثم في سبتة مرة أخرى، ثم بقرية داي ببادية تادلا في الشمال
_________
(1) النور الآية (55).
(2) العواصم من القواصم (187 - 192).
(3) وفيات الأعيان (3/ 483 - 485) وتاريخ الإسلام (حوادث 541 - 550/ص.198 - 201) والسير (20/ 212 - 218) وتذكرة الحفاظ (4/ 1304 - 1307) والديباج المذهب (2/ 46 - 51) والبداية والنهاية (12/ 241) وشذرات الذهب (4/ 138 - 139).(7/132)
الغربي من مراكش. قال ابن بشكوال: هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم. ومن مؤلفاته: الشفا في شرف المصطفى وترتيب المدارك والعقيدة وشرح حديث أم زرع ومشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار، والإكمال في شرح صحيح مسلم. قال ابن خلكان: هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. وقال صاحب النجوم الزاهرة: كان إماما، حافظا، محدثا، فقيها، متبحرا، صنف التصانيف المفيدة، وانتشر اسمه في الآفاق وبعد صيته. حدث عنه ابن بشكوال وولده محمد وأبو جعفر بن القصير وعدة. توفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخر ودفن بمراكش سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في الشفا (1): فصل [في وجوب اتباعه، وامتثال أمره، والاقتداء بهديه].
وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه، فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2)، وقال: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
_________
(1) (2/ 542 - 551).
(2) آل عمران الآية (31).(7/133)
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (1)، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (2)، أي ينقادون لحكمك يقال: سلم، واستسلم، إذا انقاد. وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)} (3). قال محمد بن علي الترمذي: الأسوة في الرسول الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول وفعل. وقال غير واحد من المفسرين بمعناه. وقيل: هو عتاب للمتخلفين عنه.
وقال سهل في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (4) قال: بمتابعة السنة، فأمرهم تعالى بذلك، ووعدهم الاهتداء باتباعه، لأن الله تعالى أرسله بالهدى ودين الحق ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ووعدهم محبته تعالى في الآية الأخرى ومغفرته إذا اتبعوه، وآثروه على أهوائهم، وما تجنح إليه نفوسهم، وأن صحة إيمانهم بانقيادهم له، ورضاهم بحكمه، وترك الاعتراض عليه. وروي عن الحسن أن أقواما قالوا: يا
_________
(1) الأعراف الآية (158).
(2) النساء الآية (65).
(3) الممتحنة الآية (6).
(4) الفاتحة الآية (7).(7/134)
رسول الله، إنا نحب الله. فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (1). وروي أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف وغيره، وأنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبا لله، فأنزل الله الآية. وقال الزجاج: معناه إن كنتم تحبون الله أن تقصدوا طاعته، فافعلوا ما أمركم به، إذ محبة العبد لله والرسول طاعته لهما، ورضاه بما أمرا، ومحبة الله لهم عفوه عنهم، وإنعامه عليهم برحمته. (2)
ويقال: الحب من الله عصمة وتوفيق، ومن العباد طاعة، كما قال القائل:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... لو كان حبك صادقا لأطعته ... هذا لعمري في القياس بديع
إن المحب لمن يحب مطيع
-ثم ساق بسنده- عن العرباض بن سارية في حديثه في موعظة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (3). زاد في حديث جابر بمعناه: «وكل ضلالة في النار» (4). وفي حديث أبي رافع عنه - صلى الله عليه وسلم -: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو
_________
(1) آل عمران الآية (31).
(2) هذا مع إثبات صفة المحبة له سبحانه.
(3) تقدم تخريجه في مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (23هـ).
(4) تقدم تخريجه في مواقف القاسم بن محمد سنة (106هـ).(7/135)
نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه». (1)
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ترخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم قال: «ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية». (2)
- وقال (3): فصل [في أن مخالفة أمره وتبديل سنته ضلال]
ومخالفة أمره وتبديل سنته ضلال وبدعة متوعد من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (4)، وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (5).
-ثم ساق بسنده- عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة .. وذكر الحديث في صفة أمته، وفيه: «فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول:
_________
(1) أحمد (6/ 8) بلفظ: «لأعرفن» وأبو داود (5/ 12/4605) والترمذي (5/ 36/2663) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجة (1/ 6 - 7/ 13) والحاكم (1/ 108 - 109) وصححه على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه أحمد (6/ 45) والبخاري (10/ 628/6101) ومسلم (4/ 1829/2356) والنسائي في الكبرى (6/ 67/10063) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(3) الشفا (2/ 559 - 562).
(4) النور الآية (63).
(5) النساء الآية (115).(7/136)
فسحقا، فسحقا، فسحقا» (1). وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» (2)، وقال: «من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (3)، وروى ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (4). زاد في حديث المقدام: «ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله» (5) ...
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «هلك المتنطعون» (6). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ). (7)
موقفه من الرافضة:
- جاء في الشفا: وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم تقدم عليا. وكفرت عليا، إذ لم يتقدم ويطلب
_________
(1) أخرجه أحمد (2/ 300و408) ومسلم (1/ 218/249) وأبو داود (3/ 558/3237) مختصرا والنسائي (1/ 101 - 102/ 150) وابن ماجة (2/ 1439/4306).
(2) أحمد (3/ 241و259) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217).
(3) تقدم تخريجه في مواقف الخلال سنة (311هـ).
(4) تقدم تخريجه قريبا.
(5) سيأتي تخريجه ضمن مواقف علي محفوظ سنة (1361هـ).
(6) أخرجه أحمد (1/ 386) ومسلم (4/ 2055/2670) وأبو داود (5/ 15/4608) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(7) تقدم في مواقفه رضي الله عنه من المبتدعة سنة (13هـ).(7/137)
حقه في التقديم، فهؤلاء قد كفروا من وجوه، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا -والله أعلم- أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة. ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه، وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم، لعنة الله عليهم، وصلى الله على رسوله وآله. (1)
- وفيه: وكذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم: إن الأئمة أفضل من الأنبياء. (2)
- قال الذهبي: بلغني أنه -أي القاضي عياض- قتل بالرماح لكونه أنكر عصمة ابن تومرت. (3)
موقفه من الجهمية:
قال الحافظ في الفتح: وقال القاضي عياض -معلقا على أحاديث خروج الدجال-: في هذه الأحاديث حجة لأهل السنة في صحة وجود الدجال، وأنه شخص معين يبتلي الله به العباد ويقدره على أشياء كإحياء الميت الذي يقتله، وظهور الخصب والأنهار، والجنة والنار، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وكل ذلك بمشيئة الله، ثم يعجزه الله فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ثم يبطل أمره ويقتله
_________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 1072).
(2) الشفا (2/ 1078).
(3) السير (20/ 217).(7/138)
عيسى بن مريم. وقد خالف في ذلك بعض الخوارج والمعتزلة والجهمية فأنكروا وجوده وردوا الأحاديث الصحيحة، وذهب طوائف منهم كالجبائي إلى أنه صحيح الوجود، لكن كل الذي معه مخاريق وخيالات لا حقيقة لها، وألجأهم إلى ذلك أنه لو كان ما معه بطريق الحقيقة لم يوثق بمعجزات الأنبياء، وهو غلط منهم، لأنه لم يدع النبوة فتكون الخوارق تدل على صدقه، وإنما ادعى الالهية وصورة حاله تكذبه لعجزه ونقصه، فلا يغتر به إلا رعاع الناس إما لشدة الحاجة والفاقة، وإما تقية وخوفا من أذاه وشره مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث حتى يتأمل الضعفاء حاله، فمن صدقه في تلك الحال لم يلزم منه بطلان معجزات الأنبياء، ولهذا يقول له الذي يحييه بعد أن يقتله، ما ازددت فيك إلا بصيرة. (1)
قلت -أي ابن حجر-: ولا يعكر على ذلك ما ورد في حديث أبي أمامة عند ابن ماجه أنه يبدأ فيقول أنا نبي، ثم يثني فيقول أنا ربكم (2) فإنه يحمل على أنه إنما يظهر الخوارق بعد قوله الثاني. (3)
_________
(1) الفتح (13/ 105).
(2) رواه ابن ماجه (2/ 1359 - 1360/ 4077) بسند منقطع فيحيى بن أبي عمرو السيباني روايته عن الصحابة مرسلة. ورواه موصولا: أبو داود (4/ 497/4322) ولم يسق لفظه. والآجري في الشريعة (ص.375 - 376)، وليس عنده موضع الشاهد. وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 449/1008). وابن أبي عاصم في السنة رقم (391) و (429). واللالكائي (3/ 545 - 546/ 851). ورجاله ثقات. وعمرو بن عبد الله الحضرمي وثقه ابن حبان (5/ 179) والعجلي (2/ 179) والفسوي (2/ 437). ورواه ابن خزيمة في التوحيد (2/ 459/270) والحاكم (4/ 536 - 537) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي وفيه عطاء بن مسلم الخراساني وهو ضعيف من قبل حفظه، لكن تابعه ضمرة بن ربيعة عند أبي داود وغيره.
(3) الفتح (13/ 105).(7/139)
الشهرستاني (1) (549 هـ)
محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح الشهرستاني، شيخ أهل الكلام والحكمة. برع في الفقه على الإمام أحمد الخوافي، وأخذ الكلام عن أبي نصر ابن القشيري. صنف كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام وكتاب الملل والنحل وغيرها. كان متهما بالميل إلى أهل البدع -يعني الإسماعيلية- والدعوة إليهم ولضلالاتهم. وقال الخوارزمي صاحب الكافي: لولا تخليطه في الاعتقاد وميله إلى أهل الزيغ والإلحاد لكان هو الإمام في الإسلام. وقد حكى شيخ الإسلام توبته في منهاج السنة. مات بشهرستان سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
توبته من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه: وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال: قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير صرم، لعمري:
لقد طفت المعاهد كلها فلم أر إلا واضعا كف حائر ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
على ذقن أو قارعا سن نادم
فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا مرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده
_________
(1) السير (20/ 286 - 288) ولسان الميزان (5/ 263 - 264) وشذرات الذهب (4/ 149).(7/140)
لم يكد يراها وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة. (1)
أبو الفضل ابن ناصر (2) (550 هـ)
محمد بن ناصر بن علي بن عمر السلامي أبو الفضل الإمام المحدث الحافظ. ولد سنة سبع وستين وأربعمائة. وربي يتيما في كفالة جده لأمه الفقيه أبي حكيم الخبري، لقنه القرآن، وسمعه من أبي القاسم علي بن أحمد البسري وأبي طاهر الأنباري، ثم طلب وسمع من عاصم بن الحسن ومالك بن أحمد البانياسي وأبي الغنائم بن أبي عثمان ورزق الله التميمي وخلق كثير، وقرأ ما لا يوصف كثرة وحصل الأصول وجمع وألف وبعد صيته وكان فصيحا مليح القراءة قوي العربية جم الفضائل. تفرد بإجازات عالية. روى عنه ابن طاهر وأبو عامر العبدري وأبو الفرج ابن الجوزي وآخرون. قال ابن الجوزي: كان شيخنا ثقة حافظا ضابطا من أهل السنة لا مغمز فيه. وقال ابن النجار: كان ثقة ثبتا حسن الطريقة متدينا فقيرا متعففا نظيفا نزها وقف كتبه. ورجع عن الأشعرية.
توفي في ثامن عشر شعبان سنة خمسين وخمسمائة.
_________
(1) المنهاج (5/ 269 - 270).
(2) السير (20/ 265 - 271) والمنتظم (18/ 103 - 104) ووفيات الأعيان (4/ 293 - 294) والوافي بالوفيات (5/ 104 - 106) والبداية والنهاية (12/ 250) والعبر (2/ 99) وشذرات الذهب (4/ 155 - 156).(7/141)
موقفه من الجهمية:
رجوعه عن الأشعرية:
قال ابن النجار: قرأت بخط ابن ناصر وأخبرنيه عنه سماعا يحيى بن الحسين قال: بقيت سنين لا أدخل مسجد أبي منصور الخياط، واشتغلت بالأدب على التبريزي، فجئت يوما لأقرأ الحديث على الخياط، فقال: يا بني، تركت قراءة القرآن، واشتغلت بغيره؟ عد، واقرأ علي ليكون لك إسناد، فعدت إليه في سنة اثنتين وتسعين، وكنت أقول كثيرا: اللهم بين لي أي المذاهب خير. وكنت مرارا قد مضيت إلى القيرواني المتكلم في كتاب التمهيد للباقلاني، وكأن من يردني عن ذلك. قال: فرأيت في المنام كأني قد دخلت المسجد إلى الشيخ أبي منصور، وبجنبه رجل عليه ثياب بيض ورداء على عمامته يشبه الثياب الريفية، دري اللون، عليه نور وبهاء، فسلمت، وجلست بين أيديهما، ووقع في نفسي للرجل هيبة وأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جلست التفت إلي، فقال لي: عليك بمذهب هذا الشيخ، عليك بمذهب هذا الشيخ. ثلاث مرات، فانتبهت مرعوبا، وجسمي يرجف، فقصصت ذلك على والدتي، وبكرت إلى الشيخ لأقرأ عليه، فقصصت عليه الرؤيا، فقال: يا ولدي، ما مذهب الشافعي إلا حسن، ولا أقول لك: اتركه، ولكن لا تعتقد اعتقاد الأشعري. فقلت: ما أريد أن أكون نصفين، وأنا أشهدك، وأشهد الجماعة أني منذ اليوم على مذهب أحمد بن حنبل في الأصول والفروع. فقال لي: وفقك الله. ثم أخذت في سماع كتب أحمد ومسائله والتفقه على مذهبه،(7/142)
وذلك في رمضان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. (1)
موقف السلف من أبي مسعود عبد الجليل بن محمد كوتاه الجهمي (553 هـ)
موقف شيخه أبي القاسم إسماعيل بن محمد منه:
قال السمعاني: لما وردت أصبهان كان ما يخرج من داره إلا لحاجة مهمة، كان شيخه إسماعيل الحافظ هجره، ومنعه من حضور مجلسه لمسألة جرت في النزول، وكان كوتاه يقول: النزول بالذات، فأنكر إسماعيل هذا، وأمره بالرجوع عنه، فما فعل. (2)
تعليق الإمام الذهبي:
ومسألة النزول فالإيمان به واجب، وترك الخوض في لوازمه أولى، وهو سبيل السلف، فما قال هذا: نزوله بذاته، إلا إرغاما لمن تأوله، وقال: نزوله إلى السماء بالعلم فقط. نعوذ بالله من المراء في الدين. وكذا قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (3) ونحوه، فنقول: جاء، وينزل، وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبارات مبتدعة والله أعلم. (4)
_________
(1) السير (20/ 269 - 270).
(2) السير (20/ 330).
(3) الفجر الآية (22).
(4) السير (20/ 331).(7/143)
ابن نَاجِيَة أحمد بن أبي المعالي (1) (554 هـ)
العلامة أبو القاسم أحمد بن أبي المعالي المعروف بابن ناجية. سمع أبا عبد الله بن البسري، وأبا الحسين بن الطيوري. روى عنه ابن سكينة وابن الأخضر. كان فقيها فاضلا دينا حسن الكلام في المسائل، حلو المنطق في الوعظ، تفقه على أبي الخطاب الكلوذاني وبرع في الفقه. وقال صدقة بن الحسين: كان شيخا كبيرا قد نيف على الثمانين، فقيها مناظرا عارفا، له مخالطة بالفقهاء. توفي سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: قال السمعاني: فقيه دين، حلو الوعظ، تفقه على أبي الخطاب، ثم تحول حنفيا، ثم شافعيا وقال لي: أنا اليوم متبع للدليل، ما أقلد أحدا. (2)
موقف السلف من علي بن المهدي الخارجي (554 هـ)
قال عمارة اليمني: لازمته سنة، وتركت التفقه، ونسكت، فأعادني أبي إلى المدرسة، فكنت أزوره في الشهر، فلما استفحل أمره تركته، ولم يزل من سنة 530هـ يعظ ويخوف في القرى، ويحج على نجيب، وأطلقت له السيدة أم فاتك ولأقاربه خراج أملاكهم، فتمولوا إلى أن صار جمعه نحو أربعين ألف
_________
(1) السير (20/ 315) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 232) والبداية والنهاية (12/ 258) والوافي بالوفيات (7/ 112).
(2) السير (20/ 315).(7/144)
مقاتل، وحارب، وكان يقول: دنا الوقت، أزف الأمر، كأنكم بما أقول لكم عيانا، ثم ثار ببلاد خولان، وعاث وسبى، وأهلك الناس، ثم لقيته عند الداعي بجبلة سنة تسع وأربعين يستنجد به، فأبى، ثم دبر على قتل وزير آل فاتك، ثم زحف إلى زبيد، فقاتله أهلها نيفا وسبعين زحفا، وقتل خلائق من الفريقين، ثم قتل فاتك متولي زبيد، وأخذها ابن مهدي في رجب سنة أربع وخمسين وخمس مائة، فما متع، وهلك بعد ثلاثة أشهر، وقام بعده ابنه عبد النبي، وعظم، حتى استولى على سائر اليمن، وجمع أموالا لا تحصى، وكان حنفي المذهب -أعني الأب- يرى التكفير بالمعاصي، ويستحل وطء سبايا من خالفه، ويعتقد فيه قومه فوق اعتقاد الخلق في نبيهم. قال وحكي لي عنه أنه لم يثق بيمين من يصحبه حتى يذبح ولده أو أخاه، وكان يقتل بالتعذيب في الشمس، ولا يشفع أحد عنده، وليس لأحد من عسكره فرس يملكه ولا سلاح، بل الكل عنده إلى وقت الحرب، والمنهزم منهم يقتل جزما، والسكران يقتل، ومن زنى أو سمع غناء يقتل، ومن تأخر عن صلاة الجماعة قتل. (1)
موقف السلف من وزير مصر الملك أبي الغارات الرافضي (556 هـ)
جاء في السير: قال الشريف الجواني: كان في نصر المذهب كالسكة المحماة لا يفرى فريه، ولا يبارى عبقريه، وكان يجمع العلماء، ويناظرهم على
_________
(1) السير (20/ 321 - 322).(7/145)
الإمامة.
قال الذهبي: صنف في الرفض والقدر.
ولقد قال لعلي بن الزبد لما ضجت الغوغاء يوم خلافة العاضد وهو حدث: يا علي، ترى هؤلاء القوادين دعاة الإسماعيلية يقولون: ما يموت الإمام حتى ينصها في آخر، وما علموا أني من ساعة كنت أستعرض لهم خليفة كما أستعرض الغنم. (1)
يحيى بن سالم العمراني (2) (558 هـ)
يحيى بن سالم بن سعد ين يحيى الفقيه أبو الخير العمراني، صاحب كتاب البيان، وله تصانيف مفيدة، نشر العلم باليمن، ورحل الناس إليه وتفقهوا عليه، وكان إماما زاهدا ورعا عالما خيرا مشهور الاسم بعيد الصيت عارفا بالفقه وأصوله، له رد على القدرية والأشعرية. توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
موقفه من الرافضة:
قال رحمه الله في الانتصار: اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب أهل الحديث وعلماء السلف أن الإمام الحق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأن إمامته ثبتت بعقد الصحابة رضي الله
_________
(1) السير (20/ 398 - 399).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث 51 - 560/ص.277 - 278) والسير (20/ 377 - 378) والأعلام (8/ 146) وشذرات الذهب (4/ 185 - 186).(7/146)
عنهم الإمامة له بظواهر أدلة استنبطوها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينص النبي صلى عليه وسلم على إمامته ولا عهد بها إليه ولا إلى أحد من الصحابة، وأنه هو أحق الناس بالإمامة في وقته، وأن الإمام الحق بعده هو عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ودرجاتهم في الفضل على درجاتهم في الإمامة.
وقالت الخوارج بإمامة أبي بكر وعمر وبإمامة عثمان إلى الوقت الذي ادعوا أنه أحدث، وبإمامة علي بن أبي طالب إلى أن حكم وتبرءوا منهما بعد ذلك.
وادعت فرقة منهم يقال لهم البكرية منسوبة إلى شيخ لهم يسمى بكرا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى بالإمامة إلى أبي بكر رضي الله عنه ونص عليه.
وقالت المعتزلة بإمامة أبي بكر وعمر وفسقوا عثمان وعليا وقاتلي عثمان وخاذليه وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية وأبا موسى الأشعري. وقال أستاذهم عمرو بن عبيد: لو شهد عندي علي بن أبي طالب على شراك نعل ما قبلت شهادته.
وذهب فرقة الراوندية إلى أن الإمامة للعباس بن عبد المطلب، وقد نص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقالت الروافض والشيعة بإمامة علي بن أبي طالب، فادعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على إمامته نصا لا يحتمل التأويل، ورفضوا إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وكفروا الصحابة كلهم إلا أربعة: علي بن أبي طالب وأبا ذر والمقداد وسلمان الفارسي.
ثم افترقت الرافضة والشيعة في الإمامة بعد علي رضي الله عنه على(7/147)
ثلاث فرق. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله موضحا اعتقاده في القرآن: فإن كلام الله هو القرآن، وهو هذه السور التي هي آيات لها أول وآخر، وهو القرآن المنزل بلسان العرب تكلم الله به بحروف لا كحروفنا وصوت يسمع لا كأصواتنا، وهو صفة لله قديم بقدمه غير مخلوق.
وقال جهم والمعتزلة والقدرية: هو مخلوق ولا يتصور على أصلهم أن ما يتلونه من القرآن يصفونه بأنه مخلوق لله كسائر مخلوقاته من السماء والأرض، وهما من الأجسام، بل هو خلق لهم كخلقهم لجميع أقوالهم التي ينطقون بها من الشعر والنثر وسائر الكلام.
وقالت الكلابية والأشعرية: كلام الله الذي ليس بمخلوق هو معنى قائم بنفسه لا يفارق ذاته، وهذا القرآن المتلو المسموع عبارة وحكاية عن الكلام القائم بنفسه، وكذلك القول عندهم في كلام البشر هو معنى قائم بذات المتكلم. وهذه الحروف والأصوات المسموعة منهم عبارة عن المعنى القائم بالذات لا تسمى كلاما حقيقة بل مجازا أو توسعا. والأشعرية موافقة للمعتزلة في أن هذا القرآن المتلو المسموع مخلوق.
وزعم قوم أن هذا القرآن كلام الله ووقفوا، وقالوا: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وهم الواقفة. (2)
_________
(1) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (3/ 824 - 826).
(2) الانتصار في الرد على المعتزلة (2/ 541 - 545).(7/148)
- ثم قال رحمه الله: إذا تقرر ما ذكرنا أن القرآن غير مخلوق، وأن القرآن عند أصحاب الحديث هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو القرآن العربي، السور والآيات المتلو باللسان والمسموع بالآذان المعقول بالأذهان المحفوظ في الصدور المكتوب بالمصاحف بالسطور له أول وآخر وبعض، فمن قال بخلقه فهو كافر كفرا يخرجه عن الملة، لما تقدم ذكره في الفصل قبل هذا، وقد وافقنا الأشعرية على أن القرآن غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر، وردوا على قولة المعتزلة والقدرية إنه مخلوق.
إلا أن الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه، لا يدخل كلامه النظم والتأليف والتعاقب، ولا يكون بحرف وصوت ولا يتكلم الله بالعربية ولا بغيرها من اللغات، وليس له أول ولا آخر ولا بعض، بل هو شيء واحد لم ينزله الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا على أحد من الأنبياء، ولا يتلى ولا يكتب، ولم يسمعه أحد إلا موسى عليه السلام، وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآنا، وكذلك التوراة عبارة عن كلام الله بلغة موسى وقومه، والإنجيل عبارة عن كلام الله بلغة عيسى وقومه. فادعوا أن كلام الله غير القرآن وأن القرآن غير كلام الله. فقولهم إن القرآن غير مخلوق تلاعب وخلف من الكلام. (1)
- ثم تحدث عن مسألة الاستواء فقال: عند أصحاب الحديث والسنة أن الله سبحانه بذاته، بائن عن خلقه، على العرش استوى فوق السموات، غير مماس له، وعلمه محيط بالأشياء كلها.
_________
(1) الانتصار في الرد على المعتزلة (2/ 554 - 555).(7/149)
وقالت الكرامية: إنه مماس للعرش.
وقالت المعتزلة: إن ذات الله بكل مكان حتى بالحشوش وأجواف الحيوان.
قيل لبشر المريسي فهو في جوف حمارك هذا؟ قال: نعم، وهذا قول الحلولية وهو كفر صريح لا إشكال فيه.
وقالت الأشعرية: لا يجوز وصفه بأنه على العرش ولا في السماء. (1)
موقفه من الخوارج:
قال في الانتصار: ومذهب أهل السنة أن الموحدين لا يكفرون بفعل شيء من المعاصي الصغائر والكبائر، وإذا عملوا الكبائر وتابوا لم تضرهم، وإن ماتوا قبل التوبة منها فأمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم عليها وإن شاء غفرها لهم، وإن عذب العباد على الصغائر لم يكن ظالما لهم بذلك.
وقالت المرجئة: لا يوصف الله بأنه يعذب عباده على ذنب غير الكفر.
وقالت الخوارج: من أذنب متعمدا كفر بالله سواء فعل صغيرة أو كبيرة. (2)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله في كتابه الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار: وعند أهل السنة والحديث أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية،
_________
(1) الانتصار في الرد على المعتزلة (2/ 607 - 609).
(2) الانتصار في الرد على المعتزلة (3/ 666 - 668).(7/150)
وأهل الإيمان على مراتب. (1)
- وقال: وقالت المرجئة والكرامية وأهل الزيغ من القدرية وغيرهم: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإن إيمان الأنبياء كإيمان سائر العصاة من الخلق. (2)
- وقال: ويلزم المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل أن إبليس مؤمن لأن الله أخبر أنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (3) وقال: {رب فَأَنْظِرْنِي} (4) فأخبر الله أنه قال بلسانه أن له ربا، ويلزم الجهمية الذين يقولون: إن الإيمان معرفة بلا قول ولا عمل أن اليهود مؤمنون لأن الله تعالى أخبر عنهم بقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (5) وقد علمنا أن الكفار عرفوا بعقولهم أن الله خلقهم وأنه خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (6) ويعرفون أيضا أنه لا ينجيهم من ظلمات البر والبحر إلا الله، ويدعون إلى الله أن ينجيهم وبذلك أخبر الله عنهم. (7)
- وقال: واحتجت الأشعرية ومن قال إن الإيمان هو التصديق
_________
(1) (3/ 762).
(2) (3/ 763).
(3) الحجر الآية (39).
(4) الحجر الآية (36).
(5) البقرة الآية (146).
(6) لقمان الآية (25).
(7) (3/ 795).(7/151)
بالقلب لا غير بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (1) أي بمصدق لنا، وبقول الناس: فلا يؤمن بعذاب القبر وبالشفاعة وما أشبهها، وأراد به التصديق.
والجواب: أنا لا ننكر أن هذا حد الإيمان في اللغة. وأما في الشرع فهو أشرف خصال الإيمان، ولا يمتنع أن يكون للشيء اسم في اللغة واسم في الشرع، وإذا ورد الشرع به فإنه يجب حمله على ما تقرر اسمه في الشرع كالصلاة فإنها في اللغة المراد بها الدعاء، وهي في الشرع عبارة عن هذه الأفعال المشروعة في الصلاة، وكذلك الصيام فهو في اللغة اسم للإمساك عن جميع الأشياء، وهو في الشرع اسم للإمساك عن أشياء مخصوصة، والزكاة في اللغة اسم للزيادة، وهي في الشرع اسم لأخذ شيء من المال، والحج في اللغة القصد، وهو في الشرع اسم لهذه الأفعال المشروعة، والغائط في اللغة اسم للموضع المطمئن، وفي الشرع اسم لما يخرج من الإنسان، وإذا ورد الشرع بشيء من هذه الأشياء، فإنما يحمل على ما تقرر في الشرع لا على مقتضاه في اللغة.
واحتجت المرجئة ومن قال إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب دون الأعمال بالأخبار المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة». (2)
وبما روى عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا
_________
(1) يوسف الآية (17).
(2) أخرجه من حديث معاذ رضي الله عنه: أحمد (5/ 247) وأبو داود (3/ 486/3116) والحاكم (1/ 351) وصححه ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه: ابن حبان (الإحسان 7/ 272/3004). وليس في شيء من الروايات محمد رسول الله.(7/152)
الله وأن محمدا رسول الله حرم على النار». (1)
والجواب عن هذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أن نقول كما قال الزهري: (الأخبار كانت قبل نزول الفرائض والأمر والنهي). والثاني: أن نقول هذا خبر عما يؤول إليه أمر الموحدين بأن الله سيدخل الموحدين الجنة، وإن عذبهم فبذنوبهم، ولا يخلدون في النار كما قالت الخوارج والمعتزلة والقدرية. وقد أخبر الله سبحانه في القرآن أنه إنما يدخل العباد الجنة بالإيمان والعمل في آيات كثيرة منها في البقرة، قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (2) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (3)، وقوله تعالى في آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} (4)، وفي النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (5) وقوله تعالى: {فَأَمَّا
_________
(1) أحمد (5/ 318) ومسلم (1/ 57 - 58/ 29) والترمذي (5/ 23 - 24/ 2638) والنسائي في الكبرى (6/ 277/10967).
(2) البقرة الآية (25).
(3) البقرة الآية (277).
(4) آل عمران الآية (57).
(5) النساء الآية (122).(7/153)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (1)، وفي المائدة قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)} (2)، وفي الأنعام قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} (3)،
وفي الأعراف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)} إلى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} (4)، وهذا كثير في القرآن وآخره قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} (5)، ولم يذكر الله في القرآن دخول الجنة بغير عمل، بل أخبر أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأخبر أنه لا يغفر الشرك، فالقرآن لا يتناقض وإنما يؤيد بعضه بعضا. (6)
_________
(1) النساء الآية (173).
(2) المائدة الآية (9).
(3) الأنعام الآية (48) ..
(4) الأعراف الآيتان (42و43).
(5) العصر الآيتان (2و3).
(6) (3/ 756 - 759).(7/154)
موقفه من القدرية:
له من الآثار السلفية:
1 - 'السنة' ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش ونقل منه ما يتعلق بموضعه.
2 - 'الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار'، وقد طبع في ثلاث مجلدات.
وسبب تأليفه أن العمراني ألف رسالة بين فيها عقيدة أهل السنة فجعلها نصيحة للمسلمين وتحذيرا لهم مما أظهره القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام الزيدي من الاعتزال والكلام في القدر، فحرر هذا الأخير ردا على العمراني سماه الدامغ للباطل من مذهب الحنابل، فألف العمراني كتابه هذا ردا عليه وعلى الطوائف المبتدعة المخالفة لمعتقد أهل السنة. وضمنه فصولا جيدة ننقل منها أمثلة:
- قال: ولم يزل العلماء يردون على القدرية أقوالهم ويبطلون استدلالهم ويكشفون تلبيسهم ويظهرون تدليسهم، وبذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». (1) ولا تزول الشبه عن قلوب العامة إلا من حيث دخلت وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يزيل الشبه من حيث علم دخولها. (2)
_________
(1) أخرجه البزار (1/ 86/143 كشف الأستار)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة مرفوعا. وأخرجه العقيلي في الضفعاء (4/ 256) وابن عدي في الكامل (1/ 146) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 58 - 59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص.29) والبيهقي (10/ 209) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلا. قال القسطلاني في إرشاد الساري (1/ 13): "وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم، وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسنا كما جزم به ابن كيكلدى العلائي".
(2) الانتصار (1/ 94).(7/155)
- وقال: وقد أدخلت المعتزلة، والقدرية على الإسلام وأهله شبها في الدين ليموهوا بها على العوام، ومن لا خبرة له بأصولهم التي بنوا عليها أقوالهم، فاتبعوا متشابه القرآن وأولوا القرآن على خلاف ما نقل عن الصحابة والتابعين المشهورين بالتفسير، لينفقوا بذلك أقوالهم، فهم أشد الفرق ضررا على أصحاب الحديث، ثم بعدهم الأشعرية. لأنهم أظهروا الرد على المعتزلة وهم قائلون بقولهم.
فاستخرت الله سبحانه على كشف تلبيسهم، وإظهار تدليسهم بهذا الكتاب، وجعلته فصولا كل فصل فيه يشتمل على ذكر فائدة منفردة ليقرب على قارئه أخذ الفائدة منه، وقدمت ذكر مذاهب أصحاب الحديث جملة، ثم الأصول التي بنى أصحاب الحديث أقوالهم عليها، وبينت انسلاخ القدرية منها. (1)
وقال: فالمعتزلة والقدرية عن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعزل لوجوه:
أحدها: أنهم يطعنون على الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وينسبونهم إلى الظلم لعلي رضي الله عنه، وقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم جميعا والأخذ عنهم.
والثاني: أنهم يطعنون على أصحاب الحديث بعدهم، وقد صرح هذا الرجل المعترض بدامغه هذا، فقال: أصحاب الحديث حمال أسفار أو أسمار. وهم الواسطة بيننا وبين نبينا ولم يتصل إلينا القرآن الذي هو أصل السنة إلا منهم.
والثالث: أن السنة فرع للقرآن، لأن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ثبتت بثبوت
_________
(1) الانتصار (1/ 95 - 96).(7/156)
معجزته ولا معجزة له فينا باقية إلى يوم القيامة إلا القرآن الذي هو كلام الله القديم. وإذا كان القرآن عند القدرية مخلوقا كسائر كلامهم لم يثبت فرعه، وهو السنة.
والرابع: أن المعروف منهم اجتناب النقل والرواية عن المشهورين بالنقل، ولا عندهم كتب فيها سند صحيح كنحو الكتب المشهورة في الأمصار كالبخاري ومسلم والترمذي، وسنن أبي داود وغير ذلك من التصانيف التي أجمع أئمة الأمصار على روايتها والاحتجاج بها، وإنما عندهم خطب وكتب مزخرفة ينسبونها إلى أهل البيت وهم عنها برآء، كما اشتهر عنهم من القول بخلافها، ومعتمدهم كلام المتكلمين في الأعراض والجواهر والأجسام.
والوجه الخامس: أن القدرية إذا روي لهم خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عارضوه بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وعلى عقولكم؛ فإن وافق ذلك وإلا فارموا به». (1)
وهذا الخبر ليس بصحيح؛ لأنا لو عرضناه على كتاب الله لم نجد ما يوافقه، ولو عرضنا الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقيت الصلاة وأعداد الركعات وغير ذلك من الأحكام التي نقلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلا متواترا وأجمع
_________
(1) لم أجده بلفظ: «وعلى عقولكم» وأخرجه بدون هذه الزيادة: الطبراني في الكبير (12/ 316/13224) من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 175) وقال بعد عزوه للطبراني: "وفيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث". وتعقب الشيخ الألباني الهيثمي في قوله هذا بأن أبا حاضر هذا ليس هو عبد الملك بن عبد ربه. وأبو حاضر هذا عداده في المجهولين ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستغناء (ترجمة 1548) وكذا الذهبي في الميزان وابن حجر في اللسان. والحديث أعله الشيخ الألباني في الضعيفة (1088) بأربع علل. وفي الباب عن أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وغيرهما.(7/157)
العلماء عليها على كتاب الله أو على العقل لم نجد ما يوافقها، فعلم بذلك أن هذا الخبر لا أصل له، وإنما دعاهم إلى ذلك عجزهم عن ضبط الأحاديث. (1)
وقال: ومما خالفت به القدرية والمعتزلة الكتاب والسنة وأهل الحديث وركبت العناد فيه أن قالوا: ليس لله حياة ولا علم ولا إرادة ولا قوة ولا سمع ولا بصر ولا كلام وردوا ما جاء به القرآن من إثبات الوجه واليدين لله.
قال هذا الرجل (2) بخطبة دامغه المنقلب عليه: استغنى الله بذاته عن كل مجهول من الأشياء ومعروف لا يحتاج في الاتصاف بأوصاف الكمال والاستحقاق لا سيما العزة والجلال.
وهذا متابعة منه لأسلافه من المعتزلة في نفي هذه الصفات عن الله، ونسب أهل السنة لما وصفوه بذلك إلى الكذب.
واستدل على قوله هذا بأن قال: كأنهم لم يسمعوا الله يقول وهو أصدق القائلين: {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} (3).
ودليلنا على إثبات هذه الصفات لله تعالى قوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (4). وقوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ
_________
(1) الانتصار (1/ 109 - 113).
(2) يقصد القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام في كتابه: 'الدامغ للباطل من مذاهب الحنابل'.
(3) يونس الآية (68).
(4) فاطر الآية (11).(7/158)
بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غائبين (7)} (1). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (2). والقوة القدرة (3) وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (4)، وقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (5). والدليل على إثبات الكلام له قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (6)، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (7). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ينصرني حتى أبلغ كلام ربي» (8). والدليل على إثبات السمع والبصر ما أخبر الله عن إبراهيم أنه قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} (9). ولو كان إله إبراهيم لا يسمع ولا يبصر لكان دليله منقلبا عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: «يا من وسع سمعه الأصوات». (10)
_________
(1) الأعراف الآية (7).
(2) الذاريات الآية (58).
(3) بل القوة صفة من صفات الله تعالى الثابتة له من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل.
(4) فصلت الآية (15).
(5) البقرة الآية (165).
(6) التوبة الآية (6).
(7) الفتح الآية (15).
(8) أحمد (3/ 322) وأبو داود (5/ 103/4734) والترمذي (5/ 168/2925) والنسائي في الكبرى (4/ 411/7727) وابن ماجه (1/ 73/201) وصححه ابن حبان (14/ 172 - 174/ 6274) كلهم من حديث جابر.
(9) مريم الآية (42).
(10) لم أعثر عليه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ثبت من قول عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة بلفظ: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات .. أخرجه: أحمد (6/ 46) والبخاري تعليقا (13/ 460) والنسائي (6/ 480/3460) وابن ماجه (1/ 67/188) والحاكم (2/ 481) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في تغليق التعليق (5/ 339): "هذا حديث صحيح".(7/159)
والدليل على إثبات الحياة قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1)، فوصف الله سبحانه نفسه بأنه يسمع ويبصر ويتكلم وأنه حي، وحقيقة الموصوف بصفة ثبوت الصفة له، وليس بين الموصوف بهذه الصفات وبين الموصوف بضدها وهي: الموت والعجز والجهل والعمى والصمم والخرس فرق إلا ثبوت هذه الصفات وعدمها، كما أنه موصوف بالوجود لئلا يكون موصوفا بضده وهو العدم، وأما إثبات الوجه واليدين فإنه إثبات صفة لا إثبات جارحة له كما أثبتته المجسمة.
ولا نفسر ذلك كما فسرته الأشعرية، ولا ننفي ذلك كما نفته القدرية. والدليل على ذلك قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (2). وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (3). وقال الله لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (4)، وأراد الله بذلك إظهار الفضيلة لآدم على إبليس. (5)
_________
(1) البقرة الآية (255).
(2) القصص الآية (88).
(3) الرحمن الآية (27).
(4) ص الآية (75).
(5) الانتصار (1/ 134 - 136).(7/160)
ابن هُبَيْرَة (1) (560 هـ)
الوزير الكامل الإمام العادل العالم أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي، ولد بقرية بني أوقر، قرية قريبة من بغداد سنة تسع وتسعين وأربعمائة. ودخل بغداد في صباه وطلب العلم، فسمع الحديث من عثمان بن ملة، وعبد الوهاب الأنماطي، وتفقه بأبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى، ومهر في اللغة، وكان عارفا بالمذهب. قال عنه الذهبي: كان سلفيا، أثريا، دينا خيرا متعبدا وقورا، متواضعا بارا بالعلماء، مكبا مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه. وقال عنه ابن كثير: كان من خيار الوزراء وأحسنهم سيرة، وأبعدهم عن الظلم. ومن شعره رحمه الله:
تمسك بتقوى الله، فالمرء لا يبقى ولا تظلمن الناس ما في أيديهم تعود فعال الخير جمعا فكل ما ... وكل امرئ ما قدمت يده يلقى
ولا تذكرن إفكا ولا تحسدن خلقا
تعوده الإنسان صار له خلقا
وله كتاب 'الإفصاح' شرح فيه الجمع بين الصحيحين للحميدي. توفي سنة ستين وخمسمائة.
موقفه من المبتدعة:
كان من خيار عباد الله، تولى الوزارة فنفع الله به أهل السنة فرفعهم وأكرمهم، وواظب على طلب العلم ومجالسة العلماء. وكان مثالا في الورع، يعرف ذلك من قرأ سيرته وترجمته.
_________
(1) السير (20/ 426 - 432) والمنتظم (18/ 166 - 167) والكامل في التاريخ (11/ 321) ووفيات الأعيان (6/ 230 - 244) والبداية والنهاية (12/ 268 - 269) وشذرات الذهب (4/ 191 - 197) وطبقات الحنابلة (3/ 251 - 289).(7/161)
- قال ابن الجوزي: وكان متشددا في اتباع السنة وسير السلف ... فكان يجتهد في اتباع الصواب ويحذر من الظلم. (1)
- وجاء في الطبقات أنه قال: من مكايد الشيطان: تنفيره عباد الله من تدبر القرآن، لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورعا.
ومنها: أن يخرج جوالب الفتن مخرج التشدد في الدين.
ومنها: أن يقيم أوثانا في المعنى تعبد من دون الله، مثل أن يبين الحق، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليدا للمعظم عنده، قد قدمه على الحق. (2)
- وقال عقب حديث ابن مسعود: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، و {إِن مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} (3)» (4): وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقته، والهدي: الطريقة؛ ففي هذا الحديث دليل على أن من أحدث في الدين شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه خارج عن أن يسمى أحسن، بل الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأحسن.
وقوله: «شر الأمور محدثاتها»، إنما ذكر الأمور بالألف واللام المعرفتين، لأنه يعني بذلك الأمور التي حررها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل ما أحدث بعد
_________
(1) المنتظم (18/ 166 - 167).
(2) طبقات الحنابلة (3/ 273).
(3) الأنعام الآية (134).
(4) أخرجه البخاري (13/ 310/7277).(7/162)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما حرره فهو شر. (1)
- وقال عقب حديث أبي ذر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي -أو سيكون بعدي من أمتي- قوم، يقرأون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة». (2)
قال: وقوله: «لا يعودون فيه»، فإن هذا مما نخاف منه كثيرا على أهل البدع؛ فإن كل مبتدع بدعة لا يرى أنه فيها على ضلال فيعود إلى الحق، وليس في الذنوب ذنب لايستغفر منه صاحبه إلا البدعة؛ لأنه يراها دينا وقربة، فهو لا يستغفر منها، ولا أرى هذا ينصرف إلا إلى أهل البدع، فإنهم يخرجون من الدين بالبدعة ثم لا يعودون إليه؛ لأنهم لا يرون قبح ما هم عليه من الضلالة. (3)
موقفه من الرافضة:
- جاء في طبقات الحنابلة قال: والله ما نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، نحن أحق به منهم، لأنه منا ونحن منه. (4)
- وجاء في البداية: وفيها أي سنة إحدى وستين وخمسمائة أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة، ولم يكونوا يتمكنون منها
_________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 81 - 82).
(2) أحمد (5/ 31) ومسلم (2/ 750/1067) وابن ماجه (1/ 60/170).
(3) الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 189 - 190).
(4) طبقات الحنابلة (3/ 273).(7/163)
في هذه الأعصار المتقدمة خوفا من ابن هبيرة. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في ذيل طبقات الحنابلة عنه قال: تفكرت في أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها مع قوة علمهم، فنظرت السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة هيبة للموصوف، ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال لله، وقد قال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (2). قال: وكان يقول: لا يفسر على الحقيقة ولا على المجاز. لأن حملها على الحقيقة تشبيه وعلى المجاز بدعة.
وقال: ولا نترك الشافعي مع الأشعرية، فإنا أحق به منهم. (3)
التعليق:
ما أدري ماذا يقصد بقوله: ولا يفسر على الحقيقة، فإن كان يقصد التفويض فبئس الرأي، وإن كان يقصد التشبيه، فهذا هو المظنون به، لأن العبارات السابقة واللاحقة تدل على أنه يقصد نفي الكيفية. والله أعلم.
موقفه من الخوارج:
- قال في شرحه لحديث علي رضي الله عنه « ... فيهم رجل مخدج اليد ... » الحديث (4). فيه من الفقه توفر الثواب في قتل الخوارج، وأنه بلغ إلى
_________
(1) البداية والنهاية (12/ 269).
(2) النحل الآية (74).
(3) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 273).
(4) مسلم (1066).(7/164)
أن خاف علي رضي الله عنه أن يبطر أصحابه إذا أخبرهم بثوابهم في قتلهم، وإنما ذكر هذه لئلا يرى أحد في وقت ظهور مثلهم أن قتال المشركين أولى من قتالهم، بل قتالهم على هذا الكلام أولى من قتال المشركين، لأن في ذلك حفظ رأس مال الإسلام، وقتال المشركين هو طلب ربح في الإسلام. (1)
- وقال في حديث زيد بن وهب « ... أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي ... » الحديث. (2) وأن هؤلاء إنما أتوا من الغلو في الدين، وكونهم جفت طباعهم حتى ظنوا أن الدين كله إهانة النفوس للقتل، وأكل الجشب، ولبس الخشن وغير ذلك، فرأوا الصبر على القتل ظانين أن ذلك مما يقربهم عند الله عز وجل، وكان ذلك غلطا منهم، وسوء تدبير؛ فإن الحق هو ما شرعه الله عز وجل في الحنيفية السمحة السهلة، وأن يكونوا أشداء على الكفار، رحماء بينهم، وإني لأخاف على كثير ممن يتظاهر بالزهد والانقطاع في زماننا هذا، وأن يكونوا قد بلغوا في الجهل ومخالفة الحق إلى نحو طبقة هؤلاء من كونهم يرون الإنكار على السلطان والهجران لدار الإمام قربة يزعمونها، وفضيلة يدَّعونها، إلا أنهم ليسوا أهل شوكة ولا لهم قلوب تثبت في الحرب، ولذلك نما أمرهم، وإن الحق إعانة الخلافة فيما فرضه الله لها. (3)
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: وفيه أيضاً من الفقه أن الإيمان درجة ومقام في
_________
(1) الإفصاح (1/ 280).
(2) أخرجه مسلم (2/ 748/1066 (156)).
(3) الإفصاح (1/ 282).(7/165)
الإسلام، وأنه لا يوصف بالألف واللام اللتين للتعريف إلا أن يكون إيماناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله خيره وشره. (1)
- وقال أيضا: في هذا الحديث من الفقه أن الغلول يجانب الإيمان، ويكذب دعوى من يدعي أن الإيمان يكون مع الغلول، لأن الغالّ يكون خائناً خيانة لم يجاهر فيها سوى الله عز وجل، فلو كان مؤمناً به لم يكن ليخفي من الناس ما يجاهر الله عز وجل به، فاستدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من يخرج إلى الجهاد في سبيل الله مخاطراً بنفسه معرضاً لها للشهادة ثم يغلُّ شملة أو غير شملة، فإن غلوله ذلك مكذب لما ادعاه من إيمانه؛ ولذلك قال: «إني رأيته في النار في بردة غلّها» (2)، ولذلك أمر عمر فنادى: «إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون». (3)
- قال رحمه الله وهو يشرح حديث وفد عبد القيس (4): في هذا الحديث من الفقه أنه يدل على أن الإيمان قول وعمل. (5)
- قال رحمه الله تحت حديث «لا يزني الزاني وهو مؤمن» (6): وقد دل الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وخروجه من العبد وعوده إليه. (7)
_________
(1) الإفصاح (1/ 200).
(2) أخرجه: أحمد (1/ 30) ومسلم (1/ 107 - 108/ 114) والترمذي (4/ 118/1574) من حديث عمر رضي الله عنه.
(3) الإفصاح (1/ 202).
(4) سيأتي تخريجه في مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(5) الإفصاح (3/ 95).
(6) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(7) الإفصاح (3/ 209).(7/166)
ابن الحُطَيْئَة أحمد بن عبد الله (1) (560 هـ)
الشيخ الإمام العلامة القدوة شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام اللخمي المغربي الفاسي المقرئ الناسخ ابن الحطيئة. مولده بفاس سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وحج ولقي الكبار، وتلا بالسبع على أبي القاسم بن الفحام الصقلي وابن بليمة، ومحمد الحضرمي. وسمع من أبي الحسن بن مشرف، وأبي عبد الله الحضرمي، وأبي بكر الطرطوشي. حدث عنه أبو طاهر السلفي، وصنيعة الملك ابن حيدرة، وشجاع المدلجي، والأثير محمد بن محمد بن بنان، وابن قادوس. وأحكم العربية والفقه، وخطه مرغوب فيه لإتقانه، كان لا يقبل من أحد شيئا، مع العلم والعمل والخوف والإخلاص. سكن مصر ودخل الشام. قال السِّلفي: كان ابن الحطيئة رأسا في القراءات. وقال المدلجي: كان شيخنا ابن الحطيئة شديدا في دين الله فظا غليظا على أعداء الله. توفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة ستين وخمسمائة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير عن شجاع المدلجي: لقد كان يحضر مجلسه داعي الدعاة مع عظم سلطانه ونفوذ أمره، فما يحتشمه، ولا يكرمه، ويقول: أحمق الناس في مسألة كذا وكذا الروافض، خالفوا الكتاب والسنة، وكفروا بالله، وكنت عنده يوما في مسجده بشرف مصر، وقد حضره بعض وزراء المصريين أظنه ابن عباس، فاستسقى في مجلسه، فأتاه بعض غلمانه بإناء فضة،
_________
(1) وفيات الأعيان (1/ 170 - 171) ومعرفة القراء الكبار (2/ 526) والوافي بالوفيات (7/ 121 - 122) والسير (20/ 344 - 348) وتاريخ الإسلام (حوادث 551 - 560/ص.296 - 299) وشذرات الذهب (4/ 188).(7/167)
فلما رآه ابن الحطيئة وضع يده على فؤاده، وصرخ صرخة ملأت المسجد، وقال: واحراها على كبدي، أتشرب في مجلس يقرأ فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آنية الفضة؟. لا والله لا تفعل، وطرد الغلام، فخرج، وطلب الشيخ كوزا، فجيء بكوز قد تثلم، فشرب، واستحيى من الشيخ، فرأيته والله كما قال الله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} (1).اهـ (2)
- وفيها: وذكرنا في طبقات القراء أن الناس بقوا بمصر ثلاثة أشهر بلا قاض في سنة ثلاث وثلاثين، فوقع اختيار الدولة على الشيخ أبي العباس، فاشترط عليهم شروطا صعبة، منها أنه لا يقضي بمذهبهم -يعني الرفض، فلم يجيبوا إلا أن يقضي على مذهب الإمامية. (3)
عبد القادر الجيلي (561 هـ)
موقفه من الجهمية:
هذا الرجل كان من الحنابلة المشهورين، لكنه تأثر بالفكر الصوفي المنحرف فخرج عن تمسكه بالسنة إلى الابتداع في دين الله، وذكر كلاما في كتابه 'الغنية' يشمئز منه السلفي، ومن كذّب فليرجع إلى الكتاب فهو مطبوع مبذول. وقد انتشر صيته في البلاد الإسلامية، وأصبحت له طريقة تلقن باسم الصوفية ولأصحابها مميزات وأوراد وأحزاب وأحوال، الله أعلم
_________
(1) إبراهيم الآية (17).
(2) السير (20/ 346).
(3) السير (20/ 347).(7/168)
بصحتها عن الشيخ الجيلي. ووقع فيه غلو من قبل الأتباع، من سمعه ترتعد فرائصه من الفزع.
جاء في ذيل طبقات الحنابلة: ولكن قد جمع المقرئ أبو الحسن الشطنوفي المصري في أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات وكتب فيها الطم والرم وكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع.
وقد رأيت بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه، فأنقل منه إلا ما كان مشهورا معروفا من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الروايات عن المجهولين وفيه من الشطح والطامات والدعاوى والكلام الباطل ما لا يحصى ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله. ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوي قد ذكر: أن الشطنوفي نفسه كان متهما في ما يحكيه من هذا الكتاب بعينه. (1)
وأما عقيدته في الأسماء والصفات فهو سلفي، وقد ذكر عقيدته في كتاب الغنية.
- جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان متمسكا في مسائل الصفات والقدر ونحوهما بالسنة، بالغا في الرد على من خالفها، قال في كتابه الغنية المشهور: وهو بجهة العلو مستو على العرش محتو على الملك محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2). {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ
_________
(1) ذيل الطبقات (1/ 293).
(2) فاطر الآية (10).(7/169)
السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} (1). ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (2). وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش. (3)
- قال الذهبي في السير: قال شيخنا الحافظ أبو الحسين علي بن محمد: سمعت الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الفقيه الشافعي يقول: ما نقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلا الشيخ عبد القادر، فقيل له: هذا مع اعتقاده، فكيف هذا؟ فقال: لازم المذهب ليس بمذهب.
قلت -أي الذهبي-: يشير إلى إثباته صفة العلو ونحو ذلك، ومذهب الحنابلة في ذلك معلوم، يمشون خلف ما ثبت عن إمامهم رحمه الله إلا من يشذ منهم، وتوسع في العبارة. (4)
ابن الكِيزَانِي (5) (562 هـ)
الإمام المقرئ، الزاهد الأثري، أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن ثابت
_________
(1) السجدة الآية (5).
(2) طه الآية (5).
(3) ذيل الطبقات (1/ 296).
(4) السير (20/ 443).
(5) السير (20/ 454) ووفيات الأعيان (4/ 461 - 462) والوافي بالوفيات (1/ 347) والنجوم الزاهرة (5/ 367 - 368).(7/170)
المصري، الكيزاني، له تلامذة وأصحاب، وكلام في السنة، وله شعر كثير وأكثره في الزهد، وقال ابن خلكان: كان زاهدا ورعا، وقال صاحب مرآة الزمان: كان زاهدا قنوعا من الدنيا باليسير فصيحا. توفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
موقفه من الجهمية:
- جاء في طبقات ابن السبكي: وكان ابن الكيزاني -رجل من المشبهة- مدفونا عند الشافعي رضي الله عنه: فقال الخبوشاني: لا يكون صديق وزنديق في موضع واحد. وجعل ينبش ويرمي عظامه وعظام الموتى الذين حوله من أتباعه. وتعصبت المشبهة عليه ولم يبال بهم، وما زال حتى بنى القبر. ثم قال ابن السبكي: ولعل من يقف على كلام شيخنا الذهبي في هذا الموضع من ترجمة الخبوشاني فلا يحفل به وبقوله في ابن الكيزاني: إنه من أهل السنة.
فالذهبي رحمه الله متعصب جلد، وهو شيخنا وله علينا حقوق إلا أن حق الله مقدم على حقه، والذي نقوله أنه لا ينبغي أن يسمع كلامه في حنفي ولا شافعي، ولا تؤخذ تراجمهم من كتبه فإنه يتعصب عليهم كثيرا. والله تعالى أعلم. (1)
التعليق:
إذا لم تستح فاصنع ما شئت. فهل يجوز هذا الفعل مع الكافر، فضلا
_________
(1) طبقات الشافعية (4/ 191).(7/171)
عن المسلم، فضلا عن السلفي. فلا أدري كيف يجيب ابن السبكي عن هذا، ولعلي بالقارئ قد استأنس بعبارة ابن السبكي في أهل السنة بوصفهم بالمشبهة، كالذي تعود على سماع نباح الكلاب، فلا يلتفت إليها مهما رفعت صوتها وصولتها، يحذرنا من سماعنا للذهبي الذي أجمعت الأمة على إمامته في معظم الفنون الشرعية، ويريد منا أن نصغي آذاننا لضلاله. فليعلم ابن السبكي أن الإمام ابن الكيزاني لا يضره ما فعله التعصب الأشعري. وأرجو الله أن يجعله من أهل الجنة.
موقف السلف من العاضد لدين الله العبيدي الرافضي (567 هـ)
- جاء في السير: قال القاضي شمس الدين بن خلكان: كان إذا رأى سنيا استحل دمه. (1)
- وفيها: هلك العاضد يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمس مائة بذرب مفرط. وقيل مات غما لما سمع بقطع خطبته وإقامة الدعوة للمستضيء. وقيل: سقي، وقيل: مص خاتما له مسموما. وكانت الدعوة المذكورة أقيمت في أول جمعة من المحرم، وتسلم صلاح الدين القصر بما حوى من النفائس والأموال، وقبض أيضا على أولاد العاضد وآله، فسجنهم في بيت من القصر، وقمع غلمانهم وأنصارهم، وعفى آثارهم.
_________
(1) السير (15/ 208).(7/172)
قال العماد الكاتب: وهم الآن محصورون محسورون لم يظهروا. وقد نقصوا وتقلصوا، وانتقى صلاح الدين ما أحب من الذخائر، وأطلق البيع بعد في ما بقي، فاستمر البيع فيها مدة عشر سنين.
ومن كتاب من إنشاء القاضي الفاضل إلى بغداد: وقد توالت الفتوح غربا، ويمنا وشاما. وصارت البلاد، والدهر حرما حراما، وأضحى الدين واحدا بعد أن كان أديانا، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها صما وعميانا، والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلة في شيع الضلال شائعة. ذلك بأنهم اتخذوا عباد الله من دونه أولياء، وسموا أعداء الله أصفياء، وتقطعوا أمرهم بينهم شيعا، وفرقوا أمر الأمة وكان مجتمعا، وقطع دابرهم، ورغمت أنوفهم ومنابرهم، وحقت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا، وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا، وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم، ولا الليل عن السير إليهم بنائم. (1)
قال ابن خلكان: أخبرني عالم أن العاضد رأى في نومه كأن عقربا خرجت إليه من مسجد عرف بها فلدغته، فلما استيقظ طلب معبرا، فقال: ينالك مكروه من رجل مقيم بالمسجد فسأل عن المسجد، وقال للوالي عنه، فأتي بفقير، فسأله من أين هو؟ وفيما قدم، فرأى منه صدقا ودينا. فقال: ادع لنا ياشيخ، وخلى سبيله، ورجع إلى المسجد، فلما غلب صلاح الدين على مصر، عزم على خلع العاضد، فقال ابن خلكان: استفتى الفقهاء، فأفتوا بجواز خلعه لما هو من انحلال العقيدة والاستهتار، فكان أكثرهم مبالغة في الفتيا
_________
(1) السير (15/ 213 - 215).(7/173)